5=كتاب : المحلى أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري
(المتوفى : 456هـ) |
838 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ لاَِحَدٍ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَ, فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ, فَإِنْ غَطَّى قُبُلَهُ وَدُبُرَهُ, فَلاَ يُسَمَّى: عُرْيَانَ, فَإِنْ انْكَشَفَ سَاهِيًا لَمْ يَضُرَّهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُحَرِّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ كُنَّا نُنَادِي أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ, وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}.
839 - مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَائِزٌ, وَلِلنُّفَسَاءِ, وَلاَ يَحْرُمُ إلاَّ عَلَى الْحَائِضِ فَقَطْ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إذْ حَاضَتْ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَمَرَهَا عليه السلام بِأَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ, وَلَمْ يَنْهَهَا، عَنِ الطَّوَافِ;
840 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ حَاضَتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مِنْ الطَّوَافِ إلاَّ شَوْطٌ أَوْ بَعْضُهُ, أَوْ أَشْوَاطٌ, فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَتَقْطَعُ، وَلاَ بُدَّ, فَإِذَا طَهُرَتْ بَنَتْ عَلَى مَا كَانَتْ طَافَتْهُ, وَلَهَا أَنْ تَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ; لاَِنَّهَا لَمْ تُنْهَ إلاَّ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَطْ. وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى إجَازَةِ كُلِّ ذَلِكَ لِلْحَائِضِ, لإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَهَا، عَنْ ذَلِكَ, فَكَذَلِكَ لَمْ يَنْهَ الْجُنُبَ, وَلاَ النُّفَسَاءَ, عَنِ الطَّوَافِ, وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
841 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَطَعَ طَوَافَهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِكَلَلٍ بَنَى عَلَى مَا طَافَ, وَكَذَلِكَ السَّعْيُ; لاَِنَّهُ قَدْ طَافَ مَا طَافَ كَمَا أُمِرَ فَلاَ يَجُوزُ إبْطَالُهُ, فَلَوْ قَطَعَهُ عَابِثًا فَقَدْ بَطَلَ طَوَافُهُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَطُفْ كَمَا أُمِرَ.
(7/180)
842
- مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ رَاكِبًا جَائِزٌ, وَكَذَلِكَ رَمْيُ
الْجَمْرَةِ: لِعُذْرٍ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ثَنِيّ
أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ:
أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ
بِمِحْجَنٍ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ
بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ هُوَ خَالُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ
وَاسْمُهُ خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ
843 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ التَّبَاعُدُ، عَنِ الْبَيْتِ عِنْدَ الطَّوَافِ إلاَّ فِي الزِّحَامِ; لإِنَّ التَّبَاعُدَ عَنْهُ عَمَلٌ بِخِلاَفِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبَثٌ لاَ مَعْنَى لَهُ فَلاَ يَجُوزُ.
844
- مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ جَائِزٌ, وَعِنْدَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ, وَعِنْدَ غُرُوبِهَا, وَيَرْكَعُ عِنْدَ ذَلِكَ: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ الزُّهْرِيُّ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا أَبُو
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ
تَمْنَعُنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ
لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ" . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ بِإِسْنَادِهِ: وَرُوِّينَا، عَنِ
الْحَسَنِ, وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
الطَّوَافُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصَّلاَةُ حِينَئِذٍ إثْرَ الطَّوَافِ. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ: وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
طَافَ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ حِينَئِذٍ.
قال أبو محمد: إنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ، عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ
جُمْلَةً فَمَنْ أَجَازَ الطَّوَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ
الشَّمْسُ فَقَدْ تَحَكَّمَ بِلاَ دَلِيلٍ.
845 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ فِي رَمْيِ الْجَمْرَةِ, وَالْحَلْقِ, وَالنَّحْرِ, وَالذَّبْحِ, وَطَوَافِ الإِفَاضَةِ, وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, أَنْ تُقَدِّمَ أَيَّهَا شِئْت عَلَى أَيُّهَا شِئْت لاَ حَرَجَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَهْزَادَ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ, وَلاَ حَرَجَ, وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ, وَأَتَاهُ آخَرُ وَقَالَ: إنِّي أَفَضْت إلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ قَالَ فَمَا رَأَيْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ، عَنْ شَيْءٍ إلاَّ قَالَ: افْعَلُوا، وَلاَ حَرَجَ". وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
(7/181)
ومن
لم يبِت ليالي منى بمنى فقد أساء ولا شي عليه
...
846 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَبِتْ لَيَالِيَ مِنًى بِمِنًى فَقَدْ أَسَاءَ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إلاَّ الرِّعَاءَ وَأَهْلَ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ فَلاَ
نَكْرَهُ لَهُمْ الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ مِنًى; بَلْ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا
يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُسَدَّدٌ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ, وَمُحَمَّدِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ
بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ
لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدْعُوا يَوْمًا. فَصَحَّ بِهَذَا الْخَبَرِ
أَنَّ الرَّمْيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مِنًى لَيْسَ فَرْضًا. وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا
أَبِي، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: إنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ
لَيَالِيَ مِنًى فَأَذِنَ لَهُ.
قال أبو محمد: فَأَهْلُ السِّقَايَةِ مَأْذُونٌ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ,
وَبَاتَ عليه السلام بِمِنًى وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمَبِيتِ بِهَا, فَالْمَبِيتُ
بِهَا سُنَّةٌ, وَلَيْسَ فَرْضًا, لإِنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا هُوَ أَمْرُهُ صلى
الله عليه وسلم فَقَطْ.
فإن قيل: إنَّ إذْنَهُ لِلرِّعَاءِ وَتَرْخِيصَهُ لَهُمْ وَإِذْنَهُ لِلْعَبَّاسِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ بِخِلاَفِهِمْ قلنا: لاَ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ
هَذَا لَوْ تَقَدَّمَ مِنْهُ عليه السلام أَمْرٌ بِالْمَبِيتِ وَالرَّمْيِ,
فَكَانَ يَكُون هَؤُلاَءِ مُسْتَثْنَيْنَ مِنْ سَائِرِ مَنْ أُمِرُوا, وَأَمَّا
إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ أَمْرٌ عليه السلام فَنَحْنُ نَدْرِي أَنَّ
هَؤُلاَءِ
(7/184)
مَأْذُونٌ
لَهُمْ, وَلَيْسَ غَيْرُهُمْ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، وَلاَ مَنْهِيًّا فَهُمْ عَلَى
الإِبَاحَةِ: رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "لاَ يَبِيتَنَّ
أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ أَيَّامَ مِنًى" وَصَحَّ هَذَا عَنْهُ رضي
الله عنه وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ هَذَا; وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ
الْمَبِيتَ بِغَيْرِ مِنًى أَيَّامَ مِنًى, وَلَمْ يَجْعَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي
ذَلِكَ فِدْيَةً أَصْلاً. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ لِمَنْ
كَانَ لَهُ مَتَاعٌ بِمَكَّةَ أَنْ يَبِيتَ بِهَا لَيَالِي مِنًى. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ
أَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا
رَمَيْت الْجِمَارَ فَبِتْ حَيْثُ شِئْت. وَبِهِ إلَى إبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ،
نا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ
لَيَالِيَ مِنًى فِي ضَيْعَتِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ
اللَّيْلِ بِمَكَّةَ وَآخِرَهُ بِمِنًى أَوْ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِمِنًى وَآخِرَهُ
بِمَكَّةَ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ بَاتَ لَيَالِيَ
مِنًى بِمَكَّةَ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَعَنْ بُكَيْرِ بْنِ
مِسْمَارٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ هَذَا أَيْضًا
يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ إذَا لَمْ يَبِتْ بِمِنًى. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إذَا بَاتَ دُونَ
الْعَقَبَةِ أَهْرَقَ دَمًا. وقال أبو حنيفة: بِمِثْلِ قَوْلِنَا, وَقَالَ
سُفْيَانُ: يُطْعِمُ شَيْئًا, وقال مالك: مَنْ بَاتَ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى
بِغَيْرِ مِنًى أَوْ أَكْثَرَ لَيْلَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ بَاتَ الأَقَلَّ
مِنْ لَيْلَتِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وقال الشافعي: مَنْ بَاتَ لَيْلَةً مِنْ
لَيَالِي التَّشْرِيقِ فِي غَيْرِ مِنًى فَلْيَتَصَدَّقْ بِمُدٍّ فَإِنْ بَاتَ
لَيْلَتَيْنِ, فَمُدَّانِ فَإِنْ بَاتَ ثَلاَثًا فَدَمٌ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي
لَيْلَةٍ ثُلُثُ دَمٍ, وَفِي لَيْلَتَيْنِ ثُلُثَا دَمٍ وَفِي ثَلاَثِ لَيَالٍ
دَمٌ.
قال أبو محمد: هَذِهِ الأَقْوَالُ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا يَعْنِي
الصَّدَقَةَ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِإِطْعَامِ شَيْءٍ أَوْ بِإِيجَابِ دَمٍ, أَوْ
بِمُدٍّ, أَوْ مُدَّيْنِ, أَوْ ثُلُثِ دَمٍ, أَوْ ثُلُثَيْ دَمٍ, أَوْ الْفَرْقَ
بَيْنَ الْمَبِيتِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ, أَوْ أَقَلَّهُ, وَمَا كَانَ هَكَذَا
فَالْقَوْلُ بِهِ لاَ يَجُوزُ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَالِكٍ, وَلاَ لِلشَّافِعِيِّ
فِي أَقْوَالِهِمْ هَذِهِ سَلَفًا أَصْلاً, لاَ مِنْ صَاحِبٍ, وَلاَ مِنْ تَابِعٍ.
(7/185)
847
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى يَوْمَيْنِ, ثُمَّ نَفَرَ, وَلَمْ يَرْمِ الثَّالِثَ
فَلاَ بَأْسَ بِهِ, وَمَنْ رَمَى الثَّالِثَ فَهُوَ أَحْسَنُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} وقال أبو حنيفة: إنْ
نَفَرَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ إلَى اللَّيْلِ لَزِمَهُ أَنْ يَرْمِي الثَّالِثَ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ, وَحُكْمٌ بِلاَ دَلِيلٍ وَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ.
(7/185)
848 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمَرْأَةُ الْمُتَمَتِّعَةُ بِعُمْرَةٍ إنْ حَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَفَرْضُهَا أَنْ تُضِيفَ حَجًّا إلَى عُمْرَتِهَا إنْ كَانَتْ تُرِيدُ الْحَجَّ مِنْ عَامِهَا وَتَعْمَلَ عَمَلَ الْحَجِّ حَاشَا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ, فَإِذَا طَهُرَتْ طَافَتْ, وَهَذَا لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ بِذَلِكَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ.
(7/186)
849
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ الْغُسْلُ فِي الْحَجِّ فَرْضًا إلاَّ الْمَرْأَةَ
تُهِلُّ بِعُمْرَةٍ تُرِيدُ التَّمَتُّعَ فَتَحِيضُ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ
فَهَذِهِ تَغْتَسِلُ، وَلاَ بُدَّ وَتُقْرِنُ حَجًّا إلَى عُمْرَتِهَا;
وَالْمَرْأَةُ تَلِدُ قَبْلَ أَنْ تُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ, أَوْ بِالْقِرَانِ:
فَفُرِضَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ, وَلْتُهِلَّ بِالْحَجِّ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ
حِضْتُ وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحِلَّ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ
وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الآنَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ
فَاغْتَسِلِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" . وَلاَِمْرِهِ عليه السلام, أَسْمَاءَ
بِنْتَ عُمَيْسٍ إذْ وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ أَنْ
تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ; وَنَحْنُ قَاطِعُونَ بِائْتِمَارِهَا لَهُ عليه السلام,
وَأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَغْتَسِلاَ لَكَانَتَا عَاصِيَتَيْنِ, وَقَدْ
أَعَاذَهُمَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ ذَلِكَ.
(7/186)
850
- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ تَعَمَّدَ مَعْصِيَةً أَيَّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ وَهُوَ
ذَاكِرٌ لِحَجِّهِ مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ
لِلإِفَاضَةِ وَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ; فَإِنْ أَتَاهَا
نَاسِيًا لَهَا, أَوْ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ وَدُخُولِهِ فِي الْحَجِّ أَوْ
الْعُمْرَةِ: فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي نِسْيَانِهَا, وَحَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ
تَامَّانِ فِي نِسْيَانِهِ كَوْنَهُ فِيهِمَا, وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ
جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ
بَرَاءَتُهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ, فَمَنْ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْهُمَا
فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ فَلاَ حَجَّ لَهُ
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي
الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا إبْطَالُهُمْ الْحَجَّ بِتَقْبِيلِهِ امْرَأَتَهُ
الْمُبَاحَةَ لَهُ فَيُمْنِي وَلَمْ يَنْهَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ، عَنْ هَذَا;
ثُمَّ لاَ يُبْطِلُونَهُ بِالْفُسُوقِ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ,
وَتَرْكِ الصَّلاَةِ, وَسَائِرِ الْفُسُوقِ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ
وأعجب مِنْ ذَلِكَ إبْطَالُ أَبِي حَنِيفَةَ الْحَجَّ بِوَطْءِ الرَّجُلِ
امْرَأَتَهُ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يُؤَاخِذُ
بِالنِّسْيَانِ, قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ثُمَّ لاَ يُبْطِلُ
الْحَجَّ بِتَعَمُّدِ الْقَصْدِ إلَى أَنْ يَلُوطَ فِي إحْرَامِهِ أَوْ يُلاَطَ
بِهِ, فَهَلْ فِي الْفَضَائِحِ وَالْقَبَائِحِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ
وأعجب شَيْءٍ دَعْوَاهُمْ الإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا، وَلاَ سَبِيلَ إلَى أَنْ
يَأْتُوا بِرِوَايَةٍ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
(7/186)
851 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَمْكَنَهُ تَجْدِيدُ الإِحْرَامِ فَلْيَفْعَلْ وَيَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ وَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ لإِنَّ إحْرَامَهُ الأَوَّلَ قَدْ بَطَلَ وَأَفْسَدَهُ, وَالتَّمَادِي عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} . وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: فِي سِبَابِ الْمُحْرِمِ دَمٌ; وَهُمْ يَجْعَلُونَ الدَّمَ فِيمَا لاَ يُكْرَهُ فِيهِ مِنْ الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ مِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يَجْعَلُونَهُ فِي السِّبَابِ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحَجِّ.
(7/187)
852
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ مَغْصُوبٍ, أَوْ جَلاَّلٍ
بَطَلَ حَجُّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ, وَأَمَّا مَنْ حَجَّ بِمَالٍ
حَرَامٍ فَأَنْفَقَهُ فِي الْحَجِّ وَلَمْ يَتَوَلَّ هُوَ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ
فَحَجُّهُ تَامٌّ.
أَمَّا الْمَغْصُوبُ, فَلاَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ
وَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ وَأَمَّا وُقُوفُهُ عَلَى بَعِيرٍ جَلاَّلٍ فَلِمَا
صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَبِيعٍ، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، نا أَبُو دَاوُد،
نا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ الرَّازِيّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْجَهْمِ، نا عَمْرٌو، هُوَ ابْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْجَلاَّلَةِ فِي الإِبِلِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا.
وَبِهِ إلَى أَبِي دَاوُد، نا مُسَدَّدٌ، نا عَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ
التَّنُّورِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ رُكُوبِ الْجَلاَّلَةِ.
قال أبو محمد: وَالْجَلاَّلَةُ هِيَ الَّتِي عَلَفُهَا الْجُلَّةُ وَهِيَ
الْعَذِرَةُ; فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ جَلاَّلٍ فَلَمْ يَقِفْ
كَمَا أُمِرَ; لاَِنَّهُ عَاصٍ فِي وُقُوفِهِ عَلَيْهِ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ
طَاعَةٌ وَفَرْضٌ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ، عَنِ الطَّاعَةِ
وَقَالَ عليه السلام: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ فَمَنْ
وَقَفَ بِهَا حَامِلاً لِمَالٍ حَرَامٍ, فَلَمْ يَقِفْ كَمَا أُمِرَ بَلْ وَقَفَ
عَاصِيًا, فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ, وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ} وَمَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ لِلْحَرَامِ عَالِمًا بِهِ فَلَيْسَ
عَاصِيًا, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا فَهُوَ مُحْسِنٌ قَالَ تَعَالَى: {مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فَقَدْ وَقَفَ كَمَا أُمِرَ, وَعَفَا اللَّهُ
تَعَالَى لَهُ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْمَالِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَطَرِيقُهُ: فَهُوَ إنْ
كَانَ عَاصِيًا بِذَلِكَ فَلَمْ يُبَاشِرْ
(7/187)
853
- مَسْأَلَةٌ: وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ,
وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلاَّ بَطْنَ مُحَسِّرٍ; لإِنَّ عَرَفَةَ مِنْ
الْحِلِّ, وَبَطْنَ عُرَنَةَ مِنْ الْحَرَمِ فَهُوَ غَيْرُ عَرَفَةَ; وَأَمَّا
مُزْدَلِفَةُ فَهِيَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ; وَبَطْنُ
مُحَسِّرٍ مِنْ الْحِلِّ فَهُوَ غَيْرُ مُزْدَلِفَةَ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ
عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا جَعْفَرُ الصَّائِغُ، نا أَبُو نَصْرٍ النِّمَارُ
هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا،
عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ, وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا، عَنْ
بَطْنِ مُحَسِّرٍ".
(7/188)
854
- مَسْأَلَةٌ: وَرَمْيُ الْجِمَارِ بِحَصًى قَدْ رُمِيَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ
جَائِزٌ, وَكَذَلِكَ رَمْيُهَا رَاكِبًا حَسَنٌ; أَمَّا رَمْيُهَا بِحَصًى قَدْ
رُمِيَ بِهِ فَلاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَ، عَنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حَصَى الْجِمَارِ مَا تُقُبِّلَ
مِنْهُ رُفِعَ, وَمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ تُرِكَ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ
هِضَابًا تَسُدُّ الطَّرِيقَ قلنا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا وَإِنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ
رَمْيُ هَذِهِ الْحَصَى مِنْ عَمْرٍو فَيُسْتَقْبَلُ مِنْ زَيْدٍ, وَقَدْ
يَتَصَدَّقُ الْمَرْءُ بِصَدَقَةٍ فَلاَ يَقْبَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ;
ثُمَّ يَمْلِكُ تِلْكَ الْعَيْنَ آخَرُ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا فَتُقْبَلُ مِنْهُ.
وَأَمَّا رَمْيُهَا رَاكِبًا: نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ،
هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا وَكِيعٌ، نا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، عَنْ قُدَامَةَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي
جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ, لاَ ضَرْبَ,
وَلاَ طَرْدَ, وَلاَ إلَيْكَ إلَيْكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِأَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ: رَمْيُ الْجَمْرَتَيْنِ الآخِرَتَيْنِ رَاكِبًا أَفْضَلُ
(7/188)
855 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الْحَجَّ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ فِي الْحَلاَلِ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالأَمَةِ ذَاكِرًا لِحَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ فَإِنْ وَطِئَهَا نَاسِيًا; لاَِنَّهُ فِي عَمَلِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ يَبْطُلُ بِتَعَمُّدِهِ أَيْضًا حَجُّ الْمَوْطُوءَةِ وَعُمْرَتُهَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ; فَمَنْ جَامَعَ فَلَمْ يَحُجَّ, وَلاَ اعْتَمَرَ كَمَا أُمِرَ, وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَأَمَّا النَّاسِي, وَالْمُكْرَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
(7/189)
856
- مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ وَطِئَ وَعَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ أَوْ
شَيْءٌ مِنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ كَمَا قلنا, قَالَ
تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . فَصَحَّ
أَنَّ مَنْ رَفَثَ وَلَمْ يُكْمِلْ حَجَّهُ فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يَبْطُلُ
الْحَجُّ بِالْوَطْءِ بَعْدَ عَرَفَةَ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وقال مالك:
إنْ وَطِئَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ بَطَلَ حَجُّهُ, وَإِنْ
وَطِئَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ, وَإِنْ
وَطِئَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ أَصْلاً. وَاحْتَجَّ
أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ
عَرَفَةَ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا لإِنَّ الَّذِي قَالَ هَذَا هُوَ
الَّذِي أَخْبَرَنَا، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَالَ: {وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَبِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ
بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ فَلاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِبَعْضِ قَوْلِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَكَانَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هُوَ الْحَجُّ
كَعَرَفَةَ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَوْلُهُ عليه السلام: "الْحَجُّ عَرَفَةَ"
لاَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ غَيْرَ عَرَفَةَ أَيْضًا; وَقَدْ
وَافَقَنَا الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ امْرَأً لَوْ قَصَدَ عَرَفَةَ فَوَقَفَ بِهَا
فَلَمْ يُحْرِمْ، وَلاَ لَبَّى, وَلاَ طَافَ, وَلاَ سَعَى فَلاَ حَجَّ لَهُ;
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "الْحَجُّ عَرَفَةَ".
(7/189)
857 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ وَطِئَ عَامِدًا كَمَا قلنا فَبَطَلَ حَجُّهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَمَادَى عَلَى عَمَلٍ فَاسِدٍ بَاطِلٍ لاَ يُجْزِئُ عَنْهُ لَكِنْ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ, فَإِنْ أَدْرَكَ تَمَامَ الْحَجِّ فَلاَ شَيْءَ
(7/189)
858 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَخْطَأَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ لِذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ وَهُوَ يَظُنُّهُ التَّاسِعَ, وَوَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ اللَّيْلَةَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَهُوَ يَظُنُّهَا الْعَاشِرَةَ: فَحَجُّهُ تَامٌّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لاَ يَكُونُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْهَا; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عليه السلام الْوُقُوفَ بِهَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا. فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَقِفْ فِي وَقْتٍ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْزِيهِ فِيهِ. وَقَدْ تَيَقَّنَ الإِجْمَاعُ مِنْ الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْخَالِفِ, وَالسَّالِفِ: أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ اللَّيْلَةِ الْحَادِيَةَ
(7/191)
عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَلاَ حَجَّ لَهُ, وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهَا الْعَاشِرَةُ, وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ.
(7/192)
859 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ بِعِلْمٍ أَوْ بِخَبَرٍ صَادِقٍ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ إلاَّ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَرَوْهُ رُؤْيَةً تُوجِبُ أَنَّهَا الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَفَرَضَ عَلَيْهِ الْوُقُوفَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْيَوْمُ التَّاسِعُ, وَإِلاَّ فَحَجُّهُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: شَهِدَ نَفَرٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلاَلَ ذِي الْحِجَّةِ فَذَهَبَ بِهِمْ سَالِمٌ إلَى ابْنِ هِشَامٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْحَجِّ فَلَمْ يَقْبَلْهُمْ فَوَقَفَ سَالِمٌ بِعَرَفَةَ لِوَقْتِ شَهَادَتِهِمْ, ثُمَّ دَفَعَ, فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقَفَ مَعَ النَّاسِ.
(7/192)
860 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي إحْرَامِهِ, أَوْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ فِي عَقْلِهِ فَإِحْرَامُهُ صَحِيحٌ, وَكَذَلِكَ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ, أَوْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَلَوْ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ الصَّلاَةِ بِمُزْدَلِفَةَ مَعَ الإِمَامِ فَحَجُّهُ تَامٌّ; لإِنَّ الإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لاَ يُبْطِلاَنِ عَمَلاً تَقَدَّمَ أَصْلاً, وَلاَ جَاءَ بِذَلِكَ نَصٌّ أَصْلاً، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلَيْسَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ" : فَذَكَرَ "النَّائِمَ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَالْمُبْتَلَى حَتَّى يُفِيقَ وَالصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ" بِمُوجِبِ بُطْلاَنِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ فَقَطْ, فَإِذَا أَفَاقُوا صَارُوا عَلَى حُكْمِهِمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(7/192)
861 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ, أَوْ جُنَّ, أَوْ نَامَ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ فَلَمْ يُفِقْ, وَلاَ اسْتَيْقَظَ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ يَوْمِ النَّحْرِ, فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ, سَوَاءٌ وَقَفَ بِهِ بِعَرَفَةَ أَوْ لَمْ يَقِفْ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ جُنَّ, أَوْ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ شَيْئًا مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ مَعَ الإِمَامِ فَلَمْ يُفِقْ، وَلاَ اسْتَيْقَظَ إلاَّ بَعْدَ سَلاَمِ الإِمَامِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ; فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ. فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَنَامَتْ, أَوْ جُنَّتْ, أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ تَقِفَ بِمُزْدَلِفَةَ فَلَمْ تُفِقْ، وَلاَ انْتَبَهَتْ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ, فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهَا, وَسَوَاءٌ وَقَفَ بِهَا بِمُزْدَلِفَةَ, أَوْ لَمْ يَقِفْ, لإِنَّ الأَعْمَالَ الْمَذْكُورَةَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" . فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجْزِي عَمَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ إلاَّ بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إلَيْهِ مُؤَدًّى بِإِخْلاَصٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ كَمَا أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ; وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا فَلَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ
(7/192)
862 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِمَامِ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ مِنْ الرِّجَالِ فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ ذَكَرَ هَذَا الإِنْسَانُ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ, لاَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الصَّلاَةَ مَعَ الإِمَامِ, وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/194)
863
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَصَيِّدًا لَهُ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ
عَامِدًا لِقَتْلِهِ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ أَوْ عُمْرَتُهُ لِبُطْلاَنِ
إحْرَامِهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مَعَ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
الآيَةَ, فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الصَّيْدَ
مُتَعَمِّدًا فِي إحْرَامِهِ فَإِذَا فَعَلَ فَلَمْ يُحْرِمْ كَمَا أُمِرَ; لإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَهُ بِإِحْرَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَعَمُّدُ قَتْلِ
صَيْدٍ, وَهَذَا الإِحْرَامُ هُوَ بِلاَ شَكٍّ غَيْرُ الإِحْرَامِ الَّذِي فِيهِ
تَعَمُّدُ قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَمْ يَأْتِ بِالإِحْرَامِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ
جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ تَعَمُّدَ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي
الإِحْرَامِ فُسُوقٌ, وَمَنْ فَسَقَ فِي حَجِّهِ فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ,
وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ فَلَمْ يَحُجَّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا إبْرَاهِيمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ، نا عَبْدُ الْوَارِثُ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، عَنِ
اللَّيْثِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَطَلَ
حَجُّهُ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَسَمَّاهُمْ:
حُرُمًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا إقْدَامٌ مِنْهُمْ عَظِيمٌ عَلَى تَقْوِيلِ اللَّهِ
تَعَالَى مَا لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ, وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
حُرُمًا, قَبْلَ قَتْلِ الصَّيْدِ, وَنَهَاهُمْ إذَا كَانُوا حُرُمًا، عَنْ قَتْلِ
الصَّيْدِ, وَمَا سَمَّاهُمْ تَعَالَى قَطُّ
(7/194)
864-
مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَكُلُّ فُسُوقٍ تَعَمَّدَهُ الْمُحْرِمُ ذَاكِرًا
لاِِحْرَامِهِ فَقَدْ بَطَلَ إحْرَامُهُ, وَحَجُّهُ, وَعُمْرَتُهُ, لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَصَحَّ
أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الْفُسُوقَ ذَاكِرًا لِحَجِّهِ, أَوْ عُمْرَتِهِ, فَلَمْ
يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَقَدْ أَخْبَرَ عليه السلام: أَنَّ "الْعُمْرَةَ
دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَقَالَ عليه السلام:
"مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا: أَنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ كَمَا تَلَوْنَا
فَأَبْطَلُوا الْحَجَّ بِالرَّفَثِ وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِالْفُسُوقِ; وأعجب مِنْ
هَذَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: مَنْ وَطِئَ فِي إحْرَامِهِ نَاسِيًا غَيْرَ
عَامِدٍ، وَلاَ ذَاكِرٍ لاَِنَّهُ مُحْرِمٌ امْرَأَتَهُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ
تَعَالَى لَهُ وَطْأَهَا قَبْلَ الإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ;
فَلَوْ تَعَمَّدَ اللِّيَاطَةَ بِذَكَرٍ, أَوْ أَنْ يُلاَطَ بِهِ ذَاكِرًا
لاِِحْرَامِهِ فَحَجُّهُ تَامٌّ وَإِحْرَامُهُ مَبْرُورٌ فَأُفٍّ لِهَذَا
الْقَوْلِ عَدَدَ الرَّمْلِ, وَالْحَصَى, وَالتُّرَابِ فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا
يَبْطُلُ إحْرَامُهُ بِأَنْ يَأْتِيَ مَا حُرِّمَ فِي حَالِ الإِحْرَامِ فَقَطْ,
لاَ بِمَا هُوَ حَرَامٌ قَبْلَ الإِحْرَامِ, وَفِي الإِحْرَامِ وَبَعْدَ
الإِحْرَامِ قلنا: وَعَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ الْفَاسِدِ سَأَلْنَاكُمْ، وَلاَ
حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ, وَأَنْتُمْ تُبْطِلُونَ الصَّلاَةَ بِكُلِّ عَمَلٍ
مُحَرَّمٍ, قَبْلَهَا, وَفِيهَا, وَبَعْدَهَا, كَمَا تُبْطِلُونَهَا بِمَا حُرِّمَ
فِيهَا فَقَطْ. وَقَدْ نَقَضْتُمْ هَذَا الأَصْلَ الْفَاسِدَ فَلَمْ تُبْطِلُوا
الإِحْرَامَ بِتَعَمُّدِ لِبَاسِ مَا حُرِّمَ فِيهِ مِمَّا هُوَ حَلاَلٌ قَبْلَهُ
وَبَعْدَهُ, فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ الْفَاسِدَ فَأَيْنَ
الْقِيَاسَ الَّذِي تَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ بِزَعْمِكُمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ
أَكَّدَ الْحَجَّ وَخَصَّهُ بِتَحْرِيمِ الْفُسُوقِ فِيهِ, كَمَا خَصَّهُ
بِتَحْرِيمِ الرَّفَثِ فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ.
أَخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ الرَّازِيّ، نا
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّحَّاسِ بِمِصْرَ، نا
أَبُو سَعِيدِ بْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا عُبَيْدُ بْنُ غَنَّامِ بْنِ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
(7/195)
بْنِ
نُمَيْرٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ جَابِرٍ الأَحْمَسِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَابِرٍ
الأَحْمَسِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا فِي
امْرَأَةٍ حَجَّتْ مَعَهَا مُصْمِتَةً: قُولِي لَهَا: تَتَكَلَّمُ فَإِنَّهُ لاَ
حَجَّ لِمَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةَ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ حَبِيبٍ الْقُومِسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم. أَمَرَ الَّذِي أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا.
قال أبو محمد: وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى أَنْ يُوجِدُوا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَنَّ الْفُسُوقَ لاَ يُبْطِلُ الإِحْرَامَ;
وَأَمَّا مَنْ فَسَقَ غَيْرَ ذَاكِرٍ لاِِحْرَامِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَبْطُلُ
بِذَلِكَ إحْرَامُهُ; لاَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَهُ، وَلاَ أَتَى
بِإِحْرَامِهِ بِخِلاَفِ مَا أُمِرَ بِهِ عَامِدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/196)
865 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجِدَالُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ فِي وَاجِبٍ وَحَقٍّ, وَقِسْمٌ فِي بَاطِلٍ; فَاَلَّذِي فِي الْحَقِّ وَاجِبٌ فِي الإِحْرَامِ وَغَيْرِ الإِحْرَامِ قَالَ تَعَالَى: {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وَمَنْ جَادَلَ فِي طَلَبِ حَقٍّ لَهُ فَقَدْ دَعَا إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ تَعَالَى, وَسَعَى فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَالْمَنْعِ مِنْ الْبَاطِلِ, وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ جَادَلَ فِي حَقٍّ لِغَيْرِهِ أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْجَدَلُ بِالْبَاطِلِ وَفِي الْبَاطِلِ عَمْدًا ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ مُبْطِلٌ لِلإِحْرَامِ وَلِلْحَجِّ لقوله تعالى: فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/196)
866
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يُلَبِّ فِي شَيْءٍ مِنْ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ
بَطَلَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَإِنْ لَبَّى وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ,
وَالاِسْتِكْثَارُ أَفْضَلُ; فَلَوْ لَبَّى وَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ فَلاَ حَجَّ
لَهُ، وَلاَ عُمْرَةَ لاَِمْرِ جِبْرِيلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْفَعُوا
أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ, فَمَنْ لَمْ يُلَبِّ أَصْلاً أَوْ لَبَّى وَلَمْ
يَرْفَعْ صَوْتَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَحُجَّ، وَلاَ اعْتَمَرَ
كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "مَنْ عَمِلَ
عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَلَوْ أَنَّهُمْ، رضي الله
عنهم، إذْ أَمَرَهُمْ عليه السلام بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِالتَّلْبِيَةِ أَبَوْا
لَكَانُوا عُصَاةً بِلاَ شَكٍّ, وَالْمَعْصِيَةُ فُسُوقٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَقَدْ
أَعَاذَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ
وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفُسُوقَ يُبْطِلُ
الْحَجَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمَنْ لَبَّى مَرَّةً وَاحِدَةً رَافِعًا صَوْتَهُ فَقَدْ لَبَّى كَمَا أَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَوَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ: مُلَبٍّ وَعَلَى فِعْلِهِ اسْمُ:
التَّلْبِيَةِ, فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ, وَمَنْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ لَمْ
يَلْزَمْهُ فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّيَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ, وَالْفَرَائِضُ لاَ
تَكُونُ إلاَّ مَحْدُودَةً لِيَعْلَمَ النَّاسُ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْهَا, وَمَا
لاَ حَدَّ لَهُ فَلَيْسَ فَرْضًا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ; لإِنَّ
فِي إلْزَامِهِ تَكْلِيفَ مَا لاَ يُطَاقُ وَقَدْ أَمَّنَنَا اللَّهُ تَعَالَى
مِنْ ذَلِكَ.
(7/196)
وجائز
للمحرِمين من الرجال والنساء أن يتظلوا في المحامل
...
867- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَنْ
يَتَظَلَّلُوا فِي الْمَحَامِلِ
(7/196)
868 - مَسْأَلَةٌ: وَالْكَلاَمُ مَعَ النَّاسِ فِي الطَّوَافِ جَائِزٌ, وَذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ; لإِنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ بِمَنْعٍ مِنْ ذَلِكَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَمَا لَمْ يُفَصِّلْ تَحْرِيمَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/197)
869 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ, وَلاَ لاِمْرَأَةٍ, أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ تَتَزَوَّجَ, وَلاَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ مِنْ وَلِيَّتِهِ, وَلاَ أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَةَ نِكَاحٍ مُذْ يُحْرِمَانِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ
(7/197)
870
- مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ, وَأَنْ
يَسْتَقِيَ بِيَدِهِ مِنْهَا, وَأَنْ يَشْرَبَ مِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ: لِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ حَاتِمِ
بْنِ إسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ
بِالْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ وَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ
أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ فَنَاوَلُوهُ
دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ، نا يَزِيدُ
بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْمُزَنِيّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى
فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ
وَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ هَكَذَا فَاصْنَعُوا, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَنَحْنُ لاَ نُرِيدُ أَنْ نُغَيِّرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ وَسُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ أَمْرَ
شُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَمِنْ شَرَابِ سِقَايَةِ
الْعَبَّاسِ النَّبِيذِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ طَاوُوس: هُوَ مِنْ تَمَامِ
الْحَجِّ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
(7/201)
871 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ مَعَ الإِمَامِ بِعَرَفَةَ أَوْ مُزْدَلِفَةَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ صَلاَّهُمَا مَعَ الإِمَامِ بِعَرَفَةَ. فَلَوْ أَدْرَكَ الإِمَامَ فِي الْعَصْرِ لَزِمَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ وَيَنْوِيَ بِهَا الظُّهْرَ، وَلاَ بُدَّ, لاَ يُجْزِيه غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِذَا
(7/201)
872
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فِي طَوَافِ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ فَأُقِيمَتْ
الصَّلاَةُ أَوْ عَرَضَتْ لَهُ صَلاَةُ جِنَازَةٍ, أَوْ عَرَضَ لَهُ بَوْلٌ, أَوْ
حَاجَةٌ, فَلْيُصَلِّ وَلْيَخْرُجْ لِحَاجَتِهِ, ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى طَوَافِهِ
وَيُتِمَّهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي سَعْيِهِ
بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلاَ فَرْقَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيِّ. وقال مالك: أَمَّا فِي الطَّوَافِ الْوَاجِبِ فَيَبْتَدِئُ، وَلاَ
بُدَّ إلاَّ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ فَقَطْ, فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا ثُمَّ
يَبْنِي; وَأَمَّا فِي طَوَافِ التَّطَوُّعِ فَيَبْنِي فِي كُلِّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا تَقْسِيمٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ أَصْلاً, وَلَمْ
يَأْتِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ عَلَى وُجُوبِ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ
إنْ قَطَعَ لِحَاجَةٍ, وَلاَ بِإِبْطَالِ مَا طَافَ مِنْ أَشْوَاطِهِ وَسَعَى,
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَإِنَّمَا
افْتَرَضَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ سَبْعًا, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِوُجُوبِ
اتِّصَالِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ,
وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَبَثًا فَلاَ عَمَلَ لِعَابِثٍ، وَلاَ يُجْزِئُهُ:
نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نُبَاتٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، نا
قَاسِمُ
(7/202)
ابْنُ
أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُثَنَّى، نا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْحِمْيَرِيُّ، نا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، نا جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ طَافَ فِي
يَوْمٍ حَارٍّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ, ثُمَّ أَصَابَهُ حَرٌّ فَدَخَلَ الْحِجْرَ
فَجَلَسَ, ثُمَّ خَرَجَ فَبَنَى عَلَى مَا كَانَ طَافَ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَجْلِسَ الإِنْسَانُ فِي الطَّوَافِ
لِيَسْتَرِيحَ وَفِيمَنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي طَوَافِهِ لِيَذْهَبَ
وَلِيَقْضِ حَاجَتَهُ, ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا كَانَ طَافَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/203)
873
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِحْصَارُ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ مَا
يَمْنَعُهُ مِنْ إتْمَامِ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ, قَارِنًا كَانَ, أَوْ مُتَمَتِّعًا,
مِنْ عَدُوٍّ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ كَسْرٍ, أَوْ خَطَأِ طَرِيقٍ, أَوْ خَطَأٍ فِي
رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, أَوْ سِجْنٍ, أَوْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ: فَهُوَ مُحْصِرٌ.
فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عِنْدَ إحْرَامِهِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ مَحَلَّهُ
حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيُحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ, سَوَاءٌ شَرَعَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, أَوْ الْعُمْرَةِ, أَوْ لَمْ
يَشْرَعْ بَعْدُ, قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا, مَضَى لَهُ أَكْثَرُ فَرْضِهِمَا
أَوْ أَقَلُّهُ, كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلاَ هَدْيَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ غَيْرِهِ,
وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَحُجَّ
قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ, فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ، وَلاَ بُدَّ.
فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يُحِلُّ أَيْضًا كَمَا
ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَلاَ فَرْقَ, وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلاَ بُدَّ, كَمَا
قلنا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعَوَّضُ مِنْ
هَذَا الْهَدْيِ صَوْمٌ، وَلاَ غَيْرُهُ, فَمَنْ لَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ عَلَيْهِ
دَيْنٌ حَتَّى يَجِدَهُ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ إنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ
قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ, فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ.
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الإِحْصَارِ: فَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ: نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالَ: لاَ إحْصَارَ إلاَّ مِنْ عَدُوٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ
أَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا زَكَرِيَّا، هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ, قَالَ: لَمَّا
أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ
مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيَبْقَى بِهَا ثَلاَثًا، وَلاَ يَدْخُلَهَا
إلاَّ بِجُلْبَانِ السِّلاَحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ, وَلاَ يَخْرُجُ بِأَحَدٍ
مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا, وَلاَ يَمْنَعُ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُ فَسَمَّى الْبَرَاءُ مَنْعَ الْعَدُوِّ: إحْصَارًا. وَرُوِّينَا، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: الإِحْصَارُ مِنْ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ, وَالْكَسْرِ;
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ يَحْبِسُهُ. وَأَمَّا الْحَصْرُ: فَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْحَصْرُ, وَالْمَرَضُ, وَالْكَسْرُ, وَشِبْهُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ حَصْرَ إلاَّ مَنْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ. وَعَنْ طَاوُوس قَالَ:
لاَ حَصْرَ الآنَ, قَدْ ذَهَبَ الْحَصْرُ.
(7/203)
وَعَنْ
عَلْقَمَةَ: الْحَصْرُ الْخَوْفُ وَالْمَرَضُ. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: الْحَصْرُ مَا حَبَسَهُ مِنْ حَابِسٍ مِنْ وَجَعٍ, أَوْ خَوْفٍ,
أَوْ ابْتِغَاءِ ضَالَّةٍ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْحَصْرُ
مَا مَنَعَهُ مِنْ وَجَعٍ, أَوْ عَدُوٍّ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ. وَفَرَّقَ
قَوْمٌ بَيْنَ الإِحْصَارِ, وَالْحَصْرِ. فَرُوِّينَا، عَنِ الْكِسَائِيِّ قَالَ:
مَا كَانَ مِنْ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: أَحُصِرَ, فَهُوَ مُحْصِرٌ,
وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسٍ قِيلَ: حَصْرٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ, أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ, قِيلَ فِيهِ:
أُحْصِرَ, فَهُوَ مُحْصِرٌ; وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسٍ قِيلَ: حَصْرٌ. وَبِهِ
يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ مَعْنَى لَهُ, قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْحُجَّةُ
فِي اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَمْرِ
الْحُدَيْبِيَةِ إذْ مَنَعَ الْكُفَّارُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ
إتْمَامِ عُمْرَتِهِ, وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْعَ الْعَدُوِّ إحْصَارًا. وَكَذَلِكَ
قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ, وَابْنُ عُمَرَ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ
وَهُمْ فِي اللُّغَةِ فَوْقَ أَبِي عُبَيْدَةَ, وَأَبِي عُبَيْدٍ, وَالْكَسَائِيّ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا}.
فَهَذَا هُوَ مَنْعُ الْعَدُوِّ بِلاَ شَكٍّ; لإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ إنَّمَا
مَنَعَهُمْ مِنْ الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ الْكُفَّارُ بِلاَ شَكٍّ; وَبَيَّنَ
ذَلِكَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. فَصَحَّ أَنَّ الإِحْصَارَ,
وَالْحَصْرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ, وَأَنَّهُمَا اسْمَانِ يَقَعَانِ عَلَى كُلِّ
مَانِعٍ مِنْ عَدُوٍّ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمُحْصِرِ الْمَمْنُوعِ مِنْ إتْمَامِ حَجِّهِ,
أَوْ عُمْرَتِهِ. فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَفْتَى فِي مُحْرِمٍ
بِحَجٍّ مَرِضَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِهَدْيٍ,
فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّهُ حَلَّ; فَإِنْ اعْتَمَرَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ إذَا
بَرَأَ, ثُمَّ حَجَّ مِنْ قَابِلٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ, فَإِنْ لَمْ يَزُرْ
الْبَيْتَ حَتَّى يَحُجَّ وَيَجْعَلَهُمَا سَفَرًا وَاحِدًا فَعَلَيْهِ هَدْيٌ
آخَرُ: سَفَرَانِ وَهَدْيٌ أَوْ هَدَيَانِ وَسَفَرٌ وَهَذَا عَنْهُ مُنْقَطِعٌ لاَ
يَصِحُّ. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَفْتَى فِي مُحْرِمٍ بِعُمْرَةٍ لُدِغَ فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى النُّفُوذِ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيُوَاعِدُ أَصْحَابَهُ,
فَإِذَا بَلَغَ الْهَدْيَ أَحَلَّ. وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَفْتَى فِي
مَرِيضٍ مُحْرِمٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى النُّفُوذِ: بِأَنْ يَنْحَرَ عَنْهُ
بَدَنَةً; ثُمَّ لِيُهِلَّ عَامًا قَابِلاً بِمِثْلِ إهْلاَلِهِ الَّذِي أَهَلَّ
بِهِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ فِي مُحْرِمٍ بِعُمْرَةٍ
مَرِضَ بِوَقْعَةٍ مِنْ رَاحِلَتِهِ, قَالاَ جَمِيعًا: لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ
كَوَقْتِ الْحَجِّ, يَكُونُ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يُصَلِّ إلَى الْبَيْتِ.
وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ هَذَا أَيْضًا. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِيمَنْ أُحْصِرَ: يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ فَإِذَا نَحَرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ
(7/204)
عُمَرَ
أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَحُجَّ الْعَامَ فَإِنَّا نَخْشَى
أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ
وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ
حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْت كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَأَنَا مَعَهُ حِينَ حَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ:
أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت عُمْرَةً; ثُمَّ قَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إلاَّ
وَاحِدٌ إنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَجِّ:
أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم إذْ حَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ وَكَانَ
مُهِلًّا بِعُمْرَةٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، رضي الله عنهم، نَحَرَ وَحَلَّ
وَانْصَرَفَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ
مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ, "أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ
مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ فَمَرُّوا
عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ مَرِيضُ بِالسُّقْيَا فَأَقَامَ عَلَيْهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَتَّى إذَا خَافَ الْفَوَاتَ خَرَجَ وَبَعَثَ إلَى
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ
فَقَدِمَا عَلَيْهِ, وَأَنَّ حُسَيْنًا أَشَارَ إلَى رَأْسِهِ فَأَمَرَ عَلِيٌّ
بِرَأْسِهِ فَحُلِقَ, ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا فَنَحَرَ عَنْهُ
بَعِيرًا".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَخْبَرَنِي
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي
أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: إنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ
عَلِيٍّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا كَانَ
بِالْعَرَجِ مَرِضَ, فَلَمَّا أَتَى السُّقْيَا بِرَسْمٍ فَكَانَ أَوَّلُ
إفَاقَتِهِ أَنْ أَشَارَ إلَى رَأْسِهِ فَحُلِقَ عَلَى رَأْسِهِ وَنَحَرَ عَنْهُ
بِهَا جَزُورًا.
قال أبو محمد: إنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا الْخَبَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ
كَانَ مُعْتَمِرًا فَهَذَا عَلِيٌّ, وَالْحُسَيْنُ, وَأَسْمَاءُ رَأَوْا أَنْ يَحِلَّ
مِنْ عُمْرَتِهِ وَيُهْدِيَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ, وَهُوَ
قَوْلُنَا. وَعَنْ عَلْقَمَةَ فِي الْمُحْصِرِ قَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ فَإِذَا
ذُبِحَ حَلَّ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَلْقَمَةَ أَيْضًا: لاَ يُحِلُّهُ إلاَّ
الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ. وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا إنْ حَلَّ قَبْلَ نَحْرِ
هَدْيِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ,
وَالْحَسَنِ, وَالشَّعْبِيِّ: لاَ يُحِلُّهُ إلاَّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ.
وَرُوِّينَا عَنْهُمْ أَيْضًا: حَاشَا الشَّعْبِيَّ: إنْ حَلَّ دُونَ الْبَيْتِ
فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ سِوَى الَّذِي لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ, وَلاَ
يَحِلُّ إلاَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَاعَدَهُمْ لِبُلُوغِهِ مَكَّةَ وَنَحْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَيْضًا فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ قَالَ: عَلَيْهِ
هَدْيَانِ.
وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا: وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْقَارِنِ
يُحْصِرُ قَالاَ جَمِيعًا: عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ وَعَنْ عَطَاءٍ,
وطَاوُوس لَيْسَ عَلَى الْقَارِنِ إلاَّ هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ
أَيْضًا: إنْ أَحَلَّ الْمُحْصِرُ قَبْلَ نَحْرِ هَدْيِهِ فَعَلَيْهِ فِدْيَةُ
الأَذَى إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ, أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ
شَاةٌ.
(7/205)
وَعَنْ
مُجَاهِدٍ فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ قَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيٍ يَحِلُّ بِهِ, ثُمَّ
يُهِلُّ مِنْ قَابِلٍ بِمَا كَانَ أَهَلَّ بِهِ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ أَنَّهُ يَبْعَثُ
بِالْهَدْيِ فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّهُ حَلَّ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ قَالَ
الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَثَلاَثُ عُمَرَ. وَعَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمُحْصِرِ إذَا رَجَعَ لاَ يَحِلُّ مِنْهُ إلاَّ رَأْسُهُ
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مَنْ أُحْصِرَ بِالْحَرْبِ نَحَرَ حَيْثُ حُبِسَ وَحَلَّ مِنْ
النِّسَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمٍ,
وَابْنُ سِيرِينَ: يَبْعَثُ هَدْيَهُ فَإِذَا نَحَرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا إذَا حَلَّ الْمُحْصِرُ قَبْلَ نَحْرِ هَدْيِهِ
فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ. وقال أبو حنيفة فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَأُحْصِرَ:
عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِثَمَنِ هَدْيٍ فَيُشْتَرَى لَهُ بِمَكَّةَ فَيُذْبَحُ
عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ, وَيَحِلُّ, وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ, فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ هَدْيًا أَقَامَ مُحْرِمًا حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا وَلَهُ أَنْ
يُوَاعِدَهُمْ بِنَحْرِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قَالَ: وَالْمُعْتَمِرُ
يَنْحَرُ هَدْيَهُ مَتَى شَاءَ, وَالإِحْصَارُ عِنْدَهُ بِالْعَدُوِّ,
وَالْمَرَضِ, وَبِكُلِّ مَانِعٍ سِوَاهُمَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ, فَإِنْ تَمَادَى
مَرَضُهُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَكَمَا قلنا وَإِنْ هُوَ أَفَاقَ قَبْلَ وَقْتِ
الْحَجِّ لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ كَمَا كَانَ; فَإِنْ
كَانَ مُعْتَمِرًا فَأَفَاقَ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ الَّذِي
بَعَثَ مَضَى وَقَضَى عُمْرَتَهُ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ حَلَّ إذَا
نَحَرَ عَنْهُ الْهَدْيَ. وقال مالك: إنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ فَإِنَّهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ
حَيْثُ حُبِسَ وَيُحِلُّ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَمْ
يَحُجَّ قَطُّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ, فَإِنْ لَمْ يُهْدِ
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لاَ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا
مَعَهُ قَدْ سَاقَهُ مَعَ نَفْسِهِ, فَإِنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ لَكِنْ
بِحَبْسٍ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, فَإِنَّهُ لاَ يُحِلُّ إلاَّ
بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ, وَلَوْ بَقِيَ كَذَلِكَ إلَى عَامٍ آخَرَ. وقال
الشافعي: إذَا أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ, أَوْ بِسِجْنٍ فَإِنَّهُ يُهْدِي وَيُحِلُّ
حَيْثُ كَانَ مِنْ حِلٍّ, أَوْ حَرَمٍ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ إنْ كَانَ
لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ;
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى هَدْيٍ فَفِيهَا قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا: لاَ يَحِلُّ
إلاَّ حَتَّى يُهْدِيَ; وَالآخَرُ يُحِلُّ, وَالْهَدْيُ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَقَدْ
قِيلَ: عَلَيْهِ إطْعَامٌ, أَوْ صِيَامٌ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ فَإِنْ
أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ أَوْ حَبْسٍ لَمْ يُحِلَّهُ إلاَّ الطَّوَافُ
بِالْبَيْتِ, فَإِنْ لَمْ يُفِقْ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ طَافَ, وَسَعَى,
وَحَلَّ, وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.
قال أبو محمد: أَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُحْصِرِ بِعَدُوٍّ, وَبِغَيْرِ
عَدُوٍّ فَفَاسِدٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَبْلُ وَأَمَّا إسْقَاطُ الْهَدْيِ، عَنِ
الْمُحْصِرِ بِعَدُوٍّ, أَوْ غَيْرِهِ فَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}
وَأَمَّا إيجَابُ الْقَضَاءِ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ.
فإن قيل: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ اعْتَمَرَ بَعْدَ عَامِ
الْحُدَيْبِيَةِ قلنا: نَعَمْ, وَنَحْنُ لَمْ نَمْنَعْ مِنْ الْقَضَاءِ عَامًا
آخَرَ لِمَنْ أَحَبَّ, وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ إيجَابِهِ فَرْضًا; لإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِ إلاَّ
حَجَّةً وَاحِدَةً وَعُمْرَةً فِي الدَّهْرِ, فَلاَ
(7/206)
يَجُوزُ
إيجَابُ أُخْرَى, إلاَّ بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ
فَيُوقَفُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْمُحْصِرِ بِمَرَضٍ
عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ, فَقَوْلٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى
صِحَّتِهِ, وَلاَ أَوْجَبَهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ بَلْ هُوَ
خِلاَفُ الْقُرْآنِ كَمَا أَوْرَدْنَا وَالصَّحَابَةُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ
فِي الْعُمْرَةِ خَاصَّةً وَلَمْ يُرْوَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَفْتَى
بِذَلِكَ فِي الْحَجِّ أَصْلاً.
فإن قيل: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} قلنا نَعَمْ, وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى إنَّ الْمُحْصِرَ لاَ يُحِلُّ
إلاَّ بِالطَّوَافِ. وَاَلَّذِي قَالَ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} هُوَ الَّذِي قَالَ: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}. وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ
صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحِلَّ وَيَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي
عُمْرَتِهِ الَّتِي صُدَّ فِيهَا، عَنِ الْبَيْتِ, وَلاَ يَحِلُّ ضَرْبُ
أَوَامِرِهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ: بِبَعْثِهِ هَدْيًا يَحِلُّ بِهِ, فَقَوْلٌ لاَ يُؤَيِّدُهُ
قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَالصَّحَابَةُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ كَمَا أَوْرَدْنَا. فإن قيل: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. قلنا: نَعَمْ,
وَلَيْسَ هَذَا فِي الْمُحْصَرِ وَحْدَهُ, بَلْ هُوَ حُكْمُ كُلِّ مَنْ سَاقَ
هَدْيًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى عُمُومِ الآيَةِ.
فَالْحَاجُّ, وَالْقَارِنُ إذَا كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ بَلَغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى, فَلَهُ أَنْ
يَحْلِقَ رَأْسَهُ. وَالْمُعْتَمِرُ إذَا أَتَمَّ طَوَافَهُ وَسَعْيَهُ فَقَدْ
بَلَغَ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِمَكَّةَ فَلَهُ أَنْ
يَحْلِقَ رَأْسَهُ. وَالْمُحْصَرُ إذَا صُدَّ فَقَدْ بَلَغَ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ
فَلَهُ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ إنْ كَانَ مَعَ هَؤُلاَءِ هَدْيٌ, وَلَمْ يَقُلْ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَطُّ: إنَّ الْمُحْصَرَ لاَ يُحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ
هَدْيُهُ مَكَّةَ, بَلْ هُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّنْ نَسَبَهُ
إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ; فَظَهَرَ خَطَأُ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, فِي الإِحْصَارِ,
فَلاَ يُحْفَظُ قَوْلٌ مِنْهَا بِتَمَامِهِ وَتَقْسِيمِهِ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَصْلاً.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ الرُّجُوعُ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى مَا افْتَرَضَ
اللَّهُ تَعَالَى الرُّجُوعَ إلَيْهِ إذْ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. فَوَجَدْنَا حُكْمَ الإِحْصَارِ
يَرْجِعُ: إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنْ الْهَدْيِ} فَكَانَ فِي هَذِهِ الآيَةِ عُمُومُ إيجَابِ الْهَدْيِ عَلَى
كُلِّ مَنْ أُحْصِرَ بِأَيِّ وَجْهٍ أُحْصِرَ. وَإِلَى فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم إذْ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، عَنِ الْبَيْتِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَحَلُّوا بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَإِلَى أَمْرِهِ عليه السلام
مَنْ حَجَّ أَنْ يَقُولَ: "اللَّهُمَّ إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ
حَبَسْتَنِي" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَإِلَى مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ
(7/207)
ابْنُ
مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ
الْبَصْرِيُّ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو
الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى"
فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ, وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالاَ: صَدَقَ ". فَهَذِهِ
النُّصُوصُ تَنْتَظِمُ كُلَّ مَا قلنا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فإن قيل: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عَلَيْهِ حَجَّةً أُخْرَى, وَلَيْسَ فِيهِ
ذِكْرُ هَدْيٍ قلنا: إنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِإِيجَابِ الْهَدْيِ, فَهُوَ زَائِدٌ
عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ, وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرٌ لاِِسْقَاطِ
الْهَدْيِ، وَلاَ لاِِيجَابِهِ, فَوَجَبَ إضَافَةُ مَا زَادَهُ الْقُرْآنُ
إلَيْهِ, وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِأَنَّ
اللاَّزِمَ لِلنَّاسِ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَحْمُولاً عَلَى
مَنْ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ, وَبِهَذَا تَتَأَلَّفُ الأَخْبَارُ.
فإن قيل: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلاَفُ مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا
قلنا: الْحُجَّةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا رَوَى لاَ فِي رَأْيِهِ وَقَدْ يَنْسَى,
أَوْ يَتَأَوَّلُ; وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْهِينَ بِمَا رَوَى لِمَا رُوِيَ
عَنْهُ مِمَّا يُخَالِفُ مَا رَوَى أَوْلَى مِنْ تَوْهِينِ مَا رَوَى بِمَا رُوِيَ
عَنْهُ مِنْ خِلاَفِهِ لِمَا رَوَى, لإِنَّ الطَّاعَةَ عَلَيْنَا إنَّمَا هِيَ
لِمَا رَوَى لاَ لِمَا رَأَى بِرَأْيِهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ خِلاَفُ مَا رُوِيَ لَكَانَ الْحَجَّاجُ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, قَدْ
رَوَيَاهُ وَلَمْ يُخَالِفَاهُ. وقال أبو حنيفة: لاَ يَنْحَرُ هَدْيَ الإِحْصَارِ
إلاَّ فِي الْحَرَمِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ نَهَضَ
بِالْهَدْيِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شِعَابٍ وَأَوْدِيَةٍ حَتَّى نَحَرَهُ فِي
الْحَرَمِ.
قال أبو محمد: لَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَمْ
يَأْمُرْ بِذَلِكَ عليه السلام، وَلاَ أَوْجَبَهُ, وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ
عَمَلاً عَمِلَهُ, وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ لاَِمْرِهِ عليه السلام. وَرُوِّينَا
خَبَرًا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْبُدْنِ لِلْهَدْيِ
وَهَذَا لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ رَاوِيَهُ أَبُو حَاضِرٍ الأَزْدِيُّ وَهُوَ
مَجْهُولٌ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/208)
874 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ احْتَاجَ إلَى حَلْقِ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِمَرَضٍ, أَوْ صُدَاعٍ, أَوْ لِقَمْلٍ, أَوْ لِجُرْحٍ بِهِ, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِيهِ فَلْيَحْلِقْهُ, وَعَلَيْهِ أَحَدُ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيُّهَا شَاءَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهَا. إمَّا أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, وَأَمَّا أَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُتَغَايِرِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنْهُمْ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ، وَلاَ بُدَّ, وَأَمَّا أَنْ يُهْدِيَ شَاةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ, أَوْ يَصُومَ, أَوْ يُطْعِمَ, أَوْ يَنْسَكَ الشَّاةَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ, أَوْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ دُونَ بَعْضٍ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَطَلَ حَجُّهُ, فَلَوْ قَطَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ مَا لاَ يُسَمَّى بِهِ حَالِقًا بَعْضَ رَأْسِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لاَ إثْمَ، وَلاَ كَفَّارَةَ بِأَيِّ وَجْهٍ قَطَعَهُ, أَوْ نَزَعَهُ.
(7/208)
بُرْهَانُ
ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فَكَانَ
فِي هَذِهِ الآيَةِ التَّخْيِيرُ فِي أَيِّ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَعْمَالِ
أَحَبَّ, وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ كَمْ يَصُومُ، وَلاَ بِكَمْ يَتَصَدَّقُ، وَلاَ
بِمَاذَا يَنْسَك وَفِي الآيَةِ أَيْضًا حَذْفٌ بَيَّنَهُ الإِجْمَاعُ,
وَالسُّنَّةُ وَهُوَ: فَحَلَقَ رَأْسَهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إنْ شِئْتَ فَانْسُكْ
نَسِيكَةً, وَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, وَإِنْ شِئْتَ فَأَطْعِمْ
ثَلاَثَةَ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ". وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الطَّحَّانُ، عَنْ خَالِدِ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ لَهُ:
آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قَالَ: نَعَمْ, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم احْلِقْ, ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا, أَوْ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ
اطْعَمْ ثَلاَثَةَ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ.
قال أبو محمد: هَذَا أَكْمَلُ الأَحَادِيثِ وَأَبْيَنُهَا, وَقَدْ جَاءَ هَذَا
الْخَبَرُ مِنْ طُرُقٍ: فِي بَعْضِهَا أَوْ نُسُكِ مَا تَيَسَّرَ. وَبَعْضُهَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ: أَنَّ
كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَخْبَرَهُ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَئِذٍ: "أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ
مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ". وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, فَذَكَرَ فِيهِ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ.
وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: نا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا يَعْقُوبُ
بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبَانُ، هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ فِيهِ أَوْ إطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ
فَرْقًا مِنْ زَبِيبٍ. وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَخْبَرَنِي كَعْبُ
بْنُ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ;
وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ: "هَلْ عِنْدَكَ نُسُكٌ" قَالَ:
مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ, فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ
يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ, لِكُلِّ
(7/209)
مِسْكِينٍ
نِصْفُ صَاعٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ
أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ: "هَلْ تَجِدُ مِنْ نَسِيكَةٍ" قَالَ:
لاَ, قَالَ: وَهِيَ شَاةٌ قَالَ: "فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ أَطْعِمْ
ثَلاَثَةَ آصُعَ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ
الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ أَنَا دَاوُد بْنَ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ نَفْسِهِ "أَمَعَكَ دَمٌ" قَالَ: لاَ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ: "فَصُمْ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ, أَوْ تَصَدَّقْ بِثَلاَثَةِ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ
مَسَاكِينَ" لَمْ يَسْمَعْهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ كَعْبٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ.
وَنَذْكُرُ الآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، نا جَعْفَرُ الصَّائِغُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
الصَّبَّاحِ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: "إنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ:
"أَمَعَكَ هَدْيٌ" قُلْتُ: مَا أَجِدُهُ, قَالَ: "إنَّهُ مَا
اسْتَيْسَرَ" قُلْتُ: مَا أَجِدُهُ قَالَ: فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ
أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ".
قال أبو محمد: فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الْمُضْطَرِبَةُ كُلُّهَا إنَّمَا هِيَ فِي
رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ
أَوَّلاً مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ
عُجْرَةَ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: أَمَّا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي
فِيهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعُ تَمْرٍ فَهُوَ، عَنْ أَشْعَثَ الْكُوفِيِّ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَلْبَتَّةَ; وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ
مِنْ طَرِيقِ دَاوُد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ كَعْبٍ: إيجَابُ التَّرْتِيبِ,
وَأَنْ لاَ يَجْزِيَ الصِّيَامُ, وَلاَ الصَّدَقَةُ إلاَّ عِنْدَ عَدَمِ
النُّسُكِ, وَذَلِكَ الْخَبَرُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ
مِنْ كَعْبٍ, فَحَصَلَ مُنْقَطِعًا: فَسَقَطَا مَعًا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ, وَأَبِي عَوَانَةَ، عَنِ
الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَفِيهَا أَيْضًا: إيجَابُ
التَّرْتِيبِ, وَقَدْ خَالَفَهُمَا شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَذَكَرَهُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ النُّسُكِ أَوْ
الصَّوْمِ, أَوْ الصَّدَقَةِ, ثُمَّ وَجَدْنَا شُعْبَةَ قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ
أَيْضًا فِي هَذَا الْخَبَرِ: فَرَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: نِصْفَ
صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَرَوَى عَنْهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ: نِصْفَ
صَاعٍ حِنْطَةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ:
ثَلاَثَةَ آصُعَ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ, وَلَمْ يَذْكُرْ لِمَاذَا؟
قال أبو محمد: وَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ بِلاَ
خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ, وَبِنُصُوصِ هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا أَيْضًا.فَصَحَّ
أَنَّ جَمِيعَهَا وَهْمٌ إلاَّ وَاحِدًا فَقَطْ: فَوَجَدْنَا أَصْحَابَ شُعْبَةَ
قَدْ
(7/210)
اخْتَلَفُوا
عَلَيْهِ, فَوَجَبَ تَرْكُ مَا اضْطَرَبُوا فِيهِ, إذْ لَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى
مِنْ بَعْضٍ, وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى الَّذِي لَمْ يَضْطَرِبْ الثِّقَاتُ مِنْ رُوَاتِهِ فِيهِ, وَلَوْ كَانَ
مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ، عَنْ قَضَايَا شَتَّى لَوَجَبَ الأَخْذُ
بِجَمِيعِهَا وَضَمُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ, وَأَمَّا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ
فَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ أَصْلاً. ثُمَّ وَجَدْنَا أَبَانَ بْنَ صَالِحٍ قَدْ ذَكَرَ
فِي رِوَايَتِهِ فَرْقًا مِنْ زَبِيبٍ وَأَبَانُ لاَ يُعْدَلُ فِي الْحِفْظِ
بِدَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى, وَلاَ بِأَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى, وَلاَ بُدَّ مِنْ أَخْذِ إحْدَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ, إذْ لاَ يُمْكِنُ
جَمْعُهُمَا; لاَِنَّهَا كُلُّهَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ, فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ,
فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ, فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, فَوَجَبَ أَخْذُ مَا رَوَاهُ أَبُو
قِلاَبَةَ, وَالشَّعْبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, لِثِقَتِهِمَا وَلاَِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِسَائِرِ
الأَحَادِيثِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ عَالِمًا عَامِدًا بِأَنَّ
ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ, أَوْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَخَلَّى الْبَعْضَ عَالِمًا بِأَنَّ
ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ: فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى, وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ فُسُوقٌ,
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفُسُوقَ يُبْطِلُ الإِحْرَامَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ، وَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ
الْكَفَّارَةَ إلاَّ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِمَرَضٍ, أَوْ أَذًى بِهِ فَقَطْ
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَبَ فِدْيَةٌ, أَوْ
غَرَامَةٌ, أَوْ صِيَامٌ, لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى
الله عليه وسلم فَهُوَ شَرْعٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى,
وَلاَ يَجُوزُ قِيَاسُ الْعَاصِي عَلَى الْمُطِيعِ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا
فَكَيْفَ وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَأَمَّا مَنْ قَطَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ مَا
لاَ يُسَمَّى بِذَلِكَ حَالِقًا بَعْضَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْصِ، وَلاَ
أَتَى مُنْكَرًا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ الْمُحْرِمَ إلاَّ عَنْ
حَلْقِ رَأْسِهِ وَنَهَى جُمْلَةً عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم،
عَنْ حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ الْقَزَعُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَبِيًّا قَدْ
حَلَقَ بَعْضَ شَعْرِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ فَنَهَاهُمْ، عَنْ ذَلِكَ, وَقَالَ:
احْلِقُوا كُلَّهُ, أَوْ اُتْرُكُوا كُلَّهُ".
قال أبو محمد: وَجَاءَتْ أَخْبَارٌ لاَ تَصِحُّ, مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ أَنْصَارِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَنْ يَحْلِقَ وَيُهْدِيَ بَقَرَةً وَهَذَا مُرْسَلٌ،
عَنْ مَجْهُولٍ.
(7/211)
وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ كَعْبًا ذَبَحَ
بَقَرَةً بِالْحُدَيْبِيَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمِنْ
طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ:
أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ فَسَأَلَ
عُمَرُ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَمَّا كَانَ أَبُوهُ ذَبَحَ
بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي فِدْيَةِ رَأْسِهِ فَقَالَ: بَقَرَةً مُحَمَّدُ بْنُ
يَحْيَى لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ, وَغَيْرِهِ, عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ
بِمَاذَا افْتَدَى أَبُوهُ فَقَالَ بِبَقَرَةٍ سُلَيْمَانَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: افْتَدَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ مِنْ أَذًى كَانَ بِرَأْسِهِ فَحَلَقَهُ
بِبَقَرَةٍ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا أَبُو مَعْشَرٍ ضَعِيفٌ.
قال أبو محمد: وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ,
وَعَلْقَمَةَ, وَمُجَاهِدٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَقَتَادَةَ, وطَاوُوس,
وَعَطَاءٍ, كُلُّهُمْ قَالَ فِي فِدْيَةِ الأَذَى: صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ,
أَوْ نُسُكُ شَاةٍ, أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ
صَاعٍ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ,
وَعِكْرِمَةَ فِي فِدْيَةِ الأَذَى: نُسُكُ شَاةٍ, أَوْ صِيَامُ عَشْرَةِ
أَيَّامٍ, أَوْ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ.
رُوِّينَا ذَلِكَ: مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ: أَنَا
مَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ فَذَكَرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ, وَعِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ
نَافِعٍ, وَعِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إنْ
حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ أَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ لِضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ مَا
تَيَسَّرَ, فَإِنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ نُسُكِ مَا
شَاءَ, وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ, أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ إطْعَامُ
سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةٍ, أَوْ دَقِيقُ
حِنْطَةٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ مِنْ زَبِيبٍ. قَالَ
أَبُو يُوسُفَ: وَيُجْزِئُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنُ: لاَ يُجْزِئُهُ إلاَّ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إيَّاهُ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ: إنْ حَلَقَ نِصْفَ رَأْسِهِ فَأَقَلَّ صَدَقَةٌ,
وَإِنْ حَلَقَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَالْفِدْيَةُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ إنْ حَلَقَ عُشْرَ رَأْسِهِ
فَصَدَقَةٌ فَإِنْ حَلَقَ أَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ فَالْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ.
قَالُوا كُلُّهُمْ: فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ
لاَ يُجْزِئُهُ بَدَلُهُ صِيَامٌ, وَلاَ إطْعَامٌ وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ: لَيْسَ
فِي حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ شَيْءٌ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ وَسَاوِسُ وَاسْتِهْزَاءٌ وَشَبِيهٌ بِالْهَزْلِ, نَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ, وَلاَ
(7/212)
يُحْفَظُ
هَذَا السُّخَامُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَهُمْ. وقال
مالك: إنْ حَلَقَ, أَوْ نَتَفَ شَعَرَاتٍ نَاسِيًا, أَوْ جَاهِلاً أَوْ عَامِدًا
فَيُطْعِمُ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ فَإِنْ حَلَقَ, أَوْ نَتَفَ مَا يَكُونُ فِيهِ
إمَاطَةَ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ
عُجْرَةَ.
قال علي: وهذا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ
أَحَدٍ قَبْلَهُمْ. وقال الشافعي, وَالأَوْزَاعِيُّ فِي نَتْفِ شَعْرَةٍ أَوْ
حَلْقِهَا عَامِدًا وَنَاسِيًا: مُدٌّ, وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ كَذَلِكَ مُدَّانِ,
وَفِي الثَّلاَثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا كَذَلِكَ دَمٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ
أَحَبَّ فَشَاةٌ, وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ
مُدَّانِ مُدَّانِ مِمَّا يَأْكُلُ, وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ: لَيْسَ فِي الشَّعْرَتَيْنِ، وَلاَ فِي
الشَّعْرَةِ شَيْءٌ, وَفِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ دَمٌ وَكَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
نَحَا إلَى هَذَا وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ قَالاَ جَمِيعًا
فِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ لِلْمُحْرِمِ: دَمٌ, النَّاسِي وَالْعَامِدُ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ،
عَنْ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ: قَالَ: سَأَلْت عَطَاءً، عَنْ مُحْرِمٍ
حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ لِدَوَاءٍ قَالَ: عَلَيْهِ دَمٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا أَبُو
أُسَامَةَ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ
الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ
يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ، عَنِ الشَّجَّةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَأَبَاحَ ذَلِكَ لَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا، وَلاَ يُعْرَفُ فِي
ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَوْضِعُ النُّسُكِ وَالإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فَقَدْ
ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْمُحْصِرِ نُسُكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ
الْحُسَيْنِ رضي الله تعالى عنهما فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لِمَرَضٍ كَانَ بِهِ
بِالسُّقْيَا، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم
مُخَالِفًا وَنُسُكُ حَلْقِ الرَّأْسِ لاَ يُسَمَّى هَدْيًا; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, إذْ لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ النُّسُكِ بِمَكَّةَ
قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس قَالَ: مَا
كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ, وَأَمَّا الصَّوْمُ فَحَيْثُ شَاءَ
وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ
وَمَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ
دَمٍ وَاجِبٍ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَذْبَحَهُ إلاَّ بِمَكَّةَ.
رُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: اجْعَلْ الْفِدْيَةَ حَيْثُ شِئْت.
ال أبو محمد: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِالنُّسُكِ مَكَانًا دُونَ مَكَان إلاَّ
بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ.
(7/213)
875 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِنُورَةٍ فَهُوَ حَالِقٌ فِي اللُّغَةِ فَفِيهِ مَا فِي الْحَالِقِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَلَقَهُ فَإِنْ نَتَفَهُ فَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَحْلِقْهُ; وَالنَّتْفُ غَيْرُ الْحَلْقِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَإِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ وَالْفِدْيَةُ فِي الْحَلْقِ لاَ فِي النَّتْفِ.
(7/214)
876
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَصَيَّدَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ
أَوْ بِقِرَانٍ أَوْ بِحَجَّةِ تَمَتُّعٍ مَا بَيْنَ أَوَّلِ إحْرَامِهِ إلَى
دُخُولِ وَقْتِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ, أَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ, أَوْ
مُحِلٌّ فِي الْحَرَمِ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَامِدًا لِقَتْلِهِ غَيْرَ ذَاكِرٍ
لاِِحْرَامِهِ أَو لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ, أَوْ غَيْرَ عَامِدٍ لِقَتْلِهِ
سَوَاءٌ كَانَ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ: فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ,
لاَ كَفَّارَةَ وَلاَ إثْمَ وَذَلِكَ الصَّيْدُ جِيفَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ,
فَإِنْ قَتَلَهُ عَامِدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ أَوْ لاَِنَّهُ فِي
الْحَرَمِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى, وَحَجُّهُ بَاطِلٌ وَعُمْرَتُهُ
كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا
اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}.
فَصَحَّ يَقِينًا لاَ إشْكَالَ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كُلَّهُ إنَّمَا هُوَ
عَلَى الْعَامِدِ لِقَتْلِهِ, الذَّاكِرِ لاِِحْرَامِهِ, أَوْ; لاَِنَّهُ فِي
الْحَرَمِ, لإِنَّ إذَاقَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَالَ الأَمْرِ وَعَظِيمَ
وَعِيدِهِ بِالاِنْتِقَامِ مِنْهُ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ
الإِسْلاَمِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُخْطِئِ أَلْبَتَّةَ, وَلاَ عَلَى
غَيْرِ الْعَامِدِ لِلْمَعْصِيَةِ الْقَاصِدِ إلَيْهَا; فَبَطَلَ يَقِينًا أَنْ يَكُونَ
فِي الْقُرْآنِ, وَلاَ فِي السُّنَّةِ إيجَابُ حُكْمٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَلَى
غَيْرِ الْعَامِدِ الذَّاكِرِ الْقَاصِدِ إلَى الْمَعْصِيَةِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا
تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا
عَلَيْهِ".
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ
الْمَسْعُودِيِّ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ
بْنِ جَابِرٍ الأَسَدِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَمَعَهُ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ, وَعُمَرُ: يَسْأَلُ رَجُلاً قَتَلَ ظَبْيًا
وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: عَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ خَطَأً فَقَالَ
لَهُ الرَّجُلُ: لَقَدْ تَعَمَّدْت رَمْيَهُ وَمَا أَرَدْت قَتْلَهُ, فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: مَا أَرَاك إلاَّ أَشْرَكْت بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ; أَعْمِدْ إلَى
شَاةٍ فَاذْبَحْهَا فَتَصَدَّقْ بِلَحْمِهَا وَأَسِقْ إهَابَهَا.
قال أبو محمد: فَلَوْ كَانَ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً عِنْدَ
عُمَرَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ لَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ أَعَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ
خَطَأً وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ; لاَِنَّهُ كَانَ يَكُونُ
فُضُولاً مِنْ السُّؤَالِ لاَ مَعْنَى لَهُ
(7/214)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ
الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مَدِينَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِي
الْخَطَأِ شَيْءٌ أَبُو مَدِينَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِصْنٍ السَّدُوسِيُّ
تَابِعِيٌّ, سَمِعَ أَبَا مُوسَى, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله
عنهم.
وَمِنْ طَرِيق شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ
خَطَأً قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَالَ: فَقُلْت لَهُ: عَمَّنْ قَالَ:
السُّنَّةُ.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِالْمَالِكِيِّينَ يَجْعَلُونَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
إذْ سَأَلَهُ رَبِيعَةُ، عَنْ قَوْلِهِ فِي الْمَرْأَةِ يُقْطَعُ لَهَا ثَلاَثُ
أَصَابِعَ لَهَا ثَلاَثُونَ مِنْ الإِبِلِ فَإِنْ قُطِعَتْ لَهَا أَرْبَعُ
أَصَابِعَ فَلَيْسَ لَهَا إلاَّ عِشْرُونَ مِنْ الإِبِلِ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ:
السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي; فَجَعَلُوهُ حُجَّةً لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا. وَقَدْ
خَالَفَ سَعِيدٌ فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ وَغَيْرَهُمَا; ثُمَّ لَمْ يَجْعَلُوا هَاهُنَا حُجَّةَ قَوْلِ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ: إنَّ السُّنَّةَ هِيَ أَنَّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ
الصَّيْدَ خَطَأً, وَمَعَهُ الْقُرْآنُ, وَالصَّحَابَةُ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ
طَاوُوس قَالَ: لاَ يُحْكَمُ إلاَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا كَمَا قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ فِيمَنْ أَصَابَ الْجَنَادِبَ خَطَأً قَالُوا:
لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَصَابَهَا مُتَعَمِّدًا حُكِمَ عَلَيْهِ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا. وَصَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلٌ آخَرُ
وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ
خَطَأً, وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ عَامِدًا ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ فَلاَ يُحْكَمُ
عَلَيْهِ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ
سَوَاءٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ
أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَسَعْدٍ, وَالنَّخَعِيِّ,
وَالشَّعْبِيِّ.
قال أبو محمد: الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ مَا افْتَرَضَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَشَغَبَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنْ
قَالُوا: قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ
خَطَأً فَقِسْنَا عَلَيْهِ قَاتِلَ الصَّيْدِ خَطَأً.
قال علي: هذا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا
لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; وَلَكَانُوا أَيْضًا قَدْ فَارَقُوا
حُكْمَ الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا; أَمَّا كَوْنُهُ خَطَأً; فَلاَِنَّ مِنْ
أَصْلِهِمْ الَّذِي لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَنَّ مَا خَرَجَ، عَنْ حُكْمِ
أَصْلِهِ مَخْصُوصًا أَنَّهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ,
(7/215)
وَالأَصْلُ
أَنْ لاَ شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فَخَرَجَ عِنْدَهُمْ إيجَابُ
الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً، عَنْ أَصْلِهِ,
فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُقَاسَ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى
أَنْ لاَ يَقِيسُوا حُكْمَ الْوَاطِئِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا عَلَى
الْوَاطِئِ فِيهِ عَمْدًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمَا, وَقَتْلُ
الصَّيْدِ أَشْبَهُ بِالْوَطْءِ مِنْهُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ; لإِنَّ قَتْلَ
الْمُؤْمِنِ لَمْ يَحِلَّ قَطُّ ثُمَّ حُرِّمَ, بَلْ لَمْ يَزَلْ حَرَامًا مُذْ
آمَنَ, أَوْ مُذْ وُلِدَ إنْ كَانَ وُلِدَ عَلَى الإِسْلاَمِ. وَأَمَّا الْوَطْءُ
وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَكَانَا حَلاَلَيْنِ, ثُمَّ حُرِّمَا بِالصَّوْمِ
وَبِالإِحْرَامِ فَجَمَعَتْهُمَا هَذِهِ الْعِلَّةُ فَأَخْطَئُوا فِي قِيَاسِ
قَاتِلِ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى مَا لاَ يُشْبِهُهُ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ
لِلْقِيَاسِ هُنَا فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ
لاَ يَجُوزُ أَنْ تُوجَبَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ أَوْجَبُوهَا هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ;
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ قَاسُوا الْخَطَأَ فِي
قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْخَطَأِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فَأَوْجَبُوا الْجَزَاءَ
فِي كِلَيْهِمَا وَلَمْ يَقِيسُوا قَتْلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا عَلَى قَتْلِ
الصَّيْدِ عَمْدًا فَأَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا
وَلَمْ يُوجِبُوهَا فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَبَاطِلٌ.
وَأَيْضًا فَلَمْ يَقِيسُوا نَاسِي التَّسْمِيَةِ فِي التَّذْكِيَةِ عَلَى
الْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا فِيهَا مَعَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِالتَّسْوِيَةِ
بَيْنَ الأَمْرَيْنِ هُنَالِكَ; وَتَفْرِيقِ الْحُكْمِ هَاهُنَا.
وَالشَّافِعِيُّونَ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّاسِي فِيمَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلاَةُ
وَبَيْنَ الْعَامِدِ, وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ وَسَاوَوْا هَاهُنَا بَيْنَ
النَّاسِي وَالْعَامِدِ, وَهَذَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ. وَقَالُوا: لَيْسَ تَخْصِيصُ
اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَمِّدَ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ
أَنَّ الْمُخْطِئَ بِخِلاَفِهِ وَذَكَرُوا مَا نَحْتَجُّ بِهِ نَحْنُ وَمَنْ
وَافَقَنَا مِنْهُمْ مِنْ النُّصُوصِ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ
الْخِطَابِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا جَهْلٌ شَدِيدٌ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ, لاَِنَّنَا إذَا
أَبْطَلْنَا الْقَوْلَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لَمْ نُوجِبْ الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ
بَلْ أَبْطَلْنَاهُمَا جَمِيعًا, وَالْقِيَاسُ: هُوَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمَسْكُوتِ
عَنْهُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ, وَدَلِيلُ الْخِطَابِ: هُوَ أَنْ يُحْكَمَ
لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِخِلاَفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا هُمْ
فَتَلَوَّنُوا هَاهُنَا مَا شَاءُوا, فَمَرَّةً يَحْكُمُونَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ
بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ قِيَاسًا, وَمَرَّةً يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ
بِخِلاَفِ حُكْمِهِ أَخْذًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ
الْحُكْمَيْنِ مُضَادٌّ لِلآخَرِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ،
وَلاَ السُّنَّةَ وَنُوقِفُ أَمْرَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَلاَ نَحْكُمُ لَهُ
بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ، وَلاَ بِحُكْمٍ آخَرَ, بِخِلاَفِ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ;
لَكِنْ نَطْلُبُ حُكْمَهُ فِي نَصٍّ آخَرَ فَلاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ وَلَمْ
نَقُلْ قَطُّ هَاهُنَا: إنَّهُ لَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إيجَابِ
الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
الْمُخْطِئُ بِخِلاَفِهِ, وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَقُولَ هَذَا, لَكِنْ
(7/216)
قلنا:
لَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ إلاَّ الْمُتَعَمِّدُ وَحْدُهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ
لِلْمُخْطِئِ لاَ بِإِيجَابِ جَزَاءٍ عَلَيْهِ، وَلاَ بِإِسْقَاطِهِ عَنْهُ
فَوَجَبَ طَلَبُ حُكْمِهِ فِي نَصٍّ آخَرَ, إذْ لَيْسَ حُكْمُ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْجُودًا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ, وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَعْقِلُ أَحَدٌ
سِوَاهُ; فَإِذَا وَجَدْنَا حُكْمَهُ حَكَمْنَا بِهِ, إمَّا مُوَافِقًا لِهَذَا
الْحُكْمِ الآخَرِ, وَأَمَّا مُخَالِفًا لَهُ, فَفَعَلْنَا: فَوَجَدْنَا اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَ الْجُنَاحَ، عَنِ الْمُخْطِئِ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَدْ قَالَ: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَأَنَّهُ قَدْ عَفَا، عَنِ الْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ, وَذَمَّ تَعَالَى مَنْ شَرَعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ
بِهِ. فَوَجَبَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنْ لاَ يَلْزَمَ قَاتِلُ الصَّيْدِ خَطَأً
أَوْ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ شَرْعُ صَوْمٍ, وَلاَ غَرَامَةُ هَدْيٍ, أَوْ
إطْعَامٌ أَصْلاً; فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ مُتْلِفُ أَمْوَالِ النَّاسِ
يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا بِالْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَكَانَ الصَّيْدُ مِلْكًا لِلَّهِ
تَعَالَى وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ
حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ, وَلَكَانُوا أَيْضًا قَدْ
أَخْطَئُوا فِيهِ. أَمَّا كَوْنَهُ خَطَأً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ
بَيْنَ حُكْمِ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَبَيْنَ حُكْمِ مَا أُصِيبَ
مِنْ الصَّيْدِ فِي الإِحْرَامِ فَجَعَلَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ الْمِثْلَ, أَوْ
الْقِيمَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ, وَجَعَلَ فِي الصَّيْدِ جَزَاءً مِنْ
النَّعَمِ لاَ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ الصَّيْدِ الْمُبَاحِ فِي الإِحْلاَلِ, أَوْ
إطْعَامًا, أَوْ صِيَامًا, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ; فَسَوَّوْا
بَيْنَ حُكْمَيْنِ قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ جُرْأَةٌ
شَدِيدَةٌ وَخَطَأٌ لاَئِحٌ; وَأَمَّا خَطَؤُهُمْ فِيهِ فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ
مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ قِيَاسًا,
وَأَوْجَبُوا هَاهُنَا قِيَاسًا, وَالْقَوْمُ لَيْسُوا فِي شَيْءٍ, وَإِنَّمَا
هُمْ فِي شَبَهِ اللَّعِبِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَأَمَّا
الْمَالِكِيُّونَ فَإِنَّهُمْ قَاسُوا مُتْلِفَ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى مُتْلِفِ
أَمْوَالِ النَّاسِ عَمْدًا, وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ
الْقِيمَةُ فَقَطْ, وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الصَّيْدِ الْمِثْلُ مِنْ النَّعَمِ,
أَوْ الإِطْعَامُ, أَوْ الصِّيَامُ, فَقَدْ تَرَكُوا قِيَاسَهُمْ الْفَاسِدَ.
فَإِنْ قَالُوا: اتَّبَعْنَا الْقُرْآنَ قلنا: فَالْتَزَمُوا اتِّبَاعَهُ فِي
الْعَامِدِ خَاصَّةً وَإِسْقَاطُ الْجُنَاحِ، عَنِ الْمُخْطِئِ, وَأَوْجَبُوا فِي
الصَّيْدِ: الْقِيمَةَ كَمَا فَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَرَدَ قِيَاسَهُ
الْفَاسِدَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ لاَ يَرَوْنَ ضَمَانَ مَا
وَلَدَتْ الْمَاشِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ إلاَّ أَنْ تُسْتَهْلَكَ الأَوْلاَدِ,
وَيَرَى عَلَى مَنْ أَخَذَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَلَدَ عِنْدَهُ, ثُمَّ
مَاتَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ: أَنْ يَضْمَنَ الآُمَّ وَالأَوْلاَدَ,
فَأَيْنَ قِيَاسُهُ الصَّيْدَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ؟
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ,
وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ, وَكُلَّ ذِي
(7/217)
مِخْلَبٍ
مِنْ الطَّيْرِ كَمَا حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي الإِحْرَامِ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِلْكٌ
لِلَّهِ تَعَالَى, ثُمَّ لاَ يُوجِبُونَ عَلَى مَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
جَزَاءً, فَنَقَضُوا قِيَاسَهُمْ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُحَرِّمْ قَتْلَ شَيْءٍ
مِنْ هَذِهِ قلنا: وَلاَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَزَاءَ إلاَّ عَلَى
الْمُتَعَمِّدِ فأما الْتَزَمُوا النُّصُوصَ كَمَا وَرَدَتْ، وَلاَ تَتَعَدَّوْا
حُدُودَ اللَّهِ, وَأَمَّا اُطْرُدُوا قِيَاسَكُمْ فَأَوْجِبُوا الْجَزَاءَ فِي
الْخِنْزِيرِ; وَفِي السِّبَاعِ, وَفِي ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ, كَمَا فَعَلَ أَبُو
حَنِيفَةَ فَظَهَرَ أَيْضًا فَسَادُ أَقْوَالِهِمْ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وقال بعضهم: إنَّمَا نَصَّ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ
حُكْمَ الْمُخْطِئِ مِثْلُهُ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ مِنْ أَسْخَفِ كَلاَمٍ فِي الأَرْضِ, وَيَلْزَمُهُ أَنْ
يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ
عَامِدًا فِي جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ,
لِيَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ قَاتِلِهِ مُخْطِئٌ مِثْلُهُ, وَإِلاَّ فَقَدْ ظَهَرَ
كَذِبُ هَذَا الْقَائِلِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَافْتِرَاؤُهُ عَلَى
خَالِقِهِ لاِِخْبَارِهِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ
فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ قَاتِلِ الْعَمْدِ وَقَاتِلِ الْخَطَأِ. قلنا:
وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ كُلِّ مُخْطِئٍ وَكُلِّ عَامِدٍ
بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ
وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ تَمْوِيهًا غَيْرَ هَذَا وَهُوَ كُلُّهُ
ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ ذَلِكَ الصَّيْدَ حَرَامٌ أَكْلُهُ; فَلاَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى سَمَّاهُ قَتْلاً وَنَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُبِحْ لَنَا عَزَّ وَجَلَّ
أَكْلَ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ إلاَّ بِالذَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عَزَّ
وَجَلَّ, وَلاَ شَكَّ عِنْدَ كُلِّ ذِي حَسَنٍ سَلِيمٍ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الذَّكَاةِ هُوَ غَيْرُ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ
الْقَتْلِ; فَإِذْ هُوَ غَيْرُهُ فَالْقَتْلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ ذَكَاةً;
وَإِذْ لَيْسَ هُوَ ذَكَاةٌ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْحَيَوَانِ بِهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: فَهَلاَّ خَصَّصْتُمْ الْعَامِدَ بِذَلِكَ قلنا: نَصُّ الآيَةِ مَانِعٌ
مِنْ ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ,
وَسَمَّى إتْلاَفَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْحَرَمِ قَتْلاً وَحَرَّمَهُ. ثُمَّ
قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ} فَأَوْجَبَ حُكْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ خَاصَّةً بِخِلاَفِ
النَّهْيِ الْعَامِّ فِي أَوَّلِ الآيَةِ.
وَأَمَّا بُطْلاَنُ إحْرَامِهِ بِذَلِكَ: فَلاَِنَّهُ بِلاَ خِلاَفٍ مَعْصِيَةٌ,
وَالْمَعَاصِي كُلُّهَا فُسُوقٌ; وَالإِحْرَامُ يَبْطُلُ بِالْفُسُوقِ كَمَا
ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَمِنْ شَنَعِ الأَقْوَالِ وَفَاسِدِهَا إبْطَالُ
الْمَالِكِيِّينَ الْحَجَّ بِالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
وَلَمْ يَمْنَعْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه
السلام, ثُمَّ لَمْ يُبْطِلُوهُ بِالْفُسُوقِ الْكَبِيرِ الَّذِي تَوَعَّدَ
اللَّهُ تَعَالَى أَشَدَّ الْوَعِيدِ فِيهِ وَهُوَ قَتْلُ الصَّيْدِ عَمْدًا.
وَأَبْطَلُوا هُمْ,
(7/218)
وَالْحَنَفِيُّونَ الإِحْرَامَ بِالْوَطْءِ نَاسِيًا وَلَمْ يُبْطِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحْرِمِ. وَأَبْطَلُوا هُمْ, وَالشَّافِعِيُّونَ الْحَجَّ بِالإِكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ وَلَمْ يُبْطِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ بِهِ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام, وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/219)
877 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ أَنَّ كِتَابِيًّا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/219)
878
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ لِقَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَهُوَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ أَيُّهَا شَاءَ فَعَلَهُ وَقَدْ أَدَّى مَا
عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
وَهِيَ: الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا, وَمَاعِزُهَا وَعَلَيْهِ
مِنْ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُ الصَّيْدَ الَّذِي قَتَلَ مِمَّا قَدْ حَكَمَ بِهِ
عَدْلاَنِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, أَوْ مِنْ التَّابِعِينَ رحمهم الله,
وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ تَحْكِيمَ حُكْمَيْنِ الآنَ وَإِنْ شَاءَ
أَطْعَمَ مَسَاكِينَ; وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلاَثَةٌ, وَإِنْ شَاءَ نَظَرَ إلَى مَا
يُشْبِعُ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ النَّاسِ, فَصَامَ بَدَلَ كُلِّ إنْسَانٍ يَوْمًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}. فَأَوْجَبَ اللَّهُ
تَعَالَى التَّخْيِيرَ فِي ذَلِكَ بِلَفْظَةِ "أَوْ" وَأَوْجَبَ مِنْ
الْمِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا. فَصَحَّ أَنَّ الصَّاحِبَيْنِ
إذَا حَكَمَا بِمِثْلٍ فِي ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ فَرْضًا لاَزِمًا لاَ يَحِلُّ
تَعَدِّيهِ; وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ وَالتَّابِعُ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ حُكْمُ
صَاحِبَيْنِ; وَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّابِعِينَ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي حُكْمِ صَاحِبٍ,
وَأَوْجَبَ تَعَالَى طَعَامَ مَسَاكِينَ, وَهَذَا بِنَاءً لاَ يَقَعُ عَلَى
أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ, وَيَقَعُ
عَلَى ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا إلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهِ إلاَّ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ; فَكَانَ إيجَابُ عَدَدٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ قَوْلاً عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ وَوَجَبَ إطْعَامُ
الثَّلاَثَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لاَ أَقَلَّ, فَإِنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعُ
خَيْرٍ. وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَقْطَعُ
بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ فِي هَذَا عَدَدًا مَحْدُودًا مِنْ
الْمَسَاكِينِ لاَ يُوجِبُهُ ظَاهِرُ الآيَةِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ الإِطْعَامِ لاَ
يَقْتَضِيه وَظَاهِرُ الآيَةِ لَمَا أَغْفَلَهُ عَمْدًا، وَلاَ نَسِيَهُ, وَلَبَيَّنَهُ
لَنَا فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا
بَيَّنَ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ, وَكَفَّارَةِ
الْعَوْدِ لِلظِّهَارِ, وَكَفَّارَةِ الأَيْمَانِ, وَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي
رَمَضَانَ, وَكَفَّارَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِلأَذَى فِي الإِحْرَامِ, فَإِذَا لَمْ
يَنُصَّ تَعَالَى هُنَا عَلَى عَدَدٍ بِعَيْنِهِ، وَلاَ عَلَى صِفَةٍ بِعَيْنِهَا
فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ الصَّادِقَةِ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْ فِي
ذَلِكَ غَيْرَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الآيَةِ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكّ
(7/219)
879 - مَسْأَلَةٌ: وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ مِنْ الإِبِلِ, وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ, وَثَوْرِ الْوَحْشِ, وَالآُرْوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ, وَالآُيَّلِ: بَقَرَةٌ, وَفِي الْغَزَالِ, وَالْوَعِلِ وَالظَّبْيِ: عَنْزٌ, وَفِي الضَّبِّ, وَالْيَرْبُوعِ, وَالأَرْنَبِ وَأُمِّ حُبَيْنٍ جَدْيٌ, وَفِي الْوَبْرِ: شَاةٌ, وَكَذَلِكَ فِي الْوَرَلِ
(7/226)
وَالضَّبُعِ,
وَفِي الْحَمَامَةِ, وَكُلِّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ مِنْ الطَّيْرِ: شَاةٌ,
وَكَذَلِكَ الْحُبَارَى وَالْكُرْكِيُّ, والبلدج, وَالإِوَزُّ الْبَرِّيُّ,
وَالْبُرَكُ الْبَحْرِيُّ, وَالدَّجَاجُ الْحَبَشِيُّ, وَالْكَرَوَانُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنْ النَّعَمِ} فَلاَ يَخْلُو الْمِثْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ
الْوُجُوهِ, أَوْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ, أَوْ مِنْ أَغْلَبِ الْوُجُوهِ;
فَوَجَدْنَا الْمُمَاثَلَةَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ مَعْدُومَةً مِنْ الْعَالَمِ
جُمْلَةً لإِنَّ كُلَّ غَيْرَيْنِ فَلَيْسَا مِثْلَيْنِ فِي تَغَايُرِهِمَا
فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الْمُمَاثَلَةِ مِنْ أَقَلِّ
الْوُجُوهِ, وَهُوَ وَجْهٌ وَاحِدٌ فَوَجَدْنَا كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ لاَ
تَحَاشَ شَيْئًا, فَهُوَ يُمَاثِلُ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ وَجْهٍ، وَلاَ
بُدَّ وَهُوَ الْخَلْقُ, لإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ وَهُوَ مَا دُونَ اللَّهِ
تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا. وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ
لاََجْزَأَتْ الْعَنْزُ بَدَلَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ, وَالنَّعَامَةِ;
لاَِنَّهُمَا حَيَّانِ مَخْلُوقَانِ مَعًا; وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ.
فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ أَغْلَبِ
الْوُجُوهِ, وَأَظْهَرِهَا, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلاَّ
أَقْوَالٌ مَحْصُورَةٌ فَبَطَلَتْ كُلُّهَا إلاَّ وَاحِدًا فَهُوَ الْحَقُّ بِلاَ
شَكٍّ; فَهَذَا مُوجَبُ الْقُرْآنِ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَدْ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ, فَعَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ عليه
السلام إنَّمَا بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْقَدِّ
وَهَيْئَةِ الْجِسْمِ, لإِنَّ الْكَبْشَ أَشْبَهُ النَّعَمِ بِالضَّبُعِ وَبِهَذَا
جَاءَ حُكْمُ السَّلَفِ الطَّيِّبِ رضي الله عنهم.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ
بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ
الضَّبُعِ فَقَالَ: "هُوَ صَيْدٌ وَجَعَلَ فِيهِ كَبْشًا إذَا صَادَهُ
الْمُحْرِمُ". وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، نا أَبُو
الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: حَكَمَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ
رَبَاحٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ
ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالاَ
جَمِيعًا: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ فَهُمْ: عُمَرُ, وَعَلِيٌّ, وَجَابِرٌ, وَابْنُ
عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَوْلُ عُمَرَ هَذَا
فَلَمْ يُخَالِفْهُ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَعُثْمَانَ, وَعَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ, وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالُوا فِي النَّعَامَةِ: بَدَنَةٌ مِنْ
الإِبِلِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ,
وَمُعَاوِيَةَ, قَالاَ: فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ يَعْنِي مِنْ الإِبِلِ وَهُوَ
قَوْلُ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ,
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ, وَلاَ شَيْءَ أَشْبَهُ بِالنَّعَامَةِ
(7/227)
مِنْ
النَّاقَةِ فِي طُولِ الْعُنُقِ, وَالْهَيْئَةِ وَالصُّورَةِ. وَرُوِّينَا، عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ, وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِيهِ بَدَنَةٌ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِيهِ بَدَنَةٌ وَعَنْ عَطَاءٍ فِيهِ
بَدَنَةٌ, وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا فِيهِ بَقَرَةٌ وَالرِّوَايَةُ فِي
ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَصِحُّ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لاَِنَّهُ
مُرْسَلٌ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَوَى ابْنُ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالاَ جَمِيعًا: فِي حِمَارِ الْوَحْشِ: بَقَرَةٌ, وَفِي
بَقَرَةِ الْوَحْشِ: بَقَرَةٌ, قَالَ عَطَاءٌ: وَفِي الأَرْوَى بَقَرَةٌ, وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: فِي الْقَادِرِ الْعَظِيمِ مِنْ الأَرْوَى بَقَرَةٌ, وَهَذَا صَحِيحٌ
عَنْهُمَا وَهُمَا ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا فَوَجَدْنَا حِمَارَ الْوَحْشِ أَشْبَهَ
بِالْبَقَرَةِ مِنْهُ بِالنَّاقَةِ, لإِنَّ الْبَقَرَ, وَحِمَارَ الْوَحْشِ, ذَوَا
شَعْرٍ وَذَنَبٍ سَابِغٍ وَلَيْسَ لَهُمَا سَنَامٌ, وَالنَّاقَةُ ذَاتُ وَبَرٍ
وَذَنَبٍ قَصِيرٍ وَسَنَامٍ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِالْبَقَرَةِ لِقُوَّةِ
الْمُمَاثَلَةِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآُيَّلِ: بَقَرَةٌ. وَبِهِ
يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. وَفِي الثَّيْتَلِ: بَقَرَةٌ, وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ
مِنْ السَّلَفِ. وَفِي الْوَبْرِ: شَاةٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالشَّافِعِيِّ,
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَطَاءٍ فِي الْغَزَالِ: شَاةٌ.
قال أبو محمد: الشَّاةُ تَقَعُ عَلَى الْمَاعِزَةِ كَمَا تَقَعُ عَلَى الضَّأْنِيَّةِ.
وَعَنْ سَعْدٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ فِي الظَّبْيِ: تَيْسٌ. وَعَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَزَيْدٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي الضَّبِّ: جَدْيٌ رَاعٍ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَطَارِقِ بْنِ شِهَابٍ مِثْلُهُ أَيْضًا
فَقَالَ مَالِكٌ, وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ هَذَا. وَرُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ
فِي الضَّبِّ: شَاةٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي الضَّبِّ: حُفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ.
وَهَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ لإِنَّ خِلاَفَ حُكْمِ عُمَرَ, وَطَارِقٍ, وَمَنْ
مَعَهُمَا لاَ يُجَوِّزُ خِلاَفَهُ, لأَنَّهُمْ ذَوُو عَدْلٍ مِنَّا مَعَ
مُوَافَقَتِهِمْ الْقُرْآنَ فِي الْمُمَاثَلَةِ; وَقَوْلُ عَطَاءٍ حَادِثٌ
بَعْدَهُمْ, وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ مَعَ خِلاَفِ قَوْلِهِمَا, وَقَوْلِ
مَالِكٍ لِلْقُرْآنِ. وَبِقَوْلِ عُمَرَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ,
وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ, وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ
عُمَرَ فِي الأَرْنَبِ: عَنَاقٌ, وَهِيَ الْجَدْيُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, وَعَمْرِو بْنِ حَبَشِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ, قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ:
لاَ يَجُوزُ فَخَالَفُوا كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا, وَالْمُمَاثَلَةَ الْمَأْمُورَ
بِهَا فِي الْقُرْآن. وَعَنْ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَمُجَاهِدٍ فِي
الْيَرْبُوع: سَخْلَةٌ, أَوْ جَفْرَةٌ, وَهُمَا سَوَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ
بِشَيْءٍ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: فِيهِ حُكُومَةٌ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: فِيهِ
قِيمَتُهُ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقال مالك فِي الأَرْنَبِ,
وَالضَّبِّ, وَالْيَرْبُوعِ قِيمَتُهُ يُبْتَاعُ بِهِ طَعَامٌ وَهَذَا خَطَأٌ لَمْ
يُوجِبْهُ الْقُرْآنُ, وَلاَ السُّنَّةُ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ إجْمَاعٌ,
وَلاَ قِيَاسٌ.
(7/228)
فَإِنْ
قَالُوا: قِسْنَا عَلَى الأَضَاحِيِّ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْجَذَعُ مِنْ غَيْرِ
الضَّأْنِ، وَلاَ مَا دُونَ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ,
ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكُنْتُمْ أَوَّلَ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْقِيَاسِ
لاَِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الْكَبْشَ, وَالتَّيْسَ, أَفْضَلُ فِي الأَضَاحِيِّ
مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَإِنَّ الذَّكَرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الآُنْثَى,
وَتَقُولُونَ فِي الْهَدْيِ كُلِّهِ: إنَّ الإِبِلَ, وَالْبَقَرَ: أَفْضَلُ مِنْ
الضَّأْنِ, وَالْمَاعِزِ, وَإِنَّ الإِنَاثَ أَفْضَلُ فِيهَا مِنْ الذُّكُورِ;
فَمَرَّةً تَقِيسُونَ حُكْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ, وَمَرَّةً تُفَرِّقُونَ
بَيْنَ أَحْكَامِهَا بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ دَلِيلٍ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لاَ تُجْزِئُ جَذَعَةٌ،
عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ" . قلنا: نَعَمْ, وَاَلَّذِي أَخْبَرَ
بِهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا، عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ مِثْلِ
الصَّيْدِ الْمَقْتُول مِنْ النَّعَمِ, وَلَيْسَ بَعْضُ كَلاَمِهِ أَوْلَى
بِالطَّاعَةِ مِنْ بَعْضٍ, بَلْ كُلُّهُ فُرِضَ اسْتِعْمَالُهُ, وَلاَ يَجُوزُ
تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ لِشَيْءٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلَمْ يَنْهَ
قَطُّ عليه السلام، عَنْ مَا دُونَ الْجَذَعِ بِاسْمِهِ; لَكِنْ لَمَّا كَانَ
بَعْضُ مَا دُونَ الْجَذَعِ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ لَمْ يُجْزِ فِيمَا
جَاءَ فِيهِ النَّصُّ بِإِيجَابِ شَاةٍ فَقَطْ. وَأَمَّا الْجَذَعَةُ فَلاَ
تُجْزِئُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَيْضًا; لإِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا عُمُومٌ, إلاَّ
حَيْثُ أُوجِبَتْ بِاسْمِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ,
وَالْبَقَرِ, فَقَطْ, مَعَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ, وَالْمَاعِزِ,
وَالإِبِلِ, وَالْبَقَرِ: لاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاتِهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ
إنَّمَا يُرَاعَى الْمِثْلُ فِي الْقَدِّ وَالصُّورَةِ لاَ مَا لاَ يُعْرَفُ إلاَّ
بَعْدَ فَرِّ الأَسْنَانِ فَصَحَّ أَنَّ الْجَذَعَةَ لاَ تُجْزِئُ فِي جَزَاءِ
الصَّيْدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي
الْوَرَلِ: شَاةٌ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ عَظِيمًا فِي مِقْدَارِ الشَّاةِ فَكَذَلِكَ, وَإِلاَّ
فَفِيهِ, وَفِي الْقُنْفُذِ: جَدْيٌ صَغِيرٌ. وَعَنْ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ, وَابْنِ
عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ فِي الْحَمَامَةِ: شَاةٌ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ,
وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَحْمَدَ. وقال الشافعي, وَأَبُو
سُلَيْمَانَ: كُلُّ مَا يَعُبُّ كَمَا تَعُبُّ الشَّاةُ فَفِيهِ شَاةٌ بِهَذِهِ
الْمُمَاثَلَةِ وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدُّبْسِيِّ,
وَالْقُمْرِيِّ, وَالْحُبَارَى, وَالْقَطَاةِ, وَالْحَجَلَةِ شَاةٌ شَاةٌ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا أَيْضًا. وَكَذَلِكَ فِي
الْكَرَوَانِ, وَابْنِ الْمَاءِ. وَرُوِّينَا، عَنِ الْقَاسِمِ, وَسَالِمٍ: ثُلُثُ
مُدٍّ: خَيْرٌ مِنْ حَجَلَةٍ.
قال أبو محمد: لاَ يَجُوزُ هَاهُنَا خِلاَفُ مَا حَكَمَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ,
وَعَطَاءٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْهُدْهُدِ: دِرْهَمٌ, وَفِي الْوَطْوَاطِ:
ثُلُثَا دِرْهَمٍ, وَفِي الْعُصْفُورِ: نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَعَنْ عُمَرَ فِي
الْجَرَادَةِ: تَمْرَةٌ, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ
آخَرُونَ: لاَ شَيْءَ فِيهَا; لاَِنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ, وَهَذَا خَطَأٌ;
لاَِنَّهَا إنْ غُمِسَتْ فِي الْبَحْرِ مَاتَتْ. وَعَنْ كَعْبٍ فِي الْجَرَادَةِ
دِرْهَمٌ.
قال أبو محمد: إنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْكِيمٍ فِي الْجَزَاءِ مِنْ
النَّعَمِ لاَ فِي الإِطْعَامِ، وَلاَ فِي الصِّيَامِ,
(7/229)
فَلاَ
يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ, وَإِنَّمَا هُوَ مَا أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ, فَكُلُّ مَا كَانَ
لَهُ مِثْلٌ مِنْ صِغَارِ النَّعَمِ جُزِيَ بِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ
مِنْ كِبَارِ النَّعَمِ، وَلاَ صِغَارِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} لإِنَّ مِنْ
الْمُحَالِ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى جَزَاءَ صَيْدٍ بِمِثْلِهِ مِنْ
النَّعَمِ وَهُوَ لاَ مِثْلَ لَهُ مِنْهَا, لإِنَّ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي
الْوُسْعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ
وُسْعَهَا} فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَلاَ شَكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ الَّذِي خُلِقَ صَغِيرًا
جِدًّا كَصِغَارِ الْعَصَافِيرِ وَالْجَرَادِ فَلَمْ يَجْعَلْ فِي كَبِيرِ
الصَّيْدِ وَصَغِيرِهِ إلاَّ فِدْيَةً طَعَامَ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلَهُ صِيَامًا:
فَوَجَبَ فِي الْجَرَادَةِ فَمَا فَوْقَهَا إلَى النَّعَامَةِ, وَفِي وَلَدِ
أَصْغَرِ الطَّيْرِ إلَى حِمَارِ الْوَحْشِ: إطْعَامُ ثَلاَثَةِ مَسَاكِينَ
فَقَطْ. وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلاَ صِيَامَ فِي الإِسْلاَمِ أَقَلُّ مِنْ صَوْمِ
يَوْمٍ, فَفِي كُلِّ صَغِيرٍ مِنْهَا صَوْمُ يَوْمٍ فَقَطْ; فَإِنْ كَانَ يُشْبِعُ
بِكِبَرِ جِسْمِهِ إنْسَانَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً فَأَكْثَرَ: فَلِكُلِّ آكِلٍ صَوْمُ
يَوْمٍ كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى. فإن قيل: إنَّ هَذَا قَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ،
عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَلَفَ قلنا: نَحْنُ لاَ نَدَّعِي الإِحَاطَةَ بِأَقْوَالِ
الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ كُلِّهِمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ
الْعُلَمَاءِ بَلْ نَقُولُ وَنَقْطَعُ: أَنَّ مَنْ ادَّعَى الإِحَاطَةَ
بِأَقْوَالِهِمْ فَقَدْ كَذَبَ كَذِبًا مُتَيَقَّنًا لاَ خَفَاءَ بِهِ, وَلاَ
نُنْكِرُ الْقَوْلَ بِمَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَّةُ وَإِنْ لَمْ
تُعْرَفْ رِوَايَةٌ، عَنْ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يَقُلْ لَنَا قَطُّ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم لاَ
تَقُولُوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ إنْسَانًا
قَالَ بِمَا فِيهِمَا; بَلْ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا ضَلاَلٌ وَبِدْعَةٌ
وَكَبِيرَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ, وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا
مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}.
وَالنَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْجَرَادِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ" .
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ
مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا
مِثْلُهُ. وَعَنْ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
إنَّ الْجَرَادَ نَثْرُ حُوتٍ يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ, وَأَبَاحَ
أَكْلَهُ لِلْمُحْرِمِ وَصَيْدَهُ; فَهَذَا قَوْلٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ
قَالَ كَعْبٌ: ذُكِرَ لِعُمَرَ أَنِّي أَصَبْت جَرَادَتَيْنِ وَأَنَا مُحْرِمٌ
فَقَالَ لِي عُمَرُ: مَا نَوَيْت فِي نَفْسِك قُلْت: دِرْهَمَيْنِ, فَقَالَ
عُمَرُ: تَمْرَتَانِ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَتَيْنِ, امْضِ لِمَا نَوَيْت فِي نَفْسِك.
فَهَذَا عُمَرُ, وَكَعْبٌ: جَعَلاَ فِي الْجَرَادَةِ دِرْهَمًا فَهَذَا قَوْلٌ
آخَرُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
أَنَّهُ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ جَرَادَةً: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الطَّحَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
(7/230)
ابْنِ
عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الْجَرَادَةِ
تَمْرَةٌ فَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ:
أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جَرَادَةٍ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ بِأَنْ يَقْصِدَ
بِقَبْضَةٍ مِنْ طَعَامٍ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ
الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فِي الْجَرَادَةِ إذَا صَادَهَا الْمُحْرِمُ: قَبْضَةٌ
مِنْ طَعَامٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ فِي الْجَرَادَةِ:
قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ فَهَذَا قَوْلٌ رَابِعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، نا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ فِي
الْجَرَادَةِ: قَبْضَةٌ أَوْ لُقْمَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ,
وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, قَالُوا كُلُّهُمْ: فِي الْجَرَادَةِ لَيْسَ
فِيهَا فِي الْخَطَأِ شَيْءٌ فَإِنْ قَتَلَهَا عَمْدًا أَطْعَمَ شَيْئًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي
الْجَرَادَةِ قَالَ: يُطْعِمُ كِسْرَةً فَهَذَا قَوْلٌ خَامِسٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ صَيْدًا لَيْسَ لَهُ نِدٌّ مِنْ النَّعَمِ:
إنَّهُ يُهْدِي ثَمَنَهُ إلَى مَكَّةَ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا، عَنْ عِكْرِمَةَ فِيهِ ثَمَنُهُ فَهَذَا قَوْلٌ سَادِسٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ: الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَهَذَا قَوْلٌ
سَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ
الصَّنْعَانِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ
كَعْبِ الأَحْبَارِ أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ أَكْلَ الْجَرَادِ لِلْمُحْرِمِ وَلَمْ
يَجْعَلْ فِيهِ جَزَاءً.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ هُشَيْمٍ أَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ
مَاهَكَ قَالَ: نَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ أَخْذِ الْجَرَادِ فِي الْحَرَمِ
قَالَ: لَوْ عَلِمُوا مَا فِيهِ مَا أَخَذُوهُ, فَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ
كَمَا أَوْرَدْنَا, فَمَا الَّذِي جَعَلَ بَعْضَهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَمَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٌّ لإِنَّ فِي أَحَدِ طَرِيقَيْهِ أَبَا الْمُهَزِّمِ وَهُوَ
هَالِكٌ وَفِي الآُخْرَى مَيْمُونُ بْنُ جَابَانَ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَبِالْعِيَانِ يَرَى النَّاسُ الْجَرَادَ يَبِيضُ فِي الْبَرِّ وَفِي الْبَرِّ
يَفْقِسُ عَنْهُ الْبَيْضُ وَفِي الْبَرِّ يَبْقَى حَتَّى يَمُوتَ, وَأَنَّهُ لَوْ
غُمِسَ فِي مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ مَلْحٍ لَمَاتَ فِي مِقْدَارِ مَا يَمُوتُ فِيهِ
سَائِرُ حَيَوَانِ الْبَرِّ إذَا غُمِسَ فِي الْمَاءِ, وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لاَ يَقُولُ الْكَذِبَ; فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ. وَصَحَّ
أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ
بِلاَ شَكٍّ. وَالأَقْوَالُ الْبَاقِيَةُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَكَعْبٍ
فِي الْجَرَادَةِ
(7/231)
دِرْهَمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْجَرَادَة: تَمْرَةٌ.
وَقَالَ عُمَرُ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ
عُمَرَ, وَابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْجَرَادَةِ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: قَبْضَةٌ أَوْ لُقْمَةٌ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كِسْرَةٌ. وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ: يُطْعِمُ شَيْئًا إنْ
أَصَابَهَا عَمْدًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا لاَ نِدَّ لَهُ
مِنْ النَّعَمِ: ثَمَنُهُ يُهْدِيهِ إلَى مَكَّةَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: ثَمَنُهُ
وَالْجَرَادَةُ مِمَّا لاَ نِدَّ لَهَا مِنْ النَّعَمِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: هِيَ
مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَعَنْ عُمَرَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَنْعُ
مِنْ صَيْدِهَا وَلَمْ يَجْعَلاَ فِيهَا شَيْئًا. فَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ
التَّنَازُعِ هُوَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ
إذْ يَقُولُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وَالْقُرْآنُ يُوجِبُ مَا قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ فِي بَيْضِ الصَّيْدِ كُلَّ مَا رُوِيَ
فِيهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَأَنَّى لَهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَى
غَيْرِهِمْ وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ: مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ,
أَوْ الطَّيْرِ صِغَارُهَا فِي صِغَارِهِ, وَكِبَارُهَا فِي كِبَارِهِ, فَفِي
رَأْلِ النَّعَمِ: فَصِيلٌ مِنْ الإِبِلِ. وَفِي وَلَدِ كُلِّ مَا فِيهِ بَقَرَةٌ
عُجَيْلٌ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّغِيرِ, وَفِيمَا فِيهِ شَاةٌ, حَمَلٌ, أَوْ جَدْيٌ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وقال مالك: فِي صِغَارِهَا مَا فِي كِبَارِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لإِنَّ الْكَبِيرَ
لَيْسَ مِثْلاً لِلصَّغِيرِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي فَرْخَيْ حَمَامَةٍ
وَأُمِّهِمَا بِثَلاَثَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ
وَغَيْرَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَيُفْدَى الْمَعِيبُ بِمَعِيبٍ
مِثْلِهِ, وَالسَّالِمُ بِسَالِمٍ, وَالذَّكَرُ بِالذَّكَرِ وَالآُنْثَى
بِالآُنْثَى لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ}.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ
قَالَ: فِي الظَّبْيَةِ الْوَالِدِ: شَاةٌ وَالِدٌ. وَفِي الْحِمَارَةِ الْوَحْشِ
النَّتُوجِ بَقَرَةٌ نَتُوجٌ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَرَأَيْت لَوْ أَصَبْت
صَيْدًا فِيهِ نَقْصٌ أَوْ عَوَرٌ أَغْرَمُ مِثْلَهُ قَالَ: نَعَمْ, قُلْت:
الْوَفِيُّ أَحَبُّ إلَيْك قَالَ: نَعَمْ وَفِي وَلَدِ الضَّبُعِ وَلَدُ الْكَبْشِ
لإِنَّ الصَّغِيرَ مِنْ الضِّبَاعِ لاَ يُسَمَّى ضَبُعًا إنَّمَا يُسَمَّى
الْفَرْغَلَ. وَالسُّلَحْفَاةُ هِيَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ, لإِنَّ عَيْشَهَا
الدَّائِمَ فِي الْبَرِّ فَفِيهَا الْجَزَاءُ بِصَغِيرٍ مِنْ الْغَنَمِ. وَمَا
كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَاءِ أَبَدًا لاَ يُفَارِقُهُ فَهُوَ مُبَاحٌ
لِلْمُحْرِمِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَا عَاشَ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ فِيهِ: نِصْفُ الْجَزَاءِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ
لِلْمُحْرِمِ صَيْدَ الْبَحْرِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ صَيْدَ الْبَرِّ فَلَيْسَ إلاَّ
حَرَامٌ أَوْ حَلاَلٌ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَلاَلٌ حَرَامٌ مَعًا, وَلاَ
لاَ حَلاَلٌ، وَلاَ حَرَامٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/232)
880
- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْضُ النَّعَامِ وَسَائِرِ الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ
وَفِي الْحَرَمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ,
وَأَصْحَابِهِمَا: لإِنَّ الْبَيْضَ لَيْسَ صَيْدًا, وَلاَ يُسَمَّى صَيْدًا,
وَلاَ يُقْتَلُ, وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ
صَيْدِ الْبَرِّ فَقَطْ; فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ مَيِّتٍ فَلاَ جَزَاءَ لَهُ,
لاَِنَّهُ لَيْسَ صَيْدًا وَلَمْ يَقْتُلْهُ; فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ حَيٍّ
فَمَاتَ فَجَزَاؤُهُ بِجَنِينٍ مِنْ مِثْلِهِ; لاَِنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ. وقال
مالك: فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ: عُشْرُ الْبَدَنَةِ, وَفِي بَيْضَةِ
الْحَمَامَةِ, عُشْرُ الشَّاةِ, قَالَ: لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ, وَلاَ
لِلْحَلاَلِ إذَا شَوَاهُ الْمُحْرِمُ أَوْ كَسَرَهُ. وقال الشافعي: فِيهِ
قِيمَتُهُ فَقَطْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ
لَيْسَ صَيْدًا; وَأَخْطَأَ خَطَأً آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهُ جَزَاؤُهُ
بِثَمَنِهِ وَالْجَزَاءُ بِالثَّمَنِ لاَ يُوجَدُ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَجَمَعَ فِيهِ مِنْ الْخَطَأِ وُجُوهًا: أَوَّلُهَا
أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ قَبْلَهُ وَهُمْ
يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا أَشَدَّ الإِنْكَارِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي
قَوْلِنَا فِي الْجَرَادِ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُوجَدُ فِي
الْقُرْآنِ, وَلاَ فِي السُّنَّةِ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ
الاِشْتِرَاكَ فِي الْهَدْيِ حَيْثُ صَحَّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالسُّنَّةِ
عَلَى جَوَازِهِ, ثُمَّ أَجَازُوهُ هَاهُنَا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ
يُعْرَفُ قَبْلَهُمْ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا تُقَوَّمُ الْبَدَنَةُ, أَوْ الشَّاةُ, ثُمَّ نَأْخُذُ
عُشْرَ تِلْكَ الْقِيمَةِ فَنُطْعِمُ بِهِ قلنا: هَذَا خَطَأٌ رَابِعٌ فَاحِشٌ
لاَِنَّكُمْ تُلْزِمُونَهُ وَتَأْمُرُونَهُ بِمَا تَنْهَوْنَهُ عَنْهُ مِنْ
وَقْتِكُمْ فَتُوجِبُونَ عَلَيْهِ عُشْرَ بَدَنَةٍ, وَعُشْرَ شَاةٍ، وَلاَ يَجُوزُ
لَهُ إهْدَاؤُهُ, إنَّمَا يَلْزَمُهُ طَعَامٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الْعُشْرِ, وَهَذَا
تَخْلِيطٌ نَاهِيكَ بِهِ, وَتَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وَخَامِسُهَا: احْتِجَاجُهُمْ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى جَنِينِ الْحُرَّةِ الَّذِي فِيهِ
عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ. فَقُلْنَا: هَذَا قِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ
وَتَشْبِيهٌ لِلْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ الْمُشَبَّهِ بِالْبَاطِلِ وَمَا جَعَلَ
اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، وَلاَ فِي جَنِينِ الأَمَةِ:
عُشْرَ دِيَةِ أُمِّهِ, وَلاَ عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ; وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْجَنِينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام: غُرَّةً عَبْدًا,
أَوْ أَمَةً فَقَطْ, وَلاَ جَعَلَ فِي الدِّيَةِ قِيمَةً; بَلْ جَعَلَهَا مِائَةً
مِنْ الإِبِلِ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا اخْتِلاَفُ النَّاسِ فِي هَذَا فَإِنَّنَا: رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْضًا وَتَتْمِيرَ وَحْشٍ فَقَالَ لَهُ: أَطْعِمْهُ
أَهْلَكَ فَإِنَّا حُرُمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِثْلُهُ حَرْفًا حَرْفًا.
(7/233)
قال
أبو محمد: الأَوَّلُ مُرْسَلٌ, وَفِي الثَّانِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ
جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ فِيهِمَا نَهْيٌ، عَنْ
أَكْلِهَا وَإِنَّمَا هُوَ تَرْكٌ مِنْهُ عليه السلام وَقَدْ يَتْرُكُ مَا لَيْسَ
حَرَامًا كَمَا تَرَكَ الضَّبَّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ
بْنُ غِيَاثٍ. وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ هُوَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنْ بَيْضِ
نَعَامٍ أَصَابَهَا مُحْرِمٌ فَقَالَ عليه السلام: "فِي كُلِّ بَيْضَةٍ
صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: أَبُو الزِّنَادِ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، فَهُوَ
مُنْقَطِعٌ, وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ, وَقَالَ بِهَذَا بَعْضُ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي
الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي
بَيْضَةِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ: صَوْمُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ
مِسْكِينٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ
ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهِ: صَوْمُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ
قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ صِيَامُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ
مِسْكِينٍ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ أَفْتَى بِذَلِكَ عَلَى مُحْرِمٍ أَشَارَ
لِحَلاَلٍ إلَى بَيْضِ نَعَامٍ فَهَذَا قَوْلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَضَى عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ تُرْسِلُ الْفَحْلَ
عَلَى إبِلِك فَإِذْ تَبَيَّنَ لِقَاحُهَا سَمَّيْت عَدَدَ مَا أَصَبْت مِنْ الْبَيْضِ
فَقُلْت: هَذَا هَدْيٌ ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْك ضَمَانُ مَا فَسَدَ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَعَجِبَ مُعَاوِيَةُ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ
يَعْجَبْ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَجَبٍ مَا هُوَ إلاَّ مَا يُبَاعُ بِهِ الْبَيْضُ فِي
السُّوقِ يُتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ كَانَتْ
لَهُ إبِلٌ فَإِنَّ فِيهِ مَا قَالَ عَلِيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ فَفِي
كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ فَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ; وَثَالِثٌ وَرَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ: قِيمَتُهُ. أَوْ ثَمَنُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ: قِيمَتُهُ,
أَوْ ثَمَنُهُ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ,
وَالزُّهْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا بَيْضُ الْحَمَامِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ وَعَطَاءٍ كِلاَهُمَا قَالَ: إنَّ عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ،
(7/234)
عَنْ
عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ حَمَامِ
مَكَّةَ دِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ; وَقَالَ: فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ
فَدِرْهَمٌ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: بِنِصْفِ دِرْهَمٍ طَعَامٌ
وَيَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ, وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي بَيْضِ
حَمَامِ مَكَّةَ: دِرْهَمٌ وَفِي بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ حَمَامِ الْحِلِّ: مُدٌّ.
قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِيهِ ثَمَنُهُ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ خُصَيْفٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْبَيْضَةِ: دِرْهَمٌ فَهِيَ أَقْوَالٌ كَمَا
تَرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ صَوْمَ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامَ
مِسْكِينٍ فِيهِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ,
وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنَيْهِ أَبِي عُبَيْدَةَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَابْنِ
سِيرِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْهَا لِقَاحَ نَاقَةٍ وَهُوَ
قَوْلُ عَلِيٍّ, وَمُعَاوِيَةَ, وَعَطَاءٍ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ ثَمَنَهَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ,
وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَالشَّعْبِيِّ,
وَالزُّهْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مَنْ لَهُ إبِلٌ فَفِي
كُلِّ بَيْضَةٍ لِقَاحُ نَاقَةٍ وَمَنْ لاَ إبِلَ لَهُ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ
دِرْهَمَانِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَفِي بَيْضِ الْحَمَامِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: فِي الْبَيْضَةِ دِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا:
فِي الْبَيْضَةِ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ, وَثَالِثُهَا: فِيهَا نِصْفُ دِرْهَمٍ, فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ
فَدِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَرَابِعُهَا: فِي بَيْضَةٍ مِنْ حَمَامِ
مَكَّةَ دِرْهَمٌ, وَفِي بَيْضَةٍ مِنْ حَمَامِ الْحِلِّ مُدٌّ وَهُوَ قَوْلُ
قَتَادَةَ. وَخَامِسُهَا: فِيهَا ثَمَنُهَا وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ,
وَالشَّافِعِيِّ. فَخَرَجَ قَوْلاَ: مَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَنْ
يُعْرَفَ لَهُمَا قَائِلٌ مِنْ السَّلَفِ. وَهُمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا إذَا خَالَفَ
تَقْلِيدَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/235)
881 - مَسْأَلَةٌ: وَلَا يُجْزَى الْهَدْيُ فِي ذَلِكَ إلَّا مُوقَفًا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ يُنْحَرُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}.
(7/235)
وأما
الاطعام والصيام فحيث شاء لأن الله لم يحد لهما موضعاً
...
882 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِطْعَامُ وَالصِّيَامُ فَحَيْثُ شَاءَ, لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحُدَّ لَهُمَا مَوْضِعًا.
(7/235)
883 - مَسْأَلَةٌ: وَصَيْدُ كُلِّ مَا سَكَنَ الْمَاءَ مِنْ الْبِرَكِ, أَوْ الأَنْهَارِ, أَوْ الْبَحْرِ, أَوْ الْعُيُونِ أَوْ الآبَارِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ صَيْدُهُ وَأَكْلُهُ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} فَسَمَّى تَعَالَى كُلَّ مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ مِلْحٍ بَحْرًا, وَحَتَّى لَوْ لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الآيَةُ لَكَانَ صَيْدُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَكُلِّ مَا ذَكَرْنَا حَلاَلاً بِلاَ خِلاَفٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. ثُمَّ حُرِّمَ بِالإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ
(7/235)
884
- مَسْأَلَةٌ: وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ فِيمَا
أُصِيبَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, أَوْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُ حَلاَلٌ,
أَوْ مُحْرِمٌ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ} الآيَةَ. فَمَنْ كَانَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, أَوْ فِي حَرَمِ
الْمَدِينَةِ فَاسْمُ "حَرَمٍ" يَقَعُ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ
حَيٍّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى عَمَّنْ أَصَابَ صَيْدًا بِالْمَدِينَةِ
فَقَالَ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيِّ, وَبَعْضِ كِبَارِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَدْ
صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ
الْمَدِينَةِ وَهُمَا حَرَّتَانِ بِهَا مَعْرُوفَتَانِ, وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ
مَعْرُوفٌ كَحَرَمِ مَكَّةَ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ جَزَاءَ فِيهِ وَهُوَ
خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا; وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ اُمْتُحِنَ بِتَقْلِيدِهِمَا
بِخَبَرَيْنِ: فِي أَحَدِهِمَا: أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ كَانَ يَتَصَيَّدُ
بِالْعَقِيقِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ,
وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْحَرَمِ
بِالْمَدِينَةِ وَالنَّهْيِ، عَنْ صَيْدِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ وَحْشٌ فَكَانَ يَلْعَبُ فَإِذَا رَأَى رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَعَ وَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ, لإِنَّ الصَّيْدَ إذَا صِيدَ فِي الْحِلِّ, ثُمَّ
أُدْخِلَ فِي الْحَرَمِ حَلَّ مِلْكُهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(7/236)
885
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ
فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لاَِنَّهُ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ حَرَمٌ, فَإِنْ كَانَ
الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَالْقَاتِلُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَلاَ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الصَّيْدُ، وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ; أَمَّا سُقُوطُ
الْجَزَاءِ فَلاَِنَّهُ لَيْسَ حَرَمًا وَأَمَّا عِصْيَانُهُ وَالْمَنْعُ مِنْ
أَكْلِ الصَّيْدِ فَلاَِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ جَزَاءٌ
إنَّمَا جَاءَ تَحْرِيمُهُ فَقَطْ; وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ
إذَا كَانَ حَرَمًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا
جَرِيرُ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ
افْتَتَحَ مَكَّةَ فَذَكَرَ كَلاَمًا فِيهِ: هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ،
عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ, وَهُوَ حَرَامٌ
بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ
يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ نُمَيْرٍ، نا أَبِي، نا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ.
(7/236)
886 - مَسْأَلَةٌ: وَالْقَارِنُ, وَالْمُعْتَمِرُ, وَالْمُتَمَتِّعُ: سَوَاءٌ فِي الْجَزَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ فِي حِلٍّ أَصَابُوهُ, أَوْ فِي حَرَمٍ إنَّمَا فِي كُلِّ ذَلِكَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَالشَّافِعِيِّ. وقال أبو حنيفة عَلَى الْقَارِنِ جَزَاءَانِ فَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ; ثُمَّ قَالَ: إنْ قَتَلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا فِيهِ الْهَدْيُ, أَوْ الصَّدَقَةُ فَقَطْ, وَلاَ يُجْزِئُهُ صِيَامٌ وَهَذَا تَخْلِيطٌ آخَرُ, وَقَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ أَحَدٌ قَالَ بِهِ قَبْلَهُ; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَهُوَ حَرَمٌ جَزَاءَ مِثْلِ مَا قَتَلَ, لاَ جَزَاءَ مِثْلَيْ مَا قَتَلَ; فَخَالَفَ الْقُرْآنَ فِي كِلاَ الْمَوْضِعَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ سُئِلُوا، عَنِ الصَّيْدِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ فَمَا سَأَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَقَارِنٌ هُوَ, أَمْ مُفْرِدٌ, أَمْ مُعْتَمِرٌ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/237)
887 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ عَامِدِينَ لِذَلِكَ كُلُّهُمْ, فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إلاَّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَلَيْسَ فِي الصَّيْدِ إلاَّ مِثْلُهُ لاَ أَمْثَالُهُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّ مَوَالِيَ لاِبْنِ الزُّبَيْرِ قَتَلُوا ضَبُعًا وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَسَأَلُوا ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: اذْبَحُوا كَبْشًا فَقَالُوا، عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ مِنَّا فَقَالَ: بَلْ كَبْشٌ وَاحِدٌ جَمِيعَكُمْ وَهَذَا فِي أَوَّلِ دَوْلَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَالنَّخَعِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ; وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَرُوِيَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالشَّعْبِيِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا، عَنِ النَّخَعِيِّ, وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
(7/237)
888 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ مَرَّةٍ جَزَاءٌ وَلَيْسَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} بِمُسْقِطٍ لِلْجَزَاءِ عَنْهُ لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ, بَلْ قَدْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلصَّيْدِ عَمْدًا, فَهُوَ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ مَعَ النِّقْمَةِ عَلَى الْعَائِدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/238)
889 - مَسْأَلَةٌ: وَحَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ مَا عَدَا الصَّيْدَ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ الدَّجَاجِ, وَالإِوَزِّ الْمُتَمَلَّكِ, وَالْبُرَكِ الْمُتَمَلَّكِ, وَالْحَمَامِ الْمُتَمَلَّكِ, وَالإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ, وَالْخَيْلِ, وَكُلِّ مَا لَيْسَ صَيْدًا الْحِلُّ وَالْحَرَمُ سَوَاءٌ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُحَرِّمْهُ; وَكَذَلِكَ يَذْبَحُ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا الْحَلاَلُ فِي الْحَرَمِ بِلاَ خِلاَفٍ أَيْضًا مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ.
(7/238)
890 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ, وَلِلْمُحِلِّ فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ قَتْلُ كُلِّ مَا لَيْسَ بِصَيْدٍ مِنْ الْخَنَازِيرِ, وَالآُسْدِ وَالسِّبَاعِ, وَالْقَمْلِ, وَالْبَرَاغِيثِ, وَقِرْدَانِ
(7/238)
891
- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ دُخُولُ الْحَمَّامِ, وَالتَّدَلُّكُ,
وَغَسْلُ رَأْسِهِ بِالطِّينِ, وَالْخِطْمِيِّ, وَالاِكْتِحَالُ, وَالتَّسْوِيكُ,
وَالنَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ, وَشَمُّ الرَّيْحَانِ, وَغَسْلُ ثِيَابِهِ, وَقَصُّ
أَظْفَارِهِ وَشَارِبِهِ, وَنَتْفُ إبْطِهِ, وَالتَّنَوُّرُ, وَلاَ حَرَجَ فِي
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي
مَنْعِهِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَمُدَّعِي
الإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: كَاذِبٌ عَلَى جَمِيعِ الآُمَّةِ, قَائِلٌ
مَا لاَ عِلْمَ بِهِ وَمَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً فَقَدْ أَوْجَبَ
شَرْعًا فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ حَمَّامَ
الْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَصْنَعُ
بِوَسَخِ الْمُحْرِمِ شَيْئًا. وَ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْرِمُ يَدْخُلُ
الْحَمَّامَ, وَيَنْزِعُ ضِرْسَهُ, إنْ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ طَرَحَهُ, أَمِيطُوا
عَنْكُمْ الأَذَى إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِأَذَاكُمْ شَيْئًا. وَأَنَّهُ كَانَ
لاَ يَرَى بِشَمِّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا, وَأَنْ يَقْطَعَ ظُفْرَهُ
إذَا انْكَسَرَ, وَيَقْلَعَ ضِرْسَهُ إذَا آذَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
(7/246)
رَأَى
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْضَ بَنِيهِ أَحْسَبُهُ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ
وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ, وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى
ضِفَّةِ الْبَحْرِ, وَهُمَا يَتَمَاقَلاَنِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ: يُغَيِّبُ هَذَا
رَأْسَ هَذَا وَيُغَيِّبُ هَذَا رَأْسَ هَذَا: فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْت أُطَاوِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
النَّفَسَ وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فِي الْحِيَاضِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ، نا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أُمَاقِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
بِالْجُحْفَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ الْمُمَاقَلَةُ: التَّغْطِيسُ فِي الْمَاءِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ هُوَ، وَابْنُ عُمَرَ بِإِخَاذِ
بِالْجُحْفَةِ يَتَرَامَسَانِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ.
قال أبو محمد: الإِخَاذُ الْغَدِيرُ وَالتَّرَامُسُ التَّغَاطُسُ. وَرَأَى مَالِكٌ
عَلَى مَنْ غَيَّبَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ: الْفِدْيَةَ, وَخَالَفَ كُلَّ مَنْ
ذَكَرْنَا; وَاخْتَلَفَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي
غَسْلِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ فَاحْتَكَمَا إلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ,
وَوَجَّهَا إلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُنَيْنٍ فَوَجَدَهُ يَغْسِلُ رَأْسَهُ
وَهُوَ مُحْرِمٌ, وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَنْقُضَ رَأْسَهَا
وَتَمْتَشِطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الْعُمْرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
لاَ بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
سَالِمٍ، عَنْ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي،
عَنْ غَسْلِ الْمُحْرِمِ ثِيَابَهُ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ إنَّ اللَّهَ لاَ
يَصْنَعُ بِدَرَنِك شَيْئًا وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تُمَشِّطَ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ الْمَرْأَةَ
الْحَرَامَ وَتَقْتُلَ قَمْلَ غَيْرِهَا. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالاَ: لاَ بَأْسَ بِدُخُولِ الْمُحْرِمِ الْحَمَّامَ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قلنا:
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: التَّفَثُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَجِّ,
وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ
الأَظْفَارِ, وَنَتْفُ الإِبْطِ, وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَقَصُّ الشَّارِبِ,
وَالْفِطْرَةُ سُنَّةٌ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهَا, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام
مُحْرِمًا مِنْ غَيْرِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَالْعَجَبُ كُلُّهُ
مِمَّنْ يَجْعَلُ فِيمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ, أَوْ أُبِيحَ لَهُ
وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ: كَفَّارَةً أَوْ غَرَامَةً, ثُمَّ لاَ يَجْعَلُ عَلَى
الْمُحْرِمِ فِي فُسُوقِهِ وَمَعَاصِيهِ, وَارْتِكَابِهِ الْكَبَائِرَ شَيْئًا,
لاَ فِدْيَةً, وَلاَ غَرَامَةً, بَلْ يَرَى حَجَّهُ ذَلِكَ تَامًّا مَبْرُورًا
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْرِمُ فِي الْمِرْآةِ،
وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ,
(7/247)
وَعَطَاءٍ,
وطَاوُوس, وَعِكْرِمَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ وقال مالك: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ; وَالإِبَاحَةُ عَنْهُ أَصَحُّ. وقال أبو حنيفة: إنْ قَلَّمَ
الْمُحْرِمُ أَظْفَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ, أَرْبَعَ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ يَدٍ
مِنْ يَدَيْهِ, وَمِنْ كُلِّ رِجْلٍ مِنْ رِجْلَيْهِ: فَعَلَيْهِ إطْعَامٌ مَا
شَاءَ, فَإِنْ قَلَّمَ أَظْفَارَ كَفٍّ وَاحِدَةٍ فَقَطْ, أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ
فَقَطْ: فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ قَلَّمَ خَمْسَةَ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ
وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ يَدَيْنِ, أَوْ مِنْ
رِجْلَيْنِ, أَوْ مِنْ يَدَيْهِ, وَرِجْلَيْهِ مَعًا: فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ
قَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَظْفَارٍ كَذَلِكَ: فَعَلَيْهِ إطْعَامٌ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: يُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ
ظُفْرٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَقَالَ زُفَرُ, وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إنْ قَلَّمَ
ثَلاَثَةَ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ; أَوْ مِنْ
يَدَيْنِ وَرِجْلٍ, أَوْ مِنْ رِجْلَيْنِ وَيَدٍ: فَعَلَيْهِ دَمٌ فَإِنْ قَلَّمَ
أَقَلَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ أُصْبُعٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَقَالَ
الطَّحَاوِيَّ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَلِّمَ جَمِيعَ أَظْفَارِ يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ: فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وقال مالك: مَنْ قَلَّمَ مِنْ
أَظْفَارِهِ مَا يُمِيطُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ أَذًى فَالْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ
فِي حَلْقِ الرَّأْسِ عَلَيْهِ. وقال الشافعي: مَنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا
فَلْيُطْعِمْ مُدًّا, فَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فَمُدَّيْنِ, فَإِنْ قَلَّمَ
ثَلاَثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الأَقْوَالِ
الشَّنِيعَةِ الَّتِي لاَ حَظَّ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الصَّوَابِ، وَلاَ
نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
آنِفًا: لاَ بَأْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا انْكَسَرَ ظُفْرُهُ أَنْ يَطْرَحَهُ
عَنْهُ وَأَنْ يُمِيطَ، عَنْ نَفْسِهِ الأَذَى. وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ,
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ
جَعَلَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَعَنْ عَطَاءٍ: إنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ لاَِذًى بِهِ
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ قَصَّهَا لِغَيْرِ أَذًى فَعَلَيْهِ دَمٌ وَعَنْهُ,
وَعَنِ الْحَسَنِ: إنْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ الْمُنْكَسِرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ,
فَإِنْ قَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكَسِرَ: فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنِ
الشَّعْبِيِّ: إنْ نَزَعَ الْمُحْرِمُ ضِرْسَهُ: فَعَلَيْهِ دَمٌ.
قال أبو محمد: وَلاَ مُخَالِفَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا يُعْرَفُ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, وَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى فِي إمَاطَةِ الأَذَى الدَّمَ
أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ فِي إيجَابِ إمَاطَةِ الأَذَى بِقَلْعِ
الضِّرْسِ, وَنَعِمَ, وَفِي الْبَوْلِ, وَفِي الْغَائِطِ لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ
إمَاطَةُ أَذًى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ. وَمِنْ
طُرُقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ
ثِيَابَهُ: إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِدَرَنِك شَيْئًا. وبه إلى سُفْيَانَ، عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِغَسْلِ الْمُحْرِمِ
ثِيَابَهُ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.وَبِهِ يَقُولُ
أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
(7/248)
892 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا صَادَهُ الْمُحِلُّ فِي الْحِلِّ فَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ, أَوْ وَهَبَهُ لِمُحْرِمٍ, أَوْ اشْتَرَاهُ مُحْرِمٌ: فَحَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ, وَلِمَنْ فِي الْحَرَمِ مِلْكُهُ, وَذَبْحُهُ, وَأَكْلُهُ وَكَذَلِكَ
(7/248)
مَنْ
أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ, أَوْ فِي مَنْزِلِهِ
قَرِيبًا, أَوْ بَعِيدًا, أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ لَهُ كَمَا كَانَ
أَكْلُهُ, وَذَبْحُهُ وَمِلْكُهُ, وَبَيْعُهُ, وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ
ابْتِدَاءً التَّصَيُّدُ لِلصَّيْدِ وَتَمَلُّكُهُ وَذَبْحُهُ حِينَئِذٍ فَقَطْ,
فَلَوْ ذَبَحَهُ لَكَانَ مَيْتَةً, وَلَوْ انْتَزَعَهُ حَلاَلٌ مِنْ يَدِهِ
لَكَانَ لِلَّذِي انْتَزَعَهُ, وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُحْرِمُ وَإِنْ أَحَلَّ,
إلاَّ بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ تَمَلُّكًا بَعْدَ إحْلاَلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ
الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}. وَقَالَ: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ} . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَاتَانِ الآيَتَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا,
وَالشَّيْءُ الْمُتَصَيَّدُ هُوَ الْمُحَرَّمُ مِلْكُهُ وَذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ
كَيْفَ كَانَ فَحَرَّمُوا عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ
الصَّيْدِ جُمْلَةً وَإِنْ صَادَهُ لِنَفْسِهِ حَلاَلٌ وَإِنْ ذَبَحَهُ
الْحَلاَلُ. وَحَرَّمُوا عَلَيْهِ ذَبْحَ شَيْءٍ مِنْهُ, وَإِنْ كَانَ قَدْ
مَلَكَهُ قَبْلَ إحْرَامِهِ, وَأَوْجَبُوا عَلَى مَنْ أَحْرَمَ وَفِي دَارِهِ
صَيْدٌ أَوْ فِي يَدِهِ, أَوْ مَعَهُ فِي قَفَصٍ أَنْ يُطْلِقَهُ, وَأَسْقَطُوا
عَنْهُ مِلْكَهُ أَلْبَتَّةَ, وَلَمْ يُبِيحُوا لاَِحَدٍ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ أَكْلَ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ, أَوْ تَمَلُّكَهُ, أَوْ
ذَبْحَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ
الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} إنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِعْلَ
الَّذِي هُوَ التَّصَيُّدُ لاَ الشَّيْءَ الْمُتَصَيَّدَ وَهُوَ مَصْدَرُ صَادَ
يَصِيدُ صَيْدًا فَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ صَيْدُهُ لِمَا يَتَصَيَّدُ فَقَطْ.
وَقَالُوا: قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} هُوَ
التَّصَيُّدُ أَيْضًا نَفْسُهُ الْمُحَرَّمُ فِي الآيَةِ الآُخْرَى.
وَاسْتَدَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى مَا قَالَتْهُ بِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قَالُوا: فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ
اللَّهُ تَعَالَى لَنَا بِالإِحْلاَلِ هُوَ بِلاَ شَكٍّ الْمُحَرَّمُ عَلَيْنَا
بِالإِحْرَامِ لاَ غَيْرُهُ. وَقَالُوا: لاَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ
الصَّيْدِ إلاَّ عَلَى مَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْشِيًّا غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ
فَإِذَا تُمُلِّكَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ صَيْدٍ بَعْدُ.
قال أبو محمد: فَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ هُمَا اللَّذَانِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ
مِنْ الآيَةِ غَيْرُهُمَا وَكُلُّ مَا عَدَاهُمَا فَقَوْلٌ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ
لاَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ أَصْلاً فَوَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِي أَيِّ
الْقَوْلَيْنِ يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهِ الْبُرْهَانُ: فَوَجَدْنَا أَهْلَ
الْمَقَالَةِ الآُولَى يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ
بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ, وَقَالَ: "إنَّا حُرُمٌ لاَ
نَأْكُلُ الصَّيْدَ" . وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا بِلَفْظِ أَنَّهُ
أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ
وَقَالَ: "لَوْلاَ أَنَّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ".
رُوِّينَا اللَّفْظَ الأَوَّلَ: مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ
بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ. وَاللَّفْظَ الثَّانِيَ: مِنْ
طَرِيقِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ. وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ،
عَنْ
(7/249)
طَاوُوس،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ وَقَالَ:
إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ. وَهَذَانِ خَبَرَانِ رُوِّينَاهُمَا مِنْ
طُرُقٍ كُلُّهَا صِحَاحٌ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ, وَابْنِ
عُمَرَ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ دَاوُد.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
نَافِعٍ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى ابْنِ عُمَرَ ظَبْيٌ مَذْبُوحَةٌ بِمَكَّةَ فَلَمْ
يَقْبَلْهَا, وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ
لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الآُخْرَى: فَوَجَدْنَاهُمْ
يَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا
سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ: سَمِعْت
أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا قَتَادَةَ
يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا كُنَّا
بِالْقَاحَةِ فَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذْ بَصُرْت
بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ
فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ رُمْحِي ثُمَّ رَكِبْتُ فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي
فَقُلْتُ لاَِصْحَابِي: نَاوِلُونِي سَوْطِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ فَقَالُوا: لاَ
وَاَللَّهِ لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَنَزَلْتُ فَتَنَاوَلْتُهُ; ثُمَّ
رَكِبْتُ فَأَدْرَكْتُ الْحِمَارَ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ
فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحٍ فَعَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
كُلُوهُ, وقال بعضهم: لاَ تَأْكُلُوهُ, وَكَانَ النَّبِيُّ عليه السلام أَمَامَنَا
فَحَرَّكْتُ فَرَسِي فَأَدْرَكْتُهُ فَقَالَ: هُوَ حَلاَلٌ فَكُلُوهُ. أَبُو
مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ ثِقَةٌ اسْمُهُ نَافِعٌ رَوَى عَنْهُ أَبُو
النَّضْرِ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ
الضَّبِّيُّ، نا فُضَيْلٍ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ، نا أَبُو حَازِمٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَبُو قَتَادَةَ مُحِلٌّ
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا رَسُولُ
اللَّهِ عليه السلام فَأَكَلَهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ,
وَنَحْنُ حُرُمٌ فَأُهْدِيَ لَنَا طَيْرٌ وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ, فَمِنَّا مَنْ
تَوَرَّعَ, وَمِنَّا مَنْ أَكَلَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَفَّقَ مَنْ
أَكَلَهُ, وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إبْرَاهِيمِ التَّيْمِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ
عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّوْحَاءِ وَهُمْ حُرُمٌ إذَا حِمَارٌ
مَعْقُورٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم دَعُوهُ فَيُوشِكُ صَاحِبُهُ
أَنْ
(7/250)
يَأْتِيَ
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ هُوَ الَّذِي عَقَرَ الْحِمَارَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ, فَأَمَرَ عليه السلام أَبَا بَكْرٍ
فَقَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ". وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ,
وَطَلْحَةَ كَمَا ذَكَرْنَا, وَأَبِي هُرَيْرَةَ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَنِي قَوْمٌ مُحْرِمُونَ، عَنْ مُحَلِّينَ أَهْدَوْا
لَهُمْ صَيْدًا قَالَ: فَأَمَرْتهمْ بِأَكْلِهِ, ثُمَّ لَقِيت عُمَرَ
فَأَخْبَرْته, فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتهمْ بِغَيْرِ هَذَا لاََوْجَعْتُك.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي
يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ:
أَقْبَلْنَا مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَأَمِيرُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَأَتَى رَجُلٌ بِحِمَارِ وَحْشٍ
قَدْ عَقَرَهُ فَابْتَاعَهُ كَعْبُ بْنُ مُسْلِمٍ فَجَاءَ مُعَاذٌ وَالْقُدُورُ
تَغْلِي بِهِ, فَقَالَ مُعَاذٌ: لاَ يُطِيعُنِي أَحَدٌ إلاَّ أَكْفَأَ قِدْرَهُ
فَأَكْفَأَ الْقَوْمُ قُدُورَهُمْ فَلَمَّا وَافَوْا عُمَرَ قَصَّ عَلَيْهِ كَعْبٌ
قِصَّةَ الْحِمَارِ, قَالَ عُمَرُ: مَا بَأْسُ ذَلِكَ وَمَنْ نَهَى، عَنْ ذَلِكَ
لَعَلَّك أَفْتَيْت بِذَلِكَ يَا مُعَاذُ قَالَ: نَعَمْ فَلاَمَهُ عُمَرُ. وَهُوَ
أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَأَبِي ذَرٍّ, وَمُجَاهِدٍ,
وَاللَّيْثِ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَغَيْرِهِمْ.
قال أبو محمد: فَكَانَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا صِحَاحًا
كُلُّهَا, فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ الأَخْذُ بِجَمِيعِهَا وَاسْتِعْمَالُهَا كَمَا
هِيَ دُونَ أَنْ يُزَادَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ, فَيَقَعُ فَاعِلُ
ذَلِكَ فِي الْكَذِبِ, فَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ فَوَجَدْنَا فِيهَا
إبَاحَةَ أَكْلِ مَا صَادَهُ الْحَلاَلُ لِلْمُحْرِمِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي
الَّتِي قَبْلَهَا فَوَجَدْنَاهَا لَيْسَ فِيهَا نَهْيُ الْمُحْرِمِ، عَنْ أَكْلِ
مَا صَادَهُ الْمُحِلُّ أَصْلاً وَإِنَّمَا فِيهَا قَوْلُهُ عليه السلام:
"إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ, وَلَوْلاَ أَنَّنَا مُحْرِمُونَ
لَقَبِلْنَاهُ" فَإِنَّمَا فِيهِ رَدُّ الصَّيْدِ عَلَى مُهْدِيهِ, لأَنَّهُمْ
حُرُمٌ وَتَرْكُ أَكْلِهِ لأَنَّهُمْ حُرُمٌ; وَهَذَا فِعْلٌ مِنْهُ عليه السلام
وَلَيْسَ أَمْرًا, وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَمْرُهُ وَإِنَّمَا فِي فِعْلِهِ
الاِئْتِسَاءُ بِهِ فَقَطْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام: "أَمَّا
أَنَا فَلاَ آكُلُ مُتَّكِئًا". وَتَرْكِهِ أَكْلَ الضَّبِّ فَلَمْ يُحَرِّمْ
بِذَلِكَ الأَكْلَ مُتَّكِئًا لَكِنْ هُوَ الأَفْضَلُ. وَلَمْ يُحَرَّمْ أَيْضًا
أَكْلُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ يَصِيدُهُ الْمُحِلُّ بِقَوْلِهِ عليه السلام:
"إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ" لَكِنْ كَانَ تَرْكُ أَكْلِهِ
أَفْضَلَ. وَهَكَذَا رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَلاَ حَرَجَ فِي أَكْلِهِ أَصْلاً،
وَلاَ كَرَاهَةَ لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَبَاحَهُ وَأَكَلَهُ أَيْضًا,
فَمَرَّةً أَكَلَهُ, وَمَرَّةً لَمْ يَأْكُلْهُ, وَمَرَّةً قَبِلَهُ, وَمَرَّةً
لَمْ يَقْبَلْهُ فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ مُبَاحٌ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي
الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْضُ
نَعَامٍ وَتَتْمِيرُ وَحْشٍ فَقَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ فَإِنَّا حُرُمٌ لَوْ
صَحَّ فَكَيْفَ، وَلاَ يَصِحُّ فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَقَدْ صَحَّ أَنَّ
قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُمًا} إنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّصَيُّدَ فِي الْبَرِّ فَقَطْ. وَصَحَّ أَنَّ
قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} نَهْيٌ، عَنْ قَتْلِهِ فِي
حَالِ كَوْنِ الْمَرْءِ حَرَمًا, وَالذَّكَاةُ لَيْسَتْ قَتْلاً بِلاَ خِلاَفٍ فِي
الشَّرِيعَةِ, وَالْقَتْلُ
(7/251)
لَيْسَ
ذَكَاةً.فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ، عَنْ تَذْكِيَتِهِ, وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا
فَلَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِنَهْيٍ، عَنْ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ التَّصَيُّدِ
فَهُوَ حَلاَلٌ.
وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام سَكَنَ الْمَدِينَةَ
إلَى أَنْ مَاتَ, وَهِيَ حَرَمٌ كَمَكَّةَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ وَأَصْحَابُهُ
بَعْدَهُ, وَلَمْ يَزَلْ عليه السلام يُهْدَى لَهُ الصَّيْدُ وَلاَِصْحَابِهِ
وَيَدْخُلُ بِهِ الْمَدِينَةَ حَيًّا فَيُبْتَاعُ وَيُذْبَحُ وَيُؤْكَلُ
وَيُتَمَلَّكُ, وَمُذَكًّى فَيُبَاعُ وَيُؤْكَلُ, هَذَا أَمْرٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
إنْكَارِهِ أَحَدٌ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ, وَكَذَلِكَ بِمَكَّةَ وَهِيَ حَرَمٌ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، نا عَبْدُ
الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ
بْنِ حَرْبٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُد بْنَ أَبِي هِنْدٍ يُحَدِّث هِشَامَ
بْنَ عُرْوَةَ أَنَّ عَطَاءً يَكْرَهُ مَا أُدْخِلَ مِنْ الصَّيْدِ مِنْ الْحِلِّ
أَنْ يُذْبَحَ فِي الْحَرَامِ, فَقَالَ هِشَامٌ: وَمَا عِلْمُ عَطَاءٍ, وَمَنْ
يَأْخُذُ، عَنِ ابْنِ رَبَاحٍ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ يَعْنِي
عَمَّهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ يَرَاهَا فِي الأَقْفَاصِ وَأَصْحَابُ
رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام يُقَدِّمُونَ بِهَا الْقَمَارِيَّ وَالْيَعَاقِيبَ
لاَ يَنْهَوْنَ، عَنْ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْحَرَمُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ
الإِحْرَامُ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ النَّصُّ أَصْلاً فَارْتَفَعَ
الإِشْكَالُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
قَالَ: مَنْ أَحْرَمَ وَفِي مَنْزِلِهِ صَيْدٌ أَوْ مَعَهُ فِي قَفَصٍ لَمْ
يَلْزَمْهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ
وَجَدَهُ بَعْدَ إحْلاَلِهِ فِي يَدِ إنْسَانٍ قَدْ أَخَذَهُ كَانَ لَهُ
ارْتِجَاعُهُ وَانْتِزَاعُهُ مِنْ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ, وَهَذَا تَخْلِيطٌ
نَاهِيكَ بِهِ, وَلَئِنْ كَانَ يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَمَا لَهُ
أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ مَلَكَهُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى عَوْدَةِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ
بَعْدَ سُقُوطِهِ إلاَّ بِبُرْهَانٍ, وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ
بِإِحْرَامِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: إنْ صَادَ مُحِلٌّ
صَيْدًا فَأَدْخَلَهُ حَرَمَ مَكَّةَ حَيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ فَإِنْ
بَاعَهُ فُسِخَ بَيْعُهُ, فَإِنْ بَاعَهُ مِمَّنْ يَذْبَحُهُ أَوْ ذَبَحَهُ
فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَتَنَاقُضٌ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخَلَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ
حَيًّا ثُمَّ يُذْبَحَ. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ
قَالَ: رَأَيْت الصَّيْدَ يُبَاعُ بِمَكَّةَ حَيًّا فِي إمَارَةِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ.
قال أبو محمد: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ, وَبَيْنَ
الْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ, لإِنَّ كِلَيْهِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ
حَرَمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا فَالْوَاجِبُ
فِيمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَمَلَّكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ فِي الْحَرَمِ أَنْ
يُؤَدِّيَ لِصَاحِبِهِ صَيْدًا مِثْلَهُ يَبْتَاعُهُ لَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ
يُوجَدْ مِثْلُهُ, وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ، وَلاَ يُؤْكَلُ الَّذِي قُتِلَ لاَِنَّهُ
مَيْتَةٌ, إذْ قَتْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ.
(7/252)
قال
أبو محمد: وَهَا هُنَا قَوْلاَنِ آخَرَانِ, أَحَدُهُمَا: قَوْمٌ قَالُوا: لَحْمُ
الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يَصِدْهُ هُوَ أَوْ يُصَدْ لَهُ,
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ
الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ
فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِلنَّبِيِّ عليه السلام
وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ
يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ.
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ
بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
عليه السلام: "صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلاَلٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلاَّ مَا
اصْطَدْتُمْ وَصِيدَ لَكُمْ". فَرُوِّينَا هَذَا، عَنْ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ
أُتِيَ بِصَيْدٍ وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَلَمْ
يَأْكُلْهُ هُوَ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا عَجَبًا لَك تَأْمُرُنَا
أَنْ نَأْكُلَ مِمَّا لَسْت آكِلاً فَقَالَ عُثْمَانُ: إنِّي أَظُنُّ إنَّمَا
صِيدَ مِنْ أَجْلِي, فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ فَسَاقِطٌ, لاَِنَّهُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّ مَعْمَرًا
رَوَاهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَرَوَاهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُعَاوِيَةُ
بْنُ سَلاَّمٍ, وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ كِلاَهُمَا يَقُولُ فِيهِ: عَنْ
يَحْيَى حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ, وَلاَ يَذْكُرَانِ مَا
ذَكَرَ مَعْمَرٌ, وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَعْمَرٌ سَمَاعَ يَحْيَى لَهُ مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا: شُعْبَةُ، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا:
أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ
فِيهِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ, وَرَوَاهُ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَذَكَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه
السلام أَكَلَ مِنْهُ.
فَلاَ يَخْلُو الْعَمَلُ فِي هَذَا مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ تُغَلَّبَ
رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى رِوَايَةِ مَعْمَرٍ لاَ سِيَّمَا وَفِيهِمْ مَنْ
يَذْكُرُ سَمَاعَ يَحْيَى مِنْ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْمَرًا.
وَتَسْقُطَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ جُمْلَةً لاَِنَّهُ اضْطَرَبَ
عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ بِرِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ, وَأَبِي مُحَمَّدٍ, وَابْنِ
مَوْهَبٍ, الَّذِينَ لَمْ يَضْطَرِبْ عَلَيْهِمْ لاَِنَّهُ لاَ يَشُكُّ ذُو حِسٍّ
أَنَّ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمٌ. إذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ
فِي أَنَّهُ عليه السلام أَكَلَ مِنْهُ, وَتَصِحَّ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ عليه
السلام لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ, وَهِيَ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, فِي مَكَان
وَاحِدٍ فِي صَيْدٍ وَاحِدٍ, وَيُؤْخَذُ بِالزَّائِدِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ
يَجُوزُ تَعَدِّيهِ.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا مَنْ رَوَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهُ قَدْ أَثْبَتَ
خَبَرًا وَزَادَ عِلْمًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ
يَأْكُلْ مِنْهُ, فَوَجَبَ الأَخْذُ بِالزَّائِدِ، وَلاَ بُدَّ وَتَرْكُ رِوَايَةِ
مَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا أَثْبَتَهُ غَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ
(7/253)
أَنَّ
أَبَا النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ بُسْرَ
بْنَ سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُصَادُ لَهُ
الْوَحْشُ عَلَى الْمَنَازِلِ ثُمَّ يُذْبَحُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ
سَنَتَيْنِ مِنْ خِلاَفَتِهِ, ثُمَّ إنَّ الزُّبَيْرَ كَلَّمَهُ, فَقَالَ: مَا
أَدْرِي مَا هَذَا يُصَادُ لَنَا وَمِنْ أَجْلِنَا لَوْ تَرَكْنَاهُ فَتَرَكَهُ.
فَصَحَّ أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْ عُثْمَانَ, وَالزُّبَيْرِ, وَاسْتِحْسَانٌ, لاَ
مَنْعٌ, وَلاَ عَنْ أَثَرٍ عِنْدَهُمَا, وَمِثْلُ هَذَا لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ,
وَلاَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يَصِدْ الْحِمَارَ إلاَّ
لِنَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِهِ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَقَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلاَلُ مَا
لَمْ يُشِرْ لَهُ إلَيْهِ أَوْ يَأْمُرْهُ بِصَيْدِهِ وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَوْهَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ وَبَعْضُهُمْ
لَيْسَ بِمُحْرِمٍ فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ
رُمْحِي فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ
بَعْضِهِمْ وَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَأَصَبْتُهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ
فَأَشْفَقُوا مِنْهُ, فَسُئِلَ، عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَ:
"هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ" قَالُوا: لاَ, قَالَ:
"فَكُلُوهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
مَوْهَبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِهِ إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ:
هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ قَالُوا: لاَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لاَِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَاذَا
كَانَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ قَالَ لَهُ: نَعَمْ إلاَّ
أَنَّ الْيَقِينَ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَقُلْهُ عليه السلام، وَلاَ
حَكَمَ بِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَلاَ تُؤْخَذُ الدِّيَانَةُ
بِالتَّكَهُّنِ, وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ بِإِشَارَتِهِمْ
إلَيْهِ, أَوْ أَمْرِهِمْ إيَّاهُ, أَوْ عَوْنِهِمْ لَهُ حُكْمُ تَحْرِيمٍ
لَبَيَّنَهُ عليه السلام, فَإِذْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ حُكْمَ لِذَلِكَ. وَقَدْ
رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي مُحْرِمٍ كَانَ بِمَكَّةَ فَاشْتَرَى حَجَلَةً
فَأَمَرَ مُحِلًّا بِذَبْحِهَا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/254)
893 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ أَمَرَ مُحْرِمٌ حَلاَلاً بِالتَّصَيُّدِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُطِيعُهُ وَيَأْتَمِرُ لَهُ فَالْمُحْرِمُ هُوَ الْقَاتِلُ لِلصَّيْدِ فَهُوَ حَرَامٌ, وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَأْتَمِرُ لَهُ، وَلاَ يُطِيعُهُ فَلَيْسَ الْمُحْرِمُ هَاهُنَا قَاتِلاً, بَلْ أَمَرَ بِمُبَاحٍ حَلاَلٍ لِلْمَأْمُورِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلاَلٌ وَمُحْرِمٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ كَانَ مَيْتَةً لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ; لاَِنَّهُ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الذَّكَاةُ خَالِصَةً, وَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ كُلُّهُ لاَِنَّهُ قَاتِلٌ، وَلاَ جَزَاءَ عَلَى الْمُحِلِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/254)
894 - مَسْأَلَةٌ: وَمُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَتَهُ وَيُبَاشِرَهَا مَا لَمْ يُولِجْ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ إلاَّ عَنِ الرَّفَثِ, وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ, فَقَطْ، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَنْهَى، عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ
(7/254)
895 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا, أَوْ تَدَاوَى بِطِيبٍ, أَوْ مَسَّهُ طِيبُ الْكَعْبَةِ, أَوْ مَسَّ طِيبًا لِبَيْعٍ, أَوْ شِرَاءٍ, أَوْ لَبِسَ مَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لِبَاسُهُ نَاسِيًا, أَوْ لِضَرُورَةٍ طَالَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ, أَوْ قَصُرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلاَ يَكْدَحُ ذَلِكَ فِي حَجِّهِ, وَعَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ، عَنْ نَفْسِهِ كُلَّ ذَلِكَ سَاعَةَ يَذْكُرُهُ أَوْ سَاعَةَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ, وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ وَيَحْلِقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلَهُ أَنْ يَدْهُنَ بِمَا شَاءَ, فَلَوْ تَعَمَّدَ لِبَاسَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَوْ فِعْلَ مَا حُرِّمَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ: بَطَلَ حَجُّهُ وَإِحْرَامُهُ.
(7/255)
بُرْهَانُ
ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "عُفِيَ لاُِمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ
وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" فَالْمُسْتَكْرَهُ عَلَى كُلِّ مَا ذَكَرْنَا
وَالْمَرْأَةُ الْمُكْرَهَةُ عَلَى الْجِمَاعِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهَا, وَلاَ عَلَى
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, وَحَجُّهُمْ تَامٌّ, وَإِحْرَامُهُمْ تَامٌّ.
وقال أبو حنيفة: مَنْ غَطَّى رَأْسَهُ, أَوْ وَجْهَهُ, أَوْ لَبِسَ مَا نُهِيَ
عَامِدًا, أَوْ نَاسِيًا, أَوْ مُكْرَهًا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ,
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ, فَإِنْ حَلَقَ
قَفَاهُ لِلْحِجَامَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ حَلَقَ بَعْضَ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ
صَدَقَةٌ. وقال مالك: مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَاطَ بِهِ، عَنْ
نَفْسِهِ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الَّتِي عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ, وَلاَ
يَحْتَجِمُ إلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ, فَإِنْ حَلَقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ
فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وقال الشافعي: لاَ شَيْءَ فِي النِّسْيَانِ فِي كُلِّ ذَلِكَ إلاَّ فِي حَلْقِ
الرَّأْسِ فَقَطْ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ قَالَ: وَلاَ يَحْلِقُ مَوْضِعَ
الْمَحَاجِمِ, وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً. قال أبو محمد: أَمَّا
أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرَةُ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ، وَلاَ
نَعْلَمُهَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا
لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ
صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ; لإِنَّ تَفْرِيقَهُ بَيْنَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ
مِنْ يَوْمٍ: دَعْوَى فَاسِدَةٌ. وقال بعضهم: هَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ
لِبَاسِ النَّاسِ.
قَالَ عَلِيٌّ: كَذَبَ فِي ذَلِكَ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحِينَ
تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ}
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ اللِّبَاسَ لاَ يَقِلُّ فِي النَّهَارِ بَلْ قَدْ
يُوضَعُ لِلْقَائِلَةِ, وَأَخْبَرَ أَنَّ اللِّبَاسَ يَقِلُّ إلَى بَعْدِ صَلاَةِ
الْعِشَاءِ وَقَدْ يَكُونُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَالنَّخَعِيِّ, أَنَّ مَنْ تَرَكَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا
فَلْيُرِقْ دَمًا قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ لاَِنَّكُمْ
تَجْعَلُونَ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ صَدَقَةً لاَ دَمًا;، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِمَّنْ
يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ يَرَاهُ حَقًّا, ثُمَّ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ. وَأَمَّا
قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, وَلَوْ كَانَتْ
إمَاطَتُهُ الأَذَى بِغَيْرِ حَلْقِ الرَّأْسِ تُوجِبُ الْفِدْيَةَ لاََوْجَبَ
الْفِدْيَةَ: الْبَوْلُ, وَالْغَائِطُ, وَالأَكْلُ, وَالشُّرْبُ, وَالْغُسْلُ
لِلْحَرِّ وَالتَّرَوُّحِ, وَالتَّدَفُّؤُ لِلْبَرْدِ, وَقَلْعُ الضِّرْسِ
لِلْوَجَعِ, فَكُلُّ هَذَا إمَاطَةُ أَذًى. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ
النَّاسُ عَلَى إسْقَاطِهِ الْفِدْيَةَ فِي أَكْثَرَ
(7/256)
مِنْ
ذَلِكَ قلنا: حَسْبُنَا وَإِيَّاكُمْ إقْرَارُكُمْ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى
إبْطَالِ عِلَّتِكُمْ, وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إمَاطَةِ أَذًى تَجِبُ فِيهِ
فِدْيَةٌ, وَإِلْزَامُ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ شَرْعٌ لاَ يُجَوِّزُ
إلْزَامَهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ عليه
السلام. فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا كَذَبُوا; لأَنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى
أَنْ يُورِدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ عَشَرَةٍ مِنْ صَاحِبٍ, وَتَابِعٍ فِي ذَلِكَ
مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ
احْتَجَّ لَهُ مُقَلِّدُهُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَى
إزَالَتِهِ، عَنْ نَفْسِهِ إلاَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى
إنْبَاتِهِ.فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُوجِبُ
الْفِدْيَةَ وَهَلْ زِدْتُمْ إلاَّ دَعْوَى لاَ بُرْهَانَ لَهَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْكُلُ الْخَبِيصَ
الأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ يَعْنِي الْمُزَعْفَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِأَيِّ كُحْلٍ
شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ شُمَيْسَةَ
الأَزْدِيَّةِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَهَا: اكْتَحِلِي
بِأَيِّ كُحْلٍ شِئْت غَيْرَ الإِثْمِدِ أَمَا إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ
وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ, وَنَحْنُ نَكْرَهُهُ.
وَمِنْ الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ،
عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَمَرَ امْرَأَةً
مُحْرِمَةً اكْتَحَلَتْ بِإِثْمِدٍ أَنْ تُهْرِقَ دَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا مَرْوَانُ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ
الْفَزَارِيّ، نا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ قَالَ: رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَصَابَ
ثَوْبَهُ خَلُوقُ الْكَعْبَةِ فَلَمْ يَغْسِلْهُ وَكَانَ مُحْرِمًا وَعَنْ
عَطَاءٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُهُ سَوَاءٌ سَوَاءٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: إنْ شَمَّ
الْمُحْرِمُ رَيْحَانًا, أَوْ مَسَّ طِيبًا: أَهْرَقَ دَمًا. وَقَدْ رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ عليه السلام احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام
بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَسَطَ رَأْسِهِ.
قال أبو محمد: لَمْ يُخْبِرْ عليه السلام أَنَّ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً، وَلاَ
فِدْيَةً وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا أَغْفَلَ ذَلِكَ, وَكَانَ عليه السلام كَثِيرَ
الشَّعْرِ أَفْرَعَ وَإِنَّمَا نُهِينَا، عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الإِحْرَامِ
وَالْقَفَا لَيْسَ رَأْسًا، وَلاَ هُوَ مِنْ الرَّأْسِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا
رُوِّينَا، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(7/257)
أَنَّهُ
أَمَرَ مُحْرِمًا احْتَجَمَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِصِيَامٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ
نُسُكٍ; فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; فَهَذَا عَلَيْهِمْ;
لأَنَّهُمْ خَالَفُوهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الدَّمَ
وَلَمْ يَشْتَرِطْ إنْ حَلَقَ لَهَا شَعْرًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ
شَيْئًا عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا.
وَرُوِّينَا، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ, وَلاَ
يَحْتَجِمُ الصَّائِمُ, وَلَمْ يَشْتَرِطْ تَرْكَ حَلْقِ الْقَفَا.
وَعَنْ طَاوُوس يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إذَا كَانَ وَجِعًا وَمَا نَعْلَمُ مَنْ
أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ حُكْمًا مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ الْحَسَنَ فَإِنَّهُ قَالَ:
مَنْ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَرَاقَ دَمًا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ:
إنْ حَلَقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
وَأَمَّا الاِدِّهَانُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا
أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ وَ هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ،
عَنْ مُرَّةِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: رَآنَا أَبُو ذَرٍّ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ
فَقَالَ: اُدْهُنُوا أَيْدِيَكُمْ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ
أَنْ يُعَالِجَ الْمُحْرِمُ يَدَيْهِ بِالدَّسَمِ, وَأَنْ يَدْهُنَ بِالسَّمْنِ
رَأْسَهُ لِصُدَاعٍ أَصَابَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَرُوِّينَا،
عَنْ عَطَاءٍ: مَنْ تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ،
وَلاَ بَأْسَ بِالأَدْهَانِ الْفَارِسِيَّةِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: فِي الطِّيبِ
الْفِدْيَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إذَا تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِالسَّمْنِ, أَوْ
الزَّيْتِ, أَوْ الْبَنَفْسَجِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَاةَ: كَانَ الْحَكَمُ, وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ فِي الْمُحْرِمِ يُدَاوِي
قُرُوحًا بِرَأْسِهِ وَجَسَدِهِ: إنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ.
وَأَمَّا اللِّبَاسُ نَاسِيًا: فَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْمُحْرِمِ يُغَطِّي رَأْسَهُ
نَاسِيًا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ تَعَالَى; فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ
فَالْكَفَّارَةُ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِمِثْلِهِ لاَ شَيْءَ
فِي ذَلِكَ عَلَى النَّاسِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
أَنَّهُمَا أَجَازَا لِلْمُحْرِمِ أَكْلَ الطَّعَامِ, وَفِيهِ الزَّعْفَرَانُ
وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ, وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ يَأْثُرُ قَوْلَهُ، عَنْ أَحَدٍ.
وَعَنْ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ: إبَاحَةُ الْخَبِيصِ الْمُزَعْفَرِ لِلْمُحْرِمِ.
وَمِثْلُهُ، عَنِ الْحَسَنِ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ,
وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, فِي
لِبَاسِ الْقَمِيصِ, وَالْقَلَنْسُوَةِ, وَالْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ أَنَّهُ
يُهْرِقُ دَمًا: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُخَالِفَةٌ لاَِقْوَالِ أَبِي
حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ فَسَقَ,
وَالْفُسُوقُ يُبْطِلُ الْحَجَّ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/258)
896 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُدَّ الْمِنْطَقَةَ عَلَى إزَارِهِ إنْ شَاءَ أَوْ عَلَى جِلْدِهِ وَيَحْتَزِمَ بِمَا شَاءَ, وَيَحْمِلَ خُرْجَهُ عَلَى رَأْسِهِ, وَيَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَيْهِ وَرِدَاءَهُ إنْ شَاءَ, وَيَحْمِلَ مَا شَاءَ مِنْ الْحُمُولَةِ عَلَى رَأْسِهِ, وَيَعْصِبَ عَلَى رَأْسِهِ لِصُدَاعٍ, أَوْ لِجَرْحٍ, وَيَجْبُرَ كَسْرَ ذِرَاعِهِ, أَوْ سَاقِهِ, وَيَعْصِبَ عَلَى جِرَاحِهِ, وَخُرَّاجِهِ, وَقَرْحِهِ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَيُحْرِمُ فِي أَيِّ لَوْنٍ شَاءَ حَاشَا
(7/258)
مَا
صُبِغَ بِوَرْسٍ, أَوْ زَعْفَرَانٍ لاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُ، عَنْ شَيْءٍ مِمَّا
ذَكَرْنَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} إلاَّ أَنَّنَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ
أَبِي حَسَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مُحْرِمًا
مُحْتَزِمًا بِحَبْلٍ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْحَبْلِ أَلْقِهِ. وبه إلى ابْنِ
أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لاَ
تَعْقِدْ عَلَيْكَ شَيْئًا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْهِمْيَانَ
لِلْمُحْرِمِ فأما الأَثَرُ فَمُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الأَسْلَمِيِّ عَمَّنْ سَمِعَ صَالِحًا مَوْلَى
التَّوْأَمَةِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ
عليه السلام فِي الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ.
قال أبو محمد: كِلاَهُمَا وَتَمْرَةٌ وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ
وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلاَفُ هَذَا. وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ,
وطَاوُوس قَالاَ جَمِيعًا: رَأَيْنَا ابْنَ عُمَرَ قَدْ شَدَّ حَقْوَيْهِ
بِعِمَامَةٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ:، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُرَخِّصُ فِي الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ
الْمُحْرِمُ عَلَى حَقْوَيْهِ, وَفِي الْمِنْطَقَةِ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ: لاَ بَأْسَ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ جَاءَ
حَاجًّا فَرَمَلَ حَتَّى رَأَيْت مِنْطَقَتَهُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَلَى بَطْنِهِ.
قال أبو محمد: لاَ شَكَّ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى
إحْرَازِ نَفَقَتِهِ, وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا وَرَأَى
مَالِكٌ عَلَى مَنْ عَصَبَ رَأْسَهُ فِدْيَةً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ
يَعْصِبُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِسَيْرٍ، وَلاَ بِخِرْقَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ شَدَّ
شَعْرَهُ بِسَيْرٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَكِلاَهُمَا لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ شَيْئًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قُلْت لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءَ:
يَنْحَلُّ إزَارِي يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَ: اعْقِدْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
الْعَلاَءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ
يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَوَشَّحَ الْمُحْرِمُ بِثَوْبِهِ وَيَعْقِدَهُ عَلَى
قَفَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ
ثَوْبَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَبَاحَ لِبَاسَ الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ: مُحَمَّدُ
بْنُ كَعْبٍ, وَعَطَاءٌ, وطَاوُوس، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَإِبْرَاهِيمُ,
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَمُجَاهِدٌ, وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَكَرِهَهُ
آخَرُونَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ يَنْكَسِرُ
(7/259)
ظُفْرُهُ:
أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ مُرَارَةً وَلَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، نا مَنْصُورٌ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ قَالاَ جَمِيعًا: يَجْبُرُ الْمُحْرِمُ عَظْمَهُ إذَا
انْكَسَرَ, قَالاَ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: إذَا انْكَسَرَتْ يَدُ الْمُحْرِمِ, أَوْ شُجَّ عَصَبَ عَلَى
الشَّجِّ وَالْكَسْرِ وَعَقَدَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لاَ بَأْسَ أَنْ
يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ: قَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْقَرْحَةِ. وَقَالَ ابْنُ
الْمُسَيِّبِ عَلَى الْجَرْحِ. وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ,
وَأَبُو سُلَيْمَانَ لِلْمُحْرِمِ: الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ, وَأَنْ يَحْمِلَ
الْخُرْجَ عَلَى رَأْسِهِ, وَنَحْوَ ذَلِكَ, وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ بَأْسًا.
وَأَبَاحَ مَالِكٌ لِبَاسَ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ إذَا كَانَتْ فِيهَا
نَفَقَتُهُ, وَمَنَعَهُ لِبَاسَهَا إذَا كَانَتْ فِيهَا نَفَقَةُ غَيْرِهِ.
وَجَعَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ الْفِدْيَةَ. وَمَنَعَ مَالِكٌ
مِنْ شَدِّ الْمِنْطَقَةِ عَلَى الْعَضُدِ لِلْمُحْرِمِ, وَأَبَاحَ شَدَّهَا عَلَى
جِلْدِهِ, وَمَنَعَ مِنْ شَدِّهَا فَوْقَ الإِزَارِ. وَجَعَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ
صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً فَأَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى
صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا, وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَا قَبْلَهُمَا.
وَمَنَعَ مَالِكٌ الْمُحْرِمَ مِنْ حَمْلِ خُرْجٍ لِغَيْرِهِ عَلَى رَأْسِهِ,
وَرَأَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً, وَأَبَاحَ لَهُ حَمْلَهُ عَلَى رَأْسِهِ
إذَا كَانَ لَهُ وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ لاَ نَعْلَمُهُ أَيْضًا، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ إبَاحَةُ حَمْلِ الْمُحْرِمِ الْمِكْتَلَ
عَلَى رَأْسِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: رَأَى عُمَرُ
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ:
مَا هَذَا فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَا أَخَالُ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا
السُّنَّةَ فَسَكَتَ عُمَرُ. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ لَبِسَ ثَوْبًا مُوَرَّدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ
عُمَرَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ لِبَاسَ ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ لِلْمُحْرِمِ
قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ تُنْكِرُوهُ، وَلاَ
رَأَيْتُمْ فِيهِ شَيْئًا وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ فَأَبَاحُوا
الْمُصَبَّغَاتِ وَلَمْ يَقِيسُوهَا عَلَى الْوَرْسِ وَالْمُعَصْفَرِ, كَمَا
قَاسُوا كُلَّ مَنْ أَمَاطَ بِهِ أَذًى عَلَى حَالِقٍ رَأْسَهُ, وَكَمَا قَاسُوا
جَارِحَ الصَّيْدِ عَلَى قَاتِلِهِ; وَكَمَا أَوْجَبُوهَا عَلَى مَنْ لَبِسَ
قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً.
(7/260)
897
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ
بِمَكَّةَ, وَالْمَدِينَةِ، وَلاَ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا, وَلاَ مِنْ حَشِيشِهِ
حَاشَا الإِذْخِرَ فَإِنَّ جَمْعَهُ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ
يَرْعَى إبِلَهُ أَوْ بَعِيرَهُ أَوْ مَوَاشِيَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنْ وَجَدَ
غُصْنًا قَدْ قَطَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ وَقَعَ فَفَارَقَ جِذْمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ
حِينَئِذٍ. فَإِنْ احْتَطَبَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً فَإِنَّ سَلْبَهُ
حَلاَلٌ لِمَنْ وَجَدَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، نا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ
(7/260)
اللَّهُ
تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةٍ
اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ
فِيهِ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ, فَهُوَ
حَرَامٌ بِحُرْمَةٍ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهُ،
وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ, وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا،
وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إلاَّ
الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ فَقَالَ: إلاَّ الإِذْخِرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا لَيْثُ، هُوَ ابْنُ
سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ
الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: "إنَّ
مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلاَ يَحِلَّ لاِمْرِئٍ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ
يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ عليه
السلام فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ
لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ
حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ, وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ
الْغَائِبَ".
قال أبو محمد: هَذَا مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ
عليه السلام وَلَمْ يَنْهَ، عَنْ إرْعَاءِ الْمَوَاشِي: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا}.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِكَرَاهِيَةِ الرَّعْيِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَهَذَا
تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَبَاحَ مَالِكٌ أَخْذَ السَّنَى وَسَائِرِ
حَشِيشِ الْحَرَمِ وَهَذَا أَيْضًا خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام,
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّنَى وَبَيْنَ سَائِرِ حَشِيشِ الْحَرَمِ. وقال أبو
حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَسُفْيَانُ: بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى قَاطِعِ شَجَرِ
الْحَرَمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْغُصْنِ فَمَا فَوْقَهُ إلَى الدَّوْحَةِ:
قِيمَةُ ذَلِكَ, فَإِنْ بَلَغَ هَدْيًا أَهْدَاهُ, فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَدْيًا
فَقِيمَتُهُ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ,
أَوْ صَاعُ تَمْرٍ, أَوْ شَعِيرِ, وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ صِيَامٌ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَتَصَدَّقُ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ،
وَلاَ صِيَامٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الدَّوْحَةِ بَدَنَةٌ. وَعَنْ
عَطَاءٍ فِيهَا بَقَرَةٌ, وَفِي الْوَتَدِ مُدٌّ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فِي الدَّوْحَة: بَقَرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ فِي الدَّوْحَةِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ, أَوْ خَمْسَةٌ, أَوْ سَبْعَةٌ
يَتَصَدَّقُ بِهَا بِمَكَّةَ وَمَا نَعْلَمُ لاَِبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فِي
قَوْلِهِمَا سَلَفًا.
وقال مالك, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ لاَِنَّهُ
لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
وَلاَ يَجُوزُ شَرْعُ هَدْيٍ, وَلاَ إيجَابُ صِيَامٍ, وَلاَ إلْزَامُ غَرَامَةِ
إطْعَامٍ, وَلاَ صَدَقَةٍ, إلاَّ بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ; وَهَذَا مِمَّا
تَرَكَتْ فِيهِ الطَّوَائِفُ الْمَذْكُورَةُ الْقِيَاسَ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيَّ قَاسَا إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ عَلَى إيجَابِ
الْجَزَاءِ فِي صَيْدِهِ وَلَمْ يَقِيسَا إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ
عَلَى إيجَابِهِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَكِلاَهُمَا حَرَمٌ مُحَرَّمٌ صَيْدُهُ.
وَقَاسَ مَالِكٌ إيجَابَ الْفِدْيَةِ عَلَى اللاَّبِسِ
(7/261)
وَالْمُتَطَيِّبِ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى حَالِقِ رَأْسِهِ, وَلَمْ يَقِسْ إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي شَجَرِ حَرَمِ مَكَّةَ, وَفِي صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى وُجُوبِهِ فِي صَيْدِ حَرَمِ مَكَّةَ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَنَاقُضٌ لاَ وَجْهَ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/262)
898
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُسْفَكَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ دَمٌ بِقِصَاصٍ
أَصْلاً, وَلاَ أَنْ يُقَامَ فِيهَا حَدٌّ, وَلاَ يُسْجَنَ فِيهَا أَحَدٌ, فَمَنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أُخْرِجَ، عَنِ الْحَرَمِ وَأُقِيمَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام أَنْ يُسْفَكَ
بِهَا دَمٌ, وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آمِنًا} وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَمَّا
إخْرَاجُ الْعَاصِي مِنْهُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فَتَطْهِيرُهُ مِنْ
الْعُصَاةِ وَاجِبٌ, وَلَيْسَ هَذَا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ, لاَِنَّهُ لَمْ
يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ يُسَمَّى ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمُتَمَلَّكِ، وَلاَ
الْحِجَامَةُ, وَلاَ فَتْحُ الْعِرْقِ: سَفْكَ دَمٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ
وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا قَالَ: سَمِعْت طَاوُوسًا يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ
عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا, ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ
وَلَمْ يُبَايَعْ وَذَكَرَ كَلاَمًا وَفِيهِ: فَإِذَا خَرَجَ أُقِيمَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ
أَبُو الزُّبَيْرِ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ عُمَرَ مَا
نَدَهْتُهُ يَعْنِي حَرَمَ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ وَجَدْت قَاتِلَ
أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا عَرَضْت لَهُ.
قال أبو محمد: فَلَمْ يَخُصُّوا مَنْ أَصَابَ حَدًّا فِي الْحَرَمِ مِمَّنْ
أَصَابَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ; ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَفَرَّقَ عَطَاءٌ,
وَمُجَاهِدٌ بَيْنَهُمَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
خَرَّجَ قَوْمًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَصَلَبَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ قَتَلَ, ثُمَّ لَجَأَ
إلَى الْحَرَمِ قَالَ: يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقْتَلُ. وقال أبو حنيفة: تُقَامُ
الْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ إلاَّ الْقَتْلَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَامُ فِيهِ
حَدُّ قَتْلٍ، وَلاَ قَوَدٍ حَتَّى يَخْرُجَ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: يُخْرَجُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَتْلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ فَاسِدٌ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَبَاحَ
الْقَتْلَ فِي الْحَرَمِ حَجَّةً أَصْلاً, وَلاَ سَلَفًا, إلاَّ الْحُصَيْنَ بْنَ
نُمَيْرٍ, وَمَنْ بَعَثَهُ, وَالْحَجَّاجَ, وَمَنْ بَعَثَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ تُعُدِّيَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ فَلْيَدْفَعْ، عَنْ
نَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/262)
899
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُخْرَجُ شَيْءٌ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ، وَلاَ حِجَارَتِهِ
إلَى الْحِلِّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ
عَطَاءٍ قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ
(7/262)
900
- مَسْأَلَةٌ: وَمِلْكُ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا جَائِزٌ. وَقَدْ
رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ
يَحِلُّ بَيْعُ دُورِهَا، وَلاَ إجَارَتُهَا. وَمَنَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ مِنْ كِرَائِهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ الْمَنْعَ مِنْ التَّبْوِيبِ
عَلَى دُورِهَا; وَرُوِّينَا فِي ذَلِكَ خَبَرَيْنِ مُرْسَلَيْنِ لاَ يَصِحَّانِ
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ مَلَكَ الصَّحَابَةُ بِهَا دُورَهُمْ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّه
عليه السلام فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ, وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ رَبْعًا فَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ رَسُولُهُ عليه السلام فَكُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِيهَا.
(7/263)
901
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَنْ احْتَطَبَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَحَلاَلٌ
سَلْبُهُ كُلَّ مَا مَعَهُ فِي حَالِهِ تِلْكَ وَتَجْرِيدُهُ إلاَّ مَا يَسْتُرُ
عَوْرَتَهُ فَقَطْ; فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، نا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ، عَنْ عَمِّهِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إنَّ سَعْدًا أَبَاهُ رَكِبَ
إلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطَهُ
فَسَلَبَهُ فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَسَأَلُوهُ أَنْ
يَرُدَّ عَلَى غُلاَمِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلاَمِهِمْ فَقَالَ:
مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام
وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ
لِمَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: إنِّي اسْتَعْمَلْتُك عَلَى مَا هَاهُنَا
فَمَنْ رَأَيْتَهُ يَخْبِطُ شَجَرًا أَوْ يَعْضِدُهُ: فَخُذْ حَبْلَهُ وَفَأْسَهُ
قُلْت: آخُذُ رِدَاءَهُ قَالَ: لاَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا.
قال أبو محمد: وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ يُعْرَفُ وَلَيْسَ هَذَا
فِي الْحَشِيشِ لإِنَّ الأَثَرَ إنَّمَا جَاءَ فِي الاِحْتِطَابِ وَسِتْرُ
الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِكُلِّ حَالٍ.
(7/263)
902 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى عَرَفَةَ أَوْ إلَى مِنًى أَوْ إلَى مَكَان ذَكَره مِنْ الْحَرَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى لاَ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى حَيْثُ نَذَرَ لِلصَّلاَةِ هُنَالِكَ, أَوْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَطْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ, وَلاَ أَنْ يَعْتَمِرَ إلاَّ أَنْ يَنْذِرُ ذَلِكَ وَإِلاَّ فَلاَ. فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى حَيْثُ نَذَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَرْكَبْ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; فَإِنْ رَكِبَ الطَّرِيقَ كُلَّهُ لِغَيْرِ مَشَقَّةٍ فِي طَرِيقٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلاَ يُعَوِّضُ مِنْهُ صِيَامًا، وَلاَ إطْعَامًا.
(7/263)
903 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا, أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا فَكَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلاَّ مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ مَنَاسِكَ عَمَلِهِ; لإِنَّ هَذَا هُوَ الْحَجُّ, فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ فَكَمَا قَالَ عَطَاءٌ: مِنْ حَيْثُ نَوَى, فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلْيَمْشِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَشْيٍ وَلْيَرْكَبْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ قَدْ أَوْفَى بِمَا نَذَرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/266)
904
- مَسْأَلَةٌ: وَدُخُولُ مَكَّةَ بِلاَ إحْرَامٍ جَائِزٌ; لإِنَّ النَّبِيَّ عليه
السلام إنَّمَا جَعَلَ الْمَوَاقِيتَ لِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ يُرِيدُ حَجًّا, أَوْ
عُمْرَةً, وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِمَنْ لَمْ يُرِدْ حَجًّا، وَلاَ عُمْرَةً, فَلَمْ
يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ, وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام بِأَنْ لاَ
يَدْخُلَ مَكَّةَ إلاَّ بِإِحْرَامٍ فَهُوَ إلْزَامُ مَا لَمْ يَأْتِ فِي
الشَّرْعِ إلْزَامُهُ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ مُحْرِمًا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ فَدَخَلَ مَكَّةَ
غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ: لاَ بَأْسَ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ
إحْرَامٍ. وقال أبو حنيفة: أَمَّا مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ
الْمِيقَاتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَلاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ بِإِحْرَامٍ بِعُمْرَةٍ
(7/266)
905
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ, أَوْ يَعْتَمِرَ, وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ،
وَلاَ اعْتَمَرَ قَطُّ فَلْيَبْدَأْ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ وَعُمْرَتِهِ, وَلاَ
يُجْزِيهِ إلاَّ ذَلِكَ, وَلاَ يُجْزِيه أَنْ يَحُجَّ نَاوِيًا لِلْفَرْضِ
وَلِنَذْرِهِ, وَلاَ لِحَجَّةِ فَرْضٍ وَعُمْرَةِ نَذْرٍ, وَلاَ لِحَجَّةِ نَذْرٍ
وَعُمْرَةِ فَرْضٍ; لإِنَّ عَقْدَ اللَّهِ ثَابِتٌ عَلَيْهِ قَبْلَ نَذْرِهِ,
فَإِنْ أَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَاصٍ وَالْمَعْصِيَةُ لاَ
تَنُوبُ، عَنِ الطَّاعَةِ، وَلاَ يُجْزِي عَمَلٌ وَاحِدٌ، عَنْ عَمَلَيْنِ
مُفْتَرَضَيْنِ إلاَّ حَيْثُ أَجَازَهُ النَّصُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ
سَاقَ الْهَدْيَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرِنَ فَالْعُمْرَةُ الْمُوجَبَةُ
عَلَيْهِ لَسَوْقِ الْهَدْيِ هِيَ غَيْرُ الَّتِي نَذَرَ; فَلاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ
مَا أُمِرَ بِهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ عَمَلٌ، عَنْ عَمَلَيْنِ إلاَّ حَيْثُ
أَجَازَهُ النَّصُّ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ
صَلاَةٌ، عَنْ صَلاَتَيْنِ, وَوَافَقُونَا نَعْنِي الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا
عَلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ صَوْمُ يَوْمٍ، عَنْ يَوْمَيْنِ, وَلاَ رَقَبَةٌ، عَنْ
رَقَبَتَيْنِ، وَلاَ زَكَاةٌ، عَنْ زَكَاتَيْنِ, فَتَنَاقَضُوا, وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ
يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ بَعْدُ فَقَالَ: هَذِهِ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ وَفِي
بِنَذْرِك وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: يَبْدَأُ بِالْفَرِيضَةِ فِيمَنْ نَذَرَ وَلَمْ
يَكُنْ حَجَّ بَعْدُ وَفِي هَذَا خِلاَفٌ رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ
الإِسْلاَمِ
(7/267)
قَالاَ
جَمِيعًا: تُجْزِئُهُ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ, وَأَبُو يُوسُفَ: مَنْ حَجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ فَنَوَى
بِعَمَلِهِ فَرْضَهُ, وَالتَّطَوُّعَ مَعًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، عَنْ حَجَّةِ
الإِسْلاَمِ, وَتَبْطُلُ نِيَّةُ التَّطَوُّعِ. فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ
فَحَجَّ يَنْوِي نَذْرَهُ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُهُ،
عَنْ نَذْرِهِ فَقَطْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ تَطَوُّعٌ، وَلاَ تُجْزِي، عَنِ
النَّذْرِ.
قال أبو محمد: الْعَمَلُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ
لِمَا لَزِمَهُ كَمَا أُمِرَ.
(7/268)
906
- مَسْأَلَةٌ: مَنْ أَهْدَى هَدْيَ تَطَوُّعٍ فَعَطِبَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ
بُلُوغِهِ مَكَّةَ, أَوْ مِنًى فَلْيَنْحَرْهُ, وَلْيُلْقِ قَلاَئِدَهُ فِي دَمِهِ
وَلِيُخْلِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ; وَإِنْ قَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ ضَمِنَ
مِثْلَ مَا قَسَّمَ. فَلَوْ قَالَ: شَأْنُكُمْ بِهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا فَلاَ
بَأْسَ;، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ، وَلاَ رُفَقَاؤُهُ مِنْهُ
شَيْئًا, فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُمْ مِنْهُ أَدَّى إلَى الْمَسَاكِينِ لَحْمًا مِثْلَ
مَا أَكَلَ فَقَطْ الْغَنَمُ, وَالْبَقَرُ, وَالإِبِلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ.
فَإِنْ بَلَغَ مَحَلَّهُ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ,
وَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ وَهَكَذَا رُوِّينَا، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ
السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَمَعْمَرٍ,
كُلِيهِمَا، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ يَعْطَبُ: لِيَنْحَرْهُ, ثُمَّ
لِيَغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ لِيَضْرِبْ بِالنَّعْلِ صَفْحَتَهُ فَإِنْ
أَكَلَ مِنْهُ, أَوْ أَمَرَ بِأَكْلِهِ غُرِّمَ. فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَعَطِبَ
فَلْيَنْحَرْهُ, ثُمَّ لِيَغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ لِيَضْرِبْ
بِالنَّعْلِ صَفْحَتَهُ فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ, وَإِنْ شَاءَ أَهْدَى; وَإِنْ شَاءَ
تَقَوَّى بِهِ فِي ثَمَنِ أُخْرَى وَعَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ هَذَا كُلِّهِ وَعَنِ
ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي التَّطَوُّعِ مِثْلُهُ.
وَرُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنِي
حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ
الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِي
الْهَدْيِ يَعْطَبُ فِي الطَّرِيقِ: كُلُوهُ، وَلاَ تَدَعُوهُ لِلْكِلاَبِ,
وَالسِّبَاعِ, فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَأَهْدُوا مَكَانَهُ هَدْيًا, وَإِنْ كَانَ
تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتُمْ فَلاَ تُهْدُوا وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَهْدُوا. وَمِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَطِبَتْ لَهُ بَدَنَةُ تَطَوُّعٍ فَنَحَرَهَا ابْنُ عُمَرَ
وَأَكَلَهَا وَلَمْ يُهْدِ مَكَانَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: إذَا أَهْدَيْت هَدْيًا وَهُوَ تَطَوُّعٌ فَعَطِبَ فَانْحَرْهُ, ثُمَّ
اغْمِسْ النَّعْلَ فِي دَمِهِ, ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهُ, ثُمَّ كُلْهُ إنْ
شِئْت, وَاهْدِهِ إنْ شِئْت وَتَقَوَّ بِهِ فِي هَدْيٍ آخَرَ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ: كُلْ
وَأَطْعِمْ وَلَيْسَ عَلَيْك الْبَدَلُ وَهُوَ قَوْلُ نَافِعٍ أَيْضًا. وَعَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إذَا عَطِبَ الْهَدْيُ قَبْلَ مَحِلِّهِ فَكُلْ مِنْ
التَّطَوُّعِ, وَلاَ تَأْكُلْ مِنْ الْوَاجِبِ. وَرُوِّينَا قَوْلاً آخَرَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: يَدْعُهَا تَمُوتُ.
فَرَجَعْنَا إلَى السُّنَّةِ فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، نا مُسَدَّدٌ، نا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ
(7/268)
مُوسَى
بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مَعَ فُلاَنٍ الأَسْلَمِيِّ ثَمَانِ عَشْرَةَ بَدَنَةً فَقَالَ: أَرَأَيْتَ
إنْ أُزْحِفَ عَلَيَّ مِنْهَا شَيْءٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام:
"تَنْحَرُهَا ثُمَّ تَصْبِغُ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا
عَلَى صَفْحَتِهَا، وَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
رُفْقَتِكَ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا
سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
نَاجِيَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام بَعَثَ مَعَهُ
بِهَدْيٍ فَقَالَ: "إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَانْحَرْهُ, ثُمَّ اُصْبُغْ
نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ" فَهَذَا
عُمُومٌ لِكُلِّ هَدْيٍ.
قال أبو محمد: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَهَذَا
خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام; لاَِنَّهُ إذَا تَوَلَّى
تَوْزِيعَهَا: فَلَمْ يُخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا. وقال مالك: إنْ أَكَلَ
مِنْهَا شَيْئًا ضَمِنَ الْهَدْيَ كُلَّهُ. وَهَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَمِنْ الْبَاطِلِ
الْمُحَالِ أَنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً فَيَغْرَمُ عَنْهَا نَاقَةً مِنْ أَصْلِهَا,
وَهَذَا عُدْوَانٌ لاَ شَكَّ فِيهِ. وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو
سُلَيْمَانَ: لاَ يَغْرَمُ إلاَّ مِثْلَ مَا أَكَلَ. وَهَذَا مِمَّا يَتَنَاقَضُ
فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, فَأَخَذَا فِيهِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَتَرَكَا رَأْيَهُ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ مَا رُوِيَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/269)
907 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ، عَنْ وَاجِبٍ وَهِيَ سِتَّةُ أَهْدَاءٍ فَقَطْ لاَ سَابِعَ لَهَا إمَّا جَزَاءُ صَيْدٍ, وَأَمَّا هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ, وَأَمَّا هَدْيُ الإِحْصَارِ, وَأَمَّا نُسُكُ فِدْيَةِ الأَذَى, وَأَمَّا هَدْيُ مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى الْكَعْبَةِ فَرَكِبَ, وَأَمَّا نَذْرُ هَدْيٍ. وَهَذَا الْهَدْيُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ, وَقِسْمٌ مَنْذُورٌ بِعَيْنِهِ فَإِنْ عَطِبَ الْوَاجِبُ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ فَعَلَ بِهِ صَاحِبُهُ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَيُهْدِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ حَاشَا الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَنْحَرُهُ وَيَتْرُكُهُ، وَلاَ يُبَدِّلُهُ; لاَِنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا هَدْيٌ وَاجِبٌ فِي مَالِهِ وَذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَبَدًا وَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَمَّا عَلَيْهِ فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ عَطِبَ أَوْ لَمْ يَعْطَبْ. وَأَمَّا الْمَنْذُورُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَارِجٌ، عَنْ مَالِهِ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَدِّلَهُ إلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ فَيُهْلِكَهُ فَيَضْمَنَهُ بِالْوَجْهِ الَّذِي نَذَرَهُ لَهُ; لاَِنَّهُ اعْتَدَى عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ تَحَكُّمِ الْمَرْءِ فِي هَدْيِهِ مَا لَمْ يُبْلِغْهُ مَحِلَّهُ فَمُبْطِلٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّعُ يَعْطَبُ قَبْلَ مَحِلِّهِ بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَا. وَالتَّطَوُّعُ ثَلاَثَةُ أَهْدَاءٍ لاَ رَابِعَ لَهَا: مَنْ سَاقَ هَدْيًا فِي قِرَانٍ
(7/269)
أَوْ فِي عُمْرَةٍ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ, أَوْ أَهْدَى وَهُوَ لاَ يُرِيدُ حَجًّا، وَلاَ عُمْرَةً.
(7/270)
908
- مَسْأَلَةٌ: وَيَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَلاَ
بُدَّ كَمَا قلنا، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الأَهْدَاءِ
الْوَاجِبَةِ إذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَإِنْ أَكَلَ ضَمِنَ مِثْلَ مَا أَكَلَ
فَقَطْ, وَلاَ يُعْطَى فِي جِزَارَةِ الْهَدْيِ شَيْءٌ مِنْهُ أَصْلاً
وَيَتَصَدَّقُ بِجِلاَلِهِ وَجُلُودِهِ، وَلاَ بُدَّ. أَمَّا التَّطَوُّعُ فَلِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا
وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ,
وَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ
إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
جَابِرٌ ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ
ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً, ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ
وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ, ثُمَّ أَمَرَ فِي كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ
فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ
مَرَقِهَا فَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ عليه السلام بِأَخْذِ الْبِضْعَةِ وَطَبْخِهَا
وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الأَكْلِ مِنْ بَعْضِ الْهَدْيِ دُونَ بَعْضٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا
عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، نا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، نا
الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ
بْنِ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا
لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا فِي الْمَسَاكِينِ، وَلاَ يُعْطِي فِي
جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا.
قال أبو محمد: مَنْ جَعَلَ بَعْضَ أَوَامِرِهِ عليه السلام فِي كُلِّ مَا
ذَكَرْنَا فَرْضًا وَبَعْضَهَا نَدْبًا فَقَدْ تَحَكَّمَ فِي دِينِ اللَّهِ
تَعَالَى بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لاَ يَحِلُّ مِنْ الْقَوْلِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَقَالَ: كُلْ أَنْتَ وَأَصْحَابَك ثُلُثًا
وَتَصَدَّقْ بِثُلُثٍ وَابْعَثْ إلَى آلِ عُتْبَةَ ثُلُثًا. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
(7/270)
الضَّحَايَا
وَالْهَدَايَا: ثُلُثٌ لاَِهْلِك, وَثُلُثٌ لَك, وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ. وَعَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ أَنْ
يُدْفَعَ لَهُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ بِضْعَةٌ وَيُتَصَدَّقَ بِسَائِرِهَا.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ مِنْ جَزَاءِ
صَيْدٍ وَنَذْرٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: لاَ يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلاَ مِنْ النَّذْرِ،
وَلاَ مِمَّا جُعِلَ لِلْمَسَاكِينِ.
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ
كُلِّهِ إلاَّ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ يُؤْكَلُ مِنْ
الْهَدْيِ خَمْسَةٌ: النَّذْرُ, وَالْمُتْعَةُ, وَالتَّطَوُّعُ, وَالْوَصِيَّةُ,
وَالْمُحْصَرُ, إلاَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا. وقال أبو حنيفة: لاَ يُؤْكَلُ مِنْ
شَيْءٍ مِنْ الْهَدْيِ إلاَّ الْمُتْعَةُ, وَالْقِرَانُ, وَالتَّطَوُّعُ إذَا
بَلَغَ مَحِلَّهُ وقال مالك: يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْهَدْيِ إلاَّ
التَّطَوُّعَ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ, وَجَزَاءَ الصَّيْدِ, وَفِدْيَةَ
الأَذَى, وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ.
قال أبو محمد: هَذِهِ آرَاءٌ مُجَرَّدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يُؤْكَلَ مِنْ كُلِّ هَدْيٍ إلاَّ مَا جُعِلَ
لِلْمَسَاكِينِ. فَقُلْنَا: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ
لِلْمَسَاكِينِ, وَأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالإِحْصَارِ لَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ
وقال بعضهم: قِسْنَا هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى هَدْيِ الْقِرَانِ. فَقُلْنَا:
أَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ هَدْيًا يَلْزَمُهُ بَعْدَ قِرَانِهِ
وَقَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِي هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ هَدْيٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضًا فَقَدْ أَلْزَمَ
صَاحِبَهُ إخْرَاجَهُ مِنْ مَالِهِ وَقَطْعَهُ مِنْهُ; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَلاَ
يَحِلُّ لَهُ مَا قَدْ سَقَطَ مِلْكُهُ عَنْهُ إلاَّ بِنَصٍّ; لَكِنْ يَأْكُلُ
مِنْهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ إنْ شَاءُوا; لأَنَّهُمْ غَيْرُهُ إلاَّ مَا سُمِّيَ
لِلْمَسَاكِينِ فَلاَ يَأْكُلُوا مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُونُوا مَسَاكِينَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/271)
909
- مَسْأَلَةٌ: وَالآُضْحِيَّةُ لِلْحَاجِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا هِيَ لِغَيْرِ
الْحَاجِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: لاَ يُضَحِّي الْحَاجُّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا عَمْرُو النَّاقِدُ، نا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نَرَى إلاَّ الْحَجَّ فَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ,
وَفِيهِ فَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام، عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُسَدَّدٌ، نا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام دَخَلَ عَلَيْهَا
وَقَدْ حَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا
حَاضَتْ, فَقَالَ لَهَا عليه السلام: "فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ
أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ" قَالَتْ: فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ
بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا فَقَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ
عليه السلام، عَنْ
(7/271)
نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْهَدْيُ مَا قُلِّدَ وَأُشْعِرَ وَوُقِفَ بِهِ بِعَرَفَةَ وَإِلاَّ فَإِنَّمَا هِيَ ضَحَايَا. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ الْحَسَنَ أَبَاهُ تَمَتَّعَ فَذَبَحَ شَاتَيْنِ شَاةً لِمُتْعَتِهِ وَشَاةً لاُِضْحِيَّتِهِ. وَقَدْ حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام عَلَى الآُضْحِيَّةَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الْحَاجُّ مِنْ الْفَضْلِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّه تَعَالَى بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ.
(7/272)
910
- مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ وَافَقَ الإِمَامُ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ: جَهَرَ,
وَهِيَ صَلاَةُ جُمُعَةٍ, وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَيْضًا بِمِنًى وَبِمَكَّةَ;
لإِنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ بِالنَّهْيِ، عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا
نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ} فَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ
عَرَفَةَ وَمِنًى مِنْ عَرَفَةَ وَمِنًى.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ، نا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، نا بِشْرُ بْنُ
مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: إذَا
وَافَقَ يَوْمُ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ: جَهَرَ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي
يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ
قَالَ: وَافَقَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحَجَّةَ النَّبِيِّ
عليه السلام فَقَالَ: "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ
بِمِنًى فَلْيَفْعَلْ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى وَلَمْ يَخْطُبْ" قَالَ
عَبْدُ الْعَزِيزُ: وَفَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِثْلَ ذَلِكَ. وبه إلى
إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ وَبَرَةَ
قَالَ: وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَصَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ
الظُّهْرَ وَلَمْ يَجْهَرْ بِالْقِرَاءَةِ: فَهَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ فِيهِ كُلُّ
بَلِيَّةٍ. إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ مَتْرُوكٌ مِنْ
الْكُلِّ, ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ, وَفِيهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ ابْنِ أَبِي
يَحْيَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ; ثُمَّ الْكَذِبُ فِيهِ
ظَاهِرٌ; لإِنَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام إنَّمَا
كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ
سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْفٍ، نا أَبُو الْعَمِيسِ، نا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ
طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ "أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه
السلام وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ".
فإن قيل: إنَّ الآثَارَ كُلَّهَا إنَّمَا فِيهَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ عليه
السلام بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قلنا: نَعَمْ, وَصَلاَةُ
الْجُمُعَةِ هِيَ صَلاَةُ الظُّهْرِ نَفْسُهَا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ
أَنَّهُ عليه
(7/272)
السلام لَمْ يَجْهَرْ فِيهَا, وَالْجَهْرُ أَيْضًا لَيْسَ فَرْضًا وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي أَنَّ ظُهْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لِلْجَمَاعَةِ رَكْعَتَانِ.
(7/273)
911
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، عَنْ أَوَّلِ
أَوْقَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ لَهُمَا; فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَصَى وَعَلَيْهِ
أَنْ يَعْتَمِرَ وَيَحُجَّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وقال
الشافعي: هُوَ فِي سَعَةٍ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَارِعُوا إلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ هَذَا
مُتَوَجَّهٌ إلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ; فَلاَ يَخْلُو الْمُسْتَطِيعُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ أَوْ لاَ يَكُونُ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ;
فَإِنْ كَانَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي عَامِهِ وَهُوَ
قَوْلُنَا, وَهُوَ إنْ لَمْ يَحُجَّ مُعَطِّلُ فَرْضٍ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ
مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ فَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ. وَأَيْضًا فَإِنْ
كَانَ مَفْسُوحًا لَهُ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهُ الْمَلاَمَةُ
بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْمَلاَمَةُ لاَ تَلْحَقُ أَحَدًا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَصَحَّ
أَنَّهُ مَلُومٌ فِي حَيَاتِهِ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام
أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ إلاَّ فِي آخِرِهَا قلنا: لاَ
بَيَانَ عِنْدَكُمْ مَتَى افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ, وَمُمْكِنٌ أَنْ
لاَ يَكُونَ اُفْتُرِضَ إلاَّ عَامَ حَجَّ عليه السلام, وَمَا لاَ نَصَّ بَيِّنًا
فِيهِ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ, إلاَّ أَنَّنَا مُوقِنُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لاَ يَدَعُ الأَفْضَلَ إلاَّ لِعُذْرٍ مَانِعٍ, وَلاَ
يَخْتَلِفُونَ مَعَنَا فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ. فَإِنْ ذَكَرُوا
تَأْخِيرَ الصَّلاَةِ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا. قلنا: هَذَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ
فَأَوْجِدُونَا نَصًّا بَيِّنًا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُكُمْ
حِينَئِذٍ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/273)
912 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنَّمَا تُرَاعَى الاِسْتِطَاعَةُ بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي حَدَثَتْ لَهُ فِيهِ الاِسْتِطَاعَةُ فَيُدْرِكُ الْحَجَّ فِي وَقْتِهِ وَالْعُمْرَةَ, فَإِنْ اسْتَطَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ الْعَامِ كُلِّهِ وَبَطَلَتْ اسْتِطَاعَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا، وَلاَ لَزِمَهُ الْحَجُّ; لاَِنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ إلاَّ فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَيَكُونُ قَارِنًا, أَوْ مُتَمَتِّعًا.
(7/273)
913 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ اسْتَطَاعَ كَمَا ذَكَرْنَا, ثُمَّ بَطَلَتْ اسْتِطَاعَتُهُ أَوْ لَمْ تَبْطُلْ فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ أَدَاؤُهُمَا عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ دُيُونِ النَّاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ يَحُجُّ عَنْهُ إلاَّ بِأُجْرَةٍ اُسْتُؤْجِرَ عَنْهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام: "دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ" مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ مِنْ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ لاَ يَلْزَمُ غَيْرُ هَذَا, إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ, فَتَكُونُ الإِجَارَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَجِّ
(7/273)
914
- مَسْأَلَةٌ: وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ وَالْمَعْلُومَاتُ وَاحِدَةٌ, وَهِيَ
يَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةٌ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} وَالتَّعْجِيلُ
الْمَذْكُورُ وَالتَّأْخِيرُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بِلاَ خَوْفٍ مِنْ أَحَدٍ
فِي أَيَّامِ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ بِلاَ خِلاَفٍ هُوَ
يَوْمُ النَّحْرُ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} فَهَذِهِ بِلاَ شَكٍّ أَيَّامُ النَّحْرِ
الَّتِي تُنْحَرُ فِيهَا بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ, وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ
وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، نا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ
وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ: أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَقَوْله
تَعَالَى: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} قَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ بَعْدَهُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَهَذَا قَوْلُنَا. وَقَدْ رُوِيَ
غَيْرُ هَذَا, وَقَبْلُ وَبَعْدُ, فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ فِي كُلِّ
يَوْمٍ فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ إلاَّ بِنَصٍّ, وَأَمَّا بِالدَّعْوَى
وَقَوْلِ قَائِلٍ قَدْ خُولِفَ فَلاَ. صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ أَنَّ الأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ, آخِرُهَا
يَوْمُ النَّحْرِ, وَأَنَّ الْمَعْدُودَاتِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ
النَّحْرِ. رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ
هُشَيْمٍ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ,
وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ
بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ
الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ زِرٍّ,
وَنَافِعٍ, قَالَ زِرٌّ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَقَالَ نَافِعٌ: عَنِ
ابْنِ عُمَرَ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيٌّ, وَابْنُ عُمَرَ, قَالاَ جَمِيعًا:
الأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ, اذْبَحْ فِي
أَيُّهَا شِئْت, وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُثَنَّى، نا حَمَّادٌ بْن عِيسَى الْجُهَنِيُّ، نا جَعْفَرُ
(7/275)
ابْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، نا ابْنُ عَجْلاَنَ،
نا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الأَيَّامُ
الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ, وَالْمَعْدُودَاتُ:
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ النَّحْرِ, فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ
إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ.وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً إلاَّ تَعَلَّقَهُ بِابْنِ عُمَرَ,
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلاَفَ هَذَا, وَخَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ,
وَعَلِيٌّ, فَلَيْسَ التَّعَلُّقُ بِبَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ. وَاحْتَجَّ
الآخَرُونَ بِأَنْ قَالُوا: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ اسْمَيْهِمَا
قلنا: نَعَمْ وَجَمَعَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي أَنَّهُ أَمَرَ بِذَكَرِهِ، عَزَّ
وَجَلَّ، فَقَطْ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ يَوْمٌ
دُونَ يَوْمٍ, وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِالنَّحْرِ لِلَّهِ تَعَالَى
يَوْمٌ دُونَ يَوْمٍ; لاَِنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِرٍّ إلاَّ بِنَصٍّ, وَلاَ نَصَّ
فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/276)
915
- مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْحَجَّ بِالصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جِدًّا
أَوْ كَبِيرًا وَلَهُ حَجٌّ وَأَجْرٌ, وَهُوَ تَطَوُّعٌ, وَلِلَّذِي يَحُجُّ بِهِ
أَجْرٌ, وَيَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ
وَاقَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يَحِلُّ لَهُ, وَيُطَافُ بِهِ, وَيُرْمَى عَنْهُ
الْجِمَارُ إنْ لَمْ يُطِقْ ذَلِكَ. وَيُجْزِي الطَّائِفَ بِهِ طَوَافُهُ ذَلِكَ،
عَنْ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُدَرَّبُوا وَيُعَلَّمُوا الشَّرَائِعَ
مِنْ الصَّلاَةِ, وَالصَّوْمِ إذَا أَطَاقُوا ذَلِكَ وَيُجَنَّبُوا الْحَرَامَ
كُلَّهُ, وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ بِأَنْ يَأْجُرَهُمْ, وَلاَ يَكْتُبُ
عَلَيْهِمْ إثْمًا حَتَّى يَبْلُغُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا
سُفْيَانُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ: "نَعَمْ وَلَكِ
أَجْرٌ".
قال أبو محمد: وَالْحَجُّ عَمَلٌ حَسَنٌ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا لاَ
نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} . فإن قيل: لاَ نِيَّةَ لِلصَّبِيِّ قلنا:
نَعَمْ, وَلاَ تَلْزَمُهُ إنَّمَا تَلْزَمُ النِّيَّةُ الْمُخَاطَبَ الْمَأْمُورَ
الْمُكَلَّفَ, وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مُخَاطَبًا، وَلاَ مُكَلَّفًا، وَلاَ
مَأْمُورًا وَإِنَّمَا أَجْرُهُ تَفَضُّلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدٌ
عَلَيْهِ كَمَا يَتَفَضَّلُ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلاَ نِيَّةَ
لَهُ، وَلاَ عَمَلَ بِأَنْ يَأْجُرَهُ بِدُعَاءِ ابْنِهِ لَهُ بَعْدَهُ وَبِمَا يَعْمَلُهُ
غَيْرُهُ عَنْهُ مِنْ حَجٍّ, أَوْ صِيَامٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, وَلاَ فَرْقَ,
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَإِذَا الصَّبِيُّ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ
فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي صَيْدٍ إنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي
إحْرَامِهِ, وَلاَ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لاَِذًى بِهِ, وَلاَ عَنْ تَمَتُّعِهِ,
وَلاَ لاِِحْصَارِهِ; لاَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلَوْ
لَزِمَهُ هَدْيٌ لَلَزِمَهُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْهُ الصِّيَامَ وَهُوَ فِي
الْمُتْعَةِ, وَحَلْقِ الرَّأْسِ, وَجَزَاءِ الصَّيْدِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ
هَذَا،
(7/276)
وَلاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ بِشَيْءِ مِمَّا ذَكَرْنَا, إنَّمَا هُوَ مَا عَمِلَ, أَوْ عُمِلَ بِهِ أُجِرَ, وَمَا لَمْ يَعْمَلْ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ الصِّبْيَانُ يَحْضُرُونَ الصَّلاَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام, صَحَّتْ بِذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ: كَصَلاَتِهِ بِأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَحُضُورِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَهُ الصَّلاَةَ, وَسَمَاعِهِ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَيُجْزِي الطَّائِفَ بِهِ طَوَافُهُ، عَنْ نَفْسِهِ; لاَِنَّهُ طَائِفٌ وَحَامِلٌ, فَهُمَا عَمَلاَنِ مُتَغَايِرَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ, كَمَا هُوَ طَائِفٌ وَرَاكِبٌ, وَلاَ فَرْقَ.
(7/277)
916 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا وَيَشْرَعَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, فَإِنْ فَاتَتْهُ عَرَفَةُ, أَوْ مُزْدَلِفَةُ, فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ. أَمَّا تَجْدِيدُهُ الإِحْرَامَ فَلاَِنَّهُ قَدْ صَارَ مَأْمُورًا بِالْحَجِّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ; لإِنَّ إحْرَامَهُ الأَوَّلَ كَانَ تَطَوُّعَا وَالْفَرْضُ أَوْلَى مِنْ التَّطَوُّعِ.
(7/277)
917
- مَسْأَلَةٌ: مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ, ثُمَّ ارْتَدَّ, ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ فَأَسْلَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يُعِيدَ الْحَجَّ، وَلاَ الْعُمْرَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحَدُ
قَوْلَيْ اللَّيْثِ.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: يُعِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ,
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً
غَيْرَهَا, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ
فِيهَا: لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك الَّذِي عَمِلْت قَبْلَ أَنْ
تُشْرِكَ, وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجُوزُ, وَإِنَّمَا
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بَعْدَ الشِّرْكِ إذَا مَاتَ أَيْضًا
عَلَى شِرْكِهِ لاَ إذَا أَسْلَمَ وَهَذَا حَقٌّ بِلاَ شَكٍّ. وَلَوْ حَجَّ
مُشْرِكٌ أَوْ اعْتَمَرَ, أَوْ صَلَّى, أَوْ صَامَ, أَوْ زَكَّى, لَمْ يُجْزِهِ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَنِ الْوَاجِبِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى فِيهَا:
{وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} بَيَانُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَجَعَ إلَى
الإِسْلاَمِ لَمْ يَحْبَطْ مَا عَمِلَ قَبْلُ فِي إسْلاَمِهِ أَصْلاً بَلْ هُوَ
مَكْتُوبٌ لَهُ وَمُجَازًى عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ لاَ هُمْ، وَلاَ نَحْنُ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا
رَاجَعَ الإِسْلاَمَ لَيْسَ مِنْ الْخَاسِرِينَ, بَلْ مِنْ الْمُرْبِحِينَ
الْمُفْلِحِينَ الْفَائِزِينَ. فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يَحْبَطُ عَمَلُهُ هُوَ
الْمَيِّتُ عَلَى كُفْرِهِ مُرْتَدًّا أَوْ غَيْرَ مُرْتَدٍّ, وَهَذَا هُوَ مِنْ
الْخَاسِرِينَ بِلاَ شَكٍّ, لاَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِهِ أَوْ رَاجَعَ
الإِسْلاَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ،
عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}
فَصَحَّ نَصُّ قَوْلِنَا: مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحْبَطُ عَمَلُهُ إنْ ارْتَدَّ إلاَّ
بِأَنْ يَمُوتَ وَهُوَ كَافِرٌ. وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَنِّي
لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} . وَقَالَ
تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}. وَهَذَا عُمُومٌ
لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ. فَصَحَّ أَنَّ حَجَّهُ وَعُمْرَتَهُ إذَا رَاجَعَ
الإِسْلاَمَ سَيَرَاهُمَا، وَلاَ يَضِيعَانِ لَهُ.
(7/277)
918
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَةٌ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, وَلاَ لُقَطَةُ مَنْ
أَحْرَمَ بِحَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ جَمِيعَ عَمَلِ
حَجِّهِ. إلاَّ لِمَنْ يَنْشُدُهَا أَبَدًا لاَ يُحَدُّ تَعْرِيفُهَا بِعَامٍ،
وَلاَ بِأَكْثَرَ، وَلاَ بِأَقَلَّ, فَإِنْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا
قَطْعًا مُتَيَقِّنًا حَلَّتْ حِينَئِذٍ لِوَاجِدِهَا, بِخِلاَفِ سَائِرِ
اللُّقَطَاتِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعَامِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٌ، نا الأَوْزَاعِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَبَسَ، عَنْ
مَكَّةَ الْفِيلَ, وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ, وَإِنَّهَا
لَمْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ,
وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ بَعْدِي, فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ
يُخْتَلَى شَوْكُهَا, وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ" وَذَكَرَ
بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
قال أبو محمد: لَيْسَتْ هَذِهِ إلاَّ صِفَةَ الْحَرَمِ لاَ الْحِلِّ. وَمِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرٌ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ عليه السلام قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ
اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
(7/278)
وَهُوَ
حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلاَمًا
وَفِيهِ فَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا" وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ, فَأَحَلَّهَا عليه السلام لِلْمُنْشِدِ وَأَوْجَبَ تَعْرِيفَهَا
بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ. وَقَالَ عليه السلام: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". وَاللُّقَطَةُ هِيَ غَيْرُ مَالِ الْمُلْتَقِطِ فَهِيَ
عَلَيْهِ حَرَامٌ. وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا هُوَ لِيُوجَدَ مَنْ يَعْرِفُهَا أَوْ
صَاحِبُهَا فَهَذَا الْحُكْمُ لاَزِمٌ, فَإِذَا يَئِسَ بِيَقِينٍ، عَنْ مَعْرِفَةِ
صَاحِبِهَا سَقَطَ التَّعْرِيفُ, إذْ مِنْ الْبَاطِلِ تَعْرِيفُ مَا يُوقَنُ
أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ, وَإِذَا سَقَطَ التَّعْرِيفُ حَلَّتْ حِينَئِذٍ بِالنَّصِّ
لِمُنْشِدِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نا ابْنُ
وَهْبٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام
نَهَى، عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ.
قال أبو محمد: الْحَاجُّ هُوَ مَنْ هُوَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, وَأَمَّا قَبْلَ
أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ فَهُوَ مُرِيدٌ لِلْحَجِّ وَلَيْسَ حَاجًّا بَعْدُ,
وَأَمَّا بَعْدَ إتْمَامِهِ عَمَلَ الْحَجِّ فَقَدْ حَجّ وَلَيْسَ حَاجًّا الآنَ,
وَإِنَّمَا سُمِّيَ حَاجًّا مَجَازًا, كَمَا أَنَّ الصَّائِمَ, أَوْ الْمُصَلِّيَ,
أَوْ الْمُجَاهِدَ, إنَّمَا هُوَ صَائِمٌ, وَمُصَلٍّ, وَمُجَاهِدٍ, مَا دَامَ فِي عَمَلِ
ذَلِكَ, وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ. وَنَهْيُهُ عليه السلام، عَنْ لُقَطَةٍ لاَ
يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا, إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهَى
عليه السلام، عَنْ أَخْذِهَا, أَوْ نَهَى، عَنْ تَمَلُّكِهَا, فأما أَخْذُهَا
فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَنَهَى عليه
السلام، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ, وَتَرْكُهَا إضَاعَةٌ لَهَا بِلاَ شَكٍّ,
وَحِفْظُهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا
نَهَى عليه السلام، عَنْ تَمَلُّكِهَا
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَنْهَ، عَنْ حِفْظِهَا، وَلاَ عَنْ
تَعْرِيفِهَا, وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا بِعَيْنِهَا, هَذَا نَصُّ الْحَدِيثِ.
فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى، عَنْ تَمَلُّكِهَا فَإِذَا يَئِسَ، عَنْ
مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا بِيَقِينٍ فَكُلُّ مَالٍ لاَ يُعْرَفُ صَاحِبُهُ فَهُوَ
لِلَّهِ تَعَالَى, ثُمَّ فِي مَصَالِحِ عِبَادِهِ, وَالْمُلْتَقِطُ أَحَدُهُمْ
وَهِيَ فِي يَدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا, وَلاَ يَتَعَدَّى بِهِ إلَى غَيْرِهِ
إلاَّ بِبُرْهَانٍ, وَحُكْمُ الْمُعْتَمِرِ كَحُكْمِ الْحَاجِّ لِقَوْلِهِ عليه السلام:
"دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/279)
919 - مَسْأَلَةٌ: وَمَكَّةُ أَفْضَلُ بِلاَدِ اللَّهِ تَعَالَى, نَعْنِي الْحَرَمَ وَحْدَهُ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ عَرَفَاتٍ فَقَطْ. وَبَعْدَهَا مَدِينَةُ النَّبِيِّ عليه السلام نَعْنِي حَرَمَهَا وَحْدَهُ. ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ, نَعْنِي الْمَسْجِدَ وَحْدَهُ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وقال مالك: الْمَدِينَةُ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ, وَاحْتَجَّ
(7/279)
مُقَلِّدُوهُ
بِأَخْبَارٍ ثَابِتَةٍ. مِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّ إبْرَاهِيمَ
حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا, وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ
إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ, وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا
دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لاَِهْلِ مَكَّةَ".
قال أبو محمد: هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى
فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام
حَرَّمَهَا كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا كَمَا دَعَا
إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ فَقَطْ, وَهَذَا حَقٌّ, وَقَدْ دَعَا عليه السلام
لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا دَعَا لاَِبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَلاَِصْحَابِهِ
رضي الله عنهم فَهَلْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِنَا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى
مُسَاوَاتِنَا فِي الْفَضْلِ هَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ. وَقَدْ حَرَّمَ
عليه السلام: الدِّمَاءَ, وَالأَعْرَاضَ, وَالأَمْوَالَ, وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى فَضْلٍ; وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَنَّهُ عليه السلام
كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي تَمْرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي
مَدِينَتِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا, اللَّهُمَّ إنَّ
إبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ,
وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ
مَعَهُ. وَبِخَبَرٍ صَحِيحٍ فِيهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ
مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ فِي فَضْلِ
الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمَدِينَةِ
بِالْبَرَكَةِ, وَنَعَمْ, هِيَ وَاَللَّهِ مُبَارَكَةٌ, وَإِنَّمَا دَعَا إبْرَاهِيمُ
لِمَكَّةَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ
النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} . وَلاَ شَكَّ فِي
أَنَّ الثِّمَارَ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِمَّا بِمَكَّةَ، وَلاَ شَكَّ فِي
أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَدْعُ لِلْمَدِينَةِ بِأَنْ تَهْوِي
أَفْئِدَةُ النَّاسِ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ هَوِيِّهَا إلَى مَكَّةَ; لإِنَّ
الْحَجَّ إلَى مَكَّةَ لاَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَصَحَّ أَنَّ دُعَاءَهُ عليه
السلام لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ
مَعَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الرِّزْقِ مِنْ الثَّمَرَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ
الْفَضْلِ فِي شَيْءٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عليه السلام: "الْمَدِينَةُ
كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا, وَإِنَّمَا تَنْفِي النَّاسَ
كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ" ، وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ فِي
فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ; لإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي وَقْتٍ دُونَ
وَقْتٍ, وَفِي قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ, وَفِي خَاصٍّ لاَ فِي عَامٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ, وَمَنْ أَجَازَ
عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام الْكَذِبَ فَهُوَ كَافِرٌ; وَقَالَ اللَّه تَعَالَى:
{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ
مِنْ النَّارِ}. فَصَحَّ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَخْبَثُ الْخَلْقِ بِلاَ خِلاَفٍ
مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ, وَكَذَلِكَ قَدْ
خَرَجَ: عَلِيٌّ, وَطَلْحَةُ, وَالزُّبَيْرُ, وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
الْجَرَّاحِ, وَمُعَاذٌ, وَابْنُ مَسْعُودٍ, عَنِ الْمَدِينَةِ, وَهُمْ مِنْ
أَطْيَبِ الْخَلْقِ رضي الله عنهم بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ مُسْلِمٍ حَاشَا
الْخَوَارِجَ فِي بُغْضِهِمْ. فَصَحَّ يَقِينًا
(7/280)
لاَ
يَمْتَرِي فِيهِ إلاَّ مُسْتَخِفٌّ بِالنَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ عليه السلام
لَمْ يَعْنِ بِالْمَدِينَةِ تَنْفِي الْخُبْثَ إلاَّ فِي خَاصٍّ مِنْ النَّاسِ,
وَفِي خَاصٍّ مِنْ الزَّمَانِ لاَ عَامٍّ.
وَقَدْ جَاءَ كَلاَمُنَا هَذَا نَصًّا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزُ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنِ
الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثٍ: "أَلاَ إنَّ
الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ يُخْرِجُ الْخَبَثَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ"
. وَمِنْ طَرِيق أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ
ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ
إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "لَيْسَ بَلَدٌ إلاَّ سَيَطَؤُهُ
الدَّجَّالُ, إلاَّ الْمَدِينَةَ, وَمَكَّةَ, عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِ
الْمَدِينَةِ الْمَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا فَيَنْزِلُ بِالسَّبْخَةِ
فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ إلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ
مُنَافِقٍ وَكَافِرٍ" وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ
أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ لاَ بِنَصٍّ, وَلاَ بِدَلِيلٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ
عليه السلام: "مَا مِنْ بَلَدٍ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلاَّ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةَ إنَّمَا هُوَ سَيَطَؤُهُ أَمْرُهُ وَبُعُوثُهُ لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ
هَذَا" , وَسَكَّانُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ أَخْبَثُ الْخُبْثِ, وَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مُصِيبَتِنَا فِي ذَلِكَ; فَبَطَلَ
تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ
يَبُسُّونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ, وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ" وَذَكَرَ مِثْلُ هَذَا حَرْفًا حَرْفًا فِي فَتْحِ
الشَّامَ, وَفَتْحِ الْعِرَاقِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام: "يَأْتِي عَلَى
النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إلَى
الرَّخَاءِ, هَلُمَّ إلَى الرَّخَاءِ, وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ, وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَغْبَةً
عَنْهَا إلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ".
قال أبو محمد: إنَّمَا أَخْبَرَ عليه السلام بِأَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ لَهُمْ
مِنْ الْيَمَنِ, وَالشَّامِ, وَالْعِرَاقِ, وَبِلاَدِ الرَّخَاءِ, وَهَذَا لاَ
شَكَّ فِيهِ, وَلَيْسَ فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ, وَلاَ ذِكْرَ لِمَكَّةَ
أَصْلاً.
وَأَمَّا إخْبَارُهُ عليه السلام أَيْضًا بِأَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ
الْبِلاَدِ لَهُمْ فَإِنَّمَا هُوَ أَيْضًا فِي خَاصٍّ لاَ عَامٍّ وَهُوَ مَنْ خَرَجَ
عَنْهَا طَلَبَ رَخَاءٍ, أَوْ لِعَرَضِ دُنْيَا; وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْهَا
لِجِهَادٍ, أَوْ لِحُكْمٍ بِالْعَدْلِ, أَوْ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ دِينَهُمْ
فَلاَ, بَلْ الَّذِي خَرَجُوا لَهُ أَفْضَلُ مِنْ مُقَامِهِمْ بِالْمَدِينَةِ.
(7/281)
بُرْهَانُ
ذَلِكَ خُرُوجُهُ عليه السلام عَنْهَا لِلْجِهَادِ وَأَمْرُهُ النَّاسَ
بِالْخُرُوجِ مَعَهُ وَالْوَعِيدُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ بِالْمَدِينَةِ لِغَيْرِ
عُذْرٍ هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ, وَكَذَلِكَ بَعْثَتُهُ عليه السلام أَصْحَابَهُ
إلَى الْيَمَنِ, وَالْبَحْرَيْنِ, وَعُمَانَ لِلدُّعَاءِ إلَى الإِسْلاَمِ,
وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَهُوَ عليه السلام يَقُولُ: "الدِّينُ
النَّصِيحَةُ" فَبِلاَ شَكٍّ أَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُمْ فِي إخْرَاجِهِمْ
لِذَلِكَ. فَصَحَّ قَوْلُنَا: وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ فِي هَذَا
فِي دَعْوَاهُمْ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: "لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَغْبَةً
عَنْهَا" فَهَذَا الْحَقُّ وَعَلَى مَنْ يَرْغَبُ، عَنِ الْمَدِينَةِ
لَعْنَةُ اللَّهِ فَمَا هُوَ بِمُسْلِمٍ, وَكَذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ مَنْ رَغِبَ،
عَنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ
الْقُرَى" وَهَذَا إنَّمَا فِيهِ: أَنَّ مِنْ الْمَدِينَةِ تُفْتَحُ
الدُّنْيَا وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ وَقَدْ فُتِحَتْ
خُرَاسَانُ, وَسِجِسْتَانُ, وَفَارِسُ, وَكَرْمَانُ, مِنْ الْبَصْرَةِ, وَلَيْسَ
ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى فَضْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى مَكَّةَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّ الإِيمَانَ يَأْرِزُ إلَى
الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا" وَهَذَا لَيْسَ
فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ، عَنْ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ
بِلاَ شَكٍّ.
وَبُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ وَهُوَ
الْيَوْمَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَوَا حُزْنَاهُ وَوَا أَسَفَاهُ وَمَا الإِسْلاَمُ
ظَاهِرًا إلاَّ فِي غَيْرِهَا وَنَسْأَلُ اللَّهُ إعَادَتَهَا إلَى أَفْضَلِ مَا
كَانَتْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ عليه السلام. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ بِزِيَادَةٍ
كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، نا شَبَابَةُ
بْنُ سَوَّارٍ، نا عَاصِمُ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الإِسْلاَمَ
بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ
الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا" فَفِي هَذَا
أَنَّ الإِيمَانَ يَأْرِزُ بَيْنَ مَسْجِدِ مَكَّةَ, وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.
وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام كَانَ إذَا قَدِمَ
مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَع رَاحِلَتَهُ مِنْ
حُبِّهَا وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إلاَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُحِبُّهَا.
وَنَعَمْ هَذَا حَقٌّ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ مِنْ
حُبِّهِ مَكَّةَ, وَلاَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "لاَ يَكِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ
إلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ".
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "لاَ يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ
بِسُوءٍ إلاَّ أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ, أَوْ ذَوْبَ
الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ, وَمَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخَافَهُ اللَّهُ,
وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ, وَالْمَلاَئِكَةِ
(7/282)
وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ, لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا، وَلاَ عَدْلاً".
وَقَوْلُهُ عليه السلام: "مَثَلُ هَذَا فِيمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ
آوَى مُحْدِثًا". وَهَذَا صَحِيحٌ, وَإِنَّمَا فِيهِ الْوَعِيدُ عَلَى مَنْ
كَادَ أَهْلَهَا، وَلاَ يَحِلُّ كَيْدُ مُسْلِمٍ, فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا أَفْضَلُ
مِنْ مَكَّةَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى، عَنْ مَكَّةَ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فَصَحَّ الْوَعِيدُ عَلَى
مَنْ ظَلَمَ بِمَكَّةَ كَالْوَعِيدِ عَلَى مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "لاَ يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لاَْوَائِهَا
وَشَدَّتِهَا إلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَة"ِ
فَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَضِّ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى شِدَّتِهَا وَأَنَّهُ
يَكُونُ لَهُمْ شَفِيعًا وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام يَشْفَعُ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ. وَقَدْ قَالَ
عليه السلام: "الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا,
وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الْجَنَّةَ" وَهَذَا لاَ
يَكُونُ إلاَّ بِمَكَّةَ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يَدْخُلُ
فِيهَا كُلُّ بِرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه
السلام: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ"
أَوْ أَشَدَّ فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ
وَإِنَّمَا دَعَا عليه السلام بِهَذَا كَمَا تَرَى فِي أَحَدِ الأَمْرَيْنِ إمَّا
أَنْ يُحَبِّبَهَا إلَيْهِمْ كَحُبِّهِمْ مَكَّةَ, وَأَمَّا أَشَدُّ مِنْ
حُبِّهِمْ مَكَّةَ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ الأَمْرَيْنِ أُجِيبَ بِهِ
دُعَاؤُهُ عليه السلام, وَحُبُّ الْبَلَدِ يَكُونُ لِلْمُوَافَقَةِ وَالآُلْفَةِ
وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ عَلَى مَكَّةَ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام:
"لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدٍ"
يَعْنِي سُقُوطَهُ خَيْرٌ مِنْ الأَنْبَاطِ وَمَا فِيهَا. وَقَوْلُهُ عليه السلام:
"بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي
عَلَى حَوْضِي" وَأَرَادُوا أَنْ يُثْبِتُوا مِنْ هَذَا أَنَّ مَكَّةَ مِنْ
الدُّنْيَا فَمَوْضِعُ قَابِ قَوْسٍ مِنْ تِلْكَ الرَّوْضَةِ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ
فَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنُّوهُ, وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ مِصْرُ,
وَالْكُوفَةُ, وِرَاؤُنَا: خَيْرًا مِنْ مَكَّةَ, وَالْمَدِينَةِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ نُمَيْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
بِشْرٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: "سَيْحَانُ, وَجَيْحَانُ, وَالْفُرَاتُ,
وَالنِّيلُ, كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ" وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ
مُسْلِمٌ: أَنَّ هَذِهِ الْبِلاَدَ مِنْ أَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ أَنْهَارِ
الْجَنَّةِ, خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ, وَالْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ لَيْسَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ أَهْلُ
الْجَهْلِ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الرَّوْضَةَ قِطْعَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ,
وَأَنَّ هَذِهِ الأَنْهَارَ مُهْبَطَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ, هَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ;
لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ {إنَّ لَكَ أَنْ لاَ تَجُوعَ
فِيهَا، وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا، وَلاَ تَضْحَى} فَهَذِهِ
صِفَةُ الْجَنَّةِ بِلاَ شَكٍّ وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةَ الأَنْهَارِ
الْمَذْكُورَةِ، وَلاَ تِلْكَ الرَّوْضَةِ, وَرَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لاَ
يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ. فَصَحَّ أَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الرَّوْضَةِ مِنْ الْجَنَّةِ
إنَّمَا
(7/283)
هُوَ
لَفْظُهَا, وَأَنَّ الصَّلاَةَ فِيهَا تُؤَدِّي إلَى الْجَنَّةِ, وَأَنَّ تِلْكَ
الأَنْهَارَ لِبَرَكَتِهَا أُضِيفَتْ إلَى الْجَنَّةِ, كَمَا تَقُولُ فِي
الْيَوْمِ الطَّيِّبِ: هَذَا مِنْ أَيَّامِ الْجَنَّةِ; وَكَمَا قِيلَ فِي
الضَّأْنِ: إنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ, وَكَمَا قَالَ عليه السلام:
"إنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ" فَهَذَا فِي أَرْضِ
الْكُفْرِ بِلاَ شَكٍّ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ, ثُمَّ لَوْ
صَحَّ مَا ادَّعُوهُ وَظَنُّوهُ لَمَا كَانَ الْفَضْلُ إلاَّ لِتِلْكَ الرَّوْضَةِ
خَاصَّةً لاَ لِسَائِرِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. فَإِنْ قَالُوا:
مَا قَرُبَ مِنْهَا أَفْضَلُ مِمَّا بَعُدَ. قلنا: يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ
الْجُحْفَةَ, وَخَيْبَرَ, وَوَادِيَ الْقُرَى أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ; لاَِنَّهَا
أَقْرَبُ إلَى تِلْكَ الرَّوْضَةِ مِنْ مَكَّةَ, وَهَذَا لاَ يَقُولُونَهُ, وَلاَ
يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ, فَبَطَلَ تَظَنُّنُهُمْ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ يَتَأَوَّلُونَ الأَخْبَارَ
الصِّحَاحَ بِلاَ بُرْهَانٍ مِثْلُ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى
يَتَفَرَّقَا وَمِثْلُ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ وَغَيْرُ ذَلِكَ, ثُمَّ يَأْتُونَ إلَى الأَخْبَارِ الَّتِي قَدْ
صَحَّ الْبُرْهَانُ مِنْ الْقُرْآنِ, وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحِسِّ عَلَى أَنَّهَا
لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا فَيُرِيدُونَ حَمْلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا, إنَّ هَذَا
لَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ; فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ
بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ، نا مُوسَى بْنُ دَاوُد، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ
فَهَذَا بِمَكَّةَ فَاَلَّذِي بِمَكَّةَ مِنْ هَذَا كَاَلَّذِي لِلْمَدِينَةِ, إذْ
فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْجَنَّةِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ
مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ".
قال أبو محمد: تَأَوَّلُوا هُمْ أَنَّ الصَّلاَةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ
مِنْ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ بِدُونِ الأَلْفِ, وَقُلْنَا نَحْنُ: بَلْ
هَذَا الاِسْتِثْنَاءُ; لإِنَّ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ
مِنْ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَكِلاَ التَّأْوِيلَيْنِ مُحْتَمَلٌ. نَعَمْ, تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ
وَهُوَ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ الصَّلاَةَ فِي كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ,
وَلاَ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى أَحَدِ هَذِهِ التَّأْوِيلاَتِ دُونَ الآخَرِ إلاَّ
بِنَصٍّ آخَرَ, وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ فِي فَضْلِ
الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ
لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلاَ الدَّجَّالُ" وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ
فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ; لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَكَّةَ لاَ
يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ أَيْضًا;
(7/284)
وَاَللَّهُ
تَعَالَى يَصْرِفُهُ عَنْهَا كَمَا يَصْرِفُهُ، عَنِ الْمَدِينَةِ
وَالْمَلاَئِكَةُ تَنْزِلُ عَلَى الْمُصَلِّينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ كَمَا أَخْبَرَ
عليه السلام: أَنَّهُ "يَتَعَاقَبُ فِينَا مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ".
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "هِيَ طَيِّبَةٌ" وَنَعَمْ, هِيَ
وَاَللَّهِ طَيِّبَةٌ, وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً.
فَهَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مَا لَهُمْ خَبَرٌ
صَحِيحٌ سِوَى هَذِهِ, وَكُلُّهَا لاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى فَضْلِ
الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَاحْتَجُّوا عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ
أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنْتَ
الْقَائِلُ: لَمَكَّةَ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ:
هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ, وَفِيهَا بَيْتُهُ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لاَ
أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ شَيْئًا, أَنْتَ الْقَائِلُ: لَمَكَّةَ
خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هِيَ حَرَمُ اللَّهِ
وَأَمْنُهُ, وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لاَ أَقُولُ فِي حَرَمِ
اللَّهِ وَأَمْنِهِ شَيْئًا; ثُمَّ انْصَرَفَ.
قال أبو محمد: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَيَّاشٍ لَمْ يُنْكِرْ لِعُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ مَا قَرَّرَهُ عَلَيْهِ بَلْ
احْتَجَّ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ عُمَرُ.فَصَحَّ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ وَهُوَ صَاحِبٌ كَانَ يَقُولُ: مَكَّةُ أَفْضَلُ
مِنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ، عَنْ عُمَرَ: لاَ أَنَّ مَكَّةَ
أَفْضَلُ, وَلاَ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ; وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْرِيرُهُ
لِعَبْدِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَطْ, وَنَحْنُ نُوجِدُهُمْ، عَنْ
عُمَرَ تَصْرِيحًا بِأَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، نا سَعِيدُ
بْنُ نَصْرٍ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، نا حَامِدُ
بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيّ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ
سَعْدٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الزُّبَيْرِ يَقُول: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُول: "صَلاَةٌ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ
عليه السلام" وَهَذَا سَنَدٌ كَالشَّمْسِ فِي الصِّحَّةِ, فَهَذَانِ
صَاحِبَانِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ, وَمِثْلُ هَذَا
حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ
فِي مَسْجِدِ إِيلِيَا فَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه السلام
بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ, وَمِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ
النَّبِيِّ عليه السلام فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَ عَنْهُ.
فَهَذَا سَعِيدٌ فَقِيهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُصَرِّحُ بِفَضْلِ مَكَّةَ عَلَى
الْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارٍ مَوْضُوعَةٍ يَجِبُ التَّنْبِيهُ
عَلَيْهَا وَالتَّحْذِيرُ مِنْهَا. مِنْهَا: خَبَرٌ رُوِّينَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ
عليه السلام قَالَ فِي مَيِّتٍ رَآهُ: دُفِنَ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي خُلِقَ
مِنْهَا, قَالُوا: وَالنَّبِيُّ عليه السلام دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ فَمِنْ
تُرْبَتِهَا خُلِقَ وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَهِيَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ.
وَهَذَا خَبَرٌ
(7/285)
مَوْضُوعٌ;
لإِنَّ فِي أَحَدِ طَرِيقَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ وَهُوَ
سَاقِطٌ بِالْجُمْلَةِ, قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ وَهُوَ
بِالْجُمْلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَى اطِّرَاحِهِ ثُمَّ هُوَ أَيْضًا، عَنْ أُنَيْسِ
بْنِ يَحْيَى مُرْسَلٌ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ أُنَيْسُ بْنُ يَحْيَى وَالطَّرِيقُ
الآُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ يَحْيَى
الْبَكَّاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ;
لاَِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَكُونُ الْفَضْلُ لِقَبْرِهِ عليه السلام فَقَطْ,
وَإِلاَّ فَقَدْ دُفِنَ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ, وَقَدْ دُفِنَ الأَنْبِيَاءُ
عليهم السلام مِنْ إبْرَاهِيمَ, وَإِسْحَاقَ, وَيَعْقُوبَ, وَمُوسَى, وَهَارُونَ,
وَسُلَيْمَانَ, وَدَاوُد عليهم السلام, وَغَيْرِهِمْ بِالشَّامِ, وَلاَ يَقُولُ
مُسْلِمٌ: إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ.
وَمِنْهَا "اُفْتُتِحَتْ الْمَدَائِنُ بِالسَّيْفِ وَفُتِحَتْ الْمَدِينَةُ
بِالْقُرْآنِ" وَهَذَا أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
زُبَالَةَ الْمَذْكُورِ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ, وَهَذَا مِنْ وَضْعِهِ بِلاَ شَكٍّ;
لاَِنَّهُ رَوَاهُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام, وَمِثْلُ هَذَا الشَّارِعِ الْعَجِيبِ
لاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْلُكَ إلَيْهِ إلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْمَزْبَلَةِ, وَهَذَا
إسْنَادٌ لاَ يَنْفَرِدُ بِمِثْلِهِ إلاَّ ابْنُ زُبَالَةَ دُونَ سَائِرِ مَنْ
رَوَى، عَنْ مَالِكٍ مِنْ الثِّقَاتِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ
حُجَّةٌ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ; لإِنَّ الْبَحْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مَدَائِنِ
الْيَمَنِ كَصَنْعَاءَ وَالْجُنْدِ وَغَيْرِهَا لَمْ تُفْتَحْ بِسَيْفٍ إلاَّ
بِالْقُرْآنِ فَقَطْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ فَضْلَهَا عَلَى مَكَّةَ عِنْدَ
أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْهَا مَا عَلَى الأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي
فِيهَا مِنْهَا وَهَذَا مِنْ رِوَايَة الْكَذَّابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
زُبَالَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
عليه السلام كَرِهَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ سَيِّدُهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى
مَكَّةَ لِيُحْشَرُوا غُرَبَاءَ مَطْرُودِينَ، عَنْ وَطَنِهِمْ فِي اللَّهِ
تَعَالَى حَتَّى إنَّهُ عليه السلام رَثَا لِسَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ أَنْ مَاتَ
بِمَكَّةَ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ تَمَامِ نُسُكِهِ أَنْ يَبْقَى
بِمَكَّةَ إلاَّ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَقَطْ; فَإِذَا خَرَجَتْ مَكَّةَ بِهَذِهِ
الْعِلَّةِ، عَنْ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا النَّبِيُّ عليه السلام فَالْمَدِينَةُ
أَفْضَلُ الْبِقَاعِ بَعْدَهَا بِلاَ شَكٍّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبَزَّارِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هَيَّاجٍ، نا
الْفُضَيْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أَبُو نُعَيْمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي
بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى قَالَ:
مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ عليه السلام يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ تَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ فِي الأَرْضِ
الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ: بَلَى وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ, فَهَذَا نَصُّ
مَا قلنا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَمِنْهَا: "اللَّهُمَّ إنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ بِلاَدِكَ إلَيَّ
فَأَسْكِنِي أَحَبَّ الْبِلاَدِ إلَيْكَ" وَهَذَا مَوْضُوعٌ مِنْ رِوَايَةِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ الْمَذْكُورِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إسْمَاعِيلَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مُرْسَلٌ.
(7/286)
وَمِنْهَا:
الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ هَكَذَا تَصْرِيحٌ رُوِّينَا مِنْ طُرُقٍ.
أَحَدُهَا: مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ صَاحِبِ
هَذِهِ الْفَضَائِحِ كُلِّهَا الْمُنْفَرِدِ بِوَضْعِهَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ رَافِعِ
بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي: مِنْ
طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ الرَّدَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ شُرَيْحِ بْنِ مَالِكٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ، عَنِ النَّبِيّ عليه السلام، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ هَذَا
مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِيه أَحَدٌ. وَالثَّالِثُ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ
الصَّائِغِ صَاحِبِ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
الرَّدَّادِ الْمَذْكُورِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ قَالَ
رَافِعٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ هَذَا
ضَعِيفٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَابْنُ الرَّدَّادِ مَجْهُولٌ وَمِثْلُ هَذَا الشَّارِعِ
الْعَجِيبِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلَكَ عَلَيْهِ إلاَّ عَلَى هَذِهِ الزَّوَايِغِ
الْوَحْشَةِ.
وهذا الخبر رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ بِإِسْنَادٍ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ, قَالَ مُسْلِمٌ "، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
الْقَعْنَبِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ
نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: خَطَبَ مَرْوَانُ فَذَكَرَ مَكَّةَ
وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا
فَنَادَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ أَسْمَعُك ذَكَرْت مَكَّةَ وَأَهْلَهَا
وَحُرْمَتَهَا وَلَمْ تَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا, وَقَدْ
حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا وَذَلِكَ عِنْدَنَا
فِي أَدِيمٍ خُولاَنِيٍّ إنْ شِئْتُمْ أَقْرَأْتُكُمْ فَقَالَ مَرْوَانُ: قَدْ
سَمِعْت بَعْضَ ذَلِكَ ".
قال أبو محمد: فَهَكَذَا كَانَ الْحَدِيثُ فَبَدَّلَهُ أَهْلُ الزَّيْغِ
عَصَبِيَّةً عَجَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِهَا الْفَضِيحَةَ فِي الْكَذِبِ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَصِفَةِ الْحَمَاقَةِ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ
مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
قال علي: هذا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ قَدْ أَوْضَحْنَاهُ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. ثُمَّ نُورِدُ الآثَارَ الصَّحِيحَةَ وَالْبَرَاهِينَ الْوَاضِحَةَ
فِي فَضْلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا, أَوَّلُ ذَلِكَ: حَبْسُ
اللَّهِ تَعَالَى الْفِيلَ عَنْهَا وَإِهْلاَكُهُ جَيْشَ رَاكِبِهِ إذْ أَرَادَ
غَزْوَ مَكَّةَ. ثُمَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّه عليه السلام فِي غَزْوَةِ
الْحُدَيْبِيَةِ إذْ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ فَقَالَ النَّاسُ: خَلاََتْ فَقَالَ
النَّبِيُّ عليه السلام: "مَا خَلاََتْ، وَلاَ هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ
حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ" , وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آمِنًا} , وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} , وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ
الصَّفَّا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ
(7/287)
اللَّهِ},
وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} , وَقَالَ
تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
, ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا تَمَامَ الصَّلاَةِ, وَالْحَجِّ,
وَالْعُمْرَةِ, فَهِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ إلاَّ
بِالْقَصْدِ نَحْوَهَا, وَإِلَيْهَا الْحَجُّ الْمُفْتَرَضُ, وَالْعُمْرَةُ
الْمُفْتَرَضَةُ, وَإِنَّمَا فُرِضَتْ الْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ مَا لَمْ
تُفْتَحْ مَكَّةُ فَلَمَّا فُتِحَتْ بَطَلَتْ الْهِجْرَةُ, فَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ
لِمَكَّةَ ثُمَّ لِلْمَدِينَةِ, وَأَمَرَ عليه السلام أَنْ لاَ يُسْفَكَ فِيهَا
دَمٌ, وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ, وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ وَنَهَى عليه السلام أَنْ
يَسْتَقْبِلَهَا أَحَدٌ أَوْ يَسْتَدْبِرَهَا بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبُخَارِيِّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا
عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ هُوَ أَخُوهُ
قَالَ: سَمِعْت أَبِي هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
أَلاَ أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً قَالُوا: أَلاَ شَهْرُنَا
هَذَا. قَالَ: أَلاَ أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً قَالُوا: أَلاَ
بَلَدُنَا هَذَا. قَالَ: أَلاَ أَيُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً
قَالُوا: أَلاَ يَوْمُنَا هَذَا. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ, وَأَمْوَالَكُمْ, وَأَعْرَاضَكُمْ, إلاَّ بِحَقِّهَا
كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا, فِي بَلَدِكُمْ هَذَا مِنْ شَهْرِكُمْ هَذَا أَلاَ
هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا, كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلاَ نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
خَازِمٍ الضَّرِيرُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فِي
حَجَّتِهِ: "أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً". فَقُلْنَا:
يَوْمُنَا هَذَا قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً. فَقُلْنَا: بَلَدُنَا
هَذَا ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. فَهَذَانِ: جَابِرٌ, وَابْنُ
عُمَرَ يَشْهَدَانِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَرَّرَ النَّاسَ عَلَى
أَيِّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُ مَكَّةُ وَصَدَّقَهُمْ فِي
ذَلِكَ, وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ فِي إجَابَتِهِمْ إيَّاهُ
عليه السلام بِأَنَّ بَلَدَهُمْ ذَلِكَ, وَهُمْ بِمَكَّةَ, فَمَنْ خَالَفَ هَذَا
فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ. فَصَحَّ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ أَنَّ مَكَّةَ
أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْمَدِينَةِ, وَإِذَا كَانَتْ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ
الْمَدِينَةِ فَهِيَ أَفْضَلُ بِلاَ شَكٍّ; لإِنَّ أَعْظَمَ الْحُرْمَةِ لاَ يَكُونُ
إلاَّ لِلأَفْضَلِ، وَلاَ بُدَّ, لاَ لِلأَقَلِّ فَضْلاً.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام كَانَ بِالْحَجُونِ فَقَالَ:
وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَيَّ
وَلَوْ لَمْ أُخْرَجْ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ, لَمْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَلاَ
تَحِلُّ لاَِحَدٍ بَعْدِي" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدِ
الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ
(7/288)
ابْنِ
وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَقَفَ بِالْحَجُونِ
فَقَالَ: "إنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى
اللَّهِ, وَلَوْ تُرِكْتُ فِيكِ مَا خَرَجْتُ مِنْكِ" وَذَكَرَ بَاقِيَ
الْحَدِيثِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، نا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ, وَقُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ سَلَمَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْت مَعْمَرًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ عليه السلام وَهُوَ فِي سُوقِ الْجَزُورَةِ بِمَكَّةَ: وَاَللَّهِ إنَّكِ
لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ الْبِلاَدِ إلَى اللَّهِ, وَلَوْلاَ أَنِّي
أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ: نا اللَّيْثُ، وَ، هُوَ
ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ خَالِدٍ, وَقَالَ إِسْحَاقُ: نا يَعْقُوبُ، وَ،
هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ عَوْفِ، نا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ; ثُمَّ اتَّفَقَ عُقَيْلٌ,
وَصَالِحٌ, وَكِلاَهُمَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ ابْنِ
الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَهُوَ
وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْجَزُورَةِ مِنْ مَكَّةَ يَقُولُ لِمَكَّةَ:
وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ, وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى
اللَّهِ, وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ. لَمْ يَخْتَلِفْ
عُقَيْلٌ, وَصَالِحٌ, فِي شَيْءٍ مِنْ لَفْظِهِ عليه السلام, إلاَّ أَنَّ عَقِيلاً
قَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ
هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ الصَّحَابَةِ زُهْرِيُّ النَّسَبِ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، نا أَبُو
الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْرَوَيْهِ، نا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، نا أَبُو الْيَمَانِ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ
أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ
عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام
يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْجَزُورَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ: "وَاَللَّهِ
إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ, وَلَوْلاَ
أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ" مَا خَرَجْتُ فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ رَوَاهُ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام
أَبُو هُرَيْرَةَ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ وَرَوَاهُ عَنْهُمَا أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ وَرَوَاهُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ. وَرَوَاهُ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, والدراوردي وَرَوَاهُ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ أَصْحَابُهُ الثِّقَاتُ: مَعْمَرٌ, وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ,
وَعُقَيْلٌ, وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْهُ يُونُسُ بْنُ
زَيْدٍ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ خَالِدٍ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ الْجَمْعِ
الْغَفِيرِ, وَلاَ مَقَالَ لاَِحَدٍ بَعْدَ هَذَا.
(7/289)
حدثنا
يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، نا عَبْدُ
الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جَبْرُونَ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا أَحْمَدُ
بْنُ زُهَيْرٍ, وَأَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مُرَّةَ قَالاَ جَمِيعًا: نا
سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، نا
عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ
صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلاَةٌ
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ
صَلاَةٍ". قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ،
عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ فَقَالَ: ثِقَةٌ, وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ
ثِقَةٌ مَا أَصَحَّ حَدِيثَهُ, هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ. وَقَالَ
ابْنُ أَبِي مُرَّةَ فِي رِوَايَتِهِ صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ
أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ, وَصَلاَةٌ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَة صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِهِ وَإِسْنَادِهِ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. حَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ صَحِيحٌ
فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
فَرُوِيَ الْقَطْعُ بِفَضْلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ كَمَا أَوْرَدَنَا، عَنِ
النَّبِيِّ عليه السلام: جَابِرٌ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ
الزُّبَيْرِ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ. خَمْسَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله
تعالى عنهم, مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ بِأَسَانِيدَ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ. وَرَوَاهَا، عَنْ هَؤُلاَءِ: أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ, مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ
مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ: عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَالأَعْمَشُ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ, وَالزُّهْرِيُّ, وَحَبِيبُ
الْمُعَلَّمُ, مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ:
وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَأَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ الضَّرِيرُ,
وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ, وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ, وَمَعْمَرٌ, وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ
وَعُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ, وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ
خَالِدٍ, وَيُونُسُ بْنُ زَيْدٍ مِنْهُمْ: ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ،
عَنْ هَؤُلاَءِ مَنْ لاَ يُحْصَى كَثْرَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ, وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ مَرْوِيًّا عَنْهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَسْلَمَ الْمُنْقِرِيُّ: قُلْت
لِعَطَاءٍ: آتِي مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُصَلِّي فِيهِ قَالَ:
فَقَالَ لِي عَطَاءٌ: طَوَافٌ وَاحِدٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَفَرِك إلَى
الْمَدِينَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَسُفْيَانَ,
وَأَحْمَدَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/290)
كتاب
الجهاد
باب الجهاد
والجهاد فرض على المسلمين
...
بسم الله الرحمن الرحيم بِك اللَّهُمَّ أَسْتَعِينُ
كِتَابُ الْجِهَادِ
920 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَامَ بِهِ
مِنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ وَيَغْزُوهُمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ وَيَحْمِي ثُغُورَ
الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ فَرْضُهُ، عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلَّا فَلاَ, قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ}.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ نا مُحَمَّدُ بْنُ خِدَاشٍ نَا
إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ نَا أَيُّوبُ هُوَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ أَبُو أَيُّوبَ
الأَنْصَارِيُّ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}
فَلاَ أَحَدَ مِنْ النَّاسِ إِلاَّ خَفِيفٌ أَوْ ثَقِيلٌ.
وَمِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَهْمٍ
الأَنْطَاكِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ وُهَيْبٍ
الْمَكِّيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى
شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ" قال أبو محمد: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ نَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْمُبَارَكِ نَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ نَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ
بَعْثًا إلَى بَنِي لَحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: "لِيَنْبَعِثْ مِنْ
كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا".
(7/291)
922
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْجِهَادُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ إِلاَّ أَنْ
يَنْزِلَ الْعَدُوُّ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ
يُمْكِنُهُ إعَانَتُهُمْ أَنْ يَقْصِدَهُمْ مُغِيثًا لَهُمْ أَذِنَ الأَبَوَانِ
أَمْ لَمْ يَأْذَنَا إِلاَّ أَنْ يَضِيعَا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَهُ, فَلاَ
يَحِلُّ لَهُ تَرْكُ مَنْ يَضِيعُ مِنْهُمَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا آدَم نَا شُعْبَةُ نَا حَبِيبُ بْنُ
أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ وَكَانَ لاَ يُتَّهَمُ
فِي الْحَدِيثِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ
جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي
الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ" قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا مُسَدَّدٌ نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ
مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ، وَلاَ
طَاعَةَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ
قَالَ: إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: لاَ طَاعَةَ لأََحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ تَعَالَى.
(7/292)
923
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَفِرَّ، عَنْ مُشْرِكٍ, وَلاَ عَنْ
مُشْرِكَيْنِ وَلَوْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ أَصْلاً; لَكِنْ يَنْوِي فِي رُجُوعِهِ
التَّحَيُّزَ إلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إنْ رَجَا الْبُلُوغَ إلَيْهِمْ, أَوْ
يَنْوِي الْكَرَّ إلَى الْقِتَالِ, فَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ تَوْلِيَةَ دُبُرِهِ
هَارِبًا فَهُوَ فَاسِقٌ مَا لَمْ يَتُبْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ
تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ وَمِنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ
مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ
اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} . قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الْفِرَارَ لَهُ مُبَاحٌ
مِنْ ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا وَهَذَا خَطَأٌ.
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ}.ِ
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: "إنْ فَرَّ رَجُلٌ مِنْ
رَجُلَيْنِ فَقَدْ فَرَّ, وَإِنَّ فَرَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ".
قال أبو محمد: أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ خَالَفُوهُ فِي مِئِينَ مِنْ
الْقَضَايَا, مِنْهَا قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ جَهْرًا فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ,
وَإِخْبَارُهُ أَنَّهُ لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ, وَلاَ
حُجَّةَ إِلاَّ فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, أَوْ كَلاَمِ رَسُولِهِ صلى الله
عليه وسلم. وَأَمَّا الآيَةُ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِيهَا; لأََنَّهُ لَيْسَ
فِيهَا لاَ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ بِإِبَاحَةِ الْفِرَارِ، عَنِ الْعَدَدِ
الْمَذْكُورِ; وَإِنَّمَا فِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ فِينَا
ضَعْفًا, وَهَذَا حَقٌّ إنَّ فِينَا لَضَعْفًا، وَلاَ قَوِيَّ إِلاَّ وَفِيهِ
ضَعْفٌ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى
وَحْدَهُ
(7/292)
فَهُوَ
الْقَوِيُّ الَّذِي لاَ يَضْعُفُ، وَلاَ يُغْلَبُ. وَفِيهَا: أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى خَفَّفَ عَنَّا فَلَهُ الْحَمْدُ وَمَا زَالَ رَبُّنَا تَعَالَى رَحِيمًا
بِنَا يُخَفِّفُ عَنَّا فِي جَمِيعِ الأَعْمَالِ الَّتِي أَلْزَمْنَا. وَفِيهَا
أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنَّا مِائَةٌ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ, وَإِنْ
يَكُنْ مِنَّا أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ, وَهَذَا حَقٌّ,
وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْمِائَةَ لاَ تَغْلِبُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ، وَلاَ
أَقَلَّ أَصْلاً; بَلْ قَدْ تَغْلِبُ ثَلاَثَمِائَةٍ, نَعَمْ وَأَلْفَيْنِ
وَثَلاَثَ آلاَفٍ، وَلاَ أَنَّ الأَلْفَ لاَ يَغْلِبُونَ إِلاَّ أَلْفَيْنِ فَقَطْ
لاَ أَكْثَرَ، وَلاَ أَقَلَّ, وَمَنْ ادَّعَى هَذَا فِي الآيَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ
وَادَّعَى مَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ أَثَرٌ, وَلاَ إشَارَةٌ, وَلاَ نَصٌّ, وَلاَ
دَلِيلٌ, بَلْ قَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}, فَظَهَرَ
أَنَّ قَوْلَهُمْ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ أَصْلاً, وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ فَارِسٍ
بَطَلٍ شَاكِي السِّلاَحِ قَوِيٍّ لَقِيَ ثَلاَثَةً مِنْ شُيُوخِ الْيَهُودِ
الْحَرْبِيِّينَ هَرْمَى مَرْضَى رِجَالَةً عُزَّلاً أَوْ عَلَى حَمِيرٍ, أَلَهُ
أَنْ يَفِرَّ عَنْهُمْ لَئِنْ قَالُوا: نَعَمْ لَيَأْتُنَّ بِطَامَّةٍ يَأْبَاهَا اللَّهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَكُلُّ ذِي عَقْلٍ, وَإِنْ قَالُوا: لاَ لَيَتْرُكُنَّ
قَوْلَهُمْ. وَكَذَلِكَ نَسْأَلُهُمْ، عَنْ أَلْفِ فَارِسٍ, نُخْبَةٍ, أَبْطَالٍ,
أَمْجَادٍ, مُسلَّحِينَ, ذَوِي بَصَائِرَ, لَقَوْا ثَلاَثَةَ آلاَفٍ, مِنْ
مَحْشُودَةِ بَادِيَةِ النَّصَارَى, رِجَالَةً, مُسَخَّرِينَ أَلْهَمَ أَنْ
يَفِرُّوا عَنْهُمْ.
وَرُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ, إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ
بَدْرٍ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلآيَةِ بِلاَ دَلِيلٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبَزَّارِ نَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى, قَالاَ
جَمِيعًا: نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ نَا عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنْ
يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ نَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لَهُ: كَانَتْ
"الأَنْفَالُ" مِنْ أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدِ الأُُبُلِّيُّ نَا ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي
الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا هُنَّ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ, وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ, وَأَكْلُ
الرِّبَا, وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ, وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ
الْمُؤْمِنَاتِ" فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ. وَمِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو
نَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ
أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: كَتَبَ إلَيْهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى فَقَرَأَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ
الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا
وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ
(7/293)
السُّيُوفِ".
فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ, وَإِسْلاَمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ أَبِي
أَوْفَى بِلاَ شَكٍّ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ الأَنْفَالِ الَّتِي فِيهَا الآيَةُ
الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فِيمَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ خَالَفَ
ابْنُ عَبَّاسٍ غَيْرَهُ كَمَا نا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ الْمَرْوَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ
الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ, نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ
الْحَجَبِيُّ نَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُجَيْمِيُّ نَا شُعْبَةُ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَجُلاً سَأَلَ الْبَرَاءَ بْنَ
عَازِبٍ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلاً حَمَلَ عَلَى الْكَتِيبَةِ وَهُمْ أَلْفٌ,
أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ الْبَرَاءُ لاَ, وَلَكِنَّ
التَّهْلُكَةَ: أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ الذَّنْبَ فَيُلْقِي بِيَدِهِ وَيَقُولُ:
لاَ تَوْبَةَ لِي. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إذَا لَقِيتُمْ فَلاَ
تَفِرُّوا.
وَعَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ: الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ.
وَلَمْ يَخُصُّوا عَدَدًا مِنْ عَدَدٍ, وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُو أَيُّوبَ
الأَنْصَارِيُّ, وَلاَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ
وَحْدَهُ, عَلَى الْعَسْكَرِ الْجَرَّارِ وَيَثْبُتَ حَتَّى يُقْتَلَ. وَقَدْ
ذَكَرُوا حَدِيثًا مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَقُوا
الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ, أَوْ
أَحْمِلُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَتُرَاكَ قَاتِلٌ هَؤُلاَءِ كُلَّهُمْ اجْلِسْ, فَإِذَا نَهَضَ أَصْحَابُكَ
فَانْهَضْ وَإِذَا شَدُّوا فَشُدَّ" وَهَذَا مُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ;
بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام: أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ سَأَلَهُ مَا
يُضْحِكُ اللَّهُ مِنْ عَبْدِهِ قَالَ: غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا
فَنَزَعَ الرَّجُلُ دِرْعَهُ وَدَخَلَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه.
(7/294)
924- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ تَحْرِيقُ أَشْجَارِ الْمُشْرِكِينَ, وَأَطْعِمَتِهِمْ, وَزَرْعِهِمْ وَدُورِهِمْ, وَهَدْمُهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نِيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} وَقَدْ أَحْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَهِيَ فِي طَرَفِ دُورِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا تَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمٍ أَوْ غَدِهِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: لاَ تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ يَنْهَى أَبُو بَكْرٍ، عَنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا; لأََنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَيْضًا مُبَاحٌ كَمَا فِي الآيَةِ الْمَذْكُورَةِ, وَلَمْ يَقْطَعْ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا نَخْلَ خَيْبَرَ, فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/294)
925 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ عَقْرُ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانِهِمْ أَلْبَتَّةَ لاَ إبِلٍ, وَلاَ بَقَرٍ, وَلاَ غَنَمٍ, وَلاَ خَيْلٍ, وَلاَ دَجَاجٍ, وَلاَ حَمَامٍ, وَلاَ أَوَزًّ, وَلاَ بِرَكٍ, وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلاَّ لِلأَكْلِ فَقَطْ, حَاشَا الْخَنَازِيرَ جُمْلَةً فَتُعْقَرُ, وَحَاشَا الْخَيْلَ فِي حَالِ الْمُقَاتَلَةِ فَقَطْ, وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ, أَوْ لَمْ يَأْخُذُوهَا أَدْرَكَهَا الْعَدُوُّ وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِهَا, أَوْ لَمْ يُدْرِكُوهَا وَيُخَلَّى كُلُّ ذَلِكَ،
(7/294)
926 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ قَتْلُ نِسَائِهِمْ، وَلاَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ, إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَلاَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِ مَنْجًى مِنْهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَلَهُ قَتْلُهُ حِينَئِذٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبُخَارِيِّ نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ نَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
(7/296)
927 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أُصِيبُوا فِي الْبَيَاتِ أَوْ فِي اخْتِلاَطِ الْمَلْحَمَةِ، عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَا سُفْيَانُ نَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَقَالَ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ.
(7/296)
928 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ قَتْلُ كُلِّ مَنْ عَدَا مِنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُقَاتِلٍ, أَوْ غَيْرِ مُقَاتِلٍ, أَوْ تَاجِرٍ, أَوْ أَجِيرٍ وَهُوَ الْعَسِيفُ أَوْ شَيْخٍ كَبِيرٍ كَانَ ذَا رَأْيٍ, أَوْ لَمْ يَكُنْ, أَوْ فَلَّاحٍ, أَوْ أُسْقُفٍ, أَوْ قِسِّيسٍ, أَوْ رَاهِبٍ, أَوْ أَعْمَى, أَوْ مُقْعَدٍ لاَ تُحَاشِ أَحَدًا. وَجَائِزٌ اسْتِبْقَاؤُهُمْ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ
(7/296)
929
- مَسْأَلَةٌ: وَيُغْزَى أَهْلُ الْكُفْرِ مَعَ كُلِّ فَاسِقٍ مِنْ الأُُمَرَاءِ,
وَغَيْرِ فَاسِقٍ, وَمَعَ الْمُتَغَلِّبِ وَالْمُحَارِبِ, كَمَا يُغْزَى مَعَ
الإِمَامِ, وَيَغْزُوهُمْ الْمَرْءُ وَحْدَهُ إنْ قَدَرَ أَيْضًا, قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} , وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فِي أَوَّلِ بَابٍ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ هَاهُنَا: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ
مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ وَقَالَ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا
وَثِقَالاً} , وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَتَكُونُ أُمَرَاءُ
فُسَّاقٌ فَلَمْ يَخُصَّهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ, وَكُلُّ مَنْ دَعَا إلَى طَاعَةِ
اللَّهِ فِي الصَّلاَةِ الْمُؤَدَّاةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى,
وَالصَّدَقَةِ الْمَوْضُوعَةِ مَوَاضِعَهَا, وَالْمَأْخُوذَةِ فِي حَقِّهَا,
وَالصِّيَامِ كَذَلِكَ, وَالْحَجِّ كَذَلِكَ, وَالْجِهَادِ كَذَلِكَ, وَسَائِرِ
الطَّاعَاتِ كُلِّهَا; فَفَرْضٌ إجَابَتُهُ لِلنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ. وَكُلُّ
مَنْ دَعَا مِنْ إمَامٍ حَقٍّ, أَوْ غَيْرِهِ, إلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ,
وَلاَ طَاعَةَ, كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ, وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَقَالَ عليه
السلام: "لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِلاَلاً فَنَادَى فِي النَّاسِ
(7/299)
إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ.
(7/300)
930 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ غَزَا مَعَ فَاسِقٍ فَلْيَقْتُلْ الْكُفَّارَ وَلِيُفْسِدْ زُرُوعَهُمْ وَدُورَهُمْ وَثِمَارَهُمْ, وَلْيَجْلِبْ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَلاَ بُدَّ, فَإِنَّ إخْرَاجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إلَى نُورِ الإِسْلاَمِ فَرْضٌ يَعْصِي اللَّهَ مَنْ تَرَكَهُ قَادِرًا عَلَيْهِ, وَإِثْمُهُمْ عَلَى مَنْ غَلَّهُمْ, وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ أَقَلُّ مِنْ تَرْكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَوْنِهِمْ عَلَى الْبَقَاءِ فِيهِ, وَلاَ إثْمَ بَعْدَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ نَهَى، عَنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَأَمَرَ بِإِسْلاَمِ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ فِسْقِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ لاَ يُحَاسَبُ غَيْرُهُ بِفِسْقِهِ.
(7/300)
931
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَمْلِكُ أَهْلُ الْكُفْرِ الْحَرْبِيُّونَ مَالَ مُسْلِمٍ,
وَلاَ مَالَ ذِمِّيٍّ أَبَدًا إِلاَّ بِالأَبْتِيَاعِ الصَّحِيحِ, أَوْ الْهِبَةِ
الصَّحِيحَةِ, أَوْ بِمِيرَاثٍ مِنْ ذِمِّيٍّ كَافِرٍ, أَوْ بِمُعَامَلَةٍ
صَحِيحَةٍ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ, فَكُلُّ مَا غَنِمُوهُ مِنْ مَالِ ذِمِّيٍّ أَوْ
مُسْلِمٍ, أَوْ آبِقٍ إلَيْهِمْ, فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ, فَمَتَى
قُدِرَ عَلَيْهِ رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا, دَخَلُوا
بِهِ أَرْضَ الْحَرْبِ, أَوْ لَمْ يَدْخُلُوا، وَلاَ يُكَلَّفُ مَالِكُهُ عِوَضًا،
وَلاَ ثَمَنًا, لَكِنْ يُعَوِّضُ الأَمِيرُ مَنْ كَانَ صَارَ فِي سَهْمِهِ مِنْ
كُلِّ مَالٍ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يَنْفُذُ فِيهِ عِتْقُ مَنْ وَقَعَ
فِي سَهْمِهِ, وَلاَ صَدَقَتِهِ, وَلاَ هِبَتِهِ, وَلاَ بَيْعِهِ, وَلاَ تَكُونُ لَهُ
الأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ, وَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يَغْصِبُهُ
الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ, وَلاَ فَرْقَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ,
وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَلِمَنْ سَلَفَ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ سِوَى هَذَا. أَحَدُهَا
أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِهِ لاَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ,
وَلاَ بَعْدَهَا, لاَ بِثَمَنٍ, وَلاَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ, وَهُوَ لِمَنْ صَارَ فِي
سَهْمِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا
أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
أَمْوَالِهِمْ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقْضِي بِذَلِكَ. وَعَنْ
قَتَادَةَ: أَنَّ مُكَاتَبًا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَ
بَكْرُ بْنُ قِرْوَاشَ عَنْهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:
إنْ افْتَكَّهُ سَيِّدُهُ فَهُوَ عَلَى كِتَابَتِهِ, وَإِنْ أَبَى أَنْ
يَفْتَكَّهُ فَهُوَ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ. وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسٍ، عَنْ
عَلِيٍّ: مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ. وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
عَلِيٍّ: هُوَ فَيْءُ الْمُسْلِمِينَ لاَ يُرَدُّ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ: مَا أَحْرَزَهُ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ
فَهُوَ لَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ حُرًّا أَوْ مُعَاهَدًا. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ هَذَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ إنْ أُدْرِكَ
قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ, فَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ حَتَّى قُسِمَ
فَهُوَ لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ لاَ يُرَدُّ إلَى صَاحِبِهِ لاَ بِثَمَنٍ,
وَلاَ بِغَيْرِهِ. هَكَذَا رُوِّينَاهُ
(7/300)
وكذلك
لو نزل أهل الحرب عندك تجارًا بأمان أو رسلاً أو مستأمنين مستجرين
...
932- مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ عِنْدَك تُجَّارًا
بِأَمَانٍ, أَوْ رُسُلاً, أَوْ مُسْتَأْمِنِينَ مُسْتَجِيرِينَ, أَوْ
مُلْتَزِمِينَ لاََنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا فَوَجَدْنَا بِأَيْدِيهِمْ أَسْرَى
مُسْلِمِينَ, أَوْ أَهْلَ ذِمَّةٍ, أَوْ عَبِيدًا, أَوْ إمَاءً لِلْمُسْلِمِينَ,
أَوْ مَالاً لِمُسْلِمٍ, أَوْ لِذِمِّيٍّ: فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ كُلُّ ذَلِكَ
مِنْهُمْ بِلاَ عِوَضٍ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا. وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى
أَصْحَابِهِ, وَلاَ يَحِلُّ لَنَا الْوَفَاءُ بِكُلِّ عَهْدٍ أُعْطُوهُ عَلَى
خِلاَفِ هَذَا; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ".
وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَنَا مَا يَقُولُ لَوْ عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى أَنْ لاَ
نُصَلِّيَ, أَوْ لاَ نَصُومَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمُوا, أَوْ تَذَمَّمُوا
فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ كُلُّ مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ حُرٍّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ,
أَوْ لِمُسْلِمٍ, أَوْ لِذِمِّيٍّ, وَيُرَدُّ إلَى أَصْحَابِهِ بِلاَ عِوَضٍ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيمَا اسْتَهْلَكُوا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ حَرْبِيِّينَ.
وَلَوْ أَنَّ تَاجِرًا; أَوْ رَسُولاً دَخَلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَافْتَدَى
أَسِيرًا, أَوْ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ, أَوْ ابْتَاعَ مَتَاعًا لِمُسْلِمٍ أَوْ
لِذِمِّيٍّ أَوْ وَهَبُوهُ لَهُ, فَخَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ: اُنْتُزِعَ
مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ, وَرُدَّ إلَى صَاحِبِهِ, وَهُوَ مِنْ خَسَارَةِ
الْمُشْتَرِي, وَأُطْلِقَ الأَسِيرُ بِلاَ غَرَامَةٍ لِمَا ذَكَرنَا فِي الْبَابِ
الَّذِي قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنَّ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ, وَأَظْلَمَ الظُّلْمِ:
أَخْذُ الْمُشْرِكِ لِلْمُسْلِمِ, أَوْ لِمَالِهِ, أَوْ لِذِمِّيٍّ أَوْ
لِمَالِهِ, وَالظُّلْمُ لاَ يَجُوزُ إمْضَاؤُهُ بَلْ يُرَدُّ وَيُفْسَخُ.
فَلَوْ أَنَّ الأَسِيرَ قَالَ لِمُسْلِمٍ, أَوْ لِذِمِّيٍّ دَخَلَ دَارَ
الْحَرْبِ: افْدِنِي مِنْهُمْ, وَمَا تُعْطِيهِمْ دَيْنٌ لَك عَلَيَّ, فَهُوَ
كَمَا قَالَ, وَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ, لأََنَّهُ اسْتَقْرَضَهُ فَأَقْرَضَهُ,
وَهَذَا حَقٌّ. وقال مالك, وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَوْ نَزَلَ حَرْبِيُّونَ
بِأَمَانٍ وَعِنْدَهُمْ مُسْلِمَاتٌ مَأْسُورَاتٌ: لَمْ يُنْتَزَعْنَ مِنْهُمْ,
وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ الْوَطْءِ لَهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوْ
تَذَمَّمَ حَرْبِيُّونَ وَبِأَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ: فَهُمْ
بَاقُونَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ عَبِيدٌ لَهُمْ كَمَا كَانُوا.
وَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ لاَ نَعْلَمُ قَوْلاً أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْهُمَا,
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا, وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْقَوْلُ لَوْ كَانَ
بِأَيْدِيهِمْ شُيُوخٌ مُسْلِمُونَ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ فِعْلَ قَوْمِ لُوطٍ
أَيُتْرَكُونَ وَذَلِكَ أَوْ لَوْ أَنَّ بِأَيْدِيهِمْ مَصَاحِفَ أَيُتْرَكُونَ
يَمْسَحُونَ بِهَا الْعَذِرَ، عَنْ أَسْتَاهِهِمْ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَتَمَّ الْبَرَاءَةِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ.
(7/306)
933-
مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ أَبِي جَنْدَلٍ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم رَدَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ
لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا أَنَّهُ عليه السلام رَدَّهُ وَلَمْ يَكُنْ الْعَهْدُ تَمَّ
بَيْنَهُمْ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ
يَرُدَّهُ حَتَّى أَجَارَهُ لَهُ مُكَرَّزُ بْنُ حَفْصٍ مِنْ أَنْ يُؤْذَى.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ عليه السلام قَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ
سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ذَلِكَ.
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ خَبَرٌ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ
قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لاَ
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى بِهَذِهِ الآيَةِ عَهْدَهُمْ فِي رَدِّ النِّسَاءِ, ثُمَّ أَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى "بَرَاءَةٌ" بَعْدَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ الْعَهْدَ كُلَّهُ
وَنَسَخَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ} . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي "بَرَاءَةٌ" أَيْضًا: {كَيْف
يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآيَةَ فَأَبْطَلَ
تَعَالَى كُلَّ عَهْدٍ لِلْمُشْرِكِينَ حَاشَا الَّذِينَ عَاهَدُوا عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ
وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} , وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ}.
فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ عَهْدٍ وَلَمْ يُقِرَّهُ, وَلَمْ يَجْعَلْ
لِلْمُشْرِكِينَ إِلاَّ الْقَتْلَ, أَوْ الإِسْلاَمَ, وَلأََهْلِ الْكِتَابِ
خَاصَّةً إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَأَمَّنَ الْمُسْتَجِيرَ
وَالرَّسُولَ حَتَّى يُؤَدِّيَ رِسَالَتَهُ وَيَسْمَعَ الْمُسْتَجِيرُ كَلاَمَ
اللَّهِ ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى بِلاَدِهِمَا، وَلاَ مَزِيدَ, فَكُلُّ عَهْدٍ
غَيْرِ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ لاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ; لأََنَّهُ
خِلاَفُ شَرْطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِلاَفُ أَمْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ
وَغَيْرِهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ, وَفِيهِ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ
اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا
هُمْ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي
قُيُودِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ
أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ
أَنْ
(7/307)
تَرُدَّهُ
إلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّا لَمْ نَقْضِ
الْكِتَابَ بَعْدُ" , قَالَ: "فَوَاَللَّهِ إذًا لاَ أُصَالِحُكَ عَلَى
شَيْءٍ أَبَدًا" , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"فَأَجِزْهُ لِي" قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ قَالَ: بَلَى
فَافْعَلْ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ, قَالَ مُكَرَّزٌ، هُوَ ابْنُ حَفْصِ بْنِ
الأَحْنَفِ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ فَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ كُلِّهِمْ
وَحَدِيثُ أَبِي جَنْدَلٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَفَّانُ، هُوَ
ابْنُ مُسْلِمٍ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ
قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَطُوا عَلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ
عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. فَقَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَتَكْتُبُ هَذَا قَالَ: نَعَمْ, إنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ
اللَّهُ, وَمِنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا
وَهَذَا خَبَرٌ مِنْهُ عليه السلام مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ نَا اللَّيْثُ، هُوَ
ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ, وَآخَرَ:
يُخْبِرَانِ، عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا حَدِيثَ
الْحُدَيْبِيَةِ, وَفِيهِ: فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إلَى أَبِيهِ
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو, وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ
فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا, وَجَاءَتْ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ, وَجَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ
مِمَّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ وَهِيَ
عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ
يُرْجِعَهَا إلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِيهِنَّ: {إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} الآيَةَ.
(7/308)
934- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْكُفَّارِ فَعَاهَدُوهُ عَلَى الْفِدَاءِ وَأَطْلَقُوهُ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِمْ, وَلاَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا, وَلاَ يَحِلُّ لِلإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الأَنْطِلاَقِ إِلاَّ بِالْفِدَاءِ فَفَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْدُوهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَفِي بِفِدَائِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَإِسَارُ الْمُسْلِمِ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ, وَأَخْذُ الْكَافِرِ أَوْ الظَّالِمِ مَالَهُ فِدَاءً مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ, فَلاَ يَحِلُّ إعْطَاءُ الْبَاطِلِ, وَلاَ الْعَوْنُ عَلَيْهِ, وَتِلْكَ الْعُهُودُ وَالأَيْمَانُ الَّتِي أَعْطَاهُمْ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا, لأََنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهَا, إذْ لاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى الْخَلاَصِ إِلاَّ بِهَا, وَلاَ يَحِلُّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي أَرْضِ الْكُفْرِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ, وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" وَهَكَذَا كُلُّ عَهْدٍ أَعْطَيْنَاهُمْ, حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ مِنْ أَيْدِيهمْ, فَإِنْ عَجَزْنَا، عَنْ اسْتِنْقَاذِهِ إِلاَّ بِالْفِدَاءِ فَفَرْضٌ عَلَيْنَا فِدَاؤُهُ لِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ
(7/308)
"أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَالشَّافِعِيِّ.
(7/309)
935- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ فِدَاءُ الأَسِيرِ الْمُسْلِمِ إِلاَّ إمَّا بِمَالٍ, وَأَمَّا بِأَسِيرٍ كَافِرٍ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُرَدَّ صَغِيرٌ سُبِيَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ إلَيْهِمْ لاَ بِفِدَاءٍ، وَلاَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ; لأََنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْم الإِسْلاَمِ بِمِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ, فَهُوَ وَأَوْلاَدُ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ، وَلاَ فَرْقَ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ.
(7/309)
936- مَسْأَلَةٌ: وَمَا وَهَبَ أَهْلُ الْحَرْبِ لِلْمُسْلِمِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ, أَوْ التَّاجِرِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ حَلاَلٌ, وَهِبَةٌ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَالَ مُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ, وَكَذَلِكَ مَا ابْتَاعَهُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ فَهُوَ ابْتِيَاعٌ صَحِيحٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَالاً لِمُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ; لأََنَّهُمْ مَالِكُونَ لأََمْوَالِهِمْ مَا لَمْ يَنْتَزِعْهَا الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ إلَى أَنْ أَوْرَثَنَا إيَّاهَا, وَالتَّوْرِيثُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالأَخْذِ وَالتَّمَلُّكِ, وَإِلَّا فَلَمْ يُورَثْ بَعْدَمَا لَمْ تَقْدِرْ أَيْدِينَا عَلَيْهِ, وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ لِلْغَانِمِ لَهَا, لاَ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يَغْنَمْهَا.
(7/309)
937-
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَسَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ
الْحَرْبِ, ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ, أَوْ لَمْ يَخْرُجَ, أَوْ خَرَجَ
إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ ثُمَّ أَسْلَمَ, كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَجَمِيعُ مَالِهِ
الَّذِي مَعَهُ فِي أَرْضِ الإِسْلاَمِ; أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ, أَوْ الَّذِي
تَرَكَ وَرَاءَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ عَقَارٍ, أَوْ دَارٍ, أَوْ أَرْضٍ,
أَوْ حَيَوَانٍ, أَوْ نَاضٍّ; أَوْ مَتَاعٍ فِي مَنْزِلِهِ, أَوْ مُودَعًا, أَوْ
كَانَ دَيْنًا: هُوَ كُلُّهُ لَهُ, لاَ حَقَّ لأََحَدٍ فِيهِ, وَلاَ يَمْلِكُهُ
الْمُسْلِمُونَ إنْ غَنِمُوهُ أَوْ افْتَتَحُوا تِلْكَ الأَرْضَ. وَمَنْ غَصَبَهُ
مِنْهَا شَيْئًا مِنْ حَرْبِيٍّ, أَوْ مُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ: رُدَّ إلَى
صَاحِبِهِ وَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ إنْ مَاتَ, وَأَوْلاَدُهُ الصِّغَارُ مُسْلِمُونَ
أَحْرَارٌ وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي بَطْنِ امْرَأَتِهِ. وَأَمَّا امْرَأَتُهُ
وَأَوْلاَدُهُ الْكِبَارُ فَفَيْءٌ إنْ سُبُوا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى نِكَاحِهِ
مَعَهَا, وَهِيَ رَقِيقٌ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ سَهْمَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فَهُوَ بِلاَ شَكٍّ, وَبِلاَ خِلاَفٍ,
وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: مُسْلِمٌ; وَإِذْ هُوَ مُسْلِمٌ, فَهُوَ
كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ"
. فَصَحَّ أَنَّ دَمَهُ, وَبَشَرَتَهُ, وَعِرْضَهُ, وَمَالَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ
أَحَدٍ سِوَاهُ, وَنِكَاحُ أَهْلِ الْكُفْرِ صَحِيحٌ, لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم أَقَرَّهُمْ عَلَى نِكَاحِهِمْ, وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمَا أَقَرَّهُ,
وَمِنْهُ خُلِقَ عليه السلام, وَلَمْ يُخْلَقْ إِلاَّ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ,
فَهُمَا بَاقِيَانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا لاَ يَفْسُدُ شَيْءٌ, وَلاَ غَيْرُهُ
إِلاَّ مَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ بِفَسَادِهِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ
مِنْ الْمُخَالِفِينَ لاَ يُنَازِعُونَنَا فِي أَنَّ دَمَهُ, وَعِرْضَهُ,
وَبَشَرَتَهُ, حَرَامٌ ثُمَّ يَضْطَرِبُونَ فِي أَمْرِ مَالِهِ, وَهَذَا عَجَبٌ
جِدًّا وَقَوْلُنَا هَذَا كُلُّهُ هُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ,
وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة: إنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ
هُنَاكَ حَتَّى تَغَلَّبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ حُرٌّ, وَأَمْوَالُهُ
كُلُّهَا لَهُ, لاَ يُغْنَمُ مِنْهَا شَيْئًا, وَلاَ مِمَّا كَانَ لَهُ وَدِيعَةً
عِنْدَ مُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ,
(7/309)
938- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ الْجَنِينُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَامْرَأَتُهُ حُرَّةٌ لاَ تُسْتَرَقُّ; لأََنَّ الْجَنِينَ حِينَئِذٍ بَعْضُهَا, وَلاَ يُسْتَرَقُّ, لأََنَّهُ جَنِينٌ مُسْلِمٌ. وَمَنْ كَانَ بَعْضُهَا حُرًّا فَهِيَ كُلُّهَا حُرَّةٌ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلاَفِ حُكْمِهَا إذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ قَبْلَ إسْلاَمِ أَبِيهِ لأََنَّهُ حِينَئِذٍ غَيْرُهَا, وَهُوَ رُبَّمَا كَانَ ذَكَرًا وَهِيَ أُنْثَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/311)
939-
مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ وَلَهَا زَوْجٌ كَافِرٌ ذِمِّيٌّ,
أَوْ حَرْبِيٌّ فَحِينَ إسْلاَمِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ
بَعْدَهَا بِطَرْفَةِ عَيْنٍ, أَوْ أَكْثَرَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ. لاَ سَبِيلَ لَهُ
عَلَيْهَا إِلاَّ بِابْتِدَاءِ نِكَاحٍ بِرِضَاهَا وَإِلَّا فَلاَ. فَلَوْ
أَسْلَمَا مَعًا بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, فَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ قَبْلَهَا,
فَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا أَسْلَمَتْ هِيَ, أَمْ
لَمْ تُسْلِمْ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ فَسَاعَةَ إسْلاَمِهِ قَدْ
انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ, أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَأَكْثَرَ.
لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِابْتِدَاءِ نِكَاحٍ بِرِضَاهَا إنْ
أَسْلَمَتْ, وَإِلَّا فَلاَ, سَوَاءٌ حَرْبِيَّيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ كَانَا.
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهم. وَبِهِ يَقُولُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ, وَالْحَكَمُ بْنُ
عُتَيْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَعَدِيُّ
بْنُ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ, وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَقَتَادَةُ,
وَالشَّعْبِيُّ, وَغَيْرُهُمْ. وقال أبو حنيفة: أَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ
الآخَرِ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ الإِسْلاَمَ عَلَى الَّذِي لَمْ
يُسْلِمْ مِنْهُمَا; فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, وَإِنْ أَبَى
فَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْفُرْقَةُ, وَلاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ فِي
ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبَ فَخَرَجَتْ مُسْلِمَةً أَوْ
ذِمِّيَّةً فَسَاعَةَ حُصُولِهَا فِي دَارِ الإِسْلاَمِ يَقَعُ الْفَسْخُ
بَيْنَهُمَا لاَ قَبْلَ ذَلِكَ; فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ
حَاضَتْ ثَلاَثَ حِيَضٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ هُوَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ
وَعَلَيْهَا أَنْ تَبْتَدِئَ ثَلاَثَ حِيَضٍ أُخَرَ عِدَّةً مِنْهُ, وَإِنْ
أَسْلَمَ هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى نِكَاحِهِ مَعَهَا. قَالَ: فَلَوْ
ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ مِنْ وَقْتِهِ. وقال مالك: إنْ
أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُسْلِمْ زَوْجُهَا, فَإِنْ أَسْلَمَ فِي
عِدَّتِهَا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ
عِدَّتُهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. قَالَ: فَلَوْ أَسْلَمَ هُوَ, وَهِيَ غَيْرُ
كِتَابِيَّةٍ عُرِضَ الإِسْلاَمُ عَلَيْهَا, فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَقِيَا عَلَى
نِكَاحِهِمَا, وَإِنْ أَبَتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ سَاعَةَ إبَائِهَا, فَلَوْ
ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ سَاعَتَئِذٍ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ
عَكْسَ قَوْلِ مَالِكٍ إنْ أَسْلَمَ هُوَ وَهِيَ وَثَنِيَّةٌ, فَإِنْ أَسْلَمَتْ
قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ, وَإِلَّا فَبِتَمَامِهَا تَقَعُ
الْفُرْقَةُ, وَإِنْ أَسْلَمَتْ هِيَ وَقْتَ الْفُرْقَةِ فِي الْحِينِ. وَقَالَ
الأَوْزَاعِيُّ, وَاللَّيْثُ, وَالشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ,
وَتُرَاعَى الْعِدَّةُ, فَإِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى تَمَّتْ
الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ, وَأَحَدُ قَوْلِيِّ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
قال أبو محمد: أُمًّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ, لأََنَّهُ لاَ
حُجَّةَ لَهُ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَيَنْبَغِي
لَهُمْ أَنْ يُحَدُّوا وَقْتَ عَرْضِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ
إِلاَّ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ, وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ مِثْلُ تَقْسِيمِهِ
لأََحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ سَوَاءٌ
سَوَاءٌ, وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِمَا كَانَ السُّكُوتُ أَوْلَى بِهِ لَوْ
نَصَحَ نَفْسَهُ, مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(7/312)
[وَرُوِّينَا]
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ، عَنْ مُطَرِّفِ
بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا
أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْيَهُودِيِّ, أَوْ النَّصْرَانِيِّ: كَانَ أَحَقَّ
بِبُضْعِهَا, لأََنَّ لَهُ عَهْدًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ هَانِئَ
بْنَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشَّيْبَانِيُّ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا عِنْدَهُ
أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ عَلَى عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ فَأَقَرَّهُنَّ عُمَرُ عِنْدَهُ قَالَ شُعْبَةُ: قُلْت
لِلْحُكْمِ: عَمَّنْ هَذَا قَالَ: هَذَا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَابْنِ جَعْفَرٍ
غُنْدَرَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ
بْنِ الْمُعْتَمِرِ, وَالْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ وَقَالَ غُنْدَرُ: نَا شُعْبَةُ
نَا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ, ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُغِيرَةُ, وَمَنْصُورٌ,
وَحَمَّادٌ, كُلُّهُمْ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: فِي ذِمِّيَّةٍ أَسْلَمَتْ
تَحْتَ ذِمِّيٍّ, قَالَ: تُقَرُّ عِنْدَهُ وَبِهِ أَفْتَى حَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: يُمْنَعُ
مِنْ وَطْئِهَا فَهَذَا قَوْلٌ. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَوْلٌ آخَرُ: صَحَّ عَنْهُ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ, وَقَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ: أَنَّ نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ
فَخَيَّرَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ, وَإِنْ شَاءَتْ
أَقَامَتْ عَلَيْهِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ،
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ، عَنْ عُمَرَ
بِمِثْلِهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ. وَعَنْ عُمَرَ
أَيْضًا قَوْلٌ ثَالِثٌ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
دَاوُد الطَّائِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ
بِشْرٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مِنْ ابْن أَخٍ لَهُ نَصْرَانِيٍّ
فَرَكِبَ عَوْفُ بْنُ الْقَعْقَاعِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرَهُ
بِذَلِكَ; فَكَتَبَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ: إنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ; وَإِنْ
لَمْ يُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا; فَلَمْ يُسْلِمْ, فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا,
فَتَزَوَّجَهَا عَوْفُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا,
لأََنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ أَلْبَتَّةَ ابْتِدَاءَ عَقْدِ نِكَاحِ مُسْلِمَةٍ
مِنْ كَافِرٍ أَسْلَمَ إثْرَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ.
وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَوْلٌ رَابِعٌ لاَ يَصِحُّ عَنْهُ: رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: أَنْبَأَنِي ابْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي فَرَّقَ
بَيْنَهُمَا عُمَرُ, عُرِضَ عَلَيْهِ الإِسْلاَمُ فَأَبَى.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ
النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيَّ كَانَ نَاكِحًا بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
فَأَسْلَمَتْ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إمَّا أَنْ تُسْلِمَ وَأَمَّا
أَنْ نَنْتَزِعَهَا مِنْك فَأَبَى, فَنَزَعَهَا عُمَرُ مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ مُضَرَ التَّغْلِبِيَّ، عَنْ دَاوُد بْنِ
كُرْدُوسٍ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ أَسْلَمَتْ
امْرَأَتُهُ التَّمِيمِيَّةُ, وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ, فَفَرَّقَ عُمَرُ
بَيْنَهُمَا.
(7/313)
أَبُو
إِسْحَاقَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ وَالسَّفَّاحُ, وَدَاوُد بْنُ كُرْدُوسٍ
مَجْهُولاَنِ. وَكَذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَلْقَمَةَ, وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَوْلٌ آخَرُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي
الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرِينَ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا: هُوَ أَمْلَكُ بِبُضْعِهَا مَا
دَامَتْ فِي دَارِ هِجْرَتِهَا.
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ
طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ
مِنْ مِصْرِهَا. وَقَوْلٌ آخَرُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ
نَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: إنْ
أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ زَوْجُهَا, فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا إِلاَّ أَنْ
يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا سُلْطَانٌ. وَأَمَّا مِنْ رَاعَى عَرْضَ الإِسْلاَمِ
فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدَةُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ
قَالَ: إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبِي أَنْ يُسْلِمَ فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ
بِوَاحِدَةٍ وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ.
قال أبو محمد: لَيْسَ فِي هَذَا بَيَانُ إبَايَتِهِ بَعْدَ إسْلاَمِهَا وَقَدْ
يُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ مَعَهَا. وَأَمَّا مَنْ رَاعَى الْعِدَّةَ فَصَحَّ عَنْ
عَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَأَمَّا قَوْلُنَا
فَمَرْوِيٌّ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كَمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عَلْقَمَةَ أَنَّ جَدَّهُ وَجَدَّتَهُ كَانَا
نَصْرَانِيَّيْنِ فَأَسْلَمَتْ جَدَّتُهُ; فَفَرَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
بَيْنَهُمَا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ, أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ
تُسْلِمُ تَحْتَ الْيَهُودِيِّ, أَوْ النَّصْرَانِيِّ. قَالَ: يُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا, الإِسْلاَمُ يَعْلُو، وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ وَبِهِ يُفْتِي
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَنَا حِلٌّ, وَنِسَاؤُنَا عَلَيْهِمْ حَرَامٌ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِيَّيْنِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا, قَالَ:
قَدْ انْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمَا وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي
نَصْرَانِيَّةٍ أَسْلَمَتْ تَحْتَ نَصْرَانِيٍّ قَالَ: قَدْ فَرَّقَ الإِسْلاَمُ
بَيْنَهُمَا. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ فِي كَافِرَةٍ تُسْلِمُ تَحْتَ كَافِرٍ. قَالُوا: قَدْ فَرَّقَ
الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَعَدِيِّ
بْنِ عَدِيِّ: هَذَا بِعَيْنِهِ أَيْضًا. وَعَنِ الْحَسَنِ, ثَابِتٌ أَيْضًا:
أَيُّهُمَا أَسْلَمَ فَرَّقَ الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنِ
الشَّعْبِيِّ.
قال أبو محمد: أَمَّا جَمِيعُ هَذِهِ الأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَا فَمَا
نَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا تُقَرُّ
عِنْدَهُ وَيُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا; فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا:
نِكَاحُ الْكُفْرِ صَحِيحٌ فَلاَ يَجُوزُ إبْطَالُ نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِغَيْرِ
يَقِينٍ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد
السِّجِسْتَانِيِّ قَالَ: نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ،
وَمُحَمَّدُ
(7/314)
ابْنُ
عَمْرٍو الرَّازِيّ, وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْحُلْوَانِيُّ قَالَ
النُّفَيْلِيُّ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ, وَقَالَ الرَّازِيّ: نَا سَلَمَةُ
بْنُ الْفَضْلِ, وَقَالَ الْحُلْوَانِيُّ: نَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ أَوْ
ابْنُ هَارُونَ أَحَدُهُمَا بِلاَ شَكٍّ, ثُمَّ اتَّفَقَ سَلَمَةُ, وَابْنُ
سَلَمَةَ, وَيَزِيدُ, كُلُّهُمْ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُد بْنِ
الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِالنِّكَاحِ
الأَوَّلِ. زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ. وَزَادَ
سَلَمَةُ: بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ. وَزَادَ يَزِيدُ: بَعْدَ سَنَتَيْنِ. وَقَالُوا:
قَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ كُفَّارِ الْعَرَبِ عَلَى
نِسَائِهِمْ, وَفِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ, وَفِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ
قَبْلَهَا.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرُ مَا ذَكَرنَا, فأما قَوْلُهُمْ: إنَّ
نِكَاحَ أَهْلِ الْكُفْرِ صَحِيحٌ فَلاَ يَجُوزُ فَسْخُهُ بِغَيْرِ يَقِينٍ
فَصَدَقُوا, وَالْيَقِينُ قَدْ جَاءَ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَصَحِيحٌ يَعْنِي حَدِيثَ زَيْنَبَ
مَعَ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنهما، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لأََنَّ
إسْلاَمَ أَبِي الْعَاصِ كَانَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ, وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ
بَعْدُ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْمُشْرِكِ, وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ
بِإِسْلاَمِ الْعَرَبِ فَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى خَبَرٍ صَحِيحٍ بِأَنَّ إسْلاَمَ
رَجُلٍ تَقَدَّمَ إسْلاَمَ امْرَأَتِهِ, أَوْ تَقَدَّمَ إسْلاَمُهَا
فَأَقَرَّهُمَا عليه السلام عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ; فَإِذْ لاَ سَبِيلَ إلَى
هَذَا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لأََنَّهُ إطْلاَقُ الْكَذِبِ, وَالْقَوْلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ
أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ هِنْدَ, وَامْرَأَةَ صَفْوَانَ أَسْلَمَتْ
قَبْلَ صَفْوَانَ قلنا: وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُمَا بَقِيَا عَلَى
نِكَاحِهِمَا وَلَمْ يُجَدِّدَا عَقْدًا وَهَلْ جَاءَ ذَلِكَ قَطُّ بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ مُتَّصِلٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ
فَأَقَرَّهُ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا.
قال أبو محمد: وَهُنَا شَغَبَ الْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ: فأما
الشَّافِعِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِهَذَا كُلِّهِ وَبِحَدِيثِ أَبِي الْعَاصِ وَجَعَلُوا
الْمُرَاعَى فِي ذَلِكَ الْعِدَّةَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَبْكُمْ أَنَّهُ قَدْ
صَحَّ كُلُّ مَا ذَكَرنَا مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْمُرَاعَى فِي أَمْرِ أَبِي
الْعَاصِ, وَأَمْرِ هِنْدَ, وَامْرَأَةِ صَفْوَانَ, وَسَائِرِ مَنْ أَسْلَمَ:
إنَّمَا هُوَ الْعِدَّةُ وَمَنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَذَا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ
هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا ذِكْرُ عِدَّةٍ، وَلاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا أَصْلاً,
وَلاَ عِدَّةَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مِنْ طَلاَقٍ, أَوْ وَفَاةٍ,
وَالْمُعْتَقَةُ تَخْتَارُ نَفْسَهَا, وَلَيْسَتْ الْمُسْلِمَةُ تَحْتَ كَافِرٍ,
وَلاَ الْبَاقِيَةُ عَلَى الْكُفْرِ تَحْتَ الْمُسْلِمِ, وَلاَ الْمُرْتَدَّةُ
وَاحِدَةً مِنْهُنَّ, فَمِنْ أَيْنَ جِئْتُمُونَا بِهَذِهِ الْعِدَّةِ، وَلاَ
سَبِيلَ لَهُمْ إلَى وُجُودِ ذَلِكَ أَبَدًا إِلاَّ بِالدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ;
فَكَيْفَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ زَيْنَبُ فِي أَوَّلِ بَعْثِ أَبِيهَا عليه السلام لاَ
خِلاَفَ فِي ذَلِكَ, ثُمَّ هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ
وَكَانَ بَيْنَ إسْلاَمِهَا وَإِسْلاَمِهِ أَزْيَدُ مِنْ ثَمَانِي
(7/315)
عَشْرَةَ
سَنَةً وَقَدْ وَلَدَتْ فِي خِلاَلِ هَذَا ابْنَهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي الْعَاصِ
فَأَيْنَ الْعِدَّةُ لَوْ عَقَلْتُمْ؟
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنْ مَوَّهُوا بِامْرَأَةِ صَفْوَانَ. عُورِضُوا
بِهَذَا, وَأَبِي سُفْيَانَ, وَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ذُكِّرُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} , فَظُهْر فَسَادُ هَذِهِ
الأَقْوَالِ كُلِّهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآيَةَ
إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} فَهَذَا حُكْمُ
اللَّهِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ, فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
تَعَالَى رُجُوعَ الْمُؤْمِنَةِ إلَى الْكَافِرِ.
وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: الْمُهَاجِرُ مَنْ
هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَكُلُّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ هَجَرَ الْكُفْرَ
الَّذِي قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ مُهَاجِرٌ. وَنَصَّ تَعَالَى عَلَى أَنَّ
نِكَاحَهَا مُبَاحٌ لَنَا. فَصَحَّ انْقِطَاعُ الْعِصْمَةِ بِإِسْلاَمِهَا.
وَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِأَنْ لاَ يُمْسِكَ عِصْمَةً
كَافِرَةً.فَصَحَّ أَنَّ سَاعَةَ يَقَعُ الإِسْلاَمُ, أَوْ الرِّدَّةُ, فَقَدْ
انْقَطَعَتْ عِصْمَةُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ الْكَافِرِ, وَعِصْمَةُ الْكَافِرَةِ
مِنْ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَكَانَا كَافِرَيْنِ, أَوْ
ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ تَخْلِيطٌ,
وَقَوْلٌ فِي الدِّينِ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/316)
940-
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مِمَّا سِوَى الْيَهُودِ,
وَالنَّصَارَى, أَوْ الْمَجُوسِ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, أَوْ قَالَ: مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ, كَانَ بِذَلِكَ مُسْلِمًا تَلْزَمُهُ شَرَائِعُ الإِسْلاَمِ,
فَإِنْ أَبَى الإِسْلاَمَ قُتِلَ. وَأَمَّا مِنْ الْيَهُودِ, وَالنَّصَارَى,
وَالْمَجُوسِ, فَلاَ يَكُونُ مُسْلِمًا بِقَوْلِ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ, إِلاَّ حَتَّى يَقُولَ: وَأَنَا مُسْلِمٌ, أَوْ قَدْ
أَسْلَمْتُ, أَوْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ حَاشَا الإِسْلاَمَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ نَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى نَا ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَمُّ قُلْ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ نَا هُشَيْمٌ نَا حُصَيْنٌ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَخْبَرَنَا أَبُو ظَبْيَانَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ
بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يُحَدِّثُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرُقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ
فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ
فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, فَكَفَّ عَنْهُ
الأَنْصَارِيُّ, وَطَعَنْتُهُ فَقَتَلْتُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ
(7/316)
رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: "يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا
قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا كَانَ
مُتَعَوِّذًا فَقَالَ: "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ
أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ".
قال أبو محمد: فَهَذَا فِي آخِرِ الإِسْلاَمِ, وَحَدِيثُ أَبِي طَالِبٍ فِي
مُعْظَمِ الإِسْلاَمِ بَعْدَ أَعْوَامٍ مِنْهُ, وَقَدْ كَفَّ الأَنْصَارِيُّ كَمَا
تَرَى، عَنْ قَتْلِهِ إذْ قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يَلْزَمْ
أُسَامَةَ قَوَدٌ لأََنَّهُ قَتَلَهُ وَهُوَ يَظُنُّهُ كَافِرًا فَلَيْسَ قَاتِلَ
عَمْدٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ الْحُلْوَانِيُّ نَا أَبُو
تَوْبَةَ هُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ نَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ سَلاَمٍ،
عَنْ زَيْدٍ يَعْنِي أَخَاهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَمٍ قَالَ: نَا أَبُو
أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم حَدَّثَهُ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا
مُحَمَّدُ; فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا, فَقَالَ: لِمَ
تَدْفَعُنِي قُلْتُ: أَلاَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ:
إنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي
ثُمَّ ذَكَر الْحَدِيثَ, وَفِي آخِرِهِ إنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ: [لَقَدْ]
صَدَقْت وَإِنَّك لَنَبِيٌّ, ثُمَّ انْصَرَفَ.
فَفِي هَذَا الْخَبَرِ ضَرَبَ ثَوْبَانُ رضي الله عنه الْيَهُودِيَّ إذْ لَمْ
يَقُلْ: رَسُولَ اللَّهِ, وَلَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَصَحَّ أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ, إذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لاََنْكَرَهُ
عَلَيْهِ وَفِيهِ أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ: إنَّك لَنَبِيٌّ, وَلَمْ
يُلْزِمْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ تَرْكَ دِينِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا أَبُو رَوْحٍ
حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ نَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدٍ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي
يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ, وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" . وَهَذَا كُلُّهُ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
(7/317)
941- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْ يَهُودِيٍّ, وَلاَ نَصْرَانِيٍّ, وَلاَ مَجُوسِيٍّ: جِزْيَةٌ, إِلاَّ بِأَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَيْنَا, وَأَنْ لاَ يَطْعَنُوا فِيهِ, وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ; لِحَدِيثِ ثَوْبَان
(7/317)
الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, قَالَ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ: مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ: إنَّمَا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ إلَيْكُمْ لاَ إلَيْنَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا قُتِلَ.
(7/318)
942 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ: إنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الإِسْلاَمِ بَاطِنًا غَيْرَ الظَّاهِرِ الَّذِي يَعْرِفهُ الأَسْوَدُ وَالأَحْمَرُ, فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ، وَلاَ بُدَّ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} فَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ.
(7/318)
943-
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ عَبْدٍ, أَوْ أَمَةٍ كَانَا لِكَافِرَيْنِ, أَوْ أَحَدِهِمَا
أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ, أَوْ فِي غَيْرِ دَارِ الْحَرْبِ: فَهُمَا
حُرَّانِ, فَلَوْ كَانَا كَذَلِكَ لِذِمِّيٍّ فَأَسْلَمَا: فَهُمَا حُرَّانِ
سَاعَةَ إسْلاَمِهِمَا, وَكَذَلِكَ مُدَبَّرُ الذِّمِّيِّ, أَوْ الْحَرْبِيِّ,
أَوْ مُكَاتَبُهُمَا, أَوْ أُمُّ وَلَدِهِمَا, أَيُّهُمْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ
سَاعَةَ إسْلاَمِهِ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ, أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا, وَلاَ
يَرْجِعُ الَّذِي أَسْلَمَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَعْطَى مِنْهَا قَبْلَ
إسْلاَمِهِ, وَيَرْجِعُ بِمَا أَعْطَى مِنْهَا بَعْدَ إسْلاَمِهِ فَيَأْخُذُهُ
لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى بِهَذَا أَحْكَامَ الدِّينِ
بِلاَ شَكٍّ, وَأَمَّا تَسَلُّطُ الدُّنْيَا بِالظُّلْمِ فَلاَ, وَالرِّقُّ
أَعْظَمُ السَّبِيلِ, وَقَدْ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِسْلاَمِ,
وَنَسْأَلُ مَنْ بَاعَهُمَا عَلَيْهِ: لِمَ تَبِيعُهُمَا أَهُمَا مَمْلُوكَانِ
لَهُ أَمْ غَيْرُ مَمْلُوكَيْنِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا.
فَإِنْ قَالَ: لَيْسَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ صَدَقَ وَهُوَ قَوْلُنَا وَإِذْ لَمْ
يَكُونَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَهُمَا حُرَّانِ, وَإِنْ قَالَ: هُمَا مَمْلُوكَانِ
لَهُ. قلنا: فَلِمَ تُبْطِلُ مِلْكَهُ الَّذِي أَنْتَ تُصَحِّحُهُ بِلاَ نَصٍّ،
وَلاَ إجْمَاعٍ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إقْرَارِك لَهُمَا فِي مِلْكِهِ سَاعَةً, أَوْ
سَاعَتَيْنِ, أَوْ يَوْمًا, أَوْ يَوْمَيْنِ, أَوْ جُمُعَةً, أَوْ جُمُعَتَيْنِ,
أَوْ شَهْرًا, أَوْ شَهْرَيْنِ, أَوْ عَامًا, أَوْ عَامَيْنِ, أَوْ بَاقِيَ
عُمُرِهَا, أَوْ عُمُرِهِ, وَكَيْفَ صَحَّ إقْرَارُك لَهُمَا فِي مِلْكِهِ مُدَّةَ
تَعْرِيضِهِمَا لِلْبَيْعِ وَلَمْ يَصِحَّ, وَلَمْ يَصِحَّ إبْقَاؤُهُمَا فِي
مِلْكِهِ أَكْثَرَ, وَلَعَلَّهُمَا لاَ يَسْتَبِيعَانِ فِي شَهْرٍ; أَوْ أَكْثَرَ,
وَهَلَّا أَقْرَرْتُمُوهُمَا فِي مِلْكِهِ وَحُلْتُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا
كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمُدَبَّرِ, وَأُمِّ الْوَلَدِ, وَالْمُكَاتَبِ إذَا
أَسْلَمُوا وَلَئِنْ كَانَ يَجُوزُ إبْقَاؤُهُمْ فِي مِلْكِهِ إنَّ ذَلِكَ
لَجَائِزٌ فِي الْعَبْدِ, وَلَئِنْ حَرُمَ إبْقَاءُ الْعَبْدِ فِي مِلْكِهِ
لَيَحْرُمُ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ, وَالْمُدَبَّرِ, وَالْمُكَاتَبِ، وَلاَ
فَرْقَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ, وَقَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ
مِرْيَةَ فِيهِ, وَنَسْأَلُهُمْ أَيْضًا، عَنْ كَافِرٍ اشْتَرَى عَبْدًا
مُسْلِمًا, أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً, فَمِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُمْ يَفْسَخُونَ
ذَلِكَ الشِّرَاءَ. فَنَقُولُ لَهُمْ: وَلِمَ فَسَخْتُمُوهُ وَهَلَّا
بِعْتُمُوهُمَا عَلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُونَ إذَا أَسْلَمَ فِي مِلْكِهِ وَمَا
الْفَرْقُ فَإِنْ قَالُوا: لأََنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ تَمَلُّكٍ. قلنا: نَعَمْ,
فَكَانَ مَاذَا، وَلاَ يَخْلُو ابْتِيَاعُهُ لَهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ
تَمَلُّكٍ لِمَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ.
فَإِنْ قَالُوا: بَلْ لِمَا لاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ. قلنا: صَدَقْتُمْ, فَكَيْفَ
أَحْلَلْتُمْ تَمَلُّكَهُ لَهُمَا مُدَّةَ تَعْرِيضِكُمْ
(7/318)
ومن
سى من أهل الحري من الرجال وله زوجة
...
944- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سُبِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الرِّجَالِ وَلَهُ
زَوْجَةٌ, أَوْ مِنْ النِّسَاءِ وَلَهَا زَوْجٌ فَسَوَاءٌ سُبِيَ مَعَهَا, أَوْ
لَمْ يُسْبَ مَعَهَا, وَلاَ سُبِيَتْ مَعَهُ فَهُمَا عَلَى زَوْجِيَّتِهِمَا
فَإِنْ أَسْلَمَتْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حِينَ تُسْلِمْ لِمَا قَدَّمْنَا وَأَمَّا
بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ فَلأََنَّ نِكَاحَ أَهْلِ الشِّرْكَ صَحِيحٌ قَدْ
أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِأَنَّ سِبَاءَهُمَا, أَوْ سَبَاءَ أَحَدِهِمَا يَفْسَخُ نِكَاحَهُمَا.
فإن قيل: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ
إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قلنا: نَعَمْ, إذَا أَسْلَمَتْ حَلَّتْ
لِسَيِّدِهَا الْمُسْلِمِ, وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا
لَكَانَ مَنْ لَهُ أَمَةٌ نَاكِحٌ تَحِلُّ لَهُ; لأََنَّهَا مِلْكُ يَمِينِهِ,
وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ الْحَاضِرُونَ مِنْ خُصُومِنَا. وَقَدْ قَالَ بِهِ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: مَنْ ابْتَاعَ أَمَةً ذَاتَ زَوْجٍ فَبَيْعُهَا
طَلاَقُهَا، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا, لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
(7/322)
945-
مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّ الأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ أَسْلَمَ فَكُلُّ مَنْ لَمْ
يَبْلُغْ مِنْ أَوْلاَدِهِمَا مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا
الأُُمُّ أَسْلَمَتْ أَوْ الأَبُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ,
وَالأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ, وَأَبِي
حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَصْحَابِهِمْ كُلِّهِمْ. وقال مالك, وَأَبُو
سُلَيْمَانَ: لاَ يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ إِلاَّ بِإِسْلاَمِ الأَبِ, لاَ
بِإِسْلاَمِ الأُُمِّ. وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ: لاَ يَكُونُونَ
مُسْلِمِينَ إِلاَّ بِإِسْلاَمِ الأُُمِّ, وَأَمَّا بِإِسْلاَمِ الأَبِ فَلاَ;
لأََنَّهُمْ تَبَعٌ لِلأُُمِّ فِي الْحُرِّيَّةِ, وَالرِّقِّ لاَ لِلأَبِ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ جَعَلَهُمْ بِإِسْلاَمِ الأَبِ خَاصَّةً
مُسْلِمِينَ حُجَّةً أَصْلاً, وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ قَوْلِهِمْ فِي ابْنِ
الْمُسْلِمَةِ مِنْ زِنَا اسْتِكْرَاهٍ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ مُسْلِمٌ
بِإِسْلاَمِهَا وَهَذَا تَرْكٌ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِمْ, وَوَافَقُونَا أَنَّهُ إنْ
أَسْلَمَ الأَبَوَانِ, أَوْ أَحَدُهُمَا, وَلَهُمَا بَنُونَ وَبَنَاتٌ قَدْ
بَلَغُوا مَبْلَغَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ لاَ
يُجْبَرُونَ عَلَى الإِسْلاَمِ وَبِهِ نَقُولُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَالْبَالِغُ مُخَاطَبٌ قَدْ لَزِمَهُ
حُكْمُ الْكُفْرِ أَوْ الذِّمَّةِ, وَلَيْسَ غَيْرُ الْبَالِغِ مُخَاطَبًا كَمَا
قَدَّمْنَا قَالَ مَالِكٌ: نَعَمْ, وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ حَزَوَّرًا قَدْ
قَارَبَ الْبُلُوغَ وَلَمْ يَبْلُغْ فَهُوَ عَلَى دِينِهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ; لأََنَّهُ لَيْسَ بَالِغًا, وَمَا لَمْ
يَكُنْ بَالِغًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغُ لاَ مَنْ بَلَغَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا مَنْ قَاسَ الدِّينَ عَلَى
الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
(7/322)
اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَبْدِيلُ دِينِ الإِسْلاَمِ لأََحَدٍ، وَلاَ
يُتْرَكُ أَحَدٌ يُبَدِّلُهُ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَرْكِهِ
عَلَى تَبْدِيلِهِ فَقَطْ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} , فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي
الدُّنْيَا، وَلاَ فِي الآخِرَةِ دِينٌ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَ دِينِ الإِسْلاَمِ
إِلاَّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَيُقَرَّ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ عَلَى
هَذِهِ الْمِلَّةِ حَتَّى يُبِينَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ
أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى الإِسْلاَمِ حَتَّى يُعَبِّرَ، عَنْ نَفْسِهِ; فَمَنْ أَذِنَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي إقْرَارِهِ عَلَى مُفَارَقَةِ الإِسْلاَمِ الَّذِي وُلِدَ
عَلَيْهِ أَقْرَرْنَاهُ, وَمَنْ لاَ لَمْ نُقِرَّهُ عَلَى غَيْرِ
الإِسْلاَمِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ نا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ،
عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ
وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً
جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ".
قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يُتْرَكُ أَحَدٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الإِسْلاَمِ
إِلاَّ مَنْ اتَّفَقَ أَبَوَاهُ عَلَى تَهْوِيدِهِ, أَوْ تَنْصِيرِهِ, أَوْ
تَمْجِيسِهِ فَقَطْ, فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُمَجِّسْهُ أَبَوَاهُ,
وَلاَ نَصَّرَاهُ, وَلاَ هَوَّدَاهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا وُلِدَ عَلَيْهِ مِنْ
الإِسْلاَمِ، وَلاَ بُدَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ وَهَلَ قَوْمٌ
فِي هَذِهِ الآيَةِ وَهَذِهِ الأَخْبَارِ وَهِيَ بَيِّنَةٌ وَهِيَ الْعَهْدُ
الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْفُسِ حِينَ خَلَقَهَا كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا
بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا، عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ}.
وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ عَطَاءٍ فِي هَذَا. فَمَرَّةً قَالَ كَقَوْلِنَا: إنَّهُ
مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ أَيِّ أَبَوَيْهِ أَسْلَمَ. وَمَرَّةً قَالَ: هُمْ
مُسْلِمُونَ بِإِسْلاَمِ أُمِّهِمْ لاَ بِإِسْلاَمِ أَبِيهِمْ. وَمَرَّةً قَالَ:
أَيُّهُمَا أَسْلَمَ وَرِثَا جَمِيعًا مَنْ مَاتَ مِنْ صِغَارِ وَلَدِهِمَا
وَوَرِثَهُمَا صِغَارُ وَلَدِهِمَا. رُوِّينَا هَذِهِ الأَقْوَالَ كُلَّهَا، عَنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ رُوِّينَا، عَنْ
شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ
أَنَّهُمَا قَالاَ جَمِيعًا فِي الصَّغِيرِ يَكُونُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا
فَيَمُوتُ: إنَّهُ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
مَعْمَرٍ، عَنْ عَمْرٍو وَالْمُغِيرَةِ قَالَ عَمْرٌو: عَنِ الْحَسَنِ, وَقَالَ
الْمُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالاَ جَمِيعًا فِي
نَصْرَانِيَّيْنِ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ صِغَارٌ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا: إنَّ
أَوْلاَهُمَا بِهِمْ الْمُسْلِمُ يَرِثُهُمْ وَيَرِثُونَهُ. وَقَالَ
الأَوْزَاعِيُّ: إنْ أَسْلَمَ جَدُّ الصَّغِيرِ, أَوْ عَمُّهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ
بِإِسْلاَمِ أَيِّهِمَا أَسْلَمَ, وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: الأَمْرُ
(7/323)
فِيمَا مَضَى فِي أَوَّلِينَا الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَلاَ يُشَكُّ فِيهِ وَنَحْنُ عَلَيْهِ الآنَ أَنَّ النَّصْرَانِيِّينَ بَيْنَهَا وَلَدٌ صِغَارٌ فَأَسْلَمَتْ الأُُمُّ وَرِثَتْهُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا بَقِيَ فَلِلْمُسْلِمِينَ, فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ نَصْرَانِيَّيْنِ وَهُوَ صَغِيرٌ وَلَهُ أَخٌ مِنْ أُمٍّ مُسْلِمٍ, أَوْ أُخْتٌ مُسْلِمَةٌ وَرِثَهُ أَخُوهُ, أَوْ أُخْتُهُ كِتَابَ اللَّهِ, ثُمَّ كَانَ مَا بَقِيَ لِلْمُسْلِمِينَ. رُوِّينَا هَذَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ هَذَا لِعَطَاءٍ, وَسُلَيْمَانُ فَقِيهُ أَهْلِ الشَّامِ أَدْرَكَ التَّابِعِينَ الأَكَابِرَ. وَلَسْنَا نَرَاهُ مُسْلِمًا بِإِسْلاَمِ جَدٍّ, وَلاَ عَمٍّ, وَلاَ أَخٍ, وَلاَ أُخْتٍ, إذَا اجْتَمَعَ أَبَوَاهُ عَلَى تَهْوِيدِهِ, أَوْ تَنْصِيرِهِ, أَوْ تَمْجِيسِهِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(7/324)
946- مَسْأَلَةٌ: وَوَلَدُ الْكَافِرَةِ الذِّمِّيَّةِ, أَوْ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ زِنًا, أَوْ إكْرَاهٍ مُسْلِمٌ, وَلاَ بُدَّ; لأََنَّهُ وُلِدَ عَلَى مِلَّةِ الإِسْلاَمِ كَمَا ذَكَرنَا، وَلاَ أَبَوَيْنِ لَهُ يُخْرِجَانِهِ مِنْ الإِسْلاَمِ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقِ.
(7/324)
947
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سُبِيَ مِنْ صِغَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَسَوَاءٌ سُبِيَ مَعَ
أَبَوَيْهِ أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا, أَوْ دُونَهُمَا هُوَ مُسْلِمٌ, وَلاَ بُدَّ;
لأََنَّ حُكْمَ أَبَوَيْهِ قَدْ زَالَ، عَنِ النَّظَرِ لَهُ, وَصَارَ سَيِّدُهُ
أَمْلَكَ بِهِ, فَبَطَلَ إخْرَاجُهُمَا لَهُ، عَنِ الإِسْلاَمِ الَّذِي وُلِدَ
عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا
خَلَّادٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
كَانَ لاَ يَدْعُ يَهُودِيًّا, وَلاَ نَصْرَانِيًّا يُهَوِّدُ وَلَدَهُ, وَلاَ
يُنَصِّرُهُ فِي مِلْكِ الْعَرَبِ وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا, وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ
مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالْمُزَنِيِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/324)
948-
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَجَدَ كَنْزًا مِنْ دَفْنِ كَافِرٍ غَيْرِ ذِمِّيٍّ
جَاهِلِيًّا كَانَ الدَّافِنُ, أَوْ غَيْرَ جَاهِلِيٍّ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ
لَهُ حَلاَلٌ, وَيَقْسِمُ الْخُمُسَ حَيْثُ يُقْسَمُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ, وَلاَ
يُعْطِي لِلسُّلْطَانِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ شَيْئًا إِلاَّ إنْ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ
فَيُعْطِيه الْخُمُسَ فَقَطْ, وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي فَلاَةٍ فِي أَرْضِ
الْعَرَبِ, أَوْ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ, أَوْ أَرْضِ عَنْوَةٍ, أَوْ أَرْضِ صُلْحٍ;
أَوْ فِي دَارِهِ, أَوْ فِي دَارِ مُسْلِمٍ, أَوْ فِي دَارِ ذِمِّيٍّ, أَوْ حَيْثُ
مَا وَجَدَهُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ كَمَا ذَكَرنَا, وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ حُرٌّ, أَوْ
عَبْدٌ, أَوْ امْرَأَةٌ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآيَةَ, وَقَالَ
تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} , وَمَالُ الْكَافِرِ
غَيْرِ الذِّمِّيِّ غَنِيمَةٌ لِمَنْ وَجَدَهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ" وَمِنْ حَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ نَا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهَا: أَصَبْت كَنْزًا
فَرَفَعْته إلَى السُّلْطَانِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "بِفِيك
الْكَثْكَثُ", الْكَثْكَثُ التُّرَابُ
(7/324)
949-
مَسْأَلَةٌ: وَيُقْسَمُ خُمُسُ الرِّكَازِ وَخُمُسُ الْغَنِيمَةِ عَلَى خَمْسَةِ
أَسْهُمٍ: فَسَهْمٌ يَضَعُهُ الإِمَامُ حَيْثُ يَرَى مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ صَلاَحٌ
وَبِرٌّ لِلْمُسْلِمِينَ. وَسَهْمٌ ثَانٍ لِبَنِي هَاشِمٍ, وَالْمُطَّلِبِ بَنِي
عَبْدِ مَنَافٍ, غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ, وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ,
وَصَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ, وَصَالِحُهُمْ وَطَالِحُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلاَ
حَظَّ فِيهِ لِمَوَالِيهِمْ, وَلاَ لِحُلَفَائِهِمْ, وَلاَ لِبَنِي بَنَاتِهِمْ
مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلاَ لأََحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى سِوَاهُمْ, وَلاَ
لِكَافِرٍ مِنْهُمْ. وَسَهْمٌ ثَالِثٌ لِلْيَتَامَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ
أَيْضًا. وَسَهْمٌ رَابِعٌ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَسَهْمٌ خَامِسٌ
لأَبْنِ السَّبِيلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ فَسَّرْنَا الْمَسَاكِينَ,
وَابْنَ السَّبِيلِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَةِ ذَلِكَ
وَالْيَتَامَى هُمْ الَّذِينَ قَدْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ فَقَطْ; فَإِذَا بَلَغُوا
فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ اسْمُ الْيُتْمِ وَخَرَجُوا مِنْ السَّهْمِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} , وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لاَ يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} , فَلاَ يَسَعُ أَحَدًا الْخُرُوجُ، عَنْ
قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا: وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد
نَا مُسَدَّدٌ نَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ
ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ, وَبَنِي الْمُطَّلِبِ, وَتَرَكَ: بَنِي
نَوْفَلٍ, وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ, قَالَ: فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بَنُو هَاشِمٍ لاَ نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي
وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ, فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ
أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا, وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لاَ نَفْتَرِقُ فِي
جَاهِلِيَّةٍ، وَلاَ إسْلاَمٍ, وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ
بَيْنَ أَصَابِعِهِ" وَهَذَا بَيِّنٌ جَلِيٌّ وَإِسْنَادٌ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ.
(7/327)
نا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَرَجٍ
نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ الْعَبْقَسِيُّ الْمَكِّيُّ نَا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ النَّيْسَابُورِيُّ نَا إِسْحَاقُ بْنُ
رَاهْوَيْهِ نَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ نَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام مِثْلَ
الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرنَا, وَفِيهِ قَالَ: فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بَيْنَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ مِنْ الْقَمْحِ وَالتَّمْرِ وَالنَّوَى.
وَهَذَا أَيْضًا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْبَيَانِ, وَهُوَ يُبَيِّنُ
أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ تَعَالَى, وَسَهْمَ رَسُولِهِ وَاحِدٌ, وَهُوَ خُمُسُ
الْخُمُسِ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ
سُفْيَانَ بْنِ جَبْرُونَ نَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ نَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ
بْنِ حَرْبٍ نَا أَبِي نَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ نَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْد بْنِ
مَنْجُوفٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا إلَى خَالِدٍ لِيَقْسِمَ
الْخُمُسَ فَاصْطَفَى عَلِيٌّ مِنْهَا سَبِيَّةً فَأَصْبَحَ يَقْطُرُ رَأْسَهُ,
فَقَالَ خَالِدٌ لِبُرَيْدَةَ: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَ هَذَا الرَّجُلُ قَالَ
بُرَيْدَةَ: وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا, فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَلَمَّا أَخْبَرْتُهُ, قَالَ: "أَتُبْغِضُ عَلِيًّا" قُلْتُ:
نَعَمْ, قَالَ: "فَأَحِبَّهُ, فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ" . وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَفِي غَايَةِ
الْبَيَانِ فِي أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ امْرِئٍ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَحْدُودٌ
مَعْرُوفُ الْقَدْرِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
"قَالَ" أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ
بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَاءَ هُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكَلِّمَانِ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَسَمَ مِنْ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ,
وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَسَمْتَ لأَِخْوَانِنَا بَنِي
الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا, وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ مِنْكَ
وَاحِدَةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ
وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ", قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمْ
لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ, وَلاَ لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ ذَلِكَ الْخُمُسِ كَمَا
قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ, قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ
يَقْسِمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا
كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ يُعْطِيهِمْ مِنْهُ, وَعُثْمَانُ بَعْدَهُ. فَهَذَا إسْنَادٌ فِي
غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْبَيَانِ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِمْ أَبُو
بَكْرٍ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ, فَهُوَ مَا كَانَ
عليه السلام يَعُودُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِ, وَكَانَتْ حَاجَةُ
الْمُسْلِمِينَ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ أَشَدَّ, وَأَمَّا أَنْ يَمْنَعَهُمْ
الْحَقَّ الْمَفْرُوضَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم
لَهُمْ فَيُعِيذُ اللَّهُ تَعَالَى أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه مِنْ ذَلِكَ.
(7/328)
وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ نَا
يَحْيَى أَبِي بُكَيْرٍ نَا أَبُو جَعْفَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الرَّازِيّ قَاضِي الرَّيِّ، عَنْ مُطَرِّفٍ، هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:
وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُمُسَ الْخُمُسِ فَوَضَعْتُهُ
مَوَاضِعَهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَيَاةَ أَبِي بَكْرٍ وَحَيَاةَ
عُمَرَ, فَأَتَى بِمَالٍ فَدَعَانِي فَقَالَ: خُذْهُ فَقُلْتُ: لاَ أُرِيدُهُ,
قَالَ: خُذْهُ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ, قُلْتُ: قَدْ اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ,
فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ ثِقَةٌ رَوَى عَنْهُ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ:
إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى نَجْدَةَ: وَكَتَبْت
تَسْأَلُنِي، عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ; وَإِنَّا زَعَمْنَا أَنَّا هُمْ,
فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا.
فَهَذِهِ الأَخْبَارُ الصِّحَاحُ الْبَيِّنَةُ، وَلاَ يُعَارِضُهَا مَا لاَ
يَصِحُّ, أَوْ مَا مَوَّهَ بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ, وقولنا في هذا
هُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَيْضًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ
زُهَيْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ نَا الْحَكَمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خُمُسُ الْخُمُسِ سَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى,
وَسَهْمُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَيْضًا أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ،
عَنْ هُشَيْمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} , قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ
تَعَالَى, وَخُمُسُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ,
وَيُقْسَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ". وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ
الثَّقَفِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ, فَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ قَاتَلَ
عَلَيْهَا, ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ, فَخُمُسٌ مِنْهَا
لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّسُولِ, وَخُمُسٌ لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم
وَخُمُسٌ لِلْيَتَامَى, وَخُمُسٌ لأَبْنِ السَّبِيلِ, وَخُمُسٌ لِلْمَسَاكِينِ.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ,
وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ,
وَالنَّسَائِيُّ, وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ, وَآخِرُ قَوْلَيْ أَبِي
يُوسُفَ الْقَاضِي الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ:
لِلذَّكَرِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَيْ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ;
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ أَصْلاً وَلَيْسَ مِيرَاثًا فَيُقْسَمُ
كَذَلِكَ, وَإِنَّمَا هِيَ عَطِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى, فَهُمْ فِيهَا
سَوَاءٌ. وقال مالك: يُجْعَلُ الْخُمُسُ كُلُّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ, وَيُعْطَى
أَقْرِبَاءُ
(7/329)
رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا يَرَى الإِمَامُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ
مَحْدُودٌ. قَالَ أَصْبَغُ بْنُ فَرَجٍ: أَقْرِبَاؤُهُ عليه السلام هُمْ جَمِيعُ
قُرَيْشٍ. وقال أبو حنيفة: يُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ:
الْفُقَرَاءِ, وَالْمَسَاكِينِ, وَابْنِ السَّبِيلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لأََنَّهَا خِلاَفُ
الْقُرْآنِ نَصًّا, وَخِلاَفُ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ, وَلاَ يُعْرَفُ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ, وَقَدْ
تَقَصَّيْنَا كُلَّ مَا شَغَبُوا بِهِ فِي كِتَابِ الإِيصَالِ, وَجِمَاعُ كُلِّ
ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ تَأَمَّلَهُ أَنَّهُمْ إنَّمَا احْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ
مَوْضُوعَةٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِيِّ, وَنُظَرَائِهِ, أَوْ مُرْسَلَةٍ, أَوْ
صِحَاحٍ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ أَصْلاً, أَوْ قَوْلٍ، عَنْ
صَاحِبٍ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ، وَلاَ مَزِيدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/330)
950-
مَسْأَلَةٌ: وَتُقْسَمُ الأَرْبَعَةُ الأَخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ بَعْدَ الْخُمُسِ
عَلَى مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ, أَوْ الْغَنِيمَةَ, لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ثَلاَثَةُ
أَسْهُمٍ: لَهُ سَهْمٌ, وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ, وَلِلرَّاجِلِ, وَرَاكِبِ
الْبَغْلِ, وَالْحِمَارِ, وَالْجَمَلِ: سَهْمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ. وَهُوَ قَوْلُ
مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ: لَهُ سَهْمٌ, وَلِفَرَسِهِ سَهْمٌ,
وَلِسَائِرِ مَنْ ذَكَرنَا سَهْمٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ. وقال
أحمد: لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ, وَلِرَاكِبِ الْبَعِيرِ سَهْمَانِ,
وَلِغَيْرِهِمَا سَهْمٌ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً. وَأَمَّا
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا لَهُ بِآثَارٍ ضَعِيفَةٍ. مِنْهَا:
مِنْ طَرِيقِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ بْن جَارِيَةَ
الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ،
عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الأَنْصَارِيِّ وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ,
وَالرَّاجِلِ سَهْمًا. مُجَمِّعٌ مَجْهُولٌ وَأَبُوهُ كَذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ, وَلِلرَّاجِلِ
سَهْمًا. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الَّذِي يَرْوِي، عَنْ نَافِعٍ فِي غَايَةِ
الضَّعْفِ. وَعَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، عَنْ مَكْحُولٍ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ فَضِيحَةٌ مَجْهُولٌ, وَمُرْسَلٌ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنْ
قَالَ: لاَ أُفَضِّلُ بَهِيمَةً عَلَى إنْسَانٍ; فَيُقَالُ لَهُ: وَتُسَاوِي
بَيْنَهُمَا إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ; فَإِذَا جَازَتْ الْمُسَاوَاةُ فَمَا مَنَعَ
التَّفْضِيلَ ثُمَّ هُوَ يُسْهِمُ لِلْفَرَسِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتَلْ عَلَيْهِ,
وَلاَ يُسْهِمُ لِلْمُسْلِمِ التَّاجِرِ, وَلاَ الأَجِيرِ إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلاَ;
فَقَدْ فَضَّلَ بَهِيمَةً عَلَى إنْسَانٍ, ثُمَّ هُوَ يَقُولُ فِي إنْسَانٍ قَتَلَ
كَلْبًا لِمُسْلِمٍ, وَعَبْدًا مُسْلِمًا فَاضِلاً, وَخِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ:
قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ, فَإِنَّهُ يُؤَدِّي
فِي الْكَلْبِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ, وَفِي الْخِنْزِيرِ
(7/330)
ذَلِكَ,
وَلاَ يُعْطِي فِي الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إِلاَّ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ, فَاعْجَبُوا لِهَذَا الرَّأْيِ السَّاقِطِ وَاحْمَدُوا
اللَّهَ تَعَالَى عَلَى السَّلاَمَةِ, فَقَدْ فَضَّلَ الْبَهِيمَةَ عَلَى
الإِنْسَانِ.
قَالُوا: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى السَّهْمَيْنِ. فَقُلْنَا لَهُمْ: إنْ
كُنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِمَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
كَلَّمْنَاكُمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ وَدَعَوَاكُمْ الإِجْمَاعَ هَاهُنَا كَذِبٌ
وَمَا نَدْرِي لَعَلَّ فِيمَنْ أَخْطَأَ كَخَطَئِكُمْ, ثُمَّ مَنْ يَقُولُ: لاَ
يُفَضَّلُ فَارِسٌ عَلَى رَاجِلٍ, كَمَا لاَ يُفَضَّلُ رَاكِبُ الْبَغْلِ عَلَى
الرَّاجِلِ, وَكَمَا لاَ يُفَضَّلُ الشُّجَاعُ الْبَطَلُ الْمُبْلِي, عَلَى
الْجَبَانِ الضَّعِيفِ الْمَرِيضِ. ثُمَّ لَوْ طَرَدْتُمْ أَصْلَكُمْ هَذَا
لَوَجَبَ أَنْ تُسْقِطُوا الزَّكَاةَ، عَنْ كُلِّ مَا أَوْجَبْتُمُوهَا فِيهِ مِنْ
الْعَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَلَبَطَلَ قَوْلُكُمْ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ
لأََنَّهُ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَهَذَا يَهْدِمُ عَلَيْكُمْ
أَكْثَرَ مَذَاهِبِكُمْ.
وَرَوَوْا: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ, مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ، عَنِ الْحَكَمِ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ, وَهُمْ
يَرَوْنَ حُكْمَ عُمَرَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ سُنَّةً, فَهَذَا
يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلُوهُ سُنَّةً أَيْضًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عُبَيْدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ
أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ,
وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا الْحَسَنُ بْنُ
إِسْحَاقَ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ نَا زَائِدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا يَوْمَ خَيْبَرَ. فَهَذَا
هُوَ الَّذِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ لِصِحَّتِهِ, وَلأََنَّهُ لَوْ صَحَّتْ تِلْكَ
الأَخْبَارُ لَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَيْهَا, وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لاَ يَجُوزُ
رَدُّهَا. وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَالْحَسَنِ, وَابْنِ
سِيرِينَ, ذُكِرَ ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ. وَبِهِ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/331)
951-
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ حَضَرَ بِخَيْلٍ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ إِلاَّ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ
فَقَطْ, وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ فَقَطْ. وَقَالَ آخَرُونَ:
يُسْهَمُ لِكُلِّ فَرَسٍ مِنْهَا وَهَذَا لاَ يَقُومُ بِهِ بُرْهَانٌ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِلزُّبَيْرِ
لِفَرَسَيْنِ قلنا: هَذَا مُرْسَلٌ لاَ يَصِحُّ, وَأَصَحُّ حَدِيثٍ فِيهِ هُوَ
الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٍ
لِلزُّبَيْرِ, وَسَهْمِ الْقُرْبَى لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ,
وَسَهْمَيْنِ لِلْفَرَسِ.
(7/331)
ويسهم
للأجير وللتاجر وللعبد وللحر والمريض والصحييح سواء سواء كلهم
...
952- مَسْأَلَةٌ: وَيُسْهَمُ لِلأَجِيرِ, وَلِلتَّاجِرِ, وَلِلْعَبْدِ,
وَلِلْحُرِّ, وَالْمَرِيضِ, وَالصَّحِيحِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ كُلُّهُمْ; لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} وَلِلأَثَرِ
الَّذِي أَوْرَدْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّهُ عليه السلام قَسَمَ لِلْفَارِسِ
ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام حُرًّا
مِنْ عَبْدٍ, وَلاَ أَجِيرًا مِنْ غَيْرِهِ, وَلاَ تَاجِرًا مِنْ سِوَاهُ, فَلاَ
يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِهِ إلَى نَجْدَةَ
تَسْأَلُنِي، عَنِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ, هَلْ
يُقْسَمُ لَهُمَا أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَحْذِيَا
فَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ, وَلاَ
حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَكَمْ قِصَّةٍ
خَالَفُوا فِيهَا ابْنَ عَبَّاسٍ كَقَوْلٍ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ,
وَالصَّرْفِ, وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى, وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: نَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ حَدَّثَنِي عُمَيْرٌ مَوْلَى آبِي
اللَّحْمِ قَالَ شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَاتِي فَكَلَّمُوا فِي رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ السَّيْفَ فَإِذَا أَنَا
أَجُرُّهُ, فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ, فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ
الْمَتَاعِ. فَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ; لأََنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ غَيْرُ
مَشْهُورٍ. وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ فَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَجُرُّ
السَّيْفَ, وَهَذَا صِفَةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ. وَهَكَذَا نَقُولُ: إنَّ مَنْ لَمْ
يَبْلُغْ لاَ يُسْهَمُ لَهُ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ فَضَالَةِ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُمْ
كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ وَفِينَا مَمْلُوكُونَ
فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ, وَهَذَا مُنْقَطِعٌ; لأََنَّهُ إنْ كَانَ ابْنُ أَبِي
لَيْلَى هُوَ مُحَمَّدٌ فَلَمْ يُدْرِكْ فَضَالَةَ;، وَلاَ وُلِدَ إِلاَّ بَعْدَ
مَوْتِهِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ; وَإِنْ كَانَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ فَالثَّوْرِيُّ
لَمْ يُدْرِكْهُ، وَلاَ وُلِدَ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسِنِينَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ
أَخْبَرَنَا عِيسَى أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
عَبَّاسِ اللِّهْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ أَبِي يَقْسِمُ لِلْحُرِّ
وَلِلْعَبْدِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعُ بْنُ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنْ خَالِهِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي قُرَّةَ
قَالَ: قَسَمَ لِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَمَا قَسَمَ لِسَيِّدِي. رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ,
قَالُوا: مَنْ شَهِدَ الْبَأْسَ مِنْ حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ, أَوْ أَجِيرٍ, فَلَهُ
سَهْمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا جَرِيرٌ،
(7/332)
عَنِ
الْمُغِيرَةِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي الْغَنَائِمِ
يَسْبِيهَا الْجَيْشُ قَالَ: إنْ أَعَانَهُمْ التَّاجِرُ, وَالْعَبْدُ: ضُرِبَ
لَهُ بِسِهَامِهِمْ مَعَ الْجَيْشِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَناهُ مُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
قَالَ: إذَا شَهِدَ التَّاجِرُ, وَالْعَبْدُ, قُسِمَ لَهُ, وَقُسِمَ لِلْعَبْدِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا غُنْدَرُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنْ يُسْهَمَ لِلْفَرَسِ, وَهُمْ
أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ, فَهَلاَّ أَسْهَمُوا لِلْعَبْدِ قِيَاسًا عَلَى
ذَلِكَ فَإِنْ ذَكَرُوا فِي الأَجِيرِ خَبَرَيْنِ فِيهِمَا أَنَّ أَجِيرًا
اُسْتُؤْجِرَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ بِثَلاَثَةِ
دَنَانِيرَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عليه السلام سَهْمًا غَيْرَهَا فَلاَ يَصِحَّانِ.
لأََنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ الْحِمْصِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو
سَلَمٍ مَجْهُولٌ, وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا. وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
وَهْبٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو
الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّ يَعْلَى بْنَ مُنَيَّةَ
وَعَاصِمَ بْنَ حَكِيمٍ, وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الدَّيْلَمِيِّ مَجْهُولاَنِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ, وَابْنُ سِيرِينَ وَالأَوْزَاعِيُّ, وَاللَّيْثُ: لاَ يُسْهَمُ
لِلأَجِيرِ.وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يُسْهَمُ لَهُمَا إِلاَّ أَنْ
يُقَاتِلاَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُسْهَمُ لِلتَّاجِرِ وَقَالَ
الْحَسَنُ بْنُ حَيِّ: يُسْهَمُ لِلأَجِيرِ.
(7/333)
953-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُسْهَمُ لأَمْرَأَةٍ, وَلاَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ قَاتَلاَ,
أَوْ لَمْ يُقَاتِلاَ وَيُنْفَلاَنِ دُونَ سَهْمِ رَاجِلٍ;، وَلاَ يَحْضُرُ
مَغَازِي الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ أَصْلاً, وَلاَ
يُنْفَلُ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا ابْنُ قَعْنَبٍ نَا سُلَيْمَانُ، هُوَ ابْنُ
بِلاَلٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى
وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ.
قال أبو محمد: لَوْ بَلَغَ بِالنَّفْلِ لَهَا سَهْمَ رَاجِلٍ لَكَانَ قَدْ
أَسْهَمَ لَهُنَّ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَأَبِي حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَاللَّيْثِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال مالك: لاَ يُرْضَخُ لَهُنَّ وَهَذَا خَطَأٌ, وَخِلاَفُ الأَثَرِ
الْمَذْكُورِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ
سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ نَا رُفَيْعُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ
زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنِي حَشْرَجُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ
أَنَّهَا غَزَتْ مَعَ
(7/333)
رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِتِّ نِسْوَةٍ قَالَتْ: فَأَسْهَمَ لَنَا عليه
السلام كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ. وَهَذَا إسْنَادٌ مُظْلِمٌ, رَافِعٌ,
وَحَشْرَجٌ: مَجْهُولاَنِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: أَسْهَمَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ وَلِلصِّبْيَانِ وَالْخَيْلِ وَهَذَا
مُرْسَلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ نا مُحَمَّدُ بْنُ
رَاشِدٍ، عَنْ مَجْهُولٍ قَالَ: أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْخَيْلِ وَهَذَا أَيْضًا مُرْسَلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو خَالِدِ الأَحْمَرُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ
جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَهْبٍ
الْخَوْلاَنِيِّ قَالَ: قَسَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ النَّاسِ
غَنَائِمَهُمْ فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ دِينَارًا وَجَعَلَ سَهْمَ الرَّجُلِ
وَالْمَرْأَةِ سَوَاءً. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا شُعْبَةُ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ
مُزَاحِمٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَيْحَانَ قَالَ: شَهِدَ مَعَ أَبِي مُوسَى أَرْبَعُ
نِسْوَةٍ مِنْهُنَّ أُمُّ مَجْزَأَةَ بْنِ ثَوْرٍ فَأَسْهَمَ لَهُنَّ أَبُو مُوسَى
الأَشْعَرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ أَهْلَ
الْقِيَاسِ أَنْ يَقُولُوا بِهَذَا لأََنَّهُ إذَا أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ وَهُوَ
بَهِيمَةٌ فَالْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِالسَّهْمِ إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا.
قال أبو محمد: فِعْلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْقَاضِي عَلَى
مَا سِوَاهُ, وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَغَيْرُ مُخَاطَبِينَ, وَأَمَّا النَّفَلُ
لِلصِّبْيَانِ أَيْضًا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَلاَ بَأْسَ, لأََنَّهُ فِي جَمِيعِ
مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ, وَأَمَّا الْكَافِرُ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ
نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْزُو بِالْيَهُودِ فَيُسْهِمُ لَهُمْ
كَسِهَامِ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِّينَاهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ طُرُقٍ كُلِّهَا
صِحَاحٍ عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا الْحَسَنُ بْنُ حَيِّ، عَنِ
الشَّيْبَانِيِّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، هُوَ ابْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ غَزَا بِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ فَرَضَخَ لَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلَتْ الشَّعْبِيَّ، عَنِ
الْمُسْلِمِينَ يَغْزُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَدْرَكْت
الأَئِمَّةَ الْفَقِيهَ مِنْهُمْ وَغَيْرَ الْفَقِيهِ يَغْزُونَ بِأَهْلِ
الذِّمَّةِ فَيَقْسِمُونَ لَهُمْ, وَيَضَعُونَ عَنْهُمْ مِنْ جِزْيَتِهِمْ;
فَذَلِكَ لَهُمْ نَفْلٌ حَسَنٌ وَالشَّعْبِيُّ وُلِدَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ
عَلِيٍّ وَأَدْرَكَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَهُوَ قَوْلُ
الأَوْزَاعِيِّ. وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَنَّهُ يَقْسِمُ لِلْمُشْرِكِ إذَا
حَضَرَ كَسَهْمِ الْمُسْلِمِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ
سُئِلَ، عَنْ أَهْلِ الْعَهْدِ يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: لَهُمْ مَا
صَالَحُوا عَلَيْهِ مَا جُعِلَ لَهُمْ فَهُوَ لَهُمْ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ,
وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يُسْهَمُ لَهُمْ قَالَ أَبُو
سُلَيْمَانَ: وَلاَ يُرْضَخُ لَهُمْ, وَلاَ يُسْتَعَانُ بِهِمْ.
قال أبو محمد: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ,
وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ
بِالْمُرْسَلِ أَنْ يَقُولُوا بِهَذَا, لأََنَّهُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ لاَ
سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّاسَ عَلَى هَذَا, وَلاَ
نَعْلَمُ لِسَعْدٍ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ سَلْمَانُ
بْنُ رَبِيعَةَ يَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ, لَكِنَّ
الْحُجَّةَ فِي هَذَا هُوَ مَا رُوِّينَاهُ
(7/334)
مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ بْنُ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ نَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ، أَنَّهُ قَالَ: "فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لأََحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا" . فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ حَقَّ فِي الْغَنَائِمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
(7/335)
954- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اُضْطُرِرْنَا إلَى الْمُشْرِكِ فِي الدَّلاَلَةِ فِي الطَّرِيقِ اُسْتُؤْجِرَ لِذَلِكَ بِمَالٍ مُسَمًّى مِنْ غَيْرِ الْغَنِيمَةِ. لَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى نَا هِشَامُ، هُوَ ابْنُ يُوسُفَ نَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: "وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ هَادِيًا يَعْنِي بِالطَّرِيقِ".
(7/335)
955-
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَهُ سَلَبُهُ
قَالَ ذَلِكَ الإِمَامُ, أَوْ لَمْ يَقُلْهُ كَيْفَمَا قَتَلَهُ صَبْرًا, أَوْ فِي
الْقِتَالِ، وَلاَ يُخَمَّسُ السَّلَبُ قَلَّ, أَوْ كَثُرَ, وَلاَ يُصَدَّقُ
إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ فِي الْحُكْمِ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ, أَوْ
خَشِيَ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ, أَوْ أَنْ يُخَمَّسَ فَلَهُ أَنْ يُغَيِّبَهُ,
وَيُخْفِيَ أَمْرَهُ. وَالسَّلَبُ: فَرَسُ الْمَقْتُولِ, وَسَرْجُهُ, وَلِجَامُهُ,
وَكُلُّ مَا عَلَيْهِ مِنْ لِبَاسٍ, وَحِلْيَةٍ, وَمَهَامِيزَ وَكُلُّ مَا مَعَهُ
مِنْ سِلاَحٍ, وَكُلُّ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ فِي نِطَاقِهِ أَوْ فِي يَدِهِ, أَوْ
كَيْفَمَا كَانَ مَعَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنِ
ابْنِ أَفْلَحَ هُوَ عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ
مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ قَتَلَ
قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ فِي حَدِيثٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو نُعَيْمٍ نَا أَبُو الْعُمَيْسِ هُوَ
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ،
عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ
أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ" قَالَ سَلَمَةُ: فَقَتَلْتُهُ, فَنَفَلَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَبَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ نَا حَمَّادٌ، هُوَ
ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ
حُنَيْنٍ: "مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ" فَقَتَلَ أَبُو
طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ أَسْلاَبَهُمْ.
(7/335)
956- مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ نَفَّلَ الإِمَامُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْخُمُسِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ مَنْ رَأَى أَنْ يُنَفِّلَهُ مِمَّنْ أَغْنَى، عَنِ الْمُسْلِمِينَ, وَمِمَّنْ مَعَهُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي يَنْتَفِعُ بِهِنَّ أَهْلُ الْجَيْشِ, وَمَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ: فَحَسَنٌ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ أَتَى بِمَغْنَمٍ فِي الدُّخُولِ رُبْعَ مَا سَاقَ بَعْدَ الْخُمُسِ فَأَقَلَّ, أَوْ ثُلُثَ مَا سَاقَ بَعْدَ الْخُمُسِ فَأَقَلَّ, لاَ أَكْثَرَ أَصْلاً: فَحَسَنٌ, لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ السَّرَايَا لأََنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمَةِ عَامَّةِ الْجَيْشِ, وَالْخُمُسُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ كُلُّهُ.
(7/340)
وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ نَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ
نَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْت: أَبَا وَهْبٍ يَقُولُ: سَمِعْت
مَكْحُولاً قَالَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ جَارِيَةَ سَمِعْتُ حَبِيبَ بْنَ
مَسْلَمَةَ يَقُولُ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَلَ الرُّبْعَ
فِي الْبَدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ
مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ مَمْطُورٍ الْحَبَشِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم كَانَ يَنْفُلُ فِي الْبَدَاءَةِ الرُّبْعَ وَفِي الْقُفُولِ الثُّلُثَ
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي
عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ لِي
مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: "لاَ نَفْلَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ الْخُمُسِ" وَقَالَ بِهَذَا
طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ نَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ،
عَنِ الشُّعَبِيِّ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ قَدِمَ عَلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْمِهِ يُرِيدُ الشَّامَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ
لَك أَنْ تَأْتِيَ الْكُوفَةَ وَأُنْفِلُكَ الثُّلُثَ مِنْ بَعْدِ الْخُمْسِ مِنْ
كُلِّ أَرْضٍ وَشَيْءٍ؟
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ
بْنُ مُوسَى قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُنَفِّلُونَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ حَتَّى
إذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ
قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: الْخُمُسُ قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لأََهْلِهِ الَّذِينَ
سَمَّى, فَالنَّفَلُ مِنْهُ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً,
وَهُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ, وَسَائِرُ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ, فَلاَ يَحِلُّ
أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى إخْرَاجَهُ,
أَوْ أَوْجَبَ إخْرَاجَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ إِلاَّ
السَّلَبُ جُمْلَةً لِلْقَاتِلِ, وَتَنْفِيلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرُّبْعِ
فَأَقَلَّ, أَوْ الثُّلُثِ فِي الْقُفُولِ فَأَقَلَّ. وَكَذَلِكَ كَمَا رُوِّينَا،
عَنْ أَنَسٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, لاَ نَفْلَ إِلاَّ بَعْدَ الْخُمْسِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/341)
957- مَسْأَلَةٌ: وَتُقْسَمُ الْغَنَائِمُ كَمَا هِيَ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ تُبَاعُ, لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِبَيْعِهَا, وَتُعَجَّلُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ, وَتُقْسَمُ الأَرْضُ وَتُخَمَّسُ, كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ, وَلاَ فَرْقَ,
(7/341)
فَإِنْ
طَابَتْ نُفُوسُ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ عَلَى تَرْكِهَا أَوْقَفَهَا
الإِمَامُ حِينَئِذٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَلاَ, وَمَنْ أَسْلَمَ نَصِيبَهُ
كَانَ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى حَقِّهِ, لاَ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: تُبَاعُ الْغَنِيمَةُ
وَتُقْسَمُ أَثْمَانُهَا وَتُوقَفُ الأَرْضُ، وَلاَ تُقْسَمُ، وَلاَ تَكُونُ
مِلْكًا لأََحَدٍ. وقال أبو حنيفة: الإِمَامُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَسَّمَهَا
وَإِنْ شَاءَ أَوْقَفَهَا, فَإِنْ أَوْقَفَهَا فَهِيَ مِلْكٌ لِلْكُفَّارِ
الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ, وَلاَ تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ
مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.
قال أبو محمد: يُبَيِّنُ مَا قلنا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَثْمَانِ مَا غَنِمْتُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا مُسَدَّدٌ نَا أَبُو الأَحْوَصِ نَا سَعِيدُ
بْنُ مَسْرُوقِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُمْ أَصَابُوا غَنَائِمَ فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ فَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ. فَصَحَّ
أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا قَسَّمَ أَعْيَانَ الْغَنِيمَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ
حَقَّهُمْ إنَّمَا هُوَ فِيمَا غَنِمُوا, فَبَيْعُ حُقُوقِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
بِغَيْرِ رِضًا مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوَّلِهِمْ، عَنْ آخِرِهِمْ لاَ يَحِلُّ
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . فَإِنْ رَضِيَ الْجَيْشُ كُلُّهُمْ
بِالْبَيْعِ إِلاَّ وَاحِدًا فَلَهُ ذَلِكَ وَيُعْطَى حَقَّهُ مِنْ عَيْنِ
الْغَنِيمَةِ, وَيُبَاعُ إنْ أَرَادَ الْبَيْعَ قَالَ تَعَالَى: {لاَ تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} . وَبِهَذَا جَاءَتْ الآثَارُ فِي حُنَيْنٍ,
وَبَدْرٍ, وَغَيْرِهِمَا, كَقَوْلِ عَلِيٍّ: إنَّهُ وَقَعَ لِي شَارِفٌ مِنْ
الْمَغْنَمِ, وَكَوُقُوعِ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي سَهْمِ ثَابِتِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ, وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ, وَكَذَلِكَ بَعْدَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ, وَقَعَتْ فِي سَهْمِي
يَوْمَ جَلُولاَءَ جَارِيَةٌ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو
الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَكْرَهُ بَيْعَ
الْخُمْسِ حَتَّى يُقْسَمَ, وَلاَ نَعْرِفُ لَهُمْ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ
أَصْلاً.
وَأَمَّا تَعْجِيلُ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ مَطْلَ ذِي الْحَقِّ لِحَقِّهِ ظُلْمٌ,
وَتَعْجِيلَ إعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَرْضٌ, وَالْحَنَفِيُّونَ
يَقُولُونَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَيْشِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ
الإِسْلاَمِ, أَوْ قُتِلَ فِي الْحَرْبِ فَلاَ سَهْمَ لَهُ. قَالَ: فَلَوْ
خَرَجُوا، عَنْ دَارِ الْحَرْبِ فَلَحِقَ بِهِمْ مَدَدٌ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إلَى
دَارِ الإِسْلاَمِ فَحَقُّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَهَذَا ظُلْمٌ لاَ
خَفَاءَ بِهِ, وَقَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ; بَلْ كُلُّ
مَنْ شَهِدَ شَيْئًا مِنْ الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ الْغَنِيمَةِ, أَوْ
شَهِدَ شَيْئًا مِنْ جَمْعِ الْغَنِيمَةِ فَحَقُّهُ فِيهَا يُورَثُ عَنْهُ, وَمَنْ
لَمْ يَشْهَدْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا فَهَلْ سُمِعَ
بِظُلْمٍ أَقْبَحَ مِنْ مَنْعِ مَنْ قَاتَلَ وَغَنِمَ وَإِعْطَاءِ مَنْ لَمْ
يُقَاتِلْ، وَلاَ غَنِمَ وَأَمَّا الأَرْضُ, فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا.
فَرُوِّينَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ, وَبِلاَلاً, وَغَيْرَهُمْ دَعَوْا إلَى
قِسْمَةِ الأَرْضِ, وَأَنَّ عُمَرَ, وَعَلِيًّا, وَمُعَاذًا, وَأَبَا عُبَيْدَةَ,
رَأَوْا إبْقَاءَهَا رَأْيًا مِنْهُمْ, وَإِذْ تَنَازَعُوا فَالْمَرْدُودُ إلَيْهِ
هُوَ مَا افْتَرَضَ
(7/342)
اللَّهُ
تَعَالَى الرَّدَّ إلَيْهِ إذْ يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فَوَجَدْنَا مَنْ قَلَّدَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ يَذْكُرُ مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدٍ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا افْتَتَحْت قَرْيَةَ
إِلاَّ قَسَّمْتهَا كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا:
إقْرَارُ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ
خَيْبَرَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ
ذَلِكَ نَظَرًا لأَخِرِ الْمُسْلِمِينَ, وَاَلَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَنْظَرَ لأََوَّلِ الْمُسْلِمِينَ
وَلأَخِرِهِمْ مِنْ عُمَرَ, فَمَا رَأَى هَذَا الرَّأْيَ; بَلْ أَبْقَى لأَخِرِ
الْمُسْلِمِينَ مَا أَبْقَى لأََوَّلِهِمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فأما
الْغَنِيمَةُ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ, وَأَبْقَى لَهُمْ مَوَارِيثَ مَوْتَاهُمْ,
وَالتِّجَارَةَ, وَالْمَاشِيَةَ, وَالْحَرْثَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ
عُمَرَ الزُّبَيْرُ, وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَحَقُّ بِالأَتِّبَاعِ مِنْ بَعْضٍ;
فَحَتَّى لَوْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَا ظَنُّوهُ بِهِ لَمَا كَانَ
لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, وَلَكَانَ رَأْيًا مِنْهُ غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ, وَهُوَ
مَا أَخْبَرَ بِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ وَعُمَرُ
قَوْلُهُ كَقَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وهذا الخبر مِنْ عُمَرَ يُكَذِّبُ كُلَّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَحَادِيثَ
مَكْذُوبَةٍ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَسِّمْ
خَيْبَرَ كُلَّهَا, فَهُمْ دَأَبًا يَسْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِ قَوْلِ عُمَرَ
نَصْرًا لِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ وَظَنِّهِمْ الْكَاذِبِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لاَ
تُفْتَحُ قَرْيَةٌ إِلاَّ قَسَّمْتهَا كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم خَيْبَرَ, فَهَذَا رُجُوعٌ مِنْ عُمَرَ إلَى الْقِسْمَةِ.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ صَحِيحٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا
وَقَفِيزَهَا, وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا, وَمَنَعَتْ مِصْرُ
إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ. قَالُوا: فَهَذَا هُوَ
الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى الأَرْضِ, وَهُوَ يُوجِبُ إيقَافَهَا".
قال أبو محمد: وَهَذَا تَحْرِيفٌ مِنْهُمْ لِلْخَبَرِ بِالْبَاطِلِ وَادِّعَاءٌ
مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ دَلِيلٍ, وَلاَ يَخْلُو هَذَا
الْخَبَرُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ فَقَطْ, أَوْ قَدْ يَجْمَعُهُمَا جَمِيعًا
بِظَاهِرِ لَفْظِهِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم عَنِ
الْجِزْيَةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلاَدِ إذَا فُتِحَتْ وَهُوَ
قَوْلُنَا لأََنَّ الْجِزْيَةَ بِلاَ شَكٍّ وَاجِبَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلاَ
نَصَّ يُوجِبُ الْخَرَاجَ الَّذِي يَدَّعُونَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ إنْذَارٌ
مِنْهُ عليه السلام بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي آخِرِ الأَمْرِ, وَأَنَّ
الْمُسْلِمِينَ سَيَمْنَعُونَ حُقُوقَهُمْ فِي هَذِهِ الْبِلاَدِ وَيَعُودُونَ
كَمَا بَدَءُوا, وَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ قَدْ ظَهَرَ وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إلَيْهِ رَاجِعُونَ فَعَادَ هَذَا الْخَبَرُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
(7/343)
قال
أبو محمد: فَإِذْ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فَلْنَذْكُرْ الآنَ
الْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ
أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فَسَوَّى تَعَالَى بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ
وَلَمْ يُفَرِّقْ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ مَا صَارَ إلَيْنَا
مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ مَالٍ, أَوْ أَرْضٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَقَالَ
تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} . الآية.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ
الْمُسْنَدِيُّ نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو نَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ
الْفَزَارِيّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنِي ثَوْرٌ، عَنْ سَالِمِ مَوْلَى
ابْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ
فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا, وَلاَ فِضَّةً إنَّمَا غَنِمْنَا الإِبِلَ, وَالْبَقَرَ,
وَالْمَتَاعَ, وَالْحَوَائِطَ. فَصَحَّ أَنَّ الْحَوَائِطَ, وَهِيَ: الضِّيَاعُ,
وَالْبَسَاتِينُ: مَغْنُومَةٌ كَسَائِرِ الْمَتَاعِ فَهِيَ مُخَمَّسَةٌ بِنَصِّ
الْقُرْآنِ, وَالْمُخَمَّسُ مَقْسُومٌ بِلاَ خِلاَفٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ, كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ نَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ نَا أَبُو هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا قَرْيَةٍ
أَتَيْتُمُوهَا, وَأَقَمْتُمْ فِيهَا فَسَهْمُكُمْ فِيهَا, وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ
عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ, ثُمَّ هِيَ
لَكُمْ" وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ لاَ مَحِيصَ عَنْهُ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ, وَخَيْبَرَ.
ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ: أَنَّ مَالِكًا قَلَّدَ هَاهُنَا عُمَرَ, ثُمَّ فِيمَا
ذَكَرْتُمْ وَقْفٌ, فَلَمْ يُخْبِرْ كَيْفَ يَعْمَلُ فِي خَرَاجِهَا, وَأَقَرَّ
أَنَّهُ لاَ يَدْرِي فِعْلَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ, فَهَلْ فِي الأَرْضِ أَعْجَبُ مِنْ
جَهَالَةٍ تُجْعَلُ حُجَّةً وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَ فِي ذَلِكَ
بِرِوَايَةٍ غَيْرِ قَوِيَّةٍ جَاءَتْ، عَنْ عُمَرَ, وَتَرَكَ سَائِرَ مَا رُوِيَ
عَنْهُ, وَتَحَكَّمُوا فِي الْخَطَأِ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَقَدْ تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ
فِي كِتَابِ الإِيصَالِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ
فَكَيْفَ وَالرِّوَايَةُ، عَنْ عُمَرَ الصَّحِيحَةُ هِيَ قَوْلُنَا كَمَا نا أحمد
بن محمد بن الجسور نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ نَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ نَا أَبُو عُبَيْدٍ نَا هُشَيْمٌ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَتْ بَجِيلَةُ رُبْعَ النَّاسِ
يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَجَعَلَ لَهُمْ عُمَرُ رُبْعَ السَّوَادِ فَأَخَذُوا
سَنَتَيْنِ, أَوْ ثَلاَثًا, فَوَفَدَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ إلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَمَعَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, فَقَالَ عُمَرُ: يَا جَرِيرُ
لَوْلاَ أَنِّي قَاسِمٌ مَسْئُولٌ لَكُنْتُمْ عَلَى مَا جُعِلَ لَكُمْ, وَأَرَى
النَّاسَ قَدْ كَثُرُوا فَأَرَى أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ. فَفَعَلَ جَرِيرٌ
ذَلِكَ, فَقَالَتْ أُمُّ كُرْزٍ الْبَجَلِيَّةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ
أَبِي هَلَكَ وَسَهْمُهُ ثَابِتٌ فِي السَّوَادِ وَإِنِّي لَمْ أُسْلِمْ. فَقَالَ
لَهَا عُمَرُ: يَا أُمَّ كُرْزٍ إنَّ قَوْمَك قَدْ صَنَعُوا مَا قَدْ عَلِمْت,
فَقَالَتْ: إنْ كَانُوا صَنَعُوا مَا صَنَعُوا فَإِنِّي لَسْت أُسْلِمُ حَتَّى
تَحْمِلَنِي عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ وَتَمْلاَُ كَفَّيَّ
ذَهَبًا. فَفَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ, فَكَانَتْ الذَّهَبُ نَحْوَ ثَمَانِينَ
دِينَارًا, فَهَذَا أَصَحُّ مَا جَاءَ، عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُنَا,
فَإِنَّهُ لَمْ يُوقِفْ حَتَّى اسْتَطَابَ نُفُوسَ الْغَانِمِينَ وَوَرَثَةَ مَنْ
مَاتَ مِنْهُمْ; وَهَذَا الَّذِي لاَ يَجُوزُ أَنْ
(7/344)
يُظَنَّ
بِعُمَرَ غَيْرُهُ, وَرُبَّ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ مِمَّا قَدْ
ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ تَخْمِيسِهِ السَّلَبَ وَإِمْضَائِهِ سَائِرَهُ
لِلْقَاتِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَمِنْ عَجَائِبِهِمْ إسْقَاطُهُمْ الْجِزْيَةَ،
عَنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
الثَّقَفِيِّ، عَنْ عُمَرَ, وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالاَ: إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ
أَرْضٌ وَضَعْنَا عَنْهُ الْجِزْيَةَ وَأَخَذْنَا مِنْهُ خَرَاجَهَا.
نا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ
أَهْلِ أُلَّيْسٍ أَسْلَمَا فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنْ
يَرْفَعَ الْجِزْيَةَ، عَنْ رُءُوسِهِمَا وَأَنْ يَأْخُذَ الطَّسْقَ مِنْ
أَرْضَيْهِمَا.
نا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ نَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ،
عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ دُهْقَانَةَ مِنْ نَهْرِ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ
فَقَالَ عُمَرُ: ادْفَعُوا إلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ. نَا
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ أَنَّ الرَّفَيْلَ دُهْقَانَ النَّهْرَيْنِ أَسْلَمَ فَفَرَضَ لَهُ
عُمَرُ فِي أَلْفَيْنِ, وَوَضَعَ، عَنْ رَأْسِهِ الْجِزْيَةَ, وَأَلْزَمَهُ خَرَاجَ
أَرْضِهِ. فإن قيل: حَدِيثُ ابْنِ عَوْنٍ مُرْسَلٌ قلنا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَإِذْ
رُوِيَ الْمُرْسَلُ، عَنْ مُعَاذٍ فِي اجْتِهَادِ الرَّأْيِ كَانَ حُجَّةً وَالآنَ
لَيْسَ بِحُجَّةٍ, وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
(7/345)
958-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْ كَافِرٍ إِلاَّ الإِسْلاَمُ, أَوْ السَّيْفُ
الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ حَاشَا أَهْلَ الْكِتَابِ خَاصَّةً,
وَهُمْ الْيَهُودُ, وَالنَّصَارَى, وَالْمَجُوسُ فَقَطْ, فَإِنَّهُمْ إنْ أَعْطُوا
الْجِزْيَةَ أُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ الصَّغَارِ. وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ:
أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ كِتَابِيًّا مِنْ الْعَرَبِ خَاصَّةً فَالإِسْلاَمُ أَوْ
السَّيْفُ. وَأَمَّا الأَعَاجِمُ فَالْكِتَابِيُّ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ, وَيُقَرُّ
جَمِيعَهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ.
قال أبو محمد: هَذَا بَاطِلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} , وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَلَمْ يَخُصَّ
تَعَالَى عَرَبِيًّا مِنْ عَجَمِيٍّ فِي كِلاَ الْحُكْمَيْنِ.
(7/345)
وَصَحَّ
أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجْرٍ; فَصَحَّ أَنَّهُمْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, وَلَوْلاَ ذَلِكَ مَا خَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم كِتَابَ رَبِّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ:
"إنَّمَا أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ ثُمَّ
تُؤَدِّي إلَيْهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ" فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا;
لأََنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ
يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ, وَأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَجَمِ لاَ يُؤَدِّي
الْجِزْيَةَ. فَصَحَّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ, وَأَنَّهُ
عليه السلام إنَّمَا عَنَى بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَعْضَ الْعَجَمِ لاَ كُلَّهُمْ,
وَبَيَّنَ تَعَالَى مَنْ هُمْ, وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَطْ. وَالْعَجَبُ
كُلُّهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِدَاءً} مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَلَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ عليه
السلام: تُؤَدِّي إلَيْكُمْ الْجِزْيَةَ وَلَوْ قَلَبُوا لاََصَابُوا وَهَذَا
تَحَكُّمٌ بِالْبَاطِلِ. وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ.
فَقُلْنَا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَرَبَ الْوَثَنِيِّينَ
يُكْرَهُونَ عَلَى الإِسْلاَمِ, وَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُكْرَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكْرَهَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ
عَلَى الإِسْلاَمِ فَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا
وَإِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نُكْرِهَهُ, وَهُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ خَاصَّةً وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/346)
959-
مَسْأَلَةٌ: وَالصَّغَارُ هُوَ أَنْ يَجْرِيَ حُكْمُ الإِسْلاَمِ عَلَيْهِمْ,
وَأَنْ لاَ يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ, وَلاَ مِمَّا يُحَرَّمُ فِي دِينِ
الإِسْلاَمِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَبَنُو تَغْلِبَ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ, وَيَجْمَعُ الصَّغَارَ شُرُوطُ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَيْهِمْ.
نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّحَّاسِ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الصَّفَّارُ نَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبِيعُ بْنُ
تَغْلِبَ نَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الْعَيْزَارِ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: كَتَبْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه
حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهِ: أَنْ لاَ يُحْدِثُوا
فِي مَدِينَتِهِمْ، وَلاَ مَا حَوْلَهَا دَيْرًا, وَلاَ كَنِيسَةً, وَلاَ
قَلِيَّةً، وَلاَ صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ, وَلاَ يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا,
وَلاَ يَمْنَعُوا كَنَائِسَهُمْ أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
ثَلاَثَ لَيَالٍ يُطْعِمُونَهُمْ, وَلاَ يُؤْوُوا جَاسُوسًا, وَلاَ يَكْتُمُوا
غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يُعَلِّمُوا أَوْلاَدَهُمْ الْقُرْآنَ, وَلاَ
يُظْهِرُوا شِرْكًا, وَلاَ يَمْنَعُوا ذَوِي قَرَابَاتِهِمْ مِنْ الإِسْلاَمِ إنْ
أَرَادُوهُ, وَأَنْ يُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ, وَيَقُومُوا لَهُمْ
(7/346)
مِنْ
مَجَالِسِهِمْ إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ, وَلاَ يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ
فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ: فِي قَلَنْسُوَةٍ, وَلاَ عِمَامَةٍ, وَلاَ
نَعْلَيْنِ, وَلاَ فَرْقِ شَعْرٍ, وَلاَ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِ الْمُسْلِمِينَ,
وَلاَ يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ, لاَ يَرْكَبُوا سُرُجًا, وَلاَ يَتَقَلَّدُوا
سَيْفًا, وَلاَ يَتَّخِذُوا شَيْئًا مِنْ السِّلاَحِ, وَلاَ يَنْقُشُوا
خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ, وَلاَ يَبِيعُوا الْخُمُورَ, وَأَنْ يَجُزُّوا
مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ, وَأَنْ يَلْزَمُوا زِيَّهُمْ حَيْثُمَا كَانُوا, وَأَنْ
يَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ, وَلاَ يُظْهِرُوا صَلِيبًا، وَلاَ
شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ
يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ, وَلاَ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا إِلاَّ ضَرْبًا
خَفِيفًا, وَلاَ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِهِمْ فِي
شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يُخْرِجُوا سَعَانِينَ، وَلاَ
يَرْفَعُوا مَعَ مَوْتَاهُمْ أَصْوَاتَهُمْ, وَلاَ يُظْهِرُوا النِّيرَانَ
مَعَهُمْ, وَلاَ يَشْتَرُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ
الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا شَرَطُوهُ فَلاَ ذِمَّةَ لَهُمْ,
وَقَدْ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ
وَالشِّقَاقِ. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا: أَنْ لاَ يُجَاوِرُونَا بِخِنْزِيرٍ.
قال أبو محمد: وَمِنْ الصَّغَارِ أَنْ لاَ يُؤْذُوا مُسْلِمًا, وَلاَ
يَسْتَخْدِمُوهُ, وَلاَ يَتَوَلَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ
السُّلْطَانِ يَجْرِي لَهُمْ فِيهِ أَمْرٌ عَلَى مُسْلِمٍ.
(7/347)
960-
مَسْأَلَةٌ: وَالْجِزْيَةُ لاَزِمَةٌ لِلْحُرِّ مِنْهُمْ وَالْعَبْدِ,
وَالذَّكَرِ, وَالأُُنْثَى, وَالْفَقِيرِ الْبَاتِّ, وَالْغَنِيِّ الرَّاهِبِ
سَوَاءٌ مِنْ الْبَالِغِينَ خَاصَّةً, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ
الدِّينَ لاَزِمٌ لِلنِّسَاءِ كَلُزُومِهِ لِلرِّجَالِ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنَّهُ فَرَضَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ, عَلَى كُلِّ رَاهِبٍ
دِينَارَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ عُتَقَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وقال مالك: لاَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ,
أَوْ كَافِرٌ. وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: تُؤْخَذُ
الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِ مَالِكٍ حُجَّةً أَصْلاً.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ
كُلِّ مَنْ جَرَتْ علَيْهِ الْمَوَاسِي إِلاَّ النِّسَاءَ قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ
خَالَفْتُمْ هَذَا الْحُكْمَ فَأَسْقَطْتُمُوهَا، عَنِ الْمُعْتَقِينَ,
وَالرُّهْبَانِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ
غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذَا آثَارٌ
مُرْسَلَةٌ وَهِيَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
مَسْرُوقٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ
إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ مِنْ
أَهْلِ الذِّمَّةِ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ.
قال أبو محمد عَلَى هَذَا الإِسْنَادِ عَوَّلُوا فِي أَخْذِ التَّبِيعِ مِنْ
الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ وَالْمُسِنَّةِ
(7/347)
مِنْ
الأَرْبَعِينَ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ خَبَرٌ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ غَيْرَ
حُجَّةٍ فِي غَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: فِي كِتَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: مَنْ كَرِهَ
الإِسْلاَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ, أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ لاَ يُحَوَّلُ، عَنْ
دِينِهِ وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ, أَوْ أُنْثَى, حُرٍّ
أَوْ عَبْدٍ: دِينَارٌ وَافٍ مِنْ قِيمَةِ الْمَعَافِرِ أَوْ عَرَضِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ
مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ:
كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُعَاذٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ:
"فِي الْحَالِمِ, أَوْ الْحَالِمَةِ دِينَارٌ, أَوْ عِدْلُهُ مِنْ
الْمَعَافِرِ".
قال أبو محمد: الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ
أَقْوَى مِنْ الْمُسْنَدِ وَيَأْخُذُونَ بِهِ إذَا وَافَقَهُمْ, فَالْفَرْضُ
عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا هَاهُنَا بِهَا فَلاَ مُرْسَلَ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ
الْمَرَاسِيلِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّمَا مُعَوَّلُنَا عَلَى عُمُومِ الآيَةِ
فَقَطْ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ قلنا:
فَلاَ تَأْخُذُوهَا مِنْ الْمَرْضَى, وَلاَ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ مِنْ بِلاَدِ
الْكُفْرِ لَزِمُوا بُيُوتَهُمْ وَأَسْوَاقَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلُوا مُسْلِمًا.
فَإِنْ قَالُوا: أَوَّلُ الآيَةِ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قلنا: نَعَمْ,
أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ إنْ قَاتَلُونَا حَتَّى يُعْطِيَ جَمِيعُهُمْ
الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ كَمَا فِي نَصِّ الآيَةِ; لأََنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى
أَقْرَبِ مَذْكُورٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ يُقِيمُونَ أَضْعَافَ
الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ مَقَامَ الْجِزْيَةِ, ثُمَّ يَضَعُونَهَا عَلَى
النِّسَاءِ, ثُمَّ يَأْبَوْنَ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ النِّسَاءِ. فَإِنْ
قَالُوا: قَدْ نَهَى عُمَرُ، عَنْ أَخْذِهَا مِنْ النِّسَاءِ قلنا: قَدْ صَحَّ
عَنْ عُمَرَ الأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ
وَأَنْتُمْ تُخَالِفُونَهُ, وَفِي أَلْفِ قَضِيَّةٍ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا
كَثِيرًا, فَلاَ نَدْرِي مَتَى هُوَ عُمَرُ حُجَّةٌ, وَلاَ مَتَى هُوَ لَيْسَ
حُجَّةً فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا كُذِّبُوا, وَلاَ سَبِيلَ إلَى أَنْ يَجِدُوا
نَهْيًا، عَنْ ذَلِكَ، عَنْ غَيْرِ عُمَرَ وَمَسْرُوقٌ أَدْرَكَ مُعَاذًا
وَشَاهَدَ حُكْمَهُ بِالْيَمَنِ, وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
خَاطَبَهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ النِّسَاءِ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ
يُخَالِفَ مُعَاذٌ مَا كَتَبَ إلَيْهِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ نَا الْفُضَيْلُ بْنُ
عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يُقَاتَلُ أَهْلُ الأَوْثَانِ عَلَى
الإِسْلاَمِ, وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ, وَهَذَا عُمُومٌ
لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَهُوَ قَوْلُنَا. وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ:
لاَ تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إِلاَّ مِنْ كِتَابِيٍّ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ:
فَالإِسْلاَمُ, أَوْ الْقَتْلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ.
(7/348)
فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ, وَلاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَبْقَى مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ لاَ يُسْلِمُ, وَلاَ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ, وَلاَ يُقْتَلُ; لأََنَّهُ خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الأُُمَّةِ فِي النِّسَاءِ مُكَلَّفَاتٍ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ وَمُفَارَقَةِ الْكُفْرِ مَا يَلْزَمُ الرِّجَالَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ, فَلاَ يَحِلُّ إبْقَاؤُهُنَّ عَلَى الْكُفْرِ بِغَيْرِ قَتْلٍ، وَلاَ جِزْيَةٍ. وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ بِإِسْنَادِهِ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ, وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, وَيُؤْمِنُوا بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ, إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمَ كُلَّهَا هِيَ عَلَى النِّسَاءِ كَمَا هِيَ عَلَى الرِّجَالِ, وَأَنَّ أَمْوَالَهُنَّ فِي الْكُفْرِ مَغْنُومَةٌ كَأَمْوَالِ الرِّجَالِ; فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُنَّ لاَ يَعْصِمْنَ دِمَاءَهُنَّ وَأَمْوَالَهُنَّ إِلاَّ بِمَا يَعْصِمُ الرِّجَالُ بِهِ أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ, أَوْ الْجِزْيَةِ إنْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَلاَ بُدَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/349)
961-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ السَّفَرُ بِالْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ لاَ فِي
عَسْكَرٍ، وَلاَ فِي غَيْرِ عَسْكَرٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ
يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ
الْعَدُوُّ. وقال مالك: إنْ كَانَ عَسْكَرٌ مَأْمُونٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ, وَقَدْ يُهْزَمُ الْعَسْكَرُ الْمَأْمُونُ, وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُخَصُّ
بِلاَ نَصٍّ.
(7/349)
962-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ التِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ
أَحْكَامُهُمْ تَجْرِي عَلَى التُّجَّارِ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُحْمَلَ إلَيْهِمْ
سِلاَحٌ, وَلاَ خَيْلٌ, وَلاَ شَيْءٌ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَعَطَاءٍ, وَعَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ, وَغَيْرِهِمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا هَنَّادُ بْنُ
السَّرِيِّ نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ
مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ".
قال أبو محمد: مَنْ دَخَلَ إلَيْهِمْ لِغَيْرِ جِهَادٍ, أَوْ رِسَالَةٍ مِنْ
الأَمِيرِ فَإِقَامَةُ سَاعَةٍ إقَامَةٌ,
(7/349)
963-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا غَنِمَ جَيْشٌ, أَوْ
سَرِيَّةٌ شَيْئًا خَيْطًا فَمَا فَوْقَهُ وَأَمَّا الطَّعَامُ فَكُلُّ مَا
أَمْكَنَ حَمْلُهُ فَحَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ مَا اُضْطُرُّوا إلَى
أَكْلِهِ وَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا غَيْرَهُ. وَأَمَّا مَا يُقْدَرُ عَلَى حَمْلِهِ
فَجَائِزٌ إفْسَادُهُ وَأَكْلُهُ, وَإِنْ لَمْ يُضْطَرُّوا إلَيْهِ. وَإِنَّمَا
هَذَا فِيمَا مَلَكُوهُ, وَأَمَّا مَا لَمْ يَمْلِكُوهُ مِنْ صَيْدٍ, أَوْ حَجَرٍ,
أَوْ عَوْدِ شَعْرٍ, أَوْ ثِمَارٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, فَهُوَ كُلُّهُ مُبَاحٌ
كَمَا هُوَ فِي أَرْضِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ فَرْقَ, قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدِ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى
ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ, حَتَّى إذَا
كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى فَبَيْنَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم إذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ; فَقَالَ
النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
كَلًّا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ
خَيْبَرَ مِنْ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ
نَارًا; فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ, أَوْ شِرَاكَيْنِ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "شِرَاكٌ,
أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ وَالطَّعَامُ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِمْ".
فَإِنْ ذَكَر ذَاكِرٌ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ غَنِمَ جَيْشٌ
فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا وَعَسَلاً فَلَمْ
يُؤْخَذْ مِنْهُمْ الْخُمُسُ فَهَذَا عَلَيْهِمْ; لأََنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنْ
كَثُرَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ خُمِّسَ، وَلاَ بُدَّ, وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّ
الآيَةَ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ, وَهِيَ قوله تعالى: وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى. وَحَدِيثُ الْغُلُولِ زَائِدٌ عَلَيْهِ, فَيَخْرُجُ
هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْخُمْسِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ
هَذَا; لأََنَّ الأَخْذَ بِالزَّائِدِ فَرْضٌ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهُ, وَنَحْنُ
عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ الآيَةَ, وَحَدِيثَ الْغُلُولِ غَيْرُ مَنْسُوخَيْنِ
مُذْ نَزَلاَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَيْضًا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا
الْعِنَبَ وَالْعَسَلَ فَنَأْكُلُهُ، وَلاَ نَرْفَعُهُ فَهَذَا بَيِّنٌ وَهُوَ
أَنَّهُ كَانَ لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ; إذْ لَمْ يَرْفَعُوهُ فَأَكْلُهُ خَيْرٌ
مِنْ إفْسَادِهِ, أَوْ تَرْكِهِ, وَهَكَذَا نَقُولُ.
فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ ابْنِ مُغَفَّلٍ فِي جِرَابِ الشَّحْمِ, فَلاَ حُجَّةَ
لَهُمْ فِيهِ لأََنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فَيَقُولُونَ: لاَ يَحِلُّ
أَخْذُ الْجِرَابِ وَإِنَّمَا يَحِلُّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الشَّحْمُ فَقَطْ.
وَهَذَا خَبَرٌ قَدْ رُوِّينَاهُ بِزِيَادَةِ بَيَانٍ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نَا أَحْمَدُ بْنُ
زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ
(7/350)
نَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ, وَمُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالاَ: نَا شُعْبَةُ، عَنْ حَمِيدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِي خَيْبَرَ فَدُلِّيَ إلَيْنَا جِرَابٌ فِيهِ شَحْمٌ فَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَهُ وَنَوَيْنَا أَنْ لاَ نُعْطِيَ أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفِي يَبْتَسِمُ, فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ آخُذَهُ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ لَكَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيُّ نَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إبِلاً وَغَنَمًا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَعَجَّلُوا فَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ, ثُمَّ قَسَّمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ أَكْلَ شَيْءٍ إذْ قَدْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ قَدْ حَضَرَتْ فَيَصِلُ كُلُّ ذِي حَقٍّ إلَى حَقِّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/351)
964- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَغَنِمَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ كَانَ وَحْدَهُ أَوْ فِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِإِذْنِ الإِمَامِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَالْخُمْسُ فِيمَا أُصِيبَ, وَالْبَاقِي لِمَنْ غَنِمَهُ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} , وَقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} . وقال أبو حنيفة: لاَ خُمُسَ إِلاَّ فِيمَا أَصَابَتْهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تِسْعَةٌ فَأَكْثَرُ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لِمُخَالَفَتِهَا الْقُرْآنَ, وَالسُّنَنَ, وَالْمَعْقُولَ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} فَلَمْ يَخُصَّ بِأَمْرِ الإِمَامِ، وَلاَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَوْ أَنَّ إمَامًا نَهَى، عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَوَجَبَتْ مَعْصِيَتُهُ فِي ذَلِكَ, لأََنَّهُ أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ، وَلاَ طَاعَةَ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} وَهَذَا خِطَابٌ مُتَوَجِّهٌ إلَى كُلِّ مُسْلِمٍ, فَكُلُّ أَحَدٍ مَأْمُورٌ بِالْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ, وَقَالَ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} , وَقَالَ تَعَالَى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انْفِرُوا جَمِيعًا} .
(7/351)
965- مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْخُرُوجَ لِلسَّفَرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.
(7/351)
966- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ نَهَارًا فَلاَ يَدْخُلُ إِلاَّ لَيْلاً, وَمَنْ قَدِمَ لَيْلاً فَلاَ يَدْخُلُ إِلاَّ نَهَارًا إِلاَّ لِعُذْرٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ يَسَارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
(7/351)
967- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُقَلَّدَ الإِبِلُ فِي أَعْنَاقِهَا شَيْئًا, وَلاَ أَنْ يُسْتَعْمَلُ الْجَرَسُ فِي الرِّفَاقِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَرْسَلَ عليه السلام رَسُولاً: "لاَ تُبْقِيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةً مِنْ وَتَرٍ, أَوْ قِلاَدَةً إِلاَّ قَطَعْتَ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ نَا زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ نَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ, أَوْ جَرَسٌ" . وَصَحَّ النَّهْيُ، عَنِ الْجَرَسِ، عَنْ عَائِشَةَ, وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْي، عَنْ تَقْلِيدِ أَعْنَاقِ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا أَثَرٌ0
(7/352)
968-
مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ تَحْلِيَةُ السُّيُوفِ, وَالدَّوَاةِ, وَالرُّمْحِ,
وَالْمَهَامِيزِ, وَالسُّرُجِ, وَاللِّجَامِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْفِضَّةِ
وَالْجَوْهَرِ، وَلاَ شَيْءَ مِنْ الذَّهَبِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, قَالَ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا} فَأَبَاحَ لَنَا لِبَاسَ اللُّؤْلُؤِ, وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ
مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} , فَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ حَلاَلٌ إِلاَّ مَا فُصِّلَ
لَنَا تَحْرِيمُهُ وَلَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُ الْفِضَّةِ أَصْلاً إِلاَّ فِي
الآنِيَةِ فَقَطْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسْلِمُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ نَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ نَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ
قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِضَّةً.
قال أبو محمد: فَقَاسَ قَوْمٌ عَلَى السَّيْفِ وَالْخَاتَمِ الْمُصْحَفَ
وَالْمِنْطَقَةَ وَمَنَعُوا مِنْ سَائِرِ ذَلِكَ; فَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدُوا،
وَلاَ النُّصُوصَ اتَّبَعُوا. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ تَحْرِيمِهِمْ
التَّحَلِّي بِالْفِضَّةِ فِي السُّرُجِ وَاللِّجَامِ، وَلاَ نَهْيَ فِي ذَلِكَ
وَإِبَاحَتِهِمْ لِبَاسَ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ, وَقَدْ صَحَّ تَحْرِيمُهُ
جُمْلَة.
(7/352)
969-
مَسْأَلَةٌ: وَالرِّبَاطُ فِي الثُّغُورِ حَسَنٌ, وَلاَ يَحِلُّ الرِّبَاطُ إلَى
مَا لَيْسَ ثَغْرًا كَانَ فِيمَا مَضَى ثَغْرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ بِدْعَةٌ
عَظِيمَةٌ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ بَهْرَامُ الدَّارِمِيُّ نَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ
نَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ
شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ سَمِعْتُ: رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ
صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ, وَإِنَّ مَنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي
كَانَ يَعْمَلُهُ, وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ, وَأَمِنَ مِنْ الْفَتَّانِ".
قال أبو محمد: وَكُلُّ مَوْضِعٍ سِوَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَقَدْ كَانَ ثَغْرًا وَدَارَ حَرْبٍ, وَمَغْزَى جِهَادٍ; فَتَخْصِيصُ مَكَان
مِنْ الأَرْضِ كُلِّهَا بِالْقَصْدِ لأََنَّ الْعَدُوَّ ضَرَبَ فِيهِ دُونَ
سَائِرِ الأَرْضِ كُلِّهَا ضَلاَلٌ, وَحُمْقٌ, وَإِثْمٌ, وَفِتْنَةٌ, وَبِدْعَةٌ.
فَإِنْ كَانَ لِمَسْجِدٍ فِيهِ فَهَذَا أَشَدُّ فِي الضَّلاَلِ لِنَهْيِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّفَرِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ
حَاشَا مَسْجِدَ مَكَّةَ, وَمَسْجِدَهُ بِالْمَدِينَةِ, وَمَسْجِدَ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ. فَإِنْ كَانَ سَاحِلَ بَحْرٍ فَسَاحِلُ الْبَحْرِ كُلِّهِ مِنْ
شَرْقِ الأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا سَوَاءٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ سَاحِلِ بَحْرٍ
وَسَاحِلِ نَهْرٍ فِي الدِّينِ, وَلاَ فَضْلَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ أَثَرُ
نَبِيٍّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ فَالْقَصْدُ إلَيْهِ حَسَنٌ, قَدْ تَبَرَّكَ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَوْضِعِ مُصَلَّاهُ وَاسْتَدْعُوهُ لِيُصَلِّيَ
فِي بُيُوتِهِمْ فِي مَوْضِعٍ يَتَّخِذُونَهُ مُصَلًّى فَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ عليه
السلام.
(7/353)
970- مَسْأَلَةٌ: وَتَعْلِيمُ الرَّمْي عَلَى الْقَوْسِ وَالإِكْثَارُ مِنْهُ فَضْلٌ حَسَنٌ سَوَاءٌ الْعَرَبِيَّةُ وَالْعَجَمِيَّةُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ نَا ابْنُ وَهْبٍ نَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} أَلاَ إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلاَ إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ وَيَكْفِيكُمْ اللَّهُ فَلاَ يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِسَهْمِهِ". وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ, ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى".
(7/353)
971- مَسْأَلَةٌ: وَالْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ, وَالْبِغَالِ, وَالْحَمِيرِ, وَعَلَى الأَقْدَامِ: حَسَنٌ, وَالْمُنَاضَلَةُ
(7/353)
972
- مَسْأَلَةٌ: وَالسَّبَقُ هُوَ أَنْ يُخْرِجَ الأَمِيرُ, أَوْ غَيْرُهُ مَالاً
يَجْعَلُهُ لِمَنْ سَبَقَ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, فَهَذَا حَسَنٌ.
وَيُخْرِجُ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مَالاً فَيَقُولُ
لِصَاحِبِهِ: إنْ سَبَقْتنِي فَهُوَ لَك, وَإِنْ سَبَقْتُك فَلاَ شَيْءَ لَك
عَلَيَّ, وَلاَ شَيْءَ لِي عَلَيْك, فَهَذَا حَسَنٌ. فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ
يَجُوزَانِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ مَالٍ فِي سَبَقٍ
غَيْرِ هَذَا أَصْلاً لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ
يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالاً يَكُونُ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا لَمْ
يَحِلَّ ذَلِكَ أَصْلاً إِلاَّ فِي الْخَيْلِ فَقَطْ. ثُمَّ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ
فِي الْخَيْلِ أَيْضًا إِلاَّ بِأَنْ يُدْخِلاَ مَعَهَا فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ
يُمْكِنُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا, وَيُمْكِنُ أَنْ لاَ يَسْبِقَهُمَا, وَلاَ يُخْرِجُ
هَذَا الْفَارِسُ مَالاً أَصْلاً فَأَيُّ الْمُخْرِجَيْنِ لِلْمَالِ سَبَقَ
أَمْسَكَ مَالَهُ نَفْسَهُ وَأَخَذَ مَا أَخْرَجَ صَاحِبُهُ حَلاَلاً, وَإِنْ
سَبَقَهُمَا الْفَارِسُ الَّذِي أَدْخَلاَ وَهُوَ يُسَمَّى الْمُحَلِّلُ أَخَذَ
الْمَالَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ سُبِقَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَا عَدَا هَذَا
فَحَرَامٌ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى السَّابِقِ إطْعَامُ مَنْ حَضَرَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسَدَّدٌ نَا الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ
نَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ
أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ" يَعْنِي وَهُوَ لاَ يُؤْمِنُ أَنْ
يُسْبَقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ, وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ
أَمِنَ أَنْ يُسْبَقَ فَهُوَ قِمَارٌ.
قال أبو محمد: مَا عَدَا هَذَا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تم كتاب الجهاد بحمد الله وجسن عونه وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(7/354)
كتاب
الأضاحي
باب الأضاحي
الأضحية سنة حسنة وليست فرضاً و من تركها غير راغب عنها فلا حرج عليه في ذلك
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الأَضَاحِيِّ
973- مَسْأَلَةٌ: الأُُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ, وَلَيْسَتْ فَرْضًا, وَمَنْ
تَرَكَهَا غَيْرَ رَاغِبٍ عَنْهَا فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ
ضَحَّى، عَنْ امْرَأَتِهِ, أَوْ وَلَدِهِ, أَوْ أَمَتِهِ فَحَسَنٌ, وَمَنْ لاَ
فَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ إذَا
أَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الْحِجَّةِ أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ مِنْ
أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ, لاَ بِحَلْقٍ, وَلاَ بِقَصٍّ، وَلاَ
بِنُورَةٍ، وَلاَ بِغَيْرِ ذَلِكَ, وَمَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُضَحِّيَ لَمْ
يَلْزَمْهُ ذَلِكَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ
مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ نَا أَبِي نا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو نَا عُمَرُ بْنُ
مُسْلِمٍ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: سَمِعْت أُمَّ سَلَمَةَ
أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَأَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الْحِجَّةِ فَلاَ
يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ, وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى
يُضَحِّيَ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ الْبَلْخِيّ
ثِقَةٌ أَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ،
عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ رَأَى هِلاَلَ ذِي الْحِجَّةِ
فَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ مِنْ
أَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ" . فَقَوْلُهُ عليه السلام: فَأَرَادَ أَنْ
يُضَحِّيَ بُرْهَانٌ بِأَنَّ الأُُضْحِيَّةَ مَرْدُودَةٌ إلَى إرَادَةِ
الْمُسْلِمِ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ فَرْضًا. وقال أبو حنيفة:
الأُُضْحِيَّةُ فَرْضٌ, وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُضَحِّيَ، عَنْ زَوْجَتِهِ
فَجَمَعَ وُجُوهًا مِنْ الْخَطَأِ, أَوَّلُهَا: إيجَابُهَا عَلَيْهِ, ثُمَّ
إيجَابُهَا عَلَى امْرَأَتِهِ; وَإِذْ هِيَ فَرْضٌ فَهِيَ كَالزَّكَاةِ, وَمَا
يَلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُزَكِّيَ، عَنْ امْرَأَتِهِ, وَلاَ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهَا
هَدْيَ مُتْعَةٍ, وَلاَ جَزَاءَ صَيْدٍ, وَلاَ فِدْيَةَ حَلْقِ الرَّأْسِ مِنْ
الأَذَى. ثُمَّ خِلاَفُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَرَادَ أَنْ
يُضَحِّيَ أَنْ لاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ, وَلاَ مِنْ ظُفْرِهِ شَيْئًا كَمَا
ذَكَرْنَا.
(7/355)
فإن
قيل: كَيْفَ لاَ تَكُونُ فَرْضًا وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ فَرْضًا عَلَى مَنْ أَرَادَ
أَنْ يُضَحِّيَ: أَنْ لاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ, وَلاَ مِنْ ظُفْرِهِ إذَا
أَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى يُضَحِّيَ قلنا: نَعَمْ, لأََنَّهُ صلى
الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ, وَلَمْ يَأْمُرْنَا
بِالأُُضْحِيَّةِ, فَلَمْ نَتَعَدَّ مَا حَدَّ, وَكُلُّ سُنَّةٍ لَيْسَتْ فَرْضًا,
فَإِنَّ لَهَا حُدُودًا مَفْرُوضَةً لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِهَا كَمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَتَطَوَّعَ بِصَلاَةٍ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَلَّا يُصَلِّيَهَا إِلاَّ بِوُضُوءٍ,
وَإِلَى الْقِبْلَةِ, إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا, وَأَنْ يَقْرَأَ فِيهَا
وَيَرْكَعَ, وَيَسْجُدَ, وَيَجْلِسَ، وَلاَ بُدَّ, وَكَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصُومَ
فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُهُ الصَّائِمُ وَإِلَّا فَلَيْسَ
صَوْمًا. وَهَكَذَا كُلُّ تَطَوُّعٍ فِي الدِّيَانَةِ, وَالأُُضْحِيَّةُ كَذَلِكَ
إنْ أَدَّاهَا كَمَا أُمِرَ وَإِلَّا فَهِيَ شَاةُ لَحْمٍ وَلَيْسَتْ أُضْحِيَّةً.
فإن قيل: فَقَدْ جَاءَ مَا حَقُّ امْرِئٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ
إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ, وَلَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ عليه السلام
دَلِيلاً عِنْدَكُمْ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ فَرْضًا, بَلْ هِيَ
عِنْدَكُمْ فَرْضٌ قلنا: نَعَمْ, لأََنَّهُ قَدْ جَاءَ نَصٌّ آخَرُ بِإِيجَابِ
الْوَصِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} الآيَةَ فَأَخَذْنَا بِهَذَا وَلَمْ يَأْتِ
نَصٌّ بِإِيجَابِ الأُُضْحِيَّةِ, وَلَوْ جَاءَ لاََخَذْنَا بِهِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا خَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرِ
بْنِ حَرْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ
عَوْنٍ، عَنْ أَبِي رَمْلَةَ، عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ بِعَرَفَةَ: "إنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي
كُلِّ عَامٍ أَضْحَى وَعَتِيرَةً, أَتَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ هِيَ الَّتِي
يُسَمِّيهَا النَّاسُ الرَّجَبِيَّةَ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ مِخْنَفٍ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِعَرَفَةَ:
"عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ أَنْ يَذْبَحُوا فِي كُلِّ رَجَبٍ شَاةً وَفِي
كُلِّ أَضْحَى شَاةً" . وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ نَا
ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ نَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زُرَارَةَ بْنِ
كَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "مَنْ شَاءَ
فَرَّعَ, وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ وَمَنْ شَاءَ عَتَرَ, وَمَنْ شَاءَ لَمْ
يَعْتِرْ, وَفِي الْغَنَمِ أُضْحِيَّتُهَا" . وَمِنْ طَرِيقِ الطَّبَرِيِّ
أَيْضًا: حَدَّثَنِي أَبُو عَاصِمٍ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ نَا
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَحْيَى
حَدَّثَتْنِي أُمِّي، عَنْ أُمِّ بِلاَلٍ الأَسْلَمِيَّةِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَحُّوا بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ" .
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أُمِرْتُ بِالأَضْحَى وَلَمْ تُكْتَبْ" . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ أَنْعُمٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ
عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ غَنْمٍ الأَشْعَرِيِّ،
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَأْمُرُ أَنْ نُضَحِّيَ وَيَأْمُرُ أَنْ نُطْعِمَ مِنْهَا
(7/356)
الْجَارَ
وَالسَّائِلَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا الرَّبِيعُ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالأَضْحَى. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ
عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلْيُضَحِّ" .
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نَا أَبُو يَحْيَى
بْنُ أَبِي مَسَرَّةَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِي نَا عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَانِ بْنُ هُرْمُزٍ الأَعْرَجُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ
فَلاَ يَقْرَبْ مُصَلَّانَا وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ".
أَمَّا حَدِيثُ مِخْنَفٍ فَعَنْ أَبِي رَمْلَةَ الْغَامِدِيِّ, وَحَبِيبِ بْنِ
مِخْنَفٍ وَكِلاَهُمَا مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَارِثِ
فَهُوَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَكِلاَهُمَا مَجْهُولٌ لاَ
يُدْرَى. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ بِلاَلٍ فَفِيهِ أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
يَحْيَى هِيَ مَجْهُولَةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَيَّاشٍ فَفِيهِ جَابِرٌ
الْجُعْفِيُّ وَهُوَ كَذَّابٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ,
وَابْنُ أَنْعُمٍ وَكِلاَهُمَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. وَأَمَّا حَدِيثُ
الْحَسَنِ فَمُرْسَلٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكِلاَ طَرِيقَيْهِ
مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ
فَلَيْسَ مَعْرُوفًا بِالثِّقَةِ فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فِي ذَلِكَ.
وَذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فَقَالُوا:
هُوَ الأُُضْحِيَّةُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ, وَقَالَ
تَعَالَى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ
عَلِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ وَضَعَ الْيَدَ عِنْدَ
النَّحْرِ فِي الصَّلاَةِ, وَلَعَلَّهُ نَحْرُ الْبُدْنِ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ.
كَمَا رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَمَا
نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ قَالَ: إنَّهَا الأَضَاحِيُّ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} وَهَذَا
لاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْفَرْضِ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ النُّسُكَ لَنَا
فَهُوَ فَضْلٌ لاَ فَرْضٌ. وَذَكَرُوا الْخَبَرَ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ
ذَبْحًا, وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ".
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا أَمْرُهُ عليه السلام بِإِعَادَةِ الذَّبْحِ مَنْ ذَبَحَ
قَبْلَ الصَّلاَةِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ لأََنَّهُ أَمْرٌ مِنْهُ عليه السلام, وَلاَ
نَكِرَةَ فِي وُجُودِ أَمْرٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ فَرْضًا وَيَكُونُ الْعِوَضُ
مِنْهُ فَرْضًا فَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا فِيمَنْ تَطَوَّعَ بِيَوْمٍ لَيْسَ
فَرْضًا فَأَفْطَرَ عَمْدًا أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَيْهِ فَرْضٌ. وَيَقُولُونَ
فِيمَنْ حَجَّ تَطَوُّعًا فَأَفْسَدَهُ: أَنَّ قَضَاءَهُ فَرْضٌ, وَإِنَّمَا
يُرَاعِي أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا
وُجِدَ فِيهِ فَهُوَ فَرْضٌ, وَمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ فَلَيْسَ فَرْضًا. وَأَمَّا
قَوْلُهُ عليه السلام: "وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ
اللَّهِ" فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرَ فَرْضٍ صِحَّةُ
الإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ ضَحَّى
(7/357)
بِبَعِيرٍ
فَنَحَرَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضًا أَنْ يَذْبَحَ فَصَحَّ أَنَّهُ أَمْرُ
نَدْبٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ إيجَابَ الأُُضْحِيَّةِ: مُجَاهِدٌ, وَمَكْحُولٌ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: لَمْ يَكُونُوا يُرَخِّصُونَ فِي تَرْكِ الأُُضْحِيَّةِ
إِلاَّ لِحَاجٍّ, أَوْ مُسَافِرٍ. وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ
يَصِحُّ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
أَبِي سُرَيْحَةَ حُذَيْفَةَ بْنَ أُسَيْدَ الْغِفَارِيِّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت
أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ وَمَا يُضَحِّيَانِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو
الْبَدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَدَعَ الأُُضْحِيَّةَ وَإِنِّي
لَمِنْ أَيْسَرِكُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَحْسِبَ النَّاسُ أَنَّهَا حَتْمٌ وَاجِبٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا أَبُو الأَحْوَصِ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ
مُسْلِمٍ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ لِي
بِلاَلٌ: مَا كُنْت أُبَالِي لَوْ ضَحَّيْت بِدِيكٍ, وَلاََنْ آخُذَ ثَمَنَ
الأُُضْحِيَّةِ فَأَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ مُقْتِرٍ فَهُوَ أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَقِيلِ
بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
الأُُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ حُوَيْصٍ
الأَزْدِيُّ قَالَ: ضَلَّتْ أُضْحِيَّتِي قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَهَا فَسَأَلْت ابْنِ
عَبَّاسٍ فَقَالَ: لاَ يَضُرُّك هَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدِينِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَعْطَى
مَوْلًى لَهُ دِرْهَمَيْنِ وَقَالَ: اشْتَرِ بِهِمَا لَحْمًا وَمَنْ لَقِيَك
فَقُلْ: هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قال أبو محمد: لاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الأُُضْحِيَّةَ
وَاجِبَةٌ. وَصَحَّ أَنَّ الأُُضْحِيَّةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَ، أَنَّهُ قَالَ: لاََنْ أَتَصَدَّقَ بِثَلاَثَةِ
دَرَاهِمَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ,
وَعَنْ عَطَاءٍ, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَنْ طَاوُوس, وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ
جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عَلْقَمَةَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ, وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ,
وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ.
(7/358)
974- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجْزِي فِي الأُُضْحِيَّةِ الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا, بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ أَوْ لَمْ تَبْلُغْ, مَشَتْ أَوْ لَمْ تَمْشِ. وَلاَ الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْجَرَبُ مَرَضٌ فَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا لاَ يَبِينُ أَجْزَأَ. وَلاَ تَجْزِي الْعَجْفَاءُ الَّتِي لاَ تُنْقِي، وَلاَ تَجْزِي الَّتِي فِي أُذُنِهَا شَيْءٌ مِنْ النَّقْصِ أَوْ الْقَطْعِ, أَوْ الثَّقْبِ النَّافِذِ, وَلاَ الَّتِي فِي عَيْنِهَا شَيْءٌ مِنْ الْعَيْبِ, أَوْ فِي عَيْنَيْهَا كَذَلِكَ, وَلاَ الْبَتْرَاءُ فِي ذَنَبِهَا. ثُمَّ كُلُّ عَيْبٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهَا تَجْزِي بِهِ الأُُضْحِيَّةُ كَالْخَصْيِ, وَكَسْرِ الْقَرْنِ دَمِيَ, أَوْ لَمْ يَدْمَ
(7/358)
وَالْهَتْمَاءُ
وَالْمَقْطُوعَةُ الأَلْيَةِ, وَغَيْرُ ذَلِكَ لاَ تَحَاشَّ شَيْئًا غَيْرَ مَا
ذَكَرْنَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَيَحْيَى
الْقَطَّانِ, وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ كُلِّهِمْ: نَا شُعْبَةُ
سَمِعْت سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: سَمِعْت عُبَيْدَ بْنَ
فَيْرُوزَ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِي فِي الأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ
عَوَرُهَا, وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا, وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ
ظَلْعُهَا, وَالْكَسِيرُ الَّتِي لاَ تُنْقِي" . قَالَ الْبَرَاءُ: فَمَا
كَرِهْت مِنْهُ فَدَعْهُ, وَلاَ تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: الَّتِي لاَ تُنْقِي هِيَ الَّتِي لاَ شَيْءَ مِنْ الشَّحْمِ
لَهَا, فَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَإِنْ
كَانَتْ عَجْفَاءَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحِيمِ، هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي
زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُُذُنَ وَأَنْ لاَ نُضَحِّيَ
بِمُقَابَلَةٍ, وَلاَ بِمُدَابَرَةٍ, وَلاَ بَتْرَاءَ, وَلاَ خَرْقَاءَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ نَا
زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ نَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ
شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ
الْعَيْنَ, وَالأُُذُنَ, وَلاَ نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ, وَلاَ مُقَابَلَةٍ, وَلاَ
مُدَابَرَةٍ, وَلاَ خَرْقَاءَ, وَلاَ شَرْقَاءَ. قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْت لأََبِي
إِسْحَاقَ: مَا الْمُقَابَلَةُ قَالَ: تَقْطَعُ طَرَفَ الأُُذُنِ, قُلْت: فَمَا
الْمُدَابَرَةُ قَالَ تَقْطَعُ مُؤَخِّرَ الأُُذُنِ, قُلْت فَمَا الشَّرْقَاءُ
قَالَ: تَشُقُّ الأُُذُنَ, قُلْت: فَمَا الْخَرْقَاءُ قَالَ: تَخْرِقُ أُذُنَهَا
السِّمَةُ.
نَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ نَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ نَا عَلِيُّ
بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيّ نَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ نا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ نَا أَبُو كَامِلٍ مُظَفَّرُ بْنُ
مُدْرِكٍ نَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ
شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الأَضَاحِيِّ
قَالَ قَيْسٌ: قُلْت لأََبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْته مِنْ شُرَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي
عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ أَشْوَعَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: نَا عَلِيُّ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ فَارِسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيل الْبُخَارِيِّ
مُؤَلِّفِ الصَّحِيحِ قَالَ شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ الصَّايِدِيُّ: سَمِعَ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَوَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَشْوَعَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ
سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: سَلِيمَةُ
(7/359)
الْعَيْنِ
وَالأُُذُنِ وَسَعِيدُ بْنُ أَشْوَعَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ. فَصَحَّ هَذَا
الْخَبَرُ,.وَبِهِ يَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِهَذَا
وَقَالَ فِي الأُُضْحِيَّةِ: لاَ مُقَابَلَةَ, وَلاَ مُدَابَرَةَ, وَلاَ
شَرْقَاءَ, سَلِيمَةُ الْعَيْنِ وَالأُُذُنِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةٍ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
سَلِيمُ الْعَيْنِ وَالأُُذُنِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
نَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي
الأُُضْحِيَّةِ أَنَّهُ كَرِهَ نَاقِصَ الْخَلْقِ وَالسِّنِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَرِهَ
أَنْ يُضَحَّى بِالأَبْتَرِ.
وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ
يُضَحَّى بِالأَبْتَرِ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُضَحَّى
بِالأَبْتَرِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يُضَحَّى بِالأَبْتَرِ, وَاحْتَجُّوا
بِأَثَرَيْنِ رَدِيئَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ قَرَظَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: اشْتَرَيْتُ كَبْشًا
لأَُضَحِّيَ بِهِ فَعَدَا الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ فَقَطَعَهُ فَسَأَلْتُ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "ضَحِّ بِهِ" , وَالآخَرُ: مِنْ
طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُضَحَّى بِالْبَتْرَاءِ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا.
جَابِرٌ كَذَّابٌ, وَحَجَّاجٌ سَاقِطٌ, وَعَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ رِيحٌ. وَرُوِيَ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءٍ, وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنِ, وَالْحَكَمِ: إجَازَةُ الْبَتْرَاءِ فِي الأُُضْحِيَّةِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَدَّ الْقَطْعَ فِي الأُُذُنِ بِالنِّصْفِ فَأَكْثَرَ.
وَلأََبِي حَنِيفَةَ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: إنْ ذَهَبَ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ
الأُُذُنِ, أَوْ الذَّنَبِ, أَوْ الأَلْيَةِ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ: أَجْزَأَتْ
فِي الأُُضْحِيَّةِ, فَإِنْ ذَهَبَ الثُّلُثُ فَصَاعِدًا لَمْ تُجْزِ. وَالآخَرُ
أَنَّهُ حَدَّ ذَلِكَ بِالنِّصْفِ مَكَانَ الثُّلُثِ. قَالَ: فَإِنْ خُلِقَتْ
بِلاَ أُذُنٍ أَجْزَأَتْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ تُجْزِي. وقال مالك: إنْ كَانَ الْقَرْنُ ذَاهِبًا لاَ
يَدْمَى أَجْزَأَتْ, فَإِنْ كَانَ يَدْمَى لَمْ تُجْزِ, وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ
فِي الْعَرْجَاءِ: إذَا بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ: أَجْزَأَتْ. قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ
أَقْوَالٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا, وَلاَ يُعْرَفُ التَّحْدِيدُ
الْمَذْكُورُ بِالثُّلُثِ, أَوْ النِّصْفِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ
أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ لاَ تَصِحُّ فِي
الْعَرْجَاءِ إذَا بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ. وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ الْمَنْعُ مِنْ
الْعَرْجَاءِ جُمْلَةً. وَيُقَالُ لِمَنْ صَحَّحَ هَذَا: إنَّ الْمَنْسَكَ قَدْ
يَكُونُ عَلَى ذِرَاعٍ وَأَقَلَّ وَيَكُونُ عَلَى فَرْسَخٍ فَأَيَّ ذَلِكَ
تُرَاعُونَ وَرُوِيَ فِي الأَعْضَبِ أَثَرٌ أَنَّهُ لاَ يُجْزِي، وَلاَ يَصِحُّ,
لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ جَرِيِّ بْنِ كُلَيْبٍ, وَلَيْسَ مَشْهُورًا عَمَّنْ لَمْ
يُسَمَّ، عَنْ عَلِيٍّ. وَجَاءَ خَبَرٌ فِي أَنَّهُ لاَ تُجْزِي الْمُسْتَأْصَلَةُ
قَرْنُهَا، وَلاَ يَصِحُّ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُمَيْدٍ الرُّعَيْنِيُّ،
عَنْ أَبِي مُضَرَ وَهُمَا مَجْهُولاَنِ. وَحَدِيثٌ آخَرُ فِي أَنَّهُ لاَ تُجْزِي
الْجَدْعَاءُ، وَلاَ يَصِحُّ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ.
(7/360)
975-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تُجْزِي فِي الأَضَاحِيِّ جَذَعَةٌ، وَلاَ جَذَعٌ أَصْلاً لاَ
مِنْ الضَّأْنِ، وَلاَ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ وَيُجْزِي مَا فَوْقَ الْجَذَعِ,
وَمَا دُونَ الْجَذَعِ, وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ, وَالْمَاعِزِ, وَالظِّبَاءِ,
وَالْبَقَرِ: هُوَ مَا أَتَمَّ عَامًا كَامِلاً وَدَخَلَ فِي الثَّانِي مِنْ
أَعْوَامِهِ, فَلاَ يَزَالُ جَذَعًا حَتَّى يُتِمَّ عَامَيْنِ وَيَدْخُلَ فِي
الثَّالِثِ فَيَكُونُ ثَنِيًّا حِينَئِذٍ. هَكَذَا قَالَ فِي الضَّأْنِ
وَالْمَاعِزِ الْكِسَائِيُّ, وَالأَصْمَعِيُّ, وَأَبُو عُبَيْدٍ, وَهَؤُلاَءِ
عُدُولُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اللُّغَةِ, وَقَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَهُوَ
ثِقَةٌ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ. وَقَالَهُ الْعَدَبَّسُ الْكِلاَبِيُّ, وَأَبُو
فَقْعَسٍ الأَسَدِيُّ, وَهُمَا ثِقَتَانِ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ ذَلِكَ فِي
الْبَقَرِ وَالظِّبَاءِ أَبُو فَقْعَسٍ, وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ. وَالْجَذَعُ مِنْ الإِبِلِ مَا أَكْمَلَ أَرْبَعَ
سِنِينَ وَدَخَلَ فِي الْخَامِسَةِ, فَهُوَ جَذَعٌ إلَى أَنْ يَدْخُلَ
السَّادِسَةَ فَيَكُونُ ثَنِيًّا هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ: إذَا اشْتَرَيْت أُضْحِيَّةً فَاسْتَسْمِنْ فَإِنْ أَكَلْت أَكَلْت
طَيِّبًا, وَإِنْ أَطْعَمْت أَطْعَمْت طَيِّبًا, وَاشْتَرِ ثَنِيًّا فَصَاعِدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ نَا هُبَيْرَةُ بْنُ يَرِيمَ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ: ضَحُّوا بِثَنِيٍّ فَصَاعِدًا, وَسَلِيمِ الْعَيْنِ وَالأُُذُنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَبَلَةَ
بْنِ سُحَيْمٍ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: ضَحُّوا بِثَنِيٍّ فَصَاعِدًا, وَلاَ
تُضَحُّوا بِأَعْوَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: لاَ تُجْزِي إِلاَّ الثَّنِيَّةُ فَصَاعِدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا حُصَيْنٌ، هُوَ ابْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: رَأَيْت هِلاَلَ بْنَ يَسَافٍ يُضَحِّي بِجَذَعٍ مِنْ
الضَّأْنِ فَقُلْت: أَتَفْعَلُ هَذَا فَقَالَ: رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ
(7/361)
يُضَحِّي
بِجَذَعٍ مِنْ الضَّأْنِ. فَهَذَا حُصَيْنٌ قَدْ أَنْكَرَ الْجَذَعَ مِنْ
الضَّأْنِ فِي الأُُضْحِيَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: يُجْزِي مَا دُونَ الْجَذَعِ مِنْ
الإِبِلِ، عَنْ وَاحِدٍ فِي الأُُضْحِيَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يُجْزِي الْحُوَارُ،
عَنْ وَاحِدٍ يَعْنِي الأُُضْحِيَّةَ وَالْحُوَارُ هُوَ وَلَدُ النَّاقَةِ سَاعَةَ
تَلِدُهُ.
وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا هَذَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ
خَالَهُ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ,
وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ قَالَ: هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ، وَلاَ
تُجْزِي جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ زُبَيْدِ
بْنِ الْحَارِثِ الْيَامِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ
قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ
مُسِنَّتَيْنِ قَالَ: "اذْبَحْهَا وَلَنْ تُجْزِيَ، عَنْ أَحَدٍ
بَعْدَكَ". وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْبَرَاءَ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ أَيْضًا.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ،
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَقَطَعَ عليه السلام أَنْ لاَ تُجْزِيَ جَذَعَةٌ،
عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ, فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ تَخْصِيصُ نَوْعٍ
دُونَ نَوْعٍ بِذَلِكَ; وَلَوْ أَنَّ مَا دُونَ الْجَذَعَةِ لاَ يُجْزِي
لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُورُ بِالْبَيَانِ مِنْ
رَبِّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ فَقَالَ: إنَّ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ
هَذَا قَدْ رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ
الْبَرَاءِ فَقَالَ فِيهِ إنَّ عِنْدِي عَنَاقًا جَذَعَةً فَهَلْ تُجْزِي عَنِّي
قَالَ: نَعَمْ, وَلَنْ تُجْزِيَ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. قلنا: نَعَمْ,
وَالْعَنَاقُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الضَّانِيَةِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمَاعِزَةِ،
وَلاَ فَرْقَ. وَقَالَ الْعَدَبَّسُ الْكِلاَبِيُّ, وَأَبُو فَقْعَسٍ الأَسَدِيُّ,
وَكِلاَهُمَا مِمَّا نَقَلَ الأَئِمَّةُ عَنْهُمَا اللُّغَةَ: الْجَفْرُ,
وَالْعَنَاقُ, وَالْجَدْيُ, مِنْ أَوْلاَدِ الْمَاعِزِ إذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ, وَكَذَلِكَ مِنْ أَوْلاَدِ الضَّأْنِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ مُطَرِّفَ بْنَ طَرِيفٍ رَوَاهُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ
الْبَرَاءِ فَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ
عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعْزِ, قَالَ: "اذْبَحْهَا، وَلاَ
تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ" . قلنا: نَعَمْ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ هَذَا كُلَّهُ
خَبَرٌ وَاحِدٌ، عَنْ قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ, فَرِوَايَةُ مَنْ
رَوَى، عَنِ الْبَرَاءِ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُجْزِي
جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" هِيَ الزَّائِدَةُ مَا لَمْ يَرْوِهِ مَنْ
لَمْ يَرْوِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ, وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ خَبَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ
وَحُكْمٌ وَارِدٌ لاَ يَسَعُ أَحَدًا
(7/362)
تَرْكُهُ.
وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بِرِوَايَةِ مُطَرِّفٍ هَذَا مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ
الْجَذَعِ إِلاَّ مِنْ الْمَاعِزِ فَقَطْ, وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ الْجِذَاعِ
كُلِّهَا مِمَّا عَدَا الضَّأْنِ فَلاَ حُجَّةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا
الْخَبَرِ, بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. كَمَا
أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ قَدْ رَوَاهُ زَكَرِيَّا، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: إنَّ عِنْدِي شَاةً خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ قَالَ: "ضَحِّ
بِهَا فَإِنَّهَا خَيْرُ نَسِيكَةٍ" وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا لاَ تُجْزِي،
عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. وَكَذَلِكَ رِوَايَتُنَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ
الْقَائِلَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي جَذَعَةٌ هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
شَاتَيْ لَحْمٍ أَفَأَذْبَحُهَا فَرَخَّصَ لَهُ. قَالَ أَنَسٌ: فَلاَ أَدْرِي
أَبْلَغَتْ رُخْصَةٌ مِنْ سِوَاهُ أَمْ لاَ فَلَمْ يَجْعَلْ الْمُخَالِفُونَ
سُكُوتَ زَكَرِيَّا عَمَّا زَادَهُ غَيْرُهُ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ خُصُوصٌ, وَلاَ
سُكُوتَ أَنَسٍ، عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا وَمَغِيبُ ذَلِكَ عَنْهُ حُجَّةٌ فِي رَدِّ
الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُهُمَا فَمَا الَّذِي جَعَلَ هَذِهِ
الزِّيَادَةَ وَاجِبًا أَخْذُهَا, وَزِيَادَةُ مَنْ زَادَ لَفْظَةَ
"الْجَذَعَةِ" لاَ يَجِبُ أَخْذُهَا إنَّ هَذَا لَتَحَكُّمٌ فِي
الدِّينِ بِالْبَاطِلِ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا.
قال أبو محمد: وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ يُمْكِنُ أَنْ يُشْغَبَ بِهِ, وَهُوَ مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ نَا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ قَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى
بَعِيرِهِ وَقَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا" وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: "أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ"
قَالُوا: بَلَى ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ ثُمَّ انْكَفَأَ إلَى كَبْشَيْنِ
أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا وَإِلَى جَذِيعَةٍ مِنْ الْغَنَمِ فَقَسَّمَهَا
بَيْنَنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ إيَّاهَا لِيُضَحُّوا بِهَا,
وَلاَ أَنَّهُمْ ضَحَّوْا بِهَا وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَسَّمَهَا
بَيْنَهُمْ, وَالْكَذِبُ لاَ يَحِلُّ. وَأَيْضًا فَاسْمُ الْغَنَمِ يَقَعُ عَلَى
الْمَاعِزِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الضَّأْنِ, فَإِنْ كَانَ حُجَّةً لَهُمْ فِي
إبَاحَةِ التَّضْحِيَةِ بِالْجِذَاعِ مِنْ الضَّأْنِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي إبَاحَةِ
التَّضْحِيَةِ بِالْجِذَاعِ مِنْ الْمَعْزِ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي
إبَاحَةِ التَّضْحِيَةِ بِالْجِذَاعِ مِنْ الْمَاعِزِ فَلَيْسَ حُجَّةً فِي
إبَاحَةِ التَّضْحِيَةِ بِجِذَاعِ الضَّأْنِ, وَالنَّهْيُ قَدْ صَحَّ عَامًّا فِي
أَنْ لَا تُجْزِئَ جَذَعَةٌ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ.
وَخَبَرٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ أَيْضًا وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ نَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَا أَبُو الزُّبَيْرِ
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا
تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً إلَّا أَنْ تَعَسَّرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا
جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ
لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ
(7/363)
مَعَ
وُجُودِ الْمُسِنَّاتِ فَقَدْ خَالَفُوهُ وَهُمْ يُصَحِّحُونَهُ, وَأَمَّا نَحْنُ
فَلَا نُصَحِّحُهُ, لِأَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ مُدَلِّسٌ مَا لَمْ يَقُلْ فِي
الْخَبَرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ, هُوَ أَقَرَّ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ,
رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَكَانَ خَبَرُ الْبَرَاءِ نَاسِخًا لَهُ; لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم: "لَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" خَبَرٌ قَاطِعٌ
ثَابِتٌ مَا دَامَتْ الدُّنْيَا, نَاسِخٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ لَا يَجُوزُ
نَسْخُهُ, لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ كَذِبًا, وَلَا يَنْسُبُ الْكَذِبَ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا كَافِرٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْجِذَاعَ مِنْ الضَّأْنِ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ
عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ:
ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجِذَاعٍ مِنْ الضَّأْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ؟
فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ. وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ بِلَالٍ
الْأَسْلَمِيَّةِ شَهِدَ أَبُوهَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَحُّوا
بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ ابْنِ النُّعَيْمَانِ عَنْ
بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ جَذَعَيْنِ وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِكَبْشَيْنِ جَذَعَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ
عَنْ كِدَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي كِبَاشٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
قَالَ لَهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نِعْمَ,
أَوْ نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ" . وَمِنْ طَرِيقِ
هِشَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا مُحَمَّدُ
إنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ السَّيِّد مِنْ الْمَعْزِ وَذَكَرَ
بَاقِيَ الْخَبَرِ. مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ
عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنَ رَافِعٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: "يَا مُحَمَّدُ إنَّ
الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ الْمُسِنِّ مِنْ الْمَعْزِ" وَذَكَرَ
بَاقِيَ الْخَبَرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ مُسْهِرٍ عَنْ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ جَذَعَيْنِ. وَمِنْ
طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "فَضَحُّوا بِالْجَذَعَةِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيَّةِ
مِنْ الْمَعْزِ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآثَارِ إلَّا قَلِيلُ الْعِلْمِ
بِوَهْيِهَا فَيُعْذَرُ, أَوْ قَلِيلُ الدِّينِ يَحْتَجُّ بِالْأَبَاطِيلِ الَّتِي
لَا يَحِلُّ أَخْذُ الدِّينِ بِهَا: أَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الَّذِي
صَدَّرْنَا بِهِ فَمِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ وَهُوَ
مَجْهُولٌ, وَرِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ لَهُ غَيْرُ مُسْنَدَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ ذَلِكَ,
(7/364)
وَهُمْ
لَا يَجْعَلُونَ قَوْلَ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ مُسْنَدًا, وَلَا
قَوْلَ جَابِرٍ: كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْنَدًا, وَلَا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ طَلَاقَ
الثَّلَاثِ كَانَ يُرَدُّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى
الْوَاحِدَةِ مُسْنَدًا, وَكُلُّهَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَيَقُولُونَ: لَيْسَ
فِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ, ثُمَّ
يَجْعَلُونَ هَذَا الْخَبَرَ السَّاقِطَ الْوَاهِيَ مُسْنَدًا, وَهَذَا قِلَّةُ
حَيَاءٍ وَاسْتِخْفَافٌ بِالْكَلَامِ فِي الدِّينِ, وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ
مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا - عَنْ مَجْهُولٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ بِلَالٍ فَهُوَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى -
وَلَا يُدْرَى مَنْ هِيَ - عَنْ أُمِّ بِلَالٍ - وَهِيَ مَجْهُولَةٌ - وَلَا
نَدْرِي لَهَا صُحْبَةٌ أَمْ لَا؟ وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي جَعْفَرٍ
كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ - وَهُوَ هَالِكٌ - وَطَرِيقُ
أَبِي هُرَيْرَةَ الْأُولَى أَسْقَطَهَا كُلَّهَا وَفَضِيحَةُ الدَّهْرِ;
لِأَنَّهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ - وَهُوَ مَجْهُولٌ - عَنْ كِدَامِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَا نَدْرِي مَنْ هُوَ؟ عَنْ أَبِي كِبَاشٍ الَّذِي جَلَبَ
الْكِبَاشَ الْجَذَعَةَ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَارَتْ عَلَيْهِ. هَكَذَا نَصُّ
حَدِيثِهِ, وَهُنَا جَاءَ مَا جَاءَ أَبُو كِبَاشٍ وَمَا أَدْرَكَ مَا أَبُو
كِبَاشٍ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ, وَكَذَلِكَ خَبَرُ الشَّيْخِ مِنْ أَهْلِ
حِمْصٍ, وَكَفَاك بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأُخْرَى مِنْ طَرِيقِ
هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ - وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَحَدِيثُ مَكْحُولٍ مُرْسَلٌ. وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ كُلُّهَا
بِالْأَسَانِيدِ الَّتِي لَا مَغْمَزَ فِيهَا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ
مِنْهَا حُجَّةٌ; لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي كُلِّ مَا كَانَ
مِنْ الْأَنْعَامِ بِلَا شَكٍّ, وَقَدْ كَانَ نَزَلَ حُكْمُهَا بِلَا شَكٍّ مِنْ
أَحَدٍ قَبْلَ قِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ, وَضَحَّى أَبُو بُرْدَةَ وَقَوْمٌ مَعَهُ
بِيَقِينٍ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تُجْزِي
جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. فَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا
لَكَانَ قَوْلُهُ عليه السلام: "لَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ"
, نَاسِخًا لَهَا بِلَا شَكٍّ, وَمَنْ ادَّعَى عَوْدَةَ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ
فَقَدْ كَذَبَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ, فَكَيْفَ وَكُلُّهَا
بَاطِلٌ لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
وَذَكَرُوا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إجَازَةَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْجَذَعِ مِنْ
الضَّأْنِ فَذَكَرُوا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يُجْزِي مِنْ الضَّأْنِ الْجَذَعُ, وَعَنْ حِبَّةَ
الْعُرَنِيِّ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ مَعَ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: يُجْزِي مِنْ الْبُدْنِ, وَمِنْ الْبَقَرِ, وَمِنْ
الْمَعْزِ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعَةٍ سَمِينَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
أَنْ أُضَحِّيَ بِجِدَاءٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا خَالِدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ سَمِعْت
ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعَةٍ سَمِينَةٍ عَظِيمَةٍ تُجْزِي
فِي الصَّدَقَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعِ الْمَعْزِ مَعَ
قَوْلِهِ: لَا تُجْزِي إلَّا الثَّنِيَّةُ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ. وَعَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعٍ مِنْ الضَّأْنِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
أَنْ
(7/365)
أُضَحِّيَ
بِمُسِنٍّ مِنْ الْمَعْزِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا بَأْسَ بِالْجَذَعِ مِنْ
الضَّأْنِ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ إنِّي
لَأُضَحِّي بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَإِنَّهَا لَتَرُوجُ عَلَى أَلْفِ شَاةٍ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ - فَهُمْ سِتَّةٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ. وَرُوِّينَا إجَازَةَ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ فِي
الْأُضْحِيَّةِ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ وَعَنْ كَعْبٍ, وَعَطَاءٍ, وَطَاوُسٍ,
وَإِبْرَاهِيمَ, وَأَبِي رَزِينٍ, وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ - فَهُمْ سَبْعَةٌ
مِنْ التَّابِعِينَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا يُجْزِي مِنْ الْمَاعِزِ إلَّا
الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ,
وَالشَّافِعِيِّ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: كُلُّ هَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, أَمَّا
الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ فَمُنْقَطِعَةٌ, وَالْأُخْرَى وَاهِيَةٌ, ثُمَّ لَيْسَ
فِيهَا الْمَنْعُ مِنْ التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَاعِزِ وَلَا مِنْ
الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكُنَّا قَدْ رُوِّينَا عَنْهُ
خِلَافَهَا كَمَا قَدَّمْنَا قَبْلُ, وَإِذَا وُجِدَ خِلَافٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
فَالْوَاجِبُ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, بَلْ هُوَ عَلَيْهِمْ
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ إلَّا اخْتِيَارُ الضَّأْنِ
عَلَى الْمَاعِزِ فَقَطْ وَالْمَنْعُ مِمَّا دُونَ الثَّنِيِّ مِنْ الْإِبِلِ
وَالْبَقَرِ فَقَطْ لَا مِنْ الْمَاعِزِ. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ قَبْلُ خِلَافَ
هَذَا كَمَا أَوْرَدْنَا فَهُوَ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذَا جَاءَ
الِاخْتِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَقَدْ وَجَبَ الرَّدُّ إلَى
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ, كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا فِيهَا اخْتِيَارُ الْجَذَعِ
مِنْ الضَّأْنِ وَلَيْسَ فِيهَا الْمَنْعُ مِنْ الْجَذَعِ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ,
وَكَذَلِكَ عَنْ سَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم,
فَكَيْفَ وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم؟ وَكَمْ قِصَّةً خَالَفُوا فِيهَا جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ؟ كَمَا ذَكَرْنَا
فِي غَيْرِ مَا مَسْأَلَةٍ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الرِّوَايَةَ صَحَّتْ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ, وَجَابِرٍ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: بِأَنَّ
الْعُمْرَةَ فَرْضٌ كَالْحَجِّ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي
الله عنهم خِلَافٌ لَهُمْ; فَجَعَلُوا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ
عَلَى خَمْسٍ فَذَكَرَ فِيهِنَّ الْحَجَّ, وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُمْرَةَ خِلَافًا
فِي ذَلِكَ, ثُمَّ لَا يَجْعَلُونَ تَصْرِيحَهُ بِأَنَّ مَا دُونَ الْجَذَعِ لَا
يُجْزِي خِلَافًا فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم أَنْ يُضَحَّى بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَاعِزِ,
وَبِالْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, كَمَا نُورِدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى, وَجَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
نُورِدُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَرَى مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَا
حُجَّةَ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ أَصْلًا فِي
إجَازَتِهِمْ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ الْجَذَعِ مِنْ
الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْمَاعِزِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُمَارَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ طَعْمَةَ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدِ
الْجُهَنِيِّ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ
ضَحَايَا فَأَعْطَانِي عَتُودًا مِنْ الْمَعْزِ, فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم فَقُلْتُ: إنَّهُ جَذَعٌ؟ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا قَالَ الْبُخَارِيُّ: نَا
عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ, وَقَالَ مُسْلِمٌ: نَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ, ثُمَّ
اتَّفَقَ عَمْرٌو, وَابْنُ رُمْحٍ عَلَى أَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ
أَخْبَرَهُمَا عَنْ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي
(7/366)
الْخَيْرِ
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ
غَنَمًا يَقْسِمُهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: ضَحِّ أَنْتَ بِهِ هَذَا لَفْظُ
عَمْرٍو, وَلَفْظُ ابْنِ رُمْحٍ ضَحِّ بِهِ أَنْتَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْعَتُودُ هُوَ الْجَذَعُ مِنْ الْمَعْزِ بِلَا خِلَافٍ -
وَهَذَانِ خَبَرَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَقَدْ أَجَازَ التَّضْحِيَةَ
بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَعْزِ فِيهِمَا اثْنَانِ مِنْ الصَّحَابَةِ: عُقْبَةُ بْنُ
عَامِرٍ, وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ عُمَرَ جَوَازَ الْجَذَعِ مِنْ الْمَعْزِ فِي الْأُضْحِيَّةِ
وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ خَيْرًا مِنْهُ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ
الْبَرَاءِ؟ قُلْنَا: خَبَرُ الْبَرَاءِ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَخْصِيصِ
الْجَذَعِ مِنْ الْمَعْزِ دُونَ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالْإِبِلِ,
وَالْبَقَرِ بِالْمَنْعِ إلَّا بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ.
وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي فِيهَا إبَاحَةُ التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ جُمْلَةً
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَجُلٍ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: مُجَاشِعٌ مِنْ بَنِي
سُلَيْمٍ فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
كَانَ يَقُولُ: "الْجَذَعُ تُوفِي مِمَّا تُوفِي مِنْهُ الثَّنِيَّةُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَهْمِ نَا يُوسُفُ هُوَ ابْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي نَا
أَبُو الرَّبِيعِ هُوَ الزَّهْرَانِيُّ نَا حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَاصِمِ
بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا يُؤَمَّرُ عَلَيْنَا فِي الْمَغَازِي
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُمِّرَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إنِّي شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
هَذَا الْيَوْمَ يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ فَطَلَبَنَا الْمُسِنَّ فَغَلَتْ
عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْجَذَعَ
يَفِي مِمَّا يَفِي مِنْهُ الْمُسِنُّ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ,
وَمُجَاشِعٌ السُّلَمِيُّ هُوَ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ - مَشْهُورٌ مِنْ
فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ أَسْلَمَ, وَأَنْفَقَ, وَقَاتَلَ قَبْلَ فَتْحِ
مَكَّةَ, وَهُوَ فَتْحُ كَرْمَانَ, وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مَشَاهِيرُ,
وَالْآخَرُ جَيِّدٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ لَا تَخْفَى صِحَّةُ
صُحْبَتِهِ مِنْ بُطْلَانِهَا. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ
قَالَ: لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَرِمٍ,
اللَّهُ أَحَقُّ بِالْغِنَى وَالْكَرَمِ, وَأَحَبُّهُنَّ إلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ
بِهِ أَحَبُّهُنَّ إلَيَّ بِأَنْ أَقْتَنِيَهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعَةٍ عَظِيمَةٍ
تَجُوزُ فِي الصَّدَقَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِجِدَاءٍ فَهَذَا
عُمُومٌ فِي الْجَذَعِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, قَالَا جَمِيعًا:
نَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي السَّوِيَّةِ
(7/367)
التَّمِيمِيِّ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ عَلَيَّ بَدَنَةٌ أَتُجْزِي
عَنِّي جَذَعَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ, وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ جَذَعَةٌ مِنْ
الْإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ
الْهَمْدَانِيُّ قُلْت لِطَاوُسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّا نَدْخُلُ
السُّوقَ فَنَجِدُ الْجَذَعَ مِنْ الْبَقَرِ السَّمِينِ الْعَظِيمِ فَنَخْتَارُ
الثَّنِيَّ لِسِنِّهِ فَقَالَ طَاوُسٍ: أَحَبُّهُمَا إلَيَّ أَسْمَنُهُمَا
وَأَعْظَمُهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يُجْزِي الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ
وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ, وَالْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ - يَعْنِي
فِي الْأَضَاحِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: يُجْزِي الْجَذَعُ عَنْ سَبْعَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ:
يُجْزِي مِنْ الْإِبِلِ الْجَذَعُ فَصَاعِدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ
عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: يُضَحَّى
بِالْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ عَنْ ثَلَاثَةٍ, وَمَا دُونَ الْجَذَعِ
مِنْ الْإِبِلِ عَنْ وَاحِدٍ - فَهَذِهِ أَسَانِيدُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَعَنْ طَاوُسٍ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ فِي جَوَازِ الْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ
وَالْبَقَرِ فِي الْأَضَاحِيِّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُ الْجَذَعِ مِنْ
الْإِبِلِ فِي الْبُدْنِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَرَاهَةُ
ذَلِكَ؟ قُلْنَا: رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ, وَلَا
يُعَارِضُ بِهِ ابْنَ جُرَيْجٍ إلَّا جَاهِلٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالنَّاسِخُ لِهَذَا كُلِّهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: لَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ وَمِنْ الْبَاطِلِ
الْبَحْتِ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْقَوْلُ نَاسِخًا لِإِبَاحَةِ بَعْضِ الْجِذَاعِ
دُونَ بَعْضٍ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي النَّهْيِ عَنْ الْجِذَاعِ
مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ خَبَرًا أَصْلًا إلَّا هَذَا اللَّفْظَ فَمِنْ أَيْنَ
خَصُّوا بِهِ جِذَاعَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ جِذَاعِ الضَّأْنِ. فَإِنْ
قَالُوا: قِسْنَا جِذَاعَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ عَلَى جِذَاعِ الْمَاعِزِ؟
قُلْنَا: وَهَلَّا قِسْتُمُوهَا عَلَى جِذَاعِ الضَّأْنِ الْجَائِزَةِ عِنْدَكُمْ,
وَمَا الَّذِي جَعَلَ قِيَاسَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ عَلَى الْمَاعِزِ أَوْلَى
مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الضَّأْنِ؟ لَا سِيَّمَا وَالْجَذَعُ عِنْدَكُمْ مِنْ
الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ يَجْزِيَانِ فِي الزَّكَاةِ, فَهَلَّا قِسْتُمْ جَوَازَهَا
فِي الْأُضْحِيَّةِ عَلَى جَوَازِهَا فِي الزَّكَاةِ - فَلَاحَ أَنَّهُمْ لَا
النَّصَّ اتَّبَعُوا, وَلَا الْقِيَاسَ عَرَفُوا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَيَقُولُونَ أَيْضًا: إنْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ الشَّاةُ, أَوْ الْمَاعِزُ,
أَوْ الْبَقَرَةُ أَوْ النَّاقَةُ ضُحِّيَ بِوَلَدِهَا مَعَهَا - فَتَنَاقَضُوا
وَأَجَازُوا فِي الْأُضْحِيَّةِ الصَّغِيرَ جِدًّا. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا هُوَ
تَبَعٌ؟ قُلْنَا: هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ لَا مَعْنَى لَهُ, وَعَرِّفُونَا مَا
مَعْنَى تَبَعٌ؟ أَهُوَ بَعْضُهَا - فَهَذَا كَذِبٌ بِالْعِيَانِ, بَلْ هُوَ
غَيْرُهَا, وَهُوَ ذَكَرٌ وَهِيَ أُنْثَى, وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا, فَهُوَ
قَوْلُنَا, وَلَا فَضْلَ فِي ذَلِكَ.
(7/368)
قال
علي: ذكرنا في أول كلامنا ههنا في الأضاحي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أراد أن يضحي أن لا يمس من شعره ولا من أظافره شياً
...
976- مَسْأَلَةٌ: قَالَ عَلِيٌّ: ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا هَهُنَا فِي
الأَضَاحِيِّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرَادَ أَنْ
يُضَحِّيَ أَنْ لاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا"
, وَلَمْ نَذْكُرْ اعْتِرَاضَ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْيَانِ فَاسْتَدْرَكْنَا
هَهُنَا مَا رُوِيَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
(7/368)
أَنَّهَا
أَفْتَتْ بِذَلِكَ. وَنا حَمَامٌ نَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نَا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ نَا مُسَدَّدٌ نَا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ نَا ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ
هُوَ يَحْيَى أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمُرَ كَانَ يُفْتِي بِخُرَاسَانَ: أَنَّ
الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى أُضْحِيَّةً, وَدَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ يَكُفَّ، عَنْ
شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ. قَالَ سَعِيدٌ: قَالَ قَتَادَةُ:
فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: نَعَمْ, فَقُلْت: عَمَّنْ
يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ: عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ مُسَدَّدٌ: وَنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ سَمِعْت أَبِي
يَقُولُ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ يَأْخُذَ
الرَّجُلُ مِنْ شَعْرِهِ حَتَّى يَكْرَهَ أَنْ يَحْلِقَ الصِّبْيَانُ فِي
الْعَشْرِ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَحْمَدَ,
وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَخَالَفَ
ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمَا حُجَّةً أَصْلاً,
إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ
عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِالأَطِّلاَءِ فِي الْعَشْرِ, قَالُوا: وَهُوَ
رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ.
وَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ هَذَا الْخَبَرَ
فَقَالَ: فَهَلاَّ اجْتَنَبَ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ غَيْرَ
هَذَا أَصْلاً, وَهَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ: أَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ سَعِيدٍ
أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِالأَطِّلاَءِ فِي الْعَشْرِ; فَالأَحْتِجَاجُ
بِهِ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ سَعِيدٍ,
وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ الَّتِي أَلْزَمَنَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فَهِيَ
رِوَايَتُهُ وَرِوَايَةُ غَيْرِهِ مِنْ الثِّقَاتِ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَدْ
صَحَّ عَنْ سَعِيدٍ خِلاَفُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَهُوَ أَوْلَى
بِسَعِيدٍ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُ قَدْ يَتَأَوَّلُ سَعِيدٌ فِي الأَطِّلاَءِ
أَنَّهُ بِخِلاَفِ حُكْمِ سَائِرِ الشَّعْرِ, وَأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ
شَعْرُ الرَّأْسِ فَقَطْ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: كَمَا قُلْتُمْ
لِمَا رُوِيَ، عَنْ سَعِيدٍ خِلاَفُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ
ذَلِكَ الْحَدِيثِ; لأََنَّهُ لاَ يَدَعُ مَا رُوِيَ إِلاَّ لِمَا هُوَ أَقْوَى
عِنْدَهُ مِنْهُ; فَالأَوْلَى بِكُمْ أَنْ تَقُولُوا لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم خِلاَفَ مَا
رُوِيَ، عَنْ سَعِيدٍ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، عَنْ
سَعِيدٍ, إذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِخِلاَفِ مَا رَوَى فَهَذَا اعْتِرَاضٌ
أَوْلَى مِنْ اعْتِرَاضِكُمْ. وَخَامِسُهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ
بِقَوْلِ سَعِيدٍ فِي الأَطِّلاَءِ فِي الْعَشْرِ إنَّمَا أَرَادَ عَشْرَ
الْمُحَرَّمِ لاَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ; وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ
أَرَادَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ.
وَاسْمُ الْعَشْرِ يُطْلَقُ عَلَى عَشْرِ الْمُحَرَّمِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى
عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَسَادِسُهَا: أَنْ نَقُولَ: لَعَلَّ سَعِيدًا رَأَى ذَلِكَ
لِمَنْ لاَ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ, فَهَذَا صَحِيحٌ, وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ
فَفَاسِدٌ, لأََنَّ الدِّينَ لاَ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ عِكْرِمَةَ وَرَأْيِهِ,
إنَّمَا هَذَا مِنْهُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ
(7/369)
كُلُّهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ, لأََنَّهُ لَيْسَ إذَا وَجَبَ أَنْ لاَ يَمَسَّ الشَّعْرَ, وَالظُّفْرَ, بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَجْتَنِبَ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ, كَمَا أَنَّهُ إذَا وَجَبَ اجْتِنَابُ الْجِمَاعِ وَالطِّيبِ, لَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ اجْتِنَابُ مَسِّ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ. فَهَذَا الصَّائِمُ فَرْضٌ عَلَيْهِ اجْتِنَابُ النِّسَاءِ, وَلاَ يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُ الطِّيبِ, وَلاَ مَسُّ الشَّعْرِ, وَالظُّفْرِ وَكَذَلِكَ الْمُعْتَكِفُ, وَهَذِهِ الْمُعْتَدَّةُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الْجِمَاعُ وَالطِّيبُ, وَلاَ يَلْزَمُهَا اجْتِنَابُ قَصِّ الشَّعْرِ وَالأَظْفَارِ. فَظَهَرَ حَمَاقَةُ قِيَاسِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ, وَهَذِهِ فُتْيَا صَحَّتْ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلاَ يُعْرَفُ فِيهَا مُخَالِفٌ مِنْهُمْ لَهُمْ, فَخَالَفُوا ذَلِكَ بِرَأْيِهِمْ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلاً, فَخَالَفُوا الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/370)
977-
مَسْأَلَةٌ: وَالأُُضْحِيَّةُ جَائِزَةٌ بِكُلِّ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ
ذِي أَرْبَعٍ, أَوْ طَائِرٍ, كَالْفَرَسِ, وَالإِبِلِ, وَبَقَرِ الْوَحْشِ,
وَالدِّيكِ, وَسَائِرِ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ الْحَلاَلِ أَكْلُهُ,
وَالأَفْضَلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا طَابَ لَحْمُهُ وَكَثُرَ وَغَلاَ ثَمَنُهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا فِي الأَضَاحِيِّ قَوْلَ بِلاَلٍ: مَا
أُبَالِي لَوْ ضَحَّيْت بِدِيكٍ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ابْتِيَاعِهِ لَحْمًا
بِدِرْهَمَيْنِ وَقَالَ: هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِّينَا أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَكَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ هَذَا هُوَ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ فِي
احْتِجَاجِهِمْ بِالأَثَرِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ" وَثَّقُوهُ هُنَالِكَ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ. وَالْحَسَنُ
بْنُ حَيٍّ يُجِيزُ الأُُضْحِيَّةَ بِبَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ، عَنْ سَبْعَةٍ,
وَبِالظَّبْيِ أَوْ الْغَزَالِ، عَنْ وَاحِدٍ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ التَّضْحِيَةَ بِمَا حَمَلَتْ بِهِ الْبَقَرَةُ الإِنْسِيَّةُ مِنْ
الثَّوْرِ الْوَحْشِيِّ, وَبِمَا حَمَلَتْ بِهِ الْعَنْزُ مِنْ الْوَعْلِ. وقال
مالك: لاَ تُجْزِي إِلاَّ مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ. وَرَأَى
مَالِكٌ: النَّعْجَةَ, وَالْعَنْزَ, وَالتَّيْسَ أَفْضَلَ مِنْ الإِبِلِ,
وَالْبَقَرِ: فِي الأُُضْحِيَّةِ. وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيُّ فَرَأَيَا الإِبِلَ أَفْضَلَ, ثُمَّ الْبَقَرَ, ثُمَّ الضَّأْنَ,
ثُمَّ الْمَاعِزَ وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً فَنُورِدُهَا أَصْلاً,
إِلاَّ أَنْ يَدَّعُوا إجْمَاعًا فِي جَوَازِهَا مِنْ هَذِهِ الأَنْعَامِ,
وَالْخِلاَفَ فِي غَيْرِهَا. فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ, وَيُعَارِضُونَ بِمَا صَحَّ
فِي ذَلِكَ، عَنْ بِلاَلٍ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, وَهَذَا عِنْدَهُمْ حُجَّةٌ إذَا وَافَقَهُمْ.
وَأَمَّا مُرَاعَاةُ الإِجْمَاعِ فَيُؤْخَذُ بِهِ وَيُتْرَكُ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ,
فَهَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَذَاهِبِهِمْ إِلاَّ يَسِيرًا جِدًّا
مِنْهَا, وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لاَ يُوجِبُوا فِي الصَّلاَةِ, أَوْ الصَّوْمِ,
وَالْحَجِّ, وَالزَّكَاةِ وَالْبُيُوعِ, إِلاَّ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ, وَفِي
هَذَا هَدْمُ مَذْهَبِهِمْ كُلِّهِ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الْمَرْدُودُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَهُوَ مَا
افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّدَّ إلَيْهِ فَوَجَدْنَا النُّصُوصَ تَشْهَدُ
لِقَوْلِنَا, وَذَلِكَ أَنَّ الأُُضْحِيَّةَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى,
فَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ قُرْآنٌ،
وَلاَ نَصُّ سُنَّةٍ حَسَنٌ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا لَمْ
يُمْنَعْ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِهِ فِعْلُ خَيْرٍ.
(7/370)
نَا
يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحِيمِ نَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
الْخُشَنِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ نَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى نَا
ابْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُهَجِّرِ إلَى الْجُمُعَةِ كَمَثَلِ
مَنْ يُهْدِي بَدَنَةً, ثُمَّ كَمَنْ يُهْدِي بَقَرَةً, ثُمَّ كَمَنْ يُهْدِي
بَيْضَةً".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا
قَرَّبَ بَدَنَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ
بَقَرَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا
أَقَرْنَ, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ
دَجَاجَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً".
فَفِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ هَدْيُ دَجَاجَةٍ, وَعُصْفُورٍ, وَتَقْرِيبُهُمَا,
وَتَقْرِيبُ بَيْضَةٍ; وَالأُُضْحِيَّةُ تَقْرِيبٌ بِلاَ شَكٍّ, وَفِيهِمَا
أَيْضًا فَضْلُ الأَكْبَرِ فَالأَكْبَرِ جِسْمًا فِيهِ وَمَنْفَعَةً
لِلْمَسَاكِينِ, وَلاَ مُعْتَرِضَ عَلَى هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَصْلاً.
قال أبو محمد: وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ الإِبِلَ وَالْبَقَرَ أَفْضَلُ
مِنْ الْغَنَمِ الْخَبَرُ الثَّابِتُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ, وَالْخَبَرُ الَّذِي أَوْرَدْنَا فِي
الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ فَفِيهَا أَمْرُهُ عليه السلام فِي
الأَضَاحِيِّ بِالنَّحْرِ. وَلاَ يَخْلُو هَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ عليه السلام
أَمَرَ بِالنَّحْرِ فِي الإِبِلِ وَالْبَقَرِ, أَوْ فِي الْغَنَمِ, فَإِنْ كَانَ
أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الْغَنَمِ, فَهَذَا مُبْطِلٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ: إنَّ
النَّحْرَ فِي الْغَنَمِ لاَ يَحِلُّ, وَلاَ يَكُونُ ذَكَاةً فِيهَا, وَإِنْ كَانَ
أَمَرَ بِذَلِكَ عليه السلام فِي الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَحَسُنَ
الْمُحَالُ الْبَاطِلُ الْمُمْتَنِعُ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عليه
السلام يَحُضُّ أُمَّتَهُ وَأَصْحَابَهُ عَلَى التَّضْحِيَةِ بِالإِبِلِ
وَالْبَقَرِ مَعَ عَظِيمِ الْكُلْفَةِ فِيهَا وَغُلُوِّ أَثْمَانِهَا
وَيَتْرُكُونَ الأَرْخَصَ وَالأَقَلَّ ثَمَنًا وَهُوَ أَفْضَلُ, وَهَذِهِ إضَاعَةُ
الْمَالِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى, وَإِنَّمَا التَّضْحِيَةُ
بِالْغَنَمِ ضَأْنِهَا وَمَاعِزِهَا رِفْقٌ بِالنَّاسِ لِقِلَّةِ أَثْمَانِهَا
وَتَفَاهَةِ أَمْرِهَا وَتَخْفِيفٌ لَهُمْ بِذَلِكَ، عَنِ الأَفْضَلِ الَّذِي هُوَ
أَشَقُّ فِي النَّفَقَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَهَذَا مِمَّا لاَ شَكَّ فِيهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الضَّأْنَ أَفْضَلُ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم يَوْمَ الأَضْحَى: يَا مُحَمَّدُ إنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ
السَّيِّدِ مِنْ الْمَعْزِ, وَإِنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ
السَّيِّدِ مِنْ الْبَقَرِ, وَإِنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ
السَّيِّدِ مِنْ الإِبِلِ, وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ ذَبْحًا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ
لَفَدَى بِهِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.
(7/371)
وَبِخَبَرٍ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: مَرَّ
النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي فَطِيمَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِكَبْشٍ أَقَرْنَ أَعْيَنَ فَقَالَ عليه السلام: "مَا أَشْبَهَ هَذَا
الْكَبْشَ بِالْكَبْشِ الَّذِي ذَبَحَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام".
وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَنَسٍ.
وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
حَاتِمِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ الأُُضْحِيَّةِ الْكَبْشُ.
قال أبو محمد: هَذِهِ أَخْبَارٌ مَكْذُوبَةٌ: أَمَّا خَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ,
وَعُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ فَعَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا,
ضَعَّفَهُ جِدًّا وَاطَّرَحَهُ أَحْمَدُ, وَأَسَاءَ الْقَوْلَ فِيهِ جِدًّا وَلَمْ
يُجِزْ الرِّوَايَةَ بِهِ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَزِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ
مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ.
وَخَبَرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
ثَوْبَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَمُرْسَلٌ مَعَ ذَلِكَ وَأَيْضًا فَفِي الْخَبَرِ
الْمَنْسُوبِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ كَذِبٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: إنَّهُ فَدَى
اللَّهُ بِهِ إبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَفْدِ إبْرَاهِيمَ بِلاَ شَكٍّ وَإِنَّمَا فَدَى
ابْنَهُ. وَأَمَّا الأَحْتِجَاجُ بِأَنَّهُ فَدَى الذَّبِيحَ بِكَبْشٍ فَبَاطِلٌ,
مَا صَحَّ ذَلِكَ قَطُّ, وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ أُرْوِيَّةً, وَهَبْكَ لَوْ
صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ فَضْلُ سَائِرِ الْكِبَاشِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ,
وَلاَ كَانَ أَمْرُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام أُضْحِيَّةً فَلاَ مَدْخَلَ
لِلأَضَاحِيِّ فِيهِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إلَى قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا
كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} فَيَنْبَغِي عَلَى
هَذَا أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ أَفْضَلَ مِنْ الضَّأْنِ بِهَذِهِ الآيَةِ
الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ لاَ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ فِي كَبْشِ الذَّبِيحِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} فِي نَاقَةِ
صَالِحٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الإِبِلُ أَفْضَلَ مِنْ الضَّأْنِ بِهَذِهِ
الآيَةِ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ لاَ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ فِي كَبْشِ
إبْرَاهِيمَ عليه السلام.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ الأَثَرِ الَّذِي فِيهِ الصَّلاَةُ فِي مَبَارِكِ
الْغَنَمِ وَالنَّهْيُ، عَنِ الصَّلاَةِ فِي مَعَاطِنِ الإِبِلِ, لأََنَّهُ جِنٌّ
خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ. فَقُلْنَا: فَلْيَكُنْ هَذَا عِنْدَكُمْ دَلِيلاً فِي فَضْلِ
الْغَنَمِ عَلَيْهَا فِي الْهَدْيِ, وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِهَذَا.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ
قلنا: نَعَمْ, وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَخَافَةَ
أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُكْتَبَ عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا: فَقَدْ أَهْدَى
غَنَمًا مُقَلَّدَةً كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
عِنْدَكُمْ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ أَفْضَلُ فِي الْهَدْيِ مِنْ الْبَقَرِ;
فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ هَذَا الأَسْتِدْلاَل فِي الأَضَاحِيِّ وَأَيْضًا:
فَقَدْ ضَحَّى عليه السلام بِالْبَقَرِ.
(7/372)
رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِي حَدِيثٍ لَمَّا كُنَّا بِمِنًى
أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ وَهَذَا فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ وَهُوَ آخِرُ عَمَلِهِ عليه السلام وَلَمْ يُضَحِّ بَعْدَهَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نا مُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ نَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ
نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَر"َ . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ نَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ،
عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى. وَالنَّحْرُ عِنْدَ مَالِكٍ
وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ
فِي الْغَنَمِ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُ فِي الإِبِلِ وَعَلَى تَكَرُّهٍ فِي
الْبَقَرِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُضَحِّي بِالإِبِلِ
وَالْبَقَرِ, أَوْ يَتْرُكُ قَوْلَهُ فَيُجِيزُ النَّحْرَ فِي الْغَنَمِ، وَلاَ
بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِفِعْلٍ فَعَلَهُ عليه
السلام مُبَاحُ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ غَيْرُهُ بِإِقْرَارِ الْمُحْتَجِّ عَلَى
نَصِّ قَوْلِهِ عليه السلام فِي تَفْضِيلِ الإِبِلِ, ثُمَّ الْبَقَرِ, ثُمَّ
الضَّأْنِ.
رُوِّينَا، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي بِجَزُورٍ مِنْ
الإِبِلِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي مَرَّةً
بِنَاقَةٍ, وَمَرَّةً بِبَقَرَةٍ, وَمَرَّةً بِشَاةٍ, وَمَرَّةً لاَ يُضَحِّي.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ فِي فَضْلِ الْمَاعِزِ عَلَى الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ, وَفَضْلِ
الْبَقَرِ عَلَى الإِبِلِ: فَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُتَعَلَّقًا أَصْلاً، وَلاَ
أَحَدًا قَالَ بِهِ قَبْلَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/373)
978-
مَسْأَلَةٌ: وَوَقْتُ ذَبْحِ الأُُضْحِيَّةِ أَوْ نَحْرِهَا هُوَ أَنْ يُمْهِلَ
حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ, ثُمَّ تَبْيَضَّ وَتَرْتَفِعَ,
وَيُمْهِلَ حَتَّى يَمْضِيَ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي
الأُُولَى بَعْدَ ثَمَانِ تَكْبِيرَاتٍ "أُمَّ الْقُرْآنِ" وَسُورَةَ
"ق" وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ سِتِّ تَكْبِيرَاتٍ "أُمَّ الْقُرْآنِ"
وَسُورَةَ: "اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ" بِتَرْتِيلٍ
وَيُتِمُّ فِيهِمَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ, وَيَجْلِسُ, وَيَتَشَهَّدُ,
وَيُسَلِّمُ. ثُمَّ يَذْبَحُ أُضْحِيَّتَهُ أَوْ يَنْحَرُهَا الْبَادِي,
وَالْحَاضِرُ, وَأَهْلُ الْقُرَى, وَالصَّحَارِي, وَالْمُدُنِ سَوَاءٌ فِي كُلِّ
ذَلِكَ; فَمَنْ ذَبَحَ, أَوْ نَحَرَ قَبْلَ مَا ذَكَرْنَا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ
يُضَحِّيَ، وَلاَ بُدَّ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ, وَلاَ مَعْنَى
لِمُرَاعَاةِ صَلاَةِ الإِمَامِ, وَلاَ لِمُرَاعَاةِ تَضْحِيَتِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا مِنْ
قَوْلِهِ عليه السلام: "أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ
نُصَلِّيَ, ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ". وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ
سَلَمَةَ، هُوَ
(7/373)
ابْنُ
كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: ذَبَحَ
أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"أَبْدِلْهَا" . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ نَا أَيُّوبُ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم صَلَّى, ثُمَّ خَطَبَ فَأَمَرَ مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ
الصَّلاَةِ أَنْ يُعِيدَ ذَبْحًا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْت جُنْدُبًا يَقُولُ:
مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى قَوْمٍ قَدْ
نَحَرُوا وَذَبَحُوا فَقَالَ: "مَنْ نَحَرَ وَذَبَحَ قَبْلَ صَلاَتِنَا
فَلْيُعِدْ, وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ أَوْ يَنْحَرْ فَلْيَذْبَحْ وَلْيَنْحَرْ
بِاسْمِ اللَّهِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ نَا
ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ نَحَرَ
قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلاَ يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَالْوَقْتُ الَّذِي حَدَّدْنَا هُوَ وَقْتُ
صَلاَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ, إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُجِزْ التَّضْحِيَةَ قَبْلَ
تَمَامِ الْخُطْبَةِ، وَلاَ مَعْنَى لِهَذَا لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم لَمْ يَحُدَّ وَقْتَ الأُُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إنْ ضَحَّى
قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَجْزَأَهُ.
وقال أبو حنيفة: أَمَّا أَهْلُ الْمُدُنِ وَالأَمْصَارِ فَمَنْ ضَحَّى مِنْهُمْ
قَبْلَ تَمَامِ صَلاَةِ الإِمَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ وَلَمْ يُضَحِّ,
وَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى وَالْبَوَادِي فَإِنْ ضَحَّوْا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
مِنْ يَوْمِ الأَضْحَى أَجْزَأَهُمْ. وقال مالك: مَنْ ضَحَّى قَبْلَ أَنْ
يُضَحِّيَ الإِمَامُ فَلَمْ يُضَحِّ; ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَطَائِفَةٌ
قَالَتْ: الإِمَامُ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ; وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ
أَمِيرُ الْبَلْدَةِ, وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ
صَلاَةَ الْعِيدِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَخِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَوْرَدْنَا بِلاَ بُرْهَانٍ. وَأَمَّا قَوْلُ
مَالِكٍ فَلاَ حُجَّةَ لَهُ أَصْلاً, وَخِلاَفٌ لِلْخَبَرِ أَيْضًا إذْ لَمْ
يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ بِمُرَاعَاةِ تَضْحِيَةِ غَيْرِهِ.
وَنَقُولُ لِلطَّائِفَتَيْنِ مَعًا: أَرَأَيْتُمْ إنْ ضَيَّعَ الإِمَامُ صَلاَةَ
الأَضْحَى وَلَمْ يُضَحِّ أَتَبْطُلُ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَضَاحِيِّ
عَلَى النَّاسِ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا, بَلْ هُوَ الْحَقُّ أَنَّ الإِمَامَ
إنْ صَلَّى فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَقَدْ أَحْسَنَ وَهُوَ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتِ تَضْحِيَتِهِ,
وَإِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكَادِحٍ فِي
عَدَالَتِهِ, لأََنَّهُ لَمْ يُعَطِّلْ فَرْضًا, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحِيلٍ
شَيْئًا مِنْ حُكْمِ النَّاسِ فِي أَضَاحِيهِمْ. وَنَقُولُ لِلْمَالِكِيِّينَ
أَيْضًا: أَرَأَيْتُمْ إنْ ضَحَّى الإِمَامُ قَبْلَ وَقْتِ صَلاَةِ الأَضْحَى
أَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَمًا لأََضَاحِيِّ النَّاسِ.
فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ, أَتَوْا بِعَظِيمَةٍ وَإِنْ قَالُوا: لاَ, صَدَقُوا,
وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ فِي مُرَاعَاةِ تَضْحِيَةِ الإِمَامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَقَدْ رُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ
بَيْنَ
(7/374)
أَهْلِ الْقُرَى وَأَهْلِ الْمُدُنِ، عَنْ عَطَاءٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَمَا نَعْرِفُ قَوْلَ مَالِكٍ فِي مُرَاعَاةِ تَضْحِيَةِ الإِمَامِ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/375)
979-
مَسْأَلَةٌ: وَالأُُضْحِيَّةُ مُسْتَحَبَّةٌ لِلْحَاجِّ بِمَكَّةَ وَلِلْمُسَافِرِ
كَمَا هِيَ لِلْمُقِيمِ، وَلاَ فَرْقَ, وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وَالأُُضْحِيَّةُ فِعْلُ
خَيْرٍ. وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مُحْتَاجٌ إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ مَنْدُوبٌ
إلَيْهِ, وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
التَّضْحِيَةِ وَالتَّقْرِيبِ وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام بَادِيًا مِنْ حَاضِرٍ,
وَلاَ مُسَافِرًا مِنْ مُقِيمٍ, وَلاَ ذَكَرًا مِنْ أُنْثَى, وَلاَ حُرًّا مِنْ
عَبْدٍ, وَلاَ حَاجًّا مِنْ غَيْرِهِ, فَتَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ لاَ
يَجُوزُ, وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى
بِالْبَقَرِ، عَنْ نِسَائِهِ بِمَكَّةَ وَهُنَّ حَوَاجُّ مَعَهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَحُجُّ فَلاَ يُضَحِّي
وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ لَيْسَ عَلَى
الْمُسَافِرِ أُضْحِيَّةٌ. وَالْحَارِثُ كَذَّابٌ. وَعَنْ أَصْحَابِ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لاَ يُضَحُّونَ فِي الْحَجِّ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ
مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَنْعٌ لِلْحَاجِّ، وَلاَ لِلْمُسَافِرِ مِنْ التَّضْحِيَةِ
وَإِنَّمَا فِيهِ تَرْكُهَا فَقَطْ, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَهْمِ نَا
أَحْمَدُ بْنُ فَرَجٍ نَا الْهَرَوِيُّ نَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ سَافَرَ مَعِي تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ فَلَمَّا ذَبَحْنَا
أُضْحِيَّتَهُ أَخَذَ مِنْهَا بَضْعَةً فَقَالَ: آكُلُهَا وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ نَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ:
كَانَ عُمَرُ يَحُجُّ، وَلاَ يُضَحِّي وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَحُجُّونَ مَعَهُمْ
الْوَرِقُ وَالذَّهَبُ فَلاَ يُضَحُّونَ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ
لِيَتَفَرَّغُوا لِنُسُكِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ
وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَجَجْت فَهَلَكَتْ نَفَقَتِي
فَقَالَ أَصْحَابِي: أَلاَ نُقْرِضُك فَتُضَحِّيَ فَقُلْت: لاَ فَهَذَا بَيَانُ
أَنَّهُمْ لَمْ يَمْنَعُوا مِنْهَا وَالنَّهْيُ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ لاَ يَجُوزُ
إِلاَّ بِنَصٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ
خَيْرًا.
(7/375)
980-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ مَنْ نَوَى أَنْ يُضَحِّيَ بِحَيَوَانٍ مِمَّا
ذَكَرْنَا أَنْ يُضَحِّيَ بِهِ، وَلاَ بُدَّ, بَلْ لَهُ أَنْ لاَ يُضَحِّيَ بِهِ
إنْ شَاء إِلاَّ أَنْ يَنْذُرَ ذَلِكَ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الأُُضْحِيَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا لَيْسَتْ فَرْضًا فَإِذْ
لَيْسَتْ فَرْضًا فَلاَ يَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَهَا نَصٌّ،
وَلاَ نَصَّ إِلاَّ فِيمَنْ ضَحَّى قَبْلَ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فِي أَنْ يُعِيدَ;
وَفِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَفِيَ بِالنَّذْرِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ
لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ أُضْحِيَّتَهُ مِمَّنْ يُضَحِّي بِهَا
وَيَشْتَرِي خَيْرًا مِنْهَا وَعَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً, ثُمَّ
بَدَا لَهُ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهَا وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ,
وَالشَّعْبِيِّ, وَالْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ, كَرَاهَةَ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ حُجَّةً.
(7/375)
981-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَكُونُ الأُُضْحِيَّةُ أُضْحِيَّةً إِلاَّ بِذَبْحِهَا, أَوْ
نَحْرِهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلاً وَلَهُ مَا لَمْ
يَذْبَحْهَا, أَوْ يَنْحَرْهَا كَذَلِكَ أَنْ لاَ يُضَحِّيَ بِهَا وَأَنْ
يَبِيعَهَا وَأَنْ يَجُزَّ صُوفَهَا وَيَفْعَلَ فِيهِ مَا شَاءَ وَيَأْكُلَ
لَبَنَهَا وَيَبِيعَهُ, وَإِنْ وَلَدَتْ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَلَدَهَا أَوْ
يَمْسِكَهُ أَوْ يَذْبَحَهُ, فَإِنْ ضَلَّتْ فَاشْتَرَى غَيْرَهَا, ثُمَّ وَجَدَ
الَّتِي ضَلَّتْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَبْحُهَا، وَلاَ ذَبْحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا,
فَإِنْ ضَحَّى بِهِمَا, أَوْ بِأَحَدِهِمَا, أَوْ بِغَيْرِهِمَا فَقَدْ أَحْسَنَ,
وَإِنْ لَمْ يُضَحِّ أَصْلاً فَلاَ حَرَجَ, وَإِنْ اشْتَرَاهَا وَبِهَا عَيْبٌ لاَ
تُجْزِي بِهِ فِي الأَضَاحِيِّ كَعَوَرٍ, أَوْ عَجَفٍ: أَوْ عَرَجٍ, أَوْ مَرَضٍ,
ثُمَّ ذَهَبَ الْعَيْبُ وَصَحَّتْ جَازَ لَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا, وَلَوْ
أَنَّهُ مَلَكَهَا سَلِيمَةً مِنْ كُلِّ ذَلِكَ, ثُمَّ أَصَابَهَا عَيْبٌ لاَ
تُجْزِي بِهِ فِي الأُُضْحِيَّةِ قَبْلَ تَمَامِ ذَكَاتِهَا, وَلَوْ فِي حَالِ
التَّذْكِيَةِ لَمْ تُجْزِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا فَإِذْ هِيَ
كَذَلِكَ فَلاَ تَكُونُ أُضْحِيَّةً إِلاَّ حَتَّى يُضَحِّيَ بِهَا، وَلاَ
يُضَحِّيَ بِهَا إِلاَّ حَتَّى تَتِمَّ ذَكَاتُهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ فَهِيَ
مَا لَمْ يُضَحِّ بِهَا مَالٌ مِنْ مَالِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا أَحَبَّ كَسَائِرِ
مَالِهِ وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَأَجَازَ أَنْ يُضَحِّيَ بِاَلَّتِي يُصِيبُهَا
عِنْدَهُ الْعَيْبُ فَقَدْ خَالَفَ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
جَهَارًا وَلَزِمَهُ إنْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً مَعِيبَةً فَصَحَّتْ عِنْدَهُ أَنْ
لاَ تُجْزِئَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا: رُوِّينَا، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ
يَرِيمَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إذَا اشْتَرَيْت الأُُضْحِيَّةَ سَلِيمَةً
فَأَصَابَهَا عِنْدَك عَوَارٌ, أَوْ عَرَجٌ فَبَلَغَتْ الْمَنْسَكَ فَضَحِّ بِهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى
أُضْحِيَّةً سَلِيمَةً فَاعْوَرَّتْ عِنْدَهُ قَالَ: يُضَحِّي بِهَا وَهُوَ قَوْلُ
حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ.
رُوِّينَاهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ,
وَإِبْرَاهِيمَ: وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ اشْتَرَى
أُضْحِيَّةً فَضَلَّتْ قَالَ: لاَ يَضُرُّك وَعَنِ الْحَسَنِ, وَالْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ فِيمَنْ ضَلَّتْ أُضْحِيَّتُهُ فَاشْتَرَى أُخْرَى فَوَجَدَ الأُُولَى
أَنَّهُ يَذْبَحُهُمَا جَمِيعًا, قَالَ حَمَّادٌ: يَذْبَحُ الأُُولَى. وقال أبو
حنيفة: إنْ اشْتَرَاهَا صَحِيحَةً, ثُمَّ عَجِفَتْ عِنْدَهُ حَتَّى لاَ تُنْقِي
أَجْزَأَتْهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا, فَلَوْ اعْوَرَّتْ عِنْدَهُ لَمْ تُجْزِهِ,
فَلَوْ أَنَّهُ إذْ ذَبَحَهَا أَصَابَ السِّكِّينُ عَيْنَهَا, أَوْ انْكَسَرَ
رِجْلُهَا أَجْزَأَتْهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، وَلاَ
نَعْلَمُ هَذِهِ التَّقَاسِيمَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَجُزُّ صُوفَهَا، وَلاَ
يَشْرَبُ لَبَنَهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلاَّ مَا فَضَلَ، عَنْ وَلَدِهَا.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً أَنَّ لَهُ أَنْ يَجِزَّ
صُوفَهَا وَأَمَرَهُ الْحَسَنُ إنْ فَعَلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ, وقال أبو حنيفة,
وَالشَّافِعِيُّ: إنْ وَلَدَتْ ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا وقال مالك: لَيْسَ عَلَيْهِ
ذَلِكَ. رُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مَعَهُ بَقَرَةٌ قَدْ
وَلَدَتْ؟ فَقَالَ:
(7/376)
كُنْت اشْتَرَيْتهَا لأَُضَحِّيَ بِهَا فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لاَ تَحْلِبْهَا إِلاَّ فَضْلاً، عَنْ وَلَدِهَا فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الأَضْحَى فَاذْبَحْهَا وَوَلَدَهَا، عَنْ سَبْعَةٍ.
(7/377)
982
- مَسْأَلَةٌ: وَالتَّضْحِيَةُ جَائِزَةٌ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرْنَا يَوْمَ
النَّحْرِ إِلاَّ أَنْ يُهِلَّ هِلاَلُ الْمُحَرَّمِ, وَالتَّضْحِيَةُ لَيْلاً
وَنَهَارًا جَائِزٌ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: النَّحْرُ يَوْمٌ وَاحِدٌ إلَى أَنْ تَغِيبَ
الشَّمْسُ. وَعَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى
الذَّبْحَ إِلاَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَوْلٌ
آخَرُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: النَّحْرُ فِي الأَمْصَارِ يَوْمٌ, وَبِمِنًى
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّ التَّضْحِيَةَ يَوْمَ النَّحْرِ
وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: النَّحْرُ ثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا
جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مَاعِزٍ, أَوْ
مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الثَّقَفِيِّ: أَنَّ أَبَاهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ: إنَّمَا
النَّحْرُ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ نَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ حَرْبِ بْنِ نَاجِيَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ النَّحْرُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ
وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا ذَبَحْت يَوْمَ النَّحْرِ,
وَالثَّانِيَ, وَالثَّالِثَ فَهِيَ الضَّحَايَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ نَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي
أَبُو مَرْيَمَ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: الأَضْحَى ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
الأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ,
وَمَالِكٌ، وَلاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ إِلاَّ، عَنْ أَنَسٍ وَحْدَهُ
لأََنَّهُ، عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ مَجْهُولٍ، عَنْ أَبِيهِ مَجْهُولٌ أَيْضًا.
وَعَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ، عَنِ
الْمِنْهَالِ وَهُوَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ; وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ وَأَبِي حَمْزَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ نَافِعٍ, وَكِلاَهُمَا ضَعِيفٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ وَلَيْسَ
بِالْقَوِيِّ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ وَهُوَ
أَنَّ التَّضْحِيَةَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى نَا
ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ بَعْدَهُ: هَكَذَا فِي كِتَابِي، وَلاَ أَدْرِي لَعَلَّهُ وَهْمٌ,
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(7/377)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عَطَاءٍ
قَالَ: النَّحْرُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى سَمِعْت عَطَاءً يَقُولُ: النَّحْرُ
أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ وَكِيعٍ نَا
هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى سَمِعْت عَطَاءً يَقُولُ: النَّحْرُ مَا دَامَتْ
الْفَسَاطِيطُ بِمِنًى.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
النَّحْرُ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
فِيمَنْ نَسِيَ أَنْ يُضَحِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُضَحِّيَ
أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ
بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَالَ: الأَضْحَى أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ
بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ حَرْبِ بْنِ
شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ هُوَ
التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ,
وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, قَالاَ جَمِيعًا: الأَضْحَى إلَى هِلاَلِ
الْمُحَرَّمِ لِمَنْ اسْتَأْنَى بِذَلِكَ. قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ قَالَ
النَّحْرُ يَوْمُ الأَضْحَى وَحْدَهُ فَقَالَ: إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَمَا
عَدَاهُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ; فَلاَ تُوجَدُ شَرِيعَةٌ بِاخْتِلاَفٍ لاَ نَصَّ
فِيهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: صَدَقُوا, وَالنَّصُّ يُجِيزُ قَوْلَنَا عَلَى مَا نَأْتِي بِهِ
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا
بِأَنَّهُ قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ
عَبَّاسٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَنَسٍ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ
رضي الله عنهم مُخَالِفٌ, وَمِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ ذَكَرْنَا قَضَايَا عَظِيمَةً خَالَفُوا فِيهَا جَمَاعَةً
مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ,
فَكَيْفَ، وَلاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا إِلاَّ، عَنْ أَنَسٍ وَحْدَهُ
عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ وَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا فَقَدْ خَالَفَ عَطَاءٌ,
وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَالْحَسَنُ, وَالزُّهْرِيُّ, وَأَبُو سَلَمَةَ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: الإِجْمَاعَ, وَأُفٍّ
لِكُلِّ إجْمَاعٍ يَخْرُجُ عَنْهُ هَؤُلاَءِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلاَفِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَلاَ نَعْلَمُ لِمَنْ
قَالَ: أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حُجَّةً أَيْضًا, إِلاَّ أَنَّ أَيَّامَ مِنًى
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ فَقَطْ وَلَيْسَ هَذَا حُجَّةً.
قال أبو محمد: الأُُضْحِيَّةُ فِعْلُ خَيْرٍ وَقُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَفِعْلُ الْخَيْرِ حَسَنٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}
فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام, فَلاَ
يَجُوزُ تَخْصِيصُ وَقْتٍ بِغَيْرِ نَصٍّ, فَالتَّقْرِيبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
بِالتَّضْحِيَةِ حَسَنٌ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ, وَلاَ
نَصَّ فِي ذَلِكَ، وَلاَ إجْمَاعَ إلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدْ رُوِّينَا
خَبَرًا يَلْزَمُهُمْ الأَخْذُ بِهِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَحْتَجُّ بِهِ
وَيُعِيذُنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْ نَحْتَجَّ بِمُرْسَلٍ, وَهُوَ مَا ناهُ
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عِقَالٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ نَا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ
(7/378)
نَا
مُسْلِمٌ نَا يَحْيَى، -هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ،- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَوْفٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, قَالاَ جَمِيعًا بَلَغَنَا: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الأَضْحَى إلَى هِلاَلِ الْمُحَرَّمِ
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِيَ بِذَلِكَ" وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ
الْمَرَاسِيلِ وَأَصَحِّهَا فَيَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ
الْقَوْلُ بِهِ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ: أَنْ يُضَحَّى
بِاللَّيْلِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وقال مالك: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى لَيْلاً
وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالَ
قَائِلُهُمْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} قَالُوا: فَلَمْ
يَذْكُرْ اللَّيْلَ.
قال علي: وهذا مِنْهُمْ إيهَامٌ يُمَقِّتُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ, لأََنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الآيَةِ ذَبْحًا, وَلاَ تَضْحِيَةً,
وَلاَ نَحْرًا لاَ فِي نَهَارٍ, وَلاَ فِي لَيْلٍ, وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِذِكْرِهِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ أَفَتَرَى يَحْرُمُ
ذِكْرُهُ فِي لَيَالِيِهِنَّ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا,
وَلَيْسَ هَذَا النَّصُّ بِمَانِعٍ مِنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى وَحَمْدِهِ عَلَى مَا
رَزَقَنَا مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فِي الْعَامِ
كُلِّهِ. وَهَذَا مِمَّا حَرَّفُوا فِيهِ الْكَلِمَ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَلاَ
يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ زَيْدًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
أَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعَ النَّهَارِ. وَذَكَرُوا حَدِيثًا لاَ
يَصِحُّ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُبَشَّرِ بْنِ
عُبَيْدٍ الْحَلَبِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الذَّبْحِ بِاللَّيْلِ.
قال أبو محمد: هَذِهِ فَضِيحَةُ الأَبَدِ, وَبَقِيَّةُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ,
وَمُبَشَّرُ بْنُ عُبَيْدٍ مَذْكُورٌ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ عَمْدًا, ثُمَّ هُوَ
مُرْسَلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لأََنَّهُمْ
يُجِيزُونَ الذَّبْحَ بِاللَّيْلِ فَيُخَالِفُونَهُ فِيمَا فِيهِ وَيَحْتَجُّونَ
بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا. وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ:
لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ النَّحْرِ لاَ يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ فِيهَا وَكَانَ
يَوْمُهُ تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ فِيهِ كَانَتْ لَيَالِي سَائِرِ أَيَّامِ
التَّضْحِيَةِ كَذَلِكَ.
قال علي: وهذا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا
لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ, لأََنَّ يَوْمَ النَّحْرِ هُوَ مَبْدَأُ
دُخُولِ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ وَقْتًا لِلتَّضْحِيَةِ,
وَلاَ يَخْتَلِفُونَ مَعَنَا فِي أَنَّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ
بَعْدَ ابْيِضَاضِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَقْتٌ وَاسِعٌ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لاَ
تَجُوزُ فِيهِ التَّضْحِيَةُ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ
الْيَوْمِ مَا بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ التَّضْحِيَةِ فَلاَ يُجِيزُوا
التَّضْحِيَةَ فِيهَا إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِلَّا
فَقَدْ تَنَاقَضُوا وَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ, وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ
السَّلَفِ قَبْلَ مَالِكٍ مَنَعَ مِنْ التَّضْحِيَةِ لَيْلاً.
(7/379)
983-
مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ لِلْمُضَحِّي رَجُلاً كَانَ أَوْ امْرَأَةً أَنْ
يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ أَوْ يَنْحَرَهَا بِيَدِهِ, فَإِنْ ذَبَحَهَا أَوْ
نَحَرَهَا لَهُ بِأَمْرِهِ مُسْلِمٌ غَيْرُهُ أَوْ كِتَابِيٌّ أَجْزَأَهُ، وَلاَ
حَرَجَ فِي ذَلِكَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى نَا وَكِيعٌ، عَنْ
شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ وَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا
بِيَدِهِ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا وَسَمَّى اللَّهَ وَكَبَّرَ قَالَ
مُسْلِمٌ نَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ نَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ نَا شُعْبَةُ
أَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْت أَنَسًا فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ,
فَنَحْنُ نَسْتَحِبُّ الأَقْتِدَاءَ بِهِ عليه السلام فِي هَذَا قَالَ تَعَالَى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . وَقَالَ تَعَالَى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وَإِنَّمَا عَنَى عَزَّ وَجَلَّ
بِيَقِينٍ مَا يُذَكُّونَهُ لاَ مَا يَأْكُلُونَهُ, لأََنَّهُمْ يَأْكُلُونَ
الْمَيْتَةَ, وَالدَّمَ, وَالْخِنْزِيرَ, وَمَا عُمِلَ بِالْخَمْرِ وَظَهَرَتْ
فِيهِ; فَإِذْ ذَبَائِحُهُمْ وَنَحَائِرُهُمْ حَلاَلٌ, فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ
الأُُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا لاَ وَجْهَ لَهُ. وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ قُلْت
لأَِبْرَاهِيمَ: صَبِيٌّ لَهُ ظِئْرٌ يَهُودِيٌّ أَيَذْبَحُ أُضْحِيَّتَهُ قَالَ:
نَعَمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ:، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ,
وَمَعْمَرٌ, قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ, وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ
الزُّهْرِيُّ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ, وَالزُّهْرِيُّ قَالاَ جَمِيعًا: يَذْبَحُ
نُسُكَك الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ إنْ شِئْت, قَالَ الزُّهْرِيُّ:
وَالْمَرْأَةُ إنْ شِئْت. وقال مالك: لاَ يَذْبَحُهَا إِلاَّ مُسْلِمٌ, فَإِنْ
ذَبَحَهَا كِتَابِيٌّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَضْمَنُهَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَذْبَحُ أَضَاحِيَّكُمْ الْيَهُودُ, وَلاَ النَّصَارَى,
لاَ يَذْبَحُهَا إِلاَّ مُسْلِمٌ وَعَنْ جَرِيرٍ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي
ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ يَذْبَحُ أُضْحِيَّتَك إِلاَّ
مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ: لاَ يَذْبَحُ النُّسُكَ إِلاَّ
مُسْلِمٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ
الْخُرَاسَانِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ
أَيْضًا: لاَ يَذْبَحُ النُّسُكَ إِلاَّ مُسْلِمٌ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ كَانُوا
يَقُولُوا: لاَ يَذْبَحُ النُّسُكَ إِلاَّ مُسْلِمٌ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ
الْحَنَفِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَلاَ يَصِحُّ،
عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا ذَكَرْنَا لأََنَّهُ، عَنْ عَلِيٍّ مُنْقَطِعٌ
وَقَابُوسُ, وَأَبُو سُفْيَانَ ضَعِيفَانِ إِلاَّ أَنَّهُ، عَنِ الْحَسَنِ,
وَإِبْرَاهِيمَ, وَالشَّعْبِيِّ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: صَحِيحٌ، وَلاَ
يَصِحُّ، عَنْ غَيْرِهِمْ, وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً لاَ
مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ مِنْ أَثَرٍ سَقِيمٍ, وَلاَ مِنْ
قِيَاسٍ.
(7/380)
984-
مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الأُُضْحِيَّةِ الْوَاحِدَةِ أَيُّ
شَيْءٍ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ, وَجَائِزٌ أَنْ
يُضَحِّيَ الْوَاحِدُ بِعَدَدٍ مِنْ الأَضَاحِيِّ ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَلَمْ يَنْهَ، عَنْ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, وَالأُُضْحِيَّةُ فِعْلُ خَيْرٍ, فَالأَسْتِكْثَارُ مِنْ
الْخَيْرِ حَسَنٌ. وقال أبو حنيفة, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَالأَوْزَاعِيُّ,
وَالشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ, وَإِسْحَاقُ, وَأَبُو ثَوْرٍ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ:
تُجْزِئُ الْبَقَرَةُ, أَوْ النَّاقَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ فَأَقَلَّ أَجْنَبِيِّينَ
وَغَيْرَ أَجْنَبِيِّينَ يَشْتَرِكُونَ فِيهَا, وَلاَ تُجْزِئُ، عَنْ أَكْثَرَ,
وَلاَ تُجْزِئُ الشَّاةُ إِلاَّ، عَنْ وَاحِدٍ. وقال مالك: يُجْزِئُ الرَّأْسُ
الْوَاحِدُ مِنْ الإِبِلِ, أَوْ الْبَقَرِ, أَوْ الْغَنَمِ، عَنْ وَاحِدٍ, وَعَنْ
أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ إذَا
أَشْرَكَهُمْ فِيهَا تَطَوُّعًا، وَلاَ تُجْزِئُ إذَا اشْتَرَوْهَا بَيْنَهُمْ
بِالشَّرِكَةِ، وَلاَ عَنْ أَجْنَبِيَّيْنِ فَصَاعِدًا.
قال أبو محمد: الأُُضْحِيَّةُ فِعْلُ خَيْرٍ وَتَطَوُّعٌ بِالْبِرِّ فَالأَشْتِرَاكُ
فِي التَّطَوُّعِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ قَالَ تَعَالَى:
{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} فَالْمُشْتَرِكُونَ فِيهَا فَاعِلُونَ لِلْخَيْرِ; فَلاَ
مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الأَجْنَبِيِّينَ بِالْمَنْعِ, وَلاَ مَعْنَى لِمَنْعِ ذَلِكَ
بِالشِّرَاءِ; لأََنَّهُ كُلَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ أَصْلاً لاَ مِنْ
قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قِيَاسٍ. وَقَدْ
أَبَاحَ اللَّيْثُ الأَشْتِرَاكَ فِي الأُُضْحِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَهَذَا
تَخْصِيصٌ لاَ مَعْنَى لَهُ أَيْضًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ
أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ, سَمِينَيْنِ, أَقَرْنَيْنِ
أَمْلَحَيْنِ, مَوْجُوءَيْنِ, فَيَذْبَحُ أَحَدَهُمَا، عَنْ أُمَّتِهِ مَنْ شَهِدَ
لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَلَهُ بِالْبَلاَغِ, وَيَذْبَحُ الآخَرَ، عَنْ مُحَمَّدٍ
وَآلِ مُحَمَّدٍ. فَهَذَا أَثَرٌ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ, وَعَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَوَّلَ الْمَالِكِيُّونَ فِي خَبَرِ
الصَّلاَةِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:
الْبَدَنَةُ، عَنْ وَاحِدٍ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ وَاحِدٍ, وَالشَّاةُ، عَنْ
وَاحِدٍ, لاَ أَعْلَمُ شِرْكًا. وَصَحَّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: لاَ
أَعْلَمُ دَمًا وَاحِدًا يُرَاقُ، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَصَحَّ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ
كِدَامٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: لاَ تَكُونُ ذَكَاةُ نَفْسٍ، عَنْ
نَفْسَيْنِ وَكَرِهَهُ الْحَكَمُ. وَقَوْلٌ آخَرُ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْجَزُورُ, وَالْبَقَرَةُ,
عَنْ سَبْعَةٍ
(7/381)
مِنْ
أَهْلِ الْبَيْتِ لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ: كُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ
لِقَوْلِ مَالِكٍ لأََنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُجِزْ الرَّأْسَ الْوَاحِدَ إِلاَّ،
عَنْ وَاحِدٍ, وَكَذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ, وَحَمَّادٌ, وَعَلِيٌّ أَجَازَ
النَّاقَةَ أَوْ الْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ لاَ أَكْثَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَتْ: الْبَقَرَةُ وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ, وَالْحَسَنِ قَالُوا كُلُّهُمْ: الْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ
وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهَا وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ
أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَدْرَكْت
أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ كَانُوا
يَذْبَحُونَ الْبَقَرَةَ وَالْبَعِيرَ، عَنْ سَبْعَةٍ.وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ
مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: الْبَقَرَةُ, وَالْجَزُورُ، عَنْ
سَبْعَةٍ.
قال علي: هذا حَمَّادٌ قَدْ رَوَى مَا ذَكَرْنَا، عَنِ الصَّحَابَةِ, ثُمَّ
خَالَفَ مَا رُوِيَ وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ إجْمَاعًا كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلاَءِ:
وَعَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَقَرَةُ وَالْجَزُورُ،
عَنْ سَبْعَةٍ: وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ:
الْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا، عَنْ حُذَيْفَةَ, وَجَابِرٍ,
وَعَلِيٍّ, وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْبَدَنَةُ، عَنْ عَشَرَةٍ
وَرُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله
عنهم.
وَمِمَّنْ أَجَازَ الأَشْتِرَاكَ فِي الأَضَاحِيّ بَيْنَ الأَجْنَبِيِّينَ
الْبَقَرَةِ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالنَّاقَةِ، عَنْ سَبْعَةٍ: طَاوُوس, وَأَبُو
عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ, وَعَطَاءٌ, وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ. فأما ابْنُ عُمَرَ
فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نُمَيْرٍ نَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ، عَنِ
الْبَقَرَةِ وَالْبَعِيرِ تُجْزِي، عَنْ سَبْعَةٍ فَقَالَ: كَيْفَ, أَوَّلُهَا
سَبْعَةُ أَنْفُسٍ قُلْت: إنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ
بِالْكُوفَةِ أَفْتَوْنِي فَقَالُوا: نَعَمْ قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم وَأَبُو بَكْرٍ, وَعُمَرُ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا شَعُرْت فَهَذَا
تَوَقُّفٌ مِنْ ابْنِ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَرِيفِ بْنِ
دِرْهَمٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْبَقَرَةُ،
عَنْ سَبْعَةٍ, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ
مَالِكٌ كُلَّ رِوَايَةٍ رُوِيَتْ فِيهِ عَنْ صَاحِبٍ إِلاَّ رِوَايَةً، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ رَجَعَ عَنْهَا, وَخَالَفَ جُمْهُورَ التَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ.
قال أبو محمد: الْحُجَّةُ إنَّمَا هِيَ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَلَمْ يَمْنَعْ عليه السلام مِنْ الأَشْتِرَاكِ فِي التَّطَوُّعِ أَكْثَرَ
مِنْ عَشَرَةٍ, وَسَبْعَةٍ, بَلْ قَدْ أَشْرَكَ عليه السلام فِي أُضْحِيَّتِهِ
جَمِيعَ أُمَّتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/382)
985-
مَسْأَلَةٌ: فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُضَحٍّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، وَلاَ
بُدَّ لَوْ لُقْمَةً فَصَاعِدًا, وَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ أَيْضًا
مِنْهَا بِمَا شَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ بُدَّ وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ
مِنْهَا الْغَنِيَّ, وَالْكَافِرَ وَأَنْ يُهْدِيَ مِنْهَا إنْ شَاءَ ذَلِكَ.
فَإِنْ نَزَلَ بِأَهْلِ بَلَدِ الْمُضَحِّي جَهْدٌ أَوْ نَزَلَ بِهِ طَائِفَةٌ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي جَهْدٍ جَازَ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ
أُضْحِيَّتِهِ مِنْ حِينِ يُضَحِّي بِهَا إلَى انْقِضَاءِ ثَلاَثِ لَيَالٍ
كَامِلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ يَبْتَدِئُهَا بِالْعَدَدِ مِنْ بَعْدِ تَمَامِ
التَّضْحِيَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُصْبِحَ فِي مَنْزِلِهِ مِنْهَا
بَعْدَ تَمَامِ الثَّلاَثِ لَيَالٍ شَيْءٌ أَصْلاً لاَ مَا قَلَّ، وَلاَ مَا
كَثُرَ. فَإِنْ ضَحَّى لَيْلاً لَمْ يُعِدْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الثَّلاَثِ;
لأََنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهَا شَيْءٌ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا
فَلْيَدَّخِرْ مِنْهَا مَا شَاءَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو عَاصِمٍ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ
مَخْلَدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلاَ
يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ"; فَلَمَّا كَانَ
الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا
الْعَامَ الْمَاضِيَ قَالَ: "كُلُوا , وَأَطْعِمُوا, وَادَّخِرُوا, فَإِنَّ ذَلِكَ
الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَتْ لَهُ سَمِعْت عَائِشَةَ
أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: إنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ
النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ وَيَحْمِلُونَ فِيهَا
الْوَدَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا ذَاكَ"
قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ قَالَ عليه
السلام: "بَعْدُ كُلُوا, وَادَّخِرُوا, وَتَصَدَّقُوا" . فَهَذِهِ
أَوَامِرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا قَالَ
تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ، عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ نَدْبٌ
فَقَدْ كَذَبَ, وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ وَيَكْفِيه أَنَّ جَمِيعَ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لَمْ يَحْمِلُوا نَهْيَهُ عليه السلام، عَنْ أَنْ
يُصْبِحَ فِي بُيُوتِهِمْ بَعْدَ ثَلاَثٍ مِنْهَا شَيْءٌ إِلاَّ عَلَى الْفَرْضِ
وَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ إِلاَّ بَعْدَ إذْنِهِ, وَلاَ فَرْقَ
بَيْنَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ, قَالَ عليه السلام: "إذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ
شَيْءٍ فَاتْرُكُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ" وَعَمَّ عليه السلام بِالإِطْعَامِ فَجَائِزٌ أَنْ يُطْعِمَ
مِنْهُ كُلَّ آكِلٍ, إذْ لَوْ حُرِّمَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَبَيَّنَهُ عليه السلام
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} , {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ
وَحْيٌ يُوحَى} وَادِّخَارُ سَاعَةٍ فَصَاعِدًا يُسَمَّى ادِّخَارًا. وَالْعَجَبُ
كُلُّهُ مِمَّنْ يَسْتَخْرِجُ بِعَقْلِهِ الْقَاصِرِ وَرَأْيِهِ الْفَاسِدِ
عِلَلاً لأََوَامِر اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِ رَسُولِهِ عليه السلام لاَ
بُرْهَانَ لَهُ بِهَا إِلاَّ دَعْوَاهُ الْكَاذِبَةُ, ثُمَّ يَأْتِي إلَى حُكْمٍ جَعَلَهُ
عليه السلام مُوجِبًا لِحُكْمٍ آخَرَ فَلاَ يَلْتَفِتُ إلَيْهِ, وَقَدْ جَعَلَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجَهْدَ الْحَالَّ بِالنَّاسِ
(7/383)
مُوجِبًا
لِئَلَّا يَبْقَى عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ شَيْءٌ بَعْدَ ثَالِثَةٍ
فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى ذَلِكَ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيم الْحَرْبِيِّ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ
عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ
نَأْكُلَ مِنْهَا ثُلُثًا وَنَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا وَنُطْعِمَ الْجِيرَانَ
ثُلُثَهَا. فَطَلْحَةُ مَشْهُورٌ بِالْكَذِبِ الْفَاضِحِ, وَعَطَاءٌ لَمْ يُدْرِكْ
ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلاَ وُلِدَ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ, وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا
بِهِ مُسَارِعِينَ إلَيْهِ, لَكِنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ عُمَرَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: أَمَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنْ
يُرْفَعَ لَهُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ بَضْعَةٌ وَيُتَصَدَّقَ بِسَائِرِهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي الْجَهْمِ نَا أَحْمَدُ بْنُ فَرَجٍ نَا الْهَرَوِيُّ نَا ابْنُ
فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ. عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: سَافَرَ مَعِي
تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ فَلَمَّا ذَبَحْنَا أُضْحِيَّتَهُ فَأَخَذَ مِنْهَا
بَضْعَةً فَقَالَ: آكُلُهَا فَقُلْت لَهُ: وَمَا عَلَيْك أَنْ لاَ تَأْكُلَ
مِنْهَا فَقَالَ تَمِيمٌ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} فَتَقُولُ
أَنْتَ: وَمَا عَلَيْك أَنْ لاَ تَأْكُلَ.
قال أبو محمد: حَمَلَ هَذَا الأَمْرَ تَمِيمٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَهَذَا الْحَقُّ
الَّذِي لاَ يَسَعُ أَحَدًا سِوَاهُ, وَتَمِيمٌ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ ابْنِ
مَسْعُودٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ،
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مَوْلًى لأََبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ لِبَنِيهِ: إذَا ذَبَحْتُمْ أَضَاحِيكُمْ فَأَطْعِمُوا, وَكُلُوا,
وَتَصَدَّقُوا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا نَحْوُ هَذَا وَعَنْ عَطَاءٍ
نَحْوُهُ; وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ:
لَيْسَ لِصَاحِبِ الأُُضْحِيَّةِ إِلاَّ رُبُعُهَا. فَإِنْ ذَكَرُوا: مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ
حَدَّثَنِي أَخِي أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، هُوَ ابْنُ بِلاَلٍ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فِي
الضَّحِيَّةِ كُنَّا نُمَلِّحُ مِنْهُ فَنَقْدَمُ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: "لاَ تَأْكُلُوا إِلاَّ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ" وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ;
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا خَبَرٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لأََنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ
"لَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ" لَيْسَ مِنْ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم إنَّمَا هُوَ مِنْ ظَنِّ بَعْضِ رُوَاةِ الْخَبَرِ, يُبَيِّنُ ذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْخَبَرِ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ مَذْكُورٌ عَنْهُ فِي
رِوَايَتِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ, وَقَدْ حَمَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ هَذَا
الْقَوْلَ مِنْهُ عليه السلام عَلَى الْوُجُوبِ, وَابْنُ عُمَرَ كَمَا ذَكَرْنَا.
(7/384)
وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى
ابْنِ أَزْهَرَ أَنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ:
ثُمَّ صَلَّيْت مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَصَلَّى لَنَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ
ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ
نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَلاَ
تَأْكُلُوا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي
حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلاَثٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ كَانَ عَامَ حَصْرِ
عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي قَدْ أَلْجَأَتْهُمْ
الْفِتْنَةُ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ فَأَمَرَ لِذَلِكَ بِمِثْلِ
مَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَهِدَ النَّاسُ وَدَفَّتْ
الدَّافَّةُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/385)
986-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَبِيعَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ بَعْدَ
أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا شَيْئًا: لاَ جِلْدًا, وَلاَ صُوفًا, وَلاَ شَعْرًا, وَلاَ
وَبَرًا, وَلاَ رِيشًا, وَلاَ شَحْمًا, وَلاَ لَحْمًا, وَلاَ عَظْمًا, وَلاَ
غُضْرُوفًا, وَلاَ رَأْسًا, وَلاَ طَرَفًا, وَلاَ حَشْوَةً, وَلاَ أَنْ
يُصْدِقَهُ, وَلاَ أَنْ يُؤَاجِرَ بِهِ, وَلاَ أَنْ يَبْتَاعَ بِهِ شَيْئًا
أَصْلاً, لاَ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ, وَلاَ غِرْبَالاً, وَلاَ مُنْخُلاً, وَلاَ
تَابِلاً، وَلاَ شَيْئًا أَصْلاً. وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِكُلِّ ذَلِكَ, وَيَتَوَطَّأَهُ,
وَيَنْسَخَ فِي الْجِلْدِ, وَيَلْبَسَهُ, وَيَهَبَهُ وَيُهْدِيَهُ, فَمَنْ مَلَكَ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِهِبَةٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ مِيرَاثٍ, فَلَهُ بَيْعُهُ
حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْجَزَّارَ عَلَى
ذَبْحِهَا, أَوْ سَلْخِهَا شَيْئًا مِنْهَا, وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ
غَيْرِهَا, وَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ هَذَا فُسِخَ أَبَدًا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صَهْبَانَ قُلْت لأَبْنِ عُمَرَ: أَبِيعُ جِلْدَ
بَقَرٍ ضَحَّيْت بِهَا فَرَخَّصَ لِي. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، أَنَّهُ
قَالَ: إذَا كَانَ الْهَدْيُ وَاجِبًا يَتَصَدَّقُ بِإِهَابِهِ وَإِنْ كَانَ
تَطَوُّعًا بَاعَهُ إنْ شَاءَ. وَقَالَ أَيْضًا: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ جِلْدِ
الأُُضْحِيَّةِ إذَا كَانَ عَلَيْك دَيْنٌ. وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ جُلُودِ
الأَضَاحِيِّ فَقَالَ: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا، وَلاَ دِمَاؤُهَا} إنْ
شِئْت فَبِعْ, وَإِنْ شِئْت فَأَمْسِكْ. وَصَحَّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، أَنَّهُ
قَالَ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ جُلُودِ الأَضَاحِيِّ, نِعْمَ الْغَنِيمَةُ تَأْكُلُ
اللَّحْمَ وَتَقْضِي النُّسُكَ, وَيُرْجَعُ إلَيْك بَعْضُ الثَّمَنِ. وَذَهَبَ
آخَرُونَ إلَى مِثْلِ هَذَا إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوا أَنْ يُبَاعَ بِهِ شَيْءٌ
دُونَ شَيْءٍ: صَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ جِلْدِ
الأُُضْحِيَّةِ
(7/385)
وَقَالَ:
لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُبَدِّلَ بِجِلْدِ الأُُضْحِيَّةِ بَعْضُ مَتَاعِ الْبَيْتِ وَ
أَنَّهُ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ وَأَرْخَصَ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ الْغِرْبَالُ
وَالْمُنْخُلُ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ, وَلَكِنْ
يَبْتَاعُ بِهِ بَعْضُ مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْغِرْبَالِ, وَالْمُنْخُلِ,
وَالتَّابِلِ. قَالَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ: أَيَبْتَاعُ بِهِ
الْخَلُّ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَقُلْت لَهُ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلِّ وَالْغِرْبَالِ
قَالَ: فَقَالَ: لاَ تَشْتَرِ بِهِ الْخَلَّ وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ.
قال أبو محمد: أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ فَطَرِيفٌ جِدًّا, وَلَيْتَ شِعْرِي مَا
الْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَابِلِ, الْكَمُّونِ, وَالْفُلْفُلِ, وَالْكُسْبُرَةِ,
وَالْكَرَاوْيَا, وَالْغِرْبَالِ, وَالْمُنْخُلِ. وَبَيْنَ الْخَلِّ, وَالزَّيْتِ
وَاللَّحْمِ, وَالْفَأْسِ, وَالْمِسْحَاةِ, وَالثَّوْبِ, وَالْبُرِّ, وَالنَّبِيذِ
الَّذِي لاَ يُسْكِرُ وَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ فِي ابْتِيَاعِ: التَّوَابِلِ,
وَالْغِرْبَالِ, وَالْمَنَاخِلِ, مِنْ الرِّبَا وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ مَا لاَ
يَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ وَهَذَا أَيْضًا
قَوْلٌ خِلاَفُ كُلِّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ فَقُلْت لأَبْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ نَصْنَعُ
بِإِهَابِ الْبُدْنِ قَالَ: يُتَصَدَّقُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ جِلْدِ الأُُضْحِيَّةِ سِقَاءً يُنْبَذُ
فِيهِ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ مِنْ جِلْدِ أُضْحِيَّتِهِ
مُصَلًّى يُصَلِّي فِيهِ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: انْتَفِعُوا
بِمُسُوكِ الأَضَاحِيِّ، وَلاَ تَبِيعُوهَا. وَعَنْ طَاوُوس أَنَّهُ عَمِلَ مِنْ
جِلْدِ عُنُقِ بَدَنَتِهِ نَعْلَيْنِ لِغُلاَمِهِ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ لاَ يُعْطَى الْجَزَّارُ جِلْدَ الْبَدَنَةِ، وَلاَ يُبَاعُ. وَعَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ مُجَاهِدًا, وَسَعِيدَ
بْنَ جُبَيْرٍ كَرِهَا أَنْ يُبَاعَ جِلْدُ الْبَدَنَةِ تَطَوُّعًا كَانَتْ أَوْ
وَاجِبَةً.
قال أبو محمد: لَيْسَ إِلاَّ قَوْلُ مَنْ مَنَعَ جُمْلَةً أَوْ مَنْ أَبَاحَ
جُمْلَةً فَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ جُمْلَةً بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ}.
قال علي: هذا حَقٌّ إذْ لَمْ يَأْتِ مَا يَخُصُّهُ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم فِي الأَضَاحِيِّ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه
السلام: "كُلُوا, وَأَطْعِمُوا, وَتَصَدَّقُوا, وَادَّخِرُوا" فَلاَ
يَحِلُّ تَعَدِّي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالأَدِّخَارُ
اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْحَبْسِ, فَأُبِيحَ لَنَا احْتِبَاسُهَا وَالصَّدَقَةُ
بِهَا, فَلَيْسَ لَنَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الأُُضْحِيَّةَ إذَا
قُرِّبَتْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَخْرَجَهَا الْمُضَحِّي مِنْ مِلْكِهِ
إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ
لَهُ النَّصُّ, فَلَوْلاَ الأَمْرُ الْوَارِدُ بِالأَكْلِ
(7/386)
وَالأَدِّخَارِ مَا حُلَّ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ, فَخَرَجَ هَذَانِ، عَنِ الْحَظْرِ بِالنَّصِّ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْحَظْرِ. وَهُمْ يَقُولُونَ وَنَحْنُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ كَذَلِكَ أَنَّ لَهُ اسْتِخْدَامَهَا وَوَطْأَهَا وَعِتْقَهَا، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ بَيْعُهَا, وَلاَ إصْدَاقُهَا, وَلاَ الإِجَارَةُ بِهَا, وَلاَ تَمْلِيكُهَا غَيْرَهُ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَا وَقَعَ مِمَّا لاَ يَجُوزُ فَيُفْسَخُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَأَمَّا مَنْ تَمَلَّكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ، عَنْ يَدِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدُ فَلَهُ فِيهِ مَا لَهُ فِي سَائِرِ مَالِهِ، وَلاَ فَرْقَ.
(7/387)
987- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَجَدَ بِالأُُضْحِيَّةِ عَيْبًا بَعْدَ أَنْ ضَحَّى بِهَا وَلَمْ يَكُنْ اشْتَرَطَ السَّلاَمَةَ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَيَّةً صَحِيحَةً وَبَيْنَ قِيمَتِهَا مَعِيبَةً, وَذَلِكَ لأََنَّهُ كَانَ لَهُ الرَّدُّ أَوْ الإِمْسَاكُ, فَلَمَّا بَطَلَ الرَّدُّ بِخُرُوجِهَا بِالتَّضْحِيَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ أَكْلُ مَالِ أَخِيهِ بِالْخَدِيعَةِ وَالْبَاطِلِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا اسْتَزَادَ عَلَى حَقِّهَا الَّذِي يُسَاوِيهِ, لأََنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ, إِلاَّ أَنْ يُحَلَّ لَهُ ذَلِكَ الْمُبْتَاعُ فَلَهُ ذَلِكَ, لأََنَّهُ حَقُّهُ تَرَكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مُتَقَصًّى فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} فَالْخَدِيعَةِ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.
(7/387)
988- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ اشْتِرَاطَ السَّلاَمَةَ فَهِيَ مَيْتَةٌ وَيَضْمَنُ مِثْلَهَا لِلْبَائِعِ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ، وَلاَ تُؤْكَلُ لأََنَّ السَّالِمَةَ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ هِيَ غَيْرُ الْمَعِيبَةِ. فَمَنْ اشْتَرَى سَالِمَةً وَأَعْطَى مَعِيبَةً فَإِنَّمَا أَعْطَى غَيْرَ مَا اشْتَرَى, وَإِذَا أَعْطَى غَيْرَ مَا اشْتَرَى فَقَدْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ, وَمَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَالتَّرَاضِي لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْمَعْرِفَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ لاَ بِالْجَهْلِ بِهِ, فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْعَيْبَ فَلَمْ يَرْضَ بِهِ, وَالرِّضَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي عَقْدِ الصَّفْقَةِ لاَ بَعْدَهُ. وَمَنْ ذَبَحَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَقَدْ تَعَدَّى, وَالتَّعَدِّي مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَظُلْمٌ, وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالذَّكَاةِ فَهِيَ طَاعَةٌ لَهُ تَعَالَى, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَعْصِيَةٍ, فَالذَّبْحُ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ وَذَكَاةٌ, هُوَ غَيْرُ الذَّبْحِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ وَعُدْوَانٌ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ إِلاَّ بِالذَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا, لاَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْعُدْوَانِ; فَلَيْسَتْ ذَكِيَّةً فَهِيَ مَيْتَةٌ, وَمَنْ تَعَدَّى بِإِتْلاَفِ مَالِ أَخِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ, وَالصَّفْقَةُ فَاسِدَةٌ فَالثَّمَنُ مَرْدُودٌ. وَمَنْ خَالَفَنَا فِي هَذَا فَقَدْ تَنَاقَضَ, إذْ حَرَّمَ أَكْلَ مَا ذُبِحَ مِنْ صَيْد
(7/387)
989- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لاَ تُؤْكَلُ, وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَلِلْغَائِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِأَنْ يُضَحَّى عَنْهُ وَهُوَ حَسَنٌ, لأََنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ, فَإِنْ ضُحِّيَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا, فَلَوْ ضَحَّى، عَنِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُمَا مِنْ مَالِهِمَا فَهُوَ حَسَنٌ, وَلَيْسَتْ مَيْتَةً, لأََنَّهُ النَّاظِرُ لَهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَالِكُ أَمْرِ نَفْسِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/388)
كتاب
ما يحل أكله وما يحرم أكله
باب ما يحل أكله وما يحرم أكله
لا يحل أكل شئ من الخنزير
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ
قال أبو محمد: لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْخِنْزِيرِ, لاَ لَحْمِهِ, وَلاَ
شَحْمِهِ, وَلاَ جِلْدِهِ, وَلاَ عَصَبِهِ, وَلاَ غُضْرُوفِهِ, وَلاَ حَشْوَتِهِ,
وَلاَ مُخِّهِ, وَلاَ عَظْمِهِ, وَلاَ رَأْسِهِ, وَلاَ أَطْرَافِهِ, وَلاَ
لَبَنِهِ, وَلاَ شَعْرِهِ الذَّكَرُ وَالأُُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ
سَوَاءٌ، وَلاَ يَحِلُّ الأَنْتِفَاعُ بِشَعْرِهِ لاَ فِي خَرَزٍ, وَلاَ فِي
غَيْرِهِ. وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ، وَلاَ اسْتِعْمَالُهُ
مَسْفُوحًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ إِلاَّ الْمِسْكُ وَحْدَهُ, وَلاَ يَحِلُّ
أَكْلُ شَيْءٍ مِمَّا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلاَ مَا
قُتِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا, إِلاَّ الْجَرَادُ
وَحْدَهُ, فَإِنْ خُنِقَ شَيْءٌ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ
ضُرِبَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ, أَوْ سَقَطَ مِنْ عُلْوٍ فَمَاتَ, أَوْ نَطَحَهُ
حَيَوَانٌ آخَرُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ, وَلاَ
مَا قَتَلَهُ السَّبُعُ أَوْ حَيَوَانٌ آخَرُ حَاشَا الصَّيْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُ
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ أُدْرِكَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا حَيًّا
فَذُكِّيَ فَهُوَ حَلاَلٌ أَكْلُهُ إنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ.
وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ حَيَوَانٍ ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى,
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
(7/388)
989-
مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَا يَسْكُنُ جَوْفَ الْمَاءِ، وَلاَ يَعِيشُ إِلاَّ فِيهِ
فَهُوَ حَلاَلٌ كُلُّهُ كَيْفَمَا وُجِدَ, سَوَاءٌ أُخِذَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ أَوْ
مَاتَ فِي الْمَاءِ, طَفَا أَوْ لَمْ يَطْفُ, أَوْ قَتَلَهُ حَيَوَانٌ بَحْرِيٌّ
أَوْ بَرِّيٌّ هُوَ كُلُّهُ حَلاَلٌ أَكْلُهُ. وَسَوَاءٌ خِنْزِيرُ الْمَاءِ, أَوْ
إنْسَانُ الْمَاءِ, أَوْ كَلْبُ الْمَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ
أَكْلُهُ: قَتَلَ كُلَّ ذَلِكَ وَثَنِيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ أَوْ لَمْ
يَقْتُلْهُ أَحَدٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا
عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَقَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ
شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فَخَالَفَ أَصْحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ هَذَا كُلَّهُ وَقَالُوا: يَحِلُّ أَكْلُ مَا مَاتَ مِنْ السَّمَكِ
وَمَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ مَا لَمْ يَطْفُ عَلَى الْمَاءِ مِمَّا مَاتَ فِي
الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ خَاصَّةً, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا طَفَا مِنْهُ عَلَى
الْمَاءِ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِمَّا فِي الْمَاءِ إِلاَّ السَّمَكُ
وَحْدَهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ خِنْزِيرِ الْمَاءِ، وَلاَ إنْسَانِ الْمَاءِ,
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ
الْخِنْزِيرِ جُمْلَةً وَالإِنْسَانِ وَهَذَا خِنْزِيرٌ وَإِنْسَانٌ, قَالُوا:
فَإِنْ ضَرَبَهُ حُوتٌ فَقَتَلَهُ أَوْ ضَرَبَهُ طَائِرٌ فَقَتَلَهُ أَوْ
ضَرَبَتْهُ صَخْرَةٌ فَقَتَلَتْهُ أَوْ صَادَهُ وَثَنِيٌّ فَقَتَلَهُ فَطَفَا
بَعْدَ كُلِّ هَذَا فَهُوَ حَلاَلٌ أَكْلُهُ, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
فِي سَمَكَةٍ مَيِّتَةٍ بَعْضُهَا فِي الْبَرِّ وَبَعْضُهَا فِي الْمَاءِ: إنْ
كَانَ الرَّأْسُ وَحْدَهُ خَارِجَ الْمَاءِ أُكِلَتْ وَإِنْ كَانَ الرَّأْسُ فِي
الْمَاءِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي الْبَرِّ مِنْ مُؤَخَّرِهَا النِّصْفَ
فَأَقَلَّ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهَا وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي الْبَرِّ مِنْ
مُؤَخَّرِهَا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ حَلَّ أَكْلُهَا.
قال أبو محمد: هَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ تُعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ
الإِسْلاَمِ قَبْلَهُمْ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْقُرْآنِ وَلِلسُّنَنِ
وَلأََقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَلِلْقِيَاسِ وَلِلْمَعْقُولِ لأََنَّهَا تَكْلِيفٌ
مَا لاَ يُطَاقُ مِمَّا لاَ سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ هَلْ مَاتَتْ وَهِيَ طَافِيَةٌ
فِيهِ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَطْفُوَ أَوْ مَاتَتْ مِنْ ضَرْبَةِ حُوتٍ أَوْ
مِنْ صَخْرَةٍ مُنْهَدِمَةٍ أَوْ حَتْفَ أَنْفِهَا، وَلاَ يَعْلَمُ هَذَا إِلاَّ
اللَّهُ أَوْ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِذَلِكَ الْحُوتِ, وَمَا نَدْرِي لَعَلَّ الْجِنَّ
لاَ سَبِيلَ لَهَا إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَمْ يُمْكِنُهَا عِلْمُ ذَلِكَ لأََنَّ
فِيهِمْ غَوَّاصِينَ بِلاَ شَكٍّ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ
يَغُوصُونَ لَهُ} ثُمَّ لاَ بُدَّ لِلسَّمَكَةِ الَّتِي شَرَّعَ فِيهَا مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ السَّخِيفَةَ مِنْ مُذَرِّعٍ يُذَرِّعُ مَا
مِنْهَا خَارِجَ الْمَاءِ وَمَا مِنْهَا دَاخِلَ الْمَاءِ ثُمَّ مَا يُدْرِيهِ
الْبَائِسُ لَعَلَّهُ كَانَ أَكْثَرُهَا فِي الْمَاءِ, ثُمَّ أَدَارَتْهَا
الأَمْوَاجُ فَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ
(7/393)
لِهَذِهِ
الْحَمَاقَاتِ الَّتِي لاَ تُشْبِهُ إِلاَّ مَا يَتَطَايَبُ بِهِ الْمُجَّانُ لأَِضْحَاكِ
سُخَفَاءِ الْمُلُوكِ, وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي
الأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ فِي أَنَّهُ لاَ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ، وَلاَ
الرَّضْعَتَانِ: هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَلاَ نَأْخُذُ بِهَا
إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ, ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَزِيدُوا
بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُقُولِ مِثْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ.
نَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ فِي الدِّينِ وَالْعَقْلِ كَثِيرًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَدْ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَالإِنْسَانَ وَهَذَا
خِنْزِيرٌ وَإِنْسَانٌ, وَقَدْ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ بِهَذَا أَيْضًا
خَاصَّةً: فَلَيْسَ خِنْزِيرًا، وَلاَ إنْسَانًا لأََنَّهَا إنَّمَا هِيَ
تَسْمِيَةُ مَنْ لَيْسَ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ وَلَيْسَتْ التَّسْمِيَةُ إِلاَّ
لِلَّهِ تَعَالَى, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ لَكَانَ مَنْ شَاءَ أَنْ
يُحِلَّ الْحَرَامَ أَحَلَّهُ بِأَنْ يُسَمِّيَهُ بِاسْمِ شَيْءٍ حَلاَلٍ وَمَنْ
شَاءَ أَنْ يُحَرِّمَ الْحَلاَلَ حَرَّمَهُ بِأَنْ يُسَمِّيَهُ بِاسْمِ شَيْءٍ
حَرَامٍ, فَسَقَطَ قَوْلُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ سُقُوطًا لاَ مِرْيَةَ فِيهِ
وَبَقِيَ قَوْلٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ فِي تَحْرِيمِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
مَهْدِيٍّ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
قَالَ: مَا طَفَا فَلاَ تَأْكُلُوهُ وَمَا كَانَ عَلَى حَافَتَيْهِ أَوْ حَسِرَ
عَنْهُ فَكُلُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إبْرَاهِيمُ، هُوَ
ابْنُ عُلَيَّةَ نَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَا
حَسِرَ الْمَاءُ، عَنْ ضِفَّتَيْ الْبَحْرِ فَكُلْ وَمَا مَاتَ فِيهِ طَافِيًا
فَلاَ تَأْكُلْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ فُضَيْلٍ أَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ مَيْسَرَةَ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا طَفَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ فَلاَ
تَأْكُلُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ أَنَّهُ سَمِعَ
ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنِّي أَجِدُ الْبَحْرَ وَقَدْ جَعَلَ
سَمَكًا قَالَ: لاَ تَأْكُلْ مِنْهُ طَافِيًا. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: مَا طَفَا مِنْ السَّمَكِ فَلاَ تَأْكُلْهُ.
وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ كَرِهُوا الطَّافِيَ مِنْ السَّمَكِ, وَبِتَحْرِيمِهِ
يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَرُوِيَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِيمَا فِي
الْبَحْرِ مِمَّا عَدَا السَّمَكِ قَوْلاَنِ, أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُؤْكَلُ,
وَالآخَرُ لاَ يُؤْكَلُ حَتَّى يُذْبَحَ, وَهَهُنَا قَوْلٌ آخَرُ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ قَالَ: نَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَرِهَ صَيْدَ الْمَجُوسِ لِلسَّمَكِ. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
حَفْصٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ذَكَاةُ الْحُوتِ فَكُّ لَحْيَيْهِ.
=====
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق