كتاب المعجب في اخبار المغرب
1. المعجب في تلخيص أخبار المغرب تأليف: عبد الواحد بن علي المراكشي دراسة وتحقيق: الدكتور صلاح الدين الهواري المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -5- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة ازدهرت حركة التصنيف في بلاد المغرب1 في أيام الحكم الإسلامي. واتجه المصنفون في كتاباتهم اتجاهات متنوعة، فمنهم من كتب في التراجم والسير، ومنهم من اختص بالتواريخ والأحداث السياسية وأخبار الممالك والإمارات والملوك. ومنهم من صنف في علوم الأدب والشعر والفلسفة، وغير ذلك. والمعجب في تلخيص أخبار المغرب, واحد من تلك المصنفات النفيسة التي عنيت بأخبار البلاد المغربية وسِيَر ملوكها وأمرائها ودويلاتها، ألفه أبو محمد، عبد الواحد بن علي المراكشي، استجابةً لطلب أحد الأعيان الرؤساء، الذي سأله إملاء أوراق تشتمل على بعض أخبار المغرب وهيئته وحدوده وأقطاره، وشيء من سير ملوكه، وخصوصًا ملوك المصامدة بني عبد المؤمن، من لدن ابتداء دولتهم، إلى حدود سنة 621هـ/ 1225م، مع نبذة من سير الذين لقيهم أو روى عنهم من الشعراء، وأهل الفضل والرواية والأدب2. وقبل شروعه بتأليف الكتاب، اعتذر المراكشي لرئيسه عن أمور ثلاثة: - أولها: ضعف عبارته، وغلبة العي على طباعه. - وثانيها: عدم امتلاكه لكتاب في هذا الشأن يعتمد عليه، ويجعله مستندًا أو مرجعًا، على عادة المصنفين الذين سبقوه أو عاصروه. - وثالثها: قلة محفوظاته وتشتتها بسبب ازدحام همومه، وكثره غمومه3. ويشتمل هذا الكتاب على فصول كثيرة، بدأها المؤلف بالحديث عن جزيرة الأندلس وحدودها ومدنها وقراها. ثم انتقل إلي أحداث فتحها، وسير ملوكها، ومن كان فيها من الفضلاء حتى نهاية حكم الأمويين. ثم توسع بذكر أخبار الأندلس بعد زوال الحكم الأموي، وأخبار من حكمها من متغلبين، ومرابطين، وموحدين. ويمكننا تحديد منهج المؤلف في كتابه هذا بالنقاط الآتية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- المراد بهذا الاسم -وفقًا لمفهوم المسلمين القدامي- بلاد المغرب العربي والأندلس. 2- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، المراكشي:3. 3- المصدر نفسه:4. ص -6- - تصديره الكتاب بمقدمة تشتمل على دوافع تأليفه، وموضوعاته، وتتضمن اعتذارًا صريحًا عن قصر باعه فيما طُلب إليه تصنيفه. - تقسيمه الكتاب إلي فصول تفاوتت في أحجامها، فبينما كان بعضها يقصر فلا يتجاوز الصفحتين أو الثلاث الصفحات، اتسع بعضها الآخر ليتجاوز الخمسين صفحة. - تحديده لسمات منهجه فى جمع الأخبار، وسماع الروايات، وتدوين المشاهدات؛ فبعد اعترافه بالعجز عن كمال التأليف في مقدمة الكتاب، يقول في ختام حديثه عن دولة المصامدة: هذا تلخيص التعريف بأخبار المصامدة، .... وإنما أوردنا من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، وتُجشِّم الضرورة من عُني بالأخبار إلى معرفته ... ولم أثبت في هذه الأوراق المحتوية على دولة المصامدة وغيرها إلا ما حققته نقلًا من كتاب، أو سماعًا من ثقة عدل، أو مشاهدةً بنفسي؛ هذا بعد أن تحريت الصدق، وتوخيت الإنصاف في ذلك كله1. - ذكره المصادر التي استقى منها مواد كتابه، وفي طليعتها كتاب2 ابن أبي نصر فتوح الحميدي3، مؤلف كتاب: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، ثم ما وسعه حفظه من أخبار وأشعار وروايات، وما شاهده وعاينه بنفسه من وقائع وأحداث. - تضمينه الكتاب مجموعة ضخمة من الأشعار، إذ كان لا يكتفي بالبيت الواحد أو البيتين، وإنما كان يورد القصائد الطوال، التي تتجاوز القصيدة الواحدة منها الخمسين بيتًا. وكان يعلل ذلك بنفاسة القصيدة، وجودة معانيها, وحسن تمثيلها للمواقف والأحداث4. - اعتذاره عن عدم إيراد بعض القصائد كاملة، ورده ذلك إلى ضعف الذاكرة، وقلة الحفظ، في مثل قوله بعد أبيات للشاعر الرمادي5 في مدح أبي علي القالي6: هذا ما بقي من حفظي منها7. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 332-333. 2- يقول المراكشي: "وهذا آخر أخبار الحسنيين وما يتعلق بها، حسبما أورده أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، عليه عولت في أكثر ذلك، ومن كتابه نقلت". "المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 69". 3- هو أبو عبد الله، محمد بن أبي نصر فتوح الحميدي، الأزدي، الميورقي: مؤرخ، محدث، من أهل ميورقة. توفي سنة 488هـ/ 1095م. "بغية الملتمس، الضبي: 113". 4- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 76، حيث أورد المراكشي قصيدة لعبد المجيد بن عبدون في مدح بني المظفر وأيامهم، بلغت خمسة وسبعين بيتًا. 5- هو أبو عمر، يوسف بن هارون الرمادي الشاعر، المتوفى سنة 403هـ/ 1012م. 6- هو أبو علي، إسماعيل بن القاسم القالي، الأديب الشاعر، اللغوي، المتوفى سنة 356هـ/ 967م. 7- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 25. ص -7- - حرصه بعد الحديث عن كبار الملوك أو الأمراء على ذكر وزرائهم، وحجابهم، وكتابهم، وقضاتهم، وأبنائهم، وشعرائهم، كالذي نجده في ختام ترجمته للأمير عبد المؤمن بن علي بن علوي الكومي1، وختام ترجمته للأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن2. - تضمينه الكتاب بعض العبارات أو الجمل المعترضة التي كانت تجري على ألسنة الناس آنذاك، مثل: لعنه الله, بعد أسماء ملوك الأعاجم المناوئين للمسلمين في الأندلس، ورحمه الله, بعد أسماء أمراء المسلمين وقادتهم، وأعادها الله إلى المسلمين, بعد اسم كل مدينة غلب عليها الفرنجة أو احتلوها، وأسأل الله إبقاءه إلى أن تقوم الساعة, بعد أسماء المساجد المشهورة. - إكثاره من إيراد عبارة: كما تقدم، أو كما ذكرنا، أو فلان المتقدم الذكر في صفحات كتابه. وسبب ذلك أنه كان يورد الخبر مجملًا في مكان من الكتاب، ثم يعود إلى ذكره مفصلًا في مكان آخر منه. - بالرغم من ميل المؤلف إلى التلخيص والإيجاز، فإن الاستطراد والتطويل كانا يلاحقانه في غير موضع من الكتاب. مثال ذلك: أنه أورد رواية على لسان أبي محمد علي بن حزم3، ثم استطرد فترجم له، وأورد مقتطفات من أشعاره، واعتذر عن ذلك بقوله: "وإنما أوردت هذه النبذة من أخبار هذا الرجل، وإن كانت قاطعة للنسق، مزيحة عن بعض الغرض؛ لأنه أشهر علماء الأندلس اليوم، وأكثرهم ذكرًا في مجالس الرؤساء وعلى ألسنة العلماء4. وكذلك فعل المراكشي عندما قال في نهاية حديثه عن أستاذه أبي جعفر الحميري: وقد امتد بنا عنان القول إلى ما لا حاجة لنا بأكثره؛ رغبةً في تنشيط الطالب، وإيثارًا للأحماض5. - إظهاره لتواضع علمي لا نجده عند الكثير من المصنفين الذين يملئون الأسماع ضجيجًا وادعاءً, بدا ذلك في قوله: مع أن أصغر خدم مولانا لم تجر عادته بالتصنيف، ولا حدث قط نفسه به، وإنما بعثته عليه الهمة الفخرية6. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 198-200. 2- المصدر نفسه: 261-264. 3 هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، المتوفى سنة 456هـ/1064م. 4- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 45-49. 5- المصدر نفسه: 304. 6- المصدر نفسه: 346. ص -8- - اعترافه بفضل سابقيه، من دون إغفاله لجهده الخاص، حين قال: وهذا آخر أخبار الحسنيين وما يتعلق بها، حسبما أورده أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، عليه عولت في أكثر ذلك، ومن كتابه نقلت، خلا مواضع تبينت غلطه فيها، أصلحتها جهد ما أقدر1. ونظرًا لأهمية هذا الكتاب في إغناء المكتبة العربية بما اشتمل عليه من صور حية لحياة ملوك المغرب، وممالكهم، ومعاركهم، وإنجازاتهم العمرانية، واهتماماتهم الدينية والفكرية والأدبية والاجتماعية، وحرصًا منا على بعث التراث العربي الأندلسي، وإظهار مكنوناته النفيسة، نُخرج اليوم هذا الكتاب، ونقدمه للقراء بحُلَّة جديدة، وإضافات مهمة في الضبط والشرح والتوثيق والفهرسة، جَهِدنا أن تكون على مستوى طموحاتهم وحاجاتهم وأذواقهم. ويقوم عملنا في هذا الكتاب وفقًا للخطة الآتية: - تصدير الكتاب بمقدمة تشتمل على حياة المؤلف أبي محمد عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي، وآثاره، ومنهجه في تأليف الكتاب. - ضبط أسماء الأعلام والأماكن والبلدان وغيرها. - ضبط الشواهد الشعرية، وشرحها، وتعيين بحورها. - التعريف بالأعلام غير المترجم لهم في الكتاب ما أمكن، مع الإحالة إلى أهم المصادر التي ترجمت لهم. - تزويد الأعلام المترجم لهم بعدد من الكتب التي ترجمت لهم ما أمكن. - التأكد من سلامة النص من خلال تصحيح بعض الأخطاء الإملائية والمطبعية، أو إضافة ما سقط في بعض مواضع الكتاب من كلمات أو حروف. - تزويد الكتاب بمجموعة من الفهارس الفنية التي تساعد القارئ، وتمكنه من الرجوع إلى مواد الكتاب بسهولة ويسر. واللهَ سبحانه وتعالى نسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يلهمنا السداد في الفكر والقول والعمل، إنه سميع مجيب، وبالإجابة جدير. صلاح الدين الهواري 1 ربيع الثاني 1426هـ 10 أيار 2005م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 69. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -9- ترجمة المؤلف حياته وتنقلاته: هو أبو محمد، عبد الواحد بن علي التميمي، المَرَّاكُشِيّ1, المالكي: مؤرخ, بحَّاثة، ولد بمَرَّاكُش في ربيع الآخر سنة 581هـ/1185م، في أول أيام أبي يوسف، يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي المُوَحِّدِِيّ2، المنصور، صاحب بلاد المغرب. ثم انتقل إلى مدينة فاس، وهو ابن تسعة أعوام، فقرأ فيها القرآن وجوده ورواه عن جماعة من الأفاضل المُبرّزين في علوم القرآن والحديث والنحو واللغة. وحين تم للمراكشي ما رغب فيه من تحصيل بفاس، عاد إلى مراكش، وظل يتردد بعد ذلك بين المدينتين، ينهل ما يتاح له من علوم ومعارف وفنون. ثم رغب في السفر إلى الأندلس، فعبر إليها في أوائل سنة 603هـ/1207م، وأدرك جماعة من علمائها وفضلائها، لكنه لم يحصل منهم -كما يقول- إلا معرفة أسمائهم ومواليدهم ووفياتهم وعلومهم3. ومن الذين لقيهم المراكشي، وتوثقت صلاته بهم من أدباء عصره: أبو بكر بن زُهْر4، وأديب آخر هو أحد أنجال ابن الطفيل الفيلسوف الأندلسي المشهور. وعندما نزل إِشْبيليَّة، قدمه صديق له يدعى محمد بن الفضل إلى واليها إبراهيم بن أبي يعقوب يوسف، أخي الخليفة الموحدي الناصر، فحظي عنده، وأصبح من أصحابه وجلاسه5. وعن رأفة هذا الأمير به، وتقريبه إياه، يقول المراكشي: كان لي -رحمه الله- محبًّا، وبي حفيًّا؛ وصلت إليَّ منه أموال وخِلَع جمة غير مرة. وعن بدء علاقته به ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- معجم المؤلفين، عمر كحالة: 210/6، الأعلام، خير الدين الزركلي: 176/4. 2- توفي سنة 595هـ/1199م. وستأتي ترجمته وافية في هذا الكتاب. 3- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، المراكشي: 360. 4- هو أبو بكر، محمد بن عبد الملك بن زهر الإيادي: من نوابغ الطب والأدب في الأندلس. ولد بإشبيلية، وتوفي سنة 595هـ/1199م. "الأعلام، الزركلي: 250/6". 5- تاريخ الفكر الأندلسي، آنخل بلانثيا: 248. ص -10- وما تلاها من محبة وتلازم، يقول: لم أعرفه أيام وزارته، وإنما كانت معرفتي إياه حين ولوه إشبيلية سنة 605هـ، .... ثم علت حالي عنده بعد ذلك، إلى أن يقول لي في أكثر الأوقات: والله, إني لأشتاقك إذا غبت عني أشد الشوق وأصدقه1. ومن الذين أخلصوا له الود من أهل القضاء: أبو عمران، موسى بن عيسى بن عمران القاضي، وفيه يقول: وأبو عمران هذا صديق لي، لم أر صديقًا لم تغيره الولاية غيره. ولم يزل يعاملني بما كان يعاملني به قبل ذلك، لم ينقصني شيئًا من بره. ما لقيته قط في مركبه إلا سلم عليَّ مبتدئًا، وجدد لي برًّا2. وطمحت نفس المراكشي إلى مصر، فسافر إليها سنة 613هـ/1227م، والتقى ببعض علمائها، ثم انتقل إلى مكة المكرمة، فأدى فريضة الحج سنة 620هـ/1224م. ثم تجول بعد ذلك في بعض بلدان المشرق3. آثاره: لم يذكر الذين ترجموا لأبي محمد غير كتاب واحد هو: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، الذي ألفه استجابة لطلب واحد من أعيان عصره. وقد فرغ المراكشي من تأليف هذا الكتاب سنة 620هـ/1224م. ونشره دوزي سنة 1240هـ/1847م، وأعاد طبعه سنة 1298هـ/1881م، وترجمه فانيان إلى الفرنسية، ثم نشر الترجمة في الجزائر سنة 1310هـ/1893م. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: 308-309. 2- المعجب نفسه: 313. 3- معجم المؤلفين، كحالة: 210/6؛ الأعلام، الزركلي: 176/4. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -11- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله مفني الأمم، وباعث الرِّمم1، وواهب الحكم، ذي البقاء والقِدَم2، الذي لا مطمع في إدراكه لثواقب الأذهان3 ونوافذ الهمم. أحمده على ما علم وألهم، وسوغ وأنعم. وصلى الله على كاشف الظلم، ورافع التهم، وموضح الطريق الأَمَم4، المخصوص بجوامع الكَلِم5، والمبتعث إلى جميع العرب والعجم، وعلى آله وصحبه أهل الفضل والكرم، وسلم عليه وعليهم وشرف وعظم. وبعد -أيها السيد الذي توالت علي نعمه، وأخذ بضَبْعي6 من حَضِيضَي الفقر والخمول اعتناؤه وكرمه، وقضى إحسانه إليَّ ومحبته التي جُبلت7 عليها بأن ألتزم من بره وطاعته ما أنا ملتزمه- فإنك سألتني -بوأك الله أعلى الرتب، كما عمر بك أندية الأدب، ومنحك من سعادتي الدنيا والآخرة أوفر القِسَم8، كما جمع لك فضيلتي التدبير والقلم- إملاء أوراق تشتمل على بعض أخبار المغرب وهيئته وحدود أقطاره، وشيء من سير ملوكه، وخصوصًا ملوك المصامدة بني عبد المؤمن، من لَدُن ابتداء دولتهم إلى وقتنا هذا -وهو سنة 621- وأن ينضاف إلى ذلك نبذة من ذكر من لقيتُه، أو لقيتُ من لقيه، أو رويتُ عنه، بوجه ما من وجوه الرواية، من الشعراء والعلماء وأنواع أهل الفضل؛ فلم أر بُدًّا من إسعافك والمسارعة إلى ما فيه رضاك؛ إذ هي الغاية التي أجري إليها، والبغية التي أثابر أبدًا عليها؛ ولوجوب طاعتك عليَّ من وجوه يكثر تعدادها؛ فاستخرت الله عز وجل فيما ندبتني9 إليه، واستعنته واعتمدت في كل ذلك عليه؛ فهو الموئل والملجأ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الرِّمَم: جمع الرُّمَّة: العظام البالية. 2- القدم: الوجود من غير ابتداء. 3- ذهن ثاقب: مُتَّقد، يقال: ثقبت النار ثقوبًا: اتقدت, والكوكب: أضاء. 4 الطريق الأمم: الواضح، البين، القريب، الوسط. 5- الكلام الجامع: الذي قلت ألفاظه وكثرت معانيه. 6- الضبع: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها، وهما ضبعان. 7- جُبل فلان: خُلق، يقال: جبل الله الخلق جَبْلًا: خلقهم، ويقال: جبله على الشيء: طبعه. 8 القسم: جمع القسمة: النصيب. 9- ندب فلانًا إلى الشيء: دعاه ووجهه. ص -12- وهو حسبنا ونعم الوكيل. هذا مع أني أعتذر إلى مولانا -فسح الله في مدته- من تقصير إن وقع، بثلاثة أوجه من الأعذار: فأولها: ضعف عبارة المملوك وغلبة العِيِّ1 على طباعه، فمهما وقع في هذا الإملاء من فتور لفظ، أو إخلال بسرد، فهو خليق بذلك. والوجه الثاني: أنه لم يصحبني من كتب هذا الشأن شيء أعتمد عليه وأجعله مستندًا كما جرت عادة المصنفين. وأما دولة المصامدة خصوصًا فلم يقع إليَّ لأحد فيها تأليف أصلاً، خلا أني سمعت أن بعض أصحابنا جمع أخبارها واعتنى بسيرها، وهذا المجموع لا أعرفه إلا سماعًا. والوجه الثالث: أن محفوظاتي في هذا الوقت على غاية الاختلال والتشتت؛ أوجبتْ ذلك هموم تزدحم على الخاطر، وغموم2 تستغرق الفكر، فرغبة المملوك الأصغر إجراء مولانا إياه على جميل عادته وحميد خلقه من التسامح والتغاضي، لا زال مجده العالي يرفع الهمم، ويعقد الذمم، ويوصل النعم، ويعمر ربوع الفضل والكرم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- العي: العجز عن التعبير اللفظي بما يفيد المعنى المقصود، أو عدم الاهتداء لوجه المراد. 2- الغموم: جمع الغم: الكرب أو الحزن. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -13- فصل في ذكر جزيرة الأندلس وحدودها فأول ما يقع الابتداء به ذكر جزيرة الأندلس1 وتحديدها والتعريف بمدنها ونبذ من أخبارها وسير ملوكها، من لدن فتحها إلى وقتنا هذا وهو سنة 621؛ إذ هي كانت مُعْتمد المغرب الأقصى، والمعتبرة منه، والمنظور إليها فيه. وهي كانت كرسي المملكة، ومقر التدبير، وأم قرى تلك البلاد؛ لم يزل هذا معروفًا من أمرها إلى أن تغلب عليها يوسف بن تَاشُفين اللَّمتوني2، فصارت إذ ذاك تبعًا لمراكش3 من بلاد العُدْوَة4، ثم تغلب عليها المصامدة بعده، فاستمر الأمر على ذلك إلى وقتنا هذا، فأقول وبالله التوفيق: أما حدود جزيرة الأندلس؛ فإن حدها الجنوبي منتهى الخليج الرومي الخارج من بحر مانطس، وهو البحر الرومي5 مما يقابل طَنْجَة6، في موضع يعرف بالزُّقاق -سعة البحر هنالك اثنا عشر ميلًا-وهذا الخليج هو ملتقى البحرين، أعني بحر مانطس وبحر أُقيانس7. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الجزيرة: الأرض التي يُحدق بها الماء، أي: يحيط بها من جميع جهاتها، وليست الأندلس كذلك؛ لأنها تتصل بالبر من جهة الشرق. وقد سميت جزيرة على المجاز، من باب تغليب الكل على الجزء. 2- هو أبو يعقوب، يوسف بن تاشفين بن إبراهيم المصالي الصنهاجي اللمتوني الحميري: سلطان المغرب الأقصى، وملك الملثمين، وأول من لُقب بأمير المسلمين في المغرب. بنى مدينة مراكش سنة 465هـ. ثم شمل سلطانه المغربينِ الأقصى والأوسط وجزيرة الأندلس بأكملها. توفي سنة 500هـ/ 1106م. "الأعلام، الزركلي: 222/8". 3- مراكش: مدينة عظيمة بالمغرب، بينها وبين البحر عشرة أيام في وسط بلاد البربر. وبينها وبين جبل درن ثلاثة فراسخ. "معجم البلدان، الحموي: 94/5". 4- العدوة لغةً: شاطئ الوادي، أو المكان المتباعد، والمراد بها هنا: الشاطئ الإفريقي، أو بلاد المغرب الأقصى. 5- البحر الرومي: هو البحر الأبيض المتوسط. 6- طنجة: مدينة على ساحل بحر المغرب، مقابل الجزيرة الخضراء، وبينها وبين سبتة مسيرة يوم واحد. "معجم البلدان، الحموي: 43/4". 7- أقيانس: الأوقيانوس، أو المحيط الأطلسي. ص -14- وحداها الشمالي والمغربي البحر الأعظم، وهو بحر أقيانس المعروف عندنا ببحر الظلمة، وحدها المشرقي الجبل الذي فيه هيكل الزهرة الواصل ما بين البحرين: بحر الروم وهو مانطس، والبحر الأعظم. ومسافة ما بين البحرين في هذا الجبل قريب من ثلاث مراحل، وهو الحد الأصغر من حدود الأندلس. وحداها الأكبران الجنوبي والشمالي, مسافة كل واحد منهما نحو من ثلاثين مرحلة. وهذا الجبل الذي ذكرنا فيه هيكل الزهرة الذي هو الحد المشرقي من الأندلس، هو الحاجز ما بين بلاد الأندلس وبين بلاد إفرنسة من الأرض الكبيرة1، أرض الروم التي هي بلاد إفرنجة العظمى. والأندلس آخر المعمور في المغرب2؛ لأنها كما ذكرنا منتهية إلى بحر أقيانس الذي لا عمارة وراءه. ومسافة ما بين طُلَيْطُلة التي هي قريبة من وسط الأندلس، ومدينة رومية قاعدة الأرض الكبيرة، قريب من أربعين مرحلة، ووسط الأندلس كما ذكرنا مدينة طليطلة العتيقة، التي كانت قاعدة القوطا من قبائل الإفرنج، ثم ملكها المسلمون زمان الفتح على ما سيأتي بيانه، وعرضها تسع وثلاثون درجة وخمسون دقيقة، وطولها ثمانٍ وعشرون درجة بالتقريب، فصارت بذلك قريبًا من وسط الإقليم الخامس. وأقل بلاد الأندلس عرضًا المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، على البحر الجنوبي منها، وعرضها ست وثلاثون درجة, وأكثر مدنها عرضًا بعض المدائن التي على ساحلها الشمالي, وعرض ذلك الموضع ثلاث وأربعون درجة. فتبين بما ذكرنا أن معظم الأندلس في الإقليم الخامس أميل إلى الشمال؛ فلذلك اشتد بردها وطالت مدة الشتاء فيها وعظمت جسوم أهل ذلك الميل وابيضت ألوانهم وكانت أذهانهم إلى الغلظ ما هي، فنَبَتْ3 عن كثير من الحكمة. وطائفة من الأندلس في الإقليم الرابع، كإشْبِيلية، ومالَقة، وقُرطُبة وغَرْنَاطة، والمَرِيَّة ومُرْسِيَة، فهذه البلاد التى ذكرنا في الإقليم الرابع أعدل هواء وأطيب أرضًا وأعذب مياهًا من البلاد التي في الإقليم الخامس، وأهلها أحسن ألوانًا وأجمل صورًا وأفصح لغة من أولئك؛ إذ كان للميول والسُّموت في اللغات تأثير بين لمن استقرأ ذلك وفهم علته. وجملة مدن الأندلس التي هي أمهات قراها ومراكز أعمالها ومواضع مخاطبات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الأرض الكبيرة: هي عند قدماء العرب: بلاد الفرنجة التي تلي الأندلس من جهة الشرق. 2- هذا مبلغ ظن العرب آنذاك، قبل اكتشاف القارة الأمريكية. 3- نبا الشيء نُبُوًّا ونَبْوَةً: لم يستوِ في مكانه المناسب له، ونبا السيف عن الضريبة: لم يُصبها، ونبا البصر عن الشيء: أعرض عنه ونفر. ص -15- أولي الأمر منها: أولاها في الحد الشمالي: مدينة شِلْب، ثم مدينة إشبيلية، ثم قرطبة، ثم جَيَّان، ثم أَغِرناطة1، ثم المرية، ثم مرسية، ثم بَلنْسِيَة، ثم مالقة، وهي على البحر الرومي. فالذي على البحر الأعظم من هذه المدائن: شلب، وإشبيلية، وبينهما قريب من خمس مراحل. والذي على البحر الرومي: المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وهي من أعمال إشبيلية؛ ثم مالقة، وهي مستقلة، ثم المرية، ثم دانية؛ هذه كلها على البحر الرومي. ثم سائر ما ذكرنا من المدن ليست على ساحل. ولما استقر أمر المسلمين بالأندلس في غُرة المائة الثانية، تخيروا مدينة قرطبة فجعلوها كرسي المملكة ومقر الإمارة، فلم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولة بني أمية بالأندلس، فتغلب على كل جهة من الجزيرة متغلب على ما سيأتي بيانه. وهذه المدن التي ذكرت هي التي يملكها المسلمون اليوم، وقد كانوا يملكون قبلها مدنًا كثيرة لم أذكرها في هذا الموضع؛ إلا أن ذكرها سيرد فيما يأتي من تفصيل أخبار الأندلس، تعرف ذلك بقولي: أعادها الله للمسلمين. فهذه جملة من أخبار الأندلس وحدودها وبلادها الكائنة بأيدي المسلمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- أغرناظة: أي: غَرْنَاطة، وهي آخر مدينة أندلسية انتزعها الإسبان من العرب. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -16- ذكر فتح جزيرة الأندلس ولمع من تفصيل أخبارها وسير ملوكها ومن كان فيها من الفضلاء منها ومن غيرها ثم نعود إلى افتتاحها فنقول والله الموفق: افتتح المسلمون جزيرة الأندلس في شهر رمضان سنة 92 من الهجرة، وكان فتحها على يدي طارق1، قيل: ابن زياد، وقيل: ابن عمرو، وكان واليًا على طنجة، مدينة من المدن المتصلة ببر القَيْروان2 في أقصى المغرب، بينها وبين الأندلس الخليج المذكور المعروف بالزُّقاق، وبالمجاز. رتبه موسى بن نُصَير3 أمير القيروان. وقيل: إن مروان بن موسى بن نصير خلف طارقًا هناك على العساكر، وانصرف إلى أبيه لأمر عرض له، فركب طارق البحر إلى الأندلس من جهة مجاز الجزيرة الخضراء، منتهزًا لفرصة أمكنته؛ وذلك أن الذي كان يملك ساحل الجزيرة الخضراء وأعمالها من الروم خطب إلى الملك الأعظم ابنته، فأغضب ذلك الملك، ونال منه وتوعده، فلما بلغه ذلك جمع جموعًا عظيمة وخرج يقصد بلد الملك، فبلغ طارقًا خلو تلك الجهة، فهذه الفرصة التي انتهزها... و قيل: إن العِلْج4 كتب إليه بالعبور لسبب أنا ذاكره، وهو أن لُذْرِيق ملك الجزيرة-لعنه الله- كان له رسم: يوجه إليه أعيان قواده وأمراء دولته ببناتهم، فيربيهن عنده في قصوره ويؤدبهن بالآداب الملوكية حسبما كانوا يرونه ....؛ فإذا بلغت الجارية منهن وحسن أدبها، زوجها في قصره لمن يرى أنه كفء أبيها. فوجه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو طارق بن زياد الليثي بالولاء: أصله من البربر. قائد فاتح مشهور. توفي سنة 102 هـ/ 720م. "الأعلام، الزركلي: 217/3". 2- القيروان: مدينة عظيمة بالمغرب، بناها عقبة بن نافع سنة 45 هـ، وجعلها حصنًا لجيشه. "معجم البلدان، الحموي: 420/4". 3- هو أبو عبد الرحمن، موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد اللخمي بالولاء: قائد فاتح، أصله من وادي القرى بالحجاز. توفي سنة 97هـ/715م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 317". 4 العلج: الكافر، أو الرجل القوي الضخم من كفار العجم، وقيل: كل صلب شديد: علج، والجمع: علوج. ص -17- إليه صاحب الجزيرة الخضراء وأعمالها بابنته على الرسم المذكور، فكانت عنده إلى أن بلغت مبلغ النساء، فرآها يومًا فأعجبته، فدعاها فأبت عليه، وقالت: لا والله حتى تُحضر الملوك والقواد وأعيان البطارقة وتتزوجني، هذا بعد مشورة أبي! فغلبته نفسه واغتصبها على نفسها، فكتبت إلى أبيها تعلمه بذلك، فهذا كان السبب الذي بعثه على مكاتبة طارق والمسلمين، فكان الفتح، فالله أعلم أي ذلك كان. فأول موضع نزله فيما يقال منها: المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء اليوم، نزلها قبيل الفجر، فصلى بها الصبح بموضع منها وعقد الرايات لأصحابه، فبُني بعد ذلك هناك مسجد، عُرف بمسجد الرايات، وهو باقٍ إلى وقتنا هذا، أسأل الله إبقاءه إلى أن تقوم الساعة... ثم دخل طارق هذا الأندلس وأمعن فيها واستظهر1 على العدو بها، وكتب إلى موسى بن نصير موليه بخبر الفتح وغلبته على ما غلب عليه من بلاد الأندلس وما حصل له من الغنائم، فحسده موسى على الانفراد بذلك، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان2 يعلمه بالفتح وينسبه إلى نفسه، وكتب إلى طارق يتوعده، إذ دخلها بغير إذنه، ويأمره ألا يتجاوز مكانه الذي ينتهي إليه الكتاب فيه حتى يلحق به، وخرج متوجهًا إلى الأندلس، واستخلف على القيروان ابنه عبد الله، وذلك في رجب من سنة 93. وخرج معه حبيب بن أبي عبدة الفهري3 ووجوه العرب والموالي وعرفاء البربر في عسكر ضخم، ووصل من جهة المجاز إلى الأندلس وقد استولى طارق على قرطبة دار المملكة، وقتل لذريق الملك-لعنه الله- بالأندلس، فتلقاه طارق وترضاه، ورام أن يستلَّ ما في نفسه من الحسد له، وقال له: إنما أنا مولاك ومن قِبلك، وهذا الفتح لك وبسببك؛ وحمل طارق إليه ما كان غنم من الأموال, فلذلك نُسب الفتح إلى موسى بن نصير؛ لأن طارقًا من قِبله، ولأنه أتم من الفتح ما كان بقي على موسى. وأقام موسى بالأندلس مجاهدًا وجامعًا للأموال ومرتبًا للأمور بقية سنة 93 وسنة 94 وأشهرًا من سنة خمس، وقبض على طارق، ثم استخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى4، وترك معه من العساكر ووجوه القبائل من يقوم بحماية البلاد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- استظهر على عدوه: غلبه. 2- هو أبو العباس، الوليد بن عبد الملك بن مروان: من خلفاء الدولة الأموية في الشام. ولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 86هـ. وتوفي سنة 96هـ/715م. "الأعلام، الزركلي: 121/8". 3- في رواية: "حبيب بن أبي عبيدة". 4- هو عبد العزيز بن موسى بن نصير اللخمي بالولاء: أمير شجاع فاتح. توفي سنة 97هـ/616م. "بغية الملتمس، الضبي. ص -18- وسد الثغور وجهاد العدو، ورجع إلى القيروان، ثم سار منها بما حصل له من الغنائم وأعده من الهدايا إلى الوليد بن عبد الملك -وكان مما وجده بمدينة طليطلة حين فتحها مائدة سليمان بن داود -عليهما السلام-، فيقال: إنها طوق ذهب وطوق فضة، مكللة باللؤلؤ والياقوت- ومعه -فيما يقال- طارق، فمات الوليد وقد وصل موسى إلى طبرية في سنة 96، فحمل ما كان معه إلى سليمان بن عبد الملك1؛ ويقال: إنه وصل أدرك الوليد حيًّا، فالله أعلم. وأقام عبد العزيز بن موسى بن نصير أميرًا على الأندلس إلى أن ثار عليه من الجند جماعة، فيهم حبيب بن أبي عبدة الفِهْري، وزياد بن النابغة التميمي، فقتله بعضهم، وخرجوا برأسه إلى سليمان بن عبد الملك -وذلك في صدر سنة 98- بعد أن أمروا على الأندلس أيوب ابن أخت موسى بن نصير. ويقال: إنهم كتبوا إلى سليمان بما أنكروا من أمره، فأمرهم بما فعلوه، فالله أعلم. ثم اختلف الأمر هنالك، ومكث أهل الأندلس بعد ذلك زمانًا لا يجمعهم والٍ، ثم ولي عليها السَّمْح بن مالك الخَوْلاني2 قبل المائة، واجتمع عليه الناس، ثم ولي عليها الغَمْر بن عبد الرحمن بن عبد الله، ثم وليها عَنْبَسة بن سُحَيم الكلبي3، وعُزل الغمر بن عبد الرحمن، ثم وليها عبد الرحمن بن عبد الله العكي نحوًا من العشر ومائة، وكان رجلًا صالحًا، ثم وليها عبد الملك بن قَطَن الفِهْري4، ثم عقبة بن الحجاج5، فهلك عقبة بالأندلس، ورُد عبد الملك بن قطن، ثم جاء بَلْجُ بن بشر6 فادعى ولايتها من قبل هشام بن عبد الملك7، وشهد له بعض من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو أيوب، سليمان بن عبد الملك بن مروان: خليفة أموي، ولد في دمشق، وبويع بالخلافة يوم وفاة أخيه الوليد، وتوفي سنة 99هـ/717م. "الأعلام، الزركلي: 130/3". 2- أمير من بني خولان، من قضاعة. استعمله عمر بن عبد العزيز على الأندلس، واستشهد غازيًا بأرض الفرنجة سنة 102هـ/721م. "جذوة المقتبس، الحميدي:220". 3- أمير فاتح شجاع. ولي الأندلس في عهد هشام بن عبد الملك سنة 103هـ، فأوغل في غزو الفرنجة. توفي سنة 107هـ/ 725م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 301". 4- هو عبد الملك بن قطن بن نهشل بن عبد الله الفهري: أمير قائد شجاع. ولي الأندلس سنة 114هـ/733م، وتوفي سنة 123هـ/741م. "بغية الملتمس، الضبي: 369". 5- هو عقبة بن الحجاج السلولي: أمير شجاع فاتح. ولي الأندلس من قِبَلِ عبد الله بن الحبحاب أمير إفريقية، وتوفي سنة 123هـ/ 741م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 301". 6- هو بلج بن بشر بن عياض القشيري: قائد دمشقي حازم شجاع. استبدَّ بالأندلس بعد قتل أميرها، وتوفي سنة 124هـ/ 742م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 170". 7- هو هشام بن عبد الملك بن مروان: من خلفاء الدولة الأموية في الشام. ولي الخلافة بعد وفاة أخيه يزيد، وعُرف بحسن السياسة والتدبير. توفي سنة 125هـ/ 743م. "الأعلام, الزركلي: 86/8". ص -19- كان معه، ووقعت فتن من أجل ذلك، وافترق أهل الأندلس فيها على أربعة أمراء, حتى أُرسل إليهم واليًا أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي1، فحسم مواد الفتن، وجمعهم على الطاعة بعد الفرقة. وفي تقديم بعض هؤلاء الأمراء على بعض اختلاف، إلا أن هؤلاء المذكورين كانوا أمراءها وولاة الحروب فيها أيام بني أمية قبل ذهاب دولتهم في المشرق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو أبو الخطار، حسام بن ضرار بن سلامان بن خيثم بن ربيعة الكلبي الربعي: أمير شجاع حازم. ولاه حنظلة بن سفيان أمير إفريقية إمارة الأندلس سنة 125هـ/743م، فأقام بقرطبة، وتوفي سنة 130هـ/748م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 188". المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -20- ذكر من دخل الأندلس من التابعين وأنا ذاكر هاهنا من دخل الأندلس من التابعين للجهاد والرباط: فمنهم محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري، يروي عن أبي هريرة1. ومنهم حَنَش بن عبد الله الصَّنْعاني2، يروي عن علي بن أبي طالب، وفضالة بن عُبَيْد3. ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافِقِيّ4، يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب5. ومنهم يزيد بن قاسط، وقيل: ابن قَسِيط، السَّكْسكي المصري، يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. ومنهم موسى بن نصير الذي يُنسب الفتح إليه، يروي عن تميم الداري6. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الملقب بأبي هريرة: صحابي، كان أكثر الصحابة حفظًا للحديث النبوي، أسلم سنة 7هـ/ 629م، وتوفي سنة 59هـ/ 679م. "الأعلام، الزركلي: 308/3". 2- هو حنش بن عبد الله بن عمرو بن حنظلة الصنعاني: تابعي، قائد شجاع. بنى جامع سرقسطة بالأندلس, وتوفي سنة 100هـ/ 718م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 189". 3- هو أبو محمد، فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي: صحابي، من الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة. توفي سنة 53هـ/ 673م. "الأعلام, الزركلي: 146/5". 4- هو أبو سعيد، عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغافقي: من كبار القادة الغزاة الشجعان, أصله من غافق باليمن. توفي سنة 114هـ/732م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 253". 5- هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي: صحابي من أشراف قريش, نشأ في الإسلام، وشهد فتح مكة. توفي سنة 73هـ/692م. " الأعلام، الزركلي:/108". 6- هو أبو رقية، تميم بن أوس بن خارجة الداري: صحابي، نسبته إلى الدار بن هانئ اللخمي. توفي سنة 40هـ/660م. "الأعلام، الزركلي: 87/2". المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -21- فصل في فضل المغرب وقد جاء في فضل المغرب غير حديث، فمن ذلك ما حدثني الفقيه الإمام المتقن المتفنن, أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل الشيباني سماعًا عليه بمكة في شهر رمضان من سنة 620 قال: حدثني المؤيد بن عبد الله الطوسي قراءة عليه بنيسابور قال: حدثنا الإمام كمال الدين محمد بن أحمد بن صاعد القراوي قراءة عليه قال: حدثنا ابن عبد الغافر الفارسي, حدثنا محمد بن عيسى بن عَمْرَوَيْه الجلودي, حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان, حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري1 قال: حدثنا يحيى بن يحيى عن هشام بن بشر الواسطي عن داود بن أبي هند بن أبي عثمان النهدي عن سعد بن أبي وقاص2 أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق, لا يضرهم من خذلهم, حتى تقوم الساعة". ومن فضل الأندلس أنه لم يذكر قط أحد على منابرها من السلف إلا بخير. وما زالت الولاة بالأندلس تليها من قبل بني أمية أو من قبل من يقيمونه بالقيروان أو بمصر، فلما اضطرب أمرهم في سنة 126هـ بقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك3، اشتغلوا عن مراعاة أقاصي البلاد، ووقع الاضطراب بإفريقية والاختلاف بالأندلس أيضًا بين القبائل، ثم اتفقوا بالأندلس على تقديم قرشي يجمع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو الحسين، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري: حافظ، من أئمة المحدثين. ولد بنيسابور، وتوفي فيها سنة 261هـ/875م. من آثاره: "الجامع الصحيح" في الحديث. "الأعلام، الزركلي: 221/7". 2- هو أبو إسحاق، سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري: صحابي، أمير، وأحد الستة الذين اختارهم عمر للشورى، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. توفي سنة 55هـ/675م. "الأعلام، الزركلي: 87/3" 3- هو أبو العباس، الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان: من خلفاء الدولة الأموية في الشام. توفي سنة 126هـ/ 744م. "الأعلام، الزركلي: 122/8". ص -22- الكلمة إلى أن تستقر الأمور بالشام لمن يخاطَب، ففعلوا، وقدموا يوسف بن عبد الرحمن الفهري1، فسكنت به الأمور، واتفقت عليه القلوب؛ واتصلت إمارته إلى سنة 138 بعد ذهاب دولة بني أمية بست سنين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبدة بن عقبة بن نافع الفهري القرشي: قائد شجاع داهية. وُلد في القيروان، وتُوفي سنة 142هـ/759م. "الأعلام، الزركلي: 236/8". المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -23- ذكر خبر دخول عبد الرحمن بن معاوية* الأندلس وفي هذه السنة دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأندلس، الملقب بالداخل؛ فقامت معه اليمانية، وحارب يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عَبْدَة بن عقبة بن نافع الفهري الوالي على الأندلس المذكور آنفًا، فهزمه؛ واستولى عبد الرحمن على قرطبة دار الملك، وكان دخوله إياها يوم الأضحى من السنة المذكورة، فاتصلت ولايته إلى أن مات سنة 172. وكان مولده بالشام سنة 113، أمه أم ولد اسمها: راح، ويكنى أبا المطرف. دخل الأندلس في ذي القعدة، واستولى على قرطبة دار ملكها في التاريخ المذكور؛ وذلك أنه هرب من الشام لما انتشرت دولة بنى العباس، فلم يزل مستترًا ينتقل في بلاد المغرب حتى دخل الأندلس، ودخل حين دخلها طريدًا وحيدًا لا أهل له ولا مال، فلم يزل يُصرِّف حيله ويسمو بهمته والقَدَر مع ذلك يوافقه، إلى أن احتوى على ملكها، وملك بعض بلاد العُدوة. وكان أبو جعفر المنصور1 إذا ذكر عنده قال: "ذاك صقر قريش". وكان عبد الرحمن بن معاوية من أهل العلم، وعلى سيرة جميلة من العدل؛ ومن قضاته معاوية بن صالح الحضرمي الحِمْصي2، وله أدب وشعر. ومما أنشد، وقاله يتشوق إلى معاهده بالشام، قوله: من الخفيف أيها الراكب المُيَمِّمُ أرضِي أَقْرِ من بعضي السلام لبعضِي3 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في الكامل لابن الأثير: 182/5, الأعلام للزركلي: 338/3. 1- هو أبو جعفر، عبد الله بن محمد بن علي بن العباس، الملقب بالمنصور: ثاني خلفاء الدولة العباسية في العراق، وأول من عني بالعلوم من الخلفاء. توفي سنة 158هـ/775م. "الأعلام، الزركلي: 117/4". 2- هو معاوية بن صالح بن حُدير الحضرمي الحمصي: قاضٍ، من أعلام رجال الحديث. أصله من حضرموت، ونشأ بحمص، وولي قضاء الجماعة بالأندلس. توفي سنة 158هـ/774م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 318؛ تاريخ قضاة الأندلس، النباهي: 43". 3- الميمم: اسم فاعل من يَمَّم المكان: إذا قصده. ومنه: يممه بالرمح: توخاه وتعمده من دون سواه. ص -24- إن جسمي كما علمتَ بأرضٍ وفؤادي ومالكيه بأرضِ قدر البَيْنُ بيننا فافترقنا وطوى البين عن جفوني غَمْضِي1 قد قضى الله بالفِرَاق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضِي! وله شعر كثير أبرع من هذا, أورده المؤرخون في كتبهم. وكانت مدة ولايته منذ استولى على قرطبة دار الملك إلي أن توفي، اثنتين وثلاثين سنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- البين: الفرقة والبعد. الغمض: النوم، يقال: ما اكتحلت عينه غمضًا. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن* ثم ولي بعد عبد الرحمن ابنه هشام، يكنى: أبا الوليد، وسنه حينئذٍ خمس وثلاثون سنة، واتصلت ولايته سبعة أعوام إلى أن مات في صفر سنة 180. وكان حسن السيرة، متحريًا للعدل، يعُودُ المرضى، ويشهد الجنائز، ويتصدق بالصدقات الكثيرة، وربما كان يخرج في الليالي المظلمة الشديدة المطر ومعه صُرَر الدراهم يتحرى بها المساتير وذوي البيوتات من الضعفاء؛ لم يزل هذا مشهورًا من أمره إلى أن مات في التاريخ المذكور. أمه أم ولد اسمها: حوراء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في بغية الملتمس: 13، الأعلام: 86/8، وفيه: أنه ولد بقرطبة، وبويع له بعد أبيه سنة 172هـ، وبنى عدة مساجد، وتمم بناء جامع قرطبة. وكان أهل الأندلس يشبهونه بعمر بن عبد العزيز بعدله وحسن سيرته. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ولاية الحَكَم بن هشام الملقب بالرَّبَضيِّ** ثم ولي بعده ابنه الحكم وله اثنتان وعشرون سنة، يكنى: أبا العاص، أمه أم ولد اسمها: زُخرف، وكان طاغيًا مسرفًا، وله آثار سوء قبيحة، وهو الذي أوقع بأهل الرَّبَض الوقعة المشهورة، فقتلهم وهدم ديارهم ومساجدهم. وكان الربض محلة متصلة بقصره، فاتهمهم في بعض أمره، ففعل بهم ذلك، فسمي الحكم الربضي لذلك. وفي أيامه أحدث الفقهاء إنشاد أشعار الزهد والحض على قيام الليل في الصوامع، أعنى: صوامع المساجد، وأمروا أن يخلطوا مع ذلك شيئًا من التعريض به، مثل أن يقولوا: يا أيها المسرف المتمادي في طغيانه، المصر على كِبره، المتهاون بأمر ربه، أفق من سكرتك، وتنبه من غفلتك.. وما نحا هذا النحو؛ فكان هذا من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ** ترجمته في بغية الملتمس: 14؛ الأعلام: 268/2، وفيه: أنه كان من أفحل ملوك بني أمية في الأندلس، وأول من جعل للملك فيها أبهة، وأول من جند الأجناد، وجمع الأسلحة والعدد، وارتبط الخيول على بابه، وأنه ولد ونشأ وتوفي بقرطبة. ص -25- جملة ما هاجه وأوغر صدره1 عليهم. وكان أشد الناس عليه في أمر هذه الفتنة الفقهاء، هم الذين كانوا يحرضون العامة ويشجعونهم، إلى أن كان من أمرهم ما كان. وحكى أبو مروان بن حيان2 صاحب أخبار الأندلس، أنه لما تُسُور عليه القصر وأحس بالشر، قال لأخص غلمانه: اذهب إلى فلانة، إحدى كرائمه، وقل لها تعطيك قارورة الغالية3. فأبطأ الغلام وتلكأ، فأعاد ذلك عليه، فقال: يا مولاي، هذا وقت الغالية؟ فقال له: ويلك يا ابن الفاعلة! بم يعرف رأسي إذا قطع من رءوس العامة إن لم يكن مضمخًا بالغالية؟ ثم إنه ظهر بعد هذا عليهم، وذلك أنهم كانوا يقاتلون القصر وعامة الحشم والجند يشغلونهم، إلى أن دهمتهم الخيل من ورائهم، فانهزموا وقُتلوا قتلًا قبيحًا، وأمر بديارهم ومساجدهم فهدمت وحرقت، وأمر بنفي من بقي منهم عن البلاد، فخرجوا حتى نزلوا جزيرة إقريطش من جزائر البحر الرومي المقابلة لبر بَرْقَة أول المغرب، فلم يزالوا هنالك سنين إلى أن تفرقوا، فرجع بعضهم إلى الأندلس، واختار بعضهم سُكنى صقلية، وانتقل بعضهم إلى الإسكندرية. ومن أعجب ما حكي أبو مروان بن حيان المؤرخ بما يتصل بخبر هذه الوقعة، قال: كان من أشد الناس على الحكم هذا تحريضًا، رجل من الفقهاء اسمه طالوت4, كان جليل القدر في الفقهاء، رحل إلى المدينة وسمع من مالك بن أنس5 وتفقه على أصحابه، وكان قويًّا في دينه؛ فلما الحكم بأهل الربض -كما ذكرنا- وأمر بتغريب من بقي منهم، كان ممن أمر بتغريبه طالوت الفقيه، فعسر عليه الانتقال ومفارقة الوطن، ورأى الاختفاء إلى أن تتغير الأحوال، فاستخفى في دار رجل يهودي سنة كاملة، واليهودي في كل ذلك يكرمه أبلغ الكرامة، ويعظمه أشد التعظيم؛ فلما مضت السنة طال على الفقيه الاختفاء، فاستدعى اليهودي وشكره على إحسانه إليه، وقال له: قد عزمت غدًا على الخروج وقصد دار فلان الكاتب؛ لأنه قرأ علي ولي عليه حق التعليم، وقد بلغني أن له جاهًا عند هذا الرجل، فعسى هو يشفع لي عنده ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- أوغر صدر فلان: أحماه من الغيظ وسَعَّره. 2- هو أبو مروان، حيان بن خلف بن حسين بن حيان الأموي بالولاء: مؤرخ، بَحَّاثة، من أهل قرطبة. توفي سنة 469هـ/1076م. من آثاره: "المقتبس في تاريخ الأندلس". "وفيات الأعيان، ابن خلكان: 218/2". 3- الغالية: أخلاط من الطيب, كالمسك والعنبر ونحوهما. 4- هو طالوت بن عبد الجبار المعافري. 5- هو أبو عبد الله، مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري: إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه تنسب المالكية. توفي سنة 179هـ/795م. "الأعلام، الزركلي: 257/5". ص -26- فيؤمنني ويدعني في بلدي! فقال له اليهودي: يا مولاي، لا تفعل، فما آمنهم عليك! وجعل يحلف له بكل يمين يعتقده، أنه لو أقام عنده بقية عمره ما أَمَلَّه ذلك ولا ثقل عليه؛ فأبى إلا الخروج، فخلى بينه وبين ذلك؛ فخرج حتى أتى دار ذلك الكاتب بغَلَس1، فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل عليه رحب به وأدنى مجلسه، وسأله أين كان في هذه المدة؟ فقص عليه قصته مع اليهودي، ثم قال له: اشفع لي عند هذا الرجل حتى يؤمنني في نفسي ويَمُنَّ عليَّ بتركي في بلدي! فوعده بذلك، وركب من فوره ودخل على الحكم، فقال له كل ما سمع من طالوت، ووشى به إليه؛ فأحضره الحكم إليه فعنفه ووبخه، فقال له طالوت: كيف يحل لي أن أخرج عليك، وقد سمعت مالك بن أنس يقول: سلطان جائر مدة خير من فتنة ساعة؟ قال الحكم: الله تعالى! لقد سمعت هذا من مالك؟ قال طالوت: اللهم إني قد سمعته. قال: فانصرف إلى منزلك وأنت آمن. ثم سأله أين استتر؟ فقال: عند يهودي مدة عام، ثم إني قصدت هذا الوزير فغدر بي! فغضب الحكم على أبي البسَّام وعزله عن وزارته، وكتب عهدًا ألا يخدمه أبدًا؛ فرُئي أبو البسام الكاتب بعد ذلك في فاقة وذل، فقيل: استُجيبت فيه دعوة الفقيه طالوت -رحمه الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ولاية الحكم المُسْتَنْصر* من الوافر2 ........................ ......................... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * يتضح من سياق الكلام أن هذه الترجمة للحكم المستنصر، وقد سقط القسم الأول منها، كما سقطت تراجم عدد من الأمراء الذين سبقوه، وهم: عبد الرحمن بن الحكم "ت 238هـ/ 853م"، ومحمد بن عبد الرحمن "ت 273 هـ/ 887م"، والمنذر بن محمد "ت 275هـ/ 889م"، وعبد الله بن محمد "ت 300هـ/ 913م"، وعبد الرحمن الناصر "ت 350 هـ/ 962م"، ثم الحكم بن عبد الرحمن المستنصر بالله "ت 366هـ/977م". وهذا مطلع ترجمة الحكم المستنصر، نقلًا عن "بغية الملتمس" لابن عميرة الضبي: "ثم ولي بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن، ويلقب بالمستنصر بالله، وله إذ ولي سبع وأربعون سنة، يكنى أبا العاص، أمه أم ولد اسمها "مرجان". وكان حسن السيرة، جامعًا للعلوم، محبًّا لها، مكرمًا لأهلها. وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله هنالك، وذلك بإرساله عنها في الأقطار، واشترائه لها بأغلى الأثمان، ونفق ذلك عليه، فحُمل إليه. وكان قد رام قطع الخمر من الأندلس، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع أعماله، فقيل له: إنهم يعملونها من التين وغيره، فتوقف عن ذلك". 2 هذه القصيدة لأبي عمر يوسف بن هارون الرمادي الكندي، وقد نظمها عندما أمر الحكم= ص -27- فقال وقد مضى ليل وثانٍ ولم يسمعه غنى: ليت شعري أجاري المُؤْنِسي ليلًا غناء لخيرٍ قطعُ ذلك أم لشرِّ؟ فقالوا: إنه في سجن عيسى أتوه به بليل وهو يسرِى1 فنادى بالطويلة وهي مما يكون برأسه لجليل أمرِ2 ويمم جاره عيسى بنَ موسى فلاقاه بإكرام وبرِّ3 وقال: أحاجة عرضت فإني لقاضيها ومتبعها بشكرِ! فقال: سجنتَ لي جارًا يسمى بعمرٍو! قال: يُطلَق كل عمرو بسجنى حيث وافقه اسم جار الـ ـفقيه ولو سجنتهمو بوِتْرِ!4 فأطلقهم له عيسى جميعًا لجار لا يبيت بغير سكرِ! فإن أحببت قل لجوار جارٍ وإن أحببت قل لطِلاب أجرِ فإن أبا حنيفة لم يَؤُبْ من تطلبه تخلصه بوزرِ5 وتلخيص هذه الحكاية التي نظمها أبو عمر في شعره، أن أبا حنيفة6 -رحمه الله- كان يجاوره رجل كيال، فكان كل ليلة يأخذ سمكة ورغيفًا وشيئًا من النبيذ، فإذا صلى العشاء الآخرة أكل ثم شرب، حتى إذا انتشى رفع عقيرته7 واندفع ينشد هذا البيت: من الوافر أضاعوني وأي فتًى أضاعُوا ليوم كريهةٍ وسداد ثَغْرِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = المستنصر بإراقة الخمور في الأندلس، ومطلعها "بغية الملتمس: 18": بخَطب الشاربين يضيق صدرِي وتُرْمِضنى بليَّتهم لَعَمْرِي وهل هم غير عشاقٍ أُصيبوا بفقد حبائب ومُنوا بهجرِ 1- في بغية الملتمس: "أتاه به المُحارس وهو يسري". وعيسى هو: عيسى بن موسى صاحب الشرطة في بغداد لعهد الرشيد العباسي. 2- الطويلة: لباس للرأس، كان الإمام أبو حنيفة النعمان -وهو المقصود هنا- يلبسه عندما كان ينهض لأمر جَلَل. 3- يممه: قصده. 4- في البغية: "لوتر". 5- الوزر: الحمل الثقيل، أو الذنب. 6- هو أبو حنيفة، النعمان بن ثابت التيمي بالولاء: أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. وُلد في الكوفة، وتوفي سنة 150 هـ/767م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 323/13". 7 العقيرة: الصوت. ص -28- فلا يزال يعيده حتى يغلبه النوم، وكان أبو حنيفة -على ما اشتهر عنه- يحيي الليل كله صلاة، فلما كان في بعض الليالي فقد صوت ذلك الرجل، فقال لبعض من عنده: ما فعل جارنا هذا الذي كان يغني كل ليلة؟ أهو مريض أم غائب؟ فقالوا له: إنه مسجون! فقال: ومن سجنه؟ فقالوا: خرج في الليل لبعض حاجته فلقيه أصحاب عيسى بن موسى صاحب الشرطة, فأتوا به فأمر بسجنه؛ فلما أصبح أبو حنيفة لبس ثيابه وركب دابته وقصد عيسى بن موسى في بيته، فلما أُعلم عيسى بمكان أبي حنيفة خرج يتلقاه مسرعًا، وبالغ في تكريمه وبره، وسأله عن حاجته، فقال: لي في سجنك جار اسمه عمرو, فقال عيسى: يُطلق كل من كان اسمه عمرو بسجني من أجل جار الفقيه! فأطلقه وخلقًا كثيرًا معه؛ فأتى الرجل أبا حنيفة يتشكر له، فلما وقعت عينه عليه قال له: أضعناك؟ قال الرجل: لا والله، بل حفظت الجوار -حفظك الله-! والبيت الذي نظمه أبو عمر وكان يغني به الرجل جار أبو حنيفة، هو للعَرْجي1، رجل من ولد عثمان بن عفان2، سجنه المغيرة خال هشام بن عبد الملك3 وعامله على مكة، فلم يزل بسجنه إلى أن مات وخرجت جنازته من السجن. ولأبي عمر هذا شعر كثير جيد، وهو من الطبقة الثالثة من طبقات شعراء الأندلس؛ فمما على حفظي له أول قصيدة يمدح بها أبا علي القالي4 المتقدم الذكر5، وهي: من الكامل مَنْ حاكمٌ بيني وبين عذولي الشَّجْوُ شجوي والعويل عويلِي6 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي القرشي، المعروف بالعرجي: شاعر غزل مطبوع، ينحو في شعره ومغامراته منحى عمر بن أبي ربيعة، وأكثر شعره في الغزل. توفي نحو 120هـ/ نحو 738م. "الأغاني، الأصفهاني: 362/1". 2- هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، المعروف بذي النورين: ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. ولد ونشأ بمكة، وتوفي سنة 36هـ/656م. " شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي:40/1". 3- هو هشام بن عبد الملك بن مروان: خليفة أموي. ولد في دمشق، وبويع بالخلافة بعد وفاة أخيه يزيد، وتوفي سنة 125هـ/743م. "الأعلام، الزركلي: 86/8". 4- هو أبو علي، إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون القالي: لغوي، شاعر، أديب. دخل قرطبة في أيام عبد الرحمن الناصر واستوطنها. توفي سنة 356 هـ/967م. "بغية الملتمس، الضبي: 216". 5- من المحتمل أن يكون المؤلف قد ذكر القالي عند الحديث عن ولاية عبد الرحمن الناصر، الذي كان أميرًا على الأندلس وقت وصول القالي إليها. 6- العذول: الكثير العذل، وقد عذله عَذْلًا وتعذالًا: لامه. الشجو: الحزن. العويل: حرارة الحزن والحب من غير نداء ولا بكاء، أو هو رفع الصوت بالبكاء والصياح. ص -29- أَقْصِرْ فما دين الهوى كفر ولا أعتدُّ لومك لي من التنزيلِ1 عجبًا لقوم لم تكن أذهانهمْ لهوًى ولا أجسادهم لنُحُولِ دقت معاني الحب عن أفهامهمْ فتأولوه أقبح التأويلِ2 في أي جارحةٍ أصون معذبي سلِمتْ من التعذيب والتنكيلِ3 إن قلت في عينى فثَمَّ مدامعي أو قلت في قلبي فثم غليلِي4 لكن جعلت له المسامعَ موضعًا وحجبتُها عن عَذْلِ كل عذولِ هذا ما بقي في حفظي منها. وكان أبو عمر هذا من مقدمي شعراء الحكم المستنصر، وكان مختصًّا بأبي الحسن المُصْحَفي5، منضويًا إليه؛ وهو الذي حمله على هجو محمد بن أبي عامر6، فلما أفضى الأمر إلى محمد قبض على المصحفي واستصفى أمواله ووضعه في المُطْبِق، فلم يزل به حتى مات جوعًا وهزالًا. وأما ما كان من أبي عمر الشاعر فإنه أوسعه عقوبة ونكالًا، وأمر بتغريبه7، فشفع له عنده في أن يتركه ببلده، فأذن في ذلك، غير أنه خرج الأمر من جهته ألا يكلمه أحد من العامة ولا من الخاصة؛ أمر مناديه أن ينادَى بذلك في جميع جهات قرطبة. فأقام أبو عمر هذا كالميت إلى أن مات موتة الوفاة في آخر أيام أبي عامر. وكان لحكم المستنصر مواصلًا لغزو الروم ومن خالفه من المحاربين، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة 366، فكانت مدة ولايته منذ بُويع له إلى أن مات ست عشرة سنة وأشهرًا؛ وانقرض عقبه بعد موت ابنه هشام المؤيد، لم يعش له ولد غيره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- أقصر: فعل من أقصر عن الشيء: كفَّ ونزع عنه. أعتد: أظن. التنزيل: ما نُزِّل على الأنبياء والرسل من كلام الله سبحانه وتعالى. 2- تأوَّل الكلام وأوَّله: فسره ورده إلى الغاية المرجوة منه. 3- أصون: أحفظ. التنكيل: من نكَّل به: عاقبه بما يردعه ويروع غيره عن إتيان مثل صنيعه. 4- الغليل: شدة العطش وحرارته، أو الغيظ. 5- هو أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي: حاجب الحكم المستنصر. غلبه المنصور بن أبي عامر على مكانته بعد وفاة الحكم، ثم نكبه، كما تقدم أعلاه. 6- هو أبو عامر، محمد بن عبد الله بن عامر بن محمد أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري القحطاني، المعروف بالمنصور بن أبي عامر: أمير الأندلس في دولة المؤيد الأموي، وأحد الشجعان الدهاة. توفي سنة 392هـ/ 1002م. "بغية الملتمس: الضبي: 105". 7- التغريب: النفي عن البلاد. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -30- ولاية هشام المُؤيَّد ابن الحَكَم المستنصر* وتغلب المنصور بن أبي عامر ثم ولي بعده ابنه هشام بن الحكم، يكنى أبا الوليد، أمه أم ولد اسمها: صبح، وسنه إذ ولي عشرة أعوام وأشهر، فلم يزل متغيبًا ولا يظهر ولا ينفذ له أمر. وكان الذي تغلب على أمره أولًا وتولى حجابته وتنفيذ أموره وتدبير مملكته، أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن عامر المعافري القحطاني. وكان أصل ابن أبي عامر هذا من المدينة المعروفة بـ الجزيرة الخضراء، من قرية من أعمالها تسمى طُرّش، على نهر يسمى وادى آرُوا، إلا أنه كان شريف البيت قديم التعين، ورد شابًّا إلى قرطبة، فطلب العلم والأدب وسمع الحديث وتميز في ذلك؛ وكانت له همة يحدث بها نفسه بإدراك معالي الأمور، وتزيد في ذلك حتى كان يحدث من يختص به بما يقع له من ذلك؛ وله في ذلك أخبار عجيبة، قد أورد منها الشيخ الفقيه المحدث الضابط المتقن أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي1 طرفًا في كتابه المترجم بوالأماني الصادقة، فمن جملتها قال الحميدي: حدثني أبو محمد علي بن أحمد بن حزم2 قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إسحاق التميمي قال: كان محمد بن أبي عامر نازلًا عندي في حجرة فوق بيتي، فدخلت عليه في بعض الليالي في آخر الليل، فوجدته قاعدًا على الحال التي تركته عليها أول الليل حين فصلتُ عنه، فقلت له: ما أراك نمت الليلة! قال: لا، قلت: فما أسهرك؟ قال: فكرة عجيبة! قلت: فيماذا كنت تفكر؟ قال: فكرت إذا أفضى إليَّ الأمر ومات محمد بن بشير القاضي، بمن أستبدله؟ ومن الذي يقوم مقامه؟ فجُلْتُ الأندلس كلها بخاطري فلم أجد إلا رجلًا واحدًا.. قلتُ: لعله محمد بن السَّلِيم3؛ قال: هو والله هو؛ لشد ما اتفق خاطري وخاطرك! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في بغية الملتمس: 21؛ جذوة المقتبس: 17؛ الأعلام: 85/8. 1- هو أبو عبد الله، محمد بن فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي الميورقي الحميدي: مؤرخ، محدث، من أهل الأندلس. توفي سنة 488هـ/1095م. من آثاره: "جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس". " الصلة، ابن بشكوال: 438". 2- هو أبو محمد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: فقيه، أديب، شاعر، مؤرخ، إخباري، من أهل الأندلس. توفي سنة 456هـ/1064م. "الصلة، ابن بشكوال: 333". 3- هو أبو بكر، محمد بن إسحاق بن السليم: قاضي الجماعة بقرطبة. كان من العدول المرضيين، والفقهاء المشهورين. توفي سنة 367هـ/ 978م. "بغية الملتمس، الضبي: 59". ص -31- قال الحميدي: وأخبرني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد قال: كان ابن أبي عامر يومًا جالسًا مع ثلاثة من أصحابه من طلبة العلم، فقال لهم: ليختر كل واحد منكم خطة أوليه إياها إذا أفضى إلي الأمر! فقال أحدهم: توليني قضاء كورة رَيَّة، وهي مالقة وأعمالها؛ فإنه يعجبني هذا التين الذي يجئ منها! وقال الآخر: توليني حسبة السوق؛ فإني أحب هذا الإسفنج! وقال الثالث: إذا أفضى إليك الأمر فأْمر أن يطاف بي قرطبة كلها على حمار ووجهى إلى الذَّنَب وأنا مطلي بالعسل ليجتمع علي الذباب والنحل! وافترقوا على هذا؛ فلما أفضى الأمر إليه كما تمنى بلغ كل واحد منهم أمنيته على نحو ما طلب! ولم تزل حاله تعلو منذ ورد قرطبة إلى أن تعلق بوكالة السيدة: صُبح أم هشام المؤيد ابن الحكم والنظر في أموالها وضياعها، فزاد أمره في الترقي معها إلى أن مات الحكم المستنصر؛ وكان هشام صغيرًا كما ذكرنا، وخِيف الاضطراب، فضمن لصبح سكون الحال وزوال الخوف واستقرار الملك لابنها. وكان قوي النفس، وساعدته المقادير، وأمدته المرأة بالأموال؛ فاستمال العساكر إليه، وجرت أحوال علت قدمه فيها، حتى صار صاحب التدبير والمتغلب على الأمور؛ وحجب هشامًا المؤيد، وتلقب هو بالمنصور، فأقام الهيبة، فدانت له أقطار الأندلس كلها وأمنت به، ولم يضطرب عليه شيء منها أيام حياته؛ لعظم هيبته وفرط سياسته. واستوزر جماعة منهم الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان الملقب بالمصحفي، ومنهم الوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري1، ومنهم الوزير أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي2 الذي اختصر كتاب العين3 -وقد تقدم ذكره- وكان قد ولاه شرطته، وكان الزبيدي هذا من بطانة الحكم المستنصر ووجوه أصحابه. واستوزر أبا العلاء صاعد بن الحسن الرَّبَعي4 اللغوي البغدادي، وله معه أخبار مستطرفة، ولعلي سأورد طرفًا منها فيما بعد -إن شاء الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو مروان، عبد الملك بن إدريس الجزيري: وزير، كاتب، أديب، شاعر. توفي قبل سنة 100هـ. "بغية الملتمس، الضبي: 375". 2- هو أبو بكر، محمد بن الحسن الزبيدي: من أئمة اللغة العربية، شاعر، أديب. توفي سنة 379هـ/989م. "بغية الملتمس، الضبي: 66". 3- كتاب العين: هو كتاب عظيم الأثر في اللغة. وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170 هـ/786م. 4- هو أبو العلاء، صاعد بن الحسن بن عيسى الربعي البغدادي: عالم بالأدب واللغة والشعر والموسيقى والغناء. توفي سنة 417هـ/1036م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 263". ص -32- وكان محبًّا للعلوم مؤثرًا للأدب مفرطًا في إكرام من ينسب إلى شيء من ذلك ويفد عليه متوسلًا به، بحسب حظه منه وطلبه له ومشاركته فيه. ورد عليه الأندلس في أيام إمارته أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي المذكور آنفًا، فعظمت منزلته عنده ونال منه أموالًا جمة. وكان وروده عليه سنة 380؛ أظن أصله من بلاد الموصل، دخل بغداد فقرأ بها، وكان عالمًا باللغة والآداب والأخبار، سريع الجواب، حسن الشعر، طيب المعاشرة، فكه المجالسة ممتعًا؛ فأكرمه المنصور وأفرط في الإحسان إليه والإفضال عليه؛ وكان مع ذلك محسنًا لظريف السؤال، حاذقًا في استخراج الأموال، طَبًّا1 بلطائف الشكر. أخبرني بعض مشايخ الأندلس بإسناد له، أن أبا العلاء دخل على المنصور أبي عامر يومًا في مجلس أنسه، وقد كان تقدم له أن اتخذ قميصًا من رقاع الخرائط التي كانت تصل إليه فيها الأموال منه، فلبسه تحت ثيابه؛ فلما خلا المجلس ووجد فرصة لما أراد، تجرد وبقي في القميص المتخذ من الخرائط، فقال له: ما هذا يا أبا العلاء؟ فقال: هذه الخرائط التي وصلت إليَّ فيها صلات مولانا أتخذها شعارًا! وبكى، وأتبع ذلك من الشكر فصلًا كان رواه، فأعجب ذلك المنصور، وقال له: لك عندي مزيد! وكان كما قال. وألف له أبو العلاء هذا كتبًا، فمنها كتاب سماه: كتاب الفصوص، على نحو: كتاب النوادر لأبي علي القالي. واتفق لهذا الكتاب من عجائب الاتفاق أن أبا العلاء دفعه حين كمل لغلام له يحمله بين يديه وعبر النهر، نهر قرطبة؛ فخانت الغلام رجله فسقط في النهر هو والكتاب؛ فقال في ذلك بعض الشعراء -وهو أبو عبد الله محمد بن يحيى المعروف بابن العَرِيف- بيتًا مطبوعًا بحضرة المنصور، وهو: من السريع قد غاص في البحر كتاب الفُصُوصْ وهكذا كل ثقيل يغوصْ!2 فضحك المنصور والحاضرون، فلم يَرُعْ ذلك صاعدًا ولا هاله3، وقال مرتجلًا مجيبًا لابن العريف: من السريع عاد إلى مَعْدِنه إنما توجد في قعر البحار الفصوص!4 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الطب: الحاذق، الماهر، الخبير. 2- الفصوص: جمع الفص: ما يركب في الخاتم من الحجارة الكريمة وغيرها. 3- هال الأمر فلانًا: أفزعه. 4- المعدن: مكان كل شيء فيه أصله ومركزه. ص -33- وكتاب آخر على نحو كتاب الخزرجي أبي السري سهل بن أبي غالب، سماه: كتاب الهجفجف بن غيدقان بن يثربي مع الخنوت بنت مخرمة بن أنيف، وكتاب آخر في معناه سماه: كتاب الجوَّاس بن قَعْطَل المَذْحِجي مع ابنة عمه عفراء، وهو كتاب مليح جدًّا، انخرم أيام الفتن بالأندلس، فنقصت منه أوراق لم توجد بعد. وكان المنصور كثير الشغف بهذا الكتاب، أعني الجواس، حتى رتب له من يخرجه أمامه كل ليلة. ويقال: إن أبا العلاء لم يحضر بعد موت المنصور مجلس أنس لأحد ممن ولي الأمور بعده من ولده، وادعى وجعًا لحقه في ساقه لم يزل يتوكأ منه على عصًا ويعتذر به في التخلف عن الحضور والخدمة إلى أن ذهبت دولتهم؛ وفي ذلك يقول في قصيدته المشهورة في المظفَّر أبي مروان عبد الملك بن المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر، وهو الذي ولي بعد أبيه، وأولها: من الوافر إليك حَدَوْتُ ناجية الركابِ محملة أمانيَ كالهضابِ1 وبعت ملوك أهل الشرق طُرًّا بواحدها وسيدها اللُّبابِ2 وفيها يقول: إلى الله الشَّكية من شكاةٍ رمت ساقي فجل بها مُصابِي3 وأقصتني عن الملك المُرجَّى وكنت أَرِمُّ حالي باقترابِي4 ومما استُحسن له قوله: حسَبتُ المنعمين على البرايا فألفيت اسمه صدر الحسابِ5 وما قدمته إلا كأني أقدم تاليًا أم الكتابِ6 قال أبو عبد الله الحميدي: أخبرني أبو محمد علي ابن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم، أنه سمع أبا العلاء ينشد هذه القصيدة بين يدي المظفر في عيد الفطر سنة 396 - قال أبو محمد: وهو أول يوم وصلت فيه إلى حضرة المظفر- ولما رآني أبو العلاء أستحسنها وأصغي إليها كتبها لي بخطه وأنفذها إلي. انتهى كلام الحُميدي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- حدا الناقة: ساقها. الناجية: الناقة السريعة. 2- طُرًّا: أي جميعًا، وهو منصوب على المصدر، أو الحال. اللباب: خالص كل شيء، يقال: فلان لُباب قومه. ومنه: حَسَب لباب: محض، وعيش لباب: رخيّ. 3- الشكية: ما يُشتكى منه. الشكاة: الشكوى: التوجع من ألم ونحوه. 4- أقصتني: أبعدتني. رم الشيء رمًّا: أصلحه. 5- البرايا: الخلائق. 6- أم الكتاب: أي سورة الفاتحة "من القرآن الكريم". ص -34- وكان أبو العلاء كثيرًا ما تُستغرب له الألفاظ، ويُسأل عنها فيجيب بأسرع جواب، على نحو ما يحكى عن أبي عمر الزاهد المطرز غلام ثعلب1، ولولا أن أبا العلاء كان كثير المَزْح لحُمل على التصديق في كل ما يأتي به من ذلك، وقد ظهر صدقه في بعض ما قال؛ فمما يحكى عنه من هذا المعنى أنه دخل على المنصور يومًا وفي يد المنصور كتاب ورد عليه من عامل له في بعض البلاد اسمه ميدمان بن يزيد، يذكر فيه القلب والتزبيل2، وهذه عندهم أسماء لمعاناة الأرض قبل الزرع، فقال له: أبا العلاء! قال: لبيك مولانا! قال: هل رأيت فيما وقع إليك من الكتب كتاب القوالب والزوابل لميدمان بن يزيد؟ قال: إي والله يا مولانا؛ رأيته ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دُرَيد3 بخط كأكرع النمل في جوانبها علامات الوضاع هكذا هكذا... فقال له: أما تستحي أبا العلاء؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا وكذا, واسمه كذا, يذكر فيه كذا -الذي تقدم ذكره-، وإنما صنعت لك هذه الترجمة مولدة من هذه الألفاظ التي في هذا الكتاب، ونسبتُه إلى عاملي لأختبرك! فجعل يحلف له أنه ما كذب وأنه أمر وافق. وقال له المنصور مرة أخرى وقد قُدم طبق فيه تمر: يا أبا العلاء، ما التَّمَرْكُل في كلام العرب؟ قال: يقال: تمركل الرجل تمركلًا: إذا التف في كسائه!. وله من هذا كثير، ولكنه مع هذا كان عالمًًا. قال أبو عبد الله الحميدي: حدثني أبو محمد علي بن أحمد قال: حدثني الوزير أبو عبدة حسان بن مالك بن أبي عبدة4، عن أبي عبد الله العاصمي النحوي قال: لما قدم صاعد بن الحسن اللغوي على المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر، جمعنا معه، فسألناه عن مسائل من النحو غامضة فقصَّر فيها، فلما رآه ابن أبي عامر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم، أبو عمر الزاهد المطرّز الباوَرْدي، المعروف بغلام ثعلب: إمام في اللغة، مصنف، كان يعمل بتطريز الثياب، وأكثر من مصاحبته لثعلب النحوي، فعُرف بـ" غلام ثعلب". توفي سنة 345هـ/957م. "شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي: 297/3". 2- زَبَل الأرض: سمَّدها بالزِّبْل، وهو السرجين وما أشبهه. 3- هو أبو بكر، محمد بن الحسن بن دريد الأزدي القحطاني: من أئمة اللغة والأدب. ولد في البصرة, وتوفي سنة 321هـ/933م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 195/2". 4- من أئمة اللغة والأدب، ومن أهل بيت جلالة ووزارة. روى عن القاضي أبي العباس أحمد بن ذكوان، وحدث عنه أبو محمد علي بن حزم. توفي قبل سنة 420هـ. "بغية الملتمس، الضبي: 270". ص -35- كذلك قال: دعوه، هو من طبقتي في النحو، أنا أناظره. قال: ثم سألنا صاعد فقال: ما معنى قول امرئ القيس1: من الطويل كأن دماء الهاديات بنحرهِ عصارة حِنَّاءٍ بشيب مُرجَّلِ2 ..؟ فقلنا: هذا واضح، وإنما وصف فرسًا أشهب عُقرت عليه الوحش فتطاير دمها على صدره فجاء هكذا. فقال صاعد: سبحان الله! أنسيتم قوله قبل هذا3: كُمَيْتٌ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حال مَتْنِهِ كما زلَّتِ الصفواءُ بالمُتنزّلِ4؟ قال: فبُهتنا5 كأنا لم نقرأ هذا البيت قط، واضطُررنا إلى سؤاله عنه، فقال: إنما عنى أحد وجهين: إما أنه تغشى صدره بالعرق، وعرق الخيل أبيض، فجاء مع الدم كالشيب؛ وإما شيء كانت العرب تصنعه، وهو أنها كانت تَسِمُ6 باللبن الحار في صدور الخيل فيتمعَّط ذلك الشَّعر وينبت مكانه شعر أبيض؛ فأيما عنى من أحد هذين الوجهين فالوصف مستقيم. قال أبو عبد الله: وحدثنا أبو محمد علي بن أحمد قال: حدثني أبو الخيار مسعود بن سليمان بن مُفلت7 الفقيه، أن أبا العلاء صاعدًا سأل جماعة من أهل الأدب في مجلس المنصور أبي عامر عن قول الشَّمَّاخ بن ضِرار8: من البسيط دار الفتاة التي كنا نقول لها: يا ظبيةً عُطُلاً حُسَّانةَ الجِيدِ9 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي: أمير الشعراء في الجاهلية. توفي نحو سنة 80 ق.هـ/ نحو 545م. "الشعر والشعراء، ابن قتيبة: 50/1". 2- ديوان امرئ القيس: 35. الهاديات: المتقدمات الأوائل، وسمي المتقدم هاديًا؛ لأن هادي القوم يتقدمهم. عصارة الشيء: ما خرج منه عند عصره. المرجل: المُسرَّح. 3 ديوان امرئ القيس: 32. 4- الكميت من الخيل: ما كان لونه بين الأسود والأحمر، وهو تصغير أكمت، والجمع: كُمْت. اللبد: كل شعر أو صوف متلبد، وقيل: ما يوضع تحت السرْج. الصفواء والصفوان والصفا: الحجر الصلب. المتنزل: المطر، وقيل: الطائر، وقيل: الإنسان. 5- بُهتنا: يقال: بُهت الرجل: دُهش مأخوذًا بالحجة. 6- وسم الشيء: كواه فأثَّر فيه بعلامة. 7- هو فقيه، عالم, زاهد، يميل إلى الاختيار، والقول بالظاهر. "بغية الملتمس، الضبي: 467". 8- هو معقل بن ضرار بن حرملة بن سنان المازني الذبياني الغطفاني: شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وتوفي سنة 22هـ/ 643م. "طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي: 132/1". 9- العطل: المرأة ليس عليها حلي. الحسانة: الشديدة الحسن. ص -36- تُدني الحمامةُ منها, وهي لاهيةٌ من يانع المُرْد قِنْوان العناقيدِ1 فقالوا: هي الحمامة، تنزل على غصن الأراكة أو الكَرْمة فتنفضه فتتمكن الظبية منه فترعاه. فأنكر ذلك عليهم صاعد وقال: إن الحمامة في هذا البيت هي المرآة، وهي اسم من أسمائها؛ فأراد أن هذه الجارية المشبهة بالظبية إذا نظرت في المرآة أدنت المرآة منها في المنظر شعرها الذي هو كقنوان العناقيد من يانع الكرْم أو المُرْد، فرأته. ومن عجائب الدنيا التي لا يكاد يتفق مثلها، أن صاعد بن الحسن اللغوي هذا أهدى إلى المنصور أبي عامر أُيَّلًا2, وكتب معه بهذه الأبيات: من الكامل يا حِرْزَ كل مُخوَّف، وأمان كـ ـل مشرد، ومعز كل مذللِ3 جدواك إن تخصُصْ به فلأهله وتعم بالإحسان كل مؤمِّلِ4 كالغيث طَبَّق فاستوى في وَبْله شُعثُ البلاد مع المراد المقبلِ5 الله عونك ما أبرك بالهدى وأشد وقعَك بالضلال المشعلِ ما إن رأت عيني، وعلمك شاهد، شَرْوَى علائك في معم مُخْوِلِ6 أندى بمُقْرَبة كسِرحان الغَضا رَكْضًا، وأوغل في مُثار القَصْطَلِ7 مولاي، مؤنس غربتي، متخطفي من ظُفْر أيامي، مُمَنِّع مَعْقِلي8 عبدٌ نشلتَ بضَبْعه وغَرسْتَهُ في نعمة أهدى إليك بأيَّلِ9 سميته غرسِيَّة وبعثتُه في حبله ليتاح فيه تفاؤلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- اليانع: الذي أدرك من الثمار وطاب أو حان قطافه. القنوان: جمع القِنْو: العذق بما فيه من الرطب. 2- الأُيَّل: الوَعِل: تيس الجبل. 3- الحرز: المكان المنيع يُلجأ إليه. 4- الجدوى: العطية. تعم: تشمل. 5- طبق الغيث وجه الأرض: غشاه وعمه. الوبل: المطر الشديد. الشعث: يقال: شعث الشعر شعوثة: تغبَّر وتلبَّد، وشعث الأمر: انتشر وتفرق. 6- شروى الشيء: مثله، ويقال: هو لا يملك شروى نقير: مُعدِم. معم: ذو أعمام. مخوِل: ذو أخوال. 7- المقربة: الفرس أو الناقة القريبة المعدة للركوب. أوغل في البلاد وغيرها: ذهب وبالغ وأبعد. القصطل: الغبار. 8- تخطفه: جذبه وأخذه بسرعة. المعقل: الحصن أو الملجأ. 9- نشل الشيء وانتشله: أسرع نَزْعَه. الضبع: ما بين الإبط إلى نصف العَضُد من أعلاها. ص -37- فلئم قبلتَ فتلك أسنى نعمةٍ أسدى بها ذو منحة وتطوُّلِ1 صحبَتْك غادية السرور وجللتْ أرجاء رَبْعك بالسحاب المُخْضِلِ فقضى الله في سابق علمه أن غَرْسِيةَ بن شانجُه من ملوك الروم -وكان أمنع من النجم- أُسر في ذلك اليوم بعينه الذي بعث فيه صاعد بالأيل وسماه غرسية متفائلًا بأسره. وهكذا فليكن الجد للصاحب والمصحوب. وكان أسر غرسية هذا في ربيع الآخر سنة 385. خرج أبو العلاء صاعد هذا من الأندلس أيام الفتن، وقصد صِقِلِّية فمات بها في قريب من سنة 410 -فيما بلغني- عن سن عالية. ولم يزل المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر طول أيام مملكته مواصلاً لغزو الروم، مفرطًا في ذلك لا يشغله عنه شيء. وكان له مجلس في كل أسبوع يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته ما كان مقيمًا بقرطبة. وبلغ من إفراط حبه للغزو أنه ربما خرج للمصلَّى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولًا فأولاً، فلا يصل إلى أوائل بلاد الروم إلا وقد لحقه كل من أراده من العساكر. غزا في أيام مملكته نيفًا وخمسين غزوة, ذكرها أبو مروان بن حيان كلها في كتابه الذي سماه بـ المآثر العامرية، واستقصاها كلها بأوقاتها وذكر آثاره فيها. وفتح فتوحًا كثيرة، ووصل إلى معاقل قد كانت امتنعت على من كان قبله، وملأ الأندلس غنائم وسَبْيًا من بنات الروم وأولادهم ونسائهم. وفي أيامه تغالى الناس بالأندلس فيما يجهزون به بناتهم من الثياب والحلي والدور؛ وذلك لرخص أثمان بنات الروم، فكان الناس يرغبون في بناتهم بما يجهزونهن به مما ذكرنا، ولولا ذلك لم يتزوج أحد حرة. بلغني أنه نُودي على ابنة عظيم من عظماء الروم بقرطبة -وكانت ذات جمال رائع- فلم تساو أكثر من عشرين دينارًا عامرية. وكان في أكثر زمانه لا يُخل بأن يغزو غزوتين في السنة. وكان كلما انصرف من قتال العدو إلى سُرَادقه يأمر بأن ينفض غبار ثيابه التي حضر فيها معمعة2 القتال، وأن يُجمع ويُتحفظ به، فلما حضرته المنية أمر بما اجتمع من ذلك أن ينثر على كفنه إذا وضع في قبره. وكانت وفاته بأقصى ثغور المسلمين، بموضع يعرف بمدينة سالم، مبطونًا؛ فصحت له الشهادة، وتاريخ وفاته سنة 393. فكانت مدة إمارته نحوًا من سبع وعشرين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- أسدى إليه معروفًا وغيره: أعطى وأوْلى. المنحة: العَطِيَّة. تطوَّل عليه: تفضَّل. 2- المعمعة: صوت الشجعان في الحرب. ص -38- سنة، وكان معافري النسب، وأمه تميمية اسمها فريهة بنت يحيى بن زكريا التميمي، كان يعرف بابن بَرْطَل؛ ولذلك قال فيه أبو عمر أحمد بن محمد بن درَّاج الشاعر المعروف بالقسطلي1 من قصيدة له: من الطويل تلاقت عليه من تَميم ويَعْرُبٍ شموس تلألأ في العلا وبدورُ من الحميريين الذين أكفُّهم سحائب تَهْمِي بالنَّدَى وبحورُ2 وأبو عمر هذا من فحول شعراء الأندلس والمجيدين منهم، ذكره أبو منصور الثعالبي3 في: كتاب اليتيمة وقال فيه: القسطلي عندهم كأبي الطيب4 بصقع الشام. هذا قول أبي منصور أو معناه. وكنت أنا في أيام شبيبتي مولعًا بشعره كثير الدراسة له، فلم يبق اليوم على خاطري منه شيء أصلًا، خَلا بيتين هما مما ارتجل في بعض مجالسه، وهما: من الكامل أجدِ الكلام إذا نطقتَ فإنما عقل الفتى في لفظه المسموعِ5 كالمرء يختبر الإناء بصوتهِ فيرى الصحيح به من المصدوعِ6 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو عمر، أحمد بن محمد بن العاصي بن دراج القسطلي الأندلسي: شاعر، كاتب، من أهل "قسطلة دراج". توفي سنة 421هـ/1030م. "شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي: 271/3". 2- هَمَتِ السحابة: صبت ماءَها. 3- هو أبو منصور، عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري: من أئمة اللغة والأدب في العصر العباسي. توفي سنة 429هـ/1038م. "الأعلام، الزركلي: 213/4". 4- أبو الطيب: هو أحمد بن الحسين الجعفي الكندي، المعروف بالمتنبي، المتوفى سنة 354هـ/965م. 5- أجاد الرجل: أتي بالجيد من قول أو عمل. 6- المصدوع: المشقوق. المعجب في تلخيص أخبار المغرب وزارة المظفر بن أبي عامر* ثم تقلد الوزارة والحجابة بعد ابن أبي عامر هذا، ابنه أبو مروان عبد الملك بن أبي عامر، وتلقب بـ المظفر، فجرى في الغزو والسياسة عن هشام المؤيد على سَنَن7 أبيه، وكانت أيامه أعيادًا في الخصب والأمان، دامت سبع سنين، إلى أن مات8 وثارت الفتن بعده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في: بغية الملتمس: 373. 7- السنن: الطريقة والمثال، ومن الطريق: نهجه وجهته. 8- في بغية الملتمس: توفي في صفر سنة 399هـ/1009م. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -39- وزارة الناصر بن أبي عامر* ثم تقلد ما كان يتقلده من بعده، أخوه عبد الرحمن، وتلقب بـ الناصر، فخلط وتسمى ولي العهد. ولم يزل مضطرب الأمور مدة أربعة أشهر، إلى أن قام عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، لثماني عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 399، فخلع هشامًا المؤيد، وأسلمت الجيوش عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر، فقُتل وصُلب. وكان محمد بن هشام بن عبد الجبار -المتقدم ذكره- لما قام تلقب بـ المهدي، وبقي الأمر كذلك إلى أن قتل محمد بن هشام بن عبد الجبار، ورد هشام المؤيد إلى الأمر؛ وذلك يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة 400؛ وبقي كذلك وجيوش البربر تحاصره مع سليمان بن الحكم بن سليمان، واتصل ذلك إلى خمس خلون من شوال سنة 403؛ فدخل البربر مع سليمان قرطبة، وأخلوها من أهلها، حاشا المدينة وبعض الرَّبَض الشرقي، وقتل هشام المؤيد بن الحكم المستنصر؛ وكان -كما ذكرنا- في طول دولته متغلَّبًا عليه لا ينفذ له أمر؛ وغلب عليه في هذا الحصار -أعني حصار البربر- واحد من العبيد بعد محمد بن أبي عامر المنصور وولديه عبد الملك الظافر وعبد الرحمن الناصر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في: بغية الملتمس: 356. المعجب في تلخيص أخبار المغرب تفصيل ما سبق إجماله ولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار المهدي** ثم قام محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، على هشام بن الحكم في جمادى الآخرة -كما تقدم- فخلعه وتسمى بالمهدي، وكان يكنى أبا الوليد، أمه أم ولد اسمها: مُزْنة، وكان له ولد اسمه عبيد الله. وكان مولد المهدي في سنة 366، وقتل وله من العمر أربع وثلاثون سنة. ولم يزل واليًا إلى أن قام عليه -يوم الخميس لخمسٍ خلون من شوال سنة 399- هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر مع البربر، فحاربه بقية يومه والليلة الآتية وصبيحة اليوم الثاني؛ فقام عامة أهل قرطبة مع محمد المهدي؛ فانهزم البربر وأسر هشام بن سليمان، فأُتي به إلى المهدي فضَرب عنقه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ** ترجمته في: بغية الملتمس: 22؛ جذوة المقتبس: 18؛ الأعلام: 131/7. ص -40- بدء الفتنة واجتمع البربر عند ذلك فقدموا على أنفسهم سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وهو ابن أخي هشام القائم المذكور. فنهض بالبربر إلى الثغر، واستجاش النصارى وأتى بهم إلى باب قرطبة، فبرز إليه جماعة أهل قرطبة، فلم تكن إلا ساعة حتى قتل من أهل قرطبة نيف وعشرون ألف رجل، في جبل هنالك يعرف بجبل قنطش، وهي الوقعة المشهورة، ذهب فيها من الخيار والفقهاء وأئمة المساجد والمؤذنين خلق كثير. واستتر محمد بن هشام المهدي أيامًا، ثم لحق بطليطلة؛ وكانت الثغور كلها من طَرْطُوشة إلى الأشبونة باقية على طاعته ودعوته، واستجاش بالإفرنج وأتى بهم إلى قرطبة؛ فبرز إليه سليمان بن الحكم مع البربر، إلى موضع بقرب قرطبة على نحو بضعة عشر ميلاً يدعى دار البقر، فانهزم سليمان والبربر، واستولى المهدي على قرطبة؛ ثم خرج بعد أيام إلى قتال جمهور البربر، وكانوا قد عاثوا بالجزيرة، فالتقوا بموضع يعرف بوادي أره؛ فكانت الهزيمة على محمد بن هشام المهدي؛ وانصرف إلى قرطبة، فوثب عليه العبيد مع واضح الصقْلبي، فقتلوه وردوا هشامًا المؤيد -كما تقدم من قبل-. فكانت مدة ولاية المهدي منذ قام إلى أن قتل سبعة عشر شهرًا1، من جملتها الأشهر الستة التي كان فيها سليمان بقرطبة، وكان هو بالثغر؛ وانقرض عقبه فلا عقب له. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- في بغية الملتمس: "ستة عشر شهرًا". المعجب في تلخيص أخبار المغرب ولاية سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر* المتلقب بالمستعين بالله قام سليمان بن الحكم يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة 399، وتلقب بـ المستعين بالله، ثم دخل قرطبة -كما تقدم- في ربيع الآخر سنة 400، فتلقب حينئذ بـ الظافر بحول الله، مضافًا إلى المستعين بالله. ثم خرج عنها في شوال من السنة بعينها، فلم يزل يجول بعساكر البربر معه في بلاد الأندلس، يفسد وينهب ويُقفر المدائن والقرى بالسيف والغارة، لا يبقي البربر معه على صغير ولا كبير ولا امرأة، إلى أن دخل قرطبة في صدر شوال سنة 403. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في: بغية الملتمس: 24؛ الأعلام: 123/3. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -41- أولية بنى حَمُّود وكان من جملة جنده رجلان من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب، يسميان القاسم وعليًّا ابني حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضى الله عنهم-؛ فجعلهما قائدين على المغاربة، ثم ولى أحدهما سبتة وطنجة، وهو علي الأصغر منهما؛ وولى القاسم الجزيرة الخضراء، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزُّقاق، وسعة البحر هنالك اثنا عشر ميلًا، وقد ذكر فيما قبل. وافترق العبيد إذ دخل البربر مع سليمان قرطبة، فملكوا مدنًا عظيمة وتحصنوا فيها، فراسلهم علي بن حمود المذكور -وقد حدث له طمع في ولاية الأندلس- فكتب إليهم يذكر لهم أن هشام بن الحكم إذ كان محاصرًا بقرطبة كتب إليه يوليه عهده، فاستجابوا له وبايعوه، فزحف من سبتة إلى مالقة، وفيها عامر بن فَتُّوح الفائقي، مولى فائق مولى الحكم المستنصر؛ فاستجاب له وأدخله مالقة، فتملكها علي بن حمود وأخرج عنها عامر بن فتوح، ثم زحف بمن معه من البربر وجمهور العبيد إلى قرطبة، فخرج إليه محمد بن سليمان في عساكر البربر، فانهزم محمد بن سليمان، ودخل قرطبة علي بن حمود، وقتل سليمان بن الحكم صبرًا؛ ضرب عنقه بيده يوم الأحد لتسع بقين من المحرم سنة 407، وقتل أباه الحكم بن سليمان بن الناصر أيضًا في ذلك اليوم، وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة!. وكانت مدة ولاية سليمان -مند دخل قرطبة إلى أن قُتل- ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر وأيامًا، وكان قد ملكها قبل ذلك ستة أشهر على ما تقدم؛ وكانت مدته -منذ قام مع البربر إلى أن قتل- سبعة أعوام وثلاثة أشهر وأيامًا. وانقطعت دولة بنى أمية في هذا الوقت وذِكْرُهم على المنابر في جميع أقطار الأندلس، إلى أن عادت بعد ذلك في الوقت الذي نذكره إن شاء الله تعالى. وكانت أم سليمان هذا أم ولد اسمها: ظبية، ومولده سنة 354، ترك من الولد ولي عهده محمدًا، لم يعقب، والوليد، ومسلمة. وكان سليمان أديبًا شاعرًا؛ قال الحميدي: أنشدني أبو محمد علي بن أحمد قال: أنشدني فتًى من ولد إسماعيل بن إسحاق المنادي1 الشاعر كان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو شاعر قديم مشهور، ذكره أبو محمد علي بن أحمد، ومن شعره: وما الأخ بالصِّنْوِ الشقيق وإنما أخوك الذي يعطيك حبة قلبِهِ "بغية الملتمس، الضبي: 229". ص -42- يكتب لأبي جعفر أحمد بن سعيد بن الدبِّ، قال: أنشدني أبو جعفر قال: أنشدني أمير المؤمنين سليمان الظافر لنفسه، قال أبو محمد: وأنشدنيها قاسم بن محمد المرواني قال: أنشدنيها وليد بن محمد الكاتب لسليمان الظافر أمير المؤمنين: من الكامل عجبًا يهاب الليث حَدَّ سِناني وأهاب لَحْظَ فواتر الأجفانِ1 وأقارع الأهوال لا متهيبًا منها سوى الإعْراض والهِجْرانِ2 وتملكت نفسى ثلاث كالدًّمَى زُهْر الوجوه نواعم الأبدانِ3 ككواكب الظلماء لُحْن لناظر من فوق أغصان على كثبانِ4 هذي الهلال وتلك بنت المشترِي حُسْنًا، وهذي أخت غصن البانِ5 حاكمت فيهن السُّلو إلى الضَّنَى فقضى بسلطان على سلطانِي6 فأبحن من قلبي الحمى وثنينَنِي في عز ملكي كالأسير العانِي7 لا تعذلوا ملكًا تذلل للهوى ذل الهوى عز وملك ثانِ ما ضر أني عبدهن صبابةً وبنو الزمان وهن من عُبْدانِي8 إن لم أُطع فيهن سلطان الهوى كَلَفًا بهن فلست من مروانِ9 وإذا الكريم أحب أمَّن إِلْفَهُ خطْب القِلَى وحوادث السُّلوانِ10 وإذا تجارى في الهوى أهلُ الهوَى عاش الهوى في غِبْطَةٍ وأمانِ11 وإنما قصد المتسعين بهذه الأبيات معارضة الأبيات التي عملها العباس بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- يهاب: يخاف. الليث: الأسد. اللحظ: النظر. الفاتر: الناعس، المنكسر. 2- قارع الأهوال: جالدها، ضاربها. الإعراض: الصد. 3- الزهر: البيض، المشرقات، المتلألئات. 4- لاح الشيء لوحًا: ظهر. الكثبان: جمع الكثيب: الرمل المستطيل المحدودب. 5- المشتري: هو أكبر الكواكب السماوية السيارة. البان: ضرب من الشجر سَبْط القوام، لين، ورقه كورق الصفصاف، تشبه به الحسان في الطول واللين. 6- الضنى: المرض، أو الهزال الشديد. 7- أباح الشيء واستباحه: عده مباحًا، أو أحله وأظهره. العاني: الذليل. 8- العبدان: جمع العبد: الرقيق. 9- الكَلَف: الوَلَع، أو شدة التعلق بالشيء. 10- القلى: البغض. السلوان: النسيان مع طيب نفس. 11- جارى فلان فلانًا مجاراة وجراء: جرى معه: وافقه. ص -43- الأحنف1 على لسان هارون الرشيد2، فنُسبت إليه، وهي: من الكامل ملك الثلاث الآنسات عِنانى وحللْنَ من قلبي بكل مكانِ ما لي تُطَاوِعُنِي البرية كلها وأطيعهن وهن في عِصْيَانِي ما ذاك إلا أن سُلْطَانَ الهوى وبه قَوِينَ أعز من سلطانِي وأبو محمد الذي يحدث عنه الحميدي: هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صلح بن خلف بن مَعْدان بن سفيان بن يزيد الفارسي3، مولى يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي4. قرئ علي نسبه هذا بخطه على ظهر كتاب من تصانيفه. وأصل آبائه الأدنين من قرية من إقليم لَبْلَة من غرب الأندلس. سكن هو وأبوه قرطبة، وكان أبوه من وزراء المنصور محمد بن أبي عامر، ووزراء ابنه المظفر بعده. وكان هو المدبر لدولتيهما، وكان ابنه أبو محمد الفقيه وزيرًا لعبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر الملقب بالمستظهر بالله، أخى المهدي المذكور آنفًا. ثم إنه نبذ الوزارة واطَّرحها اختيارًا، وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينل أحد قبله بالأندلس. وكان على مذهب الإمام أبي عبد الله الشافعي5 -رحمه الله-، أقام على ذلك زمانًا، ثم انتقل إلى القول بالظاهر، وأفرط في ذلك حتى أربى على أبي سليمان داود الظاهري6 وغيره من أهل الظاهر. له مصنفات كثيرة جليلة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو الفضل، العباس بن الأحنف بن الأسود بن قُدامة: شاعر مجيد مطبوع، من بني حنيفة. عرف برقة غزله، وحسن موافقته لطباع النساء. توفي سنة 192هـ/808م. "طبقات الشعراء، ابن المعتز العباسي: 254". 2- هو هارون بن محمد بن المنصور العباسي: خامس الخلفاء العباسيين وأشهرهم. توفي سنة 193هـ/809م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 5/14". 3- ترجمته في: الصلة: 333؛ شذرات الذهب: 299/3؛ الأعلام: 254/4؛ معجم المؤلفين: 16/7؛ وفيات الأعيان: 325/3؛ جذوة المقتبس: 390؛ بغية الملتمس: 415؛ معجم الأدباء: 479/4؛ البداية والنهاية: 98/12؛ كشف الظنون: 21, 118, 466؛ النجوم الزاهرة: 75/5؛ إيضاح المكنون: 319/1، 356. 4- هو يزيد بن صخر بن حرب الأموي، أبو خالد: أمير، صحابي، من أشهر رجالات بني أمية شجاعة وحزمًا. توفي سنة 18هـ/ 639م. "الأعلام، الزركلي: 184/8". 5- هو أبو عبد الله، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي: أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة بفلسطين، وتوفي سنة 204هـ/ 820م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 56/2". 6- هو أبو سليمان، داود بن علي بن خلف الأصبهاني، الملقب بالظاهري: أحد الأئمة المجتهدين= ص -44- القدر, شريفة المقصد في أصول الفقه وفروعه، على مَهْيَعِه1 الذي يسلكه، ومذهبه الذي يتقلده، وهو مذهب داود بن علي بن خلف الأصبهاني الظاهري ومن قال بقوله من أهل الظاهر ونُفاة القياس والتعليل. بلغني عن غير واحد من علماء الأندلس أن مبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المخالفين له -نحوٌ من أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري2، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفًا، فقد ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بالصلة، وهو الذي وصل به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير: أن قومًا من تلاميذ أبي جعفر لخصوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي في سنة 310 وهو ابن ست وثمانين سنة، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة. وهذا لا يتهيأ لمخلوق إلا بكريم عناية الباري تعالى وحسن تأييده له. ولأبي محمد بن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة، وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة؛ فمن شعره: من الطويل هل الدهر إلا ما عرَفْنا وأدركنا فجائعه تبقى ولذاته تفنَى3 إذا أمكنت فيه مَسَرَّة ساعةٍ تولت كمر الطَّرْف واستخلفت حزنَا إلى تَبِعات في المَعاد وموقف نود لديه أننا لم نكن كُنَّا4 حصلنا على هم وإثم وحسرة وفات الذي كنا نقر به عينَا5 حنينٌ لما ولى، وشغل بما أتى وعم لما يُرجى، فعيشك لا يهنَا كأن الذي كنا نُسَر بكونه إذا حققته النفس، لفظ بلا معنَى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = في الإسلام، تنسب إليه الطائفة الظاهرية، وسميت بذلك لأخذها بظاهر الكتاب والسنة، وإعراضها عن التأويل والقياس. توفي أبو سليمان سنة 270هـ/884م. "وفيات الأعيان، ابن خلكان: 255/2". 1- المهيع من الطرق: البين الواضح. 2- هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد الطبري: إمام، مفسر، ولد في طبرستان، واستوطن بغداد، وتوفي فيها سنة 310هـ/923م. من آثاره: "أخبار الرسل والملوك" المعروف بتاريخ الطبري. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 162/2". 3- الفجائع: جمع الفجيعة: المصيبة توجع الإنسان بفقد ما يعز عليه من مال أو حميم. 4- المعاد: يوم القيامة. 5- نقر به عينًا: نُسَر به ونرتاح. ص -45- وله من قصيدة طويلة: من الطويل أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغربُ ولو أنني من جانب الشرق طالع لجد على ما ضاع من ذكري النَّهْبُ ولي نحو أكناف العراق صبابةٌ ولا غَرْوَ أن يستوحش الكَلِفُ الصَّبُّ1 فإن يُنزل الرحمن رحلِيَ بينهم فحينئذ يبدو التأسف والكربُ فكم قائل: أغفلته وهو حاضر وأطلب ما عنه تجيء به الكُتْبُ! هنالك يدري أن للبعد قصة وأن كساد العلم آفته القربُ!2 فيا عجبًا من غاب عنهم تشوقوا له، ودنو المرء من دارهم ذنبُ وإن مكانًا ضاق عني لضيقٌ على أنه فُسْحٌ مهامهه سُهْبُ3 وإن رجالًا ضيعوني لَضُيَّعٌ وإن زمانًا لم أنل خصبه جدبُ ومنها في الاعتذار عن مدحه لنفسه: ولكن لي في يوسف خير أُسوةٍ وليس على من بالنبي ائتسى ذنبُ4 يقول -وقال الحق والصدق-: إنني حفيظ عليهم؛ ما على صادق عتبُ ومن المختار له قوله: من البسيط لا يشمتَنْ حاسدي إن نكبة عرضتْ فالدهر ليس على حال بمُتَّرَكِ ذو الفضل كالتِّبْر طَوْرًا تحت مِيقعَةٍ وتارةً في ذُرا تاج على ملكِ!5 ومن ذلك قوله: من الوافر لئن أصبحتُ مرتحلا بشخصي فرُوحي عندكم أبدًا مقيمُ ولكن للعِيان لطيف معنًى له سأل المعاينة الكليمُ6 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الأكناف: النواحي، والجوانب. الصبابة: رقة الشوق وحرارته. الكلف: المولع. الصب: العاشق المشتاق. 2- كسد الشيء كسادًا وكسودًا: لم يَرُجْ لقلة الرغبة فيه، وكسدت السوق: لم تنفق. 3- الفسح: الواسع. المهامه: جمع المَهْمَه: المفازة البعيدة، أو البلد المُقْفر. السُّهْب والسَّهْب: الفلاة. 4- يوسف: هو يوسف النبى -عليه السلام-. ائتسى به: اقتدى. 5- التبر: الذهب. الميقعة: الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، أو المطرقة. 6- عاين الشيء معاينة وعيانًا: رآه بعينه، ويقال: لقيته عيانًا: لم أشكَّ في رؤيتي إياه. الكليم: هو موسى النبى "عليه السلام". ص -46- ومن أجود ما أحفظ له بيتان قالهما في رجل نمام: من الطويل أنم من المرآة في كل ما درى وأقطع بين الناس من قُضُبِ الهندِ1 كأن المنايا والزمان تعلما تحيله في القطع بين ذوي الودِّ! وجد بخطه أنه ولد يوم الأربعاء بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس آخر يوم من شهر رمضان سنة 384، وتوفي -رحمه الله- في سِلخ شعبان من سنة 456. وإنما أوردت هذه النبذة من أخبار هذا الرجل وإن كانت قاطعة للنسق, مزيحة عن بعض الغرض؛ لأنه أشهر علماء الأندلس اليوم وأكثرهم ذكرًا في مجالس الرؤساء وعلى ألسنة العلماء, وذلك لمخالفته مذهب مالك بالمغرب واستبداده بعلم الظاهر، ولم يشتهر به قبله عندنا أحد ممن علمت. وقد كثر أهل مذهبه وأتباعه عندنا بالأندلس اليوم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- قضب الهند: السيوف القاطعة، المصنوعة في الهند. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ولاية ابن حمود الناصر* ثم ولي علي بن حمود على ما تقدم، وتسمى بالخلافة، وتلقب بـ الناصر، ثم خالف عليه العبيد الذين كانوا بايعوه، وقدموا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، ولقبوه بـ المرتضي، وزحفوا به إلى غَرْناطة، وهي من البلاد التي تغلب عليها البربر، ثم ندموا على تقديمه لما رأوا من صرامته وحدة نفسه، وخافوا من عواقب تمكنه وقدرته، فانهزموا عنه ودسوا عليه من قتله غِيلةً2، وخفي أمره. وبقي علي بن حمود بقرطبة مستمر الأمر عامين غير شهرين، إلى أن قتله صقالبة له في الحمام سنة 408، وكان له من الولد: يحيي، وإدريس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في: بغية الملتمس: 27؛ الأعلام: 283/4. 2- الغيلة: الاغتيال. وقتله غيلة: أي: على غفلة منه. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ولاية القاسم بن حمود المأمون ** ثم ولي بعده أخوه القاسم بن حمود، وكان أسن منه بعشرة أعوام، وكان وادعًا، أمن الناس معه، وكان يذكر عنه أنه تشيع؛ ولكنه لم يظهر ذلك ولا غيَّر على الناس عادة ولا مذهبًا، وكذلك سائر من ولي منهم بالأندلس. فبقي القاسم كذلك إلى شهر ربيع الأول سنة 412، فقام عليه ابن أخيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ** ترجمته في بغية الملتمس: 28؛ الأعلام: 175/5. ص -47- يحيى بن علي بن حمود، بمالقة، فهرب القاسم عن قرطبة بلا قتال وصار بإشبيلية، وزحف ابن أخيه المذكور من مالقة بالعساكر ودخل قرطبة بلا قتال، وتسمى بالخلافة، وتلقب بـ المعتلي؛ فبقي كذلك إلى أن اجتمع للقاسم أمره واستمال البربر وزحف بهم إلى قرطبة، فدخلها سنة 413، وهرب يحيى بن علي إلى مالقة، فبقي القاسم بقرطبة شهورًا واضطرب أمره. وغلب ابن أخيه يحيى على المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وهي كانت معقل القاسم، وبها كانت امرأته وذخائره؛ وغلب ابن أخيه الثاني إدريس بن علي صاحب سبتة على طنجة، وهي كانت عُدَّة القاسم، يلجأ إليها إن رأى ما يخافه بالأندلس. وقام عليه جماعة أهل قرطبة بالمدينة، وغلقوا أبوابها دونه، وحاصرهم نيفًا وخمسين يومًا، وأقام الجمعة في مسجد خارج قرطبة، يعرف بمسجد ابن أبي عثمان، أثره باقٍ إلى اليوم. ثم إن أهل قرطبة زحفوا إلى البربر، فانهزم البربر عن القاسم وخرجوا من الأرباض كلها في شعبان سنة 414، ولحقت كل طائفة من البربر ببلد غلبت عليه. وقصد القاسم إشبيلية، وبها كان ابناه محمد والحسن، فلما عرف أهل إشبيلية خروجه عن قرطبة ومجيئه إليهم، طردوا ابنيه ومن كان معهما من البربر، وضبطوا البلد، وقدموا على أنفسهم ثلاثة من أكابر البلد، أحدهم القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، ومحمد بن يريم الألهاني، ومحمد بن الحسن الزبيدي. ومكثوا كذلك أيامًا مشتركين في سياسة البلد وتدبيره، ثم استبد القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عبَّاد بالأمر والتدبير، وصار الآخران من جملة الناس. ولحق القاسم بشَرِيش، واجتمع البربر على تقديم ابن أخيه يحيى، فزحفوا إلى القاسم فحاصروه حتى صار في قبضة ابن أخيه، وانفرد ابن أخيه يحيى بولاية البربر. وبقي القاسم أسيرًا عنده وعند أخيه إدريس بعده إلى أن مات إدريس، فقُتل القاسم خنقًا سنة 431، وحمل إلى ابنه محمد بن القاسم بالجزيرة، فدفنه هناك. فكانت ولاية القاسم منذ تسمى بالخلافة بقرطبة إلى أن أسره ابن أخيه ستة, أعوام، ثم كان مقبوضًا عليه ست عشرة سنة عند ابني أخيه يحيى وإدريس، إلى أن قتل -كما ذكرنا- في أول سنة 431، ومات وله ثمانون سنة، وله من الولد محمد والحسن، أمهما أميرة بنت الحسن بن قَنُّون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -48- ولاية يحيى بن علي المعتلي* اختُلف في كنيته، فقيل: أبو القاسم، وقيل: أبو محمد؛ وأمه لَبُونةُ بنت محمد بن الحسن بن القاسم المعروف بقنون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وكان الحسن بن قنون من كبار ملوك الحسنيِّين وشجعانهم ومَرَدَتهم1 وطغاتهم المشهورين، فتسمى يحيى بالخلافة بقرطبة سنة 413 كما ذكرنا، ثم هرب عنها إلى مالقة سنة 414 كما وصفنا، ثم سعى قوم من المفسدين في رد دعوته إلى قرطبة في سنة 416، فتم لهم الأمل، إلا أنه تأخر عن دخولها باختياره، واستخلف عليها عبد الرحمن بن عطاف اليفرني، فبقي الأمر كذلك إلى سنة 417، ثم قطعت طاعته جماعة البربر، وصرفوا عاملهم، وبايعوا المعتلي الأموي أخا المرتضي. وبقي المعتلي هذا يردد لحصارهم العساكر، إلى أن اتفقت كلمة البربر على الاستسلام لأبي القاسم, وسلموا إليه الحصون والقلاع والمدن، وعظم أمره بقَرْمُونة، فصار محاصرًا لإشبيلية، طامعًا في أخذها، فخرج يومًا وهو سكران إلى خيل ظهرت من إشبيلية بقرب قرمونة، فلقيها وقد كمنوا له، فلم يكن بأسرع من أن قتلوه، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة 427؛ وكان له من الولد: الحسن، وإدريس لأمي ولد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في: بغية الملتمس: 30؛ الأعلام: 157/8. 1- المردة: جمع المارد: الطاغية. المعجب في تلخيص أخبار المغرب رد الأمر إلى بني أمية ولاية عبد الرحمن بن هشام المستظهر** ولما انهزم البربر عن قرطبة مع أبي القاسم كما ذكرنا، اتفق رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بنى أميه، فاختاروا منهم ثلاثة، وهم: عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، أخو المهدي المذكور آنفًا، وسليمان بن المرتضي المذكور آنفًا، ومحمد بن عبد الرحمن بن هشام بن سليمان القائم على المهدي بن الناصر. ثم استقر الأمر لعبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار، فبُويع بالخلافة لثلاث عشرة ليلة خلت لرمضان 414، وله اثنتان وعشرون سنة، وتلقب بـ المستظهر. وكان مولده سنة 392 في ذي القعدة، يكنى أبا المطرف، وأمه أم ولد اسمها: غاية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ** ترجمته في: جذوة المقتبس: 24؛ بغية الملتمس: 31؛ الأعلام: 341/3. ص -49- ثم قام عليه أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر، مع طائفة من أراذل العوام، فقتل عبد الرحمن بن هشام، وذلك لثلاث بقين من ذي القعدة سنة 414 المؤرخة، ولا عقب له. وكان في غاية الأدب والبلاغة والفهم ورقة النفس، كذا قال أبو محمد علي بن أحمد، وكان خبيرًا به لأنه وزر له. وقال الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد1: كان المستظهر شاعرًا ويستعمل الصناعة فيجيد، وهو القائل في ابنة عمه: من الطويل حمامة بيت العَبْشَميِّين رفرفت فطرتُ إليها من سَرَاتهم صقرَا2 تقل الثريا أن تكون لها يدًا ويرجو الصباح أن يكون لها نحرَا وإني لطعَّان إذا الخيل أقبلت جوانبها حتى تُرى جُونها شُقْرَا3 ومكرم ضيفي حين ينزل ساحتي وجاعل وَفْري عند سائله وفرَا4 وهي طويلة، قالها أيام خِطبته لابنة عمه أم الحكم بنت سليمان المستعين. قال أبو عامر: وكان متهمًا في أشعاره ورسائله، حتى كتب أبياتًا ليعلى بن أبي زيد حين وفد عليه ارتجالاً، فعجب أهل التمييز منه، وأما أنا فقد كنت بلوته. وكان ورود يعلى فجأة ولم يبرح من مجلسه حتى ارتجل الأبيات، وأنا والله أخاف أن يزل، فأجاد وزاد. هذا آخر كلام أبي عامر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- من كبار الأندلسيين أدبًا وعلمًا. ولد بقرطبة، وتوفي فيها سنة 426هـ/1035م. "وفيات الأعيان، ابن خلكان: 116/1". 2- العبشميون: بنو عبد شمس. 3- الجُون: جمع الجَوْن: الأسود أو الأبيض، وهو من الأضداد، وقيل: هو الأسود تخالطه حمرة. 4- الوفر: التام من كل شيء، أو الغنى واليسار. ص -50- ولم يكن كذلك إلى أن خُلع، وقُتل وزيره المذكور في داره؛ دخل عليه عوام أهل قرطبة نهارًا فتولوه بالحديد إلى أن بَرَد، وخلعوا المستكفي بالله وأخرجوه عن قرطبة، بعد أن أقام ثلاثة أيام مسجونًا لا يصل إليه طعام ولا شراب، ثم نفوه -كما ذكرنا- فلحق بالثغور، ورجع الأمر إلى يحيى بن علي الفاطمي. وانتهى المستكفي المذكور من الثغر إلى قرية تعرف بـ شمنت بالقرب من مدينة سالم، ومعه أحد قواده، وهو عبد الرحمن بن محمد بن السليم، ومن ولد سعيد بن المنذر القائد المشهور أيام عبد الرحمن الناصر؛ فكره هذا القائد التمادي معه، فاستدعى المستكفي غداءه، فعمد القائد إلى دجاجة فدهنها له بعصارة نبت يقال له: البيش1 -وهو كثير ببلاد الأندلس وخصوصًا بتلك الجهة- فلما أكلها المستكفي مات مكانه، فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه؛ فقبره هناك، ولا عقب له2. ثم أقام يحيى بن علي الفاطمي في الولاية نافذ الأمر، إلا أنه لم يدخل قرطبة، وإنما كان مقيمًا بقرمونة كما قد قدمنا، إلى أن قُتل في التاريخ الذي تقدم ذكره. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- البيش: نبت عصارته سم ناقع. 2- كان قتله سنة 415هـ، وقيل: سنة 416 هـ، والله أعلم. "بغية الملتمس:33". المعجب في تلخيص أخبار المغرب ولاية هشام المعتدّ بالله* ولما انقطعت دعوة يحيى بن علي الفاطمي عن قرطبة في التاريخ الذي ذكرنا، أجمع رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أمية، وكان عميدهم في ذلك والذي تولى معظمه وسعى في تمامه، الوزير أبو الحزم جَهْوَر بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن محمد بن الغَمْر بن يحيى بن عبد الغافر بن أبي عَبْدة3. وقد كان ذهب كل من ينافس في الرياسة ويخُب في الفتنة بقرطبة؛ فراسل جهور من كان معه على رأيه من أهل الثغور والمتغلبين هنالك على الأمور، وداخلهم في هذا الأمر، فاتفقوا بعد مدة طويلة على تقديم أبي بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وهو أخو المرتضي المذكور آنفًا. وكان هشام هذا مقيمًا بحصن يدعى البُنْت، من الثغور، عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم القائد المتغلب بها؛ فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة 418، تلقب بـ المعتد بالله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في: بغية الملتمس: 34؛ جذوة المقتبس: 126؛ الأعلام: 88/8. 3- من أعيان أهل الأندلس، كان موصوفًا بالفضل والدهاء والعقل. "بغية الملتمس: 260". ص -51- وكان مولده في سنة 364، وكان أسن من أخيه المرتضي بأربعة أعوام، وسنه يوم بويع له أربع وخمسون سنة، أمه أم ولد اسمها: عاتب. فبقي ينتقل في الثغور ثلاثة أعوام لا يستقر بموضع، ودارت هنالك فتن عظيمة بين الرؤساء المتغلبين واضطراب شديد، إلى أن اتفق أمرهم واجتمع رأيهم على أن يسير إلى قرطبة قصبة الملك. فسار إليها ودخلها في الثامن من ذي الحجة سنة 420، فلم يقم بها إلا يسيرًا حتى قامت عليه طائفة من الجند، فخلع، وجرت أمور يطول شرحها، من جملتها إخراج المعتد بالله هذا من قصره هو وحشمه، والنساء حاسرات عن أوجههن، حافية أقدامهن، إلى أن أُدخلوا الجامع الأعظم على هيئة السبايا، فأقاموا هنالك أيامًا يُتعطف عليهم بالطعام والشراب، إلى أن أُخرجوا عن قرطبة. ولحق هشام ومن معه بالثغور بعد اعتقالٍ بقرطبة، فلم يزل يجول في الثغور إلى أن لحق بابن هود المتغلب على مدينة لَارِدة وسَرَقُسْطة وأَفْرَاغة وطَرْطوشة وما والى تلك الجهات، فأقام عنده هشام إلى أن مات في سنة 427 ولا عقب له؛ فهشام هذا آخر ملوك بني أمية بالأندلس. نسبه: هو هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم. وبخلعه انقطعت الدعوة لبني أمية وذكرهم على المنابر بجميع أقطار الأندلس والعدوة إلى الآن. فهذا آخر ما انتهى إلينا من أخبار بني أمية بالأندلس على شرط التلخيص. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -52- ذكر أخبار الأندلس بعد انتقال الدعوة الأموية عنها، ومن ملكها من الملوك إلى وقتنا هذا، وهو سنة 621 مآل قرطبة بعد انتهاء الدولة الأموية ولما انقطعت دعوة بني أمية كما ذكرنا بالأندلس ولم يبق من عقبهم من يصلح للإمارة ولا من تليق به الرياسة، استولى على تدبير ملك قرطبة جهور بن محمد بن جهور، ويكني: أبا الحزم، وقد تقدم ذكر نسبه في ترجمة هشام المعتد. وأبو الحزم هذا قديم الرياسة شريف البيت، كان آباؤه وزراء الدولة الحَكَمية والعامرية، وهو موصوف بالدهاء وبُعد الغَوْر وحصافة العقل1 وحسن التدبير. ولم يدخل من دهائه في الفتن الكائنة قبل ذلك، كان يتصاون عنها ويظهر النزاهة والتدين والعفاف؛ فلما خلا له الجو، وأَصْفَر2 الفِناء، وأقفر النادي من الرؤساء، وأمكنته الفرصة، وثب عليها، فتولى أمرها، واضطلع بحمايتها. ولم ينتقل إلى رتبة الإمارة ظاهرًا، جريًا على ما قدمنا من إظهار سنن العفاف؛ بل دبرها تدبيرًا لم يُسبق إليه, وذلك أنه جعل نفسه ممسكًا للموضع إلى أن يجيء من يتفق الناس على إمارته فيسلم إليه ذلك. ورتب البوابين والحشم على تلك القصور على ما كانت عليه أيام الدولة. ولم يتحول عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك وهو المشرف عليهم. وصير أهل الأسواق جندًا له، وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم محصاةً عليهم يأخذون ربحها ورءوس الأموال باقية محفوظة، يؤخذون بها ويراعون في كل وقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم وأمرهم بتفرقته في الدكاكين والبيوت، حتى إذا دهمهم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه حيث كان من بيته أو دكانه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- حَصُفَ الشيء حصافة: جاد واستحكم، يقال: حصف فلان: استحكم عقله، وجاد رأيه. 2- أَصْفر الفناء وصَفِرَ: خلا. ص -53- وكان أبو الحزم هذا يشهد الجنائز ويعود المرضى، جاريًا على طريقة الصالحين، وهو مع ذلك يدبر الأمور تدبير الملوك المتغلبين. وكان آمنًا وادعًا، وقرطبة في أيامه حرمًا يأمن فيه كل خائف. واستمر أمره على ذلك إلى أن مات في غرة صفر سنة 435، فكانت مدة تدبيره منذ استولى إلى أن مات أربع عشرة سنة وأشهرًا. ثم ولي ما كان يتولى من أمر قرطبة بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور، فجرى في السياسة وحسن التدبير على سنن أبيه، غير مخل بشيء من ذلك، إلى أن مات أبو الوليد المذكور في سِلخ شوال من سنة 443. فغلب عليها بعد أمور جرت، الأمير الملقب بالمأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، فدبرها مدة يسيرة إلى أن مات. وخلف فيها بعده من البربر رجل يعرف بـ ابن عكاشة، أظن اسمه موسى؛ فكان بها إلى أن غلبه عليها وأخرجه منها الأمير الظافر بحول الله أبو القاسم محمد بن عباد على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فهذا آخر أخبار قرطبة وكونها دارًا للملك. وبعد غلبة المعتمد عليها صارت تبعًا لإشبيلية. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -54- فصل رجع الحديث إلى بني حمود ومطمع بني عباد في التغلب على قرطبة وأما أحوال الحسنيين، فإنه لما قتل يحيى بن علي -كما ذكرنا- لسبع خلون من المحرم سنة 427 -رجع أبو جعفر بن أحمد بن موسى المعروف بـ ابن بَقَنَّة، ونجا الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة الحسنيين، فأتيا مالقة، وهي دار مملكتهم، فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان بسبتة، وكان يملك معها طنجة، واستدعياه، فأتى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة؛ ولم يبايعا واحدًا من ابنيْ يحيى، وهما إدريس وحسن؛ لصغرهما. فأجابهما إلى ذلك، ونهض نجا مع حسن هذا إلى سبتة وطنجة، وكان حسن أصغر ابني يحيى ولكنه أسدهما رأيًا1. وتلقب إدريس بـ المتأيد، فبقي كذلك إلى سنة 30 أو31، فتحركت فتنة، وحدث للقاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد2 صاحب إشبيلية أمل في التغلب على تلك البلاد، فأخرج ابنه إسماعيل في عسكر مع من أجابه من قبائل البربر، ونهض إلى قرمونة فحاصرها، ثم نهض إلى حصن يدعى أَشُونة، وحصن آخر يدعى إِسْتِجَة، فأخذهما؛ وكانا بيد محمد بن عبد الله، رجل من قواد البربر من بنى برزال؛ فاستصرخ محمد بن عبد الله إدريس بن علي الحسني وقبائل صَنْهَاجة، فأمده صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقنة أحمد بن موسى مدبر دولته؛ فاجتمعوا مع محمد بن عبد الله. ثم غلبت عليهم هيبة إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن عباد، قائد عسكر أبيه القاضي أبي القاسم، فافترقوا، وانصرف كل واحد منهم إلى بلده. فبلغ ذلك إسماعيل بن محمد ، فقوي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- أسدهما رأيًا: أصوبهما رأيًا، يقال: سد فلان: أصاب في قوله وفعله، وسد قوله وفعله: استقام وأصاب، فهو سديد، وأسد. 2- هو أبو القاسم، محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد، من بني عطاف بن نعيم اللخمي، من نسل ملك الحيرة النعمان بن المنذر: مؤسس الدولة العبادية في إشبيلية. توفي سنة 433هـ/1041م. "جذوة المقتبس، الحميدي: 107". ص -55- أمله، ونهض بعسكره قاصدًا طريق صاحب صنهاجة، وقدر صاحب صنهاجة أنه سيلحقه، فوجه إلى ابن بقنة يسترجعه، وإنما كان فارقه قبل ذلك بساعة، فرجع إليه، والتقت العساكر؛ فما كان إلا أن تراءى الجمعان، فولى عسكر ابن عباد منهزمًا، وأسلموا إسماعيل، فكان أول مقتول، وحمل رأسه إلى إدريس بن علي الحسني. وقد كان إدريس استشعر بالهلاك، فنزل عن مالقة إلى جبل بُبَاشتر، وهو الذي قام فيه ابن حَفْصُون المتقدم الذكر1، فتحصن به وهو مريض مُدْنَف، فلم يعش إلا يومين ومات، وترك من الولد يحيى -قتل بعده- ومحمدًا الملقب بالمهدي، وحسنًا المتلقب بـ السامي. وكان له ابن هو أكبر بنيه اسمه علي، مات في حياة أبيه. وترك ابنًا اسمه عبد الله، أخرجه عمه2 ونفاه لما ولي. وقد كان يحيى بن علي المذكور قبلُ قد اعتقل ابني عمه محمدًا والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة، وكان الموكل بهما رجلًا من المغاربة يعرف بأبي الحجاج، فحين وصل إليه خبر قتل يحيى، جمع من كان في الجزيرة من المغاربة والسودان، وأخرج محمدًا والحسن، وقال: هذان سيداكم! فسارع أجمعهم إلى الطاعة لهما؛ لشدة ميل أبيهما إلى السودان قديمًا وإيثاره لهم. وانفرد محمد بالأمر دون الحسن، وملك الجزيرة، إلا أنه لم يتسمَّ بالخلافة، وبقي معه أخوه الحسن مدة، إلى أن حدث له رأي في التنسك، فلبس الصوف وتبرأ من الدنيا، وخرج إلى الحج مع أخته فاطمة بنت القاسم، زوجة يحيى بن على المعتلي. فلما مات إدريس كما تقدم، رام ابن بقنة أحمد بن موسى ضبط الأمر لولده يحيى بن إدريس المعروف بـ حيون، ثم لم يجسر على ذلك الجَسْرَ التام، وتحير وتردد. ولما وصل خبر قتل إسماعيل بن عباد، وموت إدريس بن علي إلى نجا الخادم الصقلبي، وكان بسبتة، استخلف عليها من وثق به من الصقالبة، وركب البحر هو وحسن بن يحيى إلى مالقة، ليرتب الأمر له؛ فلما وصلا إلى مرسى مالقة، خارت قوى ابن بقنة وهرب إلى حصن كمارش، على ثمانية عشر ميلًا من مالقة. ودخل حسن ونجا مالقة، واجتمع إليهما من بها من البربر، فبايعوا حسن بن يحيى بالخلافة، وتسمى بـ المستعلي، ثم خاطب ابن بقنة وأمنه، فلما رجع إليه قبض عليه وقتله، وقتل ابن عمه يحيى بن إدريس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- لم يرد ذكر ابن حفصون فيما تقدم من الكتاب، ومن المحتمل أن يكون ذلك في القسم الذي فُقد منه. 2- يعني: المعتلي يحيى بن علي بن حمود. ص -56- ورجع نجا إلى سبتة وطنجة، وترك مع الحسن رجلًا كان من التجار يعرف بالسطيفي، كان نجا كثير الثقة به، فبقي الأمر كذلك نحوًا من عامين. وكان الحسن بن يحيى متزوجًا بابنة عمه إدريس، فقيل: إنها سمته أسفًا على أخيها، فلما مات احتاط السطيفي على الأمر، واعتقل إدريس بن يحيى, وكتب إلى نجا بالخبر. وكان للحسن ابن صغير عند نجا، فقيل: إنه اغتاله أيضًا فقتله، فالله أعلم. ولم يعقب حسن بن يحيى، فاستخلف نجا على سبتة وطنجة من وثق به من الصقالبة عند وصول الخبر إليه، وركب البحر إلى مالقة، فلما وصل إليها زاد في الاحتياط على إدريس بن يحيى، وأكد اعتقاله، وعزم على محو أمر الحسنيين جملةً، وأن يضبط تلك البلاد لنفسه، فدعا البربر الذين كانوا جند البلد، وكشف الأمر إليهم علانية، ووعدهم بالإحسان، فلم يجدوا لمساعدته بدًّا، فوافقوه في الظاهر، وعظم ذلك في أنفسهم باطنًا. ثم جمع عسكره، ونهض إلى الجزيرة ليستأصل محمد بن القاسم، فحاربه أيامًا، ثم أحسن بفتور نيات الذين معه، فرأى أن يرجع إلى مالقة، فإذا حصل فيها نفى من يخاف غائلته1 منهم واستصلح سائرهم، واستدعى الصقالبة من حيثما أمكنه ليقوى بهم على غيرهم. وأحسن البربر بهذا منه، فاغتالوه في الطريق من قبل أن يصل إلى مالقة، فقُتل وهو على دابته في مضيق صار فيه، وقد تقدمه إليه الذي أراد الفتك به، وفر من كان معه من الصقالبة بأنفسهم. ثم تقدم فارسان من الذين غدروا به يركضان حتى وردا مالقة، فدخلا وهما يقولان: البشرى البشرى! فلما وصلا إلى السطيفي، وضعا سيفيهما عليه فقتلاه. ثم وافى العسكر فاستخرجوا إدريس بن يحيى من محبسه، فقدموه وبايعوه بالخلافة، وتسمى بـ العالي. فظهرت منه أمور متناقضة، منها أنه كان أرحم الناس قلبًا، كثير الصدقات؛ يتصدق كل يوم بخمسمائة، ورد كل مطرود عن وطنه إليه، ورد عليهم ضياعهم وأملاكهم، ولم يسمع بَغْيًا في أحد من الرعية. وكان أديب اللقاء، حسن المجلس، يقول من الشعر الأبيات الحسان. ومع هذا فكان لا يصحب ولا يُؤْثر إلا كل ساقط رَذْل، ولا يحجب حُرَمَه عنهم. وكل من طلب منه حصنًا من حصون بلاده ممن يجاوره من صنهاجة أو بني يفرن أعطاه إياه. وكتب إليه أمير صنهاجة أن يسلم إليه وزيره ومدبر أمره وصاحب أبيه وجده: موسى بن عفان السبتي، فلما أخبره بأن الصنهاجي كتب إليه يطلبه منه وأنه لا بد من تسليمه إليه، قال له موسى بن عفان: افعل ما تؤمر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الغائلة: الفساد والشر، أو الداهية، والجمع: غوائل. ص -57- ستجدني إن شاء الله من الصابرين1! فبعث به إلى الصنهاجي فقتله. وكان قد اعتقل ابني عمه محمدًا وحسنًا ابني إدريس بن علي في حصن إيرُش، فلما رأى ثقته الذي في الحصن اضطراب آرائه، خالف عليه وقدم ابن عمه محمد بن إدريس. فلما بلغ ذلك السودان المرتبين في قصبة مالقة، نادوا بدعوة ابن عمه محمد بن إدريس، وراسلوه بالمجيء إليهم وامتنعوا بالقصبة. واجتمعت العامة إلى إدريس بن يحيى، واستأذنوه في حرب القصبة والدفاع عنه؛ ولو أذن لهم ما ثبت السودان فُوَاقَ ناقة2، فأبى، فقال لهم: الزموا منازلكم ودعوني؛ فتفرقوا عنه. وجاء ابن عمه، فسُلم عليه، وبُويع بالخلافة، وتسمى بـ المهدي، وولى أخاه عهده، وسماه السامي، واعتقل ابن عمه إدريس بن يحيى في الحصن الذي كان هو معتقلاً فيه. وظهرت من محمد بن إدريس هذا شهامة وجرأة شديدة هابه بها جميع البربر، وأشفقوا منه، وراسلوا المرتَّب في الحصن الذي فيه إدريس بن يحيى هذا واستمالوه، فأجابهم وقام بدعوة إدريس. وقد كان إدريس أول ولايته بعد قتل نجا -كما تقدم- قد ولى سبتة وطنجة رجلين من بَرَغْوَاطَة، قبيلة من قبائل البربر، مع عبيد أبيه، اسم أحدهما رزق الله، والآخر سكات؛ فلما خلع إدريس كما تقدم، بقيا حافظين لمكانيهما. فلما قام -كما ذكرنا- بدعوته صاحب حصن إيرُش، لم يظهر محمد مبالاة بذلك، بل ثبت ثباتًا شديدًا. وكانت والدته تشجعه وتقوي متنه وتشرف على الحرب بنفسها فتحسن إلى من أبلى. فلما رأى البربر شدة عزمه وثباته، فتَّ ذلك في أعضادهم3 وتخلوا عن إدريس بن يحيى، ورأوا أن يبعثوا به إلى سبتة وطنجة، إلى البرغْواطييْنِ اللذين ذكرنا، وقد كان إدريس جعل ابنه عندهما في حضانتهما؛ فلما وصل إليهما أظهرا تعظيمه ومخاطبته بالخلافة، إلا أنهما حجباه شديدًا ولم يدعا أحدًا من الناس يصل إليه، فتلطف4 قوم من أكابر البربر حتى وصلوا إليه، وقالوا له: إن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هذا من قوله الله تعالى على لسان إسماعيل عليه السلام: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. [الصافات: 102]. 2- الفواق: الوقت بين الحلبتين، أو الوقت بين قبضتي الحالب لضرع الناقة. وفي قوله: "لم يثبت السودان فواق ناقة": كناية عن سرعة هزيمتهم. 3- فت في أعضادهم: أوهن قواهم. والأعضاد: جمع العَضُد: ما بين المرفق إلى الكتف. 4- تلطف للأمر، وفيه، وبه: ترفَّق، ومنه: تلطَّف بفلان: احتال له حتى اطلع على أحواله. ص -58- هذين العبدين قد غلبا عليك، وحالا بينك وبين أمرك، فأْذَنْ لنا نكفِيكهما، فأبى؛ ثم أخبرهما بذلك، فنفيا أولئك القوم، وأخرجا إدريس بن يحيى، وبعثا به إلى الأندلس، وتمسكا بولده لصغره؛ إلا أنهما في كل ذلك يخطبان لإدريس بالخلافة. ثم إن محمد بن إدريس أنكر من أخيه الملقب بـ السامي أمرًا، فنفاه إلى العدوة، فصار في جبال غمارة، وهي بلاد تنقاد لهؤلاء الحسنيين، وأهلها يعظمونهم تعظيمًا مفرطًا. ثم إن البرابرة خاطبوا محمد بن القاسم الكائن بالجزيرة الخضراء، واجتمعوا إليه ووعدوه بالنصر. فاستفزه الطمع وخرج إليهم، فبايعوه بالخلافة، وتسمى بـ المهدي؛ وصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة: أربعة كلهم يتسمى بأمير المؤمنين، في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا في مثلها. فأقاموا معه أيامًا ثم افترقوا عنه إلى بلادهم، ورجع محمد خاسئًا إلى الجزيرة، ومات لأيام؛ فقيل: إنه مات غمًّا؛ وترك نحوًا من ثمانية ذكور. فتولى أمر الجزيرة بعده ابنه القاسم بن محمد بن القاسم، إلا أنه لم يتسم بالخلافة. وبقى محمد بن إدريس المهدي بمالقة إلى أن مات سنة 445. وكان إدريس بن يحيى المعروف بـ العالي عند بني يَفْرَن بتاكرونة؛ فلما توفي محمد بن إدريس بن يحيى المهدي ردت العامة إدريس العالي إلى مالقة واستولى عليها، وهو آخر من ملكها من الحسنيين. فلما مات، أجمع البربر رأيهم على نفي الحسنيين عن الأندلس إلى العدوة، والاستبداد بضبط ما كانوا يملكونه من البلاد، ففعلوا ذلك وتم لهم ما أرادوا منه. كانت الجزيرة الخضراء وما والاها من القرى إلى تاكرونة، ومالقة وما والاها أيضًا إلى حصن منكب وغرناطة وأعمالها، في ملك البربر. وملكوا مع ذلك بعض أعمال إشبيلية، كحصن أشونة، وقرمونة، وشَلَّبَر. ولم يزالوا كذلك إلى أن أخرج من أيديهم ما كانوا يملكونه من أعمال إشبيلية المعتضد بالله أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، ثم أتم ابنه أبو القاسم المعتمد على الله ما ابتدأه أبوه من ذلك. وهذا آخر أخبار الحسنيين وما يتعلق بها، حسبما أورده أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، عليه عولت في أكثر ذلك، ومن كتابه نقلت، خلا مواضع تبينت غلطه فيها، أصلحتها جهد ما أقدر. وعلى الله قصد السبيل، وهو المسئول في الهداية قولًا وعملاً. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -59- فصل يتضمن ذكر أحوال الأندلس بعد انقطاع الدعوة الأموية عنها على الإجمال لا على التفصيل وأما حال سائر الأندلس بعد اختلال دعوة بنى أمية، فإن أهلها تفرقوا فرقًا، وتغلب في كل جهة منها متغلب، وضبط كل متغلب منهم ما تغلب عليه، وتقسموا ألقاب الخلافة؛ فمنهم من تسمى بـ المعتضد، وبعضهم تسمى بـ المأمون، وآخر تسمى بـ المستعين، والمقتدر، والمعتصم، والمعتمد، والموفق، والمتوكل؛ إلى غير ذلك من الألقاب الخلافية؛ وفي ذلك يقول أبو علي الحسن بن رشيق1: مما يزهدني في أرض أندلسٍ سماع مُقتدرٍ فيها ومعتضِدِ2 ألقاب مملكة في غير موضعِهَا كالهر يحكي انتفاخًا صَوْلَةَ الأسدِ! وأنا ذاكر -إن شاء الله في هذا الفصل- أسماءهم والجهات التي تغلبوا عليها، على نحو ما شرطت من الإجمال؛ إذ لكل منهم أخبار وسير ووقائع لو بسطت القول فيها خرج هذا التصنيف عن حد التلخيص إلى حيز الإسهاب. وأيضًا فالذي منعني عن استيفاء أخبارهم أو أخبار أكثرهم، قلة ما صحبني من الكتب، واختلال معظم محفوظاتي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو علي، الحسن بن رشيق القيرواني: أديب، شاعر، ناقد. ولد في المسيلة بالمغرب، وتوفي سنة 463هـ/ 1071م. من آثاره: "العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده" وديوان شعر. "معجم الأدباء، ياقوت الحموي: 220/3". والبيتان في ديوانه: 66. 2- زهد في الشيء, وعنه زهدًا وزهادةً: أعرض عنه وتركه لاحتقاره، أو لتحرُّجه منه. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ملوك الطوائف فأولهم في الربع الشرقي، رجل اسمه سليمان بن هود، تلقب بـ المؤتمن، وتلقب ابنه بـ المقتدر، وتلقب ابنه بـ المستعين3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 3- كذا في الأصل. وفي غيره من المراجع: أن سليمان بن هود هذا تلقب بالمستعين، وابنه بالمقتدر، وابنه بالمؤتمن. ص -60- كان بنو هود هؤلاء يملكون من مدن هذه الجهة الشرقية: طرطوشة وأعمالها، وسرقسطة وأعمالها، وأفراغة، ولاردة، وقلعة أيوب؛ هذه اليوم كلها بأيدي الإفرنج، يملكها صاحب بَرْشَنُونَة -لعنه الله- وهي البلاد التي تسمى أرْغُن، حد هذا الاسم آخر مملكة البرشنوني مما يلي بلاد إفرنسة. ويجاور بنى هود هؤلاء رجل آخر اسمه عبد الملك بن عبد العزيز، يكنى أبا مروان، قديم الرياسة، هو أحق ملوك الأندلس بالتقدم لشرف بيته، ولا أعلم له لقبًا، كان يملك بلنسية وأعمالها. وكان يلى الثغر رجل آخر يقال له: أبو مروان بن رَزِين، كان يملك إلى أول أعمال طليطلة. وكان الذي يملك طليطلة وأعمالها: الأمير أبو الحسن يحيى بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن عامر بن مُطَرِّف بن موسى بن ذي النون1. وأبو الحسن هذا أقدم ملوك الأندلس رياسة وأشرفهم بيتًا وأحقهم بالتقدم، تلقب بـ المأمون؛ كان أبوه إسماعيل هو الذي تغلب على طليطلة من قبلُ واستبد بملكها أول الفتنة. ولم يزل أبو الحسن هذا يملك طليطلة وأعمالها كما ذكرنا، إلى أن أخرجه عنها الأدفنش2 -لعنه الله- واستولى عليها النصارى في شهور سنة 478، فهي قاعدة ملك النصارى إلى وقتنا هذا. وكان يملك قرطبة وأعمالها إلى أول الثغر: جهور بن محمد بن جهور المتقدم ذكره ونسبه, إلى أن غلبه عليها صاحب طليطلة إسماعيل بن ذي النون والد أبي الحسن المذكور آنفًا. وكان يملك إشبيلية وأعمالها: القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1-توفي سنة 460هـ/1068م بطليطلة. 2- هو ألفونس السادس ملك قَشْتَالَةَ. ص -61- اللخمي، تغلب عليها بعد أن أخرج عنها القاسم بن حمود وابنيه محمدًا والحسن على ما سيأتي الإيماء إليه إن شاء الله عز وجل. وكان يملك مالقة والجزيرة وغرناطة وما إلى ذلك: البربر بنو بَرْزَال الصنهاجيون على ما قدمناه. وتغلب على المرية وأعمالها زهير العامري الخادم، ثم ملكها بعده خيران العامري أيضًا الخادم، ثم تغلب عليها بعدهما أبو يحيى محمد بن مَعْن بن صُمَادح المتلقب بـ المعتصم؛ فلم يزل فيها إلى أن أخرجه عنها يوسف بن تاشُفين اللمتوني في شهور سنة 484. وكان يملك دانية وأعمالها: مجاهد العامري1، أصله رومي، مولى لأبي عامر محمد بن أبي عامر، ثم ملكها بعده ابنه علي بن مجاهد، وتقلب بـ الموفق، لا أعلم في المتغلبين على جهات الأندلس أصون منه نفسًا ولا أطهر عرضًا ولا أنقى ساحةً، كان لا يشرب الخمر ولا يقرب من يشربها، وكان مؤثرًا للعلوم الشرعية, مكرمًا لأهلها. توفي قبل فتنة المرابطين بيسير، لا أتحقق تاريخ وفاته2. وكان يملك الثغر الذي من الجهة المغربية من الأندلس وبعض المدن المجاورة للبحر الأعظم: ابن الأفطس المتلقب بـ المظفر، ذهب عني اسمه3، ثم كان له ابن اسمه عمر، يكنى أبا محمد، تلقب بـ المتوكل على الله، كان يملك بطليوس وأعمالها، ويابرة، وشَنْتَرين، والأشبونة. كان المظفر هذا أحرص الناس على جمع علوم الأدب خاصةً من النحو والشعر ونوادر الأخبار وعيون التاريخ، انتخب مما اجتمع له من ذلك كتابًا كبيرًا ترجمه باسمه، على نحو: الاختيارات للروحي، وعيون الأخبار لأبي محمد بن قُتَيبة4؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- كان من أهل الأدب والشجاعة والمحبة للعلوم وأهلها. نشأ بقرطبة، وكانت له همة وجلادة وجرأة. وتوفي سنة 436هـ/1045م. "بغية الملتمس، الضبي: 472". 2- يقال: إن علي بن مجاهد ظل على حكم دانية حتى غلبه عليها المقتدر أحمد بن سليمان بن هود صاحب سرقسطة، سنة 468 هـ، فخرج منها، وانقطعت أخباره. 3- هو محمد بن عبد الله بن الأفطس. 4- هو أبو محمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: من أئمة الأدب, مصنف مكثر. ولد في= ص -62- جاء هذا الكتاب في نحو من عشرة أجزاء ضخمة، وقفت على أكثره، ترجمته المُظفَّري. وكان لابنه المتوكل قدم راسخة في صناعة النظم والنثر، مع شجاعة مفرطة وفروسية تامة، وكان لا يُغِبُّ الغزو ولا يشغله عنه شيء. واتصلت مملكته إلى أن قتله المرابطون أصحاب يوسف بن تاشفين، وقتلوا ولديه الفضل والعباس صبرًا؛ ضربوا أعناقهم في غرة سنة 485. وكانت أيام بني المظفر بمغرب الأندلس أعيادًا ومواسم، وكانوا ملجأ لأهل الآداب، خلدت فيهم، ولهم قصائد شادت مآثرهم وأبقت على غابر الدهر حميد ذكرهم؛ وفيهم يقول الوزير الكاتب الأبرع ذو الوزارتين أبو محمد عبد المجيد بن عبدون1، من أهل مدينة يَابُرة، قصيدته الغراء، لا بل عقيلته العذراء, التي أزرت على الشعر، وزادت على السحر، وفعلت في الألباب فعل الخمر، فجلت عن أن تُسامَى، وأنفت من أن تُضاهَى2؛ فقل لها النظير، وكثر إليها المشير، وتساوى في تفضيلها وتقديمها باقل وجرير3؛ فلله هي من عقيلة خدر قربت بسهولتها حتى أطمعت؛ وبعدت حتى عزت فامتنعت؛ أوردتها في هذا المصنف وإن كان فيها طول مخرج عن الحد الذي رسمته؛ مخل بالتلخيص الذي شرطته؛ لصحة مبانيها، ورشاقة ألفاظها, وجودة معانيها، سلك فيها أبو محمد -رحمه الله- طريقة لم يُسبق إليها، وورد شِرْعة لم يُزاحَم عليها؛ فلذلك قل مثلها لا بل عُدم، وعز نظيرها فما تُوهم ولا عُلم، وهي: من البسيط الدهر يَفجَع بعد العين بالأثرِ فما البكاء على الأشباح والصورِ؟ أنهاك أنهاك, لا آلوك موعظةً عن نومةٍ بين ناب الليث والظُّفُرِ فالدهر حرب وإن أبدى مسالمةً والبيض والسود مثل البيض والسمرِ ولا هُوادةَ بين الرأس تأخذه يد الضِّراب وبين الصارم الذَّكَرِ4 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = بغداد، وسكن الكوفة، وولي قضاء الدينور، فنسب إليها. توفي سنة 276هـ/889م. من آثاره: "الشعر والشعراء"، و"عيون الأخبار". "وفيات الأعيان، ابن خلكان: 42/3". 1- هو أبو محمد، عبد المجيد بن عبد الله بن عبدون الفهري اليابرتي: أديب الأندلس في عصره. كان يلقب بذي الوزارتين. ولد بيابرة، وتوفي فيها سنة 529هـ/1135م. "الأعلام, الزركلي: 149/4". 2- تُضاهَى: تُشابَه. 3- باقل: هو باقل الإيادي، الذي يضرب بعيه المثل، فيقال: "أعيا من باقل". جرير: هو جرير بن الخطفي، الشاعر الأموي المشهور. 4- الصارم الذكر: السيف القاطع, المصنوع من أجود أنواع الحديد. ص -63- فلا تغرَّنْكَ من دنياك نومتها فما صناعة عينيها سوى السَّهَرِ ما لليالي -أقال الله عَثْرَتنا- من الليالي وخانتْها يد الغِيَرِ1 في كل حين لها في كل جارحةٍ منا جراح وإن زاغت عن النظرِ تسر بالشيء, لكن كي تَغُرَّ به كالأَيْم ثار إلى الجاني من الزَّهَرِ كم دولةٍ وليت بالنصر خدمتها لم تبقِ منها -وسل ذكراك- من خبرِ هَوَتْ بدارا وفَلَّتْ غَرْبَ قاتله وكان عَضْبًا على الأملاك ذا أُثرِ2 واسترجعت من بنى ساسان ما وهبت ولم تدع لبنى يونانَ من أَثرِ3 وألحقت أختها طَسْمًا، وعاد على عاد وجُرْهُمَ منها ناقض المِرَرِ4 وما أقالت ذوي الهيئات من يَمَنٍ ولا أجارت ذوي الغايات من مُضَرِ5 ومزقت سبأً في كل قاصية فما التقى رائح منهم بمبتكرِ6 وأنفذت في كليب حكمها، ورمت مُهَلْهِلًا بين سمع الأرض والبصرِ7 ولم ترد على الضِّلِّيل صحته ولا ثَنَتْ أسدًا عن ربها حُجُرِ8 ودوخت آل ذبيان وإخوتهمْ عبسًا، وغصت بني بدر على النهَرِ9 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- العثرة: الزلة. الغير: غير الدهر: أحواله وأحداثه المتغيرة. 2- دارا: من ملوك الفرس، لبث في الحكم ثلاثين عامًا، وقتله الإسكندر. فَلَّ السيف فَلًّا: ثلمه وكسر حده. الغرب: أول كل شيء وحده. العضب: السيف القاطع. الأملاك: الملوك. الأثر: فرند السيف: ما يلمح في صفحته من أثر تموج الضوء. 3- بنو ساسان: الأكاسرة من ملوك فارس. 4- طسم، وعاد، وجرهم: من قبائل العرب القديمة. 5- أقالت: يقال: أقال الله عثرته: صفح عنه وتجاوز. 6- سبأ: قوم ورد ذكرهم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} إلى قوله: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:16-20]. الرائح: العائد إلى داره في العشي. المبتكر: الخارج منه صباحًا. 7- كليب: هو كليب بن ربيعة الذي يقال فيه: "أعز من كليب"؛ لما بلغه من عز وشرف وسؤدد. ومهلهل: أخوه، وقد قتله بعض عبيده غدرًا. 8- الضليل: هو الشاعر الجاهلي امرؤ القيس بن حجر الكندي، ملك كندة، وكانت قبيلة أسد قد قتلت أباه حجرًا، فحمل امرؤ القيس عبء الثأر له، وحارب أسد في مواقع عدة، حتى أدركه الأجل في "أنقرة" من بلاد الروم. 9- ذبيان، وعبس: أخوان من بني بغيض بن ريث بن غطفان، بنو بدر: بطن من ذبيان. ص -64- وألحقت بعديٍّ بالعراق على يد ابنه أحمر العينين والشعَرِ1 وأهلكت أَبْرَويزًا بابنه ورمت بيزدَجُرْد إلى مرو فلم يَحُرِ2 وبلغت يزدجرد الصين واختزلت عنه سوى الفرس جمع الترك والخَزَرِ3 ولم ترد مواضي رستمٍ وقنا ذي حاجب عنه سعدًا في ابنة الغِيَرِ4 يوم القليب بنو بدر فنُوا وسعى قليب بدر بمن فيه إلى سَقَرِ5 ومزقت جعفرًا بالبيض واختلست من غِيله حمزةَ الظلَّام للجُزُرِ6 وأشرفت بخُبيب فوق فارعةٍ وألصقت طلحة الفياض بالعَفَرِ7 وخضبت شيب عثمان دمًا وخطت إلى الزبير ولم تستحي من عمرِ8 ولا رعت لأبي اليقظان صحبته ولم تزوده إلا الضَّيْحَ في الغُمُرِ9 وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن وأمكنت من حسين راحتي شَمِرِ10 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- عدي: هو عدي بن زيد: شاعر جاهلي قديم، كان يسكن الحيرة من أرض العراق. وكان النعمان بن المنذر قد حبسه ثم قتله. فعمل ابنه زيد بن عدي على الانتقام منه، ولم تقر عينه إلا بعد أن أوغر صدر كسرى ملك الفرس عليه، فأمر بقتله. وأحمر العينين والشعر: صفة للنعمان بن المنذر لبرص كان فيه. 2- أبرويز: هو كسرى أبرويز بن هرمز، من أشهر ملوك فارس. قتله ابنه شيرويه بتحريض من الرعية. يزدجرد: هو آخر ملوكهم، وكان فر من قصره إثر دخول جيش المسلمين إلى بلاده. لم يحر: لم يرجع. 3- في البيت إشارة إلى هرب يزدجرد إلى الصين، وتحالفه مع الترك والصغد والخزر ضد المسلمين. 4- رستم: هو قائد جيش الفرس يوم القادسية. ذو حاجب: هو خرزاد حامل رايتهم. وسعد: هو سعد بن أبي وقاص قائد جيش المسلمين في معركة القادسية. ابنة الغير: الداهية. 5- القليب: البئر. وفي البيت إشارة إلى يوم القليب في الجاهلية، وغزوة بدر الكبرى زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-. 6- يذكر اثنين من آل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هما: جعفر بن أبي طالب، وقد استشهد في غزوة مؤتة، وحمزة بن عبد المطلب، وقد استشهد يوم أحد. وقوله: ظلَّام الجزر: أي: الكريم الذي يكثر من نحر الجزر للناس. 7- يذكر مصرع خبيب بن عدي الأنصاري، الذي أُسر يوم الرجيع، وصلب وقتل بمكة، ومصرع طلحة بن عبيد الله التميمي، الذي قتل يوم الجمل. 8- يشير إلى مقتل كل من: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب غدرًا في مواضع مختلفة. 9- أبو اليقظان: هو عمار بن ياسر، الذي قتله أصحاب معاوية بن أبي سفيان يوم صفين. الضيح: اللبن. 10- أجزر فلانًا: دفع له شاة تصلح للذبح. أبو حسن: هو الإمام علي بن أبي طالب كرم الله = ص -65- وليتها إذ فدت عَمْرًا بخارجة فدت عليًّا بمن شاءت من البشرِ1 وفي ابن هند وفي ابن المصطفى حسنٍ أتت بمعضلة الألباب والفِكَرِ2 فبعضنا قائل ما اغتاله أحد وبعضنا ساكت لم يؤت من حَصَرِ3 وأردت ابن زياد بالحسين فلم يَبُؤْ بشِسْع له قد طاح أو ظُفُرِ4 وعممت بالظُّبى فَوْدَي أبي أنسٍ ولم ترد الرَّدَى عنه قنا زُفَرِ5 وأنزلت مصعبًا من رأس شاهقة كانت بها مهجة المختار في وَزَرِ6 ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا راعت عياذته بالبيت والحجرِ7 وأعملت في لطيم الجن حيلتها واستوسقت لأبي الذِّبَّان ذي البَخَرِ8 ولم تدع لأبي الذبان قاضِبَهُ ليس اللطيم لها عمرو بمنتصرِ9 وأحرقت شِلْوَ زيد بعدما احترقت عليه وَجْدًا قلوب الآي والسورِ10 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ =وجهه، والحسين: هو ابنه. أشقاها: هو عبد الرحمن بن ملجم الذي طعن عليًّا، وشمر: هو ابن الجوشن: أحد العاملين على قتل الحسين في كربلاء. 1-عمرو: هو عمرو بن العاص، وخارجة: رجل من أنصاره في مصر. 2- ابن هند: هو معاوية بن أبي سفيان، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة. وحسن: هو الحسن بن علي بن أبي طالب. المعضلة: المشكلة أو المسألة الصعبة. الألباب: العقول والأفهام. 3- الحصر: يقال: حَصِر فلان حَصَرًا: ضاق صدره، وحصِر القارئ: عَيَّ في منطقه ولم يقدر على الكلام، وحصر عن الشيء: امتنع عنه عجزًا. 4- ابن زياد: هو عبيد الله بن زياد بن أبيه، أمير الكوفة، وأحد مدبري مقتل الحسين في كربلاء. يبوء: يرجع . الشسع: رباط النعل. والمعنى: أن الليالي اقتصت للحسين من ابن زياد بميتة مشابهة على يد إبراهيم بن الأشتر النخعي من بعد. 5- أبو أنس: هو الضحاك بن قيس الفهري. زفر: هو زفر بن الحارث الكلابي، حليف الضحاك في معركة مرج راهط. الظبى: جمع ظبة: حد السيف. الفود: جانب الرأس. القنا: الرماح. 6- مصعب: هو مصعب بن الزبير، وكان واليًا على العراق من قِبَلِ أخيه عبد الله. الشاهقة: العالية، المرتفعة، والمراد بها: قلعة الكوفة. 7- يريد: عبد الله بن الزبير، وكان يسمى العائذ؛ لأنه كان يقول: أنا العائذ بالبيت. ولكن تلك العياذة لم تمنعه من منجنيق الحجاج بن يوسف الثقفي وسيفه. 8- لطيم الجن: هو عمرو بن سعيد الأموي، وكان عبد الملك بن مروان قد استدرجه بالحيلة إلى داره وقتله. وأبو الذبان: كنية نُبِز بها عبد الملك، وكان أبخر. 9- قاضبه: سيفه. 10- الشلو: العضو. زيد: هو زيد بن علي بن الحسين، وكان ثار على الأمويين، وبويع بالخلافة في الكوفة سنة 122 هـ. ص -66- وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم تبقِ الخلافة بين الكأس والوترِ1 حَبَابة حب رمان أتيح لها وأحمر قطرته نفحة القطرِ2 ولم تعد قُضبُ السفَّاح نائية عن رأس مروان أو أشياعه الفُجُرِ3 وأسبلت دمعة الروح الأمين على دم بفخ لآل المصطفى هَدَرِ4 وأشرقت جعفرًا والفضل ينظره والشيخ يحيى بِرِيقِ الصارم الذكرِ5 وأخفرت في الأمين العهد، وانتدبت لجعفر بابنه والأعبُد الغُدرِ6 وما وفَتْ بعهود المستعين ولا بما تأكد للمعتز من مِرَرِ7 وأوثقت في عُراها كل معتمدٍ وأشرقت بقَذَاها كل مقتدرِ وروعت كل مأمون ومؤتمنٍ وأسلمت كل منصور ومنتصرِ وأعثرت آل عباد لعًا لهمُ بذيل زَبَّاءَ لم تنفِرْ من الذُّعُرِ8 بني المظفر والأيام -لا نُزلتْ- مراحل، والورى منها على سفرِ سُحْقًا ليومكم يومًا ولا حملت بمثله ليلة في غابر العمرِ9 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الوليد بن يزيد: أحد خلفاء بني أمية، وكان مولعًا بالخمر والغناء، متهمًا في دينه. 2- حبابة: جارية مغنية، كانت ليزيد بن عبد الملك, وكان مولعًا بها, فماتت شَرِقةً بحبات رمان تناولتها في خلوة أنس وطرب. 3- السفاح: هو أبو العباس السفاح، أول خلفاء الدولة العباسية. والقضب: السيوف القاطعة. ومروان: هو مروان بن محمد، آخر خلفاء الدولة الأموية. 4- فخ: موضع على مسافة فرسخ من مكة، قُتل فيه عدد من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، في أيام المهدي العباسي، وذهب دمهم هدرًا. 5- جعفر والفضل: ابنا يحيى بن خالد البرمكي. وفي البيت إشارة إلى نكبة البرامكة في بغداد زمن الرشيد العباسي. 6- الأمين: هو محمد بن هارون الرشيد، الذي ولي الخلافة بعد أبيه، فثار عليه أخوه المأمون وقتله، واستبد بالملك. وجعفر: هو جعفر بن المعتصم الملقب بالمتوكل، الذي أعانه ابنه المنتصر على قتله ليستبد بالحكم. الأعبد: العبيد. الغدر: جمع الغادر: الخائن، الناكث للعهد والذمة. 7- المستعين: هو أبو العباس، أحمد بن المعتصم، ولي الخلافة بعد المنتصر سنة 348هـ، ثم كان مصيره القتل في نزاع على الخلافة. والمعتز: هو المعتز بن المتوكل، ولي الخلافة بعد خلع المستعين، ثم مات قتلًا بعد حين. المرر: جمع المِرَّة: الأصالة والإحكام. 8- لعًا: كلمة تأسف أو توجع تُقال للعاثر. زباء: الداهية الشديدة، أو الناقة التي كثر الشعَر في وجهها. 9- الغابر: الماضي. ص -67- من للأسِرَّة، أو من للأعِنَّةِ، أو من للأسنة يهديها إلى الثُّغرِ من للظبى وعوالي الخط قد عُقدت أطراف ألسنها بالعي والحصرِ1 وطوقت بالمنايا السود بِيضَهُمْ فاعجب لذاك وما منها سوى الذكرِ من لليراعة أو من للبراعة أو من للسماحة أو للنفع والضررِ أو دفع كارثة أو ردع آزفةٍ أو قمع حادثةٍ تعيا على القدَرِ2 وَيْبَ السماح وويب البأس لو سلما وحسرة الدين والدنيا على عُمَرِ3 سقت ثَرَى الفضل والعباس هاميةٌ تُعزى إليهم سماحًا لا إلى المطرِ4 ثلاثةٌ ما رأى السَّعدان مثلهمُ واخبر ولو عزَّزا في الحوت بالقمرِ ثلاثةٌ ما ارتقى النَّسران حيث رَقُوا وكل ما طار من نَسْرٍ ولم يَطِرِ ثلاثةٌ كذوات الدهر منذ نأوْا عني، مضى الدهر لم يرْبع ولم يحُرِ5 ومر من كل شيء فيه أطيبه حتى التمتع بالآصال والبُكَرِ أين الجلال الذي غضت مهابتُهُ قلوبنا وعيون الأنجم الزُّهُرِ6 أين الإباء الذي أرسوْا قواعدَهُ على دعائمَ من عز ومن ظَفَرِ أين الوفاء الذي أصفوْا شرائعه فلم يرد أحد منها على كدرِ7 كانوا رواسي أرض الله ، منذ مضوا عنها استطارت بمن فيها ولم تقرِ8 كانوا مصابيحها فمُذْ خبوْا عثرت هذي الخليقة يا لله في سَدَرِ9 كانوا شجَا الدهر فاستهوتهم خدع منه بأحلام عاد في خُطا الحضرِ10 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- العوالي: الرماح، والخط: موضع في البحرين، كانت تُثَقَّف فيه الرماح. 2- الآزفة: القيامة، ومنه: الأزف: الضيق وسوء العيش. قمع فلانًا: قهره وذلَّله، أو منعه عما يريد، أو ضرب أعلى رأسه. 3- ويب: كلمة مثل وَيْل، تقول: ويبَكَ، وويبَ لك، وويبًا لك، ويقال: ويبَ فلان. عمر: هو أبو محمد عمر المتوكل بن المظفر. 4- الفضل والعباس: هما ابنا المتوكل، وقد قتلهما المرابطون في بَطَلْيُوس. الهامية: السحابة الممطرة. 5- لم يربع: لم يقف. لم يحر: لم يرجع. 6- الزهر: المشرقة، المتلألئة. 7- الشرائع: جمع الشريعة: مورد الماء الذي يستقى منه بلا رِشَاءٍ. 8- لم تقر: لم تثبت. 9- السدر: الحيرة، يقال: سدِر فلانٌ: تحير بصره. 10- الشجا: ما اعترض ونشب في الحلق من عظم ونحوه. ص -68- وَيْلُمِّهِ من طَلُوب الثأر مدركه منهم بأُسْد سَرَاة في الوغى صُبُرِ1 من لي ولا من بهم إن أظلمت نُوَبٌ ولم يكن ليلها يفضي إلى سَحَرِ2 من لي ولا من بهم إن عطلت سنن وأُخفيت ألسن الآثار والسيرِ3 من لي ولا من بهم إن أطبقت محن ولم يكن وِرْدُها يدعو إلى صَدَرِ4 على الفضائل إلا الصبر بعدهم سلام مرتقب للأجر منتظرِ يرجو عسى وله في أختها أمل والدهر ذو عُقَبٍ شتى وذو غيرِ5 قَرَّطتُ آذان من فيها بفاضخة على الحسان حصا الياقوت والدررِ6 سيارة في أقاصي الأرض قاطعة شَقَاشِقًا هدرت في البدو والحضرِ7 مطاعة الأمر في الألباب قاضية من المسامع ما لم يقض من وَطَرِ8 وكان أبو محمد هذا يكتب للمتوكل على الله، ونمت حاله معه؛ وهو أحد كتاب المغرب، وممن جمع منهم فضيلتي الكتابة والشعر، على أنه مقل من النظم، لم يثبت به منه إلا يسير بالنسبة إلى غزارة آدابه ونباهة قدره. وسيمر من مختار رسائله في موضعه من هذا الكتاب ما يدل على ما وصفناه به. حكى عن نفسه -رحمه الله- أنه كان بين يدي مؤدبه، وسنه إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، فعن للمؤدب أن قال: من المجتث الشِّعْرُ خُطَّةُ خَسْفِ وجعل يردد هذا القول. قال الوزير أبو محمد رحمه الله: فكتبت في لوحي مجيزًا له: لكل طَالبِ عُرْفِ9 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الوغى: الحرب. 2- النوب: جمع النائبة: الحادثة، النازلة. السحر: آخر الليل قبيل الفجر. 3- السنن: المناهج والطرائق. 4- المحن: الدواهي والمصائب. الورد: الإشراف على الماء. الصدر: الرجوع عنه. 5- غير الدهر: حوادثه وأحواله المتغيرة. 6- قرط الأذن: جعل فيها قُرْطًا. الفاضخة: الكاسرة، يقال: فضخ الشيء: كسره، وفضخ العين: فقأها. 7- الشقاشق: جمع الشقشقة: ما يخرجه الجمل من فمه عند الهدير، يقال: هدرت شقشقة فلان: ثار أو أفصح في الكلام. 8- الوطر: الحاجة فيها مأرب. 9- العُرْف: المعروف. ص -69- ثم خطر لي بيت ثانٍ، وهو: للشيخ عَيْبَة عيبٍ وللفتى ظَرْفُ ظَرْفِ1 قال: فنظر إليَّ المؤدب وقال: يا عبد المجيد، ما الذي تكتب؟ فأريته اللوح؛ فلما رآه لطمني وعرك أذني وقال: لا تشتغل بهذا! وكتب البيتين عنده. ومن غزارة حفظه -رحمه الله- ما حدث الوزير الأجل أبو بكر محمد ابن الوزير أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زُهْر بن عبد الملك بن زهر2 -وكان أبو بكر هذا قد مات عن سن عالية، نيف على الثمانين- قال: بينا أنا قاعد في دهليز دارنا وعندي رجل ناسخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني3 فجاء الناسخ بالكراريس التي كتبها؛ فقلت له: أين الأصل الذي كتبت منه لأقابل معك به قال: ما أتيت به معي؛ فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل الدهليز علينا رجل بَذُّ الهيئة، عليه ثياب غليظة أكثرها صوف، وعلى رأسه عمامة قد لاثها4 من غير إتقان لها؛ فحسبته لما رأيته من بعض أهل البادية، فسلم وقعد وقال لي: يا بني، استأذن لي على الوزير أبي مروان؛ فقلت له: هو نائم؛ هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف؛ حملني على ذلك نزوة الصِّبا وما رأيت من خشونة هيئة الرجل. ثم سكت عني ساعة، وقال: ما هذا الكتاب الذي بأيديكما؟ فقلت له: ما سؤالك عنه؟ فقال: أحب أن أعرف اسمه، فإني كنت أعرف أسماء الكتب! فقلت: هو كتاب الأغاني؛ فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه؟ قلت: بلغ موضع كذا، وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه، فقال: وما لكاتبك لا يكتب؟ قلت: طلبت منه الأصل الذي يكتب منه لأعارض به هذه الأوراق، فقال: لم أجئ به معي؛ فقال: يا بني، خذ كراريسك وعارض؛ قلت: بماذا؟ وأين الأصل؟ قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي؛ قال: فتبسمت من قوله، فلما رأى تبسمي قال: يا بني, أمسك علي؛ قال: فأمسكت عليه وجعل يقرأ، فوالله إن أخطأ واوًا ولا فاء؛ قرأ هكذا نحوًا من كراستين، ثم أخذت له في وسط السِّفْر وآخره، فرأيت حفظه في ذلك كله سواء. فاشتد عجبي، وقمت مسرعًا حتى دخلت على أبي, فأخبرته بالخبر ووصفت له ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 العيبة: الوعاء، الظرف. 2- كان ابن زهر من نوابغ الطب والأدب في الأندلس. ولد بإشبيلية، وخدم دولتي الملثمين والموحدين. توفي بمراكش سنة 595هـ/1199م. "الأعلام، الزركلي: 250/6". 3- هو كتاب ضخم، يقع في ثلاثة وعشرين جزءًا -وفقًا لطبعة دار الثقافة ببيروت- ألفه أبو الفرج الأصفهاني، المتوفى سنة 356هـ/ 967م. 4- لاث العمامة على رأسه: لفَّها وعصبَها. ص -70- الرجل؛ فقام كما هو من فوره، وكان ملتفًّا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس حافي القدمين لا يرفُق على نفسه، وأنا بين يديه، وهو يوسعني لومًا، حتى ترامى على الرجل وعانقه، وجعل يقبل رأسه ويديه ويقول: يا مولاي اعذرني، فوالله ما أعملني هذا الجِلْفُ1 إلا الساعة؛ وجعل يسبني، والرجل يُخفِّض عليه ويقول: ما عرفني؛ وأبي يقول: هَبْهُ ما عرفك، فما عذره في حسن الأدب. ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلًا؛ ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافيًا حتى بلغ الباب، وأمر بدابته التي يركبها فأسرجت، وحلف عليه ليركبنَّها ثم لا ترجع إليه أبدًا. فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظمته هذا التعظيم؟ قال لي: اسكت ويحك! هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الآداب، هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، أيسر محفوظاته كتاب الأغاني؛ وما حفظه في ذكاء خاطره وجودة قريحته. سمعت هذه الحكاية من أبي بكر بن زهر -رحمه الله- حين دخلت عليه وقد وفد على مراكش لتجديد بيعة أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن أبي يوسف في شهور سنة 595. وأنشدني الوزير أبو بكر المذكور في هذا التاريخ لنفسه -بعد أن سألني عن اسمي وعن نسبي فتسميت وانتسبت، وتسمى لي هو -رحمه الله-, وانتسب من غير استدعاء، تواضعًا منه وشرف نفس وتهذيب خلق، قدس الله روحه وسامحه: من البسيط لاح المشيب على رأسي فقلت له: الشيب والعيب, لا والله ما اجتمعَا يا ساقيَ الكأسِ لا تعدل إليَّ بها فقد هجرت الحُمَيَّا والحميم معَا!2 وأنشدني -رحمه الله- وقال: احفظ عني: من البسيط إني نظرت إلى المرآة إذ جُليتْ فأنكرت مقلتاي كل ما رأتَا رأيتُ فيها شُيَيْخًا لست أعرفه وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتَى هذا ما أنشدني لنفسه بلفظه -رحمه الله-. وله شعر كثير أجاد في أكثره. وأما الموشحات خاصة فهو الإمام المقدم فيها, وطريقته هي الغاية القصوى التي يجري كل من بعده إليها؛ هو آخر المجيدين في صناعتها، ولولا أن العادة لم تجر بإيراد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الجلف: الكز الغليظ الجافي، أو الأحمق. 2- عدل عدلًا وعدولًا: مال. الحميا: حميا كل شيء: شدته وحدته، وحميا الشباب: أوله ونشاطه، ومن الخمر: شِدتها وسَوْرتها. الحميم: القريب الذي توده ويودك. ص -71- الموشحات في الكتب المجلدة المخلدة لأوردتُ له بعض ما بقي على خاطري من ذلك. رجع القول إلى ملوك الطوائف ثم رجع بنا القول إلى ذكر أحوال الأندلس؛ فهؤلاء الرؤساء الذين ذكرنا أسماءهم هم الذين ملكوا الأندلس بعد الفتنة وضبطوا نواحيها؛ واستبد كل رئيس منهم بتدبير ما تغلب عليه من الجهات، وانقطعت الدعوة للخلافة وذكر اسمها على المنابر؛ فلم يذكر خليفة أموي ولا هاشمي بقطر من أقطار الأندلس، خلا أيام يسيرة دعي فيها لهشام المؤيد بن الحكم المستنصر بمدينة إشبيلية وأعمالها، حسبما اقتضته الحيلة واضطر إليه التدبير، ثم انقطع ذلك حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالي، فأشبهت حال ملوك الأندلس بعد الفتنة حال ملوك الطوائف من الفرس بعد قتل دارا بن دارا. ولم يزالوا كذلك وأحوال الأندلس تضعف وثغورها تختل، ومجاوروها من الروم تشتد أطماعهم ويقوى تشوفهم؛ إلى أن جمع الله الكلمة، ورَأَب الصدع، ونَظَم الشمل، وحسم الخلاف، وأعز الدين، وأعلى كلمة الإسلام، وقطع طمع العدو، بيمن نقيبة أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين اللمتوني -رحمه الله-. ثم استمر على ذلك ابنه علي، وأعادا إلى الأندلس معهود أمنها وسالف نضارة عيشها؛ فكانت الأندلس في أيامهما حرمًا آمنًا. وأول دعاء دعي للخلافة العباسية -أبقاها الله- على منابر الأندلس في أيامهما. ولم تزل الدعوة العباسية وذكر خلفائها على منابر الأندلس والمغرب إلى أن انقطعت بقيام ابن تُومَرْت1 مع المصامدة في بلاد السُّوس2، على ما يأتي بيانه إن شاء الله عز وجل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي البربري، المتلقب بالمهدي: مؤسس الدولة المؤمنية الكومية. توفي سنة 524هـ/1130م. "الأعلام، الزركلي: 228/6". 2- السوس: كورة بالمغرب مدينتها طنجة، وهناك أيضًا السوس الأقصى، ومدينته طَرْقَلة. وقيل: السوس: بلدة بالمغرب، كانت الروم تسميها "قَمُّونية". "معجم البلدان، الحموي: 280/3". المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -72- فصل في ملك بني عَبَّاد بإشْبِيلِيَّة وإذ ذكرنا أحوال ملوك الأندلس المتغلبين عليها بعد الفتنة على ما شرطنا من الإجمال، فلنرجع إلى ذكر مملكة إشبيلية خصوصًا من جزيرة الأندلس، وذكر من ملكها, فبذلك يتصل نسق الأخبار عما نريده، ويتطرق لنا القول فيما نقصده؛ لأن ملك إشبيلية هو كان السبب في دخول يوسف بن تاشفين مع المرابطين الأندلس، على ما سيذكر إن شاء الله تعالى، فنقول: أما أحوال إشبيلية فإنها كانت في طاعة الفاطميين، أعني: علي بن حمود، والقاسم بن حمود، ويحيى بن علي بن حمود، أيام كان الأمر دائرًا بينهم على ما تقدم ذكره؛ فلما زحف يحيى بن علي بالبرابر إلى قرطبة، وهرب القاسم بن حمود منها وقصد إشبيلية -وقد كان ابناه محمد والحسن مقيمين بها-اجتمع أمر أهل إشبيلية واتفق رأيهم على إخراج محمد والحسن عنها قبل وصول القاسم أبيهما؛ فأخرجوهما. وجاء القاسم فمنعوه دخول البلد أيضًا، واتفقوا على تقديم رجل منهم يرجع إليه أمرهم وتجتمع به كلمتهم؛ فتوارد اختيارهم بعد مَخْض الرأي وتنقيح التدبير، على القاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي؛ لما كانوا يعلمونه من حصافة عقله، وسعة صدره، وعلو همته، وحسن تدبيره؛ فعرضوا عليه ما رأوه من ذلك، فتهيب الاستبداد، وخاف عاقبة الانفراد أولًا، وأبى ذلك إلا على أن يختاروا له من أنفسهم رجالًا سماهم؛ لكي يكونوا له أعوانًا ووزراء وشركاء، ولا يقطع أمرًا دونهم، ولا يحدث حدثًا إلا بمشورتهم -وهؤلاء المسمون هم: الوزير أبو بكر محمد بن الحسن الزُّبَيْدي1، ومحمد بن يريم الألهاني، وأبو الأصبغ عيسى بن حجاج الحضرمي، وأبو محمد عبد الله بن علي الهوزني، في رجال آخرين ذهبت عني أسماؤهم إلا أني أعرف قبائلهم وبيوتهم- ففعلوا ذلك وأجابوه إلى ما أراد. ولم يزل يدبر أمر إشبيلية, وهؤلاء المذكورون وزراؤه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو بكر، محمد بن الحسن بن عبيد الله بن مذحج الزبيدي الأندلسي الإشبيلي: عالم باللغة والأدب، شاعر. توفي بإشبيلية سنة 379هـ/989م. "الأعلام، الزركلي: 82/6". ص -73- وكان له من الولد إسماعيل، وهو الأكبر، يُكنى أبا الوليد؛ وعباد, يكنى أبا عمرو؛ فأما إسماعيل فخرج إلى لقاء البربر بعد أن حدث لأبيه أمل في التغلب على ما كان البربر يملكونه من الحصون القريبة من إشبيلية، بعسكر من جند إشبيلية، فالتقى هو وصاحب صنهاجة؛ فأسلمت إسماعيلَ عساكرُه، وكان أول قتيل، وقطع رأسه وسِير به إلى مالقة، إلى إدريس بن علي الفاطمي، كما تقدم. وبقي الأمر كذلك، والقاضي أبو القاسم يدبر الأمور أحسن تدبير، وكان صالحًا مصلحًا، إلى أن مات في شهور سنة 439. ولاية المعتضد بالله العبادي ثم ولي ما كان يليه بعده من أمور إشبيلية وأعمالها، ابنه أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد، فجرى على سَنن أبيه في إيثار الإصلاح وحسن التدبير وبسط العدل، مدة يسيرة. ثم بدا له أن يستبد بالأمور وحده؛ وكان شهمًا صارمًا حديد القلب شجاع النفس بعيد الهمة ذا دهاء، وواتته مع هذا المقادير؛ فلم يزل يعمل في قطع هؤلاء الوزراء واحدًا واحدًا، فمنهم من قتله صبرًا، ومنهم من نفاه عن البلاد، ومنهم من أماته خمولًا وفقرًا، إلى أن تم له ما أراده من الاستبداد بالأمر، وتلقب بـ المعتضد بالله. وقيل: إنه ادعى أنه وقع إليه هشام المؤيد بالله، ابن الحكم المستنصر بالله؛ وكان الذي حمله على تدبير هذه الحيلة ما رآه من اضطراب أهل إشبيلية، وخاف قيام العامة عليه؛ لأنهم سمعوا بظهور من ظهر من أمراء بني أمية بقرطبة، كالمستظهر، والمستكفي، والمعتد؛ فاستقبحوا بقاءهم بغير خليفة. وبلغه أنهم يطلبون من أولاد بني أمية من يقيمونه؛ فادعى ما ادعاه من ذلك، وذكر أن هشامًا عنده بقصره، وشهد له خواص من حشمه، وأنه في صورة الحاجب له المنفذ لأموره؛ وأمر بالدعاء له على المنابر. فاستمر ذلك من أمره سنين، إلى أن أظهر موته ونعاه إلى رعيته في سنة 455, واستظهر بعهدٍ عَهِدَه له هشام المذكور فيما زعم، وأنه الأمير بعده على جميع جزيرة الأندلس. ولم يزل المعتضد هذا يدوخ1 الممالك وتدين له الملوك من جميع أقطار الأندلس، وكان قد اتخذ خُشبًا في ساحة قصره جللها2 برءوس الملوك والرؤساء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- دوخ الممالك أو البلاد: سار فيها حتى عرفها, ولم تخفَ عليه طرقها وأحوالها. ودوخ الرجل وأداخه: أذله وأخضعه. 2- جلل الشيء: غَطَّاه أو عَمَّهُ. ص -74- عوضًا عن الأشجار التي تكون في القصور؛ وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه. وجملة أمر هذا الرجل أنه كان أوحد عصره شهامة وصرامة وشجاعة قلب وحدة نفس؛ كانوا يشبهونه بأبي جعفر المنصور من ملوك بني العباس؛ كان قد استوى في مخافته ومهابته القريب والبعيد، لا سيما منذ قتل ابنه وأكبر ولده المرشح لولاية عهده صبرًا. وكان سبب ذلك أن ولده المذكور -وكان اسمه إسماعيل- كان يبلغه عنه أخبار مضمونها استطالة حياته وتمني وفاته، فيتغاضى المعتضد ويتغافل تغافل الوالد، إلى أن أدى ذلك التغافل إلى أن سكر إسماعيل المذكور ليلة وتسور سور القصر الذي فيه أبوه، في عُبْدان وأراذل معه، ورام الفتك بأبيه؛ فانتبه البوابون والحرس، فهرب أصحاب إسماعيل، وأخذ بعضهم فأقر وأخبر بالكائنة على وجهها؛ وقيل: إن إسماعيل لم يكن معهم وإنما بعثهم على ذلك، وجعل لمن قتل أباه المعتضد جُعْلًا سَنِيًّا، فالله أعلم. فقبض المعتضد على ابنه إسماعيل هذا واستصفى أمواله وضرب عنقه؛ فلم يبق أحد من خاصته إلا هابه من حينئذ. وبلغني أنه قتل رجلًا أعمى بمكة كان يدعو عليه بها؛ كان هذا الرجل من بادية إشبيلية؛ كان المعتضد قد وضع يده على بعض مال لهذا الرجل الأعمى، وذهب باقي ماله حتى افتقر، ورحل إلى مكة، فلم يزل يدعو على المعتضد بها إلى أن بلغه عنه ذلك، فاستدعى بعض من يريد الحج وناوله حُقًّا1 فيه دنانير مطلية بالسم، وقال: لا تفتح هذا حتى تدفعه إلى فلان الأعمى بمكة؛ وسلم عليه عنا! فاتفق أن سلم الرجل ومعه الحق، فحين وصل مكة لقي الأعمى ودفع إليه الحق، وقال: هذا من عند المعتضد؛ فأنكر ذلك الأعمى، وقال: كيف يظلمني بإشبيلية ويتصدق عليَّ بالحجاز؟ فلم يزل الرجل يخفضه إلى أن سكن وأخذ الحق، فكان أول شيء فعله أن فتح الحق وعمد إلى دينار من تلك الدنانير فوضعه في فمه، وجعل يقلب سائرها بيده، إلى أن تمكن منه السم، فما جاء الليل حتى مات؛ فاعجب لرجل بقاصية المغرب يعتني بقتل رجل بالحجاز!. وقتل على هذه الصورة رجلًا من المؤذنين من أهل إشبيلية؛ فر منه إلى طليطلة، فكان يدعو عليه بها في الأسحار، مقدرًا أنه قد أمن غائلته إذ صار في مملكة غيره. فلم يزل يعمل فيه الحيلة إلى أن بعث من قتله فجاءه برأسه. وكان أكبر من يناويه2 من المتغلبين المجاورين له وأشدهم عليه: البربر في صنهاجة، وبنو برزال الذين بقرمونة وأعمالها من نواحي إشبيلية؛ فلم يزل يصرف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الحق: وعاء صغير ذو غطاء، يُتخذ من عاج, أو زجاج، أو من غيرهما. 2- يناويه: يناوئه: يعاديه, أو يفاخره ويباريه. ص -75- الحيلة تارة ويجهز الجيوش أخرى إلى أن استنزلهم؛ ففرق كلمتهم وشتت منتظم أمرهم، ونفاهم عن جميع تلك البلاد وصفت له أموره. كان له عَيْنٌ1 بقرمونة يكتب له بأخبار البربر؛ بلغ من لطف حيلة المعتضد, وقد أراد أن يكتب إلى ذلك الرجل الذي جعله عينًا له بقرمونة كتابًا في بعض أمره، أن استدعى رجلًا من بادية إشبيلية شديد البله كثير الغفلة، وقال له: اخلع ثيابك؛ وألبسه جبة جعل في جيبها كتابًا وخاط عليه، وقال له: اخرج إلى قرمونة، فإذا وصلت بقربها فاجمع حُزمة حطب وادخل بها البلد وقف حيث يقف أصحاب الحطب، ولا تبعها إلا لمن يشتريها منك بخمسة دراهم؛ وكان قد قرر هذا كله مع صاحبه الذي بقرمونة؛ فخرج البدوي كما أمره المعتضد، فلما قرب من قرمونة جمع حزمة من الحطب، ولم يكن قبل هذا يعاني جمعه؛ فجمع حزمة صغيرة ودخل بها البلد، ووقف في موقف الحطابين، فجعل الناس يمرون عليه ويسومون منه حزمته، فإذا قال: لا أبيعها إلا بخمسة دراهم، ضحك من يسمع هذا القول منه ومر عنه؛ فلم يزل كذلك إلى أن أجنه الليل والناس يسخرون منه، فبعضهم يقول: هذا آبِنُوس! ويقول الآخر: لا بل هو عود هندي! وما أشبه هذا؛ حتى مر به صاحب المعتضد، فقال له: بكم تبيع حزمتك هذه؟ فقال: بخمسة دراهم! فقال: قد اشتريتها فاحملها إلى البيت؛ فقام يحملها والرجل بين يديه حتى بلغ بيته، فوضع الحزمة ودفع إليه الخمسة الدراهم. فلما أخذها وهم بالانصراف قال له: أين تريد في هذا الوقت وقد علمت خوف الطريق؟ فبت الليلة عندي، فإذا أصبحت رجعت إلى منزلك؛ فأجابه؛ فأدخله إلى بيت وقدم له طعامًا، وسأله كأنه لا يعرفه: من أين أنت؟ فقال: أنا من بادية إشبيلية؛ قال: يا أخي، ما الذي جاء بك إلى هذا الموضع وقد علمت نكد البربر وشؤمهم وهوان الدماء عليهم؟! فقال: حملتني على هذا الحاجة! ولم يظهر له أن المعتضد أرسله؛ فلم يزل الرجل يحادثه إلى أن أخذه النوم، فلما رأى غلبة النوم عليه قال له: تجرد من ثوبك هذا فهو أهنأ لنومك وأروح لجسمك! فتجرد الرجل ونام، وأخذ صاحب المعتضد الجبة ففتق جيبها، واستخرج الكتاب فقرأه وكتب جوابه، وجعله في جيب الجبة وخاط عليه كما كان؛ فلما أصبح الرجل لبس جبته، ورجع إلى إشبيلية وقصد باب دار الإمارة واستأذن، فأُدخل على المعتضد، فقال له: اخلع تلك الجبة؛ وكساه ثيابًا حسانًا فرح بها البدوي، وخرج من عنده فرحًا يرى أنه قد خلع عليه؛ ولم يعلم فيم ذهب ولا بم جاء! وأخذ المعتضد الكتاب من جيب الجبة فقرأه وتمم ما أراد من أمره. وله في تدبير ملكه وإحكام أمره حيل وآراء عجيبة لم يسبق إلى أكثرها، يطول تعدادها ويخرج عن حد التلخيص بسطها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- العين: الجاسوس. ص -76- ولما قتل ابنه إسماعيل -كما تقدم- وكان لقبه المؤيد، عهد بعده إلى ابنه أبي القاسم محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد، ولقبه بـ المعتمد على الله؛ فحسنت سيرة أبي القاسم هذا في حياة أبيه وبعد وفاته. أولية المرابطين في مَرَّاكُش وفي إمارة المعتضد بالله هذا نزل لمتونة ومسوفة -قبيلتان عظيمتان من البربر- رحبة مراكش؛ فتخيروها دار ملكهم لتوسطها البلاد. وكانت إذ نزلوها غَيْضَة1 لا عمران بها، وإنما سميت بعبد أسود كان يستوطنها يخيف الطريق, اسمه مراكش. فاستوطنها البربر كما ذكرنا، وقدموا عليهم رجلًا منهم اسمه تاشُفين بن يوسف. وكان المعتضد في كل وقت يستطلع أخبار العُدوة؛ هل نزل البربر رحبة مراكش؟ وذلك لما كان يراه في ملحمة كانت عنده أن هؤلاء القوم خالعوه أو خالعو ولده ومخرجوه من ملكه؛ فلما بلغه نزولهم جمع ولده وجعل ينظر إليهم مصعدًا ومصوبًا ويقول: يا ليت شعري من تناله معرة2 هؤلاء القوم، أنا أو أنتم؟ فقال له أبو القاسم من بينهم: جعلني الله فداك, وأنزل بي كل مكروه يريد أن ينزله بك! فكانت دعوة وافقت المقدار3. وكان نزول لمتونة ومسوفة قبيلتي المرابطين رحبة مراكش، في صدر سنة 463، وانفصالهم عنها جملة واحدة في وسط سنة 540؛ فكانت مدة إقامتهم في الملك منذ نزلوا رحبة مراكش إلى أن انفصلوا عنها وأخرجهم عنها المصامدة، نحوًا من ست وسبعين سنة. ثم توفي المعتضد بالله في شهر رجب من سنة 464، واختُلف في سبب وفاته، فقيل: إن ملك الروم سمه في ثياب أرسل بها إليه, وقيل: إنه مات حتف أنفه, فالله أعلم. ولاية أبي القاسم بن عباد المعتمد على الله ثم قام بالأمر من بعده, ابنه أبو القاسم محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد؛ وزاد إلى المعتمد على الله: الظافر بحول الله. وكان المعتمد هذا يشبه بهارون الواثق بالله4 من ملوك بني العباس، ذكاء نفس وغزارة أدب. وكان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1-الغيضة: الأجمة، أو الموضع يكثر فيه الشجر ويلتفُّ. 2- المعرة: الأذى والمساءة والمكروه. 3- المقدار: القَدَر. 4- هو أبو جعفر، هارون بن محمد بن هارون الرشيد، الملقب بالواثق: من خلفاء الدولة= ص -77- شعره كأنه الحُلل المنشرة. واجتمع له من الشعراء وأهل الأدب ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس. وكان مقتصرًا من العلوم على علم الأدب وما يتعلق به وينضم إليه. وكان فيه مع هذا من الفضائل الذاتية ما لا يحصى، كالشجاعة والسخاء والحياء والنزاهة، إلى ما يناسب هذه الأخلاق الشريفة. وفي الجملة فلا أعلم خصلة تحمد في رجل إلا وقد وهبه الله منها أوفر قسم، وضرب له فيها بأوفى سهم. وإذا عُدَّت حسنات الأندلس من لدن فتحها إلى هذا الوقت؛ فالمعتمد هذا أحدها، بل أكبرها. ولي أمر إشبيلية بعد أبيه، وله سبع وثلاثون سنة. واتفقت له المحنة الكبرى بخلعه وإخراجه عن ملكه في شهر رجب الكائن في سنة 484؛ فكانت مدة ولايته إلى أن خُلع وأُسر عشرين سنة؛ كانت له في أضعافها مآثر أعيا على غيره جمعها في مائة سنة أو أكثر منها. وكانت له -رحمه الله- همة في تخليد الثناء وإبقاء الحمد. عبد الجليل بن وَهْبُون الشاعر* كان من جملة شعرائه رجل من أهل مدينة مُرْسِية اسمه عبد الجليل بن وهبون، كان حسن الشعر, لطيف المأخذ, حسن التوصل إلى دقيق المعاني؛ أنشد يومًا بين يدي المعتمد -رحمه الله- بعضُ الحاضرين بيتين لعبد الجليل بن وهبون هذا, قالهما قديمًا قبل وصوله إلى المعتمد، وهما: من البسيط قل الوفاء, فما تلقاه في أحدٍ ولا يمر لمخلوقٍ على بالِ وصار عندهم عنقاء مُغْرِبةً أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقالِ!1 فأُعجب المعتمد بهما وقال: لمن هذان البيتان؟ فقالوا: هما لعبد الجليل بن وهبون أحد خدم مولانا! فقال المعتمد عند ذلك: هذا والله اللؤم البحْت؛ رجل من خدامنا والمنقطعين إلينا يقول: أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال! وهل يتحدث أحد عنا بأسوأ من هذه الأحدوثة؟ وأمر له بألف مثقال. فلما دخل عليه يتشكر له قال له: يا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = العباسية. ولد ببغداد، وولي الخلافة بعد وفاة أبيه المعتصم بالله سنة 227 هـ، وتوفي سنة 232هـ/ 847م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 15/14". * ترجمته في: بغية الملتمس: 387؛ تاريخ الأدب العربي "فروخ": 4/ 665. 1- العنقاء المغربة: كلمة لا أصل لها، يقال: إنها طائر عظيم لا تُرى إلا في الدهور، ثم كثر ذلك حتى سموا الداهية عنقاء مغربة، قال الشاعر: ولولا سليمان الخليفة حلَّقتْ به من يد الحجاج عنقاء مُغْرِبِ وزعم بعضهم أن العنقاء طائر يظهر عند مغرب الشمس، وقال آخرون: العنقاء المغرب: طائر لم يره أحد. "لسان العرب، ابن منظور: 3136/4 -مادة عنق". ص -78- أبا محمد، هل عاد الخبر عِيانًا؟ قال: إي والله يا مولاي؛ ودعا له بطول البقاء؛ فلما هم بالانصراف قال له: يا عبد الجليل، الآن حدِّث بها لا عنها، يعني: ألف مثقال. وله -رحمه الله1- شعر كثير بَرَّز في أكثره وأجاد ما أراد، وسيمر منه في أضعاف أخباره ما يشهد له بالتبريز، عند ذوي التمييز؛ فمما اختاره من شعره قوله: من الكامل عَلِّل فؤادك قد أَبَلَّ عليلُ واغنم حياتك فالبقاء قليلُ2 لو أن عمرك ألف عام كامل ما كان حقًّا أن يقال طويلُ أكذا يقود بك الأسى نحو الردى والعود عود والشَّمول شَمولُ3 لا يستبيكَ الهم نفسك عَنْوَةً والكأس سيف في يديك صقيلُ4 بالعقل تزدحم الهموم على الحشا فالعقل عندي أن تزول عقولُ! ومن شعره السيار، لا بل الطيار، قوله في مملوك له صغير كان يتصرف بين يديه، أهداه له صاحب طليطلة؛ اسم المملوك سيف: من البسيط سموه سيفًا وفي عينيه سيفانِ هذا لقتلي مسلولٌ وَهَذانِ5 أما كفت قَتلة بالسيف واحدة حتى أتيح من الأجفان ثنتانِ أسرته وثناني غُنْجُ مُقْلَته أسيره، فكلانا آسر عانِي6 يا سيف, أمسك بمعروف أسير هوًى لا يبتغي منك تسريحًا بإحسانِ!7 ومن شعره الرشيق المليح, الخفيف الروح، الذي حكى الماء سلاسة والصخر ملاسة، قوله في هذا المملوك وقد عذّر: من مخلع البسيط تم له الحسن بالعِذَارِ واقترن الليل بالنهارِ8 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- يعني: المعتمد بن عباد. 2- علل فلانًا بطعام أو غيره: شغله به ولهاه، وعلل المريض: عالجه من علته. أبل العليل: برئ. غنِم الشيء غنْمًا: فاز به. 3- الأسى: الحزن. الردى: الهلاك، الموت. الشمول: من أسماء الخمر. 4- استباه: أسره، أو استماله وجذبه. عنوة: أي: قسرًا وقهرًا وغلبة. الصقيل: المجلوّ. 5- سيف مسلول: مشهر، مخرج من غمده. 6- العاني: الأسير، أو الذليل. 7- سرَّح فلانًا: أطلقه، أو أرسله، أو أخلاه من عمله، وسرح المرأة: طلقها. 8- العذار: جانب اللحية. ص -79- أخضر في أبيض تبدى ذلك آسي وذا بَهَارِي1 فقد حوى مجلسي تمامًا إن كان من رِيقِه عُقَارِي2 وبينا هو يومًا في قبة له يكتب شيئًا، أو يطالع، وعنده بعض كرائمه، فدخلت عليه الشمس من بعض الكُوَى الكائنة فيها، فقامت دونه تستره من الشمس، فقال -رحمه الله- بديهًا: من البسيط قامت لتحجبَ ضوء الشمس قامتها عن ناظري، حُجبَتْ عن ناظر الغيرِ3 علمًا لعمرك منها أنها قمرٌئ هل تكسفُ الشمسَ إلا صورة القمر! وبينا جارية من كرائمه قائمة على رأسه تسقيه والكأس في يدها، إذ لمع البرق فارتاعت؛ فقال -رحمه الله- بديهًا: من السريع رِيعَتْ منَ البرقِ وفي كفها برْق من القهوة لمَّاع4 عجبتُ منها وهي شمس الضحى كيف من الأنوار ترتاع! وله مع هذا مقاطع حسان كان يرتجلها في مجالس أنسه، ولاستدعاء خاصة جلسائه، منعني من استيفائها قلة ما على خاطري منها. وسيمر من شعره الذي قاله في أيام محنته ما يفجر الصُّمَّ، ويزعزع الشُّمَّ5. وكان لا يستوزر وزيرًا إلا أن يكون أديبًا شاعرًا حسن الأدوات، فاجتمع له من الوزراء الشعراء ما لم يجتمع لأحد قبله. أبو الوليد بن زَيْدُون* فمن جملة وزرائه الوزير الأجلّ ذو الرياستين، أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن زيدون، ذو الأدب البارع، والشعر الرائع، أحد شعراء الأندلس المجيدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الآس: شجر دائم الخضرة، أبيض الزهر، ذو رائحة طيبة. البهار: زهر طيب الرائحة، ينبت في الربيع، ويقال له: العرار. 2- العقار: الخمر. 3- الغير: غير الدهر: أحداثه, وأحواله المتغيرة. 4- ريعت: فزعت. القهوة: من أسماء الخمر. 5- الصم: الصخور، والشم: الجبال. * ترجمته في: بغية الملتمس: 186؛ وفيات الأعيان: 139/1؛ البداية والنهاية: 111/12؛ شذرات الذهب: 312/3؛ كشف الظنون : 278، 841؛ إيضاح المكنون: 485/1؛ معجم المؤلفين: 284/1؛ الأعلام: 158/1؛ تاريخ الأدب العربي "فروخ": 588/4؛ جذوة المقتبس: 121؛ المطرب من أشعار أهل المغرب: 164. ص -80- وفحولها المبرزين. كان إذا نسب أنساك كُثيِّرًا1، وإذا مدح أزرى بزُهير2، واذا فخر أناف3 على امرئ القيس4؛ فمن جملة مقاطعه التي تشهد له بجودة الطبع وإتقان الصنعة قوله: من البسيط بيني وبينك ما لو شئتَ لم يضع سر إذا ذاعت الأسرار لم يَذِعِ يا بائعًا حظه مني ولو بُذِلتْ ليَ الحياة بحظي منه لم أبعِ يكفيك أنك إن حمَّلت قلبي ما لا تستطيع قلوب الناس, يستطعِ تِهْ أَحتملْ، واستطلْ أَصبرْ، وعِزَّ أهنْ وولِّ أُقبلْ، وقلْ أَسمعْ، ومرْ أُطعْ! وهو القائل -رحمه الله- يخاطب بني جهور، وكان قد وزر لهم قبل وزارته للمعتمد؛ لأن أصله من مدينة قرطبة، فنالته منهم محنة، فخرج عن قرطبة إلى إشبيلية وافدًا على المعتمد، فعلت رتبته عنده؛ فكان يبلغه عن بني جهور ما يسوءه في نفسه وقرابته بقرطبة، فقال يخاطبهم: من الطويل بني جهور أحرقتمو بجفائكم فؤادي، فما بال المدائح تعبقُ تعدونني كالعنبر الورد، إنما تفوح لكم أنفاسُه حين يُحرقُ ومن نسيبه الذي يختلط بالروح رقة, ويمتزج بأجزاء الهواء لطافة، قصيدته التي قالها يتشوق ابنة المهدي: ولادة5، وهي بقرطبة وهو بإشبيلية: من البسيط أضحى التنائي بديلًا من تدانينا وناب عن طِيب لقيانا تجافينَا6 بِنْتُم وبِنَّا, فما ابتلت جوانحنا شوقًا إليكم, ولا جفت مآقينِا7 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو كثير بن عبد الرحمن، المعروف بكثير عزة: شاعر حجازي غزل، عاش في العصر الأموي، وكانت وفاته سنة 105هـ/723م. "الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني: 2/9-38". 2- هو زهير بن أبي سلمى بن رياح المزني: شاعر جاهلي مُقدَّم مجيد، عُرف بحكمته ورويته ونفاذ بصيرته. توفي نحو 13 ق. هـ/نحو 609م. " الشعر والشعراء، ابن قتيبة: 76/1". وأزرى بالشيء: تهاون به وقصر. 3- أناف عليه: أشرف. 4- هو امرؤ القيس بن حجر الكندي: أمير الشعراء في الجاهلية. توفي نحو 80 ق. هـ/نحو 545م. "الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني: 76/9". 5- كذا وردت، والصواب: ولادة بنت المستكفي بالله، وهي شاعرة، أديبة، كانت تخالط الشعراء، وتساجل الأدباء. توفيت سنة 484هـ/ 1092م. "بغية الملتمس، الضبي: 547" 6- التنائي: التباعد. التداني: التقارب. التجافي: التباعد. 7- بان بَيْنًا: ابتعد. المآفي: العيون، أو أطرافها. ص -81- نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينَا1 حالت لفقدكم أيامنا فغدت سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينَا2 إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألفنا ومورد اللهو صافٍ من تصافينَا3 وإذ هصرنا غصون الأنس دانيةً قطوفها فجنينا منه ما شينَا4 ليُسقَ عهدُكم عهدُ السرور فما كنتم لأرواحنا إلا رياحينَا5 مَنْ مُبلِغ ملبسينا بانتزاحهمُ حزنًا مع الدهر لا يبلى ويُبلينَا6 أن الزمان الذي ما زال يضحكنا أُنْسًا بقربهم قد عاد يُبكينَا! غِيظ العِدَا من تساقينا الهوى فدعوْا بأن نَغَصَّ فقال الدهر: آمينَا7 فانحل ما كان معقودًا بأنفسنا وانبت ما كان موصولًا بأيدينَا8 وقد نكون وما يُخشى تفرقُنا فاليوم نحن وما يُرجى تلاقينَا ما حقنا أن تُقروا عين ذي حسد بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينَا9 يا ليت شعري ولم نعتب أعاديَكمْ هل نال حظًّا من العُتْبى أعادينَا10 لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم رأيًا, ولم نتقلد غيره دينَا11 كنا نرى اليأس تُسْلينا عوارضُه وقد يئسنا, فما لليأس يغرينا!12 يا ساريَ البرق غادِ القصر فاسق به من كان صِرْف الهوى والود يسقينَا13 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- ناجاه مناجاة ونِجاء: سارَّه. الأسى: الحزن. التأسي: التجلد والتصبر. 2- حالت: تغيرت. 3- الطلق "من الوجوه": الضاحك المستبشر، ومن الأيام والليالي: المشرق الخالي من الحر والبرد والريح والمطر وكل أذًى. تألفنا: اجتماعنا وتوافقنا. صافى فلانًا: صدقه المحبة والمودة, وتصافيا: تخالصا في الود. 4- هصر الغصن: جذبه وأماله، أو عطفه وكسره من غير فصل. ما شينا: ما شئنا. 5- الرياحين: جمع الريحان: نبات طيب الرائحة. 6- انتزح فلان: ابتعد. 7- غص بالماء ونحوه غصًّا وغَصَصًا: وقف في حلقه فلم يكد يسيغه. 8- انبت: انقطع. 9- قرت العين: هدأت وسكنت، كناية عن الرضا والسرور. الكاشح: العدو المبغض. 10- أعتب فلانًا: أرضاه بعد العتاب. وعتب عليه: لامه. العتبى: الرضا. 11- تقلد الأمر: احتمله. 12- تسلينا: تنسينا. 13- الساري: السائر ليلًا. غاد القصر: باكره. الصرف: المحض، الخالص. ص -82- واسأل هنالك هل عيني تُذكِّرني إلفًا تذكُّره أمسى يُعنِّينَا1 ويا نسيمَ الصَّبَا بلغ تحيتنا من لو على البعد حيًّا كان يُحْيينَا من لا يرى الدهر يَقضينا مُساعَفَةً فيه, وإن لم يكن عنا يُقاضينَا2 وبيت ملك كأن الله أنشأه مسكًا, وقد أنشأ الله الوَرَى طينَا3 أو صاغه وَرِقًا محضًا وتَوَّجه من ناصع التِّبْرِ إبداعًا وتحسينَا4 إذا تأوَّد آدَته رفاهيةٌ تُدمي العقول وأدمته البُرَى لِينَا5 كأنما نبتت في صحن وَجْنَته زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينَا ما ضر أن لم نكن أكفاءَهُ شرفًا وفي المودة كافٍ من تكافينَا6 ولا تحسَبوا نأيكم عنا يغيرنا إذ طال ما غيَّر النأْيُ المحبينَا7 والله ما طلبت أهواؤُنا بدلًا منكم ولا أنصرفت عنكم أمانينَا ولا استفدنا خليلًا عنك يَشغَلنا ولا اتخذنا بديلًا منك يُسلينَا يا روضةً طال ما أجنت لواحظنا وردًا جناه الصِّبا غضًّا ونَسْرينَا8 ويا حياةً تملَّأْنا بزهرتها مُنًى ضُروبًا ولذَّاتٍ أفانينَا9 ويا نعيمًا حضرنا من غضارته في وَشْيِ نُعمى سحبنا ذيلها حينَا10 لسنا نسميكِ إجلالًا وتَكْرمةً فقدرك المعتلي عن ذاك يُغنينَا إذِ انفردتِ فما شُوركتِ في صفة فحسْبُكِ الوصف إيضاحًا وتبيينًا يا جنةَ الخلدِ أُبدلنا بسَلْسلها والكوثرِ العذبِ زُقُّومًا وغِسْلِينَا11 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- يعنينا: يتعبنا. 2- المساعفة: يقال: ساعف فلانًا وأسعفه: واتاه وقرُب منه في مصافاة ومعاونة. 3- الورى: الخلق. 4- صاغ المعدن: سبكه، أو صنعه على مثال مستقيم. الورق: الفضة. التبر: الذهب. 5- تأود: تعوج وتثنى. آدته: قوته وآزرته. البرى: جمع البُرَة: الخلخال. 6- الأكفاء: جمع الكفء: المماثل. 7- النأي: البُعْدُ. 8- اللواحظ: العيون. الغض: الطري النضر. 9- تملأ من الشيء: شبع، ومنه: ملأت منه عيني: أعجبني منظره، فأدمتُ النظر إليه. 10- الغضارة: السعة والنعمة. 11- السلسل: الماء العذب الصافي، السهل المرور في الحلق. الزقوم: شجرة مرة كريهة الرائحة،= ص -83- كأننا لم نبِتْ والوصل ثالثنا والسعد قد غض من أجفان واشينَا1 سِرَّانِ في خاطر الظلماء يكتمنا حتى يكاد لسان الصبح يُفشينَا2 لا غَرْوَ في أن ذكرنا الحزن حين نهت عنه النُّهَى، وتركنا الصبر ناسينَا3 أنَّا قرأنا الأسى يوم النوى سُورًا مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينَا4 إن كان قد عز في الدنيا اللقاءُ ففي مواقف الحشر نلقاكم، ويكفينَا5 أما هواك فلم نعدل بمَنْهله شَرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينَا6 لم يخفَ أُفْقُ جمال أنت كوكبُهُ سالين عنه، ولم نهجره قالينَا7 ولا اختيارًا تجنَّبناك عن كَثَبٍ لكن عدتنا على كره عوادينَا8 نأسى عليك إذا حثت مُشَعْشَعة فيها الشَّمول وغنانا مغنينَا9 لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا سيما ارتياحٍ ولا الأوتار تلهينَا10 دومي على العهد -ما دمنا- محافظةً فالحر من دان إنصافًا كما دينَا11 فما ابتغينا خليلًا منك يحبسنا ولا استفدنا حبيبًا عنك يغنينَا12 ولو صبا نحونا من عُلْوِ مطلعه بدر الدُّجَى لم يكن حاشاك يصبينَا13 أولي وفاءً وإن لم تبذلي صلة فالذكر يقنعنا والطيف يكفينَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = ثمرها طعام أهل النار. قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43]. الغسلين: ما يسيل من جلود أهل النار كالقيح وغيره. قال تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36]. 1- غض البصر: كفه وخفضه. الواشي: الذي ينقل أخبار المحبين، ويسعى إلى إفساد علاقاتهم. 2- أفشى الخبر أو السر: نشره وأذاعه. 3- النهى: العقل. 4- الأسى: الحزن. النوى: البعد. تلقينا: يقال: لقنه الكلام: ألقاه إليه ليعيده. 5- عز الشيء: قل فلا يكاد يوجد، وعز عليه الأمر: اشتد. الحشر: أي: يوم القيامة. 6- المنهل: المورِد، المشرَب. 7- القالي: المبغض. 8- عدا عليه عدوًا وعدوانًا: ظلمه وتجاوز الحد. العوادي: جمع العادية, مؤنث العادي: العدو. وعوادي الدهر: نوائبه. 9- مشعشعة: أي: خمر مشعشعة: ممزوجة بالماء. الشمول: من أسماء الخمر. 10- الشمائل: الطباع. السيما: العلامة. قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29]. 11- دان فلان: اعتقد أو أطاع وخضع، أو جازى، أو أحسن. 12- الخليل: الصاحب, أو الرفيق، أو الحبيب. 13- صبا: مال، أو حن وتشوق. ص -84- وفي الجواب قناع لو شفعت به بيض الأيادي التي ما زلت تُولينَا1 عليكِ مني سلام الله ما بقيتْ صَبابة منك تخفيها فتخفينَا2 أوردتها على الاختيار لا على النسق، ولعل في كثير مما تركت منها أحسن مما أوردت، وإنما منعني من استيفائها الوفاء بشرط التلخيص. ومن شعره -رحمه الله-، مما قاله في مدة صباه: من البسيط أخذت ثلث الهوى غصبًا ولي ثلث وللمحبين فيما بينهم ثلثُ تالله لو حلف العشاق أنهمو موتى من الوجد يوم البَيْنِ ما حنَثُوا3 قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا ماتوا، فإن عاد من يهوَوْنه بُعِثُوا ترى المحبين صرعى في عِرَاصهم كفتية الكهف ما يدرون ما لبثُوا4 ومما قال -رحمه الله- يتشوق ابنة المهدي المذكورة5 ومعاهده بقرطبة، وضمنها بيت أبي الطيب6 في أول قصيدته الكافورية7: من البسيط بِمَ التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكنُ؟!8 قصيدة أولها: من البسيط هل تذكرون غريبًا عاده شجن من ذكركم وجفا أجفانه الوَسَنُ9 يخفي لَوَاعِجَه والشوق يفضحه فقد تساوى لديه السر والعلنُ10 يا ويلتاه! أيبقى في جوانحه فؤاده وهو بالأطلال مرتهنُ11 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- أولى فلانًا معروفًا: صنعه إليه. 2- الصبابة: رقة الشوق وحرارته. 3- البين: البعد والفراق. حنث في يمينه حنثًا: لم يبر فيها وأثم. 4- صرعى: جمع صريع: المطروح أرضًا. العراص: جمع العرصة: ساحة الدار. 5- هي ابنة المستكفي كما أوضحنا سابقًا. 6- هو أبو الطيب المتنبي، أحمد بن الحسين الجعفي الكندي، الشاعر العباسي المشهور، المتوفى سنة 354هـ/ 965م. 7- الكافورية: أي: التي قالها في كافور الإخشيدي سلطان مصر في زمانه. والقصيدة في ديوانه: 281/2. 8- النديم: الصاحب على الشراب. 9- الشجن: الحزن. الوسن: النعاس. 10- اللواعج: جمع اللاعج: الهوى المحرق. 11- الجوانح: الضلوع، الواحدة: جانحة. الأطلال: ما بقي شاخصًا من الديار، الواحد: طلل. ص -85- وأرق العين والظلماء عاكفة وَرْقاء قد شفها، أو شفني، حزنُ1 فبتُّ أشكو وتشكو فوق أَيْكَتها وبات يهفو ارتياحًا بيننا الغُصُنُ2 يا هل أجالس أقوامًا أحبهم كنا وكانوا على عهد فقد ضَغِنُوا3 أو تحفظون عهودًا لا أضيعها إن الكرام بحفظ العهد تُمتحنُ ومنها: إن كان عادكم عيد فرُبَّ فتًى بالشوق قد عاد من ذكراكم حَزَنُ4 وأفردته الليالى من أَحِبَّته فبات ينشدها مما جنى الزمنُ: بم التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟! أبو بكر بن عَمَّار* ومنهم الوزير أبو بكر محمد بن عمار5، ذو النفس العصامية، والآداب الأهتمية؛ كان أحد الشعراء المجيدين على طريقة أبي القاسم محمد بن هانئ الأندلسي6، وربما كان أحلى منزعًا منه في كثير من شعره. ولشعره ديوان يدور بين أيدي أهل الأندلس، ولم أُلْفِ أحدًا ممن أدركتْه سِنِّى من أهل الآداب الذين أخذت عنهم إلا رأيته مقدمًا له مؤثرًا لشعره، وربما تغالى بعضهم فشبهه بأبي الطيب، وهيهات!. فمن قصائده المشهورة التي أجاد فيها ما أراد: قصيدته التي كتب بها من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- أرق العين: منعها. عاكفة: مقيمة، ملازمة. ورقاء: حمامة. شفه الحزن: أنحله وأهزله. 2- الأيكة: الشجر الكثيف الملتف. هفا الغصن: تحرك واضطرب. 3- ضغن عليه: حقد وأبغضه بغضًا شديدًا. 4- عاد الشيء فلانًا: أصابه مرة بعد أخرى، وعاد الشيء: أتاه مرة بعد أخرى. وعاد إليه وله وعليه: رجع, وارتد. * ترجمته في: شذرات الذهب 356/3؛ المطرب من أشعار المغرب: 169؛ وفيات الأعيان: 425/4؛ الأعلام: 310/6؛ معجم المؤلفين: 74/11؛ تاريخ الأدب العربي "فروخ": 638/4؛ هدية العارفين: 74/2. 5- هو أبو بكر، محمد بن عمار بن الحسين بن عمار المَهْرِيّ، نسبة إلى مَهْرَة، وهي قبيلة عربية من قضاعة، ويقال له أيضًا: الشِّلْبي والأندلسي، ويلقب بذي الوزارتين. 6- هو أبو القاسم، محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الأزدي الأندلسي: شاعر مجيد، كان عند المغاربة كالمتنبي عند المشارقة. توفي سنة 362هـ/ 973م. "شذرات الذهب، ابن العماد. 41/3". ص -86- سرقسطة حين فرق المعتضد بالله بينه وبين المعتمد -لأنه شغله عن كثير من أمره فنفاه- وهي: من الطويل عليَّ، وإلا ما بكاء الغمائم وفيَّ، وإلا ما نياح الحمائمِ وعني أثار الرعد صرخة طالبٍ لثأر وهز البرق صفحة صارمِ1 وما لبست زهر النجوم حِدَادها لغيري, ولا قامت له في مآتمِ2 وفي هذه القصيدة يقول -يمدح المعتضد بالله-: إذا ركِبوا فانظره أول طاعنٍ وإن نزلوا فارصده آخرَ طاعمِ3 أبى أن يراه الله إلا مقلدًا حَمِيلة سيفٍ أو حَمَالة غارمِ4 ومن جيد نسيبه قوله في قصيدة يمدح بها المعتضد بالله: من الكامل جاه الهوى -فاستشعروه- عاره ونعيمه -فاستعذبوه- أُوارُه5 لا تطلبوا في الحب عزًّا إنما عُبدانه في حكمه أحرارُه6 قالوا: أضربك الهوى فأجبتهم يا حبذاه وحبذا إضرارُه قلبي هو اختار السَّقام لجسمه زِيًّا، فخلوه وما يختارُه عيرتموني بالنحول وإنما شرف المُهَنَّد أن ترق شِفارُه7 وشمتم لفراق من آلفتُهُ ولربما حجب الهلال سِرارُه8 أحسِبتم السُّلوان هب نسيمه أو أن ذاك النوم عاد غِرارُه9 إن كان أعيا القلب من حرب الجَوَى خذلته من دمعى إذًا أنصارُه10 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الصارم: السيف القاطع. 2- النجوم الزهر: المتلألئة. 3- رصده رصْدًا ورصَدًا: رقبه. 4- في رواية: "أبى أن يراه الله غير مقلدٍ حمالة سيف............." الحميلة: علاقة السيف ونحوه. الحمالة: الدية، أو الغرامة يحملها قوم عن قوم. 5- الجاه: المنزلة والقدر. الأوار: اللهب، أو حر الشمس والنار. 6- العبدان: العبيد، الواحد: عبد. 7- المهند: السيف المصنوع في الهند. الشفار: جمع الشفرة: ما عُرِّض وحُدِّد من الحديد، كحد السيف والسكين والخنجر وغير ذلك. 8- السرار: سرار الشهر: آخر ليلة فيه، ويقال: استسرَّ القمر: خفي ليلة السرار. 9- السلوان: النسيان مع طيب نفس. الغرار: القليل من النوم. 10- أعيا: تعب. الجوى: حرقة الحب والوجد. ص -87- من قدَّ قلبي إذ تثنى قده وأقام عذري إذ أطل عذارُه1 أم من طوى الصبح المنير نِقَابه وأحاط بالليل البَهيم خمارُه2 غصنٌ ولكن النفوس رياضه رَشَأٌ, ولكن القلوب عَرَارُه3 سخرت ببدر التِّمِّ غُرَّتُه كما أزرت على آفاقه أزرارُه4 ما زال ليل الوصل من فَتَكاته تَسري إليَّ بعَرْفِه أسحارُه5 ويجود روض الحسن من وجناته دمعي فيندى رَنْدُه وبَهَارُه6 حتى سقاني الدهر كأس فِرَاقه فسكرتُ سُكرًا لا يفيق خُمَارُه7 ووقفت في مثل المُحصَّب موقفًا للبَيْن من حب القلوب جِمَارُه8 حيران أعمى الطَّرْف وهو سماؤه وأذاب فيه القلب وهو قرارُه9 ولئن يُذِبْه وهو مثواه فكم قد أحرقت عود العفارة نارُه10 إن يهنه أني أضعت لحبه قلبي وذاعت عنده أسرارُه فليهن قلبي أن شكاه وشاحه لسواره فاقتص منه سوارُه!11 فوحسنه لقد انتدبت لوصفه بالبخل لولا أن حِمْصًا دارُه بلد رمتنى بالمُنى أغصانه وتفجرت لي بالندى أنهارُه ولابن عمار هذا مع المعتمد أخبار عجيبة عُني بجمعها أهل الأندلس، وأنا إن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- قد القلب: شقه. 2- النقاب: القناع تجعله المرأة على مارن أنفها تستر به وجهها. ليل بهيم: شديد السواد. الخمار: ثوب تغطي به المرأة رأسها. 3- الرشأ: ولد الظبية إذا قوي وتحرك ومشى مع أمه. العرار: نبات طيب الرائحة. 4- بدر التم: القمر ليلة اكتماله. 5- فتكاته: يقال: فتك فتكًا: ركب ما تدعو إليه نفسه غير مبالٍ. العرف: الرائحة الطيبة. الأسحار: جمع السَّحَر: آخر الليل قبيل طلوع الفجر. 6- يجوده: يصيبه، يقال: جاد المطر الأرض: أصابها، وجاد المطر القوم: عم أرضهم وشملهم. الرند: شجر طيب الريح، أو الآس. البهار: زهر طيب الريح، ينبت في الربيع. 7- الخمار من "الخمر": ما يصيب شاربها من ألمها وصداعها، أو ما خالط الإنسان من سكر الخمر. 8- المحصب: موضع رمي الجمار بمنًى. الجمار: جمع الجمرة: الحصاة الصغيرة. 9- الطرف: العين، أو النظر. القرار: المكان المنخفض, يجتمع فيه الماء. 10- المثوى: المقام، مكان الإقامة. 11- الوشاح: نسيج عريض يرصع بالجوهر، تشده المرأة بين عاتقها وكَشْحَيها. ص -88- شاء الله مورد منها ما لا يخل بالشرط الذي التزمته، ولا يخرج عن الحد الذي رسمته، حسبما بقي على خاطري من ذلك؛ لأني كنت في حداثة سني قد صرفت عنايتي إلى أخبار ابن عمار هذا مع المعتمد، لما تضمنتْه من الآداب. وقد فتشت خِزانة حفظي فلم ألف1 فيها إلا نبذة يسيرة، وأنا موردها إن شاء الله عز وجل. فابن عمار هذا هو محمد بن عمار، يكنى أبا بكر، أصله من شِلْب، من قرية من أعمالها يقال لها شنبوس. مولده ومولد آبائه بها. كان خامل2 البيت ليس له ولا لأسلافه في الرياسة في قديم الدهر ولا حديثه حظ، ولا ذُكِرَ منهم بها أحد. ورد مدينة شلب طفلًا فنشأ بها، وتعلم علم الأدب على جماعة، منهم: أبو الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم3. ثم رحل إلى قرطبة فتأدب بها، ومهر في صناعة الشعر، فكان قُصَارَاهُ التكسب به، فلم يزل يجول في الأندلس مسترفدًا لا يخص بمدحه الملوك دون غيرهم، بل لا يبالي ممن أخذ ولا من استعطف من ملك أو سُوقة، وله في ذلك خبر ظريف: وذلك أنه ورد في بعض سفراته شلب، لا يملك إلا دابة لا يجد علفها، فكتب بشعر إلى رجل من وجوه أهل السوق، فكان قدره عند ذلك الرجل أن ملأ له المخلاة شعيرًا ووجه بها إليه؛ فرآها ابن عمار من أجل الصلات وأسنى الجوائز. ثم اتفق أن علت حال ابن عمار وساعده الجد ونهض به البخت، وانتهى أمره أن ولاه المعتمد على الله مدينة شلب وأعمالها، أول ما أفضى الأمر إليه، فدخلها ابن عمار في موكب ضخم وجملة عبيد وحشم، وأظهر نخوة لم يظهرها المعتمد على الله حين وليها أيام أبيه المعتضد بالله؛ فكان أولَ شيء سأل عنه، الرجلُ صاحبُه صاحبُ الشعير، فقال: ما صنع فلان، أهو حي؟ قالوا: نعم؛ فأرسل إليه بمخلاته بعينها بعد أن ملأها دراهم، وقال لرسوله: قل له: لو ملأتها بُرًّا لملأناها تبرًا. ولم يزل ابن عمار على الحال التي ذكرناها، من التقلب في بلاد الأندلس للاستجداء والاستعطاف، إلى أن ورد على المعتضد بالله أبي عمرو، فامتدحه بقصيدته المشهورة التي أولها: من الكامل أَدِرِ الزجاجة فالنسيم قد انبرى والنجم قد صرف العِنان عن السُّرَى4 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- لم ألف: لم أجد. 2- الخامل: يقال: خَمَل الرجل: خفي فلم يُعرف, ولم يُذكر. 3- هو يوسف بن عيسى بن سليمان النحوي، المعروف بالأعلم، ويكنى أبا الحجاج: عالم باللغة والأدب والشعر، من أهل شنتمرية. توفي سنة 476 هـ بإشبيلية. "الصلة، ابن بشكوال: 524". 4- انبرى: عرض. العنان: سير اللجام الذي تُمسك به الدابة، استعاره للنجم. وصرف الشيء صرفًا: رده عن وجهه. السرى: السير في الليل. ص -89- والصبح قد أهدى لنا كافوره لما استرد الليل منا العنبرَا1 وفيها قال يمدح المعتضد: عَبَّادٌ المُخْضَرُّ نائل كفه والجو قد لبس الرداء الأغبرَا2 قَدَّاح زَنْد المجد لا ينفك من نار الوغى إلا إلى نار القِرَى3 يختار أن يهب الخريدة كاعبًا والطِّرْف أجرد والحسام مُجوهرَا4 وفي هذه القصيدة يقول في وصف وقعة أوقعها المعتضد بالبربر: شقيتْ بسيفك أمة لم تعتقد إلا اليهود وإن تسموا بربرَا أثمرت رمحك من رءوس كُماتهم لما رأيت الغصن يعشق مُثمرَا5 وخضبت سيفك من دماء نُحورهم لما عهدت الحسن يلبس أحمرَا6 ومن أبيات هذه القصيدة بيت لم أسمع لمتقدم ولا متأخر بمثله، وهو قوله: السيف أفصح من زيادٍ خطبةً في الحرب إن كانت يمينك منبرَا7 ولما أنشد المعتضد هذه القصيدة استحسنها وأمر له بمال وثياب ومَرِكَب، وأمر أن يكتب في ديوان الشعراء؛ فكان كذلك. ثم تعلق بالمعتمد على الله وهو إذ ذاك شاب، فلم تزل حاله معه تتزيد، ومَوَاتُّ8 خدمته له تقوى وتتأكد، إلى أن صار ابن عمار ألزق بالمعتمد من شعرات قَصِّه9، وأدنى إليه من حبل وريده10؛ كان المعتمد لا يستغني عنه ساعة من ليل ولا نهار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الكافور: شجر يتخذ منه مادة شفافة، رائحتها عطرية، وطعمها مر، وهو أصناف كثيرة. العنبر: مادة صلبة، لا طعم لها ولا ريح إلا إذا سُحقت أو أُحرقت. 2- لبس الرداء الأغبر: أي: علاه الغبار، أو اشتد غباره، أو تلون بلون الغبار. 3- الوغى: الحرب. القرى: ما يقدم للضيف من طعام وشراب. 4- الخريدة: الفتاة العذراء البكر. الكاعب: الفتاة التي نهد ثديها، أي: ارتفع وبرز. الطرف: العتيق الكريم من الخيل. الأجرد: القليل الشعر. الحسام: السيف. مجوهر: مرصع بالجوهر. 5- الكماة: جمع الكَمِي: البطل أو الفارس التام السلاح. 6- خضبت: صبغت، لطخت. النحور: جمع النحر: أعلى الصدر. 7- زياد: يعني زياد بن أبيه، وهو من خطباء بني أمية المشهورين. 8- المواتُّ: جمع ماتَّة: الحرمة أو الوسيلة. 9- القص: عظم الصدر المغروز فيه أطراف الأضلاع من الجانبين. 10- حبل الوريد: عرق تزعم العرب أنه من الوتين، وهو الشريان الرئيس الذي يغذي جسم الإنسان بالدم النقي الخارج من القلب. وهو من قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ,} "ق: 16". ص -90- ثم اتفق أن ولي المعتمد على الله شلب من قبل أبيه، فاستوزر ابن عمار هذا في تلك الولاية، وسلم إليه جميع أموره، فغلب عليه ابن عمار غلبة شديدة، وساءت السمعة عنهما... فاقتضى نظر المعتضد التفريق بينهما، ونفى ابن عمار عن بلاده حسبما تقدم الإيماء إليه. فلم يزل ابن عمار مغتربًا في أقاصي بلاد الأندلس، إلى أن توفي المعتضد بالله، فاستدعاه المعتمد، وقربه أشد تقريب، حتى كان يشاركه فيما لا يشارك فيه الرجل أخاه ولا أباه. وله معه أيام كونهما بشلب خبر عجيب؛ وذلك أن المعتمد استدعاه ليلة إلى مجلس أنسه، على ما كانت العادة جارية به، إلا أنه في تلك الليلة زاد في التحفِّي1 به والبر له على المعتاد، فلما جاء وقت النوم أقسم المعتمد عليه: لتضعن رأسك معي على وساد واحد! فكان ذلك. قال ابن عمار: فهتف بي هاتف في النوم يقول: لا تغتر أيها المسكين؛ إنه سيقتلك ولو بعد حين! قال: فانتبهت من نومي فَزِعًا, وتعوذت, ثم عدت, فهتف بي الهاتف على حالته الأولى, فانتبهتُ، ثم عدت، فسمعته ثالثة؛ فانتبهت فتجردت من أثوابي والتففت في بعض الحصُر، وقصدت دهليز القصر مستخفيًا به، وقد أزمعت على أني إذا أصبحت خرجت مستخفيًا حتى آتي البحر فأركبه وأقصد بلاد العدوة فأكون في بعض جبال البربر حتى أموت. فانتبه المعتمد فافتقدني فلم يجدني، فأمر بطلبي، فطُلبتُ له في نواحي القصر، وخرج هو بنفسه يتوكأ على سيفه والشمعة تُحمل بين يديه؛ فكان هو الذي وقع علي؛ وذلك أنه أتى دهليز القصر يفتقد الباب هل فتح؛ فوقف بإزاء الحصير الذي كنت فيه، فكانت مني حركة فأحس بي، وقال: ما هذا يتحرك في هذا الحصير؟ ثم أمر به فنُفض، فخرجت عريانًا ليس علي إلا السراويل! فلما رآني فاضت عيناه دموعًا وقال: يا أبا بكر، ما الذي حملك على هذا؟ فلم أر بُدًا من أن صدقته، فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها، فضحك وقال: يا أبا بكر، أضغاث أحلام، هذه آثار الخُمار، ثم قال لي: وكيف أقتلك؟ أرأيت أحدًا يقتل نفسه؟ وهل أنت عندي إلا كنفسي؟ فتشكر له ابن عمار ودعا له بطول البقاء، وتناسى الأمر فنسيه، ومرت على ذلك الأيام والليالي، إلى أن كان من أمره ما سيأتي الإيماء إليه، فصدقت رؤيا ابن عمار، وقتل المعتمد نفسه كما قال!. ولما أفضى الأمر إلى المعتمد كما ذكرنا، سأله ابن عمار ولاية شلب، وهي كانت بلده ومنشأه كما تقدم؛ فأجابه المعتمد إلى ذلك وولاه إياها أَنْبَهَ ولاية؛ جعل إليه جميع أمورها، خارجها وداخلها. فاستمرت ولاية ابن عمار عليها إلى أن اشتد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- تَحفَّى بفلان: احتفل به. ص -91- شوق المعتمد إليه، وضعف عن احتمال الصبر عنه؛ فاستدعاه وعزله عنها واستوزره؛ فكانت حاله معه شبيهة بحال جعفر بن يحيى1 مع الرشيد. ولم يزل المعتمد يعده لكل أمر جليل، ويؤهله لكل رتبة عالية. وكان ابن عَمَّار مع هذا لا يناط به أمر إلا اضطلع به وكان فيه كالسكة المحماة. واشتهر أمره ببلاد الأندلس حتى كان ملك الروم الأدفنش إذا ذُكر عنده ابن عمار قال: هو رجل الجزيرة! وكان ابن عمار هو الذي رده عن قصد إشبيلية وقرطبة وأعمالهما؛ وذلك أنه خرج في جيوش ضخمة يقصد بلاد المعتمد طامعًا فيها، فخافه الناس، وامتلأت صدور أهل تلك الجهات رعبًا منه، وتيقنوا ضعفهم عن دفاعه؛ فتولى ابن عمار رده بألطف حيلة وأيسر تدبير, وذلك أنه أقام سُفرة شطرنج في غاية الإتقان والإبداع، لم يكن عند ملك مثلها، جعل صورها من الآبنوس2 والعود الرطب والصندل3، وحلاها بالذهب، وجعل أرضها في غاية الإتقان؛ فخرج من عند المعتمد رسولًا إلى الأدفنش، فلقيه في أول بلاد المسلمين، أعظم الأدفنش قدومه وبالغ في إكرامه، وأمر وجوه دولته بالتردد إلى خبائه والمسارعة في حوائجه؛ فأظهر ابن عمار تلك السفرة، فرآها بعض خواص الأدفنش، فنقل خبرها إليه. وكان العلج -أعني: الأدفنش- مولعًا بالشطرنج، فلما لقي ابن عمار سأله: كيف أنت في الشطرنج؟ وكان ابن عمار فيه طبقةً عالية، فأخبره بمكانه منه؛ فقال له: بلغني أن عندك سفرة في غاية الإتقان! قال ابن عمار: نعم؛ فقال: كيف السبيل إلى رؤيتها؟ فقال ابن عمار لترجمانه: قل له: أنا آتيك بها على أن ألعب معك عليها، فإن غلبتني فهي لك، وإن غلبتك فلي حكمي! فقال له الأدفنش: هلمها لننظر إليها. فأمر ابن عمار من جاء بها، فلما وُضعت بين يدي العلج صَلَّب وقال: ما ظنت أن إتقان الشطرنج يبلغ إلى هذا الحد! ثم قال لابن عمار: كيف قلت؟ فأعاد عليه الكلام الأول، فقال له الأدفنش: لا ألعب معك على حكم مجهول لا أدري ما هو، ولعله شيء لا يمكنني! فقال ابن عمار سر ما أراده لرجال وثق بهم من وجوه دولة الأدفنش، وجعل لهم أموالًا عظيمة على أن يؤازروه على أمره، ففعلوا. فتعلقت نفس العلج بالسفرة، وشاور خاصته فيما رسمه ابن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو الفضل، جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي: وزير الرشيد العباسي. وُلد ونشأ ببغداد، وكان الرشيد يدعوه: أخي، فانقادت له الدولة، يحكم بما يشاء فلا تُرد أحكامه، إلى أن نقم الرشيد على البرامكة، فقتله في مقدمتهم. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 152/7". 2- الآبنوس: شجر ينبت في الحبشة والهند، خشبه أسود صلب، ويصنع منه بعض الأدوات والأواني والأثاث. 3- الصندل: شجر خشبه طيب الرائحة، يظهر طيبها بالدلك والإحراق. ص -92- عمار، فهونوا عليه وقالوا له: إن غلبته كانت عندك سفرة ليس عند ملك مثلها، وإن غلبك فما عساه أن يحتكم؟ وقبحوا عنده إظهار الملك العجز عن شيء يطلب منه، وقالوا له: إن طلب ابن عمار ما لا يمكن, فنحن لك برده عن ذلك. ولم يزالوا به حتى أجاب، وأرسل إلى ابن عمار فجاء ومعه السفرة، فقال له: قد قبلت ما رسمته! فقال له ابن عمار: فاجعل بيني وبينك شهودًا -أسماهم له- فأمر الأدفنش بهم فحضروا، وافتتحا يلعبان. وكان ابن عمار -كما ذكرنا- طبقة بالأندلس؛ لا يقوم له أحد فيها؛ فغلب الأدفنش غلبة ظاهرة لجميع الحاضرين، لم يكن للعلج فيها مطعن. فلما حقت الغلبة قال ابن عمار: هل صح أن لي حكمي؟ قال: نعم، فما هو؟ قال: أن ترجع من ههنا إلى بلادك! فاسود وجه العلج وقام وقعد، وقال لخواصه: قد كنت أخاف من هذا حتى هونتموه عليَّ! في أمثال لهذا القول، وهم بالنكث والتمادي لوجهه، فقبحوا ذلك عليه، وقالوا له: كيف يجمل بك الغدر وأنت ملك ملوك النصارى في وقتك! فلم يزالوا به حتى سكن، وقال: لا أرجع حتى آخذ إتاوة عامين خلاف هذه السنة! فقال ابن عمار: هذا كله لك! وجاءه بما أراد، فرجع وكف الله بأسه، ودفعه بحوله وحسن دفاعه عن المسلمين. ورجع ابن عمار إلى إشبيلية وقد امتلأت نفس المعتمد سرورًا به. ثم إن المعتمد حدث له أمل في التغلب على مرسية وأعمالها، وهي التي تعرف بـ تُدْمِير1؛ وكانت بيد أبي عبد الرحمن محمد بن طاهر، كان هو المتغلب عليها والمدبر لأمرها، فجهز المعتمد جيوشًا عظيمة، وتكفل له ابن عمار بأخذها وإخراج ابن طاهر عنها؛ فولاه ما تولى من ذلك. وخرج ابن عمار حتى نزل على مرسية، فأخذها وأخرج ابن طاهر عنها. فلحق ابن طاهر حين خرج من مرسية ببني عبد العزيز ببلنسية؛ فكان بها إلى أن مات -رحمه الله-. ولما تغلب ابن عمار على مرسية دار ملك بني طاهر كما ذكرنا، حدثته نفسه وسول له سوء رأيه أن يستبد بأمره، وأن يضبط تلك البلاد لنفسه؛ فلم يزل يصرف الحيلة في ذلك إلى أن تم له بعضه ودانت له مرسية وأعمالها، وطمع في ملك بلنسية؛ إلى أن قام عليه رجل من أهل مرسية يقال له: ابن رشيق، كان أبوه من عرفاء الجند بها؛ وكان ابن عمار قد خرج لبعض أمره، فدعا ابن رشيق هذا إلى نفسه، وقامت معه العامة وبعض الجند، فسمع ابن عمار بذلك، فجاء يركض حتى أتى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- تدمير: كورة في شرق الأندلس، قاعدتها مُرْسية، وكان يحكمها قبل الفتح العربي أمير قوطي من قرابة لذريق اسمه: تيودمير، وباسم هذا الأمير سمى العرب هذه الكورة. وقيل: بل سموها تدمير تشبيهًا لها بتدمر من بلاد الشام. وتقع تدمير شرقي قرطبة، وبينهما مسافة سبعة أيام للراكب القاصد. "معجم البلدان، الحموي: 19/2". ص -93- المدينة وقد غلَّقت أبوابها دونه؛ فحاصرها بمن معه أيامًا، فامتنعت عليه ولم يقدر على دخولها؛ فبقي حائرًا لا يدري ما يصنع ولا أين يتوجه، وقد كان بلغ المعتمد قيامه عليه وخلع يده من طاعته, فلم ير إلا الهروب ملجأ, فهرب حتى لحق ببني هود بسرقسطة، فأقام عندهم حتى ثقل عليهم وخافوا غائلته؛ وبغَّضه في عيونهم ما فعل مع صاحبه وولي نعمته، فأخرجوه عن بلادهم. ولم تزل البلاد تتقاذفه، وملوكها تَشْنأه1، إلى أن وقع في حصن من حصون الأندلس في غاية المنعة يدعى شَقورة2، كان المتغلب عليه رجل يقال له: ابن مبارك، فأكرم وفادته وأحسن نزله، ثم بدا له بعد أيام فقبض عليه وقيده وجعله في سجنه. فلما رأى ابن عمار ذلك منه قال له: لا عليك أن تكتب إلى ملوك الأندلس بكوني عندك وتعرضني عليهم، فما منهم إلا من يرغب في؛ فمن كان أشدهم رغبة جعل لك مالًا ووجهتَ بي إليه! ففعل ابن مبارك ذلك، فما عرضه على أحد من ملوك الأندلس إلا رغب فيه. وكتب فيمن كتب إلى المعتمد... وفي ذلك يقول ابن عمار: من السريع أصبحتُ في السوق يُنادى على رأسي بأنواع من المالِ والله ما جار على ماله من ضمني بالثمن الغالِي! وفي هذا السجن يقول ابن عمار وقد استدعى نورة3 يستنظف بها فتعذرت عليه، فاستدعى موسى فأُتي بها، فقال في ذلك: من المجتث بؤسى شَقُورة عندي أربى على كل بوسَى4 فقدت هارون فيها فظَلْتُ أطلب موسَى!5 وبعث المعتمد على الله من رجاله من تسلم ابن عمار من يد ابن مبارك، بعد أن بعث إليه بمال وخيل، وأمر المعتمد الذين تسلموا ابن عمار أن يزيدوا في الاحتياط عليه وتقييده. فخرجوا به حتى وافوا قرطبة، ووافق ذلك كون المعتمد بها، فدخلها ابن عمار أشنع دخول وأسوأه، على بغل بين عِدْلي تِبْن، وقيوده ظاهرة للناس. وقد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- تشنأه: تبغضه. 2- شقورة: حصن منيع شمالي مرسية، وهو رأس جبل عظيم، يخرج من أسفله نهران، أحدهما يمر بقرطبة، وثانيهما يمر ببلنسية. 3- النورة: حجر الكلس، أو أخلاط من أملاح الكالسيوم والباريون تستعمل لإزالة الشعر. 4- البؤسى: البؤس: المشقة، أو الفقر. أربى: زاد. 5- في البيت إشارة إلى موسى -عليه السلام- وأخيه هارون الذي ناصره وشد أزره. وفي قوله: "أطلب موسى" تورية لطيفة؛ إذ يحتمل المعنى: موسى -عليه السلام-، أو الآلة التي يحلق بها الشعر. ص -94- كان المعتمد أمر بإخراج الناس خاصة وعامة حتى ينظروا إليه على تلك الحال. وقد كان قبل هذا إذا دخل قرطبة اهتزت له وخرج إليه وجوه أهلها وأعيانهم ورؤساؤهم، فالسعيد منهم من يصل إلى تقبيل يده أو يرد عليه ابن عمار السلام، وغيرهم لا يصل إلا إلى تقبيل رِكابه أو طرف ثوبه، ومنهم من ينظر إليه على بعد لا يستطيع الوصول إليه. فسبحان مُحيل الأحوال ومُديل الدول!. فدخل ابن عمار قرطبة كما ذكرنا، بعد العزة القعساء1, والملك الشامخ، والرياسة الفارعة2، ذليلًا خائفًا فقيرًا لا يملك إلا ثوبه الذي عليه؛ فسبحان من سلبه ما وهبه، ومنعه ما كان به أمتعه. وأحبر بعض الموكلين به ما اتفق لهم معه من فرط ذكائه وسرعة فطنته، قال: لما قربنا من قرطبة بحيث يرانا الناس، خرج فارس من البلد يركض يقصدنا، فلما رآه ابن عمار -وكان معتمًّا- أزال العمامة عن رأسه، فجاء الفارس حتى وصل إلينا، فنظر إلى ابن عمار ودخل معنا في الصف فمشى، فسألناه فِيمَ جاء؟ فقال: الذي جئت فيه صنعه هذا الرجل قبل أن أصل إليه! فعلمنا أنه أُرسل ليزيل عمامته. فأدخل على المعتمد على الله على الحالة التي ذكرت، يرسف في قيوده3؛ فجعل المعتمد يعدد عليه أياديه ونعمه، وابن عمار في ذلك كله مطرق لا ينبس4، إلى أن انقضى كلام المعتمد؛ فكان من جواب ابن عمار أن قال: ما أنكر شيئًا مما يذكره مولانا -أبقاه الله-، ولو أنكرته لشهدت علي به الجمادات فضلًا عمن ينطق؛ ولكنى عثرت فأقل، وزللت فاصفح! فقال المعتمد: هيهات؛ إنها عثرة لا تقال! وأمر به فأحدر في النهر إلى إشبيلية، فدُخل به إشبيلية على الحال التي دخل عليها قرطبة، وجعل في غرفة على باب قصر المعتمد المعروف بالقصر المبارك -وهو باقٍ إلى وقتنا هذا- فطال سجنه هناك. كتبت عنه في هذا السجن قصائد لو توسل بها إلى الدهر لنزع عن جوره، أو إلى الفلك لكف عن دَوْره؛ فكانت رُقًى5 لم تنجع، ودعوات لم تسمع، وتمائم6 لم تنفع، فمنها قوله: من الطويل سجاياك إن عافيتَ أندَى وأسجَحُ وعذرك إن عاقبتَ أجلى وأوضحُ7 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- القعساء: الثابتة. 2- الفارعة: العالية. 3- رسف في قيده رَسْفًا ورسيفًا: مشى فيه مشيًا رويدًا. 4- لا ينبس: لا ينطق، لا تتحرك شفتاه بشيء. 5- الرقى: جمع رقية: العوذة التي يرقى بها المريض ونحوه. 6- التمائم: جمع تميمة: ما يعلق في العنق لدفع العين. 7- السجايا: جمع سجية: الطبيعة والخُلُق. سجح الشيء سجحًا وسجاحةً: سهُل ورفق. ص -95- وإن كان بين الخطتين مَزِية فأنت إلى الأدنى من الله تجنحُ1 حنانيك في أخذي برأيك، لا تطع عِدَاي ولو أثنوا عليك وأفصحُوا2 فإن رجائي أن عندك غير ما يخوض عدوي اليوم فيه ويمرحُ3 ولم لا وقد أسلفتُ وُدًّا وخدمة يَكُرَّان في ليل الخطايا فيصبحُ4 وهبني وقد أعقبت أعمال مفسد أما تفسد الأعمال ثُمَّتَ تَصلُحُ أقلني بما بيني وبينك من رضًا له نحو روح الله باب مُفتَّحُ وعَفِّ على آثار جُرْم سلكتُها بهبَّة رُحْمى منك تمحو وتُمصِحُ5 ولا تلتفت قول الوشاة ورأيهم فكل إناء بالذي فيه يرشَحُ6 سيأتيك في أمري حديث وقد أتى بزُور بني عبد العزيز موشحُ7 وما ذاك إلا ما علمت فإنني إذا ثُبت لا أنفك آسو وأجرحُ8 كأني بهم لا دَرَّ لله دَرُّهم أشاروا تجاهي بالشمات وصرحُوا وقالوا: سيجزيه فلان بفعله فقلت: وقد يعفو فلان ويصفحُ! ألا إن بطشًا للمؤيد يرتمي ولكن حلمًا للمؤيد يرجَحُ9 وماذا عسى الواشون أن يتزيدوا سوى أن ذنبي واضح مُتصححُ؟! نعم, لي ذنب غير أن لحلمه صَفاة يزل الذنب عنها فيسفحُ10 عليه سلام كيف دار به الهوى إلي فيدنو أو علي فينزحُ11 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- تجنح: تميل. 2- حنانيك: مصدر من المصادر المثناة التي تجب إضافتها إلى ضمير المخاطب في الغالب، وهي مثناة لفظًا من دون المعنى، ويراد بها التكرير، ومعنى حنانيك على هذا التعريف: تحنُّنًا بعد تحنن، أو حنانًا بعد حنان. أثنى على الرجل: امتدحه. 3- خاض القوم في الحديث خوضًا: تفاوضوا فيه. يمرح: يتبختر ويختال وينشط. 4- أسلفت: قدمت. كر: رجع، أو عاد مرة بعد أخرى. الخطايا: الآثام والذنوب. 5- عَفَّى على الأثر: محاه وأزاله، وعفى فلان على ما كان منه: جاء بالصلاح بعد الفساد. تُمصح: تُزيل، تُذهب. 6- يرشح: ينضح، يسيل. 7- الزور: الكذب، الباطل. 8- ثاب فلان: رجع. آسو: أُداوي، أُطبِّب. 9- البطش: العنف والشدة. يرجح: يثقل، يقال: رجحت إحدى الكفتين الأخرى: مالت بالموزون. 10- الصفاة: الضخرة الملساء. زل: زلِق. سفح: سال، انصب. 11- ينزح: يبتعد. ص -96- ويهنيه إن متُّ السُّلوُ فإنني أموت ولي شوق إليه مبرحُ1 وبين ضلوعي من هواه تميمة ستنفع لو أن الحمام يُجلّحُ2 ولما بلغت المعتمد هذه القصيدة وأنشدت بين يديه، كان بحضرته رجل من البغداديين، فجعل يزري على هذا البيت: وبين ضلوعي... ويقول: ما أراد بهذا المعنى؟ فكان من جواب المعتمد -رحمه الله- أن قال: أما لئن سلبه الله المروءة والوفاء، لما أعدمه الفطنة والذكاء؛ إنما نظر إلى بيت الهذلي3 من طرف خفي، وهو: من الكامل وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيتَ كل تميمة لا تنفعُ!4 ولم يزل ابن عمار هذا بسجن المعتمد، إلى أن قتله صبرًا في شهور سنة 479. وتلخيص خبر قتله، أنه لما طال سجنه كتب إليه بالقصيدة التي تقدم إنشادها، فأدركت المعتمدَ بعضُ الرقة، فوجه إليه ليلًا وهو في بعض مجالس أنسه، فأتي به يرسف في قيوده، فجعل المعتمد يعدد مننه عليه وأياديه قِبَله، فلم يكن لابن عمار جواب ولا عذر، غير أنه أخذ في البكاء، وجعل يترقق للمعتمد ويمسح عِطْفيه ويستجلب من الألفاظ كل ما يقدر أنه يزرع له الرأفة في قلب المعتمد؛ فتم له بعض ما أراد من ذلك، وعطفت المعتمد عليه سابقته وقديم حرمته؛ فقال له قولًا يتضمن العفو عنه تعريضًا لا تصريحًا؛ وأمر برده إلى محبسه؛ فكتب ابن عمار من فوره بما دار له مع المعتمد إلى ابنه الراضي بالله، فوافاه الكتاب وبحضرته قوم كانت بينهم وبين ابن عمار إِحَن5 قديمة؛ فلما قرأ الراضي الكتاب قال لهم: ما أرى ابن عمار إلا سيتخلص؛ فقالوا له: ومن أين علم مولانا ذلك؟ فقال: هذا كتاب ابن عمار يخبرني فيه أن مولانا المعتمد قد وعده بالخلاص؛ فأظهر القوم الفرح وهم يبطنون غيره؛ فلما قاموا من مجلس الراضي نشروا حديث ابن عمار أقبح نشر، وزادوا فيه زيادات قبيحة صُنت هذا الكتاب عن ذكرها. فبلغ المعتمد ذلك، فأرسل إلى ابن عمار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- السلو: النسيان مع طيب نفس. شوق مبرح: شديد. 2- جلح: سار سيرًا شديدًا، وجلح فلان: أقدم ومضى. 3- الهذلي: هو أبو ذؤيب، خويلد بن خالد بن محرث الهذلي: شاعر فحل مخضرم، سكن المدينة، واشترك في الغزو والفتوح، وهلك أبناؤه الخمسة بالطاعون في مصر. توفي نحو 27هـ/648م. "خزانة الأدب، البغدادي -صادر-: 203/1" 4-أنشب الشيء في غيره: أعلقه به. ألفاه: وجده وصادفه. والبيت في جمهرة أشعار العرب للقرشي:جـ 185/2. 5- الإحن: الأحقاد. ص -97- وقال له: هل أخبرت أحدًا بما كان بيني وبينك البارحة؟ فأنكر ابن عمار كل الإنكار، فقال المعتمد للرسول: قل له: الورقتان اللتان استدعيتَهما، كتبت في إحداهما القصيدة، فما فعلتَ بالأخرى؟ فادعى أنه بيَّض فيها القصيدة؛ فقال المعتمد: هلم المسوَّدة! فلم يجد جوابًا، فخرج المعتمد حنِقًا وبيده الطبرزين1 حتى صعد الغرفة التي فيها ابن عمار، فلما رآه علم أنه قاتله، فجعل ابن عمار يزحف وقيوده تثقله، حتى انكب على قدمي المعتمد يقبلهما، والمعتمد لا يثنيه شيء؛ فعلاه بالطبرزين الذي في يده، ولم يزل يضربه به حتى بَرَد2. ورجع المعتمد فأمر بغسله وتكفينه، وصلى عليه ودفنه بالقصر المبارك. فهذا ما انتهى إلينا من خبر ابن عمار ملخَّصًا حسبما بقي على خاطري. رجع الحديث عن بني عباد ولم يزل المعتمد هذا في جميع مدة ولايته والأيام تساعده، والدهر على ما يريده يؤازره ويعاضده، إلى أن انتظم له في ملكه من بلاد الأندلس ما لم ينتظم لملك قبله، أعنى: من المتغلبين. ودخلت في طاعته مدن من مدائنها أعيت الملوك وأعجزتهم، وامتدت مملكته إلى أن بلغت مدينة مرسية، وهي التي تعرف بـ تدمير، بينها وبين إشبيلية نحو من اثنتي عشرة مرحلة، وفي خلال ذلك مدن متسعة وقرًى ضخمة. وكان تغلبه على قرطبة، وإخراجه ابن عكَّاشة منها يوم الثلاثاء لسبع بقين من صفر سنة 471. ثم رجع إلى إشبيلية واستخلف عليها3 ولده عبادًا ولقبه بـ المأمون، وهو أكبر ولده، ولد له في حياة أبيه المعتضد، وسماه عبادًا، فكان المعتضد يضمه إليه ويقول: يا عباد، يا ليت شعري من المقتول بقرطبة، أنا أو أنت؟ فكان المقتولَ بها عبادٌ هذا في حياة أبيه المعتمد، وفي السنة التي زال عنهم الملك فيها. أول أمر المرابطين بالأندلس ولما كانت سنة 479 جاز المعتمد على الله البحر قاصدًا مدينة مراكش إلى يوسف بن تاشفين، مستنصرًا به على الروم، فلقيه يوسف المذكور أحسن لقاء، وأنزله أكرم نُزُل، وسأله عن حاجته، فذكر أنه يريد غزو الروم، وأنه يريد إمداد أمير المسلمين إياه بخيل ورجال؛ ليستعين بهم في حربه. فأسرع أمير المسلمين المذكور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الطبرزين: سلاح قديم يشبه الفأس. 2- برد الرجل: مات. 3- يعني: على قرطبة. ص -98- إجابته إلى ما دعاه إليه؛ وقال له: أنا أول منتدب لنصرة هذا الدين، ولا يتولى هذا الأمر أحد إلا أنا بنفسي!. فرجع المعتمد إلى الأندلس مسرورًا بإسعاف أمير المسلمين إياه في طِلْبَته1، ولم يدر أن تدميره في تدبيره؛ وسل سيفًا يحسبه له ولم يدر أنه عليه؛ فكان كما قال أبو فراس2: من الطويل إذا كان غير الله للمرء عُدة أتته الرَّزايا من وجوه الفوائدِ3 كما جرت الحنفاء حَتْفَ حُذيفة وكان يراها عُدة للشدائدِ!4 فأخذ أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في أهبة العبور إلى جزيرة الأندلس؛ وذلك في شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة، فاستنفر من قدر على استنفاره من القواد وأعيان الجند ووجوه قبائل البربر؛ فاجتمع له نحو من سبعة آلاف فارس في عدد كثير من الرَّجل؛ فعبر البحر بعسكر ضخم، وكان عبوره من مدينة سبتة، فنزل المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وتلقاه المعتمد في وجوه أهل دولته، وأظهر من بره وإكرامه فوق ما كان يظنه أمير المسلمين، وقدم إليه من الهدايا والتحف والذخائر الملوكية ما لم يظنه يوسف عند ملك؛ فكان هذا أول ما أوقع في نفس يوسف التشوف5 إلى مملكة جزيرة الأندلس. ثم إنه فصل عن الخضراء بجيوشه قاصدًا شرقي الأندلس، وسأله المعتمد دخول إشبيلية دار ملكه ليستريح فيها أيامًا حتى تزول عنه وعثاء السفر6، ثم يقصد قصده، فأبى عليه وقال: إنما جئت ناويًا جهاد العدو، فحيثما كان العدو توجهت وجهه. وكان الأدفنش -لعنه الله- محاصرًا لحصن من حصون المسلمين يعرف بحصن الليط؛ فلما بلغه عبور البربر أقلع عن الحصن راجعًا إلى بلاده, مستنفرًا عساكره ليلقى بهم البربر. وتوجه يوسف المذكور إلى شرقي الأندلس يقصد ذلك الحصن المحاصر، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الطلبة: المطلوب، أو الحاجة. 2- هو أبو فراس, الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني: أمير, شاعر, فارس. تقلد منبج وحرَّان وأعمالهما، وأسره الروم مدة طويلة. توفي سنة 357هـ/968م. "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، الثعالبي: 57/1، وفيات الأعيان، ابن خلكان: 58/2". والبيتان في ديوانه: 88. 3- الرزايا: المصائب. 4- حذيفة: هو حذيفة بن بدر، والحنفاء: فرسه. 5- تَشَوَّف للشيء وإليه: تَطلَّع، وتشوف أمرًا: طمح له. 6- وعثاء السفر: شدته ومشقته. ص -99- والإصلاح بين المعتمد على الله وبين رجل كان تغلب على مرسية يقال له: ابن رشيق -قد تقدم ذكره في أخبار ابن عمار- فأصلح بينهما يوسف أمير المسلمين، على أن يخرج له ابن رشيق عن مرسية، ويعوضه المعتمد عن ذلك مالًا جعله له، ويوليه في جهة إشبيلية ولاية؛ فأجابه ابن رشيق إلى ذلك؛ وتسلم المعتمد مرسية وأعمالها. ولقي يوسف أمير المسلمين ملوك الأندلس الذين كان عليهم طريقه، كصاحب غرناطة، والمعتصم بن صُمادح1 صاحب المَريَّة، وابن عبد العزيز أبو بكر صاحب بَلَنْسية. وقعة الزَّلَّاقة ثم إن يوسف المذكور استعرض جنده على حصن الرقة؛ فرأى منهم ما يسره، فقال للمعتمد على الله: هلم ما جئنا له من الجهاد وقصد العدو؛ وجعل يظهر التأفف من الإقامة بجزيرة الأندلس، ويتشوق إلى مراكش، ويصغر قدر الأندلس، ويقول في أكثر أوقاته: كان أمر هذه الجزيرة عندنا عظيمًا قبل أن نراها، فلما رأيناها وقعت دون الوصف!, وهو في ذلك كله يُسر حَسْوًا في ارتغاء2! فخرج المعتمد بين يديه قاصدًا مدينة طليطلة، واجتمع للمعتمد أيضًا جيش ضخم من أقطار الأندلس. وانتدب الناس للجهاد من سائر الجهات، وأمد ملوك الجزيرة يوسف والمعتمد بما قدروا عليه من خيل ورجال وسلاح، فتكامل عدد المسلمين من المتطوعة والمرتزقة3 زُهاء عشرين ألفًا، والتقوا هم والعدو بأول بلاد الروم. وكان الأدفنش -لعنه الله- قد استنفر الصغير والكبير، ولم يدع في أقاصي مملكته من يقدر على النهوض إلا استنهضه، وجاء يجر الشوك والشجر؛ وإنما كان مقصوده الأعظم قطع تشوف البرابرة عن جزيرة الأندلس، والتهيب عليهم. فأما ملوك الأندلس فلم يكن منهم أحد إلا يؤدي إليه الإتاوة4، وهم كانوا أحقر في عينه, وأقل من أن يحتفل لهم!. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو محمد بن معن بن محمد بن صمادح التجيبي الأندلسي، الملقب بـ"المعتصم بالله, الواثق بفضل الله". توفي سنة 484هـ/1091م. "الأعلام، الزركلي: 106/7". 2- "يسر حسوًا في ارتغاء": مثل يضرب لمن يريك أنه يعينك، وإنما يجر النفع إلى نفسه. وقال أبو زيد والأصمعي: أصله الرجل يُؤتى باللبن؛ فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة، ولا يريد غيرها، فيشربها، وهو في ذلك ينال من اللبن. ومنه قال الكميت الأسدي: فإني قد رأيت لكم صُدُودًا وتَحْسَاءً بعلة مُرتَغينَا "مجمع الأمثال، الميداني: 417/2". 3- المرتزقة: الذين ينخرطون في الجيش أو القتال طمعًا بالغنيمة، أو لِقَاءَ مبلغ من المال يأخذونه. 4- الإتاوة: الجزية، أو الخراج. ص -100- ولما تراءى الجمعان من المسلمين والنصارى، رأى يوسف وأصحابه أمرًا عظيمًا هالهم من كثرة عددٍ، وجودة سلاح وخيل، وظهور قوة؛ فقال للمعتمد: ما كنت أظن هذا الخنزير -لعنه الله- يبلغ هذا الحد!. وجمع يوسف أصحابه وندب لهم من يعظهم ويذكرهم؛ فظهر منهم من صدق النية والحرص على الجهاد واستسهال الشهادة ما سر به يوسف والمسلمون. وكان ترائيهم يوم الخميس، وهو الثاني عشر من شهر رمضان؛ فاختلفت الرسل بينهم في تقرير يوم الزحف ليستعد الفريقان؛ فكان من قول الأدفنش -لعنه الله-: الجمعة لكم، والسبت لليهود وهم وزراؤنا وكتابنا وأكثر خدم العسكر منهم، فلا غنى بنا عنهم، والأحد لنا؛ فإذا كان يوم الاثنين كان ما نريده من الزحف. وقصد -لعنه الله- مخادعة المسلمين واغتيالهم، فلم يتم له ما قصد... فلما كان يوم الجمعة تأهب المسلمون لصلاة الجمعة ولا أمارة عندهم للقتال، وبنى يوسف بن تاشفين الأمر على أن الملوك لا تغدر؛ فخرج هو وأصحابه في ثياب الزينة للصلاة؛ فأما المعتمد فإنه أخذ بالحزم، فركب هو وأصحابه شاكِّي السلاح1، وقال لأمير المسلمين: صل في أصحابك؛ فهذا يوم ما تطيب نفسي فيه، وها أنا من ورائكم؛ وما أظن هذا الخنزير إلا قد أضمر الفتك بالمسلمين. فأخذ يوسف وأصحابه في الصلاة، فلما عقدوا الركعة الأولى ثارت في وجوههم الخيل من جهة النصارى، وحمل الأدفنش -لعنه الله- في أصحابه؛ يظن أنه قد انتهز الفرصة؛ وإذا المعتمد وأصحابه من وراء الناس، فأغنى ذلك اليوم غَناء2 لم يشهد لأحد من قبله؛ وأخذ المرابطون سلاحهم فاستووا على متون الخيل، واختلط الفريقان؛ فأظهر يوسف بن تاشفين وأصحابه من الصبر وحسن البلاء والثبات ما لم يكن يحسبه المعتمد؛ وهزم الله العدو، واتبعهم المسلمون يقتلونهم في كل وجه، ونجا الأدفنش -لعنه الله- في تسعة من أصحابه؛ فكان هذا أحد الفتوح المشهورة بالأندلس، أعز الله فيه دينه وأعلى كلمته، وقطع طمع الأدفنش -لعنه الله- عن الجزيرة، بعد أن كان يقدر أنها في ملكه، وأن رءوسها خدم له؛ وذلك كله بحسن نية أمير المسلمين. وتسمى هذه الوقعة عندهم وقعة الزلاقة. وكان لقاء المسلمين عدوهم -كما ذكرنا- في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رمضان الكائن في سنة 480. ورجع يوسف بن تاشفين وأصحابه عن ذلك المشهد منصورين, مفتوحًا لهم وبهم. فسُر بهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- "شاكي السلاح": يقال: شك فلان في السلاح: لبِسه تامًّا. 2- الغناء: النفع والكفاية. ص -101- أهل الأندلس، وأظهروا التيمن بأمير المسلمين والتبرك به، وكثر الدعاء له في المساجد وعلى المنابر، وانتشر له من الثناء بجزيرة الأندلس ما زاده طمعًا فيها, وذلك أن الأندلس كانت قبله بصدد التَّلاف، من استيلاء النصارى عليها وأخذهم الإتاوة من ملوكها قاطبة. فلما قهر الله العدو وهزمه على يد أمير المسلمين، أظهر الناس إعظامه، ونشأ له الود في الصدور. ثم إنه أحب أن يجول في الأندلس على طريق التفرج والتنزه، وهو يريد غير ذلك؛ فجال فيها ونال من ذلك ما أحب، وفي خلال ذلك كله يظهر إعظام المعتمد وإجلاله، ويقول مصرحًا: إنما نحن في ضيافة هذا الرجل وتحت أمره، وواقفون عند ما يحده. بين المعتصم بن صمادح والمعتمد بن عباد وكان ممن اختص بأمير المسلمين من ملوك الجزيرة وحظي عنده واشتد تقريب أمير المسلمين له: أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح المعتصم صاحب المرية. وكان المعتصم هذا قديم الحسد للمعتمد، كثير النفاسة1 عليه؛ لم يكن في ملوك الجزيرة من يناويه2 غيره، وربما كانت بينهما في بعض الأوقات مراسلات قبيحة. وكان المعتصم يعيبه في مجالسه وينال منه, ويمنع المعتمد من فعل مثل ذلك مروءته ونزاهة نفسه وطهارة سريرته وشدة ملوكيته. وقد كان المعتمد قبل عبور أمير المسلمين بيسير، توجه إلى شرقي الأندلس يتطوف على مملكته ويطالع أحوال عماله ورعيته؛ فلما دانى أول بلاد المعتصم، خرج إليه في وجوه أصحابه، وتلقاه لقاء نبيلًا، وعزم عليه ليدخلن بلاده؛ فأبى المعتمد ذلك. ثم اتفقا بعد طول مُرَاوَدة3 على أن يجتمعا في أول حدود بلاد المعتصم وآخر حدود بلاد المعتمد، فكان ذلك واصطلحا في الظاهر. واحتفل المعتصم في إكرامه, وأظهر من الآلات السلطانية والذخائر الملوكية المعدة لمجالس الأنس ما ظنه مُكْمِدًا4 للمعتمد مثيرًا لغمه. وقد أعاذ الله المعتمد من ذلك، وصان خلقه الكريم عنه، وعصمه بفضله منه؛ ثم افترقا بعد أن أقام المعتمد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- النفاسة: يقال: نافس فلانًا في الشيء: سابقه وباراه فيه، ومنه: نفس الشيء وبه على فلان: حسده ولم يره أهلًا له. 2- يناويه: يناوئه: يباريه, أو يعاديه، أو يفاخره. 3- المراودة: يقال: راوده عن الأمر، وعليه: داراه، وراوده على الأمر: طلب منه فعله. وراوده مراودة ورِوادًا: خادعه وراوغه. 4- مكمدًا: يقال: كمد الرجل: كتم حزنه، أو حزن حزنًا شديدًا، وأكمد الحزن فلانًا: غَمَّه. ص -102- عنده في ضيافته ثلاثة أسابيع، ورجع المعتمد إلى بلاده. وبإثر ذلك عبر إلى مراكش؛ ولم يزل ما بينه وبين المعتصم معمورًا إلى أن عبر أمير المسلمين كما ذكرنا، فلقيه المعتصم بهدايا فاخرة وتحف جليلة، وتلطف في خدمته حتى قربه أمير المسلمين أشد تقريب؛ وكان يقول لأصحابه: هذان رجلا هذه الجزيرة؛ يعني: المعتصم والمعتمد. وكان أكبر أسباب تقريب أمير المسلمين إياه، ثناء المعتمد عليه عند أمير المسلمين، ووصفه إياه عنده بكل فضل؛ ولم يكن المعتصم بعيدًا من أكثر ما وصفه به. ولما اشتد تمكن المعتصم من أمير المسلمين، بدا له أن يسعى في تغيير قلبه على المعتمد وإفساد ما بينهما -حسن له ذلك سوء رأيه ودنس سريرته وضعف بصره بعواقب الأمور، وليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وليبلغ القدر ميقاته؛ وإذا أراد الله تمام أمر هيأ له أسبابًا- فشرع المعتصم فيما أراده من ذلك, ولم يدر أنه ساقط في البئر التي حفر، وقتيل بالسلاح الذي شهر، فكان من جملة ما ألقى إلى أمير المسلمين، أن جعل يقرر عنده عجب المعتمد بنفسه، وفَرْط كِبْره، وأنه لا يرى أحدًا كفؤًا له. وزعم أنه قال له في بعض الأيام -وقد قال له المعتصم: طالت إقامة هذا الرجل بالجزيرة، يعني: أمير المسلمين-: لو عوجْتُ له إصبعي ما أقام بها ليلة واحدة هو ولا أصحابه, وكأنك تخاف غائلته؛ وأي شيء هذا المسكين وأصحابه؟ إنما هم قوم كانوا في بلادهم في جهد من العيش، وغلاء من السعر، جئنا بهم إلى هذه البلاد نطعمهم حسبة وائتجارًا1، فإذا شبعوا أخرجناهم عنها إلى بلادهم! إلى أمثال هذا القول من تحقير أمرهم. وأعانه على ذلك قوم من وجوه الأندلس، إلى أن بلغوا ما أرادوه من تغير قلب يوسف أمير المسلمين على المعتمد. وقد كان أمير المسلمين ضرب لنفسه ولأصحابه أجلًا وحد له ولهم مدة يقيمونها في الجزيرة لا يزيدون عليها. وإنما فعل ذلك تطييبًا لقلب المعتمد وتسكينًا لخاطره؛ فلما انقضت تلك المدة أو قاربت، عبر أمير المسلمين إلى العدوة وقد وغِر صدره وتغيرت نفسه: من الطويل وما النفس إلا نطفة في قرارةٍ إذا لم تُكدَّر كان صفوًا غديرُها2 هذا مع ما ذكرنا من طمعه في الجزيرة وتشوفه إلى مملكتها؛ وظهرت للمعتمد قبل عبوره أشياء عرف بها أنه غُيِّر عليه!. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- احتسب فلان الأجر على الله: ادخره، وفعل الشيئ حسبة: أي مدخرا أجره على الله. ائتجر فلان ائتجارا: طلب الثواب بصدقة ونحوها. 2- النطفة: القطرة، أو المني ، أو الماء الصافي. القرارة: المكان المنخفض يندفع إليه الماء ويستقر فيه. ص -103- نكبة بني عباد ورجع أمير المسلمين إلى مراكش وفي نفسه من أمر الجزيرة المُقِيم المُقعِد؛ فبلغني أنه قال لبعض ثقاته من وجوه أصحابه: كنت أظن أني قد ملكت شيئًا، فلما رأيت تلك البلاد، صغرت في عيني مملكتي؛ فكيف الحيلة في تحصيلها؟ فاتفق رأيه ورأي أصحابه على أن يراسلوا المعتمد يستأذنونه في رجال من صلحاء أصحابهم رغبوا في الرباط بالأندلس ومجاهدة العدو والكون ببعض الحصون المصاقبة1 للروم إلى أن يموتوا؛ ففعلوا، وكتبوا إلى المعتمد بذلك، فأذن لهم، بعد أن وافقه على ذلك ابن الأفطس المتوكل صاحب الثغور, وإنما أراد يوسف وأصحابه بذلك أن يكون قوم من شيعتهم مبثوثين بالجزيرة في بلادها، فإذا كان أمر من قيام بدعوتهم أو إظهار لمملكتهم وجدوا في كل بلد لهم أعوانًا. وقد كانت قلوب أهل الأندلس -كما ذكرنا- قد أُشْرِبت2 حب يوسف وأصحابه، فجهز يوسف من خيار أصحابه رجالاً انتخبهم، وأمَّر عليهم رجلاً من قرابته يسمى بُلُجِّين، وأسر إليه ما أراده، فجاز بلجين المذكور، وقصد المعتمد من ملوك الجزيرة فقال له: أين تأمرني بالكون؟ فوجه معه المعتمد من أصحابه من ينزله ببعض الحصون التي اختارها لهم، فنزل حيث أنزلوه هو وأصحابه. وأقاموا هناك إلى أن ثارت الفتنة على المعتمد، وكان مبدؤها في شوال من سنة 483 بأخذ جزيرة طريف المقابلة لطنجة من العدوة، دون مقدمة ظاهرة توجب ذلك، فتشعبت جموعه وأهواؤُها ملتئمة، وانتثرت بلاده وقلوب أهلها على محبته منتظمة. ولما أخذ المرابطون جزيرة طريف ونادوا فيها بدعوة أمير المسلمين، انتشر ذلك في الأندلس، وزحف القوم الذين قدمنا ذكرهم، الكائنون في الحصون، إلى قرطبة؛ فحاصروها وفيها عباد بن المعتمد الملقب بـ المأمون، وقد تقدم ذكره، وهو من أكبر ولده؛ فدخلوا البلد، وقتل عباد هذا بعد أن أبلى عذرًا، وأظهر في الدفاع عن نفسه جَلَدًا وصبرًا؛ ذلك في مستهل صفر الكائن في سنة 484؛ فزادت الإحنة3 والمحنة، واستمرت في غُلَوائها4 الفتنة. وأجمعت على الثورة بحضرة إشبيلية طائفة، فأُعلم المعتمد بما اعتقدته الطائفة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- صاقب المكان مصاقبةً وصقابًا: قاربه، ودنا منه، وواجهه. 2- أُشربت قلوبهم: أُشبعت. 3- الإحنة: الحقد والضغْن. 4- الغلواء: الغلو، وغلواء الشباب: أوله وحِدَّته. ص -104- المذكورة، وكشف له عن مرادها، وأثبت عنده سوء اعتقادها، وأغري بتمزيق أديمها1 وسفك دمها، وحض على هتك حريمها وكشف حرمها؛ فأبى له ذلك مجده الأثيل2، ورأيه الأصيل، ومذهبه الجميل، وما حباه الله3 به من حسن اليقين، وصحة العقل والدين؛ إلى أن أمكنتهم الغِرَّة4 يوم الثلاثاء منتصف رجب من السنة المذكورة، فقاموا بجيش غير مستنصر، واسْتَنْسَرُوا بُغاثًا غير مُسْتَنْسَر5؛ فبرز هو من قصره، سيفه بيده، وغلالته6 تَرِفُّ7 على جسده، لا دَرَقة8 له ولا درع عليه؛ فلقي على باب من أبواب المدينة يسمى باب الفرج فارسًا من الداخلين مشهور النجدة شاكي السلاح، فرماه الفارس برمحٍ قصيرِ أنابيبِ القناة، طويلِ شفرة السنان؛ فالتوى الرمح بغلالته وخرج تحت إبطه، وعصمه الله منه، ودفعه بفضله عنه؛ وصب هو سيفه على عاتق الفارس فشقه إلى أضلاعه فخر صريًعا، وانهزمت تلك الجموع، ونزل المتسنِّمون9 للأسوار عنها؛ وظن أهل إشبيلية أن الخناق قد تنفَّس. فلما كان عصر ذلك اليوم، عاودهم القوم، فظُهر على البلد من واديه، ويُئس من سكنى ناديه، وبلغ فيه الأمل حاسده وشانيه10، وشبت النار في شوانيه، فانقطع عندها الأمل والقول، وذهبت القوة من أيدي أهلها والحَوْل. وكان الذي ظهر عليها من جهة البر، رجل من أصحاب يوسف أمير المسلمين يعرف بحُدَير بن واسْنُو؛ ومن الوادي رجل يعرف بالقائد أبي حمامة مولى بني سُجُّوت؛ والتوت الحال أيامًا يسيرة، إلى أن ورد الأمير سِيرُ بن أبي بكر بن تاشفين -وهو ابن أخي أمير المسلمين- بعساكر متظاهرة، وحشود من الرعية وافرة، والناس في خلال هذه الأيام قد خامرهم الجزع11، وخالط قلوبهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الأديم: الجلد. 2- الأثيل: الأصيل. 3- حباه الله: اختصه. 4- الغرة: الغفلة في اليقظة. 5- استنسر: تشبه بالنسر. البغاث: طائر صغير أبغث اللون، أصغر من الرخم، بطيء الطيران. وفي المثل: "إن البغاث في أرضنا يستنسر" ومعناه: من جاورنا عز بنا. 6- الغلالة: ثوب رقيق يُلبس تحت الدثار. 7- ترف: تضطرب وتتحرك. 8- الدرقة: ترس من جلد ليس فيه خشب ولا عَقَب. 9- تسنَّم السور: علاه. 10- الشانئ: المبغض. 11- خامرهم: خالطهم ومازجهم. الجزع: عدم الصبر على المصيبة. ص -105- الهلع1، يقطعون السبل سياحة، ويعبرون النهر سباحة، ويتولجون2 مجاري الأقذار، ويترامون من شرفات الأسوار، حرصًا على الحياة. والموفون بالعهد، المقيمون على صريح الود، ثابتون؛ إلى أن كان يوم الأحد لإحدى وعشرين ليلة خلت من رجب من السنة المذكورة، وهذا يوم الكائنة العظمى، والطامة الكبرى3، فيه حُمَّ4 الأمر الواقع، واتسع الخَرْق5 على الراقع، ودُخل البلد من واديه، وأصيب حاضره وباديه، بعد أن جد الفريقان في القتال، واجتهدت الفئتان في النزال، وظهر من دفاع المعتمد -رحمه الله- وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا تناهيَ لخَلْقٍ إليه، وفي ذلك يقول المعتمد بعد ما نزل بالعدوة أسيرًا حسيرًا6: من مجزوء الكامل لما تماسكت الدموعْ وتَنَهْنَه القلب الصَّديعْ7 قالوا: الخضوع سياسةٌ فليبدُ منك لهم خضوعْ وألذ من طعم الخضو ع على فمي السم النَّقيعْ8 إن تستلب عنى الدُّنَا ملكي وتسلمني الجموعْ9 فالقلب بين ضلوعه لم تُسلم القلبَ الضلوعْ لم أُستلب شرف الطبا ع أيُسلب الشرفُ الرفيعْ قد رُمْتُ يوم نِزالهم ألا تُحصِّنني الدروعْ10 وبرزت ليس سوى القميـ ـص عن الحشا شيء دَفُوعْ وبذلت نفسي كي تسيـ ـل إذا يسيل بها النَّجِيعْ11 أجلي تأخر، لم يكن بهواي ذلي والخشوعْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الهلع: الجزع الشديد. 2- يتولجون: يدخلون. 3- الطامة الكبرى: القيامة، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى,} [النازعات: 34، 35]. والطامة: الداهية تفوق ما سواها. 4- حُم الأمر: قُضي، وحم الشيء: دنا أو قرُب. 5- الخرق: الثقب في الثوب وغيره. 6- الحسير: من لا غطاء على رأسه، ومن الجنود: من لا درع له ولا مِغْفَر. 7- تنهنه فلان عن الشيء: كف وامتنع. الصديع: المشقوق. 8- السم النقيع: القاتل. 9- استلب الشيء: انتزعه قهرًا. أسلم فلانًا: خذله وأهمله وتركه لعدوه وغيره. 10- رمتُ: أردتُ وابتغيتُ. 11- النجيع: دم الجوف. ص -106- ما سرت قَطُّ إلى القتا ل وكان من أملي الرجوعْ شِيَم الأُلى أنا منهمو والأصل تَتْبعه الفروعْ!1 فشُنت الغارة في البلد، ولم يترك البربر لأحد من أهلها سَبدًا ولا لَبَدًا2، وانتهبت قصور المعتمد نهبًا قبيحًا، وأخذ هو قبضًا باليد، وجُبر على مخاطبة ابنيه: المعتد بالله، والراضي بالله، وكانا بمعقلين من معاقل الأندلس المشهورة، لو شاءا أن يمتنعا بهما لم يصل أحد إليهما، أحد الحصنين يسمى رُندَة، والآخر مارْتُلَة؛ فكتب إليهما -رحمه الله-، وكتبت السيدة الكبرى أمهما، مستعطفينِ مسترحمينِ، مُعلِمينِ أن دم الكل منهم مُسترهَن بثبوتهما. فأنفا من الذل، وأبيا وضع أيديهما في يد أحد من الناس بعد أبيهما. ثم عطفتهما عواطف الرحمة، ونظرا في حقوق أبويهما المقترنة بحق الله عز وجل. فتمسك كل منهما بدينه، ونبذ دنياه، ونزلا عن الحصنين بعد عهود مبرمة، ومواثيق محكمة. فأما المعتد بالله فإن القائد الواصل إليه قبض عند نزوله على كل ما كان يملكه. وأما الراضي بالله فعند خروجه من قصره قُتل غِيلةً3 وأخفي جسده. ورُحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع أحواله، ولم يصحب من ذلك كله بُلْغة4 زاد؛ فركب السفين، وحل بالعدوة محل الدفين؛ فكان نزوله من العدوة بطنجة؛ فأقام بها أيامًا، ولقيه بها الحصري الشاعر5، فجرى معه على سوء عادته من قبح الكُدْية6 وإفراط الإلحاف7، فرفع إليه أشعارًا قديمة قد كان مدحه بها، وأضاف إلى ذلك قصيدة استجدها عند وصوله إليه. ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم مما زود به فيما بلغني أكثر من ستة وثلاثين مثقالًا، فطبع عليها وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها -سقطت من حفظي- ووجه بها إليه. فلم يجاوبه عن القطعة، على سهولة الشعر على خاطره وخفته عليه. كان هذا الرجل -أعني الحصري- الأعمى- ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الشيم: الطباع أو الخصال. 2- السبد: القليل من الشعر. اللبد: الصوف. يقال: ما له سبد ولا لبد: ما له قليل ولا كثير. 3- الغيلة: الاغتيال، وقتل غيلة: على غفلة منه. 4- البلغة: ما يكفي لسد الحاجة ولا يفضل عنها. 5- هو أبو الحسن، علي بن عبد الغني الفهري الحصري: شاعر من أهل القيروان. سكن الأندلس مدة، وتوفي في طنجة سنة 488هـ/1095م. "الأعلام، الزركلي: 300/4". 6- الكدية: حرفة السائل المُلِحّ. 7- الإلحاف: يقال: ألحف السائل إلحافًا: ألحَّ بالمسألة. ص -107- أسرع الناس في الشعر خاطرًا، إلا أنه كان قليل الجيد منه؛ فحركه المعتمد على الله على الجواب بقطعة أولها: من مجزوء الرمل قُلْ لمن قد جمع العلم وما أحصى صوابَهْ كان في الصرة شعر فتنظَّرْنا جوابَهْ قد أثبناك فهلَّا جلب الشعر ثوابَهْ؟ ولما اتصل بزعانفة1 الشعراء وملحفي أهل الكدية ما صنع المعتمد -رحمه الله- مع الحصري، تعرضوا له بكل طريق، وقصدوه من كل فج عميق2، فقال في ذلك رحمه الله: من الكامل شعراء طنجة كلهم والمغرب ذهبوا من الإغراب أبعد مذهبِ3 سألوا العسير من الأسير وإنه بسؤالهم لأحق فاعجبْ واعجبِ4 لولا الحياء وعزة لَخْمِية طَيَّ الحَشَا ساواهمُ في المطلبِ قد كان إن سُئل الندى يُجزل وإن نادى الصريخُ ببابه اركبْ يركبِ5 وله في هذا المعنى رحمه الله: من الرمل قُبح الدهر فماذا صنعا كلما أعطى نفيسًا نزعَا6 قد هوى ظلمًا بمن عادتُهُ أن ينادي كل من يهوَى لعَا!7 مَنْ إذا الغيث هَمَى منهمرًا أخجلته كفه فانقطعَا8 مَنْ غَمامُ الجَوْد من راحته عصفتْ ريح به فانتشعَا9 مَنْ إذا قيل الخَنا صُمَّ وإن نطق العافون هَمْسًا سَمِعَا10 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الزعانف: جمع الزعنفة: كل جماعة ليس أصلهم واحدًا، أو رديء كل شيء ورُذَالُه. 2- الفج: الطريق الواسع البعيد. 3- أغرب الشاعر: أتى بالغريب البعيد عن الفهم، وأغرب في الأمر: بالغ فيه. 4- العسير: الشديد، الصعب. 5- يُجزل: يُكثر. الصريخ: الاستغاثة، أو المستغيث، أو المغيث. وفي عجز البيت خلل عروضي. 6- النفيس: العظيم القيمة. 7- لعًا: لفظ معناه: الدعاء للعاثر بأن يرتفع من عثرته، يقال: لعًا لفلان، وفي الدعاء عليه بالتعس يقال: لا لعًا لك. 8- الغيث: المطر. همى: انصب ماؤه. انهمر المطر: انسكب بقوة. 9- الجود: المطر الغزير الذي لا مطر فوقه. 10- الخنا: الفحش في الكلام, العافون: طالبو المعروف. ص -108- قل لمن يطمع في نائله قد أزال اليأس ذاك الطمعَا1 راح لا يملك إلا دعوة جبر الله العُفاةَ الضُّيَّعَا! وأقام المعتمد بطنجة -رحمه الله- أيامًا على الحال التي تقدم ذكرها، ثم انتقل إلى مدينة مِكْنَاسة2، فأقام بها أشهرًا، إلى أن نفذ الأمر بتسييرهم إلى مدينة أغمات3؛ فأقاموا بها إلى أن توفي المعتمد -رحمه الله-، ودفن بها فقبره معروف هناك. وكانت وفاته في شهور سنة 87، وقيل: سنة 88، فالله أعلم، وسنه يوم توفي إحدي وخمسون سنة. فمن أحسن ما مر بي مما رُثي به المعتمد على الله مقطوعة من شعر ابن اللبانة4 أولها: من البسيط لكل شيء من الأشياء ميقاتُ وللمنى من مناياهن غاياتُ5 والدهر في صِبْغة الحرباء منغمسٌ ألوان حالاته فيها استحالاتُ6 ونحن من لُعَب الشَّطْرنج في يده وربما قُمرتْ بالبيدق الشاةُ7 فانفُضْ يديك من الدنيا وساكنها فالأرض قد أقفرت, والناس قد ماتُوا وقل لعالمها الأرضيِّ قد كتمتْ سريرة العالم العلوي أَغْماتُ طوت مظلتها، لا بل مذلتها من لم تزل فوقه للعز راياتُ من كان بين الندى والبأس، أنصُله هِنديَّة وعطاياه هُنيداتُ8 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- النائل: العطاء. 2- مكناسة: مدينة في المغرب، في بلاد البربر، بينها وبين مراكش أربع عشرة مرحلة نحو الشرق، وقيل: مكناسة: حصن بالأندلس من أعمال ماردة. "معجم البلدان، الحموي: 181/5". 3- أغمات: مدينة في المغرب، قرب مراكش، بينهما مسيرة يوم. فيها أصناف كثيرة من الفواكه والخيرات. وظل قبر المعتمد معروفًا فيها إلى أمد بعيد بعد وفاته. "معجم البلدان، الحموي: 225/1". 4- هو أبو بكر، محمد بن عيسى بن محمد اللخمي الداني، المعروف بابن اللبانة: أديب، شاعر، عارف بالأخبار. توفي بميورقة سنة 507هـ/1113م. "معجم المؤلفين، كحالة: 108/11". 5- الميقات: الموعد. 6- الحرباء: دويبة على شكل سام أبرص، مخططة الظهر، تستقبل الشمس نهارها، وتدور معها كيف دارت، وتتلون ألوانًا، ويُضرب بها المثل في الحزم والتلون. استحال الشيء: تحول، أو اعوجَّ بعد استواء. 7- قمر فلانًا قمْرًا: غلبه في لعب القمار. البيدق: من أدوات الشطرنج. 8- أنصله: سيوفه. هندية: مصنوعة في الهند، وهي أجود أنواع السيوف. هنيدات: جمع هنيدة: اسم للمائة من الإبل. ص -109- أنكرت إلا التواء للقيود به وكيف تنكر في الروضات حياتُ وقلت: هن ذؤاباتٌ فَلِمْ عُكست من رأسه نحو رجليه الذؤاباتُ1 رأوه ليثًا فخافوا منه عادية عذرتهم فلعُدْوَى الليث عاداتُ2 وله قصيدة يرثيهم3 بها، وهي كثيرة الجيد، أولها: من البسيط تبكي السماء بدمع رائحٍ غادى على البهاليل من أبناء عبَّادِ4 على الجبال التي هُدت قواعدها وكانت الأرض منهم ذات أوتادِ والرابيات عليها اليانعات ذوتْ أنوارها فغدت في خفض أوْهادِ5 عِرِّيسةٌ دخلتها النائبات على أساود لهم فيها وآسادِ6 وكعبةٌ كانت الآمال تعمرها فاليوم لا عاكف فيها ولا بادِ7 تلك الرماح رماح الخط ثقَّفَها خَطْب الزمان ثِقافًا غير معتادِ8 والبِيض بِيض الظُّبا فَلَّت مضاربها أيدي الردى وثنتها دون إغمادِ9 لما دنا الوقت لم تخلف له عِدَةٌ وكل شيء لميقات وميعادِ10 كم من دراريِّ سعد قد هوت ووهت هناك من درر للمجد أفرادِ11 نُورٌ ونَوْرٌ فهذا بعد نعمته ذوى وذاك خبا من بعد إيقادِ12 يا ضيف أقفر بيت المَكْرُمات فخذ في ضم رَحْلك واجمع فضْلة الزادِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الذؤابات: جمع الذؤابة: شعر مقدم الرأس. 2- العادية: مؤنث العادي: العدو، أو الخيل المغيرة، وعوادي الدهر: نوائبه. 3- أي: يرثي بني عباد. 4- البهاليل: جمع البهلول: الشريف الجامع لصفات الخير. 5- اليانعات: الثمار الناضجة. الأوهاد: ما انخفض من الأرض، الواحدة: وَهْدة. 6- العريسة: الشجر الكثيف الملتف، يكون مأوى للأسد. 7- العاكف: المقيم، الملازم. 8- الخط: موضع في البحرين اشتهر بصناعة الرماح، فكانت تُنسب إليه. ثقَّفها: قوَّمها. الخطب: الأمر الشديد يكثر فيه التخاطب. 9- البيض: السيوف. الظبا: جمع الظُّبة: حد السيف. فلَّت: تثلَّمت. أغمد السيف إغمادًا: وضعه في غِمْده. 10- العدة: الموعد. 11- هوت: سقطت. وهت: ضعفت. 12- خبا: تلاشى, وخمد بريقه. ص -110- ويا مُؤمِّل واديهم ليسكنَه خف القطين وجف الزرع بالوادِي1 ضلت سبيل الندى بابن السبيل فسرْ لغير قصد فما يهديك من هادِي وفيها يقول: نسيتُ إلا غداة النهر كونهمُ في المنشآت كأموات بألحادِ2 والناس قد ملئوا العِبْرين واعتبروا من لؤلؤ طافيات فوق أزبادِ3 حُطَّ القناع فلم تُستر مخدرة ومُزقت أوجه تمزيق أبرادِ4 تفرقوا جيرة من بعد ما نشئوا أهلًا بأهل وأولادًا بأولادِ حان الوداع فضجت كل صارخةٍ وصارخ من مُفدَّاة ومن فادِي سارت سفائنهم والنوْح يتبعها كأنها إبل يحدو بها الحادِي5 كم سال في الماء من دمع وكم حملت تلك القطائع من قِطْعات أكبادِ من لي بكم يا بني ماء السماء إذا ماء السماء أبى سُقْيًا حَشَا الصادِي6 وهي طويلة جدًّا، وهذا ما اخترت له منها. أبو بكر الداني* وابن اللبانة هذا هو أبو بكر محمد بن عيسى7، من أهل مدينة دانية، وهي على ساحل البحر الرومي، كان يملكها مجاهد العامري وابنه علي الموفق على ما تقدم. ولابن اللبانة هذا أخ اسمه عبد العزيز، وكانا شاعرين، إلا أن عبد العزيز منهما لم يرض الشعر صناعة ولا اتخذه مكسبًا، وإنما كان من جملة التجار. وأما أبو بكر فرضيه بضاعة، وتخيره مكسبًا، وأكثر منه، وقصد به الملوك فأخذ جوائزهم، ونال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- خف القطين: رحلوا، والقطين: السكان. 2- المنشآت: السفن. الألحاد: القبور. 3- العبران -مثنى العبر- من النهر: شاطئه وناحيته. الأزباد: جمع الزَّبَد: الرغوة. 4- القناع: ثوب تغطي به المرأة رأسها. المخدرة: المرأة المصونة في خِدْرها. الأبراد: الأثواب. 5- الحادي: سائق الإبل. 6- الصادي: الظمآن. * ترجمته في: شذرات الذهب: 20/4؛ كشف الظنون: 993، 1963؛ إيضاح المكنون: 98/1، 562/2؛ هدية العارفين: 83/2؛ معجم المؤلفين: 108/11؛ الأعلام: 322/6. 7- ...ابن محمد اللخمي الداني... ص -111- أسنى الرتب عندهم. وشعره نبيل المأخذ، وهو فيه حسن المَهْيَع1، جمع بين سهولة الألفاظ ورشاقتها، وجودة المعاني ولطافتها؛ كان منقطعًا إلى المعتمد، معدودًا في جملة شعرائه؛ لم يفد عليه إلا آخر مدته؛ فلهذا قل شعره الذي يمدحه به. وكان -رحمه الله- مع سهولة الشعر عليه وإكثاره منه، قليل المعرفة بعلله، لم يُجِدِ الخوض في علومه، وإنما كان يعتمد في أكثره على جودة طبعه وقوة قريحته؛ يدل على ذلك قوله في قصيدة له, سيرد ما أختاره منها في موضعه: من الكامل من كان ينفق من سواد كتابه فأنا الذي من نور قلبى أُنفقُ ولما خلع المعتمد على الله، وأخرج من إشبيلية، لم يزل أبو بكر هذا يتقلب في البلاد، إلى أن لحق بجزيرة مُيُرْقَةَ2، وبها مبشر العامري المتلقب بـ الناصر؛ فحظي عنده وعلت حاله معه، وله فيه قصائد أجاد فيها ما شاء؛ فمنها قصيدة ركب فيها طريقة لم أسمع بها لمتقدم ولا متأخر، وذلك أنه جعلها من أولها إلى آخرها، صدر البيت غزل وعجزه مدح، وهذا لم أسمع به لأحد؛ وأول القصيدة: من الكامل وضحت وقد فضحت ضياء النِّير فكأنما التحفت ببشر مبشرِ3 وتبسمت عن جوهر فحسبته ما قلدتْه محامدي من جوهرِ وتكلمت فكأن طِيب حديثها مُتِّعتُ منه بطيب مسك أذْفَرِ4 هزت بنغْمة لفظها نفسي كما هُزت بذكراه أعالي المنبرِ أذنبت واستغفرتها فجرت على عاداته في المذنب المستغفرِ جادت علي بوصلها فكأنه جدوى يديه على المُقل المُقْتِرِ5 ولثَمْتُ فاها فاعتقدت بأنني من كفه سُوِّغْتُ لَثْم الخنصرِ6 سمحت بتعنيقى فقلت: صنيعةٌ سمحت علاه بها فلم تتعذرِ نَهْد كقسوة قلبه في معركٍ وحشًا كلين طباعه في محضَرِ ومعاطفٌ تحت الذوائب خلتُها تحت الخوافق ما له من سَمْهَرِي7 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- المهيع: الطريق البين الواضح. 2- في معجم البلدان وغيره: "ميورقة". وهي أكبر جزائر الأندلس في بحر الروم. 3- وضحت: ظهرت وبانت. 4- مسك أدفر: جيد إلى الغاية. 5- الجدوى: العطية. المقتر: الفقير المعدم. 6- الخنصر: الإصبع الصغرى. 7- المعاطف: جوانب الجسد. الذوائب: جمع الذؤابة: شعر مقدم الرأس. الخوافق: الأعلام= ص -112- حسُنت أمامي في خمار مثل ما حسُن الكَمِيُّ أمامه في مِغْفَرِ1 وتوشحت فكأنه في جَوْشَن قد قام عنبره مقام العِثْيرِ2 غمزت ببعض قسيه من حاجب ورنَت ببعض سهامه من مَحْجِرِ3 أومت بمصقول اللحاظ فخلته يومي بمصقول الصفيحة مُشْهَرِ4 وضعت حشاياها فويق أرائكٍ وضع السروج على الجياد الضُّمَّرِ5 من رامة أو رومة، لا علم لي أأتت عن النعمان أم عن قيصرِ6 بنت الملوك فقل لكسرى فارس تعزى وإلا قل لتبع حميرِ7 عاديت فيها غُرَّ قومي فاغتدوا لا أرضهم أرضي ولا هم معشرِي8 وكذلك الدنيا عهدنا أهلها يتعافرون على الثريد الأعفرِ9 طافت علي بجمرة من خمرة فرأيت مِرِّيخا براحة مشترِي10 فكأن أنملها سيوف مبشر وقد اكتست عَلَق النَّجيع الأحمرِ11 مَلِك أَزِرَّةُ بُرْدِهِ ضُمت على بأس الوصي, وعزْمة الإسكندرِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = والرايات. السمهري: رمح منسوب إلى سَمْهَر، وهو رجل كان يصنع الرماح ويقومها. 1- الخمار: ثوب تغطي به المرأة رأسها. الكمي: البطل التام السلاح. المغفر: زَرَد ينسج من الدروع على قدر الرأس، يُلبس تحت القلنسوة. 2- توشحت: لبست الوشاح. الجوشن: الدِّرْع، أو الصدر. العثير: الغُبار. 3- القسي: جمع القوس: آلة على هيئة هلال، ترمى بها السهام. رنت: أدامت النظر مع سكون طرْف. المحجر "من العين": ما أحاط بها. 4- أومت: أومأت. الصفيحة: وجه كل شيء عريض، كوجه السيف أو اللوح أو الحجر. المشهر: المسلول. 5- الأرائك: جمع الأريكة: المقعد المنجد. السروج: جمع السَّرج: رحل الدابة. الجياد الضمر: المهزولة. 6- رامة: موضع في البادية. رومة: اسم مدينة في بلاد الروم, النعمان: هو النعمان بن المنذر ملك الحيرة. قيصر: أي: قيصر الروم. 7- تعزى: تنسب. 8- المعشر: أهل الرجل. 9- عافر الرجل غيره: صارعه محاولًا إلقاءَه في العَفَر، وعافر فلان في الشيء: عالجه ليصل منه إلى ما يريد. الثريد: ما يثرد من الخبز، أي: يفت ثم يبل بمرق. 10- المريخ والمشتري: كوكبان في الفضاء. 11- العلق: الدم الغليظ أو الجامد، أو القطعة منه، قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2]. النجيع: دم الجوف. ص -113- هذا ما اخترت له منها. ومن نسيبه المليح, الخفيف الروح قوله يتغزل ويمدح مبشرًا هذا: من الكامل هلَّا ثناك علي قلب مُشْفِقٌ فترى فراشًا في فراش يُحرقُ قد صرتُ كالرَّمَق الذي لا يُرتجى ورجعت كالنفَس الذى لا يلحقُ1 وغرِقتُ في دمعي عليك وغمني طرْفي, فهل سبب به أتعلقُ؟2 هل خُدعة بتحية مخفية في جنب موعدك الذي لا يصدقُ أنت المنية والمُنى، فيك استوى ظل الغمامة والهَجير المحرقُ3 لك قَدُّ ذابلةِ الوشيج ولونها لكن سِنانك أكحل لا أزرقُ4 ويقال: إنكَ أيكة حتى إذا غنيتَ قيل: هو الحمام الأوْرَقُ5 يا من رشقْتُ إلى السُّلُو فردني سبقت جفونك كل سهم يرشقُ6 لو في يدي سحر وعندي أخْذة لجعلت قلبك بعض حينٍ يعشَقُ لتذوقَ ما قد ذقت من ألم الجَوَى وترِقَّ لي مما تراه وتُشفِقُ7 جسدي من الأعداء فيك؛ لأنه لا يستبين لطرف طَيْف يَرْمُقُ8 لم يدر طيفك موضعي من مضجعي فعذرتُه في أنه لا يطرُقُ9 جفت عليك منابتي ومنابعي فالدمع يَنْشَغُ والصَّبابة تُورِقُ10 وكأن أعلام الأمير مبشرٍ نُشرتْ على قلبى فأصبح يخفقُ11 وفيها يقول، يصف لعب الأسطول في يوم المهرجان: بُشرى بيوم المهرجان فإنه يوم عليه من احتفائك رَوْنَقُ12 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الرمق: بقية الروح. 2- غمني: أحزنني. 3- الهجير: نصف النهار وقت اشتداد الحر. 4- الوشيج: ما نبت من القنا والقصب ملتفًّا. سنانك أكحل: يريد سنان عينه. 5- الأيكة: الشجر الكثيف الملتف. 6- السلو: النسيان مع طيب نفس. رشق الشيء رشقًا: رماه. ومنه: رشقه ببصره: أحده إليه. 7- الجوى: حرقة الحب والوجد. 8- رمقه رَمْقًا: نظر إليه، ورمقه ببصره: أتبعه بصره يتعهده وينظر إليه ويرقبه. 9- يطرق: يزور ليلًا. 10- ينشغ: يسيل. الصبابة: رقة الشوق وحرارته. 11- يخفق: يتحرك ويضطرب. 12- الاحتفاء: الاحتفال. الرونق: الحُُسْن والجمال. ص -114- طارت بنات الماء فيه وريشها ريش الغراب وغير ذلك شَوْذَقُ1 وعلى الخليج كتيبة جرارة مثل الخليج كلاهما يتدفقُ2 وبنو الحروب على الجواري التي تجري كما تجري الجياد السُّبَّقُ3 ملأ الكُمَاة ظهورها وبطونها فأتت كما يأتي السحاب المغدِقُ4 خاضت غدير الماء سابحة به فكأنما هي في سراب أيْنُقُ5 عجبًا لها! ما خلت قبل عِيَانها أن يحمل الأسد الضوارِيَ زورقُ هزت مجاديفًا إليك كأنها أهداب عين للرقيب تحدقُ6 وكأنها أقلام كاتب دولةٍ في عُرْض قِرْطاس تخُطُّ وتمشُقُ7 وله فيها إحسان كثير. وله من قصيدة يتغزل: من الطويل فؤادي مُعَنًّى بالحسان مُعنَّت وكل موقى في التصابي موقتُ8 ولي نفس يخفى ويخفُت رقةً ولكن جسمى منه أخفى وأخفتُ وبي ميت الأعضاء حي دَلالُه غرامي به حي وصبري ميتُ جعلت فؤادي جَفْن صارم جَفْنه فيا حر ما يَصلى به حين يُصْلَتُ9 أذل له في هجره وهو ينتمي وأسكن بالشكوى له وهو يسكتُ وما انبت حبل منه إذ كان في يدي لرَيحان رَيْعان الشبيبة منبِتُ10 ومن جيد ماله من قصيدة يمدح بها مبشرًا ناصر الدولة أولها: من الكامل راق الربيع ورقَّ طبع هوائه فانظر نضارة أرضه وسمائِهِ 11 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الشوذق: الصقر، أو الشاهين. 2- الكتيبة: الفرقة العظيمة من الجيش. 3- الجواري: السفن. 4- الكماة: الأبطال المدجَّجون بالسلاح. السحاب المغدق: الكثير المطر. 5- السراب: الآل. الأينق: جمع الناقة: أنثى البعير. 6- تحدق: تشدد النظر. 7- مشق في الكتابة: مد حروفها، أو أسرع فيها. 8- مُعنًّى: متعب. مُعنَّت: من عنت الرجل: وقع في مشقة وشدة. 9- الجفن: الغمد. الصارم: السيف. يصلى: يحرق. يُصلَت السيف: يُسَل، يُشْهر. 10- انبت: انقطع. 11- النضارة: البهجة, والرونق, والحسن. ص -115- واجعل قرين الورد فيه سُلافة يحكي مشعشعها مصعد مائِهِ1 لولا ذبول الورد قلت بأنه خد الحبيب عليه صِبْغ حيائِهِ هيهاتَ أين الورد من خد الذي لا يستحيل عليك عهد وفائِهِ2 الورد ليس صفاته كصفاته والطير ليس غناؤها كغنائِهِ يتنفس الإصباح والريحان من حركات معطفه, وحسن رُوَائِِهِ3 ويجول في الأرواح رَوْح ما سرت رَيَّاه من تلقائه بلقائهِ4 صرف الهوى جسمي شبيه خياله من فرْط خفته وفرط خفائهِ ومن أحسن ما على خاطري له بيتان يصف بهما خالًا، وهما: من البسيط بدا على خده خال يزينه فزادني شغفًا فيه إلى شغفِ5 كأن حبة قلبي عند رؤيته طارت فقال لها: في الخد منه قفي!6 ولابن اللبانة هذا إحسان كثير، منعني من استقصائه خوف الإطالة، وأيضًا فلأن هذا الكتاب ليس موضوعًا لهذا الباب؛ وإنما يأتي منه فيه ما تدعو إليه ضرورة سياق الحديث. رجع الحديث إلى أخبار المعتمد ثم رجع بنا القول إلى أخبار المعتمد على الله. وبلغني أن رجلًا رأى في منامه قبل الكائنة العظمى على بني عباد بأشهر يسيرة وهو بمدينة قرطبة، كأن رجلاً أتى حتى صعد المنبر واستقبل الناس بوجهه ينشدهم رافعًا صوته: من الرمل رب رَكْبٍ قد أناخوا عِيسَهم في ذُرا مجدهم حين بسقْ7 سكت الدهر زمانًا عنهم ثم أبكاهم دمًا حين نَطَقْ! فما كان إلا أشهر يسيرة حتى وقع بهم, وأبكاهم الدهر كما قال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- السلافة: أفضل الخمر وأخلصها. 2- يستحيل: يتغير. 3- الرواء: المنظر الحسن. 4- الريا: الريح الطيبة. 5- الشغف: شدة الحب والولع. 6- حبة القلب: سُوَيداؤه. 7- بَسَقَ: علا وارتفع. ص -116- وبلغ من حال المعتمد على الله بأغمات، أن آثر حظياته وأكرم بناته أُلجئت إلى أن تستدعي غَزْلاً من الناس تسد بأجرته بعض حالها، وتصلح به ما ظهر من اختلالها. فأدخل عليها فيما أدخل غزل لبنت عَرِيف شرطة أبيها؛ كان بين يديه يَزَع الناس1 يوم بروزه، لم يكن يراه إلا ذلك اليوم. واتفق أن السيدة الكبرى أم بنيه اعتلت، وكان الوزير أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن زهر2 بمراكش؛ قد استدعاه أمير المسلمين لعلاجه؛ فكتب إليه المعتمد راغبًا في علاج السيدة ومطالعة أحوالها بنفسه. فكتب إليه الوزير مؤديًا حقه ومجيبًا له عن رسالته ومسعفًا له في طلبته3. واتفق أن دعا له في أثناء الرسالة بطول البقاء؛ فقال المعتمد في ذلك: من الوافر دعا لي بالبقاء وكيف يهوَى أسير أن يطول به البقاءُ أليس الموت أروح من حياة يطول على الشقي بها الشَّقاءُ4 فمن يك من هواه لقاء حب فإن هواي من حتْفي اللقاءُ5 أأرغب أن أعيش أرى بناتي عواريَ قد أضر بها الحَفَاءُ6 خوادم بنت من قد كان أعلى مراتبه إذا أبدو النداءُ وطرد الناس بين يدي ممرِّي وكفهمو إذا غص الفناءُُ7 وركض عن يمين أو شمال لنظم الجيش إن رفع اللواءُ8 يُعنِّيه أمام أو وراء إذا اختل الأمام أو الوراءُ9 ولكن الدعاء إذا دعاه ضمير خالص نفع الدعاءُ جُزيتَ أبا العلاء جزاء بَرٍّ نوى برًّا وصاحبك العلاءُ10 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- يزع الناس: يكفهم ويمنعهم. 2- هو أبو العلاء، زهر بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر: طبيب، فيلسوف، وزير، من أهل إشبيلية. نشأ في شرق الأندلس، وسكن قرطبة، وتوفي سنة 525هـ/1131م. "الأعلام، الزركلي: 50/3". 3- المسعف: المعين، المساعد. الطلبة: المطلوب، من طلب الشيء: التمسه وأراده. 4- أروح: أكثر راحة. 5- الحتف: الهلاك, الموت. 6- الحفاء: المشي بلا خف ولا نعل. 7- الفناء: الساحة في الدار، أو بجانبها. وغص الفناء: امتلأ بالوفود والزائرين. 8- اللواء: الراية أو العلم. 9- يعنيه: يتعبه. 10- البر: الخير، المحسن. العلاء: الرفعة والسمو. ص -117- سيُسلي النفْس عما فات علمى بأن الكل يدركه الفناءُ1 وورد عليه أغمات، أبو بكر بن اللبانة المتقدم الذكر، ملتزمًا عهد الوفاء، قاضيًا ما يجب عليه من شكر النُّعمى؛ فسر المعتمد بوروده، فلما أزمع2 ابن اللبانة على السفر، استنفد المعتمد وُسْعَه ووجه إليه بعشرين مثقالًا وثوبين، وكتب إليه معها: من الوافر إليك النَّزْر من كف الأسير فإن تقبل تكن عين الشكورِ3 تقبَّلْ ما يذوب له حياء وإن عذرتْه حالاتُ الفقيرِ! ولا تعجب لخطب غض منه أليس الخسف ملتزم البدورِ؟4 ورجِّ لجبره عقبى نداه فكم جبرت يداه من كسيرِ5 وكم أعلت علاه من حضيضٍ وكم حطت ظُباه من أميرِ6 وكم من منبر حنت إليه أعالي مرتقاه، ومن سريرِ زمان تزاحفت عن جانبيه جياد الخيل بالموت المُبيرِ7 فقد نظرت إليه عيون نحس مضت منه بمعدوم النظيرِ نحوس كن في عقبى سعود كذاك تدور أقدار القديرِ وكم أحظى رضاه من حظي وكم شهرت علاه من شهيرِ8 زمان تنافست في الحظ منه ملوك قد تجور على الدهورِ!9 بحيث يطير بالأبطال ذُعْر ويُلفَى ثَمَّ أرجح من ثبيرِ10 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الفناء: الزوال، الهلاك. 2- أزمع على السفر: عزم عليه, وتهيأ له. 3- النزر: القليل، اليسير. 4- الخطب: الأمر الشديد يكثر فيه التخاطب. غض منه: خفضه، ونقصه، وحط من قدره. الخسف: يقال: خسف القمر خسفًا: ذهب ضوءه أو نقص. 5- الندى: الجود والكرم. جبر العظم الكسير: أصلحه، ومنه: جبر عظمه: أصلح شئونه وعطف عليه، وجبر الفقير واليتيم: كفاه حاجته. 6- الحضيض: ما سفل من الأرض. الظبى: جمع الظبة: حد السيف. 7- المبير: المهلك، يقال: بار الشيء بوْرٍا وبوارًا: هلك، وأباره: أهلكه. 8- الحظي: الذي يفضل على غيره في المحبة، يقال: حظي فلان عند الناس: علا شأنه وأحبوه، وأحظاه السلطان: قربه واختصه وأدناه. 9- تنافست الملوك: تبارت وتسابقت. تجور: تظلم. 10- يلفى: يوجد. أرجح: أثقل، أرزن. ثبير: جبل في الحجاز. ص -118- فامتنع ابن اللبانة من قبول ذلك عليه، وصرفه بجملته إليه؛ وكتب مجيبًا له عن شعره: من الوافر سقطت من الوفاء على خبير فذرني والذي لك في ضميرِي تركت هواك وهو شقيق ديني لئن شُقت برودي عن غدورِ1 ولا كنتُ الطليق من الرَّزايا لئن أصبحت أُجحف بالأسيرِ2 أسير ولا أصير إلى اغتنامٍ معاذ الله من سوء المصيرِ إذا ما الشكر كان وإن تناهى على نعمى فما فضل الشكورِ؟ جَذيمة أنت والأيام خانت وما أنا من يقصر عن قصيرِ3 أنا أدرى بفضلك منك إني لبست الظل منه في الحَرُورِ4 غني النفس أنت وإن ألحت على كفيك حالات الفقيرِ تُصرِّف في الندى حيل المعالي فتسمُحُ من قليلٍ بالكثيرِ5 أُحدث منك عن نبع غريبٍ تفتح عن جَنَى زهر نضيرِ6 وأعجب منك أنك في ظلام وترفع للعفاة منار نورِ رويدك سوف توسعني سرورًا إذا عاد ارتقاؤك للسريرِ7 وسوف تحلني رتب المعالي غَداةَ تحل في تلك القصورِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الشقيق: الأخ. البرود: الأثواب. 2- الرزايا: المصائب. أجحف به: اشتد بالإضرار به. 3- جذيمة: هو جذيمة بن الأبرش اللخمي ملك العراق، وقصير: هو قصير بن سعد اللخمي الذي يضرب به المثل فيقال: "لأمر ما جَدَع قصيرٌ أنفه". "مجمع الأمثال، الميداني: 196/2". ولجذيمة وقصير قصة مفصلة في كتب الأمثال والأدب، خلاصتها: أن الزباء ملكة الجزيرة قتلت جذيمة ثأرًا لأبيها، فجدع قصير أنفه، وأوهم الزباء أن قومه جدعوا أنفه لميله بالولاء إليها، فصدقته ووثقت به. فتآمر عليها مع قومه، فدخلوا قصرها وقتلوها ثأرًا لجذيمة. "مجمع الأمثال، الميداني: 233/1". 4- الحرور: حر الشمس. قال تعالي: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ,} [فاطر: 20-22]. 5- سمُح سماحة وسموحة: بذل في العسر واليسر عن كرم وسخاء. والسماحة: الجود والكرم، أو السهولة واللين. 6- الجنى: ما يُجنى من الشجر. النضير: الحسن المشرق. 7- السرير: أي: سرير الملك. ص -119- تزيد على ابن مروان عطاءً بها وأنيفُ ثَمَّ على جريرِ1 تأهبْ أن تعود إلى طلوع فليس الخسف ملتزم البدورِ فراجعه المعتمد بهذه الأبيات: من الخفيف رد بِرِّي بغيًا علي وبرًّا وجفا فاستحق لومًا وشُكْرَا حاط نزري إذ خاف تأكيد ضري فاستحق الجفاء إذ حاط نَزْرَا فإذا ما طويت في البعض حمدًا عاد لومي في البعض سرًّا وجهرَا يا أبا بكر الغريب وفاء لا عَدِمناك في المغارب ذُخرَا أي نفع يجدي احتياط شفيقٍ متُّ ضرًّا فكيف أرهب ضُرَّا؟2 فأجابه ابن اللبانة رحمه الله: من الخفيف أيها الماجد السَّمَيْدَعُ عذرًا صَرْفي البر إنما كان برَّا3 حاشَ لله أن أجيح كريمًا يتشكى فقرًا وكم سد فقرَا4 لا أزيد الجفاء فيه شُقوقًا غدر الدهر بى لئن رمت غدرَا5 ليت لي قوة, أوَآوي لركن فترى للوفاء مني سِرَّا؟!6 أنت علمتني السيادة حتى ناهضت همتي الكواكب قدرَا7 ربحت صفْقة أزيل بُرودًا عن أديمي بها وألبس فخرَا8 وكفاني كلامك الرطب نيْلًا كيف ألفي درًّا وأطلب تِبْرَا؟!9 لم تمت, إنما المكارم ماتت لا سقى الله بعدك الأرض قَطْرَا10 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- ابن مروان: هو عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي المتوفى سنة 86هـ/705م. جرير: هو جرير بن الخطفي، الشاعر الأموي المتوفى سنة 110هـ/ 728م. 2- الشفيق: المشفق، من شفق عليه: رق له وعطف عليه. 3- الماجد: الشريف الخيِّر. السميدع: السيد الكريم السخي، أو الرئيس الشجاع. 4- "أجيح كريمًا": يقال: جاح فلان: هلك مال أقربائه، وجاحت المصيبة المال: أهلكته واستأصلته. 5- الشقوق: الصدوع, أو الثقوب. 6- آوى إلى المكان: لجأ إليه. 7- ناهض فلان: قاوم، والمراد هنا: سابق وبارى. 8- الصفقة: العقد، أو البيعة، أو ضرب اليد عند البيع علامة إنفاذه. 9- ألفى الشيء: وجده. التبر: الذهب. 10- القطر: المطر. ص -120- ومما قاله المعتمد من الشعر عند موته, وأمر أن يكتب على قبره: من البسيط قبرَ الغريب سقاك الرائح الغادي حقًّا ظَفِرتَ بأشلاء ابن عبادِ1 بالحلم, بالعلم, بالنُّعمى إذا اتصلت بالخصب إن أجدبوا بالرِّيِّ للصادِي2 بالطاعن, الضارب, الرامي إذا اقتتلوا بالموت أحمر بالضِّرغامة العادِي3 بالدهر في نِقَم بالبحر في نعم بالبدر في ظلم بالصدر في النادِي4 نعم هو الحق حاباني به قدر من السماء فوافاني لميعادِ5 ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه أن الجبال تهادَى فوق أعوادِ6 كفاك فارفُقْ بما استودعت من كرم رجاك كل قَطُوب البرق رَعَّادِ7 يبكي أخاه الذي غيبت وابلَه تحت الصفيح بدمع رائح غادِي8 حتى يجودك دمع الطل منهمرًا من أعين الزهر لم تبخل بإسعادِ9 ولا تزل صلوات الله دائمةً على دفينك لا تُحصى بتَعْدادِ وكان للمعتمد على الله هذا ولد يلقب بـ فخر الدولة، رشحه للملك من بعده، وجعله ولي عهده، ولقبه بـ المؤيد بنصر الله؛ فعاقته الفتنة عن مراده، وحالت الأقدار بينه وبين إصداره وإيراده؛ فما برح بفخر الدولة هذا تغير الأيام بعد الفتنة، إلى أن أسلم نفسه في السوق، وتعلم من الصنائع صنعة الصُّوَّاغ، فمر به محمد بن اللبانة المتقدم الذكر شاعر أبيه، فقال في ذلك: من البسيط أذكى القلوب أسًى، أبكى العيون دما خَطْب وجدناك فيه يشبه العدمَا10 أفراد عِقْد المنى منا قدِ انتثرت وعَقْد عروتنا الوثقى قد انفصمَا11 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الأشلاء: الأعضاء، الواحد: شلو. وأشلاء الإنسان: أعضاؤه بعد التفرق والبِلَى. 2- الصادي: الظمآن. 3- الضرغامة: الضرغام: الأسد الضاري الشديد. 4- النادي: مجلس القوم. 5- حاباه: اختصه ومال إليه. وافاه: أتاه، أو أدركه. 6- تهادى: مشى متمايلًا، ومنه: تهادى فلان بين رجلين: اعتمد عليهما من ضعف. 7- استودع فلانًا وديعة: استحفظه إياها. الرعاد: السحاب الكثير الرعد. 8- الوابل: المطر الشديد. الصفيح: الحجارة. 9- الطل: المطر الخفيف. منهمرًا: منصبًّا. الإسعاد: المعاونة. 10- أذكى القلوب: أشعلها. الأسى: الحزن. العدم: الموت، الهلاك. 11- انتثرت: تفرقت. انفصم: انفك، انحل، انفصل. ص -121- شكاتنا فيك يا فخر الهدى عظُمت والرزء يعظم فيمن قدره عظمَا1 طُوِّقتَ من نائبات الدهر مِخْنقة ضاقت عليك، وكم طوقْتَنا نعمَا2 وعاد كونك في دكان قارعة من بعد ما كنت في قصر حكى إِرَمَا3 صرَّفت في آله الصواغ أُنْمُلة لم تدر إلا الندى والسيف والقلمَا يد عهدتك للتقبيل تبسطها فتستقل الثريا أن تكون فمَا يا صائغًا كانت العليا تصاغ له حليًا وكان عليه الحلي منتظمَا للنفخ في الصًّور هول ما حكاه سوى هول رأيناك فيه تنفخ الفَحَمَا4 وددت إذ نظرت عيني إليك به لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمَى ما حطك الدهر لما حط من شرف ولا تحيَّف من أخلاقك الكرمَا5 لُحْ في العلا كوكبًا إن لم تلح قمرًا وقم بها ربوة إن لم تقم علَمَا واصبر فربتما أحمدت عاقبة من يلزم الصبرَ يحمد غِبَّ ما لزمَا والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ولو وفى لك دمع المُزْن لانسجمَا6 بكى حديثك حتى الدر حين غدَا يحكيك رَهْطًا وألفاظًا ومبتسمَا7 وروضة الحسن من أزهارها عرِيت حزنًا عليك لأن أشبهْتَها شِيَمَا8 بعد النعيم ذوى الريحان حين رأى ريحانك الغض يذوي بعد ما نعمَا9 لم يرحم الدهر فضلًا أنت حامله من ليس يرحم ذاك الفضل لا رُحمَا شقيقك الصبح إن أضحى بشارقة وأنت في ظلمة فالصبح قد ظلمَا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الشكاة: الشكوى. الرزء: المصيبة. 2- نائبات الدهر: مصائبه. المخنقة: القلادة. 3- القارعة "من الطريق": وسطه. إرم: قوم منهم عاد، وقيل: مدينة كبيرة لهم. 4- الصور: آلة كالقرن يُنفخ فيها. 5- تحيف الشيء: أخذ من حافاته وتنقصه. 6- انكسفت: احتجبت. المزن: السحاب يحمل المطر. انسجم: سال وانصب. 7- الرهط: الأهل. 8- الشيم: الطباع، الخصال. 9- الغض: النضر، الطري، اللين. يذوي: يذبل. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -122- فصل رجع الحديث عن دولة المرابطين بالأندلس وإنما أوردنا هذه النبذة اليسيرة من أخبار المعتمد على الله، مع ما تعلق بها، وإن كانت مخرجة عن الغرض؛ لندل بها على ما قدمنا من ذكر فضله وغزارة أدبه وإيثاره لذلك؛ وأيضًا فليتصل نسق الأخبار عن المملكة، أعني: مملكة الأندلس إلى المرابطين أصحاب يوسف بن تاشفين, ولوجه ثالث: وهو أن ما آلت إليه حال المعتمد هذا من الخمول بعد النباهة1, والضَّعة2 بعد الرفعة، والقبض بعد البسط، من جملة العبر3 التي أرتْنَاها الأيام، والمواعظ التي تصغر الدنيا في عيون أولي الأفهام. ثم إن يوسف بن تاشفين استوسق له أمر الأندلس بعد القبض على المعتمد؛ إذ كان هو كبش كتيبتها، وعين أعيانها، وواسطة نظمها؛ فلم يزل أصحاب يوسف بن تاشفين يطوون تلك الممالك مملكة مملكة، إلى أن دانت لهم الجزيرة بأجمعها؛ فأظهروا في أول إمرتهم من النكاية4 في العدو، والدفاع عن المسلمين، وحماية الثغور، ما صدق بهم الظنون، وأثلج الصدور5، وأقر العيون؛ فزاد حب أهل الأندلس لهم، واشتد خوف ملوك الروم منهم؛ ويوسف بن تاشفين في ذلك كله يمدهم في كل ساعة بالجيوش بعد الجيوش، والخيل إثر الخيل، ويقول في كل مجلس من مجالسه: إنما كان غرضنا في ملك هذه الجزيرة أن نستنقذها من أيدي الروم، لما رأينا استيلاءهم على أكثرها، وغفلة ملوكهم وإهمالهم للغزو وتواكلهم وتخاذلهم وإيثارهم الراحة؛ وإنما همة أحدهم كأس يشربها، وقَيْنة تُسمعه، ولهو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- خمل الرجل: خفي، فلم يعرف ولم يذكر، وخمل ذكره وصيته: خفي. ونبُه الرجل نباهة: شرُف واشتهر. 2- الضعة: الانحطاط، والخسة، خلاف الرفعة في القدر. 3- العبر: المواعظ. 4- نكى العدو وفيه نكاية: أوقع به، أو هزمه وغلبه. 5- أثلج الصدور: سرها وطمأنها. ص -123- يقطع به أيامه. ولئن عشت لأعيدن جميع البلاد التي ملكها الروم في طول هذه الفتنة إلى المسلمين، ولأملأنها عليهم - يعني الروم- خيلاً ورجالاً لا عهد لهم بالدَّعة1، ولا علم عندهم برخاء العيش؛ إنما هم أحدهم فرس يروضه ويستَفْرِهه2، أو سلاح يستجيده، أو صريخ3 يلبي دعوته... في أمثال لهذا القول. فيبلغ ذلك ملوك النصارى، فيزداد فَرَقُهم4، ويقوى -مما بأيدي المسلمين، بل مما بأيديهم- يأسهم. وحين ملك يوسف أمير المسلمين جزيرة الأندلس وأطاعته بأسرها ولم يختلف عليه شيء منها، عد من يومئذ في جملة الملوك، واستحق اسم السلطنة، وتسمَّى هو وأصحابه بـ المرابطين. وصار هو وابنه معدودين في أكابر الملوك؛ لأن جزيرة الأندلس هي حاضرة المغرب الأقصى، وأم قراه، ومعدن الفضائل منه. فعامة الفضلاء من أهل كل شأن منسوبون إليها، ومعدودون منها. فهي مطلع شمس العلوم وأقمارها، ومركز الفضائل وقطب مدارها؛ أعدل الأقاليم هواءًَ، وأصفاها جوًّا، وأعذبها ماءً، وأعطرها نبتًا، وأنداها ظلالًا، وأطيبها بُكرًا مستعذَبة وآصالاً: من البسيط أرض يطير فؤادي من قرارته شوقًا لها ولمن فيها من الناسِ قوم جنيت جَنَى وردٍ بذكرهمُ فهل بلُقياهم أجني جنى آسِ؟ فانقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم. أعيان الكُتَّاب في دولة المرابطين واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار؛ فممن كتب لأمير المسلمين يوسف: كاتب المعتمد على الله أبو بكر المعروف بابن القَصِيرة5، أحد رجال الفصاحة، والحائز قصب السبق في البلاغة؛ كان على طريقة قدماء الكتاب، من إيثار جَزْل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجاع التي أحدثها متأخرو الكتاب، اللهم إلا ما جاء في رسائله من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الدعة: الخفض, والسعة في العيش. 2- استفره فلان: تخير الجيد من الجياد وغيرها. 3- الصريخ: المستغيث. 4- الفرق: الخوف والفزع. 5- هو أبو بكر، محمد بن سليمان الكلاعي الأندلسي، المعروف بابن القصيرة: أديب، من كبار الكتاب. نشأ في دولة المعتضد، ثم تقدم عند المعتمد. وكانت وفاته سنة 508هـ/1113م. "الصلة، ابن بشكوال: 445". ص -124- ذلك عفوًا من غير استدعاء. رأيت له عن المعتمد رسائل تدل على ما وصفته به، ليس على خاطري منها شيء. وزارة ابن عبدون* ثم كتب له، أو لابنه، بعد أبي بكر هذا -الوزير الأجلّ أبو محمد عبد المجيد بن عبدون. قد تقدم من نعته ما أغنانا عن تكراره ههنا. وكان يكتب قبل من كتب له منهما، للأمير سِير بن أبي بكر بن تاشفين، وهو الذي دخل على المعتمد على الله إشبيلية، فلم يزل يكتب له إلى أن اتصل بأمير المسلمين، باستدعاء منه له. فمن رسائله عنه إلى أمير المسلمين، رسالة يخبر بها بفتح مدينة شَنْتَرين1 أعادها الله؛ وكان سير هذا هو الذي تولى فتحها؛ فكتب عنه أبو محمد كتابًا: أدام الله أمر أمير المسلمين، وناصر الدين، أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين، خافقة بنُصرة الدين أعلامه، نافذة في السبعة الأقاليم أقلامه، من داخل مدينة شنترين، وقد فتحها الله تعالى بحسن سيرتك، ويمن نَقِيبتك2 على المسلمين. والحمد لله رب العالمين، حمدًا يستغرق الألفاظ الشارحة معناه، ويسبق الألحاظ الطامحة أدناه، لا يرد وجهه نُكوص3، ولا يحد كُنْهَه4 تخصيص، ولا يحزِره5 بقبض ولا ببسط مثال ولا تخمين، ولا تحصره بخبط ولا بعَقْد شِمال ولا يمين، ولا يسعه أَمَدٌ يحويه، ولا يقطعه أبدٌ يستوفيه، ولا يجمعه عددٌ يُحصيه، إذا سبقت هواديه6، لحقت تواليه. وعلى محمد عبده وأمين وحيه، الصادع بأمره ونهيه، نظام الأمة، وإمام الأئمة، سر آدم من بنيه، وفخر العالم ومن فيه -صلاة تامة نقضيها، وتحية عامة نؤديها، تَرْفَضُّ7 ارفضاض الزهر من كمامه، وتنفضُّ8 انفضاض المسك من ختامه؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في الأعلام: 149/4؛ الصلة: 311؛ كشف الظنون: 1329. 1- شنترين: مدينة تقع غربي الأندلس، بينها وبين قرطبة خمسةَ عشرَ يومًا. "معجم البلدان: 367/3". 2- النقيبة: السجية والطبيعة. 3- النكوص: الرجوع والإحجام. 4- كنه الشيء: حقيقته. 5- حزَر الشيء: قدره بالتخمين, أو الظن. 6- الهوادي: المتقدمات من الإبل, أو الخيل. 7- ترفض: تتفرق وتتبدد وتزول، ومنه: ارفض الماء: سال أو ترشَّشَ. 8- انفض الشيء: تفرق. ص -125- فلقد صدع بتوحيده، وجمع على وعده ووعيده، وأوضح الحق وجلاه، ونصح الخلق وهداه، إلا من حقت عليه كلمة العذاب، وسبقت له الشقوة في أم الكتاب. وأظهر العزيز -عزت أسماؤه، وجلت كبرياؤه- دينه على جميع الأديان، على رَغْم من الصلبان، ووَقْم1 من الأوثان؛ وأنجز لنا تعالى وعده، ونصرنا معه -صلى الله عليه وسلم- وبعده، وجمع في هذه الجزيرة شمل الإسلام بعد انصرامه وانبتاته2، وقطع غِيل3 الإشراك بعد انتصابه وثباته، وأنزل الذين كفروا من أهل الكتاب بأيدينا من صَيَاصيهم4، نأخذ بأقدامهم ونواصيهم. وكانت قلعة شنترين -أدام الله أمر أمير المسلمين- من أحصن المعاقل للمشركين، وأثبت المعاقل على المسلمين؛ فلم نزل بسعيك الذي اقتفيناه، وهديك الذي اكتفيناه، نَخْضد5 شوكتها، وننحت أَثْلَتها6، ونتناولها عَلَلًا بعد نَهَل7، ونطاولها عجلًا في مهل؛ نخرُف8 الحين بعد الحين سَرَاة رجالها، ونتطرف9 المرة بعد المرة حماة أبطالها، ونخوض غمار كفاحهم، وبحار صِفاحهم10، إلى بسط أشباحهم، وقبض أرواحهم، ونُهدي للقَنا وصدورها رءوسهم، وإلى لظًى وسعيرها نفوسهم، وننقلهم من الشِّفار اليمانية، إلى النار الحامية، ونرفع بالجد والتشمير حجاب كيدهم الغامض، ونضعضع باستخارة القديم القدير هضاب أَيْدِهم الهائض11. ولما رأينا هذه القلعة الشريفة المناسب في القلاع، المنيفة12 المناصب على البقاع، قد استشرى داؤها، وأعيا دواؤها، استخرنا الله تعالى على صَمْدها13، وضرَعنا إليه في تسهيل قصدها؛ وسألناه ألا يكلنا إلى نفوسنا، وإن كانت في صيانة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الوقم: الكُرْه والقَسْر. 2- الانصرام والانبتات: الانقطاع. 3- الغيل في "الأصل": موضع الأسد، أو الشجر الكثيف الملتف. 4- الصياصي: الحصون، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26]. 5- خضد الشيء: كسره، أو قطعه. 6- الأثلة: الأصل، ونحت أثلته: عابه وتنقَّصه. 7- العلل: الشرب الثاني. النهل: الشرب الأول. 8- نخرف: نقطف، نجني. 9- طرَّف الشيء: أخذ من أطرافه. 10- الصفاح: جمع الصفيحة: وجه كل شيء عريض، كوجه السيف واللوح والحجر. 11- الأيد: القوة. الهائض: من هاض العظم هيضًا: كسره. 12- المنيفة: العالية، المشرفة. 13- صمد الشيء، وله، وإليه: قصده. ص -126- ديانته مبذولة، وعلى المكروه والمحبوب في ذاته محمولة؛ فقصدنا إليها، وهجمنا هجوم الردى عليها، في وقت انسدت فيه أبواب السبل، وأعيت أهلها بحول الله وجوه الحِيَل، والدهر قد كشر عن أنيابه العُصْل1، وقام من الوحول والسيول على أثبت رِجْل. فنزلنا بساحة القوم، فساء صباحهم ذلك اليوم؛ فلم نزل نصاولهم2 مصاولة المحتسب المؤتجر، ونطاولهم مطاولة المرتقب لأمر الله المنتظر، ونشن الغارات على جميع الجهات، فترد جيوشنا عليهم خفافًا وتصدر إلينا ثقالًا، فتملأ صدور الأعداء أوجالًا3، وأيدي الأولياء أموالًا. وأمرنا بإقامة سوق سبيهم وأموالهم، على مرأًى ومسمَعٍ من نسائهم ورجالهم؛ فازدادت ريحهم بذلك ركودًا، ونارهم خمودًا. ولما ضمهم لضيق ولَاجه الحصار، وغشيهم بتفريق أمواجه البوار4، وأحاط بهم البلاء، واستشاط عليهم بغضب الجبار القضاء، ولم يكن لليل بأسائهم سحر يُتأمل، ولا لوِرْد ضرائهم صدر يُؤمل، اختاروا الدنية على المنية، ورضُوا بالاستسلام للعبودية، وإسلام الأهل والذرية، والسلامة من مدارج الكفن، وموالج الجَنن، ولو بجُريعة الذَّقَن. وكان القتل -كما قدمنا- قد أتى على صِيد5 أعيانهم، وصناديد6 فرسانهم، فلم تبق إلا شرذمة7 قليلة، وعُصبة ذليلة، لا تضر حياتهم مُوحِّدًا، ولا تسر نجاتهم مُلحدًا. نقلناهم من يمين المنون، إلى شمال الهُون8، ومن أليم الحصار، إلى لئيم الإسار. وكانوا سألونا الإبقاء عليهم فأجبناهم، بعد أن قدموا من الخضوع صدقة بين يدي نجواهم، ووهبنا أولاهم لأخراهم، وجعلنا العفو عنهم تطريقًا لسواهم، ممن يتقيل صنيعهم إذا نحن غدًا بإذن الله حاصرناهم. وهذه القلعة التي انتهينا إلى قرارها، واستولينا على أقطارها، أرحب المدن أمدًا للعيون، وأخصبها بلدًا في السنين، لا يريمها9 الخِصب ولا يتخطاها، ولا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- العصل: جمع الأعصل: المعوج في صلابة. 2- صاوله: غالبه ونافسه. 3- الأوجال: جمع الوجل: الخوف, أو الفزع. 4- البوار: الفساد, والهلاك. 5- الصيد: جمع الأصيد: الذي يميل بوجهه كبرًا وتِيها لمكانته ورفعته. 6- الصناديد: جمع الصنديد: الشريف, الشجاع. 7- الشرذمة: القطعة من الشيء، يقال: شرذمة من الناس: جماعة قليلة. قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54]. 8- الهون: الشدة, أو الخزي. قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93]. 9- لا يريمها: لا يفارقها. ص -127- يرومها الجدب ولا يتعاطاها؛ فروعها فوق الثريا شامخة، وعروقها تحت الثرى راسخة، تباهي بأزهارها نجوم السماء، وتناجي بأسرارها أذن الجوزاء، مواقع القطار1 في سواها مغبرَّة مربدَّة2، وهي زاهرة تَرِفُّ أنداؤها، ومطالع الأنوار في حشاها مقشعرة مسودة، وهي ناضرة تَشِفُّ أضواؤها. وكانت في الزمن الغابر، أعيت على عظيم القياصر، فنازلها بأكثر من القَطْر عددًا، وحاولها بأوفر من البحر مددًا، فأبت على طاعته كل الإباء، واستعصت على استطاعته أشد الاستعصاء، ومردت مُرود3 مارد على الزَّبَّاء4. فأمكننا الله تعالى من ذِرْوتها، وأنزل رُكابها لنا عن صهوتها. ومن رسائله -الإخوانيات- رسالة كتب بها إلى أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال5 يخطب مودته، ويستدعي من إخائه جدته: أنا مع عمادي الأعظم -أدام الله علوه- كعزيب6 طواه الجَهْد، وآواه من تِهامة وَهْد7، وما له بريحها العقيم، ولا بحرها المقعد المقيم عهد. فرفضت به من سرابها المغرق وشرابها المحرق في حمَّام، فأشرف من ذلك الجحيم وضَرَمه، لولا تنفيس الرحيم عنه بكرمه, فوأل8 إلى ربوة من رباها، وسأل جبال فاران عن مهب صَباها؛ ليلتقط من أنفاسها بوساطة نجد، بردًا يهديه إلى حر الوجد؛ فحيته ببليل من نسيمها العليل، فأحيته بعد التعليل. وأنا ما قصدت فيما خطبت به إليك لآخذ عليك بفضل الابتداء، وإنما سلكت سبيل الاقتداء، واتبعت دليل الاهتداء؛ وأردت أن أستنير بأضوائك، وأستثير من سمائك، نجومًا تهديني في غسق الظلام، أو رُجومًا تعديني على مسترق سمع الكلام. فإن سمح عمادي بالجواب ورَجْعه، غالبت -بما حصل منه لدي ووصل إلي- الحمام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- القطار: جمع القطر: المطر. 2- مربدة: اختلط سوادها بكدرة. 3- مردت: طغت وتجاوزت الحد. 4- الزباء: هي ملكة تدمر. 5- هو أبو عبد الله، محمد بن مسعود بن طيب بن فرج بن أبي الخصال الغافقي: شاعر, أديب، وزير، يعرف بذي الوزارتين. توفي سنة 540هـ/1146م. "الأعلام، الزركلي: 95/7". 6- العزيب: البعيد. 7- الوهد: المنخفض من الأرض. 8- وأل: لجأ وخلص. ص -128- في سجعه1، والأنصار في حَسَّانها2، والإعصار3 في نيسانها، وطيئًا في وليدها وحبيبها4، وسعدًا في خالدها وشبيبها. وخرقت -بما أعار من مِراح وأثار من ارتياح- جيب مُخارق5 طربًا، ولم أدع لأبي العتاهية6 في المغرب وخفيفه المطرب أرَبًا، وطويت كشحًا7 عن أغاريد عبيد8، وأضربت صفحًا عن أناشيد لبيد9، وطالبت بلغاء العصر، بالمثل المضروب في جمل مصر، وقلت: هذه القارة فراموها وأنصفوا، وهذه الغاية فروموها أو نصفوا، وإن كانت تُؤَمُه البواهر منا أُنحلت في دَرْجي10، ونجومه الزواهر ما حلت في بُرجي. وإن كفي من جنى ثماره لصِفر11، وإن طرفي من سنا أقمارها لقَفْر. وإني بضنه علي بدُرة من بحره، أو نَفْثة من سحره، لبين ظنين، لم أحصل من تحقيقهما على أثر ولا عين، أحدهما قلت: إنه أجرى اسمي على خَلَده، فلم يجدني في أنداده12 ولا بلده، فقال: وما أنا وفلان، وهل هو إلا من الغرب، وإن كان بزعمه في الصميم من العُرْب، وهل الغرب في الأقطار، إلا كاللَّحق13 بين الأسطار. والآخر ربما يقول، ما لا تقبله العقول: إني لأنظر من فلان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- سجعت الحمامة سجعًا: رددت صوتها على طريقة واحدة. 2- الأنصار: هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين نصروه في المدينة. حسان: هو الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري، المتوفى سنة 54هـ/674م. 3- الإعصار: ريح تهب بشدة، وتثير الغبار، وترتفع كالعمود في السماء. 4- وليدها: هو أبو عبادة, الوليد بن عبيد الطائي الشاعر, المتوفى سنة 284هـ/898م. وحبيبها: هو أبو تمام، حبيب بن أوس الطائي الشاعر, المتوفى سنة 231هـ/846م. 5- مخارق: هو أبو المهنأ، مخارق بن يحيى الجزار: إمام عصره في الغناء، ومن أطيب الناس صوتًا. كان مقربًا من الرشيد والمأمون العباسييْنِ. وتوفي سنة 231هـ/845م. "الأعلام، الزركلي: 191/7". 6- هو إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، العنزي بالولاء، الشهير بأبي العتاهية: شاعر مكثر مطبوع. نشأ في الكوفة، وسكن بغداد، وتوفي سنة 211هـ/826م. "طبقات الشعراء، ابن المعتز: 227". 7- يقال: طوى كشحه على الأمر: أضمره وستره، وطوى عنه كشحه: تركه وأعرض عنه. 8- عبيد: هو عبيد بن الأبرص الأسدي، الشاعر الجاهلي، المتوفى نحو سنة 25ق. هـ/نحو 600م. 9- لبيد: هو لبيد بن ربيعة العامري، الشاعر المخضرم المشهور، المتوفى سنة 41هـ/661م. 10- الدرج: الورق الذي يكتب فيه، ويقال: أنفذته في درج كتابي: في طَيِّه، ونحن درجُ يديك: أي: طوع يديك. 11- كفي صفر: خالية. 12- الأنداد: جمع الند: المثل والنظير. 13- اللحق: ما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه، فتلحق به ما سقط عنه، أو هو كل ما يجيء بعد شيء سبقه. ص -129- بأحد من نظر الزَّرْقاء1، إلى أجل من خطر العَنْقاء،؛ وينشد قول أبي العلاء بن سليمان2، شاعر معرة النعمان: أرى العنقاء تكبر أن تُصَادَا وأنا أقسم بالربيع الممطر وائتلاف أوانه، والبقيع المزهر واختلاف ألوانه، والشباب ودولته، والمِضْراب وصولته، والمثاني إذا نُسقت3، والقناني وما وَسَقَتْ4، وإن أقسمت من بعضها بيمين، لا أتلقى رايتها بشمال ولا يمين -أن اسمي في البلغاء والفهماء، كاسم العنقاء في الأسماء: اسم ما وقع على مسمًّى، ولفظ ما دل على معنًى. فأين أقع مما تريد، وكتابى بين يدي حمدي أو عتابي بريد، ينفض تهائم ظنوني، أو ينقض تمائم جنوني. وله الرأي العالي في الجواب، على خطإ كنت من ظني أو صواب، إن شاء الله -عز وجل-. ومن سلامي، علي عمادي الأعظم وإمامي، أحفله وأحفده5، وأجزله وأوفده؛ والسلام الأتم الأعم عليه ورحمة الله وبركاته. فراجعه الوزير أبو عبد الله برسالة لم يكتب مثلها في بابها، أبدع فيها غاية الإبداع، وإن كان فيها بعض تكلف، تسمى هذه الرسالة: الحولية, منعني من إيرادها في هذا المرسوم ما فيها من الطول. ولأبي محمد عبد المجيد المذكور إحسان قد اشتهر عندنا بتلك الأقطار شهرة الأمثال، وسار ذكره فيها سير الجنوب والشمال. واتصلت حال أمير المسلمين يوسف -كما ذكرنا- في إيثار الغزو، وقمع6 ملوك الروم، والحرص على ما يعود بالمصلحة على جزيرة الأندلس، إلى أن توفي في شهور سنة 493. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الزرقاء: أعني: زرقاء اليمامة، وكانت مشهورة بحدة النظر. 2- هو أبو العلاء، أحمد بن عبد الله بن سليمان بن التنوخي المعري: شاعر فيلسوف، ولد في معرة النعمان، وفقد بصره صغيرًا، وتوفي سنة 449هـ/1057م. "وفيات الأعيان، ابن خلكان:113/1". 3- نسقت: نظمت، رتبت. 4- وسقت: حملت. 5- أحفده: يقال: حفد الرجل حَفَدَانًا: خَفَّ وأسرع في عمله، وحفد فلانًا: أعانه وخف إلى خدمته. 6- قمع فلانًا قمْعًا: منعه عما يريد، أو قهره وذلله. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -130- ولاية أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين* وقام بأمره من بعده ابنه علي بن يوسف بن تاشفين، وتلقب بلقب أبيه أمير المسلمين, وسمى أصحابه المرابطين, فجرى على سنن أبيه في إيثار الجهاد, وإخافة العدو، وحماية البلاد. وكان حسن السيرة، جيد الطوية1، نزيه النفس، بعيدًا عن الظلم؛ كان إلى أن يُعَد في الزهاد والمتبتلين2 أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين. واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرًا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء؛ فكان إذا ولى أحدًا من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمرًا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء. فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغًا عظيمًا لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس. ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم، طول مدته، فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا. وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم، واتسعت مكاسبهم، وفي ذلك يقول أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البنِّي، من أهل مدينة جَيَّان من جزيرة الأندلس: من الكامل أهلَ الرياء لبِستمو ناموسكم كالذئب أدلج في الظلام العاتمِ3 فملكتمو الدنيا بمذهب مالكٍ وقسمتمو الأموال بابن القاسمِ4 وركِبتمو شُهْب الدواب بأشهبٍ وبأصبغ صبغت لكم في العالمِ5 وإنما عرَّض أبو جعفر هذا في هذه الأبيات بالقاضي أبي عبد الله محمد بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في الأعلام: 33/5. 1- الطوية: الضمير. 2- تبتل الرجل: انقطع، وتبتل إلى الله: تفرغ لعبادته. 3- الرياء: النفاق. الناموس: القانون أو الشريعة، أو بيت الراهب، أو مأوى الأسد. أدلج الذئب: سار في الليل, أوله أو آخره. العاتم: من أعتم الليل, وعتم: مرت قطعة منه. 4- مالك: هو الإمام مالك بن أنس، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. أبو القاسم: من كبار علماء المالكية. 5- أشهب: هو أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري الجعدي: فقيه الديار المصرية في عصره، وصاحب الإمام مالك. توفي سنة 204هـ/819م. "الأعلام، الزركلي: 333/1". ص -131- حمدين قاضي قرطبة، وهو كان المقصود بهذه الأبيات؛ ثم هجاه بعد هذا صريحُا بأبيات أولها: من المتقارب أدجالُ, هذا أوان الخروج ويا شمس لُوحي من المغربِ1 يريد ابن حَمْدين أن يعتفي وجدواه أنأى من الكوكبِ2 إذا سُئل العُرْف حك استه ليُثبت دعواه في تغلبِ3 في أمثال لهذه الأبيات. وكان القاضي أبو عبد الله بن حمدين ينتسب إلى تغلب ابنة وائل. ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من عَلِم عِلْم الفروع، أعني: فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها. وكثر ذلك حتى نُسي النظر في كتاب الله, وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء. ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام. وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين، وربما أدى أكثره إلى اختلاف في العقائد، في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بُغْض علم الكلام وأهله، فكان يُكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه. ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي4 -رحمه الله- المغرب، أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد -من سفك الدم واستئصال المال- إلى من وُجد عنده شيء منها؛ واشتد الأمر في ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الدجال: أي: أعور الدجال، الذي يخرج في آخر الزمان. لوحي من المغرب: يشير إلى قرب قيام الساعة؛ لأن ظهور الشمس من المغرب، من علاماتها الكبرى. 2- اعتفى فلانٌ فلانًا: أتاه يطلب معروفه. الجدوى: العطية. أنأى: أبعد. 3- العرف: المعروف. وفي البيت إشارة إلى بيت الشاعر جرير بن الخطفي في الأخطل التغلبي: والتغلبي إذا تنحنح للقرى حك استه وتمثل الأمثالَا "ديوان جرير: 362". 4- هو أبو حامد، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطوسي، الشافعي: فقيه، فيلسوف، متصوف، إمام مشهور. توفي سنة 505هـ/1112م. "وفيات الأعيان، ابن خلكان: 217/4؛ شذرات الذهب، ابن العماد: 11/4". ص -132- أعيان الكتاب في عهد أبي الحسن ولم يزل أمير المسلمين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس، وصرف عنايته إلى ذلك؛ حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك، كأبي القاسم بن الجد1 المعروف بـ الأحدب، أحد رجال البلاغة، وأبي بكر محمد بن محمد المعروف بابن القَبْطُرْنَة، وأبي عبد الله بن أبي الخِصَال، وأخيه أبي مروان، وأبي محمد عبد المجيد بن عبدون المذكور آنفًا؛ في جماعة يكثر ذكرهم. وكان من أنبههم عنده، وأكبرهم مكانة لديه: أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال، وحُق له ذلك؛ إذ هو آخر الكتاب، وأحد من انتهى إليه علم الآداب، وله مع ذلك في علم القرآن والحديث والأثر وما يتعلق بهذه العلوم الباع الأرحب، واليد الطولى. فمما أختار له -رحمه الله-, فصول من رسالة كتب بها مراجعًا لبعض إخوانه، عن رسالة وردت عليه منه يستدعي فيها منه شيئًا من كلامه؛ وهذا الرجل صاحب الرسالة هو أبو الحسن علي بن بَسَّام2 صاحب كتاب الذخيرة: وصل من السيد المسترِق، والمالك المستحِق -وصل الله إنعامه لديه، كما قصَر الفضل عليه- كتابه البليغ، واستدراجه المُريع؛ فلولا أن يَصْلد3 زَنْد اقتداحه، ويرقد طرف افتتاحه، وتنقبض يد انبساطه، وتَغْبَن4 صفقة اغتباطه -للزمت معه مركز قدري، وصُلْتُ سريرة صدري؛ لكنه بنفثات سحره يسمع الصم، ويستنزل العُصْم5، ويقتاد الصعب فيُصحب، ويستدر الصخور فتُحلب. ولما فجأني ابتداؤُه، وقرع سمعي نداؤُه، فرغت إلى الفكر، وخفق القلب بين الأمن والحذر، فطاردت من الفِقَر أوابد قفر؛ وشوارد عَفْر6، تُغبِّر في وجه سائقها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو القاسم، محمد بن عبد الله بن الجد الفهري: من أهل التفنن في المعارف، والتقدم في الآداب والبلاغة. توفي سنة 515هـ/1121م. "الصلة، ابن بشكوال: 449". 2- هو أبو الحسن، علي بن بسام الشنتريني الأندلسي: أديب، من الكتاب الوزراء. توفي سنة 542هـ/1147م. "الأعلام، الزركلي: 266/4". 3- صَلَد الزند: صوَّت ولم يُورِ. 4- تغبن: تنقص. 5- العصم: تيوس الجبل، التي تستعصم بأعالي الجبال. 6- العفر: وجه الأرض، أو التراب. ولعله أراد بـ "شوارد عفر": الظباء؛ لأن الأعفر هو: الظبي الذي يعلو بياضه حمرة. وقد جاء في المثل: "بات على قرن أعفر"، ويضرب لمن يبيت ليله في شدة مقلقة. ص -133- ولا يتوجه اللحاق لوجيهها ولا حقها؛ فعلمت أنها الإهابة والمهابة1، والإصابة والاسترابة2، حتى أيأستني الخواطر، وأخلفتني المواطر؛ إلا زِبْرجًا3 يُعقب جوادًا، وبَهْرَجًا4 لا يحتمل انتقادًا؛ وأنَّى لمثلي والقريحة مرجاة، والبضاعة مزجاة5 -ببراعة الخطاب، وبزاعة6 الكتَّاب. ولولا دروس7 معالم البيان، واستيلاء العفاء8 على هذا الشأن، لما فاز لمثلي فيه قِدْح، ولا تحصل لي في سوقه ربح؛ لكنه جو خالٍ، ومضمار جهال؛ وهي حكمة الله في الخلق، وقسمته للرزق. وأنا -أعزك الله- أربأ بقدر الذخيرة، عن هذه النُّتَف الأخيرة، وأرى أنها قد بلغت مداها، واستوفت حلاها؛ وأنا أخشى القَدْح في اختيارك، والإخلال بمختارك. وعلى ذلك فوالله ما من عادتي أني أثبت ما أكتب في رسم يُنقل، ولا في وضع المراتب عندنا مخاطب يُتحفز له ويُحتفل؛ وإنما هو عفو فكر، ويسير ذكر. وعذرًا -أعزك الله- فإني خططت ما خططته والنوم مغازل، والقُرُّ9 منازل، والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجَّاج10، فطورًا تسدده سِنانًا، وتارة تحركه لسانًا؛ وآونة تطويه حُبابة، وأخرى تنشره ذؤابة. وتُقيمه إبرة لهب، وتعطفه بُرَة ذهب11، أو حُمَة12 عقرب. وتُقوِّسه حاجبَ فتاة، ذات غمزات، وتسلطه على سليطه، وتزيله عن خليطه؛ وتخلعه نجمًا، وتمده رجمًا، وتسل روحه من ذباله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الإهابة: من أهاب به: دعاه إلى العمل، أو إلى تركه. والمهابة: من هابه هيبًا ومهابةً: أجله وعظمه، أو حذره وخافه. 2- الاسترابة: من استراب به: رأى منه ما يريبه، والريب: الشك والظن والتهمة. 3- الزبرج: الحلية والزينة من وشي أو جوهر أو نحو ذلك، أو الذهب، أو السحاب. 4- البهرج: الباطل، أو المباح. 5- المزجاة: القليلة، ومنه: زجا الشيء: راج، وزجاه وأزجاه: ساقه ودفعه, أو روَّجه. وفي التنزيل العزيز: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88]، أي: مدفوعة, يدفعها كل من رآها لرداءتها، وكانت دراهم زيوفًا، أو غيرها. 6- بزع الكاتب وغيره: صار جريئًا على الكلام، أو صار ظريفًا كَيِّسًا. 7- درس الشيء: زال وامَّحى أثره. 8- العفاء: الزوال. 9- القر: البرد. 10- الحجاج: هو الحجاج بن يوسف الثقفي، أحد كبار القادة الأمراء الشجعان في عهد بني أمية. عُرف بشدته وقسوته وكثرة سفكه للدماء. توفي سنة 95هـ/714م. "الأعلام، الزركلي: 168/2". 11- البرة: حلقة من ذهب أو غيره، تضعها المرأة في أنفها للزينة. 12- الحمة: سُمُّ كل شيء يلدغ أو يلسع، أو الإبرة التي تضرب بها العقرب والزنبور ونحو ذلك. ص -134- وتعيده إلى حاله. وربما نصبته أذن جَوَاد، ومسخته حَدَق جراد، ومشقته حروفًا بِرَقّ، بكف ودق. ولثمت بسناه قِنديله، وألقت على أعطافه مِنديله. فلا حظ منه للعين، ولا هداية في الطِّرس لليدين؛ والليل زَنجي الأديم1، تِبري النجوم؛ قد جللنا ساجُه2، وأغرقتنا أمواجه؛ فلا مجال لِلَحْظٍ، ولا تعارف إلا بلفظٍ. لو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، أو خُضبت به الشَّيبة لما نصلت3؛ والكلب قد صافح خيشومه ذنَبه، وأنكر البيت وطُنُبه4، والتوى التواء الحُباب5، واستدار استدارة الحَباب6. وجَلده الجليد، وصعد أنفاسه الصَّعيد؛ فحِماه مباح، ولا هرِير7 ولا نُباح. والنار كالرحيق، أو كالصديق. كلاهما عنقاء مُغرِب، أو نجم مغرب. استوى الفصل، ولك في الإغضاء الفضل؛ والسلام. ولأبي عبد الله هذا ديوان رسائل يدور بأيدي أدباء أهل الأندلس، قد جعلوه مثالًا يحتذونه، ونصبوه إمامًا يقتفونه؛ منعني من إيراد ما أختار له من ذلك، خوف الخروج إلى التطويل الممل، والإكثار المخل. فلم يزل أبو عبد الله هذا وأخوه كاتبينِ لأمير المسلمين، إلى أن أخر أمير المسلمين أبا مروان عن الكتابة، لمَوْجِدة كانت منه عليه؛ سببها أنه أمره وأخاه أبا عبد الله أن يكتب عنه إلى جند بلنسية، حين تخاذلوا وتواكلوا حتى هزمهم ابن رذمير -لعنه الله- هزيمة قبيحة، وقتل منهم مقتلة عظيمة؛ فكتب أبو عبد الله رسالته المشهورة في ذلك؛ وهي رسالة كاد أهل الأندلس قاطبة أن يحفظوها، أحسن فيها ما شاء، منعني من إيرادها ما فيها من الطول. وكتب أبو مروان رسالة في ذلك الغرض، أفحش فيها على المرابطين وأغلظ لهم في القول أكثر من الحاجة؛ فمن فصولها قوله: أَيْ بني اللئيمة، وأعيار الهزيمة، إِلامَ يزيفكم الناقد، ويردكم الفارس الواحد؟ فليت لكم بارتباط الخيول ضأنًا لها حالب قاعد. لقد آن أن نوسعكم عقابًا، وألا تلُوثوا8 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- زنجي الأديم: أسود مظلم. 2- الساج: الطيلسان الضخم الغليظ، أو خشب يُجلب من الهند، أو شجر عظيم الحجم يتغطى الرجل بورقة منه, فتكنه من المطر، وله رائحة طيبة. 3- نصَل اللون نَصْلًا ونصولًا: زال، ويقال: نصل الشعر أو الثوب: زال عنه خضابه أو لونه. 4- الطنب: حبل يشد به الخباء, والسرادق, ونحوهما. 5- الحباب: الحية. 6- الحباب: طرائق تظهر على وجه الماء، أو الفقاقيع التي تطفو على وجهه. 7- الهرير: صوت الكلب دون النباح. 8- لاث العمامة ونحوها: لفَّها وعصبَها. ص -135- على وجه نقابًا1، وأن نعيدكم إلى صحرائكم، ونظهر الجزيرة من رُحَضَائكم...2. في أمثال لهذا القول؛ فأحنق ذلك أمير المسلمين وأخره عن كتابته، وقال لأبي عبد الله أخيه: كنا في شك من بغض أبي مروان للمرابطين، والآن قد صح عندنا. فلما رأى ذلك أبو عبد الله استعفاه فأعفاه، ورجع إلى قرطبة بعدما مات أخوه أبو مروان بمراكش. وأقام هو بقرطبة إلى أن استشهد في داره -رحمه الله- أول الفتنة الكائنة على المرابطين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- النقاب: القناع تجعله المرأة على مارن أنفها, تستر به وجهها. 2- الرحضاء: العرق الكثير يغسل الجلد. المعجب في تلخيص أخبار المغرب اختلال أحوال المرابطين واختلت حال أمير المسلمين -رحمه الله- بعد الخمسمائة اختلالًا شديدًا، فظهرت في بلاده مَنَاكر3 كثيرة؛ وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد، ودعواهم الاستبداد؛ وانتهوا في ذلك إلى التصريح؛ فصار كل منهم يصرح بأنه خير من عليًّ أمير المسلمين، وأحق بالأمر منه!. واستولى النساء على الأحوال، وأسندت إليهن الأمور، وصارت كل امرأة من أكابر لمتونة ومسوفة مشتملة على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب خمر وماخور4؛ وأمير المسلمين في ذلك كله يتزيد تغافله، ويقوى ضعفه؛ وقنع باسم إمرة المسلمين، وبما يرفع إليه من الخراج؛ وعكف على العبادة والتبتل؛ فكان يقوم الليل ويصوم النهار، مشتهرًا عن ذلك؛ وأهمل أمور الرعية غاية الإهمال؛ فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس، وكادت تعود إلى حالها الأول، لا سيما منذ قامت دعوة ابن تومرت بالسُّوس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 3- المناكر: المنكرات. 4- الماخور: حانوت أو مكان، يُشرب فيه الخمر، وتُمارس فيه أنواع الفجور. المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص -136- ذكر قيام محمد بن تومرت المتسمي بالمهدي* وبدء أمر الموحدين بالمغرب والأندلس ولما كانت سنة 515 قام بسوس محمد بن عبد الله بن تومرت في صورة آمر بالمعروف, ناهٍ عن المنكر. ومحمد هذا رجل من أهل سوس، مولده بها بضَيْعة منها تعرف بـ إيجلي أن وارْغَن، وهو من قبيلة تسمى هَرْغَة، من قوم يعرفون بـ إيسَرِغينَنْ، وهم الشرفاء بلسان المصامدة، ولمحمد بن تومرت نسبة متصلة بالحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وجدت بخطه1. وكان قد رحل إلى المشرق في شهور سنة 501 2 في طلب العلم، وانتهى إلى بغداد، ولقي أبا بكر الشاشي3، فأخذ عليه شيئًا من أصول الفقه وأصول الدين، وسمع الحديث على المبارك بن عبد الجبار4 ونظرائه من المحدثين. وقيل: إنه لقي أبا حامد الغزالي بالشام أيام تزهده، فالله أعلم. وحكي أنه ذكر للغزالي ما فعل أمير المسلمين بكتبه التي وصلت إلى المغرب، من إحراقها وإفسادها، وابن تومرت حاضر ذلك المجلس، فقال الغزالي حين بلغه ذلك: ليذهبن عن قليل ملكه، وليُقتلن ولده، وما أحسب المتولي لذلك إلا حاضرًا مجلسنا! وكان ابن تومرت يحدث نفسه بالقيام عليهم؛ فقوي طمعه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ترجمته في: وفيات الأعيان: 45/5؛ شذرات الذهب: 70/4؛ الأعلام: 228/6. 1- هو وفقًا لما ورد في وفيات الأعيان: "محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن سفيان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب". 2- كان عمره في تلك الآونة ستَّ عشرةَ سنةً. 3- هو أبو بكر، محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي القفال الفارقي المستظهري: رئيس الشافعية بالعراق في عصره. توفي سنة 507هـ/ 1114م. "الأعلام، الزركلي: 316/5". 4- هو أبو الحسن، المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الأزدي، البغدادي، الصيرفي، المعروف بابن الطيوري: عالم بالحديث، ثقة، مكثر. توفي سنة 500هـ/1107م. "الأعلام، الزركلي: 271/5". ص -137- وكر راجعًا إلى الإسكندرية، فأقام بها يختلف إلى مجلس أبي بكر الطرطوشي الفقيه1. وجرت له بها وقائع في معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أفضت إلى أن نفاه متولي الإسكندرية عن البلاد؛ فركب البحر؛ فبلغني أنه استمر على عادته في السفينة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن ألقاه أهل السفينة في البحر. فأقام أكثر من نصف يوم يجري في ماء السفينة لم يصبه شيء. فلما رأوا ذلك من أمره أنزلوا إليه من أخذه من البحر، وعظم في صدورهم، ولم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب بجاية, فأظهر بها تدريس العلم والوعظ، واجتمع عليه الناس، ومالت إليه القلوب، فأمره صاحب بجاية بالخروج عنها حين خاف عاديته، فخرج منها متوجهًا إلى المغرب. فنزل بضيعة يقال لها ملالة، على فرسخ من بجاية؛ وبها لقيه عبد المؤمن بن علي، وهو إذ ذاك متوجه إلى المشرق في طلب العلم؛ فلما رآه محمد بن تومرت، عرفه بالعلامات التي كانت عنده. وكان ابن تومرت هذا أوحد عصره في علم خطِّ الرَّمْل، مع أنه وقع بالمشرق على ملاحم من عمل المنجمين وجُفور2 من بعض خزائن خلفاء بني العباس؛ أوصله إلى ذلك كله فرط اعتنائه بهذا الشأن, وما كان يحدث به نفسه. وبلغني من طرق صحاح أنه لما نزل ملالة -الضيعة التي تقدم ذكرها- سُمع وهو يقول: ملالة!ملالة! يكررها على لسانه يتأمل أحرفها؛ وذلك لما كان يراه أن أمره يقوم من موضع في اسمه ميم ولامان؛ فكان -كما ذكرنا- إذا كررها يقول: ليست هي!. وأقام بهذه الضيعة أشهرًا، وبها مسجد يعرف به، وهو باقٍ إلى اليوم، لا أدري أبني على عهده أو بعده. ... فاستدعى عبد المؤمن وخلا به، وسأله عن اسمه واسم أبيه ونسبه، فتسمى له وانتسب. وسأله عن مقصده فأخبره أنه راحل في طلب العلم إلى المشرق. فقال له ابن تومرت: أوَخَير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: شرف الدنيا والآخرة؛ تصحبني وتعينني على ما أنا بصدده، من إماتة المنكر وإحياء العلم وإخماد البدع. فأجابه عبد المؤمن إلى ما أراده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو بكر، محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي الطرطوشي: حافظ، فقيه، أديب، من أهل طرطوشة بالأندلس. تنقل في بلاد المشرق، وأقام في الإسكندرية يدرس الحديث والفقه إلى أن توفي سنة 520هـ/1126م. "بغية الملتمس، الضبي: 135". 2- الجفور: جمع الجفر: جلد كتب فيه الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- أو جعفر الصادق الأحداث قبل وقوعها. وعلم الجفر: علم يُبحث فيه عن الحروف من حيث دلالاتها على أحداث العالم. "المعجم الوسيط: 126/1". ص -138- وأقام ابن تومرت بملالة أشهرًا، ثم رحل عنها، وصحبه من أهلها رجل اسمه عبد الواحد، يعرفه المصامدة بعبد الواحد الشرقي، وهو أول من صحبه بعد عبد المؤمن؛ وخرج متوجهًا إلى المغرب. وقيل: إنه إنما لقي عبد المؤمن بموضع يعرف بـ فَنزارَة من بلاد مَتِّيجة، وعبد المؤمن يعلم صبيان القرية المذكورة؛ فسأله ابن تومرت صحبته والقراءة عليه وإعانته، بعد أن عرفه بالعلامات كما قد تقدم. وبهذه القرية له حكاية طريفة؛ وذلك أنه رأى وهو بها في المنام كأنه يأكل مع أمير المسلمين علي بن يوسف في صَحْفَة1 واحدة؛ قال: ثم زاد أكلي على أكله وأحسست من نفسي شَرَهًا إلى الطعام. ولم يزل ذلك بي إلى أن اختطفت الصحفة من بين يديه وانفردت بها! فلما انتبه قص الرؤيا على رجل كان يقرأ عليه، اسمه عبد المنعم بن عَشير، يكنى أبا محمد، كان يقرأ عليه؛ فلما أتى على آخرها، قال: يا بني، يا عبد المؤمن، هذه الرؤيا لا ينبغي أن تكون لك؛ إنما هي لرجل ثائر، يثور على أمير المسلمين فيشاركه في بعض بلاده ثم يغلبه بعد ذلك عليها كلها وينفرد بمملكتها!. واتفق له فيها أيضًا من العجائب التي تثبُتُ في باب الكلِم الموافقة للقدر، أن رجلاً من وجوه أصحاب الملك العزيز بن المنصور الصنهاجي صاحب بجاية والقلعة، وجد عليه الملك العزيز، فاشتد خوفه، فهرب منه إلى هذه الضيعة التي كان فيها عبد المؤمن، فكان معه بها يعلم الصبيان. وانتهت حال ذلك الرجل إلى غاية الإقلال. ثم اتفق أن صاحبه رضي عنه، فبلغه ذلك، فسار إلى بجاية فدخل عليه، فسأله: أين كنت في هذه الأيام؟ فأخبره بقصته، وكيف كان الصبيان يحيونه بالكِسَر! فضحك وقال: الضيعة لك وما والاها! وأمر له بمال ومركب وثياب، فخرج الرجل إلى الضيعة في خيل ورجال معه، وخرج إليه أهلها يتلقونه؛ فأتى الصبيان عبد المؤمن وهو قاعد بفناء المسجد، فقالوا له: أتعرف من هذا الذي اهتزت له هذه الأرض؟ قال: لا! قالوا: هو فلان صاحبك الذي كان يعلمنا معك! فقال: إن كانت حالة فلان انتهت إلى هذا، فلا بد أن أكون أنا غدًا أمير المؤمنين! فكان الأمر كما قال، ووافقت كلمته القدر. وخرج ابن تومرت -كما ذكرنا- متوجهًا إلى المغرب، حتى أتى مدينة تلمسان، فأقام بمسجد بظاهرها يعرف بـ العُبَّاد جاريًا على عادته، وكان قد وضع له في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الصَّحْفَة: إناء من آنية الطعام، الجمع: صِحَاف. ص -139- النفوس هيبة وفي الصدور عظمة، فلا يراه أحد إلا هابه، وعظم أمره؛ وكان شديد الصمت كثير الانقباض؛ إذا انفصل عن مجلس العلم لا يكاد يتكلم بكلمة ... أخبرني بعض أشياخ تلمسان عن رجل من الصالحين كان معتكفًا معه بمسجد العباد، أنه خرج عليهم ذات ليلة بعدما صلى العتمة، فنظر إليهم وقال: أين فلان؟ لرجل كان يصحبهم؛ فأخبروه أنه مسجون، فقام من وقته ودعا برجل منهم يمشي بين يديه، حتى أتى باب المدينة، فدق على البواب دقًّا عنيفًا، واستفتح؛ فأجابه البواب إلى الفتح بسرعة من غير تلكؤ ولا إبطاء، ولو استفتح أمير البلد لتعذر ذلك عليه؛ ودخل حتى أتى السجن، فابتدر إليه السجانون والحرس يتمسحون به، ونادى: يا فلان! باسم صاحبهم؛ فأجابه؛ فقال: اخرج! فخرج والسجانون ينظرون إليه كأنما أُفرغ عليهم الماء الحار، وخرج بصاحبه حتى أتى المسجد. وكانت هذه عادته في كل ما يريد، لا يتعذر عليه مراد، ولا يمتنع عليه مطلوب، قد سُخرت له الرعية، وذُللت له الجبابرة. ولم يزل مقيمًا بتلمسان وكل من بها يعظمه من أمير ومأمور، إلى أن فصل عنها بعد أن استمال وجوه أهلها وملك قلوبها؛ فخرج قاصدًا مدينة فاس؛ فلما وصل إليها أظهر ما كان يظهره، وتحدث فيما كان يتحدث فيه من العلم. وكان جل ما يدعو إليه علم الاعتقاد على طريق الأشعرية1. وكان أهل المغرب -على ما ذكرنا- ينافرون هذه العلوم، ويعادون من ظهرت عليه، شديدًا أمرهم في ذلك؛ فجمع والي المدينة الفقهاء وأحضره معهم، فجرت له مناظرة كان له الشُّفُوف2 فيها والظهور؛ لأنه وجد جوًّا خاليًا، وألفى قومًا صيامًا عن جميع العلوم النظرية خلا علم الفروع. فلما سمع الفقهاء كلامه أشاروا على والي البلد بإخراجه لئلا يفسد عقول العوام؛ فأمره والي البلد بالخروج؛ فخرج متوجهًا إلى مراكش. ابن تومرت في حضرة ابن تاشفين وكُتب بخبره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف؛ فلما دخلها أحضر بين يديه، وجمع له الفقهاء للمناظرة؛ فلم يكن فيهم من يعرف ما يقول، حاشا رجل من أهل الأندلس اسمه مالك بن وُهَيْب3 كان قد شارك في جميع العلوم، إلا أنه كان لا يظهر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الأشعرية: جماعة تنسب إلى أبي الحسن الأشعري، الآتي ذكره. 2- الشفوف: التفوق، يقال: أشفَّ عليه: فاقه. 3- ذكره الضبي في بغية الملتمس "464" قال: "فقيه حافظ مشهور، حسن الخط". ولم يذكر تاريخ وفاته. ص -140- إلا ما ينفُقُ في ذلك الزمان. وكانت لديه فنون من العلم، رأيت له كتابًا سماه قُراضة الذهب، في ذكر لئام العرب, ضمنه لئام العرب في الجاهلية والإسلام، وضم إلى ذلك ما يتعلق به من الآداب؛ فجاء الكتاب لا نظير له في فنه؛ رأيته في خِزانة بني عبد المؤمن. ولمالك بن وهيب هذا تحقق بكثير من أجزاء الفلسفة؛ رأيت بخطه كتاب الثمرة لبطليموس في الأحكام، وكتاب المَجسطي في علم الهيئة، وعليه حواشٍ بتقييده أيام قراءته إياه على رجل من أهل قرطبة اسمه حَمَد الذهبي. ولما سمع مالك هذا كلام محمد بن تومرت، استشعر حدة نفسه وذكاء خاطره واتساع عبارته؛ فأشار على أمير المسلمين بقتله، وقال: هذا رجل مفسد لا تُؤمَن غائلتُه ولا يسمع كلامه أحد إلا مال إليه، وإن وقع هذا في بلاد المصامدة ثار علينا منه شر كثير! فتوقف أمير المسلمين في قتله، وأبى ذلك عليه دينه. وكان رجلاً صالحاً مجاب الدعوة، يُعَد في قُوَّام الليل وصُوَّام النهار، إلا أنه كان ضعيفًا مستضعفًا، ظهرت في آخر زمانه مناكر كثيرة وفواحش شنيعة، من استيلاء النساء على الأحوال واستبدادهن بالأمور، وكان كل شرير من لص أو قاطع طريق ينتسب إلى امرأة قد جعلها ملجأ له ووَزَرًا على ما تقدم... ... فلما يئس مالك مما أراده من قتل ابن تومرت، أشار عليه بسجنه حتى يموت؛ فقال أمير المسلمين: علام نأخذ رجلاً من المسلمين نسجنه ولم يتعين لنا عليه حق؟ وهل السجن إلا أخو القتل؟ ولكن نأمره أن يخرج عنا من البلد وليتوجه حيث شاء!. فخرج هو وأصحابه متوجهًا إلى سُوس؛ فنزل بموضع منها يعرف بـ تِينمَل. بدء دعوة الموحدين من هذا الموضع قامت دعوته، وبه قبره، ولما نزله اجتمع إليه وجوه المصامدة، فشرع في تدريس العلم والدعاء إلى الخير، من غير أن يظهر إمرة ولا طِلْبة مُلك. وألف لهم عقيدة بلسانهم, وكان أفصح أهل زمانه في ذلك اللسان. فلما فهموا معاني تلك العقيدة زاد تعظيمهم له، وأُشربت قلوبهم محبته، وأجسامهم طاعته. فلما استوثق منهم دعاهم إلى القيام معه أولاً على صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، ونهاهم عن سفك الدماء ولم يأذن لهم فيها, وأقاموا على ذلك مدة. وأمر رجالا منهم ممن استصلح عقولهم بنصب الدعوة واستمالة رؤساء القبائل, وجعل يذكر المهدي ويشوق إليه، وجمع الأحاديث التى جاءت فيه من المصنفات. فلما قرر ص -141- في نفوسهم فضيلة المهدي ونسبه ونعته، ادعى ذلك لنفسه، وقال: أنا محمد بن عبد الله... ورفع نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وصرح بدعوى العصمة لنفسه، وأنه المهدي المعصوم. وروى في ذلك أحاديث كثيرة، حتى استقر عندهم أنه المهدي، وبسط يده فبايعوه على ذلك، وقال: أبايعكم على ما بايع عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رسول الله. ثم صنف لهم تصانيف في العلم، منها كتاب سماه: أعز ما يطلب، وعقائد في أصول الدين، وكان على مذهب أبي الحسن الأشعري1 في أكثر المسائل، إلا في إثبات الصفات، فإنه وافق المعتزلة في نفيها وفي مسائل قليلة غيرها. وكان يبطن شيئًا من التشيع، غير أنه لم يظهر منه إلى العامة شيء. طبقات الموحدين وصنف أصحابه طبقات؛ فجعل منهم العشرة، وهم المهاجرون الأولون الذين أسرعوا إلى إجابته، وهم المسمون بـ الجماعة, وجعل منهم الخمسين، وهم الطبقة الثانية. وهذه الطبقات لا تجمعها قبيلة واحدة، بل هم من قبائل شتى، وكان يسميهم المؤمنين، ويقول لهم: ما على وجه الأرض من يؤمن إيمانكم. وأنتم العصابة المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تزال طائفة بالمغرب ظاهرين على الحق, لا يضرهم من خذلهم, حتى يأتي أمر الله"، وأنتم الذين يفتح الله بكم فارس والروم، ويقتل الدجال، ومنكم الأمير الذي يصلي بعيسى ابن مريم، ولا يزال الأمر فيكم إلى قيام الساعة. هذا مع جزئيات كان يخبرهم بها وقع أكثرها، وكان يقول: لو شئت أن أعد خلفاءكم خليفة خليفة... فزادت فتنة القوم به، وأظهروا له شدة الطاعة. وقد نظم هذا الذي وصفناه من قول ابن تومرت في تخليد هذا الأمر، رجل من أهل الجزائر -مدينة من أعمال بجاية- وفد على أمير المؤمنين أبي يعقوب وهو بتينمل؛ فقام على قبر ابن تومرت بمحضر من الموحدين وأنشد قصيدة أولها: من الطويل سلام على قبر الإمام الممجد سلالة خير العالمين محمدِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- هو أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري، من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري: إمام، متكلم، مجتهد، وإليه تنسب الأشعرية. ولد في البصرة، وتوفي ببغداد سنة 324هـ/936م. "الأعلام، الزركلي: 263/4". ص -142- ومشبهه في خلقه ثم في اسمه وفي اسم أبيه والقضاء المسددِ1 ومحيي علوم الدين بعد مماتها ومظهر أسرار الكتاب المسددِ أتتنا به البشرى بأن يملأ الدُّنا بقسط وعدل في الأنام مخلدِ2 ويفتتح الأمصار شرقًا ومغربًا ويملك عُرْبًا من مغير ومنجدِ3 فمِنْ وصفِهِ: أقنى وأجلى, وأنه علاماته خمس تبين لمهتدِي:4 زمان، واسم، والمكان، ونسبة وفعل له في عصمة وتأيُّدِ5 ويلبث سبعًا أو فتسعًا يعيشها كذا جاء في نص من النقل مسندِ فقد عاش تسعًا مثل قول نبينا فذلكمُ المهدي بالله يهتدِي وتتبعه للنصر طائفة الهدى فأَكْرِمْ بهم إخوان ذي الصدق أحمدِ هي الثُّلة المذكور في الذكر أمرها وطائفة المهدي بالحق تهتدِي6 ويقْدُمها المنصور والناصر الذي له النصر حزب إذ يروح ويغتدِي هو المنتقى من قيس عيلان مفخرًا ومن مرة أهل الجلال المُوطَّدِ7 خليفة مهدي الإله وسيفه ومن قد غدا بالعلم والحلم مرتدِي بهم يقمع الله الجبابرة الأُلى يصدون عن حكم من الحق مرشدِ8 ويقطع أيام الجبابرة التي أبادت من الإسلام كل مُشيَّدِ9 فيغزون أعراب الجزيرة عَنْوة ويعرون منها فارسًا وكأن قدِ10 ويفتتحون الروم فتح غنيمة ويقتسمون المال بالترس عن يدِ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- المسدد: من سدَّد الله فلانًا: قوَّمه ووفَّقه للسداد، والسداد: الاستقامة والقصد، أو الصواب. 2- القسط: العدل. 3- المغير: الذي يأتي الغور، وهو المنخفض من الأرض. المنجد: الذي يأتي النَّجْد، وهو المرتفع من الأرض. 4- الأقنى: الذي ارتفعت قصبة أنفه, وضاق منخره. 5- العصمة: يقال: عصم الله فلانًا من الشر أو الإثم عصمةً: حفظه ووقاه ومنعه. التأيُّد: التقوِّي، يقال: تأيَّد فلان: تقوَّى. 6- الثلة: الجماعة من الناس. 7- الجلال والجلالة: العظمة. الموطد: المثبت، المقوَّى. 8- يقمع: يقهر ويذلل. يصدون: يُعرضون. 9- المشيد: يقال: شيد البناء شيدًا: أعلاه ورفعه. 10- عنوة: قهرًا وقسرًا وغلبةً. ص -143- ويغدون للدجال يغزونه ضُحًى يذيقونه حد الحُسام المهندِ1 ويقتله في باب لُدٍّ وتنجلي شكوك أمالت قلب من لم يوحِّدِ2 وينزل عيسى فيهم وأميرهم إمام فيدعوهم لمحراب مسجدِ يصلي بهم ذاك الأمير صلاتهمْ بتقديم عيسى المصطفى عن تعمدِ فيمسح بالكفين منه وجوههم ويخبرهم حقًّا بعز مجددِ وما إن يزال الأمر فيه وفيهمُ إلى آخر الدهر الطويل المُسرْمَدِ3 فأبلغ أمير المؤمنين تحية على النأي مني, والوداد المؤكدِ عليه سلام الله ما ذَرَّ شارق وما صدر الوُرَّاد عن وِرْد موردِ4 وقد قيل: إن منشئ هذه القصيدة لم يحضر ذلك المشهد ولم ينشدها بنفسه؛ منعته عن ذلك الكُبرة وبعد الشُّقَّة؛ وإنما أرسل بها فأنشدت على قبر الإمام. وكان عمله إياها وعبد المؤمن حي؛ فالله أعلم. وهي طويلة، هذا ما اخترت له منها، ولم أوردها في هذا الموضع؛ لأنها من مختار الشعر، ولكن لموافقتها الفصل الذي قبلها. ولم تزل طاعة المصامدة لابن تومرت تكثر، وفتنتهم به تشتد، وتعظيمهم له يتأكد، إلى أن بلغوا في ذلك إلى حد لو أمر أحدهم بقتل أبيه أو أخيه أو ابنه لبادر إلى ذلك من غير إبطاء. وأعانهم على ذلك وهونه عليهم ما في طباعهم من خفة سفك الدماء عليهم. وهذا أمر جُبلت عليه فطرهم واقتضاه ميل إقليمهم. حكى أبو عبيد البكري الأندلسي5 ثم القرطبي في كتابه الموسوم بـ المسالك والممالك عن رجال، قال: أهديث إلى الإسكندر فرس ببعض بلاد الغرب لم تلد الخيل أسبق منها، لم يكن فيها عيب إلا أنها لم يسمع لها صهيل قط؛ فلما حل الإسكندر في تطوافه بجبال دَرَن، وهي بلاد المصامدة، وشربت تلك الفرس من مياهها، صهلت صهلة اصطكت منها الجبال؛ فكتب الإسكندر إلى الحكيم يخبره بذلك, فكتب إليه: إنها بلاد شر وقسوة، فعجِّل الخروج منها!. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- الدخان: هو أعور الدجال، الذي يظهر في آخر الزمان. الحسام: السيف. المهند: المصنوع في الهند. 2- اللد: مدينة بفلسطين. تنجلي: تنكشف. 3- المسرمد: الدائم الذي لا ينقطع. 4- ما ذر شارق: ما طلعت شمس. 5- هو أبو عبيد، عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي: مؤرخ، جغرافي، ثقة، أديب، من أهل الأندلس. توفي سنة 487هـ/1094م. "الصلة، ابن بشكوال: 240". ص -144- فهذه حال بلاد القوم. وأما خفة سفك الدماء عليهم فقد شهدتُ أنا منه أيام كوني بسوس ما قضيت منه العجب. المعجب في تلخيص أخبار المغرب الحرب بين المرابطين والموحدين ولما كانت سنة 517 جهز جيشًا عظيمًا من المصامدة جلهم من أهل تينمل، مع من انضاف إليهم من أهل سوس، وقال لهم: اقصدوا هؤلاء المارقين المبدلين الذين تسموا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر، وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالإمام المهدي المعصوم؛ فإن أجابوكم فهم إخوانكم, لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم، فقد أباحت لكم السنة قتالهم. وأمَّر على الجيش عبد المؤمن بن علي، وقال: أنتم المؤمنون وهذا أميركم. فاستحق عبد المؤمن من يومئذ اسم إمرة المؤمنين. وخرجوا قاصدين مدينة مراكش، فلقيهم المرابطون قريبًا منها بموضع يدعى البحيرة، بجيش ضخم من سراة لمتونة، أميرهم الزبير بن علي بن يوسف بن تاشفين، فلما تراءى الجمعان أرسل إليهم المصامدة يدعونهم إلى ما أمرهم به ابن تومرت، فردوا عليهم أسوأ رد، وكتب عبد المؤمن إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بما عهد إليه محمد بن تومرت؛ فرد عليه أمير المسلمين يحذره عاقبة مفارقة الجماعة، ويذكره الله في سفك الدماء وإثارة الفتنة. فلم يردع ذلك عبد المؤمن، بل زاده طمعًا في المرابطين، وحقق عنده ضعفهم. فالتقت الفئتان، فانهزم المصامدة، وقتل منهم خلق كثير، ونجا عبد المؤمن في نفر من أصحابه. فلما جاء الخبر لابن تومرت قال: أليس قد نجا عبد المؤمن؟ قالوا: بلى. قال: