كتاب:المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري
(المتوفى : 456هـ) |
لاَ يُحَرِّمُ الْكُحْلُ لِلصَّبِيِّ
بِاللَّبَنِ , وَلاَ صَبُّهُ فِي الْعَيْنِ أَوْ الأُُذُنِ , وَلاَ الْحُقْنَةُ
بِهِ , وَلاَ مُدَاوَاةُ الْجَائِفَةِ بِهِ , وَلاَ الْمَأْمُومَةِ بِهِ , وَلاَ
تَقْطِيرُهُ فِي الإِحْلِيلِ قَالُوا : فَلَوْ طُبِخَ طَعَامٌ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ
حَتَّى صَارَ مَرَقَةً نَضِجَةً , وَكَانَ اللَّبَنُ ظَاهِرًا فِيهَا غَالِبًا
عَلَيْهَا بِلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ , فَأَطْعَمَهُ صَغِيرًا لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ
عَلَيْهِ نِكَاحَ الَّتِي اللَّبَنُ مِنْهَا , وَلاَ نِكَاحَ بَنَاتِهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ ثُرِدَ لَهُ خُبْزٌ فِي لَبَنِ امْرَأَةٍ فَأَكَلَهُ كُلَّهُ لَمْ
يَقَعْ بِذَلِكَ تَحْرِيمٌ أَصْلاً فَلَوْ شَرِبَهُ كَانَ مُحَرَّمًا
كَالرَّضَاعِ.
وَأَمَّا الْخِلاَفُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ ,
وَالشَّافِعِيُّ : السَّعُوطُ وَالْوَجُورُ يُحَرِّمَانِ كَتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ.
وَقَدْ تَنَاقَضُوا فِي هَذَا عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَرُوِّينَا ، عَنِ الشَّعْبِيِّ : أَنَّ السَّعُوطَ وَالْوَجُورَ يُحَرِّمَانِ.
قال أبو محمد : احْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنْ قَالُوا : صَحَّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ : ( إنَّمَا الرَّضَاعَةُ
مِنْ الْمَجَاعَةِ) . قَالُوا : فَلَمَّا جَعَلَ عليه الصلاة والسلام الرَّضَاعَةَ
الْمُحَرِّمَةَ مَا اُسْتُعْمِلَ لِطَرْدِ الْجُوعِ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي
السَّقْيِ وَالأَكْلِ .
فَقُلْنَا : هَذَا لاَ حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ
الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمْ لاَ يُوجَدُ فِي السَّعُوطِ ; لأََنَّهُ لاَ يُرْفَعُ
بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْجُوعِ , فَإِنْ لَجُّوا وَقَالُوا : بَلْ يُدْفَعُ.
قلنا : لأََصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ حَظَّ السَّعُوطِ مِنْ ذَلِكَ كَحَظِّ
الْكُحْلِ وَالتَّقْطِيرِ فِي الْعَيْنِ بِاللَّبَنِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ; لأََنَّ
كُلَّ ذَلِكَ وَاصِلٌ إلَى الْحَلْقِ إلَى الْجَوْفِ , فَلِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ
الْكُحْلِ بِهِ وَبَيْنَ السَّعُوطِ بِهِ هَذَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنَّ مَنْ
قَطَّرَ شَيْئًا مِنْ الأَدْهَانِ فِي أُذُنِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ
,
وَكَذَلِكَ إنْ احْتَقَنَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَلَمْ
يُحَرِّمُوا بِهِ فِي اللَّبَنِ يُحْقَنُ بِهَا أَوْ يُكْتَحَلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ
لاَ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَلِمَ فَطَّرْتُمْ بِهِ الصَّائِمَ وَهَذَا تَلاَعُبٌ
لاَ خَفَاءَ بِهِ.
وقال مالك : إنْ جُعِلَ لَبَنُ الْمَرْأَةِ فِي طَعَامٍ وَطُبِخَ وَغَابَ
اللَّبَنُ أَوْ صُبَّ فِي مَاءٍ فَكَانَ الْمَاءُ هُوَ الْغَالِبَ فَسُقِيَ
الصَّغِيرُ ذَلِكَ الْمَاءَ أَوْ أُطْعِمَ ذَلِكَ الطَّعَامَ لَمْ يَقَعْ بِهِ
التَّحْرِيمُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ بِالنُّقْطَةِ تَصِلُ إلَى جَوْفِهِ وَهِيَ
لاَ تَدْفَعُ عِنْدَهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَجَاعَةِ فَظَهَرَ خِلاَفُهُمْ
لِلْخَبَرِ الَّذِي مَوَّهُوا بِأَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ. وَالْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ حُجَّةٌ لَنَا ; لأََنَّهُ عليه الصلاة والسلام
إنَّمَا حَرَّمَ بِالرَّضَاعَةِ الَّتِي تُقَابَلُ بِهَا الْمَجَاعَةُ وَلَمْ
يُحَرِّمْ بِغَيْرِهَا شَيْئًا فَلاَ يَقَعُ تَحْرِيمٌ بِمَا قُوبِلَتْ بِهِ
الْمَجَاعَةُ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ وَجُورٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , إِلاَّ
أَنْ يَكُونَ رَضَاعَةً كَمَا قَالَ الله تعالى : {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} . فَإِنْ مَوَّهُوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ
أَنَّ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ مَوْلَى الأَشْجَعِيِّ حَدَّثَهُ أَنَّ
أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : إنِّي
أَرَدْت أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَقَدْ سَقَتْنِي مِنْ لَبَنِهَا وَأَنَا
كَبِيرٌ تَدَاوَيْت بِهِ
(10/8)
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : لاَ تَنْكِحُهَا
وَنَهَاهُ عَنْهَا. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ : إنْ سَقَتْهُ
امْرَأَتُهُ مِنْ لَبَنِ سُرِّيَّتِهِ , أَوْ سَقَتْهُ سُرِّيَّتُهُ مِنْ لَبَنِ
امْرَأَتِهِ لِتُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ فَلاَ يُحَرِّمُهَا ذَلِكَ.
قال أبو محمد : هَذَا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ ; لأََنَّ فِيهِ رَضَاعَ الْكَبِيرِ
وَالتَّحْرِيمَ بِهِ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ , وَفِيهِ أَنَّ رَضَاعَ
الضَّرَائِرِ لاَ يُحَرِّمُ عِنْدَ عَلِيٍّ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا.
(10/9)
إن ارتضع صغير أو كبير من لبن ميته أو
مجنونة
...
1867 - مَسْأَلَةٌ : قال أبو محمد : وَإِنْ ارْتَضَعَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ لَبَنَ
مَيِّتَةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَوْ سَكْرَى خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ
يَقَعُ بِهِ ; لأََنَّهُ رَضَاعٌ صَحِيحٌ.
وقال الشافعي : لاَ يَقَعُ بِلَبَنِ الْمَيِّتَةِ رَضَاعٌ ; لأََنَّهُ نَجِسٌ
قال علي : هذا عَجَبٌ جِدًّا أَنْ يَقُولَ فِي لَبَنِ مُؤْمِنَةٍ : إنَّهُ نَجِسٌ
وَقَدْ صَحَّ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: (
الْمُؤْمِنُ لاَ يَنْجَسُ) وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي حَالِ مَوْتِهِ
وَحَيَاتِهِ سَوَاءٌ , هُوَ طَاهِرٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ , وَلَبَنُ
الْمَرْأَةِ بَعْضُهَا , وَبَعْضُ الطَّاهِرِ طَاهِرٌ , إِلاَّ أَنْ يُخْرِجَهُ ،
عَنِ الطَّهَارَةِ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ ثُمَّ يَرَى لَبَنَ الْكَافِرَةِ
طَاهِرًا يُحَرِّمُ , وَهُوَ بَعْضُهَا , وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : {إنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَبَعْضُ النَّجِسِ نَجِسٌ بِلاَ شَكٍّ.
فإن قيل : فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنَّ لَبَنَ الْكَافِرَةِ نَجِسٌ بِلاَ شَكٍّ
وَأَنْتُمْ تُجِيزُونَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِرْضَاعَ الْكَافِرَةِ
قلنا : لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ ,
وَأَوْجَبَ عَلَى الأُُمِّ رَضَاعَ وَلَدِهَا , وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّهُ سَيَكُونُ لَنَا أَوْلاَدٌ مِنْهُنَّ : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }.
إِلاَّ أَنَّنَا نَقُولُ : إنَّ غَيْرَ الْكِتَابِيَّةِ لاَ يَحِلُّ لَنَا
اسْتِرْضَاعُهَا ; لأََنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا أُبِيحَ لَنَا اتِّخَاذُهُنَّ
أَزْوَاجًا وَطَلَبُ الْوَلَدِ مِنْهُنَّ فَبَقِيَ لَبَنُهَا عَلَى النَّجَاسَةِ
جُمْلَةً , وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثم نقول : لَوْ خَالَطَ لَبَنُ الْمُرْضِعَةِ دَمٌ ظَاهِرٌ مِنْ فَمِ الْمُرْضَعِ
, أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا يُحَرِّمُ الَّذِي لَمْ
يُخَالِطْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ; لأََنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا فِي " كِتَابِ
الطَّهَارَةِ " مِنْ كِتَابِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّجِسَ ,
وَالْحَرَامَ إذَا خَالَطَهُمَا الطَّاهِرُ الْحَلاَلُ فَإِنَّ الطَّاهِرَ طَاهِرٌ
, وَالنَّجِسَ نَجِسٌ , وَالْحَلاَلَ حَلاَلٌ , وَالْحَرَامَ حَرَامٌ ,
فَالْمُحَرَّمُ هُوَ اللَّبَنُ لاَ مَا خَالَطَهُ مِنْ حَرَامٍ أَوْ نَجِسٍ
وَلِكُلِّ شَيْءٍ حُكْمُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلَبَنُ الْمُشْرِكَةِ
إنَّمَا يَنْجَسُ هُوَ وَهِيَ بِذَلِكَ ; لِدِينِهَا النَّجِسِ , فَلَوْ
أَسْلَمَتْ لَطَهُرَتْ كُلُّهَا , فَلأَِرْضَاعِهَا حُكْمُ الإِرْضَاعِ فِي
التَّحْرِيمِ ; لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(10/9)
لايحرم من الرضاع إلا خمس رضعات
...
1868 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إِلاَّ خَمْسُ رَضَعَاتٍ ,
تُقْطَعُ كُلُّ رَضْعَةٍ مِنْ الأُُخْرَى أَوْ خَمْسُ مَصَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ
كَذَلِكَ أَوْ خَمْسٌ مَا بَيْنَ مَصَّةٍ وَرَضْعَةٍ , تُقْطَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ
مِنْ الأُُخْرَى هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَصَّةُ تُغْنِي شَيْئًا مِنْ دَفْعِ
الْجُوعِ , وَإِلَّا فَلَيْسَتْ شَيْئًا ، وَلاَ تُحَرِّمُ شَيْئًا. وَهَذَا
مَكَانٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ : فَرُوِيَ ، عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُ لاَ
يُحَرِّمُ إِلاَّ عَشْرُ رَضَعَاتٍ لاَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَرْسَلَتْ بِهِ إلَى أُمِّ كُلْثُومٍ أُخْتِهَا بِنْتِ أَبِي بَكْرِ
الصِّدِّيقِ
(10/9)
المجلد الحادي عشر
تابع كتاب الدماء والقصاص والديات
تابع احكام الجراح واقسامها
من أغضب احمق بما يغضب منه
...
2107 - مسألة: قال أبو محمد:من أغضب أحمق بما يغضب منه
فقذف بالحجارة فقتل المغضب له أو غيره , أو أعطى أحمق سيفا فقتل به قوما , فلا شيء
في كل ذلك , لأنه لم يباشر شيئا من الجناية , ولا يسمى في اللغة قاتلا . فلو أنه
أمر الأحمق بقتل إنسان بعينه فقتله , فإن كان الأحمق فعل ذلك طاعة له , وكان ذلك
معروفا فهو آمر , فالآمر عليه القود , وإن كان لم يفعل طائعا له فلا شيء في ذلك ,
لأنه لم يكن , لا عن أمره ولا عن فعله . فلو رمى حجرا فأصاب ذلك الحجر حجرا فقلعه
, فتدهده ذلك الحجر فقتل وأفسد : فلا شيء في ذلك , لأنه إنما تولد عن رميه انقلاع
الحجر فقط , فهو ضامن لرده إن كان موضوعا لمعنى ما فقط , وإنما يضمن المرء ما تولد
عن فعله , ولا يضمن ما تولد عما تولد عن فعله . ولا يختلف اثنان من الأمة في أن من
رمى سهما يريد صيدا فأصاب إنسانا أو مالا فأتلفه فإنه يضمن , ولو أنه صادف حمار
وحش يجري فقتل إنسانا أو سقط الحمار - إذ أصابه السهم فقتل إنسانا فإنه لا يضمن
شيئا . ولو أن إنسانا يعمل في بئر وآخر يستقي فانقطع الحبل فوقعت الدلو فقتلت الذي
في البئر , فإن كان ذلك لضعف الحبل فهو قاتل خطأ والدية على العاقلة , وعليه
الكفارة , لأنه مباشر لقتله , فلو غلب فلم يقدر على إمساكه الدلو ففتح يديه فلا
شيء عليه في ذلك , لأنه لم يباشر قتله ولا عمل شيئا . حدثنا عبد الله بن ربيع نا
ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن
عبد الله بن هبيرة السبائي أن رجلا رمى حدأة فخرت الحدأة على صبي فقتلته ؟ قال :
هو على الذي رمى , وكل شيء يكون من فعل رجل فهو عليه - قال : وبلغني عن يحيى بن
سعيد أنه قال في رجل مر برجل وهو يحمل على ظهره حجرا فسقط منه فأصاب رجلا فقتله ؟
فعليه دية المقتول - قال سحنون : هذه مسألة سوء ؟ قال ابن وهب : وسمعت مالكا يقول
في الرجل يمسك الحبل للرجل يتعلق به
(11/2)
في البئر ؟ قال : إن انقطع الحبل فلا شيء عليه , وإن انفلت من يد الممسك فسقط المتعلق فمات فهو ضامن له . قال علي : لسنا نقول بشيء من هذا كله : أما الحدأة تقع , فإن الرامي بها لم يباشر إلقاءها كما ذكرنا . وأما الذي سقط الحجر عن ظهره دون أن يكون هو ألقاه لكن ضعف أو عثر فلا شيء في ذلك - ولو أنه هو تعمد إلقاءه فمات به إنسان , فإن كان عمدا - وهو يدري - فقاتل عمد , وعليه القود , وإن كان لم يعرف أن هنالك إنسانا فهو قاتل خطأ وعليه الكفارة , وعلى عاقلته الدية , لأنه مباشر قتله بلا شك . وأما تعلق الرجل بحبل يمسك عليه آخر فلا شيء في ذلك , لا في انقطاع الحبل , ولا في ضعف الممسك عن إمساكه , لأنه في انقطاع الحبل جان على نفسه بجبذ الحبل , فإنما انقطع من فعله لا من فعل الواقف على البئر فأما انفلات الحبل فلم يتول الواقف على رأس البئر إبقاءه , لكن غلب عليه فلم يباشر فيه شيئا أصلا : روينا من طريق ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يزيد بن عياض , وابن لهيعة عن ابن أبي جعفر عن بكير بن الأشج أن عبد الله بن عمرو وقال يزيد بن عياض : عن عبد الملك بن عبيد عن مجاهد عن ابن عباس , ثم اتفقا : أن من سل سيفا على امرأة , أو صبي , ليفزعهما به , فماتا منه ففيه دية الخطأ . قال علي : وهذا باطل لا يصح - وابن لهيعة في غاية الضعف , ويزيد بن عياض مذكور بالكذب - وهذا العمل لا يختلفون في أن من فعله غير قاصد إلى إفزاعهما ففزعا فماتا فلا شيء عليه - ولا خلاف في أن النية , والمعرفة لا يراعى شيء منهما في الخطأ , بل هما مطرحان فيه , ولا خلاف في أن القاتل إذا قصد به ونوى فإنه عمد . والذي سل سيفا على امرأة أو صبي يريد بذلك إفزاعهما فماتا , فبيقين يدري كل ذي عقل سليم أنه عامد قاصد إليهما بهذا الفعل , فإذ لا خلاف في أنه ليس عليه قود , ولا له حكم العمد الذي هو أقرب الصفات إلى فعله فمن المحال الممتنع أن يكون عليه حكم الخطأ الذي ليس لفعله فيه مدخل أصلا - وهذا في غاية البيان - وبالله تعالى التوفيق - وليس فيه إلا الأدب فقط .
(11/3)
2108 - مسألة : من أدخل إنسانا دارا
فأصابه شيء ؟
قال علي : روينا من طريق ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا محمد بن قيس عن
الشعبي , قال : إذا أدخل الرجل الرجل داره فهو ضامن حتى يخرجه كما أدخله . وروينا
من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في رجل دخل بيت رجل , وفي البيت سكين فوطئ
عليها فقتلته , قال : ليس على صاحب البيت شيء ؟ قال علي : وبقول الزهري نقول , لأن
النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(11/3)
"إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" فلا يحل إلزام أحد غرامة مال بغير نص , أو إجماع وما لم يتيقن أن هذا الإنسان جناه بعمد , أو بخطأ , فلا شيء عليه , لأن دمه وماله حرام , فإن وجد في داره مقتولا فله حكم القسامة . وإن ادعى - وهو حي - على صاحب الدار فعليه حكم التداعي , وإن لم يخرج إلا ميتا لا أثر فيه , فالموت يغدو ويروح , ولا شيء به إلا التداعي , إذ قد يمكن أن يغم فلا يظهر فيه أثر , فإذا أمكن فهو من باب التداعي - ولو أيقنا أنه مات حتف أنفه لم يكن هنالك شيء أصلا وبالله تعالى التوفيق .
(11/4)
حكم جنايات الحيوان والراكب والسائس
والقائد
...
2109 - مسألة - جنايات الحيوان , والراكب , والسائس , والقائد.
قال علي: قد ذكرنا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "العجماء
جرحها جبار". روينا من طريق ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا إسماعيل بن أبي
خالد عن الشعبي قال : قال رجل لشريح إن شاة هذا قطعت غزلي ؟ فقال : ليلا أو نهارا
, فإن كان نهارا فقد برئ , وإن كان ليلا فقد ضمن , ثم قرأ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ} قال : إنما كان النفش بالليل . قال علي : قال مالك , والشافعي :
ما أفسدت المواشي ليلا فهو مضمون على أهلها , وما أفسدت نهارا فلا ضمان فيه . وروي
عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة . وقال أبو حنيفة : وأبو سليمان , وأصحابهما :
لا ضمان على أرباب الماشية فيما أفسدت ليلا أو نهارا . ولا يضمنون أكثر من قيمة
الماشية - وروي عنه أنهم يضمنون ما أصابت نهارا . وقال الليث : يضمن أهل الماشية
ما أصابت ليلا , ولا يضمنون أكثر من قيمة الماشية . قال علي : احتج المضمنون ما
جنت ليلا : بما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا معاوية بن هشام نا سفيان عن
عبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء بن عازب أن ناقة لأهل
البراء أفسدت شيئا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الثمار على أهلها
بالنهار , وضمن أهل الماشية ما أفسدت ماشيتهم بالليل وروينا من طريق عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا
فأفسدت فيه , فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى
أهل المواشي حفظها بالليل. ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال ابن شهاب
حدثني أبو أمامة بن سهل: "أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدته فذهب أصحاب
الحائط إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار , وعلى أهل الماشية حفظ مواشيهم بالليل
وعليهم ما أفسدته". وذكر بعض الناس : أن الوليد بن مسلم روى هذا الحديث عن
الزهري عن حرام بن محيصة : أن البراء أخبره . قال علي : هذا خبر مرسل , أحسن طرقه
: ما رواه مالك , ومعمر عن سفيان
(11/4)
عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن ناقة
للبراء . وما رواه ابن جريج عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل : أن ناقة دخلت . فلم
يسند أحد قط من هاتين الطريقتين اللتين لو أسند منهما , أو من إحداهما لكان حجة
يجب الأخذ بها , وإنما استند من طريق حرام بن سعد بن محيصة مرة عن أبيه - ولا صحبة
لأبيه - ومرة عن البراء فقط , وحرام بن سعد بن محيصة - مجهول - لم يرو عنه أحد إلا
الزهري , وما نعلم للزهري عنه غير هذا الحديث , ولم يوثقه الزهري - وهو قد يروي
عمن لا يوثق , كروايته عن سليمان بن قرم , ونبهان مولى أم سلمة , وغيرهما من
المجاهيل , والهلكى . ولا يحل أن يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين
إلا بمن تعرف عدالته - فسقط التعلق بهذا الخبر ؟ قال علي : روينا من طريق أبي بكر
بن أبي شيبة نا عبد الله بن إدريس الأودي عن حصين بن عبد الرحمن بن عامر الشعبي ,
قال : اختصم إلى علي بن أبي طالب في ثور نطح حمارا فقتله , فقال علي بن أبي طالب :
إن كان الثور دخل على الحمار فقتله فقد ضمن - وإن كان الحمار دخل على الثور فقتله
فلا ضمان عليه . قال علي : فهذا حكم من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والقول
عندنا في هذا كله هو ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه من أن
"العجماء جرحها جبار وعملها جبار" فلا ضمان فيما أفسده الحيوان من دم أو
مال لا ليلا ولا نهارا - وبالله تعالى التوفيق . فإن أتى بها وحملها على شيء ,
وأطلقها فيه : ضمن حينئذ , لأنه فعله ليلا كان أو نهارا . وأما الحيوان الضارية
فقد جاءت فيها آثار : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم
أن عمر بن الخطاب كان يقول برد البعير , أو البقرة , أو الحمار , أو الضواري , إلى
أهلهن ثلاثا إذا حظر الحائط , ثم يعقرن . قال ابن جريج : وأخبرني من نظر في كتاب
عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى الحجاج بن ذؤيب أن يحصن الحائط حتى يكون إلى نحو
البعير . قال ابن جريج : وسمعت عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر : أن
عمر بن الخطاب كان يأمر بالحائط أن تحظر ويسد الحظر من الضاري المدل , ثم يرد إلى
أهله ثلاث مرات , ثم يعقر . قال ابن جريج : وقلت لعطاء : الحظر يسد , ويحصن على
الحائط , ثم لا يمتنع من الضاري المدل , أبلغك فيه شيء ؟ قال : لا .
قال أبو محمد: فهذا حكم عمر بن الخطاب : يرد الضاري ثلاث مرات إلى صاحبه دون تضمين
, ولم يخص ليلا ولا نهارا ثم يعقر . فخالفوا كلا الحكمين من حكم عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - وهم يعظمون أقل من هذا إذا وافق تقليدهم . ومن طريق عبد الرزاق عن
معمر , قال : أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد الصنعاني : أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس
(11/5)
يحدث قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن أهون أهل النار عذابا رجل يطأ جمرة يغلي منها دماغه, قال أبو بكر :
وما كان ذنبه يا رسول الله ؟ قال : كانت له ماشية يعيث بها الزرع ويؤذيه , وحرم
الله الزرع وما حوله غلاة سهم , فاحذروا أن لا يسحب الرجل ماله في الدنيا ويهلك
نفسه في الآخرة , فلا تسحبوا أموالكم في الدنيا وتهلكوا أنفسكم في الآخرة".
قال علي : وهذا مرسل ولا حجة في مرسل , والقول عندنا في هذا أن الحيوان - أي حيوان
كان - إذا أضر في إفساد الزرع أو الثمار , فإن صاحبه يؤدب بالسوط ويسجن , إن أهمله
, فإن ثقفه فقد أدى ما عليه , وإن عاد إلى إهماله بيع عليه ولا بد , أو ذبح وبيع
لحمه , أي ذلك كان أعود عليه أنفذ عليه ذلك . برهان ذلك : قول الله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} , ومن البر والتقوى : المنع من أذى الناس في زرعهم وثمارهم . ومن
الإثم والعدوان : إهمال ذلك . فينظر في ذلك بما فيه حماية أموال المسلمين - مما لا
ضرر فيه على صاحب الحيوان بما لا يقدر على أصلح من ذلك - كما أمر الله تعالى .
وأما من زرع في الشعواء , أو حيث المسرح , أو غرس هنالك غرسا فإنه يكلف أن يحظر
على زرعه وغرسه بما يدفع عن ذلك من بناء أو غيره إذ لا ضرر عليه في ذلك , بل
الحائط له , ودفع الإضاعة عن ماله . ولا يجوز أن يمنع الناس عن إرعاء مواشيهم
هنالك , كما لا يجوز أن يمنع هو من إحياء ما قدر على إحيائه من ذلك الموات , وليس
في طاقة أحد منع المواشي عن زرع , أو ثمر في وسط المسرح , فإذ ذلك ممتنع - ليس في
الوسع - فقد بطل أن يكلفوا ضبطها , أو منعها : بقول الله تعالى: {لا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} , وهكذا القول فيما تعذر على أهل الماشية منع ماشيتهم
منه في مرورها في طريقها إلى المسرح بين زرع الناس وثمارهم , فإن أهل الزرع
والثمار يكلفون هاهنا بحظير ما ولي الطريق من زروعهم وثمارهم . وأما الثمار المتصلة
من الزرع والغرس التي لا مسرح فيها فليس عليهم تكليف الحظر , فإن أطلق مواشيه
هنالك عامدا , أو مهملا : أدب الأدب الموجع , وبيعت عليه مواشيه إن عاد , وضمن ما
باشر إطلاقها عليه . وبالله تعالى التوفيق . ولا يعقر الحيوان الضاري ألبتة , لأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله , ونهى عن إضاعة
المال , والعقر إضاعة فيما يؤكل لحمه , وفيما لا يؤكل لحمه - وبالله التوفيق .
وأما القائد , والراكب , والسائق - فإن يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال : نا أحمد
بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا إبراهيم الهروي نا هشيم نا
أشعث عن محمد بن سيرين عن شريح : أنه كان يضمن الفارس ما أوطأت دابته بيد أو رجل ,
ويبرئه من
(11/6)
النفحة . قال هشيم : ونا يونس , والمغيرة , قال يونس عن الحسن البصري , وقال المغيرة عن إبراهيم أنهما كانا يضمنان ما أوطأت الدابة بيد أو رجل , ولا يضمنان من النفحة . وعن إبراهيم , وشريح أنهما قالا : إذا نفحت الدابة برجلها فإن صاحبها لا يضمن . وقال الحكم والشعبي : يضمن ولا يطل دم المسلم . وعن محمد بن سيرين أن رجلا شرد له بعيران فأخذهما رجل فقرنهما في حبل فأخنق أحدهما فمات ؟ فقال شريح : إنما أراد الإحسان , لا يضمن إلا قائد أو راكب . وقال محمد بن سيرين في الدابة أفزعت فوطئت يضمن صاحبها , وإذا نفحت برجلها من غير أن تفزع لم يضمن . وعن الشعبي أنه سئل عن رجل أوثق على الطريق فرسا عضوضا فعقر ؟ فقال الشعبي : يضمن , ليس له أن يربط كلبا عضوضا على طريق المسلمين . وعن إبراهيم النخعي , وشريح قالا جميعا : يضمن الراكب , والسائق , والقائد . وعن أبي عون الثقفي أن رجلين كانا ينشران ثوبا فمر رجل فدفعه آخر فوقع على الثوب فخرقه , فارتفعوا إلى شريح فضمن الدافع , وأبرأ المدفوع , بمنزلة الحجر . وعن الشعبي قال : هما شريكان - يعني الراكب والرديف . وعن الشعبي أيضا قال : من أوقف دابته في طريق المسلمين أو وضع شيئا فهو ضامن بجنايته . وعن إبراهيم النخعي , والشعبي , قالا جميعا : من ربط دابته في طريق فهو ضامن - وعن إبراهيم في رجل استعار من رجل فرسا فركضه حتى قتله , قال : ليس عليه ضمان , لأن الرجل يركض فرسه . وعن عطاء قال : يغرم القائد , والراكب , عن يدها ما لا يغرمان عن رجلها , قلت : كانت الدابة عادية فضربت بيدها إنسانا وهي تقاد ؟ قال : نعم , ويغرم القائد , قلت : السائق يغرم عن اليد والرجل , قال : زعموا , فراددته ؟ قال : يقول : الطريق الطريق . وعن قتادة قال : يغرم القائد ما أوطأت بيد أو رجل , فإذا نفحت لم يغرم , والراكب كذلك , إلا أن تكون بالعنان فتنفح فيغرم . وعن الشعبي قال : يضمن الرديف مع صاحبه . وعن شريح قال : يضمن القائد , والسائق , والراكب , ولا يضمن الدابة إذا عاقبت , قلت : وما عاقبت ؟ قال : إذا ضربها رجل فأصابته . وعن مجاهد قال : ركبت جارية جارية فنخستها أخرى فوقعت فماتت ؟ فضمن علي بن أبي طالب الناخسة والمنخوسة . وقال مالك , والشافعي : يضمن السائق , والقائد , والراكب ما أصابت الدابة , إلا أن ترمح من غير فعلهم , فلا ضمان عليهم . وقال مالك , وأبو حنيفة : يضمن الرديف مع الراكب . وقال إسحاق بن راهويه لا يضمن الرديف . وقال أحمد : أرجو أن لا شيء عليه إذا كان أمامه من يمسك العنان.
(11/7)
قال أبو محمد: فالواجب علينا عند تنازعهم ما افترض الله تعالى علينا , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} , فنظرنا في الراكب فوجدناه مصرفا لدابته حاملا لها فما أصابت مما حملها عليه , فإن عمد فعليه القصاص في النفس فما دونها , لأنه متعد مباشر للجناية - وإن كان مما لا يضمنه , فإن كان ذلك - وهو لا يعلم بما بين يديه - فهو إصابة خطأ يضمن المال , وعلى عاقلته الدية في النفس وعليه الكفارة , لأنه قاتل خطأ , وما أصابت برأسها , أو بعضتها , أو بذنبها , أو بنفحتها بالرجل , أو ضربت بيدها في غير المشي : فليس من فعله فلا ضمان عليه فيه , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جرحها جبار". وأما القائد : فإن كان يمسك الرسن أو الخطام فهو حامل للدابة على ما مشت عليه , فإن عمد فالقود - كما قلنا - والضمان في المال , وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ , فالدية على العاقلة , والكفارة عليه في ماله , ويضمن المال , فإن كانت الدواب مقصورة بعضها إلى بعض كذلك , فكذلك أيضا ولا فرق . وسواء كان على الدابة المقودة راكب أو لم يكن : لا ضمان على الراكب , إلا إن حملها أو أعان , فهو والقائد شريكان , وإلا فلا , فإن كان القائد لا رسن بيده , ولا عقال , فلا ضمان عليه ألبتة ; لأنه لم يتول شيئا , ولا باشر فيما أتلف من دم , أو مال شيئا أصلا - وقد قال عليه الصلاة والسلام: "والعجماء جرحها جبار". وأما الرديف - فإن كان يمسك العنان هو وحده ولا يمسكه المتقدم : فحابس العنان هو الضامن وحده , وعليه في العمد القود , وفي الخطأ الكفارة , والدية على العاقلة , ولا ضمان , ولا شيء على المتقدم , إلا أن يعين في ذلك . وأما السائق - فإن حملها بضرب , أو نخس , أو زجر على شيء ما , فإن عمد فالقود والضمان , وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ كما قلنا , فإن لم يحملها على شيء فلا ضمان عليه , لأنه لم يباشر - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جرح العجماء جبار". ومن أوثق دابته على طريق المسلمين فلا ضمان عليه , وكذلك لو أرسلها وهو يمشي , وليس كل مسيء ضامنا . وقد علمنا وعلم كل مسلم : أن عامل السلاح , وبائعها في الفتن : فمخالف ظالم , ومسيء , ومعين بذلك على قتل الناس , ولا خلاف في أنه لا ضمان عليه . فإن قيل : إن غيره هو المتولي ؟ قيل لهم : والدابة هي المتولية أيضا , وجرحها جبار , وكذلك من حل دابة , أو طائرا عن رباطها : فلا ضمان عليه فيما أصابت , لأنه لم يعمد , ولا باشر , ولا تولى . وأما من ركب دابته ولها فلو يتبعها فأصاب الفلو إنسانا , أو مالا : فهو الحامل له على ذلك , فإن عمد فالقود , وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ . برهان ذلك : أنه في إزالته أمه عند مستدع له إلى المشي وراءها , فهو مباشر لاستجلابه , فلو ترك الفلو اتباع أمه , وأخذ يلعب , أو خرج عن اتباعها , فلا ضمان على راكب أمه أصلا . وكذلك من استدعى بهيمة بشيء تأكله وهو يدري أن في طريقها متاعا تتلفه , أو إنسانا راقدا
(11/8)
فأتته , فأتلفت في طريقها شيئا , فالقود في العمد , وهو قاتل خطأ إن لم يعمد . وكذلك من أشلى أسدا على إنسان أو حنشا - وليس كذلك من أطلقهما دون أن يقصد بهما إنسانا . لأنه في إطلاقهما على الإنسان مباشر لإتلافه , قاصد لذلك - وليس في إطلاقهما جانيا على أحد شيئا أصلا . وأما ما قاله شريح في قارن البعيرين فصحيح ولا ضمان على من فعل ما أبيح له فعله , إلا أن يوجب ذلك نص أو إجماع . وأما ما جاء عن علي - رضي الله عنه - في تضمين الناخسة فصحيح , لأنها هي الملقية للأخرى في الأرض - وبالله تعالى التوفيق .
(11/9)
حكم جناية الكلب وغيره ونفار الدابة
...
2110 - مسألة : من جناية الكلب وغيره , ونفار الدابة وغير ذلك
من الباب الذي قبل هذا ؟ قال علي : روينا من طريق ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب
أخبرني الحارث بن نبهان عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن أنس بن سيرين أن رجلا كان
يسري بأمه فجاء رجل على فرس يركض فنفر الحمار من وقع حافر الفرس فوثب فوقعت المرأة
فماتت ؟ فاستأذن عمر بن الخطاب ؟ فقال عمر رضي الله عنه : ضرب الحمار ؟ فقال : لا
, فقال : أصاب الحمار من الفرس شيء ؟ قال : لا , قال : أمك أتت على أجلها فاحتسبها
. قال ابن وهب : وأخبرني يونس أنه سأل أبا الزناد عن عقل الكلب , أو الفهد , أو
السبع الداجن , أو الكبش النطاح , أو نطح الثور , أو البعير , أو الفرس الذي يعض ,
فيعقر مسكينا , أو زامرا , أو عابدا ؟ فقال أبو الزناد : إن قتل واحد من هذه
الدواب , أو أصاب كسر يد , أو رجل , أو فقأ عينا , أو أي أمر جرح من ذلك بأحد من
الناس فهو هدر قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: "العجماء جرحها
جبار" إلا أن يكون قد استعدى في شيء من ذلك , فأمره السلطان بإيثاق ذلك فلم
يفعل , فإن عليه أن يغرم ما حرج بالناس - فأما ما أصيب به الدابة أو بشيء منها ,
فلم يكن السلطان يتقدم إلى صاحبه , فإن على من أصابها غرم ما أصابها به . وقال
مالك : فيمن اقتنى كلبا في دار البادية فعقر ذلك الكلب إنسانا : إنه إن اقتناه -
وهو يدري أنه يفترس الناس فعقرهم - فهو ضامن لما فرس الكلب . قال أبو محمد:أما
الرواية عن عمر - فهي وإن لم تصح - من طريق النقل فمعناها صحيح - وبه نأخذ , لأن
من لم يباشر ولا أمر : فلا ضمان عليه , والدابة إذا نفرت فليس للذي نفرت منه ذنب ؟
إلا أن يكون نفرها عامدا : فإن عليه القود فيما قتلت إذا قصد بذلك أن تطأ الذي
أصابت , فإن لم يكن قصد ذلك فهو قاتل خطأ , والدية على العاقلة , والكفارة عليه ,
ويضمن المال في كلتا الحالتين , إذا تعمد تنفيرها , لأنه المحرك لها . وأما قول
أبي الزناد - فصحيح كله , لأن جرح العجماء جبار بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو لم يتعمد إشلاء شيء من ذلك . وأما قوله إلا أن يتقدم إليه
(11/9)
السلطان في ذلك فليس بشيء , وتقدم
السلطان لا يوجب غرامة لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما
السلطان منفذ للواجب على من امتنع فقط , وليس شارعا شريعة . وأما قول مالك فخطأ
أيضا , لأنه ليس علم المقتني للكلب بأنه يفترس الناس بموجب عليه غرامة لم يوجبها
القرآن ولا السنة , وهو وإن كان متعديا باقتنائه فإنه لم يباشر شيئا في الذي أتلفه
الكلب . وهكذا من آوى رجلا قتالا محاربا فجنى جناية , فهو وإن كان متعديا بإيوائه
إياه فليس مباشرا عدوانا في المصاب . وكل هذا باب واحد , وليس قياسا , ولكن خصومنا
يقولون بقوله ويخالفونه في ذلك العمل نفسه , فإذا جمعنا لهم القولين لاح لهم
تناقضهم فيها - فعلى هذا نورد مثل هذه المسائل لا على أنها حجة قائمة بنفسها ,
وإنما الحجة في هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جرح العجماء
جبار". وبالله تعالى التوفيق . روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عباد بن
العوام عن حجاج عن قتادة عن كعب بن سوار : أن رجلا كان على حمار فاستقبله رجل على
بعير في زقاق فنفر الحمار فصرع الرجل فأصابه شيء ؟ فلم يضمن كعب بن سوار صاحب
البعير شيئا ؟ قال أبو محمد: وهذا كما قلنا - وعن سفيان الثوري عن طارق قال : كنت
عند شريح فأتاه سائل فقال : إني دخلت دار قوم فعقرني كلبهم وخرق جرابي ؟ فقال : إن
كنت دخلت بإذنهم فهم ضامنون , وإن كنت دخلت بغير إذنهم فليس عليهم شيء . وعن
الشعبي قال : إذا كان الكلب في الدار فأذن أهل الدار للرجل فعقره الكلب ضمنوا ,
وإن دخل بغير إذن فعقره فلا ضمان عليهم - وأيما قوم غشوا غنما في مرابضها فعقرتهم
الكلاب فلا ضمان على أصحاب الغنم , وإن عرضت لهم الكلاب في الطريق فعقرتهم الكلاب
في الطريق ضمنوا . وأما المتأخرون - فإن أبا حنيفة , وسفيان الثوري , والحسن بن حي
, والشافعي , وأبا سليمان , قالوا : من كان في داره كلب فدخل إنسان بإذنه أو بغير
إذنه فقتله الكلب فلا ضمان في ذلك - وكذلك قال ابن أبي ذئب . وقد روى الواقدي نحو
هذا عن مالك - وروى عنه ابن وهب : أنه قال : إن اتخذ الكلب وهو يدري أنه يعقر
الناس ضمن - وأنه إن لم يعلم ذلك لم يضمن - إلا أن يتقدم إليه السلطان ؟
قال أبو محمد: اشتراط تقدم السلطان , أو علمه بأنه عقور لا معنى له , لأنه لم يوجب
هذا نص قرآن ولا سنة ولا إجماع . فإن قيل : إنه باتخاذه الكلب
(11/10)
العقور متعد - وكذلك هو باتخاذه حيث لم يبح له اتخاذه متعد أيضا ؟ قلنا : هو متعد في اتخاذه - في كلتا الحالتين - ظالم إلا أنه ليس متعديا في إتلاف ما أتلف الكلب , ولا أوجب الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم قط على ظالم غرامة مطلقة . وقد قلنا : إن التعدي الموجب للضمان , أو للقود , أو للدية , هو ما سمي به المرء " قاتلا , أو مفسدا " وليس كذلك , إلا بالمباشرة , أو بالأمر , وهي في اتخاذه الكلب , كمن عمل سيفا وأعطاه لظالم , أو اقتنى خمرا في خابية فجلس إنسان إليها فانكسرت فقتلت الإنسان ؟ فكل هذا ليس يسمي هذا الظالم " قاتلا , ولا متلفا " فلا ضمان في شيء من ذلك . وعن إبراهيم النخعي أنه قال في رجل جمح به فرسه فقتل رجلا , قال : يضمن , هو بمنزلة الذي رمى بسهمه طائرا فأصاب رجلا فقتله . قال أبو محمد:إذا جمح به فرسه , فإن كان هو المحرك له , المغالب له , فإنه يضمن كل ما جنى بتحريكه إياه , في القصد القود وفيما لم يقصده ضمان الخطأ - وأما إذا غلبته دابته فلم يحملها على شيء فلا شيء عليه أصلا في كل ما أصابت . ولو أن امرأ اتبع حيوانا ليأخذه ؟ فكل ما أفسد الحيوان في هروبه ذلك , مما هو حامله عليه , مما يوقن أن ذلك الحيوان إنما يراه ويهرب عنه : فهو ضامن له ما عمد وقصد بالقود , وما لم يقصد : فالدية على العاقلة والكفارة عليه - وأما ما أتلف ذلك الحيوان في جريه - وهو لا يراه - فلا ضمان على متبعه - وبالله تعالى التوفيق .
(11/11)
حكم لو أن انساناً هيج كلبا أو أطلق
أسداً أو أعطى أحمق سيفاً فقتل رجلاً
...
2111 - مسألة : ولو أن إنسانا هيج كلبا , أو أطلق أسدا , أو أعطى أحمق سيفا فقتل
رجلا :
كل من ذكرنا فلا ضمان على المهيج , ولا على المطلق , ولا على المعطي السيف ; لأنهم
لم يباشروا الجناية , ولا أمروا بها من يطيعهم . فلو أنه أشلى الكلب على إنسان ,
أو حيوان فقتله : ضمن المال وعليه القود مثل ذلك , ويطلق عليه كلب مثله حتى يفعل
به مثل ما فعل الكلب بإطلاقه , لأنه هاهنا هو الجاني القاصد إلى إتلاف ما أتلف
الكلب بإغرائه . ولو أن امرأ حفر حفرة وغطاها , وأمر إنسانا أن يمشي عليها , فمشى
عليها ذلك الإنسان مختارا للمشي - عالما , أو غير عالم - : فلا ضمان على آمره
بالمشي , ولا على الحافر , ولا على المعطي , لأنهم لم يمشوه , ولا باشروا إتلافه ,
وإنما هو باشر شيئا باختياره - ولا فرق بين هذا بين من غر إنسانا فقال له : طريق
كذا أمن هو ؟ فقال له : نعم , هو في غاية الأمن - وهو يدري أن في الطريق المذكور
أسدا هائجا , أو جملا هائجا , أو كلابا عقارة , أو قوما قطاعين للطريق , يقتلون
الناس - فنهض السائل مغترا بخبر هذا الغار له , فقتل وذهب ماله . وكذلك : من رأى
أسدا فأراد الهروب
(11/11)
عنه ؟ فقال له إنسان من غر به : لا تخف , فإنه مقيد ؟ فاغتر بقوله ومشى , فقتله الأسد - فهذا كله لا قود على الغار , ولا ضمان أصلا في دم ولا مال , لأنه لم يباشر شيئا , ولا أكره ؟ فلو أنه أكرهه على المشي على الحفرة فهلك فيها , أو طرحه إلى الأسد أو إلى الكلب ؟ فعليه القود . فلو طرحه إلى أهل الحرب , أو البغاة فقتلوه : فهم القتلة لا الطارح - بخلاف طرحه إلى من لا يعقل , لأن من لا يعقل آلة للطارح . وكذلك - لو أمسكه لأسد فقتله , أو لمجنون فقتله , فالممسك هاهنا هو القاتل - بخلاف إمساكه إياه لقتل من يعقل - وبالله تعالى التوفيق .
(11/12)
2112 - مسألة : في رجل طلب دابة فنادى
رجلا : احبسها علي , فصدمته فقتلته , أو رماها فقتلها
روينا من طريق ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أنه
قال في رجل طلب دابة فنادى رجلا : احبسها علي , فصدمته فقتلته , أو رماها فقتلها ؟
فقال ابن شهاب : كلاهما يغرم . وبه - إلى ابن وهب أخبرني الليث بن سعد وابن لهيعة
: أن هشاما كتب في رجل ضم جارية إليه من دابة فضربتها في حجره : أن على الرجل
ديتها - قال ابن لهيعة : والرجل مولى لنا ؟ كتب توبة بن نمر - قاضي أهل مصر - إلى
هشام في ذلك ؟ فكتب بهذا , فجعل الدية علينا قال ابن وهب : وأخبرني الليث بن سعد :
أن هشاما كتب في رجل حمل صبيا فخر في مهواة , فمات الصبي : أن ضمانه على الحامل ,
قال الليث : وعلى هذه الفتيا الناس - قال ابن وهب : وبلغني عن ربيعة أنه قال مثل
ذلك قال : فإن هلكا جميعا فلا عقل لهما .
قال أبو محمد: لا حجة في قول مخلوق دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما الذي
قال للرجل : احبس لي الدابة فصدمته فقتلته : فلا ضمان على الذي أمره بحبسها , لأنه
لم يتعد عليه , ولا باشر فيه إتلافه . فلو أن المأمور بحبس الدابة رماها فقتلها ,
أو جنى عليها فهو ضامن على كل حال , لأنه فعل من إتلافها , ومن الجناية عليها ما
لم يبح الله تعالى له فعله , فهو متلف بغير حق وجان بغير حق , ومباشر لذلك , قال
الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} , وكذلك - لو أمره بقتلها
, أو الجناية عليها ففعل لضمن , لأنه أمره بما لا يحل , وبما ليس له أن يأمره به ,
فهو متعد بالأمر , والمأمور أيضا متعد بالائتمار , فهو ضامن لمباشرته الجناية .
وأما من ضم صبية من دابة فرمحتها الدابة فقتلتها : فلا ضمان عليه , لأنه لم يباشر
إتلافها , و " جرح العجماء جبار " . وأما الذي حمل صبيا فسقط في مهواة
فمات الصبي , فإن كان موته من وقوع حامله عليه فهو ضامن , والضمان على العاقلة ,
وعليه الكفارة , لأنه قاتل خطأ - وإن كان مات من الوقعة لا من وقوع حامله عليه ,
فلا ضمان في ذلك . فلو مات الحامل حين وقوعه على الصبي , أو قبل وقوعه عليه : فلا
ضمان على عاقلته , لأنه لا جناية على ميت - وبالله تعالى التوفيق.
(11/12)
حكم اللص يدخل على الانسان هل له قصد
قتله
...
2113 - مسألة : اللص يدخل على الإنسان هل له قصد قتله ؟
قال علي: روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن إدريس الأودي عن عبيد
الله بن عمر عن نافع قال : أصلت ابن عمر على لص بالسيف , فلو تركناه لقتله . ومن
طريق أبي بكر بن أبي شيبة أيضا نا ابن علية عن أيوب السختياني عن حميد بن هلال عن
حجير بن الربيع قال : قلت لعمران بن الحصين أرأيت إن دخل علي داخل يريد نفسي ومالي
؟ قال عمران : لو دخل علي داخل يريد نفسي ومالي لرأيت أن قد حل لي قتله . ومن طريق
أبي بكر بن أبي شيبة نا عباد بن عوف - هو ابن أبي جميلة - عن الحسن البصري قال :
اقتل اللص , والحروري , والمستعرض . وعن محمد بن سيرين أنه قال : ما علمت أن أحدا
من المسلمين ترك قتال رجل يقطع عليه الطريق أو يطرقه في بيته تأثما من ذلك . وعن
إبراهيم النخعي قال : إذا دخل اللص دار الرجل فقتله فلا ضرار عليه . وعن الشعبي
قال : الرجل محارب لله ورسوله فاقتله , فما أصابك من شيء فعلي . وعن ابن سيرين أنه
قال : قلت لعبيدة : أرأيت إن دخل علي رجل يريد بيتي ؟ قال : إن الذي يدخل عليك
بيتك لا يحل له منك ما حرم الله تعالى عليه , ولكن يحل لك نفسه . وعن منصور أنه
سأل إبراهيم عن الرجل يعرض للرجل يريد ماله أيقاتله ؟ فقال إبراهيم : لو تركه
لقتله ؟ قال أبو محمد:روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا أبو كريب محمد بن العلاء نا
خالد - يعني ابن مخلد - نا محمد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة
قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : أرأيت
إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك , قال : أرأيت إن قاتلني ؟
قال : قاتله . قال : أرأيت إن قتلني , قال : فأنت شهيد , قال : أرأيت إن قتلته ؟
قال : هو في النار". قال علي : فمن أراد أخذ مال إنسان ظلما من لص , أو غيره
, فإن تيسر له طرده منه ومنعه : فلا يحل له قتله , فإن قتله حينئذ : فعليه القود -
وإن توقع - أقل توقع - أن يعاجله اللص : فليقتله ولا شيء عليه , لأنه مدافع عن
نفسه . فإن قيل : اللص محارب فعليه ما على المحارب ؟ قلنا : فإن كابر وغلب فهو
محارب , واختيار القتل في المحارب إلى الإمام لا إلى غيره , أو إلى من قام بالحق
إن لم يكن هنالك إمام , وإن لم يكابر ولا غلب , لكن تلصص : فليس محاربا , ولا يحل
قتله أصلا . وبالله تعالى التوفيق .
صاحب المعبر يعبر بدواب فغرقت
قال علي: نا حمام نا عبد الله بن محمد بن علي نا عبد الله بن يونس نا بقي بن مخلد
(11/13)
نا أبو بكر بن أبي شيبة نا حميد بن عبد الرحمن عن حسن عن جابر عن عامر , قال لي : صاحب المعبر يعبر بدواب فغرقت ؟ قال : فلا ضمان عليه . قال علي : وهو كما قال إلا أن يباشر تعطيب المعبر , أو تعطيب السفينة , فيضمن - وبالله تعالى التوفيق .
(11/14)
حكم من استعان صغيراً حراً أو عبداً بغير
أذن أهله فتلف
...
2114 - مسألة : من استعان صبيا أو عبدا بغير إذن أهله فتلف ؟ حدثنا محمد بن سعيد
بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا
وكيع نا إسرائيل عن جابر عن الشعبي أنه قال في رجل أعطى صبيا فرسا فقتله ؟ قال :
يضمن الرجل . وبه - إلى وكيع نا سفيان عن أشعث عن الحكم عن إبراهيم قال : من
استعان عبدا بغير إذن أهله فعنت فهو ضامن . وعن الشعبي في عبد رجل أكرهه رجل فحمله
على دابة فأوطأ رجلا فقتله ؟ قال : يغرم الذي حمل العبد . قال أبو محمد:من استعان
صغيرا حرا أو عبدا فعنت , فهو ضامن . ومن استعان كبيرا حرا أو عبدا فعنت فهو غير
ضامن : روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا إسرائيل عن جابر عن الشعبي
أنه قال في رجل أعطى رجلا فرسا فقتله : أنه لا يضمن , إلا أن يكون عبدا أو صبيا .
وعن عوف بن أبي جميلة , قال : كان عمر بن حيان الحماني يصنع الخيل , وأنه حمل ابنه
على فرس فخر , فتقطر من الفرس فمات , فجعلت ديته على عاقلته زمان زياد بالبصرة .
وعن بكير بن الأشج أن ابن عمر قال : من حمل غلاما لم يبلغ الحلم بغير إذن أهله
فسقط فمات , فقد غرم . وعن مجاهد عن ابن عباس مثل قول ابن عمر هذا ؟ وقال : يغرم
ديته لو جرحه . وعن ربيعة , وأبي الزناد أنهما قالا جميعا : من استعان غلاما لم
يبلغ الحلم فهو لما أصابه ضامن - وقالا في الحر يملك نفسه : ليس على أحد استعانة
شيء إذا أتى ذلك طائعا ؟ قال ربيعة : إلا أن يستغفل , أو يستجهل . قال ابن وهب :
وسمعت الليث يقول مثل قول أبي الزناد . وعن قتادة عن خلاس بن عمرو أن علي بن أبي
طالب قال في الغلام يستعينه رجل - ولم يبلغ خمسة أشبار - : فهو ضامن حتى يرجع - ,
وإن استعانه بإذن أهله فلا ضمان عليه . وعن إبراهيم النخعي قال : من استعان مملوكا
بغير إذن مواليه ضمن . قال أبو محمد:فحصل من هذه الأقوال عن علي بن أبي طالب أنه
من استعان غلاما - لم يبلغ خمسة أشبار - بغير إذن أهله فهو له ضامن , فإن بلغ خمسة
أشبار فلا ضمان عليه - , وإن استعانه بإذن أهله - , وهذا صحيح عن علي بن أبي طالب
- رضي الله عنه . وعن ابن عباس , وابن عمر - رضي الله عنهما - من حمل غلاما بغير
إذن أهله فسقط فمات فقد غرم , إلا أنه لا يصح عنهما . أما عن ابن عمر فرواه ابن
لهيعة - وليس بشيء , وأما ابن عباس فرواه
(11/14)
عنه يزيد بن عياض - وهو مذكور بالكذب . وحصل عن الشعبي : من أعطى صبيا فرسا فقتله , فالمعطي ضامن وعن ربيعة , وأبي الزناد , نحو ذلك . وعن حماد بن أبي سليمان , نحو ذلك . فلم يفرق هؤلاء بين إذن أهله , ولا بين غير إذنهم . وحصل من قول الشعبي : من استعان عبدا بالغا بغير إذن سيده , فلا ضمان عليه إن تلف - وعن الزهري , وعطاء , نحوه . وأما المتأخرون - فإن أبا حنيفة , وأبا يوسف , ومحمد بن الحسن , قالوا : من غصب صبيا حرا فمات عنده بحمى أو فجأة فلا شيء عليه - فإن أصابته صاعقة , أو نهشته حية : فديته على عاقلة الغاصب , وكان زفر يقول : لا يضمن في شيء من ذلك . وقال سفيان الثوري : إذا أرسل صبيا في حاجة فجنى الصبي جناية , قال : فليس على الذي أرسله شيء من جنايته , قال : فإذا أرسل مملوكا في حاجة فجنى , فإن الجناية على الذي أرسله , قال : فإن استعمل أجيرا صغيرا في حاجة فأكله الذئب فلا شيء عليه . وقال الحسن بن حي : من أمر صغيرا , أو مملوكا لغيره بأن يسقيه ماء , أو يناوله وضوءا فلا بأس بذلك , قال : فإن عنتا في ذلك فعليه ضمانهما . وقال مالك : الأمر الذي عليه الفقهاء منهم : أن الرجل إذا استعان صغيرا , أو عبدا مملوكا في شيء له بال , فإنه ضامن لما أصابهما - إذا كان ذلك بغير إذن - وإذا أمر الرجل الصبي الحر أن ينزل في بئر , أو يرقى في نخلة , فهلك في ذلك : أن الذي أمره ضامن لما أصابه - فإن استعان كبيرا حرا فأعانه , فلا شيء عليه إلا أن يستغفل أو يستجهل . قال أبو محمد:وقد روينا عن مالك : أن من غصب حرا فباعه فطلب ؟ فلم يوجد : أنه يضمن ديته - وأما الشافعي - فلا نعلم له في هذا قولا . وقد روي عن أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها بعثت إلى معلم الكتاب , ابعث لي غلمانا ينفشون صوفا ولا تبعث إلي حرا ؟ قال أبو محمد:فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في ذلك ليلوح الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى ومنه - فابتدأنا بما روي في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم : فأما الرواية - عن أم سلمة رضي الله عنها في طلبها غلمانا ينفشون لها الصوف , واشترطت : أن لا يكون فيهم حر ؟ فليس فيه من حكم التضمين قليل ولا كثير , فلا مدخل له في هذا الباب - والله أعلم بمرادها - ولعل نفش الصوف كان بحضرتها فكرهت أن يراها حر من الصبيان - ولعله قد قارب البلوغ فلا يحل له ذلك - ورؤية العبيد لها مباح , ونفش الصوف لا يطيقه إلا من له قوة من الغلمان - والله أعلم - ولا نقطع بهذا أيضا إلا أننا نقطع أنه ليس خبرها هذا من حكم التضمين ؟ . قال أبو محمد:ثم نظرنا في قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي لم
(11/15)
يصح عن صاحب في هذا الباب شيء غيره , فوجدناه حد مقدار الصبي في ذلك بخمسة أشبار - وقد خالفه الحنفيون , والمالكيون , والشافعيون في ذلك , ومن الباطل أن يحتجوا على خصومهم بقول قد خالفوه هم . قال أبو محمد:وبقيت الأقوال غيرها , وهي تنقسم ثلاثة أقسام : أحدها - تضمين من استعان عبدا أو صغيرا بغير إذن أهلهما وترك تضمينه , إن استعناهما بإذن أهلهما . والثاني - تضمينه كيفما استعانهما بإذن أهلهما , أو بغير إذنهما . والثالث - قول الشعبي : أن العبد الكبير لا يضمن من استعانه , لكن من استعان الصغير ضمن . ثم نظرنا في قول أبي حنيفة , وأصحابه , فوجدناه في غاية الفساد ; لأنه فرق في الصغير يغصب بين أن يموت حتف أنفه , أو بحمى , أو فجأة , فلا يضمن غاصبه شيئا , وبين أن يموت بصاعقة تحرقه , أو حية تنهشه فيضمن ديته - وهذا عجب لا نظير له . وهذا قول لا يعضده قرآن , ولا سنة صحيحة ولا مستقيمة , ولا إجماع , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا رأي سديد , ولا معقول , ولا احتياط - وما نعلم أحدا قال هذا القول قبله , وهذا مما انفرد به - فسقط هذا القول بلا مرية . ثم نظرنا في قول مالك فوجدناه أيضا خطأ ; لأنه فرق بين استعانة الصغير والعبد في الأمر ذي البال فيضمن , ومن استعانهما في الأمر غير ذي البال فلا يضمن - وهذا أيضا تقسيم لا يؤيده قرآن , ولا سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا إجماع , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا رأي سديد ولا معقول - ولا يخلو مستعين الصغير من أن يكون متعديا بذلك , أو لا يكون متعديا . - : فإن كان متعديا فحكم العدوان في القليل والكثير سواء - وإن كان ليس متعديا , فالقليل والكثير مما ليس عدوانا سواء - , وكذلك إيجاب الدية على من باع حرا فلم يوجد الحر ؟ فهذا لا وجه له ; لأنه لم يقتله . وأما قول الحسن بن حي فخطأ أيضا ; لأنه لم ير بأسا أن يستسقي المرء الصبي , وعبد غيره الماء , أو يكلفهما أن يحملا له وضوءا - ثم رأى عليه ضمانهما إن تلفا في ذلك , فكيف يجعل الضمان فيما حدث من فعل قد أباحه لفاعله مما لم يباشر هو تلك الجناية هذا ظلم ظاهر . وأما قول سفيان فخطأ أيضا من وجوه : أولها - أنه فرق بين الرجل يرسل الصغير والعبد لغيره في حاجته بغير إذن أهلهما فجنى كل واحد منهما جناية فيضمن المرسل جناية العبد الكبير , ولا يضمن جناية الحر الصغير - وهو قول لا يعضده شيء من الدلائل . والقول الثاني - من أرسل
(11/16)
صغيرا في حاجته فأكله الذئب فلا شيء عليه . فإن استأجر أجيرا صغيرا في عمل شاق فتلف فيه ضمن - وإن كان الأجير كبيرا لم يضمن - فهذه فروق لم يأت بها نص ولا إجماع ؟ قال أبو محمد:فنظرنا , هل نجد في شيء من هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوجدنا - من طريق البخاري نا عمرو بن زرارة نا إسماعيل بن إبراهيم عن عبد العزيز عن أنس قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك , فخدمته في السفر والحضر , فوالله ما قال لي لشيء صنعته : لم صنعته هكذا ؟ ولا لشيء لم أصنعه : لم لم تصنع هذا هكذا فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخدم أنس بن مالك وهو يتيم ابن عشر سنين في الأسفار البعيدة , والقريبة , والغزوات المخيفة , وفي الحضر . فإن قال قائل : إن ذلك كان بإذن أمه وزوجها وأهله ؟ قلنا له - وبالله تعالى التوفيق - : نعم , قد كان هذا , ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إني إنما استخدمته لإذن أهله لي في ذلك , فإذا لم يقل ذلك - عليه الصلاة والسلام فإذنهم وترك إذنهم على السواء وإنما المراعى في ذلك حسن النظر للغلام , فإن كان ما استعانه في عمله للأجنبي نظرا له فهو فعل خير - أذن أهله ووليه أم لم يأذنوا - وإن كان ليس له نظر له فهو ظلم - : أذن أهله في ذلك أم لم يأذنوا . برهان ذلك : قول الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}. وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ولم يأت بمراعاة إذن أهل الغلام : لا قرآن , ولا سنة صحيحة , ولا إجماع - فبطل مراعاة إذنهم بيقين , ولم يبق إلا أن يكون المستعين بالغلام ناظرا للغلام في تلك الاستعانة أو غير ناظر له - : فإن كان ناظرا له فهو محسن , وإذا هو محسن فلا ضمان عليه فيما أصابه مما لم يجنه هو , لقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}. وإن كان غير ناظر له في ذلك فهو ظالم له , ولكن ليس كل ظالم يضمن دية المظلوم . ألا تراهم لا يختلفون فيمن ظلم إنسانا حرا يسخره إلى مكان بعيد فتلف هنالك ؟ فإنه لا يضمنه الظالم له , ولا فرق هاهنا بين ظلم صغير أو كبير . وقد قلنا : إنه لا دية إلا على قاتل , والمستعين الظالم لم يتلف المستعان في ذلك العمل , فإن المستعين له لا يسمى قاتلا له , ولا مباشر قتله , فلا ضمان عليه أصلا - صغيرا كان أو كبيرا - إلا أن يباشر , أو يأمر بإكراهه وإدخاله البئر , أو تطليعه في مهواة فيطلع كرها لا اختيار له في ذلك - فهذا قاتل عمد عليه القود , فظهر أمر الصغير - وبالله تعالى التوفيق . وأما العبد - يسخره غير سيده , فإن كان لم يكرهه لكن استعانه برغبة فأعانه فتلف , فإنه أيضا لم يباشر إتلافه,
(11/17)
ولا ضمه بغصب , فلا غرامة فيه أصلا , ولكن عليه إجارة مثله ; لأنه انتفع به في ذلك العمل - وهو مال غيره - فلا يحل له الانتفاع بمال غيره إلا بإذن رب المال . قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". فإن غصب العبد فاستعمله , أو أكرهه بالتهديد , فقد غصب أيضا , وقد ضمن مغتصبه كل ما أصابه عنده من أي شيء كان , وإن مات حتف أنفه من غير ما سخره فيه , أو مما سخره فيه , وعليه مع ذلك أجرة مثله ; لأنه مال تعدى عليه هذا المكره , فلزمه رده إلى صاحبه ولا بد , أو مثله إن فات , لأنه متعد - والله تعالى يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} , وإن كان بإذن أهله فلا شيء في ذلك ; لأنه لم يعتد , بخلاف الصغير الذي لا إذن لهم فيه , إلا فيما هو حظ للصبي فقط , وإلا في غيره سواء , وبالله تعالى التوفيق.
(11/18)
في تفسير قول الله تعالى: {ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعا}
...
2115 - مسألة : في قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً} ؟ روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان الثوري
عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} قال :
من أوبقها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قال : من
كف عن قتلها . وبه - إلى سفيان عن منصور عن مجاهد {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قال : من أنجاها من غرق أو حرق فقد أحياها . وبه - إلى
وكيع نا العلاء بن عبد الكريم قال : سمعت مجاهدا يقول {وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قال : من كف عن قتلها فقد أحياها . قال
علي هذا ليس في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فيسلم له , والرواية عن
ابن عباس فيها خصيف , وليس بالقوي . قال أبو محمد:وهذا حكم إنما كتبه الله تعالى
على بني إسرائيل ولم يكتبه علينا , قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا
عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ
فِي الْأَرْضِ} . قال علي : فهذا أمر قد كفيناه - ولله الحمد - إذ لو كتبه الله
تعالى علينا لأعلمنا بذلك , فله الحمد كثيرا , وهذا - والله أعلم - إذ كتبه الله
على بني إسرائيل فهو من الإصر الذي حمله على من قبلنا . وأمرنا تعالى أن ندعوه في
أن لا يحمله علينا إذ يقول تعالى: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فإذ لم يكتبه الله تعالى علينا فلم
نكلف معرفة كيفيته , إلا أن الذي كتب الله تعالى علينا : هو تحريم القتل
(11/18)
والوعيد الشديد فيه , ففرض علينا اجتنابه , واعتقاد أنه من أكبر الكبائر بعد الشرك , وهو مع ترك الصلاة أو بعده . ومما كتبه الله تعالى أيضا علينا استنقاذ كل متورط من الموت إما بيد ظالم كافر , أو مؤمن متعد , أو حية أو سبع , أو نار أو سيل , أو هدم أو حيوان , أو من علة صعبة نقدر على معاناته منها , أو من أي وجه كان , فوعدنا على ذلك الأجر الجزيل الذي لا يضيعه ربنا تعالى , الحافظ علينا صالح أعمالنا وسيئه . ففرض علينا أن نأتي من كل ذلك ما افترضه الله تعالى علينا , وأن نعلم أنه قد أحصى أجرنا على ذلك من يجازي على مثقال الذرة من الخير والشر . نسأل الله تعالى التوفيق لما يرضيه بمنه آمين , وبالله تعالى نعتصم.
(11/19)
حكم من شق نهراً فغرق ناساً أو طرح ناراً
أو هدم بناء فقتل
...
2116 - مسألة : من شق نهرا فغرق ناسا , أو طرح نارا , أو هدم بناء فقتل ؟
قال علي: من شق نهرا فغرق قوما , فإن كان فعل ذلك عامدا ليغرقهم فعليه القود
والديات من قتل جماعة , وإن كان شقه لمنفعة أو لغير منفعة - وهو لا يدري أنه لا
يصيب به أحدا - فما هلك به فهو قاتل خطأ , والديات على عاقلته , والكفارة عليه ;
لكل نفس كفارة , ويضمن في كل ذلك ما أتلف من المال وهكذا القول فيمن ألقى نارا أو
هدم بناء ولا فرق . وإن عمد إحراق قوم أو قتلهم بالهدم فعليه القود , وإن لم يعمد
ذلك فهو قاتل خطأ . ولو ساق ماء فمر على حائط فهدم الماء الحائط فقتل : فكما قلنا
أيضا سواء سواء ولا فرق ; لأن كل من ذكرنا مباشر لإتلاف ما تلف , فإن مات أحد بذلك
بعد موت الجاني , أو تلف به مال بعد موته , فلا ضمان في ذلك لأن الجناية حدثت بعده
, ولا جناية على ميت . ولو أن إنسانا رمى حجرا أو سهما ثم مات إثر خروج السهم أو
الحجر فأصاب الحجر أو السهم إنسانا - عمده أو لم يعمده - فلا ضمان عليه , ولا على
عاقلته ; لأن الجناية لم تكن إلا وهو ممن لا فعل له , بخلاف ما خرج خطأ ثم مات ;
لأن الجناية قد وقعت وهو حي , فلو جن إثر رمي السهم أو الحجر فكموته ولا فرق ,
وكذلك لو أغمي عليه . وأما النائم فبخلاف المغمى عليه , والمجنون , لأنه مخاطب ,
وهما غير مخاطبين , إلا أنه لا عمد له , فلو أن نائما انقلب في نومه على إنسان
فقتله فالدية على عاقلته , والكفارة عليه في ماله ; لأنه مخاطب - وبالله تعالى
التوفيق .
(11/19)
حكم من أوقد ناراً ليصطلي فاشتعلت فأتلفت
...
2117 - مسألة: حمكم من أوقد ناراً ليصطلي أو ليطبخ شيئا ثم نام فاشتعلت فاتلفت
قال علي : وأما من أوقد نارا ليصطلي , أو ليطبخ شيئا , أو أوقد سراجا ثم نام ,
فاشتعلت تلك النار فأتلفت أمتعة وناسا , فلا شيء عليه في ذلك أصلا . وقد جاءت في
هذا آثار : كما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع عن شعبة قال : سألت
الحكم بن عتيبة , وحماد بن أبي سليمان عن رجل رمى نارا في دار قوم فاحترقوا ,
(11/19)
2118- مسألة حكم الرجل
؟ قال علي : جاء في الرجل أثر نذكره , ونذكر ما قيل فيه إن شاء الله تعالى : نا
أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت نا أحمد بن
عمرو بن عبد الخالق البزار نا عبد الله بن أسد الباهلي نا عباد بن العوام عن سفيان
بن حسين الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "الرجل جبار". نا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد
بن بكر نا أبو داود نا عثمان بن أبي شيبة نا محمد بن يزيد نا سفيان بن حسين عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الرجل جبار" . قال أبو محمد:وجاء هذا أيضا عن بعض السلف , كما نا محمد
بن سعيد بن نبات نا إسماعيل بن إسحاق النصري نا عيسى بن حبيب نا عبد الرحمن بن عبد
الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري نا جدي محمد بن عبد الله بن يزيد نا
سفيان بن عيينة نا أبو فروة - هو عروة بن الحارث - عن الشعبي قال : الرجل جبار .
قال علي : فقال قوم : سفيان بن حسين ضعيف في الزهري . قال علي وما ندري وجه هذا ؟
(11/20)
وسفيان بن حسين ثقة , فمن ادعى عليه خطأ فليبينه ؟ وإلا فروايته حجة , وهذا إسناد مستقيم لاتصال الثقات فيه . قال أبو محمد:فاختلف الناس في هذا الخبر : فقالت طائفة : معنى "الرجل جبار" : إنما هو ما أصابت الدابة برجلها . وقال آخرون : هو ما أصيب بالرجل عن غير قصد في الطواف وغيره . قال علي : وكلا التفسيرين حق ; لأنهما موافقان للفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يخص أحدهما دون الآخر ; لأنه تخصيص بلا برهان [ ودعوى ] بلا دليل . فصح أن كل ما جني برجل من إنسان , أو حيوان , فهو هدر لا غرامة فيه , ولا قود , ولا كفارة , إلا ما صح الإجماع به بأنه محكوم فيه بالقود , كالتعمد لذلك - وبالله تعالى التوفيق .
(11/21)
حكم الجاني يستقاد منه فيموت أحدهما
...
2119 - مسألة : الجاني يستقاد منه فيموت أحدهما ؟
قال علي : اختلف الناس في هذا - فقالت طائفة : إذا مات المستقيد , فكما روينا من
طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : رجل استقاد من رجل قبل أن يبرأ ثم مات المستقيد
من الذي أصابه , قال أرى : أن يودى ؟ قلت : فمات المستقاد منه , قال : أرى أن يودى
, قال ابن جريج : قال عمرو بن دينار : أظن أنه سيودى . وعن عبد الرزاق عن معمر عن
ابن طاوس عن أبيه قال : لو أن رجلا استقاد من آخر ثم مات المستقاد منه غرم ديته .
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر , وابن جريج عن ابن شهاب قال : السنة أن يودى - يعني
المستقاد منه . وبه - إلى معمر عن الزهري في رجل أشل أصبع رجل ؟ قال يستقيد منه ,
فإن شلت أصبعه , وإلا غرم له الدية . وعن عبد الرزاق عن هشيم عن أبي إسحاق
الشيباني أو غيره - شك عبد الرزاق في ذلك - الشعبي في رجل جرح رجلا فاقتص منه ثم
هلك المستقاد ؟ قال : عقله على المستقاد منه ويطرح عنه دية جرحه من ذلك فما فضل
فهو عليه . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن شبرمة عن الحارث العقيلي في الذي
يستقاد منه ثم يموت , قال : يغرم ديته ; لأن النفس خطأ . وعن إبراهيم النخعي عن
علقمة : أنه قال في المقتص منه : أيهما مات ودي . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا
وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة قال : استأذنت زياد بن جرير في الحج فسألني عن رجل
شج رجلا فاقتص له منه فمات المقتص منه فقلت : عليه الدية ويرفع عنه بقدر الشجة , ثم
نسيت ذلك , فجاء إبراهيم فسألته فقال : عليه الدية , قال شعبة فسألت الحكم وحمادا
عن ذلك ؟ فقالا جميعا : عليه الدية . وقال حماد : ويرفع عنه بقدر الشجة . وقال أبو
حنيفة , وسفيان الثوري , وابن أبي ليلى : إذا اقتص من يد , أو شجة , فمات المقتص
منه فديته على عاقلة المقتص له . وقد روي ذلك عن
(11/21)
ابن مسعود , وعن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود . قال أبو محمد:الذي يقتص منه ديته على المقتص له غير أنه يطرح عنه دية جرحه . وقال آخرون : لا شيء في هلاك المقتص منه . كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب قال : قال عمر بن الخطاب في الرجل يموت في القصاص : قتله كتاب الله تعالى , أو حق , لا دية له . ومن طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة نا قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي بن أبي طالب , وعمر بن الخطاب , قالا جميعا : من مات في قصاص أو حد , فلا دية له . وبه - إلى قتادة عن الحسن من مات في قصاص أو حد , فلا دية له . ومن طريق ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا مسعر بن كدام وسفيان عن أبي حصين عن عمير بن سعد قال : قال علي بن أبي طالب : ما كنت لأقيم على رجل حدا فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر , لو مات وديته . وعن الحسن البصري عن الأحنف بن قيس عن عمر بن الخطاب , وعلي بن أبي طالب , قالا جميعا في المقتص منه يموت ؟ قالا جميعا : قتله الحق ولا دية له . وعن سعيد بن المسيب مثل ذلك : قتله الحق , لا دية له . وعن أبي سعيد أن أبا بكر , وعمر , قالا : من قتله حد فلا عقل له . قال ابن وهب : وأخبرني الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال : من استقيد منه بمثل ما دخل على الناس منه فقتله القود , فليس له عقل - ولو أن كل من استقيد منه حق قبله للناس فمات منه غرمه المستقيد : رفض الناس حقوقهم . قال ابن وهب : قال يونس : قال ربيعة : إن مات الأول - وهو المقتص - قتل به الجارح المقتص منه - وإن مات الآخر - وهو المقتص منه - فبحق أخذ منه كان منه التلف . وبه - يقول مالك , وعبد العزيز بن أبي سلمة , والشافعي , وأبو يوسف ومحمد بن الحسن , وأبو سليمان . قال أبو محمد:فهذه ثلاثة أقوال . أحدها - أنه إن مات المقتص ودي , وإن مات المقتص منه ودي , ورفع عنه قدر جنايته . وهو قول روي عن ابن مسعود , كما أوردنا عن إبراهيم النخعي , والشعبي وحماد بن أبي سليمان - وبه يقول عثمان البتي , وابن أبي ليلى . وقول آخر : أنه يودى , ولا يرفع عنه لجنايته شيء - وهو قول عطاء , وطاوس - وروي أيضا عن الحكم بن عتيبة - وهو قول الزهري , وعن عمرو بن دينار , وأبي حنيفة , وسفيان الثوري . وقول ثالث - : أنه لا دية للمقتص منه - وروي عن أبي بكر , وعمر - رضي الله عنهما - وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وهو قول الحسن ,
(11/22)
وابن سيرين , والقاسم , وسالم , وسعيد بن المسيب , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وربيعة . وهو قول مالك , والشافعي , وأبي يوسف , ومحمد بن الحسن , وأبي سليمان ؟ قال أبو محمد:فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك ليلوح الحق فنتبعه بعون الله تعالى فوجدنا من قال : أنه يودى جملة , فإما يرفع عنه بقدر جنايته , وإما لا يرفع عنه بقدر جنايته . يقولون : إن الله تعالى إنما أوجب على القاطع , والجارح , والكاسر , والفاقئ , والضارب : القود مما فعلوا فقط , ولم يوجب عليهم قتلا , فدماؤهم محرمة , ولا خلاف في أن المقتص من شيء من هذا لو تعمد القتل فلزمه القود , فإذ هو كذلك فمات المقتص منه مما فعل به بحق , فقد أصيب دمه خطأ , ففيه الدية . وقالوا أيضا : إن من أدب امرأته فماتت فيها الدية , وهو إنما فعل مباحا , فهذا المقتص منه , وإن مات من مباح ففيه الدية ؟ قال علي : ما نعلم لهم حجة غير هاتين ؟ فنظرنا في قول من أسقط الدية في ذلك , فكان من حجتهم أن قالوا : إن القصاص مأمور به , ومن فعل ما أمر به فقد أحسن , وإذ أحسن فقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وإذ لا سبيل عليه فلا غرامة تلحقه , ولا على عاقلته من أهله . وأما قياس المقتص على موت امرأته فالقياس باطل , ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل ; لوجهين : أحدهما - أنه قياس مموه وذلك من أدب امرأته فلا يخلو من أن يكون متعديا - وضع الأدب في غير موضعه - أو غير متعد . فإن كان متعديا ففيه القود , وإن كان وضع الأدب موضعه , فلا سبيل إلى أن يموت من ذلك الأدب الذي أبيح له , إذ لم يبح له قط أن يؤدبها أدبا يمات مع مثله , ومن أدب هذا النوع من الأدب فهو ظالم متعد , والقود عليه في النفس فما دونها ; لأنه لا يجوز لأحد أن يجلد في غير حد أكثر من عشر جلدات - على ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم . كما روينا - من طريق البخاري نا عبد الله بن يوسف نا الليث بن سعد حدثني يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر عن عبد الله عن أبي بردة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى". قالوا : فلم يبح له في العدد أكثر من عشر جلدات , ولا أبيح له جلدها بما يكسر عظما , ويجرح جلدا , أو يعفن لحما ; لأن كل هذا هو غير الجلد , ولم يبح له إلا الجلد وحده . وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن عشر جلدات لامرأة صحيحة غير مريضة , ولا ضعيفة , ولا صغيرة : لا تجرح , ولا تكسر , وأنه لا يموت منها أحد . فإن وافقت منية في خلال ذلك أو بعده : فبأجلها ماتت , ولا دية في ذلك , ولا قود , لأننا على يقين من
(11/23)
أنها لم تمت من فعله أصلا . وإن تعدى في العدد أو ضرب بما يكسر , أو يجرح , أو يعفن فعفن , أو جرح أو كسر , فالقود في كل ذلك في العمد , في النفس فما دونها , أو الدية فيما لم يعمده - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد:وأما قولهم : إن المقتص منه إنما أبيح عضوه , أو بشرته ولم يبح دمه - فصح أنه إن مات من ذلك , فإنه مقتول خطأ , ففيه الدية - فإن هذا قول غير صحيح ; لأن القصاص الذي أمر الله تعالى بأخذه لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون مما يمات من مثله , كقطع اليد , أو شق الرأس , أو كسر الفخذ , أو غير ذلك . أو يكون مما لا يمات من مثله , كاللطمة , وضربة السوط , ونحو ذلك . فإن كان مما يمات من مثله فذلك الذي قصد فيه ; لأنه قد تعدى بما قد يمات من مثله , فوجب أن يتعدى عليه بما قد يمات من مثله , فإن مات فعلى ذلك بنى فيه , وعلى ذلك بنى هو فيما تعدى فيه . والوجه الذي مات منه أمرنا الله تعالى أن نتعمده فيه , فإذ ذلك كذلك فليس عدوانا , وإذ ليس عدوانا عليه فلا قود , ولا دية ; لأنه لم يقتل خطأ , فإن مات من عمد أمرنا الله تعالى أن نتعمده فيه , ولم يكلفنا أن لا يموت من ذلك - ولو أن الله تعالى أراد ذلك لما أهمله , ولا أغفله , ولا ضيعه , فإذ لم يبين لنا تعالى ذلك فبيقين ندري أنه تعالى لم يرده قط . وإن كان الذي اقتص به منه مما لا يمات منه أصلا فوافق منيته فإنما مات بأجله , ولم يمت مما عمل به , لا قود , ولا دية . فإن تعمد المقتص فتعدى على المقتص منه ما لم يبح له , فهو متعد , وعليه القود في النفس فما دونها , وإن أخطأ فأتى بما لم يبح له عمله : فهو خطأ الدية على عاقلته , وعليه الكفارة في النفس - وبالله تعالى التوفيق .
(11/24)
2120 - مسألة : من أفزعه السلطان فتلف ؟
قال علي : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن مطر الوراق وغيره عن الحسن قال :
أرسل عمر إلى امرأة مغنية كان يدخل عليها , فأنكر ذلك , فقيل لها : أجيبي عمر ؟
فقالت : يا ويلها مالها ولعمر ؟ قال : فبينما هي في الطريق فزعت , فضمها الطلق ,
فدخلت دارا فألقت ولدها فصاح الصبي صيحتين فمات ؟ فاستشار عمر أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم فأشار عليه بعضهم : أن ليس عليك شيء , إنما أنت وال , ومؤدب , قال
: وصمت علي فأقبل عليه عمر فقال : ما تقول ؟ فقال : إن كانوا قالوا برأيهم فقد
أخطأ رأيهم , وإن كانوا قالوا في هواك ؟ فلم ينصحوا لك , أرى أن ديته عليك لأنك
أنت أفزعتها , وألقت ولدها في سبيلك , فأمر عليا أن يقسم عقله على قريش - يعني :
يأخذ عقله من قريش ; لأنه أخطأ.
(11/24)
قال أبو محمد: فالصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا , فالواجب الرجوع إلى ما أمر الله تعالى به بالرجوع إليه عند التنازع إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . فوجدنا الله تعالى يقول: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} , {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه" . فصح أن فرضا على كل مسلم قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . ومن المحال أن يفترض الله تعالى على الأئمة أو غيرهم أمرا إن لم يعملوه عصوا الله تعالى ثم يؤاخذهم في ذلك ؟ ووجدنا هذه المبعوث فيها : بعث فيها بحق , ولم يباشر الباعث فيها شيئا أصلا فلا شيء عليه , وإنما كان يكون عليه دية ولدها لو باشر ضربها أو نطحها - وأما إذا لم يباشر فلم يجن شيئا أصلا . ولا فرق بين هذا , وبين من رمى حجرا إلى العدو ففزع من هويه إنسان فمات , فهذا لا شيء عليه - وكذلك من بنى حائطا فانهدم , ففزع إنسان فمات وبالله تعالى التوفيق .
(11/25)
من سم طعاما لا نسان ثم دعاه الى أكله
فأكله فمات
...
2121 - مسألة : من سم طعاما لإنسان , ثم دعاه إلى أكله , فأكله , فمات ؟
قال علي : ذهب قوم إلى أن من سم طعاما وقدمه إلى إنسان وقال له : كل فأكل فمات ,
فإن عليه القود - وهو قول مالك . وقال آخرون : ليس عليه القود , لكن على عاقلته
الدية . قال آخرون : لا قود فيه ولا دية ولا كفارة , وإنما عليه ضمان الطعام الذي
أفسد - إن كان لغيره - والأدب , إلا أن يؤجره إياه : فعليه القود - وهو قول
أصحابنا ولم يختلف قول الشافعي في إيجاره إياه - وهو يدري - أنه يقتل : أن فيه
القود - وله في إذا لم يؤجره إياه قولان : أحدهما : كقول مالك , والآخر : كقول
أصحابنا . قال علي : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك [ لعل ] في ذلك
سنة جرت ؟ فوجدنا . ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا
أبو داود نا مخلد بن خالد نا عبد الرزاق نا معمر عن الزهري " عن ابن كعب بن
مالك عن أبيه أن أم مبشر قالت للنبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه : ما
نتهم بك يا رسول الله , فإني لا أتهم بابني إلا الشاة المسمومة التي أكل معك بخيبر
؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا لا أتهم بنفسي إلا ذلك فهذا أوان قطع
أبهري". قال أبو داود : وربما حدث عبد الرزاق بهذا الحديث مرسلا عن معمر عن
الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم وربما حدث به عن الزهري عن عبد الرحمن
(11/25)
ابن كعب - وذكر عبد الرزاق : أن معمرا كان يحدثهم بالحديث مرة مرسلا فيكتبونه , ويحدثهم مرة فيسنده فيكتبونه , فلما قدم عليه ابن المبارك أسند له معمر أحاديث كان يوقفها . وبه - إلى أبي داود نا أحمد بن حنبل أنا إبراهيم بن خالد نا رباح عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أمه أم مبشر قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر معنى حديث مخلد بن خالد , قال ابن الأعرابي : هكذا قال عن أمه , وإنما الصواب عن أبيه . وبه إلى أبي داود نا سليمان بن داود المهري نا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال : كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة , ثم ساق القصة بطولها - وفيها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "أسممت هذه الشاة ؟" قالت : نعم , فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها , وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة. وبه - إلى أبي داود نا هارون بن عبد الله نا سعيد بن سليمان نا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب , وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن امرأة من اليهود أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة. وبه - إلى أبي داود نا يحيى بن حبيب بن عدي نا خالد بن الحارث نا شعبة نا هشام بن زيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها , فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك ؟ فقالت : أردت لأقتلك ؟ قال : "ما كان الله ليسلطك على ذلك , أو قال علي" , فقالوا : ألا تقتلها ؟ قال : "لا" . قال أنس : فما زلت أعرفها في لهواة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد:فجاءت هذه الآثار الصحاح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمت له اليهودية - لعنها الله - شاة وأهدتها له مريدة بذلك قتله , فأكل منها عليه السلام وقوم من أصحابه فماتوا من ذلك , وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تقتلها ؟ قال : "لا" فكانت هذه حجة قاطعة , وأن لا قود على من سم طعاما لأحد مريدا قتله فأطعمه إياه [ فمات منه ] ولا دية عليه , ولا على عاقلته , ولا شيء - وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبطل دم رجل من أصحابه قد وجب فيه قود ودية فنظرنا : هل للطائفة الأخرى اعتراض أم لا ؟ فوجدنا : ما حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود نا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة. قال أبو داود : ونا وهب بن بقية في موضع آخر عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة , ولم يذكر أبا هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة زاد فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمتها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها , وأكل القوم , فقال: "ارفعوا أيديكم , فإنها
(11/26)
أخبرتني : أنها مسمومة - فمات بشر بن
البراء بن معرور الأنصاري, فأرسل إلى اليهودية: "ما حملك على الذي
صنعت؟" قالت : إن كنت نبيا لم يضرك , وإن كنت ملكا أرحت الناس معك ؟ فأمر بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت , ثم قال في وجعه الذي مات منه : فما زلت أجد
من الأكلة التي أكلت بخيبر , فهذا أوان قطع أبهري". وما حدثناه أحمد بن قاسم
نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن إبراهيم بن نعمان -
لقيته بقيروان إفريقية ثنا إبراهيم بن موسى البزاز أو البزار - شك قاسم بن أصبغ -
نا أبو همام نا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قتلها يعني : التي سمته .
قال أبو محمد:فنظرنا في الرواية فوجدناها معلولة : أما رواية وهب بن بقية , فإنها
مرسلة , ولم يسند منها وهب في المرة التي أسند إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان
يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة , فقط . وأما سائر الخبر , فإنه أرسله ولا مزيد -
هكذا في نص الخبر الذي أوردنا لما انتهى إلى آخر لفظه ولا يأكل الصدقة. قال : وزاد
فأتى بخبر الشاة مرسلا فقط , ولا حجة في مرسل . وأما رواية قاسم , فإنها عن رجال
مجهولين : ابن نعمان القيرواني لا نعرفه - وإبراهيم بن موسى البزاز كذلك - وأبو
همام كثير لا ندري أيهم هو - وسعيد بن سليمان يروي من طريق عباد بن العوام مسندا
إلى أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرض لليهودية التي سمته -
وهذا القيرواني يروي من طريق عباد بن العوام أنه عليه الصلاة والسلام قتلها ,
فسقطت هذه الرواية جملة ; لجهالة ناقليها . ثم لو صحت لما كان فيها حجة ; لأنها عن
أبي هريرة كما أوردنا , وقد صح عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرض لها ,
وكانت الرواية لو صحت - وهي لا تصح - مضطربة عن أبي هريرة : مرة أنه قتلها , ومرة
أنه لم يعرض لها - فلو صحت الرواية عن أبي هريرة في أنه عليه الصلاة والسلام قتلها
, كما قد صح عن أبي هريرة : أنه عليه الصلاة والسلام لم يعرض لها , لكان الكلام في
ذلك لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها : إما أن تترك الروايتان معا لتعارضهما
; ولأن إحداهما وهم , بلا شك ; لأنها قصة واحدة , في امرأة واحدة , في سبب واحد ,
ويرجع إلى رواية من لم يضطرب عنه , وهما : جابر وأنس , اللذان اتفقا على أنه عليه
الصلاة والسلام لم يقتلها - فهذا وجه . والوجه الثاني : وهو أن تصح الروايتان معا
فيكون عليه الصلاة والسلام لم يقتلها إذ سمته من أجل أنها سمته , فتصح هذه عن أبي
هريرة , وتكون موافقة لرواية جابر , وأنس بن مالك , ويكون عليه الصلاة والسلام
قتلها لأمر آخر , والله أعلم به . أو يكون الحكم على وجه ثالث - وهو أصح الوجوه -
وهو أن قول أبي هريرة رضي الله عنه : قتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله :
لم يعرض لها رسول
(11/27)
الله صلى الله عليه وسلم أنهما جميعا لفظ أبي هريرة , لا يبعد الوهم عن الصاحب . وحديث أنس هو لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه , ولا من خلفه , ولا يقره ربه تعالى على الوهم , ولا على الخطأ في الدين أصلا وهذا أن إنسانا ذكر أنه قيل له : يا رسول الله ألا تقتلها ؟ فقال : "لا" , فهذا هو المغلب المحكوم به الذي لا يحل خلافه - فصح أن من أطعم آخر سما فمات منه : أنه لا قود عليه , ولا دية عليه , ولا على عاقلته ; لأنه لم يباشر فيه شيئا أصلا , بل الميت هو المباشر في نفسه , ولا فرق بين هذا وبين من غر آخر يوري له طريقا أو دعاه إلى مكان فيه أسد فقتله . وقد صح الخبر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجب على التي سمته وأصحابه فمات من ذلك السم بعضهم : قودا ولا دية - فبطل النظر مع هذا النص . ووجه آخر وهو أنه لا يطلق على من سم طعاما لآخر , فأكله ذلك المقصود فمات أنه قتله , إلا مجازا لا حقيقة , ولا يعرف في لغة العرب أنه " قاتل " وإنما يستعمل هذا العوام , وليس الحجة إلا في اللغة , وفي الشريعة , وبالله تعالى التوفيق . وأما إذا أكرهه وأوجره السم , أو أمر من يوجره : فهو قاتل بلا شك , ومباشر لقتله , ويسمى " قاتلا " في اللغة , وفي الأثر : كما نا حمام حدثنا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر بن حماد نا مسدد نا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا , ومن شرب سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها , مخلدا فيها أبدا , ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا". قال علي : فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرب السم ليموت به "قاتلا لنفسه" : فوجب أن يكون عليه القود , وظهر خطأ من أسقط هاهنا القود - وبالله تعالى التوفيق .
(11/28)
2122 مسألة : أحكام الجنين ؟
قال علي : في الجنين أحكام , وهي : ما في الجنين من الغرامة . وما في صفة الجنين .
وحكمه قبل نفخ الروح فيه , أو بعد نفخه فيه . والمرأة تولد على نفسها الإسقاط .
وإن كان الجنين أكثر من واحد . وإن خرج حيا ثم مات . والمجني عليها تلقي الجنين
بعد موتها . وامرأة داوت بطن حامل فألقت جنينا . وهل في الجنين كفارة أم لا ؟
وجنين الأمة . وجنين الكتابية . خرج بعض الجنين ولم يخرج كله . وجنين الدابة .
ونحن - إن شاء الله تعالى - ذاكرون كل ذلك بابا بابا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/28)
2123 - مسألة - الحامل تقتل ؟
قال علي : إن قتلت حامل بينة الحمل , فسواء طرحت
(11/28)
2124 - مسألة - هل في الجنين كفارة أم لا
؟
قال علي: نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي أنا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن
جريج قال : قلت لعطاء : ما على من قتل من لم يستهل ؟ قال : أرى أن يعتق أو يصوم .
وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في رجل ضرب امرأته فأسقطت ؟ قال : يغرم
غرة , وعليه عتق رقبة , ولا يرث من تلك الغرة شيئا , هي لوارث الصبي غيره . وبه :
إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم النخعي قال في المرأة تشرب الدواء
أو تستدخل الشيء فيسقط ولدها ؟ قال : تكفر وعليها غرة . قال أبو محمد:فطلبنا : هل
هذا القول حجة أم لا ؟ فوجدناهم يذكرون : ما روينا بالسند المذكور إلى عبد الرزاق
عن عمر بن ذر قال : سمعت مجاهدا يقول : مسحت امرأة بطن امرأة حامل فأسقطت جنينا ؟
فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأمرها أن تكفر بعتق رقبة - يعني : التي مسحت . قال
علي : هذه رواية عن عمر - رضي الله عنه - ولا يعرف له في هذا مخالف من الصحابة رضي
الله عنهم , وعهدنا بالحنفيين , والمالكين , والشافعيين يعظمون خلاف الصاحب إذا
وافق تقليدهم , وهذا حكم إمام - وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه - بحضرة الصحابة ,
لا يعرف أنه أنكره أحد منهم - وهم إذا وجدوا مثل هذا طاروا به , وشنعوا على خصومهم
مخالفته . وهم كما ترى قد استسهلوا خلافه هاهنا , وقد جعلوا حكما مأثورا عن عمر في
تنجيم الدية في ثلاث سنين لا يصح عنه أصلا : حجة ينكرون خلافها , وجعلوا حكمه
بالعاقلة على الدواوين : حجة ينكرون خلافها , ولم يجعلوا إيجابه هاهنا كفارة على
التي مسحت بطن حامل فألقت جنينا ميتا بعتق رقبة : حجة هاهنا يقولون بها , وهذا
تحكم في الدين لا يستحله ذو ورع , وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد:أما نحن فلا
حجة عندنا في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يأت بإيجاب الكفارة
في ذلك نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على العموم , فلا
(11/29)
يجوز أن يطلق - على العموم - القول بها , لكنا نقول - وبالله تعالى التوفيق : إن الله تعالى يقول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى: "خلقت عبادي كلهم حنفاء". وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على هذه الملة". وقد ذكرناه قبل بإسناده , فكل مولود فهو على الفطرة , وعلى ملة الإسلام . فصح أن من ضرب حاملا فأسقطت جنينا , فإن كان قبل الأربعة الأشهر قبل تمامها فلا كفارة في ذلك , لكن الغرة واجبة فقط ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بذلك , ولم يقتل أحدا , لكن أسقطها جنينا فقط . وإذ لم يقتل أحدا - لا خطأ ولا عمدا - فلا كفارة في ذلك , إذ لا كفارة إلا في قتل الخطأ , ولا يقتل إلا ذو روح , وهذا لم ينفخ فيه الروح بعد . وإن كان بعد تمام الأربعة الأشهر , وتيقنت حركته بلا شك , وشهد بذلك أربع قوابل عدول , فإن فيه : غرة عبد أو أمة فقط ; لأنه جنين قتل , فهذه هي ديته , والكفارة واجبة بعتق رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ; لأنه قتل مؤمنا خطأ . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الروح ينفخ فيه بعد مائة ليلة وعشرين ليلة - وقد ذكرناه قبل وهذا نص القرآن , وقد وافقنا عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فإن قال قائل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجب هاهنا كفارة ؟ قلنا : لم يأت لها ذكر في حديث الجنين , وليست السنن كلها مأخوذة من آية واحدة , ولا من سورة واحدة , ولا من حديث واحد , وإذ أوجب الله تعالى في قتل المؤمن خطأ كفارة , وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تعالى خلق عباده حنفاء كلهم فهو إذ خلق الله فيه الروح فهو مؤمن حنيف بنص القرآن , ففيه الكفارة . وهذه الآية زائدة شرع على ما في حديث الجنين , وأوامر الله تعالى مقبولة كلها , لا يحل رد شيء لشيء منها أصلا - ومن خالف هذا فقد عصى الله تعالى فيما أمر به . فإن قيل : فأوجبوا فيه حينئذ مائة من الإبل , إذ هي الدية عندكم ؟ . قلنا وبالله تعالى التوفيق - لا يجوز هذا ; لأن الله تعالى إنما قال: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ولم يبين لنا تعالى في القرآن مقدار تلك الدية , لكن وكل تعالى ذلك إلى بيان رسوله صلى الله عليه وسلم ففعل - عليه الصلاة والسلام - فبين لنا صلى الله عليه وسلم أن دية من خرج إلى الدنيا فقتل , مائة من الإبل في الخبر الثابت إذ ودى بذلك عبد الله بن سهل رضي الله عنه . وبين لنا - عليه الصلاة والسلام - أن دية الجنين بنص لفظه عليه الصلاة والسلام " غرة " من العبيد أو الإماء , وسماه " دية " . كما أوردنا آنفا من طريق أبي هريرة رضي الله عنه بأصح إسناد يكون فكانت الدية مختلفة لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
(11/30)
لنا وكانت الكفارة واحدة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين أحكام الكفارة في ذلك ؟ فلو أراد الله تعالى أن يكون حكم الكفارات في ذلك مختلفا لبين لنا ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يفعل ذلك فما أراد الله تعالى قط أن يختلف حكم شيء من ذلك ؟ وهذه أمور ضرورية لا يسع أحدا مخالفتها , وإنما احتجنا إلى شهادة القوابل ليثبت عندنا أنها قد تجاوزت أربعة أشهر مائة وعشرين ليلة تامة - وإلا فلو علمنا أنها قد تجاوزتها - بما قل أو كثر - لما احتجنا إلى شهادة أحد بالحركة ; لأن أوثق الشهود , وأصدق الناس , وأثبت العدول : شهد عندنا أن الروح ينفخ فيه بعد المائة وعشرين ليلة , فما يحتاج بعد شهادته عليه الصلاة والسلام إلى شهادة أحد - والحمد لله رب العالمين . فإن قال قائل : فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين : فقتلته , أو تعمد أجنبي قتله في بطنها فقتله ؟ فمن قولنا : أن القود واجب في ذلك ولا بد , ولا غرة في ذلك حينئذ , إلا أن يعفي عنه فتجب الغرة فقط , لأنها دية , ولا كفارة في ذلك , لأنه عمد , وإنما وجب القود ; لأنه قاتل نفس مؤمنة عمدا , فهو نفس بنفس , وأهله بين خيرتين : إما القود , وإما الدية , أو المفاداة , كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل مؤمنا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/31)
2125 - مسألة : المرأة تتعمد إسقاط ولدها
؟
قال علي : نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا
علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن الحجاج عن عبدة الضبي
أن امرأة كانت حبلى فذهبت تستدخل فألقت ولدها ؟ فقال إبراهيم النخعي : عليها عتق
رقبة لزوجها عليها غرة : عبد , أو أمة . نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد العزيز بن
نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان الثوري عن
المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي أنه قال في امرأة شربت دواء فأسقطت ؟ قال :
تعتق رقبة , وتعطي أباه غرة . قال أبو محمد:هذا أثر في غاية الصحة . قال علي : إن
كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها , وإن كان قد نفخ فيه الروح : فإن كانت لم
تعمد قتله . فالغرة أيضا على عاقلتها , والكفارة عليها . وإن كانت عمدت قتله
فالقود عليها , أو المفاداة في مالها . فإن ماتت هي في كل ذلك قبل إلقاء الجنين ثم
ألقته : فالغرة واجبة في كل ذلك , في الخطأ على عاقلة الجاني - هي كانت أو غيرها -
وكذلك في العمد قبل أن ينفخ فيه الروح . وأما إن كان قد نفخ فيه الروح فالقود على
الجاني إن كان غيرها . وأما إن كانت هي فلا قود , ولا غرة , ولا شيء ; لأنه لا حكم
على ميت , وماله قد صار لغيره - وبالله تعالى التوفيق .
(11/31)
2126 - مسألة : فيمن ألقت جنينين فصاعدا
؟
قال علي : حدثنا حمام نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس نا
بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا معن بن عيسى عن ابن أبي ذئب عن الزهري في
امرأة ضربت فأسقطت ثلاثة أسقاط ؟ قال : أرى أن في كل واحد منهم غرة , كما أن في كل
واحد منهم الدية . ومن طريق ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن يونس بن يزيد أن
ربيعة قال في امرأة ضربت فألقت جنينين : أنه يدي كل واحد منهما بغرة : أو أمة .
وقال الزهري : إن أسقطت ثلاثة ففي كل واحد منهم غرة - تبين خلقه أو لم يتبين : أنه
حمل . وبه : إلى ابن وهب أخبرني الليث بن سعد الأنصاري أنه قال في الجنين إذا طرح
ميتا غرة : عبد أو وليدة - فإن كان اثنين ففيهما غرتان . قال علي : وبهذا نقول ;
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دية جنينها عبد , أو أمة" وكل
جنين - ولو أنهم عشرة - فهو جنين لها , ففي كل جنين غرة : عبد أو أمة , فلو قتلوا
بعد الحياة ففي كل واحد دية , وكفارة , وبالله تعالى التوفيق .
(11/32)
2127 مسألة : من يرث الغرة ؟
قال علي: اختلف الناس فيمن تجب له الغرة الواجبة في الجنين : حدثنا محمد بن سعيد
بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا
وكيع نا سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم النخعي في امرأة شربت دواء فأسقطت ؟
قال : تعتق رقبة وتعطي أباه غرة . نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن
أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أنه سئل في
رجل ضرب امرأته فأسقطت لمن دية السقط ؟ قال : بلغنا في السنة أن القاتل لا يرث من
الدية شيئا , فدية على فرائض الله تعالى , ليس للذي قتله في ذلك شيء - وهو قول عبد
العزيز بن أبي سلمة , وأبي حنيفة , ومالك , والشافعي . وقال آخرون - غير ذلك : كما
نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى
بن معاوية نا وكيع نا محمد بن قيس عن الشعبي أنه قال في رجل ضرب امرأته حتى أسقطت
, قال الشعبي : عليه غرة يرثها , ويديه - وبهذا القول يقول أبو سليمان , وجميع أصحابنا
. قال علي : فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق من ذلك
فنتبعه : فنظرنا في قول من رأى أن الغرة موروثة , كمال تركه الميت ؟ فوجدناهم
يقولون : إن الغرة دية , فهي كحكم الدية , والدية قد صح أنها موروثة على فرائض
المواريث , فالغرة كذلك . وقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد ما يجب
في الجنين عما يجب في أمه : فجعل في الأم دية , وجعل في الجنين غرة - فصح أن حكم
الغرة كحكم دية النفس , لا كحكم دية الأعضاء . وقالوا : قد صح الاتفاق على أن امرأ
لو جني عليه ما يوجب دية فمات ؟ فإنه
(11/32)
موروثه عنه , فكذلك الجنين فيما وجب في الجناية له . وقالوا : لو كان واجبا أن تكون للأم لوجب إذا جني عليها فماتت , ثم ألقت جنينا : أن لا يجب فيه شيء ; لأن الميت لا يستحق شيئا بعد موته ؟ قال أبو محمد:هذا كل ما احتجوا به , لا نعلم لهم حجة غير هذا , وكل هذا ليس لهم فيه حجة , لما نذكره إن شاء الله تعالى : أما قولهم : إن الغرة دية فهي كحكم الدية , وقد صح أن الدية موروثة على فرائض المواريث , فالغرة كذلك - فإن هذا قياس , والقياس كله فاسد , ثم لو صح القياس يوما ما لكان هذا منه باطلا ; لأن حكم القياس عند القائلين به إنما يرونه فيما عدم فيه النص , لا فيما فيه النص . وأما النص - فإنما جاء في الدية الموروثة فيمن قتل عمدا أو خطأ , لا فيمن لم يقتل أحدا , والجنين الذي لم ينفخ فيه الروح لم يقتل قط , فقياس دية من لم يقتل , على دية من قتل : باطل - لو كان القياس حقا ; لأنه قياس الشيء على ضده - فبطل هذا القياس - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد:وأما نحن فإن القول عندنا - وبالله تعالى نتأيد - هو أن الجنين إن تيقنا أنه قد تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة , فإن الغرة موروثة لورثته الذين كانوا يرثونه لو خرج حيا فمات , على حكم المواريث , وإن لم يوقن أنه تجاوز الحمل به مائة ليلة وعشرين ليلة فالغرة لأمه فقط . برهاننا على ذلك : أن الله تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين" فذكر عليه الصلاة والسلام القود , أو الدية , أو المفاداة - على ما ذكرنا قبل - فصح بالقرآن , والسنة : أن دية القتيل في الخطأ والعمد مسلمة لأهل القتيل , والقتيل لا يكون إلا في حي : نقله القتل عن الحياة إلى الموت , بلا خلاف من أهل اللغة التي بها نزل القرآن , وبها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . والجنين بعد مائة ليلة وعشرين ليلة : حي بنص خبر الرسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وإذ هو حي , فهو قتيل قد قتل بلا شك , وإذ هو قتيل بلا شك , فالغرة التي هي ديته واجبة أن تسلم إلى أهله بنص القرآن , وقد اتفقت الأمة على أن الورثة الذين يسلم لهم الدية أنهم يقتسمونها على سنة المواريث بلا خلاف . وأما إذا لم يوقن أنه تجاوز مائة ليلة وعشرين ليلة , فنحن على يقين من أنه لم يحيا قط , فإذا لم يحيا قط , ولا كان له روح بعد , ولا قتل , وإنما هو ماء , أو علقة من دم , أو مضغة من عضل , أو عظام , ولحم : فهو في كل ذلك بعض أمه , فإذ ليس حيا بلا شك , فلم يقتل , لأنه لا يقتل موات , ولا ميت , وإذ لم يقتل , فليس قتيلا , فليس لديته حكم دية القتيل ; لأن هذا قياس والقياس كله باطل , ولو كان حقا لكان هذا
(11/33)
منه عين الباطل , وإنما يقاس عند أهل القياس الشيء على نظيره , لا على ضده - ومن ليس قتيلا فهو غير مشبه للقتيل , فلا يجوز القياس هاهنا على أصول أصحاب القياس , وإذ ليس قتيلا , فهو بعض من أبعاضها , ودم من دمها , ولحم من لحمها , وبعض حشوتها بلا شك , فهي المجني عليها , فالغرة لها بلا شك , فإن ماتت ثم طرحت الجنين - ولم يوقن أنه أتم عشرين ومائة ليلة - فالجنين لورثة الأم ; لأنه بنفس الجناية وجب لها , فهي موروثة عنها . قال أبو محمد:وإن العجب ليكثر ممن يراعي في المولود الاستهلال , فإن لم يستهل لم يقد به , ولا ورث منه , ثم يورث منه الغرة - وهو لم يحيا قط , فكيف أن يستهل ؟ ونسألهم - عن مولود ولد فرضع وتحرك ولم يستهل , ثم قتل عمدا أو خطأ ماذا ترون فيه ؟ أغرة أم دية ؟ فإن قالوا : غرة , أتوا بطريقة له لم يقلها أحد قبلهم - وإن قالوا : بل دية أمه , نقضوا أصولهم , إذ جعلوا في قتل ميت دية كاملة أو قودا . فإن قالوا : ليس ميتا ؟ قلنا لهم : قوي العجب أن لا تورثوا حيا وكل هذه أقوال ينقض بعضها بعضا - وبالله تعالى التوفيق . : روينا من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة , ومحمد بن عبد الله بن نمير قال كل واحد منهما : نا وكيع , وأبو معاوية , قالا جميعا : نا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق , قال: "يجمع أحدكم خلقه في بطن أمه أربعين يوما , ثم يكون علقة مثل ذلك , ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك , ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" وذكر باقي الحديث . قال علي : وما لم يوقن تمام المائة والعشرين ليلة بجميع أيامها فهو على ما تيقناه من مواتيته , ولا يجوز أن نقطع له بانتقاله إلى الحياة عن المواتية المتيقنة إلا بيقين , وأما بالظنون فلا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/34)
جنين الأمة في سيدها
...
2128 - مسألة : جنين الأمة من سيدها ؟
قال علي : لا خلاف في أن جنين الأمة من سيدها الحر مثل جنين الحرة , ولا فرق . ثم
اختلفوا في جنين الأمة من غير سيدها الحر : فقالت طائفة : فيه عشر قيمة أمه - كما
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد
السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي أنا محمد بن سلمة عن
يونس بن عبيد عن الحسن البصري , قال في جنين الأمة عشر ثمن أمه - وبه يقول مالك ,
والشافعي , وأبو ثور , وأصحابهم , وأحمد , وأصحابه , وإسحاق بن راهويه . وقالت
طائفة : فيه من ثمن أمه كقدر ما في جنين الحرة من دية أمه - كما حدثنا حمام نا ابن
مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , قال : جنين
(11/34)
الأمة في ثمن أمه بقدر جنين الحرة في دية أمه , قال : فلو أعتق رجل جنين وليدته ثم قتلت الوليدة ؟ قال : يعقل الوليدة ويعقل جنينها عبدا , أيما كان تمام عتقه أن يولد ويستهل صارخا . وقالت طائفة : فيه نصف عشر ثمن أمه , كما نا محمد بن سعيد بن نبات , نا أحمد بن عبد البصير , نا قاسم أصبغ , نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي , ويحيى بن سعيد القطان , كلاهما عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي , قال في جنين الأمة : نصف عشر ثمن أمه - وهو قول ابن أبي ليلى , والحجاج بن أرطاة - وهو أيضا قول قتادة . وقالت طائفة : فيه نصف عشر قيمته إن خرج ميتا , فإن خرج حيا فثمنه كله - وهو قول سفيان الثوري , رويناه من طريق عبد الرزاق - وهو قول الحسن بن حي . وقال أبو حنيفة , ومحمد بن الحسن , وزفر بن الهذيل : إن كان جنين الأمة ذكرا ففيه نصف عشر قيمته لو كان حيا - وإن كان أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية - قال زفر : وعليه مع ذلك ما نقص أمه - وقال أبو يوسف : لا شيء في جنين الأمة إلا أن يكون نقص أمه , ففيه ما نقصها . وقالت طائفة : فيه عشرة دنانير : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر , وابن جريج , قال معمر عن الزهري , وقال ابن جريج عن إسماعيل بن أمية - ثم اتفق الزهري , وإسماعيل , كلاهما عن سعيد بن المسيب , قال : في جنين الأمة عشرة دنانير . وقالت طائفة : فيه حكومة - كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان قال : ينظر ما بلغ ثمن جنين الحرة من جميع ثمنها , فإن كانت عشرا أعطيت الأمة عشرة , وإن كانت خمسا , وإن كانت سبعا , وإن كانت ثمنها - يعني : فكذلك . وقالت طائفة : في جنين الأمة غرة عبد أو أمة , كما في جنين الحرة ولا فرق - : كما روينا قبل عن ابن سيرين , وعروة , ومجاهد , وطاوس , وشريح , والشعبي , فإنهم ذكروا الجنين وما فيه , ولم يخصوا جنين حرة من أمة , ولو كان عندهم في ذلك فرق لبينوه ؟ ومن ادعى أنهم أرادوا الحرة خاصة فقد كذب عليهم , وحكى عنهم ما لم يقولوا , ولا أخبروا به عن أنفسهم , ومن حمل قولهم على ما قالوه فبحق واجب يدخل فيه جنين الأمة , وغيره , ولا فرق , إذ هو مقتضى قولهم : ليس فيه إلا ما ينقصها فقط . قال أبو محمد:فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى ومنه . فنظرنا في قول من رأى فيه عشر قيمة أمه - فلم نجد لهم حجة إلا أنهم قالوا : وجدنا الغرة المحكوم بها في جنين الهذلية وقوم بخمسين دينارا - وهو عشر دية أمه فوجب أن يكون في جنين الأمة عشر قيمة دية أمه أيضا لأن دية الأمة قيمتها , حتى أن
(11/35)
مالكا حمله هذا القياس على أن جعل في
جنين الدابة عشر قيمتها - وفي بيضة النعامة على المحرم عشر البدنة . قال علي :
فكان هذا الاحتجاج ساقطا ; لأن تقويم الغرة بخمسين دينارا أو بالدراهم خطأ لا يجوز
, لأنه لم يوجبه قرآن , ولا سنة , ولا إجماع - ولا صح عن صاحب . ثم نظرنا في قول
إبراهيم النخعي , وقتادة : أن في جنين الأمة نصف عشر ثمن أمه , لم نجد لهم متعلقا
- فسقط هذا القول لتعريه عن الأدلة . ثم نظرنا في قول سفيان والحسن بن حي فوجدناه
أيضا لا حجة لهم أصلا - فسقط أيضا . ثم نظرنا في قول أبي حنيفة , وزفر , ومحمد بن
الحسن ؟ فوجدناهم يقولون : لما كانت الغرة في جنين الحرة مقدرة بخمسين دينارا كان
ذلك نصف عشر ديته لو خرج حيا - وكان ذكرا - أو عشر ديتها - لو كانت أنثى - وخرجت
حية , فوجب في جنين الأمة مثل ذلك أيضا ; لأنه لو حيا فقتل لكانت فيه القيمة ؟.
قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به , وهذا كله باطل على ما نذكر - إن شاء الله
تعالى . فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : إن قولهم : لما كان ثمن الغرة في جنين
الحرة خمسين دينارا وهو نصف عشر ديته , لو خرج حيا - وكان ذكرا - وعشر ديتها , لو
خرجت حية - وكانت أنثى - فوجب أن يكون ما في جنين الأمة كذلك , فباطل من وجوه :
أولها - أنه قياس والقياس كله باطل . الثاني - أنه لو صح القياس لكان هذا منه عين
الباطل ; لأن تقويم الغرة بخمسين دينارا باطل , لم يصح قط في قرآن , ولا سنة , ولا
عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فصار قياسهم هذا قياسا للخطأ على الخطأ .
والثالث - أنه لو صح لهم تقويم الغرة بخمسين دينارا فمن أين لهم أن المقصود في ذلك
هو أن يكون نسبته من ديته , أو من دية أمه ؟ ويقال لهم : من أين لكم هذا ؟ وهلا
قلتم : إنها قيمة نافذة مؤقتة : كالغرة ولا فرق ؟ ولكن أبوا إلا الترديد من
الدعاوى الفاسدة بلا برهان . والرابع - أن يعارض قياسهم بمثله , فيقال لهم : ما
الفرق بينكم وبين ما روي عن مالك , والحسن : من أن الخمسين دينارا التي قومت بها
الغرة في جنين الحرة إنما اعتبر بها من دية أمه , لا من دية نفسه ؟ فقالوا : إن
كان جنين الأمة - ذكرا أو أنثى - ففيه عشر قيمة أمه , كما في جنين الحرة - ذكرا
كان أو أنثى - عشر دية أمه , فهل هاهنا إلا دعوى مقابلة بمثلها ؟ وتحكم بلا دليل ؟
ثم نظرنا في قول حماد بن أبي سليمان أن فيه حكما , فوجدناه أيضا قولا عاريا من
الأدلة , فوجب تركه , إذ ما لا دليل على صحته , فهي دعوى ساقطة . ثم نظرنا في قول
سعيد بن المسيب , فوجدناه أيضا لا دليل على صحته , فلم يجز القول به ; لأن الله
تعالى يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ
(11/36)
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فمن لا برهان
له فلا يجوز الأخذ بقوله . ثم نظرنا في قول أبي يوسف , وبعض أصحابنا : أنه لا شيء
في جنين الأمة إلا ما نقصها , فوجدناه أيضا قولا لا دليل على صحته , وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين ما قد ذكرناه .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما سقطت هذه الأقوال [ كلها ] وجب أن ننظر عند اختلاف
القائلين بها ما افترض الله تعالى علينا إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ففعلنا . فوجدنا - ما رويناه من
طريق مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : أنا وكيع عن هشام بن
عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة قال : استشار عمر بن الخطاب في إملاص المرأة فقال
المغيرة بن شعبة : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة ,
فقال له عمر : ائتني بمن يشهد معك ؟ فشهد له محمد بن مسلمة . وما ناه أحمد بن محمد
عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن
عبد الخالق البزار نا محمد بن معمر البحراني نا عثمان بن عمر نا يونس بن يزيد نا
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل , فرمت
إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها , فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال عليه السلام : "دية جنينها عبد أو أمة" وقضى بالدية على
عاقلتها وورثها ولدها.
قال أبو محمد: فحديث المغيرة , ومحمد بن مسلمة عموم إملاص كل امرأة - وكذلك نص
كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة بأن دية جنينها عبد أو وليدة
- ولم يقل صلى الله عليه وسلم إن هذا إنما هو في جنين الحرة , فلا يحل لأحد أن
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ما لم يقل , ولا أن يخبر عنه بما لم يخبر
به عن نفسه , ومن فعل هذا فقد قال عليه ما لم يقل , وهذا يوجب النار . فإن قيل :
إنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في جنين حرة ؟ قيل لهم : إنما حكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك في جنين هذلية لحيانية تسمى مليكة قتلتها ضرتها
أم عفيف , الفرق بينكم في دعواكم بذلك لأنه جنين حرة , وبين من قال : بل لأنه جنين
هذلية ؟ أو لأنه جنين امرأة تسمى مليكة , أو لأن ضرتها قتلتها , أو لأن القاتلة
اسمها أم عفيف - هذا كله باطل وتخليط - وبالله تعالى التوفيق .
(11/37)
2129 مسألة : جنين الذمية؟
قال أبو محمد رضي الله عنه : قال قائلون في جنين الذمية عشر ديتها - وهذا قول إنما
قاسوه على قولهم في تقويم الغرة بخمسين دينارا - وهو قول ظاهر الخطأ . والقول
عندنا أن في جنين الذمية أيضا غرة عبد أو أمة يقضى على عاقلة الضارب به , فيطلبون
غلاما أو أمة - كافرين - فيدفعانه , أو يدفعانها إلى من تجب له ,
(11/37)
فإن لم يوجدا فبقيمة أحدهما - لو وجد -
والقيمة في هذا - وفي الغرة جملة إذا عدمت أقل ما يمكن , إذ لا يجوز أن يلزم أحد
غرامة , إلا بنص أو إجماع ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم
وأموالكم عليكم حرام". فأقل ما كانت تساوي الغرة - لو وجدت - واجب على
العاقلة بالنص , وما زاد على ذلك غير واجب , لا بنص ولا إجماع - فهو ساقط لا يجوز
الحكم به . ولو أن ذميا ضرب امرأة مسلمة خطأ فأسقطت جنينا : يكلف أن تبتاع عاقلته
عبدا كافرا أو أمة كافرة ولا بد - ولا يجوز أن يبتاع عبدا مسلما ولا أمة مسلمة -
والرقبة الكافرة تجزي في الغرة المذكورة - سواء كان الجاني وعاقلته : مسلمين , أو
كانوا كفارا - وإنما الواجب عبد أو أمة فقط , كما حكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} .
فلو أراد الله تعالى أن تكون الغرة مؤمنة لما أغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم
علم بيان ذلك - كما لم يغفل , أو بين أنه يجزي في ذلك ذكر أو أنثى , وبالله تعالى
التوفيق .
قال أبو محمد رحمه الله: وأما ما نقص الأمة إلقاء الجنين , فهو الواجب على الجاني
في ماله ولا بد , زيادة على الغرة ; لأنه مال أفسده فعليه ضمانه على ما قد ذكرنا -
وبالله تعالى التوفيق .
(11/38)
2130 – مسألة ـ جنين البهيمة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن
وضاح نا سحنون نا ابن وهب , أخبرني يونس بن يزيد عن أبي الزناد , والزهري , وربيعة
, قال أبو الزناد في جنين البهيمة : نرى أن تقام البهيمة في بطنها ولدها , ثم تقام
بعد أن تطرح جنينها , فيكون فضل ما بين ذلك على الذي أصابها حتى طرحت جنينها -
وقال الزهري : نرى جنين البهيمة إلى الحكم بقيمة إنما البهيمة سلعة من السلع -
وقال ربيعة : لا أرى في جنين البهيمة شيئا أوسع من اجتهاد الإمام ؟ قال أبو
محمد:القول في هذا عندنا هو قول أبي الزناد ; لأنها جناية على مال فقيمة مثله .
وأما قول الزهري , وربيعة : إن في ذلك اجتهاد الإمام , أو الحاكم : فقول لا يصح ;
لأنه لا دليل يوجبه , ولم يجعل الله تعالى , ولا رسوله - عليه الصلاة والسلام -
لأحد من الأئمة اجتهادا في أخذ مال من إنسان وإعطائه آخر , بل قد حرم الله تعالى
ذلك على لسان رسوله عليه السلام , فليس لأحد أن يأخذ من أحد ما يعطيه لآخر , إلا
بنص , أو إجماع - وبالله تعالى التوفيق . وقد روي عن مالك , والحسن بن حي : أن في
جنين الفرس عشر قيمة أمه , وقال مالك في جنين البهيمة عشر قيمة أمها , وهذا كله
ليس بشيء ; لأنه قياس
(11/38)
والقياس كله باطل.
(11/39)
2131 - مسألة: حكم لو أن كافرا ذميا قتل
ذميا ثم أسلم القاتل
قال أبو محمد - رحمه الله - : ولو أن كافرا ذميا قتل ذميا ثم أسلم القاتل بعد قتله
المقتول , أو قبل موت المقتول : فلا قود على القاتل أصلا ; لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر". قالوا : ودية المقتول - إن
اختاروا الدية قبل إسلام قاتل وليهم , أو فادوه ثم أسلم : بقيت الغرامة لهم عليه ;
لأنه مال استحقوه عنده , والأموال تجب للكافر على المؤمن , وللمؤمن على الكافر -
وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من
شعير أخذها صلى الله عليه وسلم لقوت أهله وقد ذكرناه بإسناده قبل هذا . فلو أن
المجروح أسلم أيضا ثم مات - وهو مسلم - فالقود له واجب ; لأنه مؤمن بمؤمن , وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم".
قال أبو محمد رحمه الله: فلو أن مسلما جرح ذميا عمدا ظالما فأسلم الذمي ثم مات من
ذلك الجرح فالقود في ذلك بالسيف خاصة , ولا قود في الجرح لأن الجرح حصل , ولا قود
فيه للكافر: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً} فلما أسلم ثم مات مسلما من جناية ظلم يمات من مثلها : حصل مقتولا عمدا -
وهو مسلم - ففيه ما جعل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على من قتل مؤمنا -
وبالله تعالى التوفيق . فلو أن صبيا , أو مجنونا جرحا إنسانا , ثم عقل المجنون
وبلغ الصبي , ثم مات المجروح , فلا شيء في ذلك , لا دية , ولا قود , لأنه مات من
جناية هدر لا حكم لها . فإن قيل : قد قلتم في الذي يرمي حربيا ثم يسلم , ثم يموت :
إن فيه الدية على العاقلة , فكيف تجعلون الدية فيمن مات من جناية مأمور بها , ولا
تجعلون الدية فيمن مات من جناية هذا ؟ فقد قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : هكذا
قلنا ; لأن الجاني المأمور بتلك الجناية مخاطب مكلف ملزم في قتل الخطأ كفارة أو
كفارة ودية على عاقلته , وليس المجنون والصبي مخاطبين أصلا , ولا مكلفين شريعة في
قتل عمد , ولا في قتل خطأ : فسقط حكم كل ما عملا , ولم يكن له في الشرع دخول , ولم
يسقط ما فعله المخاطب المكلف المأمور المنهي . ولو أن عاقلا قتل أو جرح ثم جن فمات
المجروح من تلك الجناية : فالقود على المجنون , أو الدية في ماله , ولا مفاداة
هنالك ؟ ; وذلك لأن القود قد وجب عليه حين جنى , وحكم تلك الجناية لازم له , وقد
يسقط عنه بذهاب عقله , إذ لم يوجب ذلك نص قرآن , ولا سنة , ولا إجماع - وكذلك يقام
عليه في جنونه حد لزمه في حال عقله , ولا يقام عليه في حال عقله كل حد كان منه في
حال جنونه , بلا خلاف من الأمة , والسكران مجنون ؟ .
(11/39)
حكم كسر عظم الميت
...
2132 ـ مسألة ـ كسر عظم الميت
قال أبو محمد: رضي الله عنه نا عبدالله
(11/39)
حكم الوكالة في القود
...
2132 - مسألة : الوكالة في القود ؟
قال أبو محمد رحمه الله: أمر الولي بأن يؤخذ له القود جائز لبراهين : أولها : قول
الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} والقود : بر وتقوى ,
فالتعاون فيه واجب . وثانيها : ما قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره
بالقود من اليهودي الذي رضخ رأس الجارية بالحجر , فكان أمره - عليه السلام - عموما
لكل من حضر . وثالثها : إجماع الأمة أن السلطان إذا أوجب له ما لولي من القتل فإنه
يأمر من يقتل , والسلطان ولي من الأولياء , فلا يجوز تخصيصه بذلك دون سائر الأولياء
. قال أبو محمد رحمه الله: فإذا كان ذلك كذلك , فجائز , إذا أمر المولى من يأخذ له
القود أن يغيب فيستقيد المأمور , وهو غائب , إذ قد وجب القود بيقين أمر الله تعالى
, وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يشترط الولي في ذلك من مغيب: {وما كان ربك
نسيا} . فإن غاب الولي ثم عفا , فليس عفوه بشيء , ولا شيء على القاتل - ولا يصح
عفو الولي إلا بأن يبلغ ذلك المأمور بالقود ويصح عنده . برهان ذلك : أن الله تعالى
قد أباح للمأمور بأخذ القود , وأن يأتمر للآمر له بذلك , وأباح له دم المستقاد منه
, وأعضاءه بيقين لا شك به , فإذا عفا الولي في غير علم المأمور بالقود فهو مضار ,
والمضار متعد , والمتعدي ظالم , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس
لعرق ظالم حق" فلا حق لذلك العفو الذي هو مضارة محضة , وهو غير العفو الذي حض
الله تعالى عليه ورسوله عليه السلام ; لأن العفو الذي حض الله تعالى عليه ورسوله
صلى الله عليه وسلم فهو طاعة , وعفو المضارة معصية , والمعصية غير الطاعة , وهذا
العفو بعد الأمر : هو عفو بخلاف العفو الذي أمر الله تعالى به نادبا إليه , وإذ هو
غيره , فهو باطل ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه
أمرنا فهو رد" فهو غير لازم لذلك العافي , وهو باق على قوده . فلو بعث رسولا
إلى المأمور بالقود فلا حكم له
(11/41)
إلا حتى يبلغ إليه , فحينئذ يصح ويلزم العافي , فإن قتله المأمور بالقود بعد صحة الخبر عنده بعفو الولي فهو قاتل عمد , أو خائن عهد , وعليه القود , وكذلك لو جن الآمر ولا فرق , فالأخذ بالقود واجب , كما أمر به - وبالله تعالى التوفيق .
(11/42)
حكم من قطع ذكر خنثى مشكل
...
2134- مسألة : من قطع ذكر خنثى مشكل وأنثييه ؟
فسواء قال : أنا امرأة , أو قال : أنا ذكر : القود واجب ; لأنه عضو يسمى ذكرا
وأنثيين - وكذلك لو قطعت امرأة شفريه ولا فرق . ومن كانت له سن زائدة أو إصبع
زائدة فقطعها قاطع اقتص له منه , من أقرب سن إلى تلك السن , وأقرب إصبع إلى تلك
الإصبع ; لأنها سن وأصبع ولا فرق بين أن يبقى المقتص منه ليس له إلا أربع أصابع ,
ويبقى لمقتص له خمس أصابع , وبين أن يقطع من ليست له إلا السبابة وحدها - سبابة
سالم الأصابع ؟ لا خلاف في أن القصاص في ذلك , ويبقى المقتص ذا أربع أصابع ويبقى
المقتص منه لا أصبع له , وهكذا القول في الأسنان ولا فرق , وبالله تعالى التوفيق.
(11/42)
2135 - مسألة : إذا تشاح الأولياء في
تولي قتل قاتل وليهم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وإذا تشاح الأولياء في تولي قتل قاتل وليهم ؟ قيل لهم :
إن اتفقتم على أحدكم أو على أجنبي , فذلك لكم وإلا أقرعنا بينكم , فأيكم خرجت
قرعته تولى القصاص - وهذا قول الشافعي رحمه الله ؟ قال أبو محمد رحمه الله: برهان
هذا : أنه ليس بعضهم أولى من بعض , ولا يمكن أن يتولى القود اثنان معا , فإذ لا بد
من أحدهما , أو من غيرهما بأمرهما - ولا سبيل إلى ثالث , فأمر غيرهما بالقود إسقاط
لحقهما معا في تولي ذلك الحكم , والحكم هاهنا بالقرعة إسقاط لحق أحدهما , وإبقاء
لحق الآخر - ولا يجوز إسقاط حق ذي حق إلا لضرورة مانعة لا سبيل معها إلى توفية
الحق , فإذا كان ذلك سقط الحق ; لقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . ونحن محرم علينا منعهما
من حقهما , ونحن مضطرون إلى إسقاط حق أحدهما , إذ لا سبيل إلى غير ذلك , ولسنا
مضطرين إلى إسقاط حقهما جميعا فلا يجوز لنا ما لم نضطر إليه فقد بطل أن نأمر
غيرهما بغير رضاهما , ولا يجوز أن نقصد إلى أحدهما فنسقط حقه هكذا مطارفة فيكون
جورا ومحاباة , فوجبت القرعة ولا بد ; لأن الضرورة دفعت إليها ولا يحل إيقاف الأمر
حتى يتفقا ; لأن في ذلك منعهما جميعا من حقهما , وهذا لا يجوز , بالله تعالى
التوفيق.
(11/42)
حكم من أخاف انساناً فقطع ساقه ومنكبه
وأنفه وقتله
...
2136 - مسألة : من أخاف إنسانا فقطع ساقه ومنكبه وأنفه وقتله
من أخاف إنسانا فقطع ساقه ومنكبه وأنفه وقتله فلولي المقتول أن يفعل به كل ذلك ,
ويقتله - وله أن يقتله دون أن يفعل به شيئا من ذلك , وله أن يفعل به كل ذلك أو
بعضه , ولا يقتله , لكن يعفو عنه ؟
قال أبو محمد رحمه الله: برهان ذلك : أن كل هذه الأفعال قد وجب له أن
(11/42)
حكم من قطع أصبع آخر عمداً فسأل القود
...
2137 - مسألة: من قطع أصبع آخر عمدا فسأل القود ؟
قال أبو محمد رضي الله عنه : من قطع أصبع آخر عمدا فسأل القود ؟ أقدنا له من حينه
على ما ذكرنا قبل فإن تآكلت اليد فذهبت وبرئ , فله القود من اليد ; لأنها تلفت
بعدوان وظلم . وكذلك لو جرحه موضحة عمدا فذهبت منها عيناه اقتص له من الموضحة ومن
العينين معا وهكذا في كل شيء - فلو مات منها قتل به ; لأن كل ذلك تولد من جناية
عدوان . وقال الشافعي : أما تعجيل القصاص من الأصبع والموضحة ؟ فنعم , فإن مات بعد
ذلك فالقود في النفس واجب أيضا . وأما ذهاب العينين واليد فقط فإنما في ذلك الدية
فقط . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا خطأ ومناقضة ظاهرة , ولا فرق بين ما تولد عن
جنايته من ذهاب نفس , أو ذهاب عضو ؟ إذ لم يفرق بين شيء من ذلك نص قرآن , ولا سنة
, ولا إجماع , ولا نظر , ولا قياس , ولا قول صاحب . فلو أن المجني عليه قطع كف
نفسه , خوف سراية الأكلة فلا ضمان على الجاني ; لأن ذهاب اليد كان باختيار قاطعها
, لا من فعله , ولعلها لو تركها تبرأ - فلو قطع إنسان أنملة لها طرفان , فإن قطع
كل طرف في أصله قطع من يده أنملتان كذلك , فلو قطع في الأصبع قبل افتراق الأنملتين
: قطع له من ذلك الموضع فقط , ولا مزيد , ولا أرش له في الأنملة الثانية ; لأن
الله تعالى يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . فالواجب أن يوضع منه الحديد حيث وضع , ويذاق من الألم ما
أذاق ولا مزيد , قال الله تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} وقال الشافعي : له في الأصبع القود , وله في الأصبع الزائدة حكومة
؟ قال أبو محمد رحمه الله: الحكومة
(11/43)
غرامة مال والأموال محرمة إلا بنص أو إجماع.
(11/44)
حكم من هدم بيتاً على انسان أو ضربه بسيف
وهو راقد فقطع رأسه
...
2138 - مسألة - من هدم بيتا على إنسان أو ضربه بسيف - وهو راقد - فقطع رأسه
قال أبو محمد رحمه الله: من هدم بيتا على إنسان أو ضربه بسيف - وهو راقد - فقطع
رأسه , أو قال : هدمت البيت ؟ وهو قد كان مات بعد , أو قال : ضربته بالسيف وهو ميت
: لم يلتفت له , ولا يمين على أوليائه في ذلك , ووجب القود عليه بمثل ما فعل ; لأن
الميت قد صحت حياته بيقين , فهو على الحياة حتى يصح موته , ومدعي موته مدعي باطل ,
وانتقال حال , والدعوى لا يلتفت إليها إلا ببينة - وبالله تعالى التوفيق .
(11/44)
حكم من جرح جرحاً يموت من مثله فتداوى
بسم فمات فالقود على القاتل
...
2139 - مسألة : ومن جرح جرحا يموت من مثله فتداوى بسم فمات؟
فالقود على القاتل ; لأنه وإن مات من فعل نفسه , وفعل غيره : فكلاهما قاتل , وعلى
القاتل القود - وإن طرحه غيره ؟ فإن اختاروا الدية , فالدية كلها أيضا لازمة له
على ما ذكرنا قبل , وبالله تعالى التوفيق , وهو حسبنا .
(11/44)
كتاب العواقل والقسامة وقتل أهل البغى
ما ورد في العواقل
*
...
كتاب العواقل , والقسامة , وقتل أهل البغي
العواقل ؟ قال الفقيه أبو محمد - رحمه الله : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح
نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد
بن رافع نا عبد الرزاق نا ابن جريح أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول : كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله , ثم كتب الله : أنه لا يحل
أن يتوالى مولى رجل بغير إذنه . وبه : إلى مسلم نا قتيبة نا الليث عن ابن شهاب عن
سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين
امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة , ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها , وأن العقل على عصبتها
. وبه : إلى مسلم نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي نا جرير بن عبد الحميد عن منصور بن
المعتمر عن إبراهيم النخعي عن عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة قال ضربت امرأة
ضرتها بعمود فسطاط - وهي حبلى - فقتلتها وإحداهما لحيانية , فجعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة , وغرة لما في بطنها , فقال رجل من
عصبة القاتلة : أنغرم دية من لا أكل ولا نطق ولا استهل , فمثل ذلك يطل ؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "أسجع كسجع الأعراب" ؟ قال : وجعل عليهم الدية.
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن الدية في قتل الخطأ وفي الغرة الواجب في الجنين
على عاقلة القاتل , والجاني , بحكم رسول الله , وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين من هم العاقلة الغارمة لدية الخطأ , ولغرة الجنين , وأنهم أولياء الجاني
الذين هم عصبته ومنتهاهم البطن الذي هو منهم - على ما أوردنا آنفا - من أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كتب على كل بطن عقوله ؟
(11/44)
2140 - مسألة : هل تحمل العاقلة الصلح في العمد , أو الاعتراف بقتل الخطأ ؟ أو العبد المقتول في الخطأ ؟ قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : كما نا
(11/48)
نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن
نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح : نا موسى بن معاوية , نا وكيع , نا عبد الملك بن
حسين أبو مالك : عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عمر بن الخطاب , قال :
العمد , والعبد , والصلح , والاعتراف في مال الجاني لا تحمله العاقلة . وعن الشعبي
- قال : اصطلح المسلمون على أن لا يعقلوا عمدا ولا عبدا , ولا صلحا , ولا اعترافا
. وعن إبراهيم النخعي قال : لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا , ولا صلحا ولا اعترافا
- وعن عمر بن عبد العزيز : إلا أن يشاءوا . وعن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم
النخعي قال : لا تعقل العاقلة العمد ولا الصلح , ولا الاعتراف , ولا العبد . وعن
ابن شهاب قال : مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من العمد إلا أن تعينه عن طيب
نفس - قال مالك : وحدثني يحيى بن سعيد مثل ذلك . وعن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه
قال : ليس على العاقلة عقل من قبل العمد إلا أن يشاءوا ذلك , إنما عليهم عقل الخطأ
. وقال أبو حنيفة , والشافعي , وابن شبرمة , وسفيان الثوري , والأوزاعي ومالك ,
وأبو سليمان , وأصحابهم : لا تحمل العاقلة شيئا من هذا كله . وقالت طائفة : لا
تحمل العاقلة شيئا من هذا كله ولكن تعينه ; لما روي أن عمر بن الخطاب قال : ليس
لهم أن يخذلوه عن شيء أصابه في الصلح - وعن الزهري : وعليهم أن يعينوه . وقالت
طائفة غير هذا لما روي عن شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان عن
رجل حر استقبل مملوكا فتصادفا فماتا جميعا ؟ فقالا جميعا : دية العبد على عاقلة
الحر وليس على العبد شيء . وروي عن عطاء قال : إن قتل رجل عبدا خطأ فهو على عاقلته
, وإن قتل دابة خطأ فهو على عاقلته . وعن ابن جريج أخبرني محمد بن نصر , والصلت :
أن رجلا بالبصرة رمى إنسانا ظن أنه كلب فقتله , فإذا هو إنسان ؟ فلم يدر الناس من
قاتله , فجاء عدي بن أرطاة فأخبره : أنه قتله فسجنه , وكتب فيه إلى عمر بن عبد
العزيز فكتب إليه : إنك بئس ما صنعت إذ سجنته وقد جاء من قبل نفسه , فخل سبيله
واجعل ديته على العشيرة . وزعم الصلت : أنه من الأزد - القاتل والمقتول - وأن
القاتل كان عاسا يعس . وقال الزهري : العبد تحمل قيمته العاقلة .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل
طائفة لنعلم الحق فنتبعه : فنظرنا فيما احتج به من قال : لا تحمل العاقلة عمدا ,
ولا عبدا , ولا صلحا , ولا اعترافا ؟ فوجدناهم يقولون : إن هذا قول روي عن عمر ,
وابن عباس - رضي الله عنهما
(11/49)
ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة - وهذا لا حجة لهم فيه , إذ لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم نظرنا فيما احتج به أهل القول الثاني : فوجدناهم يذكرون ما روي عن الزهري , قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكتاب الذي كتبه بين قريش والأنصار : "لا تتركوا مفرجا أن تعينوه في فكاك أو عقل" والمفرج : كل ما لا تحمله العاقلة - وهذا مرسل يوجب أن تعين العاقلة فيما لم تحمل جميعه - وقد روي أيضا من عمر كما ذكرنا . وأما نحن فلا حجة عندنا في مرسل , فلما لم يكن فيما احتجوا به حجة وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه من ذلك , فبدأنا بالعمد ما ألزم فيه دية , أو صولح فيه , فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" فلم يجز أن نكلف عاقلة غرامة حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله عليه السلام , ولم يوجبها قط نص ثابت في العمد , فوجب أن لا تحمل العاقلة العمد , ولا الصلح في العمد . ثم نظرنا في الاعتراف بقتل الخطأ , فوجدنا الله تعالى يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . ووجدنا المقر بقتل الخطأ ليس مقرا على نفسه ; لأن الدية فيما أقر به على العاقلة , لا عليه , فإذ ليس مقرا على نفسه فواجب أن لا يصدق عليهم , إلا أننا نقول : إنه إن كان عدلا حلف أولياء القتيل معه واستحقوا الدية على العاقلة , فإن نكلوا فلا شيء لهم . فلو أقر اثنان عدلان بقتل خطأ وجبت الدية على عواقلهما بلا يمين , لأنهما شاهدا عدل على العاقلة . وقد اختلف [ الناس ] في هذا : فقال أبو حنيفة : والشافعي , والأوزاعي , والثوري : الدية على المقر في ماله . وقال مالك : لا شيء عليه , قال : وإن لم يتهم بمن أقر له أقسم أولياء المقتول , ووجبت الدية على العاقلة . ثم نظرنا في العبد يقتل خطأ , هل تحمل قيمته العاقلة أم لا ؟ فوجدنا من لم تحمله العاقلة لا حجة لهم إلا ما ذكرنا من أنه روي ذلك عن عمر . وعن ابن عباس - وهو قول لم يصح عن عمر كما ذكرنا , لأنه عن الشعبي عن عمر ولم يولد الشعبي إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين ولا نعلمه أيضا يصح عن ابن عباس وقد ذكرنا قضايا عظيمة عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - خالفوها , قد ذكرناها في غير موضع , فالواجب الرجوع إلى ما أوجب الله تعالى عند التنازع , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية , ففعلنا . فوجدنا ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا القاسم بن زكريا نا سعيد بن عمرو نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس : "أن مكاتبا قتل على عهد رسول
(11/50)
الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليه السلام أن يودى ما أدى دية الحر , وما لا دية المملوك وقد روي عن يحيى بن أبي كثير قال : إن علي بن أبي طالب , ومروان كانا يقولان في المكاتب أنه يودى منه دية الحر بقدر ما أدى , وما رق منه دية العبد . فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحجة في الدين سمى ما يودى في قتل العبد " دية " وسماه أيضا علي بن أبي طالب - وهو حجة - في اللغة " دية " . وقد صح عن النبي عليه السلام أن الدية في النفس في الخطأ على العاقلة - وصح الإجماع على أن في قتل العبد المؤمن خطأ : كفارة بعتق رقبة , أو صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد رقبة - فصح بالنص , والإجماع : أن ما يودى في العبد دية , والدية على العاقلة - وبهذا نقول . وأما الدية وسائر الأموال فلا ; لأنه لا يسمى شيء من ذلك " دية " والأموال محظورة إلا بنص , أو إجماع - وبالله تعالى التوفيق .
(11/51)
2141 - مسألة : مقدار ما تحمله العاقلة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: قالت طائفة : لا تحمل العاقلة من جنايات الخطأ إلا ما كان
أكثر من ثلث الدية فصاعدا , فإن كان أقل من الثلث أو كان الثلث , فهو في مال
الجاني . وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة إلا ما كان ثلث الدية فصاعدا , فما كان
أقل من ثلث الدية فهو في مال الجاني . وقالت طائفة : الثلث فصاعدا على العاقلة ,
وما كان أقل من الثلث فعلى قومه خاصة . وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة إلا ما كان
نصف عشر الدية فصاعدا , وما كان أقل فهو في مال الجاني . وقالت طائفة : إن جنت
امرأة على رجل أو امرأة , فبلغت ثلث ديتها كان على عاقلته , وإن بلغ أقل ففي ماله
. وقالت طائفة : المراعى في ذلك المجني عليه , فإن كان امرأة فبلغ نصف عشر ديتها
حملته عاقلة الجاني - رجلا كان أو امرأة - وإن كان المجني عليه رجلا فبلغ نصف عشر
ديته فإنه على عاقلة الجاني - رجلا كان أو امرأة - وما كان دون ذلك ففي مال الجاني
. وقالت طائفة : تحمل العاقلة ما قل أو كثر . وقالت طائفة : الحكم في ذلك على ما
اتفقوا عليه , فإن كان تآلفوا على الكثير فقط حملوا الكثير فقط - ولم تحد للقليل
ولا للكثير حدا - . قال أبو محمد:فالقول الأول كما روي عن الزهري , قال : الثلث
فما دونه في خاصة ماله وما زاد فهو على العاقلة . والقول الثاني - كما روي عن ابن
وهب , قال : أخبرني ابن سمعان قال : سمعت رجالا من علمائنا يقولون : قضى عمر بن
الخطاب في الدية أن لا يحمل منها شيء على العاقلة حتى تبلغ ثلث الدية فإنها على
العاقلة - عقل المأمومة والجائفة - فإذا بلغت ذلك فصاعدا حملت على العاقلة . وعن
سعيد بن المسيب , وسليمان بن يسار مثله - وعن الزهري مثله . وقال عروة بن الزبير :
ما كان من خطأ فليس على العاقلة منه شيء حتى يبلغ
(11/51)
ثلث الدية - على ذلك أمر السنة - . وعن
الليث بن سعد أنه سمع يحيى بن سعيد يقول : إن من الأمر - القديم عندنا - أن لا
يكون على العاقلة عقل حتى يبلغ الجرح ثلث الدية . وعن ربيعة لا تحمل العاقلة ما
دون الثلث إلا أن يصطلحوا على شيء . وعن ابن جريج , ومعمر عن عبيد الله بن عمر قال
: نحن مجتمعون أو قد كدنا أن نجتمع : أن ما دون الثلث في ماله خاصة . وعن يحيى بن
سعيد أن عمر بن عبد العزيز قضى في مولى جرح , فكان دون الثلث من الدية ولم يكن له
شيء أن يكون دينا يتبع به - وبهذا يقول عبد العزيز بن أبي سلمة . والقول الثالث -
قال مالك : ما بلغ ثلث الدية من الرجل من جناية الرجل جرح رجلا أو امرأة فعلى
العاقلة فإن كان أقل من ذلك ففي ماله , وما بلغ ثلث دية المرأة فعلى العاقلة فما
كان أقل ففي ماله سواء جرحت رجلا أو امرأة . والقول الرابع - كما روي عن حماد بن
أبي سليمان عن إبراهيم قال : لا تعقل العاقلة ما دون الموضحة . قال وكيع : وسمعت
سفيان الثوري يقول : لا تعقل العاقلة موضحة المرأة إلا في قول من رآها كموضحة
الرجل - وهو قول ابن شبرمة . وأما القول الخامس - فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا به
فراعوا المجني عليه , قالوا : فإن كان المجني عليه امرأة فبلغت الجناية نصف عشر
ديتها فصاعدا فهي على العاقلة , فإن بلغت أقل فهي في مال الجاني - رجلا كان أو
امرأة - فإن كان المجني عليه رجلا فبلغت الجناية نصف عشر ديته فصاعدا فهي على
العاقلة , فإن بلغت أقل ففي مال الجاني - رجلا كان أو امرأة . والقول السادس - كما
روى عبد الرزاق عن ابن جريح عن عطاء , قال : إذا بلغ الثلث فهو على العاقلة , وقال
لي ذلك ابن أيمن , ولا أشك أنه قال : فما لم يبلغ الثلث فعلى قوم الرجل خاصة .
والقول السابع - كما روي عن ابن وهب أخبرني يونس عن أبي الزناد قال : كل شيء من
جراح أو دم كان خطأ , فإن عقل ما ائتلفت عليه القبيلة من الخطأ على ما ائتلفوا
عليه إن كانت إلفتهم على الكثير , وليست على القليل , فإن عقل ما ائتلفوا عليه على
العاقلة وعقل ما لم يأتلفوا عليه على الجارح في ماله - وليس بشيء من ذلك - اصطلحت
عليه القبيلة - بأس . وقد كان عمر بن عبد العزيز ألف معقلة قريش , إذ كان أميرا
على المدينة : على أنهم يعقلون ثلث الدية فما فوقها , وأن ما دون ذلك يكون على
الجارح في ماله . والقول الثامن - قاله عثمان البتي , والشافعي : أن العاقلة تحمل
ما قل أو كثر - كما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا قول عطاء وغيره : أن العاقلة تحمل
ثمن العبد - ولم يخص قليلا من كثير - وهو قول الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان ,
وغيرهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في قول من قال : إن الثلث فما دونه في مال الجاني
, وإن ما زاد على العاقلة ؟ فوجدناه لا حجة لهم نعلمها أصلا - فسقط هذا القول , إذ
كل قول
(11/52)
لا حجة له , فهو ساقط لا يجوز القول به .
ثم نظرنا في القول الثاني - فوجدناهم يذكرون : ما رواه يونس بن يزيد عن ربيعة أنه
قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف بين الناس في معاقلهم فكانت بنو ساعدة
فرادى على معقلة يتعاقلون ثلث الدية فصاعدا , ويكون ما دون ذلك على من اكتسب وجنى
. وقال ابن وهب : وحدثني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة أنه قال : عاقل رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين قريش والأنصار : فجعل العقل بينهم إلى ثلث الدية . وما ناه
حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا الحارث بن أبي أسامة نا
محمد بن عمر الواقدي نا موسى بن شيبة عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه
عن جده قال : كنا في جاهليتنا وإنما نحمل من العقل ما بلغ ثلث الدية , ونؤخذ به
حالا , فإن لم يوجد عندنا كان بمنزلة الذي يتجازى , فلما جاء الله تعالى بالإسلام
كنا فيمن سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعاقل بين قريش والأنصار : ثلث
الدية - روي عن عمر - ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في هذا الاحتجاج , فوجدناه لا تقوم به حجة ; لأن
الخبرين عن ربيعة مرسلان . أما المسند - فهالك ألبتة ; لأنه عن الحارث بن أبي
أسامة وهو منكر الحديث , ترك بأخرة - وهو أيضا عن الواقدي , وهو مذكور بالكذب . ثم
عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك - وهو مجهول . ورب مرسل أصح من هذا قد تركوه
, كالمرسل في : أن في العين العوراء : ثلث ديتها وغير ذلك - فسقط هذا القول . وأما
كونه عن عمر - رضي الله عنه - فهو مرسل عن ابن سمعان وابن سمعان مذكور بالكذب - ثم
لو صح لما كان في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة . وقد جاء عن عمر
بما هو أصح من حكمه : في عين الدابة ربع ثمنها , وكتابه بذلك إلى القضاة في البلاد
, ومن خطبته على الصحابة - رضي الله عنهم - أن في الضلع جملا , وفي الترقوة جملا .
ومن الباطل أن يكون قول عمر قد صح عنه ليس حجة , ويكون قول مكذوب لم يصح عنه حجة -
فسقط كل ما احتجوا به . ثم نظرنا في قول من قال : لا تحمل العاقلة ما دون نصف
العشر من الدية فلم نجد لهم حجة إلا أن قالوا : إن الأموال لا تحملها العاقلة ;
لأنه ليس فيها أرش مؤقت لا يتعدى - ووجدنا ثلث الدية تحملها العاقلة ; لأن فيها
أرشا معلوما لا يتعدى , فوجب أن يكون كذلك كل ما له أرش محدود فتحمله العاقلة ,
وما لا أرش له محدودا فلا تحمله العاقلة ؟ .
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا ليس بشيء , وقول كاذب , وباطل موضوع , ولا ندري أين
وجدوا هذا إلا بظنون ؟ قال الله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنَّ
(11/53)
الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . ثم نظرنا في تقسيم أبي حنيفة , ومالك , ومراعاة مالك ثلث دية المرأة إذا كانت هي الجانية , أو ثلث دية الرجل إذا كان هو الجاني , ومراعاة أبي حنيفة نصف عشر الدية في المجني عليه خاصة - رجلا كان أو امرأة - فوجدناهما تقسيمين لم يسبق أبا حنيفة إلى تقسيمه في ذلك أحد نعلمه , ولا سبق مالكا في تقسيمه هذا أحد نعلمه , ولئن جاز لأبي حنيفة , ومالك أن يقولا قولا برأيهما لا يعرف له قائل قبلهما , فما حظر الله تعالى قط ذلك على غيرهما , ولا أباح لهما من ذلك ما لم يبحه لكل مسلم دونهما , لا سيما من قال بما أوجبه القرآن , وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن من صوب لمالك , ولأبي حنيفة قولا بالرأي لم يعرف أن أحدا قال به قبلهما ثم أنكر على من قال متبعا لكلام الله تعالى , وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم قولا لم يأت عن أحد قبله أنه قال به , ولا صح إجماع بخلافه - فما ترك للباطل شغبا ؟ ثم نظرنا في قول من قال : ما كان ثلث الدية فصاعدا فعلى العاقلة , وما كان أقل من ثلث الدية فعلى قوم الجاني خاصة - فوجدناه لا حجة له فيه - فسقط . ثم نظرنا فيما حكاه أبو الزناد من أن الحكم في ذلك إنما هو على ما ائتلفت عليه القبائل وتراضت به فقط , فوجدناه مخبرا عن حقيقة الحكم في هذه المسألة . وصح بإخبار أبي الزناد أن هذا أمر لا سنة فيه , وإنما هو تراض فقط فهذا لا يجوز الحكم به قطعا في دين الله تعالى . ثم نظرنا في قول من قال : إن العاقلة تحمل القليل والكثير فوجدنا حجتهم أن قالوا : لما حملت الدية بالنص والإجماع كان حملها لبعض الدية وللقليل أولى , إذ من حمل الكثير وجب أن يحمل القليل - وهذا قياس , والقياس كله باطل . قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وصح أنها آراء مجردة لا سنة في شيء من ذلك ولا إجماع وجب الرجوع إلى ما افترض الله تعالى عند التنازع فوجدنا الله تعالى يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} الآية . وقال تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". فوجب أن لا تلزم العاقلة غرامة أصلا إلا حيث أوجبها النص والإجماع وقد صح النص بإيجاب دية النفس في الخطأ عليها وصح النص بإيجاب الغرة الواجبة في الجنين على العاقلة أيضا، لم يأت نص ولا إجماع بأن تلزم غرامة في غير ما ذكرنا فوجب أن لا يجب عليها غرامة لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله عليه السلام - ولا يصح فيها كلمة عن صاحب أصلا , وإنما فيها آثار عن اثني عشر من التابعين مختلفين غير متفقين - فصح أنها
(11/54)
أقوال عذر قائلها بالاجتهاد وقصد الخير - وبالله تعالى التوفيق .
(11/55)
2141 - مسألة : هل يغرم الجاني مع
العاقلة أم لا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة , ومالك , والليث ,
وابن شبرمة : يغرم القاتل خطأ مع عاقلته . وقال الأوزاعي , والحسن , وأبو سليمان ,
وأصحابنا : لا يدخل معهم في الغرامة . وقال الشافعي : هي على العاقلة , فما عجزت
عنه العاقلة فهو في ماله . قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما
احتجت به كل طائفة لقولها - : فوجدنا الموجبين على القاتل خطأ أن يغرم مع عاقلته
يقولون : إن سعد بن طارق روى عن نعيم بن أبي هند عن سلمة بن نعيم أنه قال : قتلت
يوم اليمامة رجلا ظننته كافرا , فقال : اللهم إني مسلم بريء مما جاء به مسيلمة ,
قال : فأخبرت بذلك عمر بن الخطاب , فقال : الدية عليك وعلى قومك . قالوا : وروي
هذا عن عمر بن عبد العزيز , ولا يعرف لهما من السلف مخالف . وقالوا : إنما الغرم
على العاقلة تغرم عنه على وجه النصرة له , فهو أولى بذلك في نفسه - ما نعلم لهم
حجة غير هذا , ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم نظرنا في
قول الشافعي , فوجدناه لا حجة له أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا من قول صاحب
, ولا تابع , ولا قياس , ولا وجدناه لأحد قبله - فسقط - وبالله تعالى التوفيق . ثم
نظرنا في قول الأوزاعي , والحسن بن حي , وأبي سليمان , فوجدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد حكم بالدية على عصبة العاقلة : كما رويناه عن مسلم بن الحجاج نا
قتيبة - هو ابن سعيد - نا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي
هريرة أنه قال : "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني
لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة , ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت , فقضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها".
ومن طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم نا جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن
إبراهيم النخعي عن عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة قال : "ضربت امرأة ضرتها
بعمود فسطاط فقتلتها وإحداهما لحيانية , فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية
المقتولة على عصبة القاتلة , وغرة لما في بطنها , فقال رجل من عصبة القاتلة :
أنغرم دية من لا أكل ولا نطق ولا استهل , فمثل ذلك يطل ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم أسجع كسجع الأعراب وجعل عليهم الدية". فهذا نص حكم رسول الله صلى
الله عليه وسلم ببراءة الجانية من الدية جملة , وأن ميراثها لزوجها وبنيها , لا
مدخل للغرامة فيه , والدية على عصبتها , وهي ليست عصبة لنفسها , لا في شريعة , ولا
في لغة . فصح يقينا أنه لا يغرم الجاني
(11/55)
خطأ من دية النفس , ولا من الغرة شيئا.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن عجزت العاقلة : فالدية , والغرة على جميع المسلمين في
سهم الغارمين من الزكاة ; لأنهم غارمون , فحقهم في سهم الغارمين بنص القرآن ولأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالدية على أوليائها . وبرهان آخر : وهو أن
الأموال محرمة إلا بنص أو إجماع , وقد صح النص وإجماع أهل الحق على أن العاقلة
تغرم الدية , ولم يأت نص ولا إجماع بأن القاتل يغرم معهم شيئا , فلم يحل أن يخرج
من ماله شيء , وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله والعجب من احتجاجهم
بعمر - رضي الله عنه - وهم قد خالفوه في هذا المكان نفسه , وفي غيره , فمما حضرنا
ذكره من ذلك : ما رويناه عن معمر عن قتادة : أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ , فقضى له
عمر بن الخطاب بالدية فيها على العاقلة - وهم لا يقولون بهذا ؟.
(11/56)
2142 - مسألة : كم يغرم كل رجل من
العاقلة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: قد قلنا : من العاقلة . ثم وجب النظر : أيدخل فيها : الصبيان
, والمجانين , والنساء , والفقراء أم لا ؟ فنظرنا في ذلك بعون الله تعالى فوجدنا
النبي صلى الله عليه وسلم إنما قضى بالدية على العصبة , وليس النساء عصبة أصلا ,
ولا يقع عليهن هذا الاسم , والأموال محرمة إلا بنص , أو إجماع , ولا نص ولا إجماع
في إيجاب الغرم على نساء القوم في الدية التي تغرمها العاقلة . ثم نظرنا في
الفقراء , فوجدنا الله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَهَا}. و {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} إلى قوله : {إلا ما آتاها}.
فهذا عموم في كل نفقة في بر , يكلفها المرء , لا يجوز أن يخص بهذا الحكم نفقة -
دون نفقة - لأنها قضية قائمة بنفسها , فلا يحل القطع لأحد : بأن الله تعالى إنما
أراد بذلك ما قبلها خاصة فصح يقينا أن الفقراء خارجون مما تكلفه العاقلة . ثم
نظرنا في الصبيان والمجانين , فوجدنا اسم " عصبة " يقع عليهم , ولم نجد
نصا ولا إجماعا على إخراجهم عن هذه الكلفة , بل قد وجدنا أحكام غرامات الأموال
تلزمهم , كالزكاة التي قد صح النص بإيجابها عليهم , وأجمع الحاضرون من المخالفين
معنا على أن زكاة ما أخرجت الأرض , والثمار عليهم , وأن زكاة الفطر عليهم , وأن
النفقات على الأولياء والأمهات عليهم . ولم نحتج بهذا لأنفسنا , لكن على المخالفين
لنا , لأنهم يزعمون أنهم أصحاب قياس , وقد أجمعوا على وجوب كل ما ذكرناه في أموال
الصبيان , والمجانين , فما الفرق بين لزوم النفقات والزكوات لهم , وبين لزوم الدية
مع سائر العصبة لهم ؟ لا سيما وهم يرون الدية في مال الصبي والمجنون , إذا قتل ,
ويرون
(11/56)
أروش الجراحات عليهم أيضا - وهذا تناقض
لا خفاء به ؟ فإن قالوا : فأنتم لا ترون الدية عليهم ولا عنهم فيما جنوه , ثم
ترونها عليهم فيما جناه غيرهم ؟ قلنا نعم ; لأننا لا نقول بالمقاييس في الدين ,
ولا أن الشريعة موضوعة على ما توجبه الآراء , بل نكفر بهذا القول , ونبرأ إلى الله
تعالى منه . وقد وجدنا القاتل يقتل عددا من المسلمين ظلما فيعفو عنه أولياؤهم ,
فيحرم دمه , ويمضي سالما لا شيء عليه , ثم يسرق دينارا , أو يزني بأمة سوداء فيعفو
عنه رب الدينار , وسيد السوداء , فلا يسقط عنه القطع , ولا القتل بالحجارة - إن
كان محصنا - وأين هذا والدينار من قتل النفس المحرمة ؟ ووجدناكم تقولون : إن زكاة
الفطر على المرأة , ولا تؤديها عن نفسها , بل يؤديها عنها غيرها - وهو زوجها .
ويقول الحنفيون : الأضحية فرض على المرأة فلا تؤديها هي , لكن يؤديها عنها زوجها ,
فإذا قلتم هذا حيث لم يوجبه الله سبحانه وتعالى ولا رسوله عليه السلام , وأنتم أهل
آراء وقياس في الدين ؟ فنحن أولى بأن نقول ما أوجبه الله تعالى ورسوله صلى الله
عليه وسلم والحمد لله رب العالمين . فإن قيل : فإن احتجاجكم بقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة - فذكر - الصبي حتى يبلغ , والمجنون حتى
يفيق". قلنا : نحن - ولله الحمد - قائلون به , ومسقطون عن الصبي والمجنون كل
حكم ورد بخطاب أهل ذلك الحكم ; لأنهما غير مخاطبين بيقين لا شك فيه , فهما خارجان
عمن خوطب بذلك الحكم , ونحن نلزمهما كل غرامة في مال جاء الحكم في ذلك المال بغير
خطاب لأهله , والحكم هاهنا جاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن الدية والغرة
على عصبة القاتلة ولم يخاطب العصبة , ولا التفت عليه السلام إلى اعتراض من اعترض
منهم , بل أنفذ الحكم عليهم , فنحن ننفذ الحكم بإيجاب الدية في مال العصبة ولا
نبالي صبيانا كانوا أو مجانين أو غيبا أو حاضرين , ولم نوجب ذلك فيما جناه صبي أو
مجنون ; لأن الدية إنما وجبت بنص القرآن فيما قتله مخاطب الكفارة , وليس هذا من
صفات الصبيان والمجانين - والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد رحمه الله: ثم نظرنا في مقدار ما يؤخذ من كل إنسان من العصبة ؟
فوجدنا قوما قالوا : لا يؤخذ من كل واحد إلا أربعة دراهم أو ثلاثة . وقوما قالوا :
يؤخذ من الغني نصف دينار , ومن المقل ربع دينار - فكانت هذه حدودا لم يأت بها حكم
من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فوجب أن لا يلتفت إليها ووجب أن
ننظر ما الواجب في ذلك ؟ فوجدنا الله تعالى يقول {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَهَا} . وقال تعالى: {َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ} . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} . وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية , وبالغرة
(11/57)
على العاقلة , فوجب أن يحملوا من ذلك ما يطيقون , وما لا حرج عليهم فيه , وما لا يبقون بعده في عسر , فإن الله تعالى لم يرد ذلك - أعني العسر بنا - قط , فيؤخذ من مال المرء ما لا يبقى بعده معسرا , أو يعدل بينهم في ذلك , فمن احتمل ماله أبعرة كثيرة , ولم يجحف ذلك به كلف ذلك - ومن لم يحتمل إلا جزءا من بعير كذلك : أشرك بين الجماعة منهم في البعير , هكذا حتى تتم الدية - وهكذا في حكم الغرة , وبالله تعالى التوفيق . إنما ينظر إلى مال المرء منهم وعياله , فتفرض الدية , والغرة على الفضلات من أموالهم - التي يبقون بعدها - لو ذهبت - أغنياء - فيعدل بينهم في ذلك , كما قال تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. والعدل : هو الأخذ بالسنة , لا بأن يساوى بين ذي الفضلة القليلة , والفضلة الكثيرة - فيؤخذ منهم سواء - لكن يؤخذ من الكثير كثير , ومن القليل قليل - وهذا قول أصحابنا وهو الحق - وبالله تعالى التوفيق .
(11/58)
هل يعقل عن الحليف وعن المولى من أسفل أو
من فوق وعن العبد أم لا وهل يعقل عمن أسلم على يديه أم لا وهل ينتقل الولاء بالعقل
أم لا
...
2143 - مسألة : هل يعقل عن الحليف ؟ وعن المولى من أسفل ؟ أو من فوق ؟ وعن العبد
أم لا ؟ وهل يعقل عمن أسلم عن يديه أم لا ؟ وهل ينتقل الولاء بالعقل أم لا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : يعقل عن المولى المعتق مواليه من فوق : كما نا
محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن
معاوية نا وكيع نا سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم , قال : اختصم
علي , والزبير , في موال لصفية ؟ فقضى عمر بن الخطاب بأن الميراث للزبير , والعقل
على علي . وعن إبراهيم النخعي في رجل أعتقه قوم , وأعتق أباه آخرون ؟ قال :
يتوارثون بالأرحام , والعقل على الموالي . وعن أبي موسى أنه كتب إلى عمر بن الخطاب
أن رجلا يموت قبلنا , وليس له رحم ولا ولي ؟ فكتب إليه عمر : إن ترك ذا رحم ,
فالرحم , وإلا فالولاء , وإلا فبيت المال يرثونه ويعقلون عنه . وعن مجاهد قال : إن
رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال : إن رجلا أسلم على يدي فمات وترك ألف درهم , فتحرجت
منها فرفعتها إليك ؟ فقال : أرأيت لو جنى جناية على من كانت تكون ؟ قال علي ؟ قال
: فميراثه لك . وعن معمر عن الزهري , قال : قال عمر بن الخطاب : إذا والى الرجل
رجلا فله ميراثه , وعلى عاقلته عقله . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت
لعطاء : أبى القوم أن يعقلوا عن مولاهم , أيكون مولى من عقل عنه ؟ فقال : قال
معاوية : إما أن يعقلوا عنه , وإما أن نعقل عنه , وهو مولانا , قال عطاء فإن أبى
أهله أن يعقلوا عنه , وأبى الناس , فهو مولى المصاب . وعن عبد الرزاق عن سفيان
الثوري , قال : إذا أبت العاقلة أن يعقلوا عن مولاهم أجبروا على ذلك . وعن إبراهيم
النخعي : إذا أسلم
(11/58)
الرجل على يدي الرجل فله ميراثه ويعقل
عنه وعن الحكم بن عتيبة في رجل تولى قوما قال : إذا عقل عنهم فهو منهم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وقالت طائفة : غير هذا - كما روينا من طريق الحجاج بن
المنهال نا حماد بن سلمة عن حميد أن مولى لبني جشم قتل رجلا خطأ فسأل عدي بن أرطاة
الحسن البصري عن ذلك ؟ فقال : لا تعقل العرب عن الموالي . وقال أبو حنيفة , ومالك
: تعقل العاقلة عن المولى والحليف وقال أبو حنيفة : من والى غير من أعتقه لكن من
أسلم على أيديهم فله أن ينتقل عنهم ويوالي غيرهم ما لم يعقلوا عنه , فإذا عقلوا
عنه فلا يمكنه الانتقال عنهم بولاية أبدا . وقال أبو سليمان وأصحابنا : لا تعقل
العاقلة عن الموالي من أسفل , ولا عن المولى من فوق , ولا عن الحليف , ولا عن
العبد . فلما اختلفوا وجب أن نخلص أقوالهم ثم نذكر كل ما احتجت به كل طائفة لقولها
; ليظهر الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى ومنه : فكان الحاصل - من قول عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - أن الموالي من فوق يعقلون عن الموالي الذين أعتقوه , أو
أعتقه من هو منهم , وأن ذوي الرحم أولى بالميراث من الموالي الذين أعتقوه , ثم
المعتقون , ثم المسلمون . وظاهر هذا : أن كل من ذكرنا يعقل عنه , وأن من أسلم على
يد إنسان فولاؤه له يرثه ويعقل عنه . وصح من قول معاوية أن الموالي من فوق يعقلون
عمن أعتقوه , فإن أبوا عقل عنهم الإمام وزال ولاؤه عن الذين أعتقوه إلى الذي عقل
عنه - وهذا صحيح عن معاوية ثابت ; لأن عطاء بن أبي رباح أدركه . وصح عن إبراهيم
النخعي : أن المعتقين يعقلون عن مولاهم الذي أعتقوه , وعمن أسلم على يدي رجل منهم
- وصح عن الحسن : أنه لا يعقل المعتقون عمن أعتقوا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب أن ننظر في طلب البرهان فيما اختلفوا فيه من ذلك مما
أوجب الله تعالى علينا - وهو القرآن والسنة - فوجدنا من يقول : إن المعتقين يعقلون
عمن أعتقوه يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم
منهم". وقال عليه السلام: "كل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا
شدة". كما روينا من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير ,
وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فلم
يزده الإسلام إلا شدة. ومن طريق مسلم ني زهير بن حرب نا إسماعيل بن إبراهيم - هو
ابن علية - نا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين قال
: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من
(11/59)
من بني عقيل وأصابوا معه العضباء , فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق فقال : يا محمد ؟ فأتاه فقال : "ما شأنك" ؟ فقال : بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج ؟ قال : "إعظاما لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" ثم انصرف , فناداه : يا محمد , يا محمد - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا - فرجع إليه فقال : "ما شأنك"؟ فقال : إني مسلم , قال : "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" وذكر باقي الحديث - قالوا : فإذا كان المولى من القوم , والحليف من القوم - وهم مأخوذون بجريرته - فالعقل عليه . قال أبو محمد رحمه الله: وهذه الأخبار في غاية الصحة , إلا أنهم لا حجة لهم في شيء منها : أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم" فحق لا شك فيه , وليس كونه منهم موجبا أن يعقلوا عنه ; لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال أيضا: "ابن أخت القوم منهم" ولم يكن ذلك موجبا عندهم أن يعقلوا عنه : كما روينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر - هو غندر - نا شعبة قال : سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال : "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وقال : أفيكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا , إلا ابن أخت لنا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابن أخت القوم منهم" وذكر الحديث . فبطل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم" أن يكون موجبا لأن يعقل عنهم , أو يعقلوا عنه إذ لا يقتضي قوله عليه السلام: "مولى القوم منهم" أن يعقلوا عنه . وأما حديث عمران بن الحصين - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعقيلي: "أخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف" فلا حجة لهم فيه أصلا لوجوه - : أحدها - أنه صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منه - إذ أخذه مسلما حرام أخذه - لولا جريرة حلفائه , بل أخذ كافرا حلالا أخذه , ودمه , وماله على كل حال , إلا أنه تأكد أمره من أجل جريرة حلفائه فقط - ولسنا في هذه المسألة - إنما نحن في مسلمين حرام دماؤهم وأموالهم , هل يؤخذون بجريرة حلفائهم أم لا ؟ . وثانيها : أن مثل تلك الجريرة لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنه لا يحل أن يؤخذ بها مسلم عن مسلم ولو أن حلفاء الإنسان أو إخوانه أو أباه أو ولده : يأسر رجلا من المسلمين , أو يقطع الطريق : لم يحل لأحد أن يأخذ حليفه , ولا أخاه , ولا ابنه , ولا أباه عنه . وثالثها : أن هذا قياس والقياس كله باطل ; لأنه قياس الشيء على ضده , وقياس مؤمن على كافر , وجناية قتل خطأ على أسر كفار لمؤمن - وهذا تخليط ممن موه بهذا الخبر فحرفه عن موضعه . وأما حديث - جبير بن مطعم : "لا حلف في الإسلام , وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" فلا متعلق لهم به ; لأننا لم نخالفهم في بقاء حلف الجاهلية وإبطال الحلف في الإسلام فيحتجوا علينا بهذا الخبر , وإنما الكلام
(11/60)
هل يعقل الحلفاء بعضهم عن بعض أم لا ؟
وليس في هذا الخبر شيء من هذا المعنى وما معنى بقاء الحلف إذا قلنا : معناه ظاهر ,
وهو أن يكونوا معهم كأنهم منهم , فإذا غزوا غزوا معهم , وإذا كانت لهم حاجة تكلموا
فيها كما يتكلم الأهل , وما أشبه ذلك - وأما إيجاب غرامة فلا . وقد روينا من طريق
مسلم نا أبو جعفر بن محمد بن الصباح نا حفص بن غياث نا عاصم الأحول قال : قيل لأنس
بن مالك : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالف بين قريش والأنصار في داره
. وفي حديث آخر لمسلم عن أنس : في داره بالمدينة ؟ قال علي رحمه الله : فهذا أعظم
حجة في إبطال أن يعقل الحليف عن حليفه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالف
بين قريش والأنصار, ولا حلف أقوى وأشد من حلف عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلو عقل الحلفاء عن الحليف لوجب أن تعقل قريش عن الأنصار , والأنصار عن قريش -
وهذا ما لا يقولونه
قال أبو محمد رحمه الله: فواجب أن نطلب معرفة الوقت الذي قطع فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم الحلف في الإسلام - : فذكر عن عمر بن الخطاب من طريق عبد العزيز بن
عمر بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف , قال : إن كل حلف كان قبل
الحديبية فهو مشدود , وكل حلف كان بعد الحديبية فهو منقوض ; لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين وادع قريشا يوم الحديبية كتب - عليه السلام - حينئذ بينه
وبينهم : "أنه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها دخل , ومن أحب أن يدخل في
عهد محمد صلى الله عليه وسلم وعقده دخل". وقضى عثمان : أن كل حلف كان قبل
الهجرة فهو جاهلي ثابت , وكل حلف كان بعد الهجرة فهو في الإسلام , وهو مفسوخ , قضى
بذلك في قوم من بني بهز من بني سليم . وقضى علي بن أبي طالب : أن كل حلف كان قبل
نزول: {لإيلاف قريش} فهو جاهلي ثابت وكل حلف كان بعد نزولها فهو إسلامي مفسوخ ;
لأن من حالف ليدخل في قريش بعد نزول: {لإيلاف قريش} ممن لم يكن منهم لم يكن بذلك
داخلا فيهم , قضى في ذلك في حلف ربيعة العقيلي , في جعفي , وهو جد إسحاق بن مسلم
العقيلي ; وقال ابن عباس : كل حلف كان قبل نزول: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إلى قوله: {فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ} فهو مشدود , وكل حلف كان بعد نزولها فهو مفسوخ , فوجب أن ننظر في
الصحيح من ذلك - : فأما قول عثمان - رضي الله عنه - إن حد انقطاع الحلف إنما هو أول
وقت الهجرة , فلا يصح ; لأن أنسا روى - كما ذكرنا - أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حالف بين قريش والأنصار بالمدينة, ولا يشك أحد في أن هذا الحلف كان بعد
الهجرة . وأما قول عمر - رضي الله عنه - في تحديده انقطاع الحلف بيوم الحديبية
فهذا
(11/61)
أيضا متوقف ; لأن حلف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار كان بعد الهجرة , ولا ندري أقبل الحديبية أم بعدها . فأما نزول: {لإيلاف قريش} والآية الأخرى فما ندري متى نزلتا ؟ لأن جبير بن مطعم - راوي "كل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" لم يسلم إلا يوم الفتح , فلا يحمل هذا الخبر إلا على يوم الفتح , والله أعلم - فبطل تعلقهم بهذه الأخبار جملة . قال أبو محمد رحمه الله: فوجب علينا أن نطلب حكم هذه المسائل من غير هذه الأخبار , فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى بالدية على العصبة - هكذا جاء النص - في خبر دية القاتلة , فوجب أن تكون الدية على العصبة , ومن هم العصبة ؟ فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بميراث القاتلة لبنيها وزوجها وحكم بالدية على عصبتها - فبطل أن تكون الورثة هم العصبة ؟ بخلاف ما قال الشعبي , قال : العقل على من له الميراث , فإذ ذلك كذلك فلعل محتجا يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر". فيقول : إن هذا حكم المولى من فوق ؟ فيقال له : نعم , هذا صحيح , وهذا حكم المواريث لا حكم العاقلة ; لأنه قد ترث بالولاء المرأة إذا أعتقت مولى لها وليست المرأة من العصبة ؟ .
(11/62)
2145 - مسألة : تعاقل أهل الذمة:
روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث نا عمرو - هو ابن عبيد - أن
الحسن كان يقول في المعاهد يقتل , قال : إن كانوا يتعاقلون فعلى العواقل , وإن كان
لا , فدين عليه في ماله وذمته . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أيضا نا حفص بن غياث
عن أشعث عن الشعبي في المعاهد يقتل , قال : ديته للمسلمين , وعقله عليهم . ومن
طريق أبي بكر بن أبي شيبة أيضا نا محمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في
رجل من أهل الذمة فقأ عين رجل مسلم قال : ديته على أهل طسوجه . فهذه أقوال منها -
: أن أهل إقليمه يعقلون عنه - وهو ليس بشيء ; لأن أهل طسوجه لا يسمون عصبة له بلا
خلاف . وقول آخر - أن عقله على المسلمين , وهذا كذلك إذا لم تكن له عصبة فإن كان
له عصبة فعقل من قتل خطأ والغرة تجب عليه وعلى عصبته كما حكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يخص بذلك عربا من عجم بل جعل على كل بطن عقوله فعم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَى} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.
(11/62)
حكم ما جنى العبد في ذلك أن قتل العبد
أوالمدبر أو أم الولد أو المكاتب مسلما خطأ أو جنوا على حامل فاضيب جنينها
...
2146 - مسألة : حكم ما جنى العبد في ذلك:
إن قتل العبد أو المدبر أو أم الولد , أو المكاتب مسلما خطأ , أو جنوا على حامل
فأصيب جنينها , فقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك - وهو الذي
قضاؤه من قضاء الله تعالى أن الدية والغرة على
(11/62)
2147 مسألة : من لا عاقلة له:
اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : على المسلمين - : كما روينا أن أبا موسى
الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب أن الرجل يموت بيننا ليس له رحم ولا مولى ولا عصبة
؟ فكتب إليه عمر : إن ترك رحما فرحم , وإلا فالمولى , وإلا فلبيت مال المسلمين :
يرثونه , ويعقلون عنه . وقالت طائفة : عقله على عصبة أمه - : كما روينا أن علي بن
أبي طالب لما رجم المرأة قال لأوليائها : هذا ابنكم ترثونه ويرثكم , وإن جنى جناية
فعليكم . وعن إبراهيم قال : إذا لاعن الرجل امرأته : فرق بينهما ولا يجتمعان أبدا
, وألحق الولد بعصبة أمه , وترثه , ويعقلون عنه . وعن إبراهيم أيضا - وهو النخعي -
في ولد الملاعنة قال : ميراثه كله لأمه , ويعقل عنه عصبتها , كذلك ولد الزنى ,
وولد النصراني وأمه مسلمة . وقالت طائفة : على من كان مثله - : كما روينا عن ميمون
بن مهران أن رجلا من أهل الجزيرة أسلم وليس له موال , فقتل رجلا خطأ ؟ فكتب عمر بن
عبد العزيز : أن اجعلوها دية على نحوه ممن أسلم . وقالت طائفة : على من كان مثله .
وقالت طائفة : لا شيء في ذلك : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج , قال :
زعم عطاء أن سائبة من سيب مكة أصابت إنسانا فجاء إلى عمر بن الخطاب , فقال له عمر
: ليس لك شيء , أرأيت لو شججته ؟ قال : آخذ له منك حقه , ولا تأخذ لي منه ؟ قال :
لا , قال : هو إذا الأرقم أن يتركني ألقم وأن يقتلوني أنقم , قال عمر : فهو الأرقم
. قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في هذا ؟ فوجدنا الله سبحانه وتعالى يقول:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} الآية . ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
(11/63)
قضى مجملا في الجنين بغرة عبد أو أمة,
فكان هذان النصان عامين لكل من له عاقلة , ولكل من لا عاقلة له ولا عصبة ; لأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قضى بالدية والغرة على العصبة لم يقل : إنه لا
يجب من ذلك شيء على من لا عصبة له - فإذ لم يقل , وقضى بالغرة جملة , وقضى الله
تعالى بدية مسلمة إلى أهل المقتول خطأ عموما : كان ذلك واجبا فيمن قتله خطأ من له
عصبة , ومن لا عصبة له , وكذلك الغرة - فوجب أن لا تسقط الدية , ولا الغرة هاهنا
أيضا , إذ لم يسقطها نص من الله تعالى , ولا من رسوله عليه السلام . فنظرنا في هذه
الأقوال فوجدنا من جعلها في مال الجاني , أو على عصبة أمه , أو على مثله ممن أسلم
: قد خص بالغرامة قوما دون سائر الناس - وهذا لا يجوز ; لأنه صلى الله عليه وسلم
قال: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" فلم يجز أن يغرم أحد غرامة لم يأت
بإيجابها نص ولا إجماع , ولم يقل الله تعالى , ولا رسوله - عليه السلام - إن الدية
يغرمها الأخوال , ولا الجاني , ولا من أسلم مع الجاني - فلا يجوز تخصيصهم ; لأنهم
وغيرهم سواء في تحريم أموالهم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلم يبق إلا قول من قال : إن الدية والغرة في سهم
الغارمين من الصدقات , أو بيت مال المسلمين في كل مال موقوف لجميع مصالحهم - فوجب
القول بهذا ; لأن الله تعالى أوجب الدية في كل مؤمن قتل خطأ , وأوجب الغرة في كل
جنين أصيب عموما , إلا ولد الزنى وحده , ومن لا يلحق بمن حملت به أمه منه فقط ;
لأن الولادات متصلة من آدم عليه السلام إلينا , وإلى انقراض الدنيا - أبا بعد أب -
فكل من على ظهر الأرض من ولد آدم فله عصبة يعلمها الله تعالى - وإن بعدوا عنه ولا
بد - إلا من ذكرنا . فإن كانت العصبة مجهولة , أو كانوا فقراء , فبيقين ندري أن
الله تعالى إذ أوجب عليهم الدية , والغرة - وخفي أمرهم - فهم عند الله تعالى من
الغارمين , فحقهم في سهم الغارمين من الصدقات واجب , فتؤدى عنهم من ذلك . وأما من
لم يكن له أب - كولد الزنى , وابن الملاعنة , ومن زفت إليه غير امرأته , وولد
المرأة من المجنون يغتصبها , ونحو ذلك , فهذا لا عصبة له بيقين أصلا , لكن الله
تعالى قد أوجب في قتل الخطأ الدية , وفي الجنين الغرة , على جميع أهل الإسلام عاما
, لا بعضهم دون بعض , فلا يجوز أن يخص بعضهم دون بعض . وهكذا وجدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فعل , إذ ودى عبد الله بن سهل - رضي الله عنه - من الصدقات مائة من
الإبل, وقد ذكرناه بإسناده في " كتاب القسامة " إذ لم يعرف من قتله -
وبالله تعالى التوفيق.
(11/64)
القسامة
اختلاف الناس في القسامة
...
2148 – مسألة ـ القسامة :
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في القسامة
(11/64)
على أقوال نذكر منها - ما يسر الله تعالى منها إن شاء الله تعالى على حسب ما وردت عمن جاء عنه في ذلك أثر عن الصحابة - رضي الله عنهم - ثم عن التابعين - رحمهم الله ثم عمن بعدهم إن شاء الله تعالى . ثم نذكر حجة كل طائفة لقولها - بعون الله تعالى ومنه ; ليلوح من ذلك الحق : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عمر قال : لم يقد أبو بكر , ولا عمر بالقسامة . روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد السلام بن حرب عن عمرو - هو ابن عبيد - عن الحسن البصري أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب فوجداه قد صدر عن البيت عامدا إلى منى فطاف بالبيت ثم أدركاه فقصا عليه قصتهما , فقالا : يا أمير المؤمنين إن ابن عم لنا قتل , نحن إليه شرع سواء في الدم - وهو ساكت لا يرجع إليهما شيئا - حتى ناشداه الله , فحمل عليهما , ثم ذكراه الله ؟ فكف عنهما , ثم قال عمر بن الخطاب : ويل لنا إذا لم نذكر بالله , وويل لنا إذا لم نذكر الله : فيكم شاهدان ذوا عدل , يجيئان به على من قتله فنقيدكم منه , وإلا حلف من يدرؤكم : بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ؟ فإن نكلوا حلف منكم خمسون , ثم كانت لكم الدية , إن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها . روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب استحلف امرأة خمسين يمينا ; ثم جعلها دية . ومن طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عبد الله عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال في القتيل يوجد في الحي يقسم خمسون من الحي الذي وجد فيه : بالله إن دمنا فيكم ثم يغرمون الدية . روينا من طريق البخاري نا قتيبة نا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي نا حجاج بن أبي عثمان ني أبو رجاء من آل أبي قلابة حدثني أبو قلابة أنه قال لعمر بن عبد العزيز : كانت هذيل خلعوا حليفا لهم في الجاهلية , وطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء فانتبه له رجل منهم فحذفه بالسيف فقتله ؟ فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بن الخطاب بالموسم , وقالوا : قتل صاحبنا , قال : إنهم خلعوه , قال : يقسم خمسون من هذيل ما خلعوا ؟ فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلا , وقدم رجل من الشام فسألوه أن يقسم ؟ فافتدى يمينه منهم بألف درهم , فأدخلوا مكانه آخر , فدفعه عمر إلى أخي المقتول , فقرنت يده بيده فانطلقا - وذكر الخبر . وعن الضحاك عن محمد بن المنتشر
(11/65)
قال : إن قتيلا قتل باليمن بين حيين فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا بين الحيين , فكان إلى وداعة أقرب , فأمرهم عمر : أن يقسموا ثم يدوا . وعن الشعبي في قتيل وجد في وداعة باليمن : فأدخل عمر بن الخطاب الحطيم منهم خمسين رجلا منهم , ثم استحلفهم رجلا رجلا : بالله ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فقال لهم : أدوا وحولوا , فقالوا : يا أمير المؤمنين تغرمنا وتحلفنا ؟ قال : نعم . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا إسماعيل بن أبي أويس نا أخي عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان أخبرني ابن شهاب : أن عمر بن عبد العزيز سأله عن القسامة ؟ قال : فقلت له : كانت من أمر الجاهلية أقرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن من سنتنا , وما بلغنا : أن القتيل إذا تكلم برئ أهله , إن لم يتكلم حلف المدعى عليهم , وذلك فعل عمر بن الخطاب , والذي أدركنا عليه الناس . وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قضى بالبينة على الطالب , والأيمان على المطلوب , إلا في الدم فهذا مما روي عن عمر - رضي الله عنه . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , قال : كتب إلي سليمان بن هشام يسأل عن رجل وجد مقتولا في دار قوم , فقالوا : طرقنا ليسرقنا , وقال أولياؤه : كذبوا بل دعوه إلى منزلهم , ثم قتلوه . قال الزهري : فكتب إليه : يحلف من أولياء المقتول خمسون : إنهم لكاذبون ما جاء ليسرقهم , وما دعوه إلا دعاء , ثم قتلوه - فإن حلفوا أعطوا القود , وإن نكلوا حلف من أولئك خمسون : بالله لطرقنا ليسرقنا , ثم عليهم الدية . قال الزهري : وقد قضى بذلك عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في ابن باقرة التغلبي أبى قومه أن يحلفوا , فأغرمهم الدية فهذا ما جاء عن عثمان رضي الله عنه - . وروينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الرحمن بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن علي بن أبي طالب كان إذا وجد القتيل بين قريتين قاس ما بينهما . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال علي بن أبي طالب : أيما رجل قتل بفلاة من الأرض فديته من بيت المال ; لكي لا يطل دم في الإسلام , وأيما قتيل وجد بين قريتين فهو على أصقبهما - يعني أقربهما . وعن علي بن أبي طالب - أنه استحلف المتهم , وتسعة وأربعين معه تمام خمسين - فهذا ما جاء في ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا أبو معاوية عن مطيع عن فضيل بن عمر , وعن ابن عباس - أنه قضى بالقسامة على المدعى عليهم . ومن طريق عبد الرزاق عن إبراهيم
(11/66)
هو ابن يحيى - عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : لا قسامة , إلا أن تكون بينة . ويقول : لا يقتل بالقسامة , ولا يطل دم مسلم - هذا نص الحديث . فهذا ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه . وعن ابن الزبير - أنه أقاد بالقسامة , وعن عبد الله بن أبي مليكة قال : سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة ؟ فأخبرته أن عبد الله بن الزبير أقاد بها , وأن معاوية لم يقد بها . وعن المسيب : أن القسامة في الدم لم تزل على خمسين رجلا , فإن نقصت قسامتهم , أو نكل منهم رجل واحد : ردت قسامتهم , حتى حج معاوية فاتهمت بنو أسد بن عبد العزى مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري , ومعاذ بن عبيد الله بن معمر التيمي , وعقبة بن جعونة بن شعوب الليثي : بقتل إسماعيل بن هبار ؟ فاختصموا إلى معاوية إذ حج - ولم يقم عبد الله بن الزبير بينة إلا بالتهمة , فقضى معاوية بالقسامة على المدعى عليهم , وعلى أوليائهم , فأبى بنو زهرة , وبنو تيم , وبنو ليث : أن يحلفوا عنهم ؟ فقال معاوية لبني أسد : احلفوا ؟ فقال ابن الزبير : نحلف نحن على الثلاثة جميعا فنستحق ؟ فأبى معاوية أن يقسموا إلا على واحد - فقصر معاوية القسامة فردها على الثلاثة الذين ادعي عليهم , فحلفوا خمسين يمينا بين الركن والمقام , فبرئوا - وكان ذلك أول ما قصرت القسامة , ثم قضى بذلك مروان , وعبد الملك - ثم ردت القسامة إلى الأمر الأول . وأما توحيد الأيمان - فروي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن زيد عن أبي مليح : أن عمر بن الخطاب ردد الأيمان عليهم , الأول فالأول , وأما التابعون - فإننا روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن يونس بن عبيد عن الحسن في القتيل يوجد غيلة ؟ قال : يقسم من المدعى عليهم خمسون : ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فإن حلفوا فقد برئوا , وإن نكلوا أقسم من المدعين خمسون : أن دمنا قبلكم , ثم يودوا . وعن الحسن - يستحقون بالقسامة الدية , ولا يستحقون بها الدم . وعن عبد الله بن عمر - أنه سمع أصحابا له يحدثون أن عمر بن عبد العزيز برأ المدعى عليهم باليمين ثم ضمنهم العقل . وعن ابن أبي مليكة - أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمارته بالمدينة . وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أن عمر بن عبد العزيز - لما رأى الناس يحلفون على القسامة - بغير علم - استحلفهم , وألزمهم الدية , ودرأ عن القتل . وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز - أنه ردد الأيمان على سبعة نفر أحدهم جان , وعن شريح - قال : تردد الأيمان عليهم , الأول فالأول . وعن محمد بن سيرين أن قوما ادعوا على قوم قتيلا ؟ فاستحلف شريح خمسين منهم , فحلف
(11/67)
عشرة رهط من آل سباع عند منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم خمسين يمينا مرددة عليهم ; لقتل ابنا بلسانة , وابنا تولمانة
ربيعة بن يعقوب , فحلفوا , فدفع مروان ابني بلسانة , وابني تولمانة , إلى أولياء
المقتول فقتلوهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فمن الصحابة - رضي الله عنهم - أبو بكر , وعمر , وعثمان ,
وعلي , وابن عباس , والمغيرة بن شعبة , وابن الزبير , ومعاوية , وعبد الله بن عمرو
بن العاص , وجملة الصحابة بالمدينة - هكذا مجملا - فأما المسمون فهم تسعة . ومن
التابعين - الحسن , وعمر بن عبد العزيز , وشريح , وإبراهيم النخعي , والشعبي ,
وسعيد بن المسيب , وقتادة , وسالم بن عبد الله بن عمر , وأبو قلابة , والزهري ,
وعروة بن الزبير , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان وغيرهم , وجمهور العلماء
بالمدينة - الذين روى عنهم التابعون هكذا مجملا - كلهم مختلفون , والصحابة أيضا
كذلك , وأكثر ما ذكرنا لا يصح على ما نبين إن شاء الله تعالى . قال أبو محمد رحمه
الله: فالمأثور من ذلك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة ,
إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل , إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص , وعن الحسن ,
وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه لم
يقد بالقسامة - وهو مرسل لا يصح كما ذكرنا . وروي عنه أيضا أنه طلب البينة من
أولياء المقتول , فإن لم يجدوها حلف المدعى عليهم , ولا شيء عليهم , فإن نكلوا حلف
المدعون واستحقوا الدية - وهذا مرسل عنه - لأنه عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد
الله بن مسعود عن عمر - ولم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر - وروي عنه أيضا :
البينة على المدعين , وإلا حلف المدعى عليهم وبروا فقط , إلا أنه مرسل . وروي عنه
- في قتيل وجد بين حيين , أو قريتين - أن يذرع إلى أيهما هو أقرب فالذي هو أقرب
إليها حلفوا خمسين يمينا وغرموا الدية مع ذلك . ومثل هذا عن المغيرة بن شعبة إلا
أنه مرسل ; لأنه عن عمر , والمغيرة , من طريق الشعبي - ولم يولد إلا بعد موت عمر
بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها وقبل الشعبي . وفي خبر المغيرة أشعث - وهو ضعيف -
وروي عنه : أنه حلف امرأة مدعية من دم مولى لها خمسين يمينا , ثم قضى لها بالدية -
وهذا مرسل - لأنه عن أبي الزناد عنه , وعن ابن المسيب عنه . وأما عثمان - رضي الله
عنه - فإنه روي عنه في قتيل وجد في دار قوم فأقروا بقتله , وأنه جاءهم ليسرقهم :
أن يحلف أولياء المقتول , ولهم القود , فإن نكلوا : حلف أهل الدار وغرموا الدية ,
إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل ; لأنه من طريق الزهري : أن عثمان - ولم يولد الزهري ,
إلا بعد
(11/68)
عشرة رهط من آل سباع عند منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم خمسين يمينا مرددة عليهم ; لقتل ابنا بلسانة , وابنا تولمانة
ربيعة بن يعقوب , فحلفوا , فدفع مروان ابني بلسانة , وابني تولمانة , إلى أولياء
المقتول فقتلوهم . قال أبو محمد رحمه الله: فمن الصحابة - رضي الله عنهم - أبو بكر
, وعمر , وعثمان , وعلي , وابن عباس , والمغيرة بن شعبة , وابن الزبير , ومعاوية ,
وعبد الله بن عمرو بن العاص , وجملة الصحابة بالمدينة - هكذا مجملا - فأما المسمون
فهم تسعة . ومن التابعين - الحسن , وعمر بن عبد العزيز , وشريح , وإبراهيم النخعي
, والشعبي , وسعيد بن المسيب , وقتادة , وسالم بن عبد الله بن عمر , وأبو قلابة ,
والزهري , وعروة بن الزبير , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان وغيرهم ,
وجمهور العلماء بالمدينة - الذين روى عنهم التابعون هكذا مجملا - كلهم مختلفون ,
والصحابة أيضا كذلك , وأكثر ما ذكرنا لا يصح على ما نبين إن شاء الله تعالى .
قال أبو محمد رحمه الله: فالمأثور من ذلك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه
لم يقد بالقسامة , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل , إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن
حفص , وعن الحسن , وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وعن عمر - رضي
الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة - وهو مرسل لا يصح كما ذكرنا . وروي عنه أيضا أنه
طلب البينة من أولياء المقتول , فإن لم يجدوها حلف المدعى عليهم , ولا شيء عليهم ,
فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا الدية - وهذا مرسل عنه - لأنه عن القاسم بن عبد
الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر - ولم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر -
وروي عنه أيضا : البينة على المدعين , وإلا حلف المدعى عليهم وبروا فقط , إلا أنه
مرسل . وروي عنه - في قتيل وجد بين حيين , أو قريتين - أن يذرع إلى أيهما هو أقرب
فالذي هو أقرب إليها حلفوا خمسين يمينا وغرموا الدية مع ذلك . ومثل هذا عن المغيرة
بن شعبة إلا أنه مرسل ; لأنه عن عمر , والمغيرة , من طريق الشعبي - ولم يولد إلا
بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها وقبل الشعبي . وفي خبر المغيرة أشعث -
وهو ضعيف - وروي عنه : أنه حلف امرأة مدعية من دم مولى لها خمسين يمينا , ثم قضى
لها بالدية - وهذا مرسل - لأنه عن أبي الزناد عنه , وعن ابن المسيب عنه . وأما
عثمان - رضي الله عنه - فإنه روي عنه في قتيل وجد في دار قوم فأقروا بقتله , وأنه
جاءهم ليسرقهم : أن يحلف أولياء المقتول , ولهم القود , فإن نكلوا : حلف أهل الدار
وغرموا الدية , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل ; لأنه من طريق الزهري : أن عثمان -
ولم يولد الزهري , إلا بعد
(11/69)
موته - أعني بعد موت عثمان - . وأما علي
- رضي الله عنه - : إذا وجد القتيل بين قريتين قاس ما بينهما وجعله على أقربهما
وإن وجد بفلاة من الأرض فديته على بيت المال وأنه أحلف المدعى عليه الدم , وتسعة
وأربعين معه - إلا أنه لا يصح ; لأنه عن أبي جعفر - ولم يولد أبو جعفر إلا بعد موت
علي ببضعة عشر عاما . ومن طريق أخرى فيها الحارث الأعور - وهو كذاب - والحجاج بن
أرطاة - وهو هالك . وأما ابن عباس - فجاء عنه أنه قضى بالأيمان على المدعى عليهم
في القسامة وأن لا يقاد بها , وأن لا يطل دم مسلم , إلا أنه لا يصح ; لأن إحدى
الطريقين عن مطيع - وهو مجهول - والأخرى عن إبراهيم بن أبي يحيى - وهو هالك . وأما
ابن الزبير - فصح عنه من أجل إسناد أنه أقاد بالقسامة , وأنه رأى القود بها في
قتيل وجد , وأنه رأى الحكم للمدعين بالأيمان , وأنه رأى أن يقاد بها من الجماعة
للواحد : روى ذلك عنه أوثق الناس سعيد بن المسيب - وقد شاهد تلك القصة كلها . وعبد
الله بن أبي مليكة قاضي ابن الزبير . وأما معاوية - فروي عنه تبرئة أولياء المدعى
عليهم بالأيمان في القسامة , فإن نكلوا حلف المدعون على واحد فقط , وأقيدوا به لا
على أكثر , فإن نكلوا حلف المدعى عليهم بأنفسهم خمسين يمينا , تردد الأيمان عليهم
, وحمله إياهم للتحليف من المدينة إلى مكة - وهذا في غاية الصحة ; لأنه رواه عنه
سعيد بن المسيب , وقد شهد الأمر . وروي عنه أيضا : أنه بدأ المدعين بالأيمان وأقاد
بها , ووافقه على ذلك أزيد من ألف من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا أن هذا لا يصح
; لأن في الطريق عبد الرحمن بن أبي الزناد , وهو ضعيف . وأما عبد الله بن عمرو -
فإنه روي عنه أن كل دعوى فإن المدعى عليه يبدأ باليمين , إلا في الدم , فإن المصاب
إذا ادعى أن فلانا قتله , فأولياؤه مبدئون , إلا أن هذا لا يصح ; لأنه من طريق ابن
سمعان - وهو مذكور بالكذب هالك - وروي عن الجماعة الأولى , أن لا قود بالقسامة ,
إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل عن الحسن .
وفي الطريق عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وروي : أن الأمر كان قديما قبل معاوية
, ألا تردد الأيمان , وأنه إن نقص من الخمسين واحد بطلت القسامة - وهو صحيح - رواه
سعيد بن المسيب وقد أدرك أيام عثمان , وعلي - رضي الله عنهما - فهذا كل ما روي عن
الصحابة - رضي الله عنهم - كله مختلف فيه غير متفق , وكله لا يصح , إلا ما روي عن
ابن الزبير , ومعاوية , وعن إبطال القسامة إذا لم يتم الخمسون : فهو صحيح . وأما
التابعون - رحمهم الله - : فأما الحسن : فصح عنه أن لا يقاد بالقسامة لكن يحلف
المدعى عليهم : بالله ما فعلنا , ويبرءون - فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية -
هذا في القتيل يوجد . وأما عمر بن عبد العزيز - فجاء عنه : يبدأ المدعى عليهم , ثم
أغرمهم الدية
(11/70)
مع أيمانهم - وهذا عنه صحيح , وأنه رجع إلى هذا القول - وصح عنه : أنه أقاد بالقسامة صحة لا مغمز فيها , وأنه بدأ المدعين بالأيمان في القسامة , وردد الأيمان - وصح عنه : أنه رجع عن القسامة جملة وترك الحكم بها . وصح عنه مثل حكم عمر بن الخطاب في إغرامه نصا الدية في نكول المدعين ونكول المدعى عليهم عن الأيمان معا . وأما شريح - فصح عنه تردد الأيمان , وأن القتيل إذا وجد في دار قوم فادعى أهله على غير تلك الدار فقد بطلت القسامة ولا شيء لهم على أحد إلا ببينة . وأما إبراهيم النخعي - فصح عنه إبطال القود بالقسامة لكن يبدأ بالمدعى عليهم فيحلفون خمسين يمينا ثم يغرمون الدية - مع ذلك - ورأى ترديد الأيمان . وأما الشعبي - فروي عنه في القتيل يوجد بين قريتين : أنه على أقربهما إليه وفيه الدية , له إن وجد بدنه في دار قوم فعليهم دمه , وإن وجد رأسه في دار قوم فلا شيء فيه - ولا دية ولا غيرها - إلا أنه لا يصح عنه ; لأنه عمن لم يسم , أو عن صاعد اليشكري , ولا نعرفه . وأما سعيد بن المسيب - فصح عنه أن القسامة على المدعى عليهم - وروي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها , ولو علم أن الناس يجترئون عليها لم يقض بها - وهذا كلام سوء قد أعاذ الله تعالى سعيد بن المسيب عنه . ورواية عن يونس بن يوسف - وهو مجهول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم من عند . نفسه: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} . ولقد علم الله تعالى إذ أوحى إليه بأن يحكم في القسامة بما حكم به من الحق أن الناس سيجترئون على الكفر , وعلى الدماء , فكيف على الأيمان: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . وأما قتادة - فصح عنه أن القسامة تستحق بها الدية , ولا يقاد بها . وأما سالم - فصح عنه إنكار القسامة جملة , وأن من حلف فيها يستحق أن ينكل , وأن لا تقبل له شهادة . وأما أبو قلابة - فصح عنه إنكار القسامة جملة . وأما الزهري - فصح عنه أن القسامة إذا لم تتم الخمسون عدد المدعين بطلت , ولا تردد الأيمان فيها وأن ترديدها محدث . أما عروة بن الزبير , وأبو بكر بن عمرو بن حزم , وأبان بن عثمان , فإنه روي عنهم : إن ادعى المصاب على إنسان أنه قتله , أو على جماعة , فإن أولياء المدعي يبدءون فيحلفون خمسين يمينا على واحد , وتردد عليهم الأيمان إن لم يتموا خمسين يمينا , فإذا حلفوا دفع إليهم الواحد فيقتلوه , وجلد الآخرون مائة مائة , وسجنوا سنة . وأن عبد الملك بن مروان أول من قضى بأن لا يقتل في القسامة إلا واحد , وكان من قبله يقتلون فيها الرهط بالواحد . وهذا كله خبر واحد ساقط , لا يصح ; لأنه انفرد بروايته عبد الرحمن بن أبي الزناد , وابن سمعان معا - وهما ساقطان ; وأما أبو الزناد - فروي عنه : أنه يبدأ في
(11/71)
القسامة من له بعض بينة أو شبهة , صح ذلك عنه . وأما ربيعة - فصح عنه : أن شهادة اليهود , والنصارى , والمجوس , أو الصبيان أو المرأة : يؤخذ بها في القتل , ويبدأ معها أولياء المقتول , وذلك دعوى المصاب دون بينة أصلا - بالغا كان أو غير بالغ - هكذا روى عنه ابن وهب فيبدأ أولياؤه فيحلفون خمسين يمينا وتردد عليهم الأيمان إن لم يتموا خمسين , ويستحقون القود , فإن نكلوا حلف أولياء المدعى عليه خمسين يمينا , تردد أيضا عليهم , ويبرءون ويبرأ المدعى عليه , فلا قود ولا دية , فإن نكلوا وجب لأولياء المقتول القود على من ادعوا عليه دون يمين . وأما مروان - فروي عنه : إذا ادعى الجريح على قوم , فإن أولياءه يبدءون فيحلفون خمسين يمينا , وتكرر عليهم الأيمان , ثم يدفع إليهم كل من ادعوا عليه - وإن كانوا جماعة فيقتلون - إن شاءوا - ولم يصح هذا ; لأنه من رواية ابن سمعان . وأما السالفون من علماء أهل المدينة جملة - فإنه روي عنهم : أن من ادعى - وهو مصاب - أن فلانا قتله , فإن أولياءه يبدءون في القسامة , فإن لم يدع على أحد برئ المدعى عليهم , فإن حلف الأولياء مع دعوى المصاب كان لهم القود , فإن عفوا عن الدم وأرادوا الدية قضي لهم بذلك , وجلد المعفو عنهم مائة مائة , وحبسوا سنة , وإن عفا الأولياء عن القود وعن الدية : فلا ضرب على المعفو عنهم , ولا سجن , فإن نكلوا حلف المدعى عليه مع أوليائه خمسين يمينا , فإن نكلوا غرم المدعى عليه الدية في ماله خاصة . وأن القسامة تكون مع شهادة الصبيان , أو النساء , أو اليهود , أو النصارى كما قلنا في دعوى القتيل سواء سواء ولا فرق . وأن الأيمان تردد في ذلك إن لم يتموا خمسين , فإن كان دعوى قتل عمد لم يجز أن يحلف في ذلك أقل من ثلاثة , وإن كانت دعوى قتل خطأ : حلف في ذلك واحد - إن لم يوجد غيره - خمسين يمينا وأخذ الدية . ويحلف في دعوى العمد من أراد القود - وإن لم يكن وارثا - ولا يحلف في دعوى الخطأ إلا من يرث - وكل هذا لا يصح ; لأنه من رواية ابن سمعان وهو موصوف بالكذب . قال أبو محمد رحمه الله: فهذا كل ما حضرنا ذكره : أنه روي عن أحد من التابعين في ذلك وقد ذكرناهم - وهم مختلفون - كما ترى غير متفقين ؟ وأما المتأخرون - فنذكر أيضا - إن شاء الله تعالى - من أقوالهم ما يسر . فأما سفيان الثوري - فإنه صح عنه : أنه قال : إن وجد القتيل في قوم فالبينة على أولياء القتيل فإن أتوا بها قضي لهم بالقود , وإلا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا , وغرموا الدية مع ذلك . وقال معمر : من ضرب فجرح فعاش صميتا ثم مات فالقسامة تكون حينئذ , فيحلف المدعون : لمات
(11/72)
من ضربه إياه , فإن حلفوا خمسين يمينا كذلك استحقوا الدية , وإن نكلوا حلف من المدعى عليهم خمسون : ما مات من ضربه إياه , ويغرمون الدية مع ذلك فالجرح خاصة لا في النفس , فإن نكل الفريقان جميعا غرم المدعى عليهم نصف الدية - ذهب إلى ما روي عن عمر . وقال معمر : قلت لعبيد الله بن عمر : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة ؟ قال , لا , قلت : فأبو بكر , قال : لا , قلت : فعمر , قال : لا , قلت : فكيف تجترئون عليها ؟ فسكت . قال معمر : فقلت ذلك لمالك ؟ فقال : لا تضع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحيل , لو ابتلي بها أقاد بها . وقال عثمان البتي فيمن ادعي عليهم بقتيل وجد فيهم : فالبينة على المدعين ويقضى لهم , فإن لم يكن لهم بينة حلف خمسون رجلا من المدعى عليهم , وبرئوا , ولا غرامة في ذلك , ولا دية , ولا قود . وقال أبو حنيفة , وأصحابه : لا تكون القسامة بدعوى المصاب أصلا , ولا قود في ذلك , ولا دية , لكن إن وجد قتيل في محلة وبه أثر , وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه , وادعوا على واحد بعينه منهم ؟ فإن كانت لهم بينة عدل قضي لهم بها , وإن لم تكن لهم بينة حلف المدعى عليهم خمسون رجلا من أهل الخطة , لا من السكان , ولا من الذين انتقل إليهم ملك الخطة بالشراء , لكن على الذين كانوا مالكين لها في الأصل , يختارهم الولي , فإن نقص منهم ردت عليهم الأيمان - فإذا حلفوا غرموا الدية مع ذلك , فإن نكلوا سجنوا أبدا حتى يقروا أو يحلفوا . وقال مالك : لا تكون القسامة إلا بأن يقول المصاب : فلان قتلني عمدا , فإذا قال ذلك ثم مات قبل أن يفيق : حلف خمسون من أوليائه قياما في المسجد الجامع , مستقبلين القبلة : لقد قتله فلان عمدا ؟ فإذا حلفوا , فإن حلفوا على واحد فلهم القود منه , وإن حلفوا على جماعة لم يكن لهم القود إلا من واحد , ويضرب الباقون مائة مائة , ويسجنون سنة - فإن شهد شاهد واحد عدل : بأن فلانا قتل فلانا كانت القسامة أيضا كما ذكرنا . وكذلك إن شهد لوث من نساء أو غير عدول , فإن لم يكونوا خمسين ردت عليهم الأيمان حتى يتم خمسين - ولا يحلف في القسامة أقل من اثنين فإن كان القائل : فلان قتلني , غير بالغ , فلا قسامة في ذلك , ولا قود , ولا غرامة : قال : فإن نكل جميع أولياء القتيل حلف المدعى عليهم خمسين يمينا , فإن لم يبلغوا خمسين ردت الأيمان عليهم , فإن لم يوجد إلا المدعى عليه وحده حلف خمسين يمينا وبرئ , فإن نكل أحد ممن له العفو من الأولياء : بطلت القسامة ووجبت الأيمان على المدعى عليهم - ولا قسامة في قتيل وجد في دار قوم , ولا غرامة , ولا في دعوى عبد : أن فلانا قتله . وفي دعوى المريض : أن فلانا قتلني خطأ روايتان : إحداهما : أن في ذلك
(11/73)
القسامة - والأخرى : لا قسامة في ذلك ولا في كافر . وقال الشافعي : لا قسامة في دعوى إنسان : أن فلانا قتلني أصلا سواء قال عمدا أو خطأ - ولا غرامة في ذلك - وإنما القسامة في قتيل وجد بين دور قوم كلهم عدو للمقتول , فادعى أولياؤه عليهم , فإن أولياء القتيل يبدءون فيحلف منهم خمسون رجلا يمينا يمينا : أنهم قتلوه عمدا أو خطأ , فإن نقص عددهم ردت الأيمان , فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينا , واستحقت الدية على سكان تلك الدور , ولا يستحق بالقسامة قود أصلا - وإن شهد واحد عدل , أو جماعة متواترة غير عدول أن فلانا قتل فلانا , فتجب القسامة كما ذكرنا , والدية - أو وجد قتيل في زحام فالقسامة أيضا , والدية , كما ذكرنا . وقال أصحابنا : إن وجد قتيل في دار قوم أعداء له , وادعى أولياؤه على واحد منهم : حلف خمسون منهم , واستحقوا القود أو الدية - ولا قسامة , إلا في مسلم حر . قال أبو محمد رحمه الله: فهذه أقوال الفقهاء المتأخرين قد ذكرنا منها ما يسر الله تعالى - ونذكر الآن الأخبار الصحاح الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة مجموعة كلها في مكان واحد , مستقصاة ; ليلوح الحق بها من الخطأ , ولتكون شاهدة لمن أصاب ما فيها بأنه وفق للصواب - بمن الله تعالى وشاهدة لمن خالف ما فيها بأنه يسر للخطأ مجتهدا - إن كان ممن سلف , وعاصيا إن كان مقلدا - وقامت الحجة عليه , وإنما جمعنا ما ذكرنا من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - ومن أقوال التابعين - رحمهم الله - ومن أقوال الفقهاء بعدهم , ثم أتينا بالأحاديث الصحاح ما يسر الله تعالى منها , الواردة في ذلك ; لأن أحكام القسامة متداخلة في كل ذلك : وقد روينا من طريق البخاري - نا أبو نعيم الفضل بن دكين نا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار , زعم : أن رجلا من الأنصار - يقال له : سهل بن أبي حثمة - أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها , ووجد أحدهم قتيلا , وقالوا للذين وجد فيهم : قتلتم صاحبنا ؟ قالوا : ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا , فقال : "الكبر الكبر فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله" ؟ قالوا : ما لنا بينة . قال : "فتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" . قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ؟ قال : "فتبريكم يهود بخمسين يمينا" ؟ قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود , "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة". ومن طريق مسلم - نا قتيبة بن سعيد نا الليث بن سعد عن يحيى - هو ابن سعيد الأنصاري - عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة , قال يحيى : وحسبته قال : وعن رافع بن
(11/74)
خديج أنهما قالا : خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك , ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلا فدفنه - ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود , وعبد الرحمن بن سهل - وكان أصغر القوم - فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كبر الكبر في السن" فصمت وتكلم صاحباه وتكلم معهما فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل فقال لهم : "أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" ؟ قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ؟ قال : "فتبريكم يهود بخمسين يمينا" ؟ قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ "فلما رأى ذلك رسول الله أعطاه عقله". ومن طريق مسلم - نا عبد الله بن عمر القواريري نا حماد بن زيد نا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة , ورافع بن خديج أن محيصة بن مسعود , وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل , فاتهموا اليهود فجاء إخوة عبد الرحمن , وابن عمه حويصة , ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه - وهو أصغر القوم - فقال رسول الله "كبر الكبر" , أو قال : "ليبدأ الأكبر" ؟ فتكلما في أمر صاحبهم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته" ؟ فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : "فتبريكم يهود بأيمان خمسين منهم" ؟ قالوا : يا رسول الله وكيف نقبل بأيمان قوم كفار ؟ قال : "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله مائة من الإبل" , قال سهل : فدخلت مريدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها, قال حماد : هذا , أو نحوه . قال أبو محمد رحمه الله: فشك يحيى في رواية الليث: هل ذكر بشير بن يسار, ورافع بن خديج مع سهل بن أبي حثمة أو لم يذكر ؟ ولم يشك في رواية حماد بن زيد عنه في أن رافعا روى عنه هذا الخبر بشير , وكلا الرجلين ثقة , حافظ , وحماد أحفظ من الليث , والروايتان معا صحيحتان . فصح - أن يحيى شك مرة : هل ذكر بشير رافعا مع سهل أم لا ؟ وقطع يحيى مرة في أن بشيرا ذكر رافعا مع سهل , ولم يشك ؟ فهي زيادة من حماد , وزيادة العدل مقبولة . ومن طريق مسلم نا إسحاق بن منصور نا بشير بن عمر قال : سمعت مالك بن أنس . وناه أيضا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا أحمد بن عمرو بن السرح , ومحمد بن مسلمة ; قال أحمد : نا محمد بن وهب , وقال محمد : نا ابن القاسم , ثم اتفق ابن وهب , وابن القاسم , وبشير بن عمر , كلهم يقول : نا مالك بن أنس نا أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة
(11/75)
أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه : أن
عبد الله بن سهل , ومحيصة , خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة فأخبر : أن
عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو في فقير , فأتى يهود فقال : أنتم والله
قتلتموه , قالوا : والله ما قتلناه , ثم أقبل حتى قدم على قومه , فذكر لهم ذلك ,
ثم أقبل هو وأخوه حويصة - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم -
وهو الذي كان بخيبر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة : "كبر
كبر" - يريد السن - فتكلم حويصة , ثم تكلم محيصة , فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" , فكتب رسول الله
إليهم في ذلك , فكتبوا : إنا والله ما قتلناه , فقال رسول الله: "أتحلفون؟
وتستحقون دم صاحبكم" ؟ قالوا : لا قال: "فتحلف لكم يهود" ؟ قالوا :
ليسوا مسلمين , "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده , فبعث إليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة , حتى دخلت عليهم الدار" , قال سهل :
فلقد ركضني منها ناقة حمراء. ومن طريق سفيان بن عيينة نا يحيى بن سعيد عن بشير بن
يسار عن سهل بن أبي حثمة قال: وجد عبد الله بن سهل قتيلا فجاء أخوه , وحويصة ,
ومحيصة , وهما عما عبد الله بن سهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عبد
الرحمن يتكلم , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكبر الكبر" ,
قالوا : يا رسول الله إنا وجدنا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب - يعني من قلب خيبر
- قال النبي عليه الصلاة والسلام : "من تتهمون" ؟ قالوا : نتهم يهود ,
قال: "فتقسمون خمسين يمينا : أن اليهود قتلته", قالوا : وكيف نقسم على
ما لم نر؟ قال: "فتبريكم اليهود بخمسين يمينا : أنهم لم يقتلوه" , قالوا
: وكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون ؟ "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من
عنده". ومن طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال
: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن , وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي عليه
السلام عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار : "أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية" . ومن
طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن هاشم البعلبكي نا الوليد بن مسلم نا الأوزاعي عن
ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف , وسليمان بن يسار عن أناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ما كانت عليه , وقضى بها بين أناس من الأنصار في قتيل ادعوه
على يهود خيبر.
قال أبو محمد رحمه الله: فهذه الأخبار مما صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في
القسامة , لم يصح عنه إلا هي أصلا .
(11/76)
2149 - مسألة : هل يجب الحكم بالقسامة أم
لا ؟
قال أبو محمد
(11/76)
رحمه الله: فذكرنا قول ابن عباس , وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب , فنظرنا فيما يمكن أن يحتج به ؟ فوجدنا من طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". وقوله عليه السلام للمدعي: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". قالوا : فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام بين تحريم الدماء والأموال , وبين الدعوى في الدماء والأموال , وأبطل كل ذلك , ولم يجعله إلا بالبينة أو اليمين على المدعى عليه , فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا : لا في من يحلف , ولا في عدد يمين , ولا في إسقاط الغرامة , إلا بالبينة ولا مزيد . وهذا كله حق , إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا , وهو أن الذي حكم بما ذكروا , وهو المرسل إلينا من الله تعالى هو الذي حكم بالقسامة , وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة , ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها , إذ كلها من عند الله تعالى , وكلها حق , وفرض الوقوف عنده , والعمل به وليس بعض أحكامه عليه السلام أولى بالطاعة من بعض , ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية , وتحت قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . ولا فرق بين من ترك حديث: "بينتك أو يمينه" لحديث القسامة , وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث . فإن قالوا : الدماء حدود , ولا يمين في الحدود ؟ قيل لهم : ما هي من الحدود ; لأن الحدود ليست موكولة إلى اختيار أحد - إن شاء أقامها , وإن شاء عطلها - بل هي واجبة لله تعالى وحده , لا خيار فيها لأحد , ولا حكم . وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي - إن شاء استقاد , وإن شاء عفا - فبطل أن تكون من الحدود , وصح أنها من حقوق الناس - وفسد قول من فرق بينها وبين حقوق الناس من الأموال وغيرها , لا حيث فرق الله تعالى ورسوله عليه السلام بين الدماء والحقوق وغيرها , وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط . وأما من جعل اليمين في دعوى الدم خمسين يمينا ولا بد - ولا أقل - فلا حجة لهم , إلا أنهم قاسوا كل دعوى في الدم على القسامة - والقياس كله باطل ; لأنهم لم يحكموا للدعوى المجردة في الدم بحكم القسامة في غير هذا الموضع ; لأن المالكيين , والشافعيين يرون في القسامة تبرئة المدعين , ولا يرون تبرئتهم في دعوى الدم المجردة , والحنفيون يرون إيجاب الغرامة مع الأيمان في القسامة , ولا يرون ذلك في دعوى الدم المجردة - فصح أنهم قد تركوا قياس
(11/77)
دعوى الدم المجردة على القسامة في شيء من أحكامها , إلا في عدد الأيمان فقط - فظهر بذلك باطل قولهم . والقول عندنا هو ما قلناه من أن البينة في الدعاوى كلها دماء كانت أو غيرها سواء سواء , واليمين في كل ذلك سواء - يمين واحدة فقط - على من ادعي عليه إلا في الزنى , والقسامة , ففي الزنى أربعة من الشهود فصاعدا , لا أقل ; للنص الوارد في ذلك خاصة , وفي القسامة خمسون يمينا لا أقل للنص الوارد في ذلك . وبقي كل ما عدا ذلك على عموم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". وعلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على من ادعي عليه". فلا يخرج من هذا إلا ما أخرجه النص . ثم نظرنا في قول من قال : إن القسامة تكون بدعوى المريض أن فلانا قتله , فلم نجد لهم شبهة أصلا , إلا ما ناه أحمد بن عمر نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا إسماعيل بن إسحاق نا ابن أبي أويس نا أخي عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان أخبرني ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز دعاه فقال له : ما عندك في هذه القسامة ؟ فقلت له : كانت من أمر الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للدماء , وجعلها سترة لدمائهم , ولكن من سنتها وما بلغنا فيها : أن القتيل إذا تكلم برئ أهله , وإن لم يتكلم حلف المدعى عليهم - وذلك فعل عمر بن الخطاب , وأن ذلك الذي أدركنا الناس عليه . قال أبو محمد:إن أهل هذه المقالة أكثروا وأتوا بما ينسي آخره أوله , حتى يغتر الجاهل فيظن أنهم أتوا بشيء , وهم لم يأتوا بشيء أصلا , وهذا سند فاسد ; لأنه مرسل . وفي إسناده أبو بكر بن أبي أويس وقد خرج عنه البخاري , إلا أن الموصلي الحافظ الأسدي ذكر : أن يوسف بن محمد أخبره أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث , وهذه عظيمة , إلا أن الإرسال يكفي في هذا الخبر . ولو صح مسندا لم يكن لهم فيه متعلق ; لأنه ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالقسامة فيما يدعيه المقتول , وإنما فيه : أنها كانت من أمر الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للدماء - ونحن لا ننكر هذا , فإذا لم يكن عن النبي عليه السلام فلا حجة فيه - وأن المالكيين مخالفون لهذا الحكم , ولا يرون فيه قسامة أصلا إذا لم يتكلم . وذكروا - ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن يحيى بن عبد الله نا أبو معمر البصري نا عبد الوارث نا فطر أبو الهيثم نا أبو يزيد المدني عن عكرمة عن ابن عباس قال : أول القسامة كانت في الجاهلية , كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله , فمر
(11/78)
رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه ؟ فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل , فأعطاه عقالا يشد به جوالقه , فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا , فقال الذي استأجره : ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل ؟ قال : ليس له عقال , قال فأين عقاله ؟ قال : مر بي رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فاستغاثني ؟ فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل , فأعطيته عقاله , فحذفه بعصا كان فيه أجله , فمر به رجل من أهل اليمن فقال : أتشهد الموسم ؟ قال : ما أشهد وربما أشهد . قال : هل أنت عني مبلغ رسالة من الدهر ؟ قال : نعم , قال : إذا شهدت الموسم فناد : يا آل قريش ; فإذا أجابوك فناد : يا آل بني هاشم , فإذا أجابوك , فسل عن أبي طالب فأخبره : أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر . فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب , فقال : ما فعل صاحبنا ؟ قال : مرض فأحسنت القيام عليه , ثم مات فوليت دفنه , فقال : أهل ذلك منك ؟ فمكث حينا - ثم إن الرجل اليماني الذي كان أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم , قال : يا آل قريش ؟ فقالوا : هذه قريش , قال : يا بني هاشم , قالوا : هذه بنو هاشم , قال : أين أبو طالب ؟ قالوا : هذا أبو طالب , قال : أمرني فلان أن أبلغك رسالته : أن فلانا قتله في عقال , فأتاه أبو طالب فقال : اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تودي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا خطأ , وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله , فإن أبيت قتلناك به , فأتى قومه فذكر ذلك لهم , فقالوا : نحلف ؟ فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له , فقالت : يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين , ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ؟ ففعل , فأتاه رجل منهم فقال : يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل يصيب كل رجل بعيران , فهذان بعيران فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان ؟ فقبلهما , وجاء ثمانية وأربعون رجلا حلفوا - قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فأضافوا إلى هذا الخبر الحديث الذي قد ذكرناه قبل هذا بأوراق في باب الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة , وهو أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر - وهذا لا حجة لهم فيه , بل هو حجة عليهم ; لأن صفة القسامة التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل - ادعوه على يهود قد ذكرناها وإنما هي في قتيل وجد , لا في مصاب ادعى أن فلانا قتله - فهذا حجة عليهم . وأما حديث ابن عباس هذا , فهو
(11/79)
كله عليهم , لا لهم , ولئن كان ذلك الخبر حجة , فلقد خالفوه في ثلاثة مواضع , وما فيه لهم حجة أصلا في شيء . لأن قول ذلك المقتول لم يتبين بشاهدين , وإنما أتى به رجل واحد - وهم لا يرون القسامة في مثل هذا . وأن أبا طالب بدأ المدعى عليهم بالأيمان - وهم لا يقولون بهذا . وأن أبا طالب أقر : أن ذلك القرشي قتل الهاشمي خطأ , ثم قال له : فإن أبيت من الدية , أو من أن يحلف خمسون من قومك قتلناك به - وهم لا يرون القود في قتل الخطأ . فمن العجب احتجاجهم بخبر : هم أول مخالف له , وأما نحن فلا ننكر أن تكون القسامة كانت في الجاهلية في القتيل يوجد فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك , بل هذا حق عندنا لصحة الخبر بذلك , وبالله تعالى التوفيق . وذكروا أيضا - وهو من غامض اختراعهم - قول الله تعالى بعد أمره بني إسرائيل بذبح البقرة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} . وذكروا - مع هذه الآية - : ما ناه أحمد بن عمر بن أنس العذري عن عبد الله بن الحسين بن عقال الزبيري نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن الجهم نا أبو بكر الوزان نا علي بن عبد الله - وهو ابن المديني - نا يحيى بن سعيد القطان نا ربيعة بن كلثوم نا أبي عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس قال : إن أهل مدينة من بني إسرائيل وجدوا شيخا قتيلا في أصل مدينتهم , فأقبل أهل مدينة أخرى فقالوا : قتلتم صاحبنا , وابن أخ له شاب يبكي ويقول : قتلتم عمي ؟ فأتوا موسى عليه السلام , فأوحى الله تعالى إليه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ؟ فذكر حديث البقرة بطوله , قال : فأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ - وهو بين المدينتين , وابن أخيه قائم عند قبره يبكي - فذبحوها , فضرب ببضعة من لحمها القبر ؟ فقام الشيخ ينفض رأسه ويقول : قتلني ابن أخي , طال عليه عمري , وأراد أكل مالي ؟ ومات . وبه - إلى ابن الجهم نا محمد بن سلمة نا يزيد بن هارون نا هشام عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : كان في بني إسرائيل عقيم لا يولد له , وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله , ثم احتمله ليلا حتى أتى به حي آخرين , فوضعه على باب رجل منهم , ثم أصبح يدعيه عليهم , فأتوا موسى عليه السلام , فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة - فذكر حديث البقرة - فذبحوها فضربوه ببعضها , فقام , فقالوا : من قتلك ؟ فقال : هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتا , فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئا , ولم يورث قاتل بعد . وبه - إلى ابن الجهم نا الوزان نا علي بن عبد الله نا سفيان بن سوقة , قال : سمعت عكرمة يقول : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا , لكل سبط باب فوجدوا قتيلا قتل على باب فجروه إلى باب آخر , فتداعوا قتله , وتدارى الشيطان فتحاكموا
(11/80)
إلى موسى عليه السلام فقال: { إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فذبحوها , فضربوه بفخذها , فقال :
قتلني فلان - وكان رجلا له مال كثير - وكان ابن أخيه قتله - وفي حديث البقرة زيادة
اقتصرتها.
قال أبو محمد رحمه الله: وكل ما احتجوا به من هذا فإيهام وتمويه على المغتربين : أما
الآية فحق , وليس فيها شيء مما في هذه الأخبار ألبتة , وإنما فيها : أن الله تعالى
أمر بني إسرائيل بذبح بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين , مسلمة لا شية فيها غير
ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك وأنهم كانوا قتلوا
قتيلا فتدارءوا فيه , فأمرهم الله تعالى أن يضربوه ببعضها , إذ ذبحوها {كَذَلِكَ
يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} . وليس في الآية أكثر من هذا ,
لا أن المقتول ادعى على أحد , ولا أنه قتل به , ولا أنه كانت فيه قسامة , فكل ما
أخبر الله تعالى به فهو حق , وكل ما أقحموه بآرائهم في الآية فهو باطل - فبطل أن
يكون لهم في الآية متعلق أصلا . ثم نظرنا في الأخبار التي ذكرنا فوجدناها كلها
مرسلة , لا حجة في شيء منها , إلا الذي صدرنا به فهو موقوف على ابن عباس ولا حجة
في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل أن يكون لهم في شيء منها متعلق ثم
لو صحت الأخبار المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكانت كلها لا حجة
لهم فيها لوجوه : أولها - أن ذلك حكم كان في بني إسرائيل , ولا يلزمنا ما كان فيهم
, فقد كان فيهم السبت , وتحريم الشحوم , وغير ذلك - ولا يلزمنا إلا ما أمرنا به نبينا
عليه السلام . قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجاً} وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فضلت على الأنبياء
بست - فذكر فيها - : أن من كان قبله : إنما كان يبعث إلى قومه خاصة , وبعث هو -
عليه السلام - إلى الأحمر والأسود". فصح يقينا أن موسى عليه السلام وسائر
الأنبياء قبل محمد عليه السلام لم يبعثوا إلينا , فبيقين ندري أن شرائع من لم يبعث
إلينا ليست لازمة لنا , وإنما يلزمنا الإقرار بنبوتهم فقط . وثانيها - أنه لا
يختلف اثنان من المسلمين في أنه لا يلزمنا في شيء من دعوى الدماء ذبح بقرة - وصح
بطلان احتجاجهم بتلك الأخبار , إذ ليس فيها أن يسمع من المقتول بعد : أن تذبح بقرة
ويضرب بها . وثالثها - أن تلك الأخبار فيها معجزة نبي وإحالة الطبيعة من إحياء ميت
- فهم يريدون أن نصدق حيا قد حرم الله تعالى علينا تصديقه على غير نفسه ممكنا منه
الكذب من أجل أن صدق بنو إسرائيل ميتا أحياه الله تعالى بعد موته - وهذا ضد القياس
بلا شك , وضد ما في هذه الأخبار بلا شك . والأمر بيننا وبينهم في هذه المسألة قريب
, فليرونا مقتولا رد الله تعالى روحه إليه بحضرة نبي أو بغير حضرته ويخبرنا بالشيء
ونحن حينئذ نصدقه , وأما أن نصدق حيا يدعي على غيره , فهو أبطل الباطل بعينه ,
فذكرهم لهذه الآية وهذه الأخبار : قبيح ,
(11/81)
لو تورع عنهم لكان أسلم , ونسأل الله
تعالى العافية.
وذكروا - ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن الحارثي , ومحمد بن المثنى , قال يحيى
: نا خالد بن الحارث , وقال ابن المثنى : نا محمد بن جعفر ثم اتفق خالد , ومحمد :
كلاهما عن شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك : "أن يهوديا قتل جارية على
أوضاح لها فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق , فقال لها
: أقتلك فلان ؟ فأشارت برأسها : أن لا , ثم قال لها الثانية , فأشارت برأسها : أن
لا , سألها الثالثة ؟ فقالت : نعم , وأشارت برأسها , فقتله رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين حجرين". قال أبو محمد رحمه الله: وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن
هذا خبر رويناه بالسند المذكور إلى: مسلم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق أنا معمر
عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس : "أن رجلا من اليهود قتل جارية من
الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة ؟ وأخذ فأتي به رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يرجم حتى يموت". وهكذا رواه سعيد بن أبي
عروبة , وأبان بن يزيد العطار , كلاهما عن قتادة عن أنس . فإن قالوا : إن شعبة زاد
ذكر دعوى المقتولة في هذه القصة وزيادة العدل مقبولة ؟ قلنا : صدقتم , وقد زاد
همام بن يحيى عن قتادة عن أنس - في هذا الخبر زيادة لا يحل تركها : كما روينا من
طريق مسلم نا هداب بن خالد نا همام عن قتادة عن أنس : "أن جارية وجد رأسها قد
رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك ؟ فلان , فلان , حتى ذكروا يهوديا فأومأت
برأسها , فأخذ اليهودي فأقر ؟ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه
بالحجارة" , فصح أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي إلا بإقراره , لا
بدعوى المقتولة . ووجه آخر - وهو أنه لو صح لهم ما لا يصح أبدا من أنه عليه السلام
إنما قتله بدعواها لكان هذا الخبر حجة عليهم , ولكانوا مخالفين له ; لأنه ليس فيه
ذكر قسامة أصلا , وهم لا يقتلون بدعوى المقتولة ألبتة إلا حتى يحلف اثنان فصاعدا
من الأولياء خمسين يمينا ولا بد . وأيضا - فهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ .
والأظهر في هذا الخبر أنها كانت لم تبلغ ; لأنه ذكر جارية ذات أوضاح , وهذه الصفة
عند العرب الذين بلغتهم تكلم أنس , إنما يوقعونها على الصبية , لا على المرأة
البالغ . فبطل تعلقهم بهذا الخبر بكل وجه , ولاح خلافهم في ذلك , فوجب القول به ,
ولا يحل لأحد العدول عنه . واعترض المالكيون , ومن لا يرى القسامة في هذا , بأن
قالوا : والقتيل قد يقتل ثم يحمله قاتله فيلقيه على باب إنسان أو في دار قوم ؟
فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - : أن هذا ممكن , ولكن لا يعترض على
(11/82)
حكم الله تعالى, وحكم رسوله عليه السلام
: بأنه يمكن أمر كذا , وبيقين يدري كل مسلم أنه قد يمكن أن يكذب الشاهد , ويكذب
الحالف , ويكذب المدعي : أن فلانا قتله - هذا أمر لا يقدر أحد على دفعه , فينبغي
على هذا القول الذي ردوا به حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوه : أن لا
يقتلوا أحدا بشهادة شاهدين , فقد يكذبان , وليس القود بالشاهدين إجماعا فيتعلق به
; لأن الحسن يقول : لا يقبل في القود إلا أربعة . ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول -
وبالله تعالى التوفيق - : إنه لا يحل لمسلم - يدري أن وعد الله حق - أن يعترض على ما
حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : لا يجوز هذا الحكم ; لأنه قد يمكن
أن يرميه قاتله على باب غيره - ونعم , - هذا ممكن . أترى لو أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بقتل أهل مدينة بأسرها أو بقتل أمهاتنا وآبائنا وأنفسنا , كما أمر
موسى عليه السلام قومه بقتل أنفسهم إذ أخبر الله تعالى بذلك في قوله: {فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أكان يكون في الإسلام
نصيب لمن يعند عن ذلك ؟ إن هذا لعظيم جدا . والعجب كله أن ذلك الحكم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم حكم ظاهر معلق في دم رجل من بني حارثة من الأنصار على يهود
خيبر , وبينهما من المسافة ستة وتسعون ميلا مائة ميل غير أربعة أميال تتردد في ذلك
الرسل , وتختلف الكتب , ويقع في ذلك التوعد بالحرب . كما صح عنه عليه السلام أنه
قال: "إما أن يدوا صاحبكم أو يؤذنوا بحرب". فهذا أمر لا يشك ذو حس سليم
- من مؤمن أو كافر - في أنه لم تخف هذه القصة , ولا هذا الحكم على أحد من المسلمين
بالمدينة , ولا عن اليهود , ولا إسلام يومئذ في غير المدينة , إلا من كان مهاجرا
بالحبشة , أو مستضعفا بمكة ; لأن ذلك كان قبل فتح خيبر . لأن في الحديث الثابت
الذي أوردناه قبل من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار : أن
خيبر كانت يومئذ صلحا ولم تكن قط صلحا بعد فتحها عنوة , بل كانوا ذمة تجري عليهم
الصغار , لا يسمون صلحا , ولا يمكنون من أن يأذنوا بحرب . فصح يقينا أن ذلك الحكم
من رسول الله صلى الله عليه وسلم إجماع من جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أولهم
وآخرهم بيقين لا مجال للشك فيه .
قال أبو محمد رحمه الله: فإن قال قائل - : فما تقولون في قتيل يوجد وفيه رمق ,
فيحمل فيموت في مكان آخر , أو في الطريق , أو يموت إثر وجودهم له وفيه حياة ؟
فجوابنا : أنه لا قسامة في هذا , وإنما فيه التداعي فقط , يكلف أولياؤه البينة ,
سواء ادعى هو على أحد أو لم يدع , فإن جاءوا بالبينة قضى لهم بما شهدت به بينتهم ,
وإن لم يأتوا بالبينة حلف المدعى عليهم يمينا واحدة - إن كان واحدا - فإن كانوا
أكثر من واحد
(11/83)
حلفوا كلهم يمينا يمينا ولا بد ويجبرون
على ذلك أبدا . وبرهاننا على ذلك : هو أن الأصل المطرد في كل دعوى في الإسلام من
دم أو مال أو غير ذلك من الحقوق , ولا نحاش شيئا - هو "أن البينة على المدعي
واليمين على من ادعي عليه". كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:
"لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى
عليه". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينتك أو يمينه", وهذان
عامان , ولا يصح لأحد أن يخرج عنهما شيئا , إلا ما أخرجه نص أو إجماع , ولا نص إلا
في القتيل يوجد فقط , فمتى وجده حيا أحد من الناس فلا قسامة فيه ألبتة - وبالله
تعالى التوفيق . فإن وجد لا أثر فيه ؟ فقد قلنا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما حكم في مقتول , وليس كل ميت مقتولا , فإن تيقنا أنه قتل بأثر وجد فيه من :
ضرب أو شدخ أو خنق , أو ذبح أو طعن , أو جرح أو كسر , أو سم - فهو مقتول والقسامة
فيه . وإن تيقنا أنه ميت حتف أنفه لا أثر فيه ألبتة فلا قسامة ; لأنه ليست هي
الحال التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة . إن أشكل أمره فأمكن
أن يكون ميتا حتف أنفه , وأمكن أن يكون مقتولا , غمه بشيء وضعه على فيه فقطع نفسه
فمات : فالقسامة فيه . فإن قيل : لم قلتم هذا والأصل أن من مات غير مقتول فلا
قسامة فيه ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : إن المقتول أيضا ممكن أن يكون قتل
نفسه أو قتله سبع , فلما كان إمكان ما ذكرنا لا يمنع من القسامة لإمكان أن يكون قد
قتله من ادعى عليه أنه قتله , ووجبت القسامة ; لإمكان أن يكون قتله من ادعى عليه
أنه قتله - فليس هذا قياسا , فلا تكن غافلا متعسفا أننا قد قسنا أحدهما على الآخر
- ومعاذ الله من ذلك , لكنه باب واحد كله , إنما هو من وجد ميتا وادعى أولياؤه على
قوم أنهم قتلوه , أو على واحد أنه قتله وكان قتلهم له الذي ادعى أولياؤه عليهم
ممكنا - فهذه هي القصة التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينها
بالقسامة , ففرض علينا أن نحكم فيها بالقسامة إذا أمكن أن يكون من ادعى أولياؤه
حقا , وإنما يبطل الحكم بالقسامة إذا أيقنا أن الذي يدعونه باطل بيقين لا شك فيه.
قال أبو محمد رحمه الله: فسواء وجد القتيل في دار أعداء كفار , أو أعداء مؤمنين ,
أو أصدقاء كفار , أو أصدقاء مؤمنين , أو في دار أخيه , أو ابنه أو حيثما وجد ,
فالقسامة في ذلك - وهو قول ابن الزبير ومعاوية , بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم -
لا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة ; لأنهما حكما بالقسامة في إسماعيل بن هبار وجد
مقتولا
(11/84)
بالمدينة , وادعى قوم قتله على ثلاثة من قبائل شتى - مفترقة الدور - ولم يوجد المقتول بين أظهرهم وهم : زهرى , وتيمي , وليثي كناني , وبهذا نقول - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله: وسواء وجد المقتول في مسجد , أو في داره نفسه , أو في المسجد الجامع , أو في السوق , أو بالفلاة , أو في سفينة , أو نهر يجري فيه الماء , أو في بحر , أو على عنق إنسان , أو في سقف , أو في شجرة , أو في غار , أو على دابة واقفة , أو سائرة - كل ذلك سواء كما قلنا . ومتى ادعى أولياؤه - في كل ذلك - على أحد فالقسامة في ذلك كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولهم : إن وجد بين قريتين فإنه يذرع ما بينهما فإلى أيهما كان أقرب : حلفوا وغرموا مع قولهم : إن وجد في قرية حلفوا وودوا . فإن تعلقوا في ذلك مما ناه يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي نا يوسف بن أحمد نا أبو جعفر العقيلي نا محمد بن إسماعيل نا إسماعيل بن أبان الوراق نا أبو إسرائيل الملائي نا عطية - هو العوفي - عن أبي سعيد الخدري قال: "وجد قتيل بين قريتين فأمر النبي عليه السلام فقيس إلى أيهما أقرب ؟ فوجد أقرب إلى إحداهما بشبر , فكأني أنظر إلى شبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمن النبي عليه السلام من كانت أقرب إليه". ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه قال : "كانت أم عمرو بن سعد عند الجلاس بن سويد - هو ابن الصامت - فقال الجلاس في غزوة تبوك : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير ؟ فسمعها عويمر , فقال : والله إني لا شيء إن لم أرفعها إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن ينزل القرآن فيه , وأن أخلط بخطبته , ولنعم الأب هو لي فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا , فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس فعرفه - وهم يترحلون - فلم يتحرك أحد , كذلك كانوا يفعلون , لا يتحركون إذا نزل الوحي , فرفع عن النبي عليه السلام فقال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} إلى قوله {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} فقال الجلاس : استتب إلي ربي , فإني أتوب إلى الله , وأشهد له بصدق {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قال عروة : كان مولى الجلاس قتل في بني عمرو بن عوف , فأبى بنو عمرو بن عوف : أن يعقلوه , فلما قدم - النبي عليه السلام - جعل عقله على عمرو بن عوف , قال عروة : فما زال عمير منها بعليا حتى مات. ونا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا محمد بن عبد الله الشعيبي عن مكحول: "أن قتيلا وجد في هذيل , فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فدعا خمسين منهم , فأحلفهم , كل رجل
(11/85)
عن نفسه يمينا : بالله تعالى ما قتلنا
ولا علمنا قاتلا , ثم أغرمهم الدية". نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون
الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر
غندر نا شعبة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي , قال : إنما كانت القسامة
في الجاهلية إذا وجد القتيل بين ظهراني قوم أقسم منهم خمسون : ما قتلنا , ولا
علمنا قاتلا - فإن عجزت الأيمان ردت عليهم , ثم عقلوا . وروينا من طريق إسماعيل
الترمذي نا سعيد بن عمرو أبو عثمان نا إسماعيل بن عياش عن الشعبي عن مكحول نا عمرو
بن أبي خزاعة أنه: "قتل فيهم قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل
القسامة على خزاعة : بالله ما قتلنا ولا نعلم قاتلا , وحلف كل منهم عن نفسه ,
وغرموا الدية". قالوا : وقد ذكرنا هذا عن عمر , وعلي قبل.
قال أبو محمد رحمه الله: وكل هذه الأقاويل فلا يجب الاشتغال بها على ما نبين - إن
شاء الله تعالى : أما الحديث الذي صدرنا به : فهالك ; لأنه انفرد به عطية بن سعد
العوفي وهو ضعيف جدا ضعفه هشيم , وسفيان الثوري , ويحيى بن معين , وأحمد بن حنبل ,
وما ندري أحدا وثقه - وذكر عنه أحمد بن حنبل أنه بلغه عنه أنه كان يأتي الكلبي
الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث , ثم يكنيه بأبي سعيد ويحدث بها عن أبي سعيد , فيوهم
الناس أنه الخدري , وهذا من تلك الأحاديث - والله أعلم - فهو ساقط . ثم هو أيضا من
رواية أبي إسرائيل الملائي - هو إسماعيل بن أبي إسحاق , فهو بلية عن بلية ,
والملائي هذا ضعيف جدا - وليس في الذرع بين القريتين خبر غير هذا ألبتة , لا مسند
ولا مرسل . وأما حديث الجلاس بن سويد بن الصامت , وعمير بن سعد , فإنه مرسل عن
عروة بن الزبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه إنما فيه : أن مولى الجلاس
قتل في بني عمرو بن عوف , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر جعل عقله على
بني عمرو بن عوف , وليس في هذا أنه وجد مقتولا فيهم , ولا أنه عليه السلام أوجب
فيه قسامة - وهذا خلاف قولهم - وإنما فيه : أنه قتل فيهم , فقاتله منهم , وإذا كان
قاتله منهم فالعقل عليهم - فهذه صفة قتل الخطأ - وبه نقول - فبطل تمويههم بهذا
الخبر - وبالله تعالى التوفيق . وأما حديث عمرو بن أبي خزاعة فهو مجهول ومرسل -
فبطل . وأما ما ذكروه عن عمر بن الخطاب , وعلي بن أبي طالب فقد قدمنا أنه عن علي
لا يصح ألبتة ; لأنه عن أبي جعفر عنه - فهو منقطع , وعن الحارث الأعور , وقد وصفه
الشعبي بالكذب - وفيه أيضا : الحجاج بن أرطاة . وأما الرواية عن عمر فقد بينا أنها
لا تصح , وما نعلم في القرآن , ولا في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا في الإجماع , ولا في القياس : أن يحلف مدعى عليه ويغرم - والقوم أصحاب
(11/86)
قياس بزعمهم , فهلا قاسوا الدعوى في الدم على الدعوى في المال , وغير ذلك , ولكن لا السنة أصابوا , ولا القياس أحسنوا .
(11/87)
حكم القسامة في العبد يوجد مقتولاً
...
2150 - مسألة : وأما القسامة في العبد يوجد مقتولا ؟
فإن الناس اختلفوا في ذلك : فقال أبو حنيفة , ومحمد بن الحسن : القسامة في العبد
يوجد قتيلا كما هي في الحر , وعليهم قيمته في ثلاث سنين , لا يبلغ بها دية حر -
وروي عن أبي يوسف : لا قسامة فيه , ولا غرامة وهو هدر - وهو قول مالك , وأصحابه ,
وابن شبرمة . وقال الأوزاعي : لا قسامة فيه , ولكن يغرمون ثمنه . وقال : زفر ,
والشافعي : فيه القسامة والقيمة , إلا أن زفر قال : يقسمون ويغرمون قيمته - وقال
الشافعي : يحلف العبد ويغرم القوم قيمته . قال أبو محمد:وقولنا فيه إن القسامة فيه
كالحر - سواء سواء - في كل حكم من أحكامه ؟ فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت
به كل طائفة لقولها . فوجدنا من قال : لا قسامة في العبد يقولون : إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنما حكم بالقسامة في حر لا في عبد , فلا يجوز أن نحكم بها إلا
حيث حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : العبد مال كالبهيمة ولا
قسامة في البهيمة , ولا في سائر الأموال - وما نعلم لهم حجة غير هذا ؟ فلما نظرنا
في ذلك وجدنا هاتين الحجتين لا متعلق لهم فيهما : أما قولهم : إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يحكم بالقسامة إلا في حر ؟ فقد قلنا : في هذا ما كفى , ولم يقل
عليه السلام إني إنما حكمت بهذا ; لأنه كان حرا ؟ فنقول عليه ما لم يقل , ونخبر عن
مراده بما لم يخبر - عليه السلام - عن نفسه وهذا تكهن وتخرص بالباطل , وهذا لا يحل
أصلا , والعبد قتيل ففيه القسامة كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مزيد .
وأما قول من قال : إن العبد مال فلا قسامة فيه كما لا قسامة في البهيمة ؟ فقول
فاسد ; لأنه قياس , والقياس كله باطل , فالعبد - وإن كان مالا فأرادوا أن يجعلوا
له حكم الأموال والبهائم من أجل أنه مال , فإن الحر أيضا حيوان كما أن البهيمة
حيوان , فينبغي أن نبطل القسامة في الحر قياسا على بطلانها في سائر الحيوان ؟
وأيضا - فلا خلاف في أن الإثم عند الله عز وجل في قتل العبد , كالإثم في قتل الحر
; لأنهما جميعا نفس محرمة , وداخلان تحت قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وليس كذلك قاتل البهيمة . فوجب على أصولهم -
أن نحكم للعبد إذا وجد مقتولا بمثل الحكم في الحر إذا وجد مقتولا , لا بمثل الحكم
في البهيمة - لا سيما في قول الحنفيين الموجبين للقود بين الحر والعبد في العمد -
فهذه تسوية بينهما صحيحة , وكذلك في قول المالكيين , والشافعيين : الموجبين
للكفارة في قتل العبد خطأ , كما يوجبونها في قتل الحر خطأ
(11/87)
بخلاف قتل البهيمة خطأ ؟ فبطل كل ما شغبوا به , وصح أن القسامة واجبة في العبد كما هي في الحر من طريق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طريق القياس . وأما قول من ألزم قيمة العبد من وجد بين أظهرهم دون قسامة , فقول لا يؤيده قرآن ولا سنة , ولا إجماع ولا قياس , ولا نظر - وهو أكل مال بالباطل وإغرام قوم لم يثبت قبلهم حق ؟ قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ولا قسامة في بهيمة وجدت مقتولة , ولا في شيء وجد من الأموال مفسودا ; لأن البهيمة لا تسمى " قتيلا " في اللغة , ولا في الشريعة , وإنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة في القتيل , فلا يحل تعدي حكمه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} , {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} والأموال محرمة إلا بنص , أو إجماع ؟ فالواجب في البهيمة - توجد مقتولة أو تتلف - وفي الأموال كلها : ما أوجبه الله تعالى على لسان رسوله - عليه السلام - إذ يقول: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". فالواجب في ذلك إن ادعى صاحب البهيمة توجد مقتولة أو صاحب المال إتلاف ماله على أحد أن يكلفه البينة ؟ فإن أتى بها قضى له بها , وإن لم يأت بها حلف المدعى عليه ولا بد , ولا ضمان في ذلك إلا ببينة أو إقرار - وهذا حكم كل دعوى في دم , أو مال , أو غير ذلك , حاشا القتيل يوجد , ففيه القسامة كما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلف الناس في الذمي يوجد قتيلا ؟ فقالت طائفة : لا قسامة فيه - ورأى أبو حنيفة فيه القسامة . قال أبو محمد رحمه الله: والقول فيه كما قلنا في العبد ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان إنما حكم بالقسامة في مسلم ادعى على يهود خيبر فلم يقل عليه الصلاة والسلام : إنما حكمت بها , لأنه مسلم ادعى على يهودي ؟ فلا يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام ما لم يقله , لكنه - عليه السلام - حكم بها في قتيل وجد , ولم يخص عليه السلام حالا من حال , والذمي قتيل , فالقسامة فيه واجبة إذا ادعاها أولياؤه على ذمي أو ذميين ; لأنه إن ادعوها على مسلم - فحتى لو صح ما ادعوه بالبينة - فلا قود فيه ولا دية , ولكن إن أرادوا أن يقسموا ويوديه الإمام , فذلك لهم ; لما ذكرنا . وقد اتفق القائلون بالقسامة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإن كان - حكم بها في مسلم ادعى على يهود ؟ فإن الحكم بها واجب في مسلم ادعى - على مسلمين , وهذه غير الحال التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسلم ادعى بالقسامة على أصولهم , ولا فرق بين الحكم بها في مسلم على مسلمين , وبين الحكم بها في ذمي على ذميين أو على مسلمين ; لعموم حكمه - عليه السلام - وإنه لم يخص - عليه السلام - صفة من صفة - وبالله تعالى التوفيق.
(11/88)
2151 - مسألة : فيمن يحلف بالقسامة:
قال أبو محمد رحمه الله: اتفق القائلون بالقسامة على أنه يحلف فيها الرجال الأحرار
البالغون العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له , واختلفوا فيما وراء ذلك في وجوه
, منها : هل يحلف من لا يرث من العصبة أم لا ؟ وهل يحلف العبد في جملتهم أم لا ؟
وهل تحلف المرأة فيهم أم لا ؟ وهل يحلف المولى من فوق أم لا ؟ وهل يحلف المولى
الأسفل فيهم أم لا ؟ وهل يحلف الحليف أم لا ؟ فوجب لما تنازعوا ما أوجبه الله
تعالى علينا عند التنازع , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ؟ ففعلنا - فوجدنا رسول الله عليه
السلام قال في حديث القسامة - الذي لا يصح عنه غيره - كما قد تقصيناه قبل:
"تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم" فخاطب النبي - عليه الصلاة والسلام
- بني حارثة عصبة المقتول . وبيقين يدري كل ذي معرفة : أن ورثة عبد الله بن سهل -
رضي الله عنه - لم يكونوا خمسين , وما كان له وارث إلا أخوه عبد الرحمن وحده ,
وكان المخاطب بالتحليف ابني عمه محيصة , وحويصة , وهما غير وارثين له ؟ فصح - أن
العصبة يحلفون , وإن لم يكونوا وارثين . وصح - أن من نشط لليمين منهم كان ذلك له -
سواء كان بذلك أقرب إلى المقتول أو أبعد منه - لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خاطب ابني العم , كما خاطب الأخ خطابا مستويا , لم يقدم أحدا منهم . وكذلك لم يدخل
في التحليف إلا البطن الذي يعرف المقتول بالانتساب إليه ; لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم - لم يخاطب بذلك إلا بني حارثة الذي كان المقتول معروفا بالنسب فيهم ,
ولم يخاطب بذلك سائر بطون الأنصار - كبني عبد الأشهل وبني ظفر , وبني زعور , وهم
إخوة بني حارثة - فلا يجوز أن يدخل فيهم من لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم
.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن كان في العصبة عبد صريح النسب فيهم , إلا أن أباه
تزوج أمة لقوم فلحقه الرق لذلك , فإنه يحلف معهم إن شاء ; لأنه منهم , ولم يخص
عليه السلام إذ قال : خمسون منكم حرا من عبد - إذا كان منهم - كما كان عمار بن
ياسر - رضي الله عنه - من طينته : عنس , ولحقه الرق لبني مخزوم - وكما كان عامر بن
فهيرة أزديا صريحا فلحقه الرق ; لأن أباه تزوج فهيرة أمة أبي بكر رضي الله عنه -
وكما كان المقداد بن عمرو بهرانيا قحا , ولحقه الرق من قبل أمه - وبالله تعالى
التوفيق .
وأما المرأة - فقد ذكرنا قبل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحلف امرأة في
القسامة - وهي طالبة - فحلفت , وقضى لها بالدية على مولى لها . وقال المتأخرون :
لا تحلف المرأة أصلا - واحتجوا بأنه إنما يحلف من تلزمه له النصرة , وهذا باطل
مؤيد بباطل ; لأن النصرة واجبة على كل مسلم . بما روينا من طريق البخاري نا مسدد
نا معتمر بن سليمان عن
(11/89)
حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما , قالوا : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه". وروينا من طريق مسلم نا أحمد بن عبد الله بن يونس نا زهير - هو ابن معاوية - نا أشعث - هو ابن أبي الشعثاء - ني معاوية بن سويد بن مقرن قال : دخلنا على البراء بن عازب فسمعته يقول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع , ونهانا عن سبع أمرنا : بعيادة المريض , واتباع الجنائز , وتشميت العاطس , وإبرار القسم - أو المقسم - ونصر المظلوم , وإجابة الداعي , وإفشاء السلام". فقد افترض الله تعالى نصر إخواننا . قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . نعم , ونصر أهل الذمة فرض , قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} . فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام - فوجب أن تحلف المرأة إن شاءت - وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحلف خمسون منكم" وهذا لفظ يعم النساء والرجال . وإنما ذكرنا حكم عمر لئلا يدعوا لنا الإجماع . فأما الصبيان والمجانين , فغير مخاطبين أصلا بشيء من الدين - قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث . فذكر : الصبي والمجنون" مع أنه إجماع أن لا يحلفا في القسامة متيقن لا شك فيه . وأما المولى من فوق , والمولى من أسفل , والحليف , فإن قوما قالوا : قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مولى القوم منهم - ومولى القوم من أنفسهم". وأثبت الحلف في الجاهلية - قالوا : ونحن نعلم يقينا - أنه قد كان لبني حارثة موال من أسفل , وحلفاء , لا شك في ذلك , ولا مرية , فوجب أن يحلفوا معهم . قال أبو محمد رحمه الله: أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم - ومن أنفسهم" فصحيح - وكذلك كون بني حارثة لهم الحلفاء والموالي من أسفل بلا شك ؟ إلا أننا لسنا على يقين من أن بني حارثة إذ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم" حضر ذلك القول في ذلك المجلس حليف لهم , أو مولى لهم - ولو أيقنا أنه حضر هذا الخطاب مولى لهم , أو حليف لهم , لقلنا بأن الحليف والمولى يحلفون معهم , وإذ لا يقين عندنا أنه حضر هذا الخطاب حليف ومولى ؟ فلا يجوز أن يحلف في حكم منفرد برسمه , إلا من نحن على يقين من لزوم ذلك الحكم له . فإن قيل : قد قال صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم" يغني عن حضور الموالي هنالك , والحليف أيضا - يسمى في لغة العرب " مولى " كما قال عليه السلام للأنصار أول ما لقيهم: "أمن موالي يهود" يريد من حلفائهم ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : قد قال عليه الصلاة والسلام ما ذكرتم . وقال أيضا: "ابن أخت القوم منهم" , وقد أوردناه قبل بإسناده
(11/90)
في " كتاب العاقلة " ولا خلاف في أنه لا يحلف مع أخواله ؟ فنحن نقول : إن ابن أخت القوم منهم : حق ; لأنه متولد من امرأة هي منهم بحق الولادة , والحليف والمولى أيضا منهم ; لأنهما من جملتهم - وليس في هذا القول منه عليه السلام ما يوجب أن يحكم للمولى والحليف بكل حكم وجب للقوم . وقد صح إجماع أهل الحق على أن الخلافة لا يستحقها مولى قريش , ولا حليفهم , ولا ابن أخت القوم , وإن كان منهم - . والقسامة في العمد والخطأ سواء - فيما ذكرنا - فيمن يحلف فيها , ولا فرق .
(11/91)
2152 - مسألة : كم يحلف في القسامة:
اختلف الناس في هذا ؟ فقالت طائفة : لا يحلف إلا خمسون , فإن نقص من هذا العدد
واحد فأكثر : بطل حكم القسامة , وعاد الأمر إلى التداعي . وقال آخرون : إن نقص
واحد فصاعدا : رددت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين , فإن كان الأولياء اثنين فقط
بطلت القسامة في العمد - وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين - وهو قول روي عن
علماء أهل المدينة المتقدمين منهم . وقال آخرون : يحلف خمسون , فإن نقص من عددهم
واحد فصاعدا : ردت الأيمان عليهم , حتى يرجعوا إلى واحد , فإن لم يكن للمقتول إلا
ولي واحد : بطلت القسامة , وعاد الحكم إلى التداعي - وهذا قول مالك . وقال آخرون :
تردد الأيمان , وإن لم يكن إلا واحد فإنه يحلف خمسين يمينا وحده - وهو قول الشافعي
. وهكذا قالوا في أيمان المدعى عليهم : أنها تردد عليهم وإن لم يبق إلا واحد ويجبر
الكسر عليهم - فلما اختلفوا وجب أن ننظر : فوجدنا من قال بترديد الأيمان من طريق
عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : أن في كتاب لعمر بن
عبد العزيز "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الأيمان أن يحلف الأولياء ,
فإن لم يكن عدد عصبته تبلغ خمسين رددت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا". ومن
طريق ابن وهب أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب , قال : "قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسين يمينا , ثم يحق دم المقتول إذا حلف عليه , ثم
يقتل قاتله , أو تؤخذ ديته , ويحلف عليه أولياؤه - من كانوا قليلا أو كثيرا - فمن
ترك منهم اليمين ثبتت على من بقي ممن يحلف - فإن نكلوا كلهم : حلف المدعى عليهم
خمسين يمينا : ما قتلناه , ثم بطل دمه - وإن نكلوا كلهم : عقله المدعى عليهم - ولا
يطل دم مسلم إذا ادعي إلا بخمسين يمينا".
قال أبو محمد رحمه الله: هذا لا شيء ; لأنهما مرسلان , والمرسل لا تقوم به حجة :
أما حديث عمر بن عبد العزيز ففيه : أن يحلف الأولياء , وهذا لا يقول به الحنفيون ;
فإن تعلق به المالكيون , والشافعيون . قيل للمالكيين : هو أيضا حجة عليكم ; لأنه
ليس
(11/91)
فيه: أن لا يحلف إلا اثنان . وأيضا -
فليس هو بأولى من المرسل الذي بعده من طريق ابن وهب , وهو مخالف لقول جميعهم ; لأن
فيه : إن نكل الفريقان عقله المدعى عليهم ولا يقول به مالكي , ولا شافعي , وفيه
القود بالقسامة - ولا يقول به حنفي , ولا شافعي , وفيه ترديد الأيمان جملة دون تخصيص
أن يكونا اثنين كما يقول مالك .
قال أبو محمد رحمه الله: وأيضا - فإن القائلين بترديد الأيمان في القسامة قد
اختلفوا في الترديد , فروينا عن عمر : أنه ردد الأيمان عليهما الأول فالأول معناه
: كأنهم كانوا أربعين فحلفوا أربعين يمينا , فبقيت عشرة أيمان , فحلف العشرة الذين
حلفوا أولا فقط , وروي غير ذلك وأنها تردد على الاثنين فالاثنين : كما روينا من
طريق ابن وهب قال : قال ابن سمعان : سمعت من أدركت من علمائنا يقولون في القسامة
تكون في الخطأ على الوارث , فإن لم يكن للمقتول خطأ إلا وارث واحد حلف خمسين يمينا
مرددة ثم يدفع إليه الدية : فإن كانوا ابنين أو أخوين , ليس له وارث غيرهما فطاع
أحدهما بالقسامة وأبى الآخر , فعلى الذي طاع بالقسامة خمسة وعشرون مرددة عليه ثم
يدفع إليه نصف الدية وليس للآخر شيء : فإن كان الورثة ثلاثة رهط كانت القسامة
عليهم أثلاثا , فإن لم تنفق الأيمان عليهم جعل الفضل على الاثنين فالاثنين وأن
القسامة على الورثة بقدر الميراث , وقد ذكرنا بالإسناد المتصل عن سعيد بن المسيب ,
والزهري : أن ترديد الأيمان في القسامة لا يجوز , وأنه أمر حدث لم يكن قبل , وأن
أول من ردد الأيمان معاوية في القسامة , وقد جاء في هذا خبر مرسل لو وجدوا مثله
لطاروا به . فصح أن لا قسامة إلا بخمسين يحلفون : أن فلانا قتل صاحبنا عمدا أو خطأ
كيفما علموا من ذلك , فإن نقص منهم واحد فصاعدا بطلت القسامة وعاد الأمر إلى حكم
التداعي , ويحلفون في مجلس الحاكم وهم قعود حيث كانت وجوههم : بالله تعالى فقط ,
لا يكلفون زيادة على اسم الله تعالى لقول النبي عليه السلام: "من كان حالفا
فليحلف بالله أو ليصمت" ولا فرق بين زيادة "الذي لا إله إلا هو"
وزيادة "الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر" وكل
هذا حكم لم يأت به عن الله تعالى نص , ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن
أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولا أوجبه قياس , ولا نظر . وكذلك لا يكلفون
الوقوف عند اليمين , ولا صرف وجوههم إلى القبلة , ولا ينزعوا أرديتهم أو طيالستهم
- وكل هذه أحكام لم يأت بها نص قرآن , ولا سنة لا صحيحة , ولا سقيمة , ولا قول
صاحب , ولا إجماع , ولا قياس , ولا نظر . فإن قالوا : هو تهييب ليرتدع الكاذب ؟
قيل لهم : وهو تشهير وإن أردتم التهييب فأصعدوه المنار , أو ارفعوه على المنار ,
أو شدوا وسطه
(11/92)
بحبل وجردوه في سراويل - وكل هذا لا معنى له , ولا معنى لأن يحلف في الجامع إلا إن كان مجلس الحاكم فيه , أو لم يكن فيه على المحلف كلفة حركة ; لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة , بل إنما جاء ذلك عن عمر بن الخطاب , ومعاوية أن عمر جلب المدعى عليهم في القسامة من اليمن إلى مكة ومن الكوفة إلى مكة ليحلفوا فيها . وعن معاوية ثابت : أنه حملهم من المدينة إلى مكة للتحليف في الحطيم أو بين الركن والمقام , والمالكيون , والحنفيون , والشافعيون مخالفون لهما - رضي الله عنهما - في ذلك , وهم الآن يحتجون علينا بهما في الترديد الذي قد خالفوهما أيضا فيه نفسه - وبالله تعالى التوفيق . ونجمع هاهنا حكم القسامة - إن شاء الله تعالى - فنقول - وبالله تعالى التوفيق . إذا وجد قتيل في دار قوم , أو في صحراء , أو في مسجد , أو في سوق , أو في داره . أو حيث وجد , فادعى أولياؤه على واحد , أو على جماعة من أهل تلك الدار , أو من غيرهم , وأمكن أن يكون ما قالوه وادعوه حقا , ولم يتيقن كذبهم في ذلك فإنه يحلفون خمسين بالغا , عاقلا , من رجل أو امرأة من عصبة المقتول , لا نبالي ورثة أو غير ورثة بالله تعالى أن فلانا قتله , أو أن فلانا وفلانا وفلانا اشتركوا في قتله " . ثم لهم القود , أو الدية , أو المفاداة , فإن أبوا أن يحلفوا , وقالوا : لا ندري من قتله بعينه : حلف من أهل تلك المحلة خمسون كذلك , أو من أهل تلك القبيلة , يقول كل حالف منهم "بالله ما قتلت" ولا يكلف أكثر ويبرءون - فإن نكلوا أجبروا كلهم على اليمين - أحبوا أم كرهوا - حتى يحلف خمسون منهم كما قلنا . ولا يجوز أن يكلفوا أن يقولوا "ولا علمنا قاتلا" ; لأن علم المرء بمن قتل فلانا إنما هي شهادة , فإن أداها أدى ما عليه . فإن قبل : قبل , فذلك , وإن لم يقبل فلا حرج عليه . ولا يجوز أن يحلف أحد شهادة عنده ليؤديها بلا خلاف . فإن نقص عصبة المقتول واحد فأكثر من خمسين , أو وجد القتيل وفيه حياة , أو لم يرد الخمسون أن يحلفوا ولا رضوا بأيمان المدعى عليهم , فقد بطلت القسامة . فأما في نقصان العدد عن خمسين , وفي وجود القتيل حيا , فليس في هذا إلا حكم الدعوى , ويحلف المدعى عليه واحدا - كان أو أكثر - يمينا واحدة فقط , فإن نكل , أو نكلوا : أجبروا على الأيمان أحبوا أم كرهوا . وهكذا إن نقص عدد أهل المحلة المدعى عليهم فلا قسامة أصلا , وكذلك إن لم يحقق أولياء المقتول دعواهم وعصبته , فإن الحكم في ذلك واحد , وهو أن لا بد أن يودى المقتول - حرا كان أو عبدا - من بيت مال المسلمين , أو من سهم الغارمين من الصدقات كما أمر الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . وكما قال النبي عليه السلام: "من قتل له بعد مقالتي
(11/93)
هذه قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يقاد
أو أن يعقل". وليس القتل الواقع بين الناس إلا خطأ أو عمدا فقط , وفي كليهما
الدية بحكم الله تعالى , وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام . وأيضا - فإن الخطأ يكون
على عاقلة قاتل الخطأ من الغارمين , وفي العمد يكون القاتل إذا قبلت منه الدية
غارما من الغارمين , فحظهم في سهم الغارمين واجب , أو في كل مال موقوف لجميع مصالح
أمور المسلمين فهذا حكم كل مقتول بلا شك , حتى يثبت أنه قتل , لا عمدا ولا خطأ ,
لكن بفعل بهيمة , أو من له حكم البهيمة من المجانين , أو الصبيان , أو أنه قتل
نفسه عمدا - وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد رحمه الله: وبقي في القسامة خبر نورده - إن شاء الله تعالى - لئلا
يغتر به مغتر بجهل ضعفه , أو بظن ظان أنه أغفل ولم يذكر , فيكون نقصا من حكم السنة
في القسامة . وهو كما ناه عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن
وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : سمعت ابن سمعان يقول : أخبرني ابن شهاب عن عبد
الله بن موهب عن قبيصة بن ذؤيب الكعبي أنه قال : "بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم سرية فلقوا المشركين بإضم أو قريبا منه فهزم المشركون وغشي محلم بن
جثامة الليثي عامر بن الأضبط الأشجعي , فلما لحقه , قال عامر : أشهد أن لا إله إلا
الله , فلم ينته عنه لكلمته حتى قتله , فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل
إلى محلم فقال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ فقال : يا رسول الله إن كان
قالها فإنما تعوذ بها وهو كافر , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا ثقبت عن
قلبه ؟ يريد بذلك - والله أعلم - إنما يعرب اللسان عن القلب - وأقبل عيينة بن بدر
في قومه حمية وغضبا لقيس فقال : يا رسول الله قتل صاحبنا وهو مؤمن , فأقدنا ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم تحلفون بالله خمسين يمينا على خمسين رجلا منكم أن
كان صاحبكم قتل وهو مؤمن قد سمع إيمانه ؟ ففعلوا , فلما حلفوا قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم اعفوا عنه واقبلوا الدية , فقال عيينة بن حصن إنا نستحي أن تسمع
العرب أنا أكلنا ثمن صاحبنا ؟ وواثبه الأقرع بن حابس التميمي في قومه غضبا وحمية
لخندف فقال لعيينة بن حصن : بماذا استطلتم دم هذا الرجل ؟ فقال : أقسم منا خمسون
رجلا : أن صاحبنا قتل وهو مؤمن , فقال الأقرع : فسألكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن تعفوا عن قتله وتقبلوا الدية فأبيتم ؟ فأقسم : بالله لتقبلن من رسول الله
صلى الله عليه وسلم الذي دعاكم إليه , أو لآتين بمائة من بني تميم فيقسمون بالله
لقد قتل صاحبكم وهو كافر ؟ فقالوا عند ذلك : على رسلك , بل نقبل ما دعانا إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا :
يا رسول الله نقبل الذي دعوتنا إليه من الدية , فدية أبيك عبد الله بن عبد المطلب
؟ فوداه رسول الله
(11/94)
صلى الله عليه وسلم من الإبل".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا خبر لا ينسند ألبتة من طريق يعتد بها - وانفرد به
ابن سمعان - وهو مذكور بالكذب - بذكر قسامة خمسين على أنه قتل مسلما , وهو أيضا
مرسل - ولو صح لقلنا به , فإذ لم يصح فلا يجوز الأخذ به , وبالله تعالى التوفيق .
(11/95)
2153 - مسألة : في الدماء مشكل:
قال أبو محمد رحمه الله: نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل بن بهرام
الدينوري نا محمد بن جرير الطبري ني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم الزهري نا عمي -
هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - نا شعبة بن الحجاج
عن عبد الله بن أبي السفر عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مطيع بن الأسود عن أبيه
مطيع أخي بني عدي بن كعب - وكان اسمه العاص فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم
مطيعا - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يقول : "لا تغزى مكة
بعد هذا العام أبدا , ولا يقتل رجل من قريش بعد هذا العام صبرا أبدا". نا
أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل نا محمد بن جرير ني عبد الله بن محمد
الزهري نا سفيان بن عيينة عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي قال : قال
الحارث بن مالك بن البرصاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تغزى
مكة بعد هذا العام أبدا". نا أحمد بن محمد نا أحمد بن الفضل أنا محمد بن جرير
نا نصر بن عبد الرحمن الأودي نا محمد بن عبيد عن زكريا عن الشعبي عن الحارث بن
مالك بن البرصاء قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو
يقول : لا تغزى مكة بعدها إلى يوم القيامة". قال علي رحمه الله : الأول حديث
صحيح , والآخر إن صح سماع الشعبي من الحارث بن مالك فهما صحيحان - والحارث هذا :
هو الحارث بن قيس بن عون بن جابر بن عبد مناف بن كنانة بن أشجع بن عامر بن ليث بن
بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن
عدنان .
قال أبو محمد رحمه الله: ووجه هذه الأحاديث بين , وهو أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم إنما أخبر بهذا عن نفسه : أنه لا يغزو مكة بعدها أبدا , وأنه لا يقتل بعدها
رجلا من قريش صبرا أبدا , وكان هذا كما قال عليه السلام , فما قتل بعدها قرشيا .
برهان هذا : أنه عليه السلام قد أنذر بقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه - وأنذر
بغزو الكعبة - وهو كما روينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا ابن أبي عدي عن
عثمان عن غياث عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري فذكر الحديث , وفيه أن
رجلا استفتح فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "افتح له وبشره بالجنة
على بلوى تكون قال : فذهبت فإذا عثمان بن عفان ففتحت له وبشرته بالجنة , وقلت الذي
قال , فقال : اللهم صبرا , والله المستعان".
(11/95)
ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة ,
وابن أبي عمر , وحرملة بن يحيى , قال أبو بكر , وابن أبي عمر : نا سفيان بن عيينة
عن زياد بن سعد , وقال حرملة : نا ابن وهب أخبرني يونس - هو ابن يزيد - ثم اتفق
زياد , ويونس كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن قوما من قريش سيقتلون صبرا . ولا خلاف بين أحد من
الأمة كلها في أن قرشيا لو قتل لقتل , ولو زنى وهو محصن لرجم حتى يموت - وهكذا
نقول فيه : لو ارتد , أو حارب أو حد في الخمر ثلاثا ثم شرب الرابعة - وكذلك قال
الله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} . ولا خلاف بين أحد من
الأمة في أن مكة - أعزها الله وحرسها - لو غلب عليها الكفار , أو المحاربون , أو
البغاة , فمنعوا فيها من إظهار الحق - أن فرضا على الأمة غزوهم لا غزو مكة , فإن
انقادوا , أو خرجوا فذلك , وإن لم يمتنعوا ولا خرجوا : أنهم يخرجون منها , فإن هم
امتنعوا وقاتلوا , فلا خلاف في أنهم يقاتلون فيها وعند الكعبة - فكانت هذه
الإجماعات , وهذه النصوص وإنذار النبي عليه السلام بهدم ذي السويقتين للكعبة .
وبالضرورة ندري أن ذلك لا يكون ألبتة إلا بعد غزو منه - وقد غزاها الحصين بن نمير
, والحجاج بن يوسف , وسليمان بن الحسن الجياني - لعنهم الله أجمعين - وألحدوا فيها
وهتكوا حرمة البيت , فمن رام للكعبة بالمنجنيق - وهو الفاسق الحجاج - وقتل داخل
المسجد الحرام أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير , وقتل عبد الله بن صفوان بن أمية
رضي الله عنهما وهو متعلق بأستار الكعبة , ومن قالع للحجر الأسود , وسالب المسلمين
المقتولين حولها - وهو الكافر الملعون - سليمان بن الحسن القرمطي , فكان هذا كله
مبينا إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما أخبر في حديث مطيع بن الأسود ,
والحارث بن البرصاء , وأنه عليه السلام إنما أخبر بذلك عن نفسه فقط - وهذا من
أعلام نبوته عليه السلام أن أخبر بأنه لا يغزوها إلى يوم القيامة , وأنه عليه
السلام لا يقتل أبدا رجلا من قريش صبرا , فكان كذلك . ولا يجوز أن يقتصر على بعض
كلامه صلى الله عليه وآله وسلم دون بعض , فهذا تحكم فاسد , بل تضم أقواله عليه
السلام كلها بعضها إلى بعض , فكلها حق . ولا يجوز أن يحمل قوله عليه السلام:
"لا تغزى مكة بعد هذا العام إلى يوم القيامة , ولا يقتل قرشي صبرا بعد هذا
اليوم" على الأمر , لما ذكرنا من صحة الإجماع على وجوب قتل القرشي قودا أو
رجما في الزنى - وهو محصن - على وجوب غزو من لاذ بمكة من أهل الكفر والحرابة
والبغي ؟
(11/96)
فإن قيل : إنما منع بذلك من غزوها ظلما , ومن قتل قرشي صبرا ظلما ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق : هذه أحكام لا يختلف فيها حكم مكة وغيرها , ولا حكم قريش وغيرهم , فلا يحل بلا خلاف : أن تغزى بلد من البلاد ظلما , ولا أن يقتل أحد من الأمة ظلما , وكأن يكون الكلام حينئذ عاريا من الفائدة , وهذا لا يجوز - وبالله تعالى التوفيق .
(11/97)
2154 - مسألة : قتل أهل البغي:
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ} الآية . فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين : قتال البغاة , وقتال
المحاربين - فالبغاة قسمان لا ثالث لهما : إما قسم خرجوا على تأويل في الدين
فأخطئوا فيه , كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق . وإما قسم
أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام حق , أو على من هو في السيرة مثلهم , فإن
تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق , أو إلى أخذ مال من لقوا , أو سفك الدماء هملا
: انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين , وهم ما لم يفعلوا ذلك في حكم البغاة . فالقسم
الأول من أهل البغي يبين حكمهم : ما نا هشام بن سعد الخير نا عبد الجبار بن أحمد
المقرئ نا الحسن بن الحسين البجيرمي نا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا
أبو داود الطيالسي نا شعبة أخبرني أيوب السختياني , وخالد الحذاء , كلاهما قال :
عن الحسن البصري أخبرتنا أمنا عن أم سلمة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال في عمار تقتلك الفئة الباغية".
قال أبو محمد رحمه الله: وإنما قتل عمار رضي الله عنه - أصحاب معاوية رضي الله عنه
وكانوا متأولين تأويلهم فيه - وإن أخطئوا الحق - مأجورون أجرا واحدا : لقصدهم
الخير . ويكون من المتأولين قوم لا يعذرون , ولا أجر لهم : كما روينا من طريق
البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش نا خيثمة نا سويد بن غفلة قال قال
علي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان ,
أحداث الأسنان , سفهاء الأحلام , يقولون من قول خير البرية , لا يجاوز إيمانهم حناجرهم
, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية , فأينما لقيتموهم فاقتلوهم , فإن في
قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة". وروينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى
نا محمد بن أبي عدي عن سليمان هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من
الناس , سيماهم التحالق , هم شر الخلق , أو من شر الخلق , تقتلهم أدنى الطائفتين
إلى الحق" وذكر الحديث.
(11/97)
قال أبو محمد رحمه الله: ففي هذا الحديث نص جلي بما قلنا , وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء القوم فذمهم أشد الذم , وأنهم من شر الخلق , وأنهم يخرجون في فرقة من الناس . فصح أن أولئك أيضا : مفترقون , وأن الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتين المفترقتين إلى الحق , فجعل عليه السلام في الافتراق تفاضلا , وجعل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنو من الحق - وإن كانت الأخرى أولى به - ولم يجعل للثالثة شيئا من الدنو إلى الحق . فصح أن التأويل يختلف , فأي طائفة تأولت في بغيتها طمسا لشيء من السنة , كمن قام برأي الخوارج ليخرج الأمر عن قريش , أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم , أو تكفير أهل الذنوب , أو استقراض المسلمين , أو قتل الأطفال والنساء , وإظهار القول بإبطال القدر , أو إبطال الرؤية , أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا إلا حتى يكون , أو إلى البراءة عن بعض الصحابة , أو إبطال الشفاعة , أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الرد إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى المنع من الزكاة , أو من أداء حق من مسلم , أو حق لله تعالى : فهؤلاء لا يعذرون بالتأويل الفاسد ; لأنها جهالة تامة . وأما من دعا إلى تأويل لا يحل به سنة , لكن مثل تأويل معاوية في أن يقتص من قتلة عثمان قبل البيعة لعلي : فهذا يعذر ; لأنه ليس فيه إحالة شيء من الدين , وإنما هو خطأ خاص في قصة بعينها لا تتعدى . ومن قام لعرض دنيا فقط , كما فعل يزيد بن معاوية , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان في القيام على ابن الزبير , وكما فعل مروان بن محمد في القيام على يزيد بن الوليد , وكمن قام أيضا عن مروان , فهؤلاء لا يعذرون , لأنهم لا تأويل لهم أصلا , وهو بغي مجرد . وأما من دعا إلى أمر بمعروف , أو نهي عن منكر , وإظهار القرآن , والسنن , والحكم بالعدل : فليس باغيا , بل الباغي من خالفه - وبالله تعالى التوفيق . وهكذا إذا أريد بظلم فمنع من نفسه - سواء أراده الإمام أو غيره - وهذا مكان اختلف الناس فيه : فقالت طائفة : إن السلطان في هذا بخلاف غيره , ولا يحارب السلطان وإن أراد ظلما . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني أن رجالا سألوا ابن سيرين فقالوا : أتينا الحرورية زمان كذا وكذا , لا يسألون عن شيء غير أنهم يقتلون من لقوا ؟ فقال ابن سيرين : ما علمت أن أحدا كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثما , ولا من قتل من أراد قتالك إلا السلطان , فإن للسلطان نحوا . وخالفهم آخرون فقالوا : السلطان وغيره سواء , كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى عامل له أن يأخذ
(11/98)
الوهط فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو بن
العاص فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته , وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "من قتل دون ماله - مظلوما - فهو شهيد". ومن طريق عبد
الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار , قال: إن عبد الله بن عمرو بن العاص
تيسر للقتال دون الوهط , ثم قال : مالي لا أقاتل دونه وقد سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد". قال ابن جريج :
وأخبرني سليمان الأحول أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره , قال : لما كان بين
عبد الله بن عمرو بن العاص , وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان وتيسروا للقتال ركب
خالد بن العاص - هو ابن هشام بن المغيرة المخزومي - إلى عبد الله بن عمرو فوعظه ,
فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: "من قتل على ماله فهو شهيد".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص بقية الصحابة وبحضرة
سائرهم - رضي الله عنهم - يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير
المؤمنين إذ أمره بقبض " الوهط " ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير
واجب , وما كان معاوية - رحمه الله - ليأخذ ظلما صراحا , لكن أراد ذلك بوجه تأوله
بلا شك , ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحق , ولبس السلاح للقتال , ولا مخالف
له في ذلك من الصحابة - رضي الله عنهم وهكذا جاء عن أبي حنيفة , والشافعي , وأبي
سليمان , وأصحابهم : أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سئلوا عن خروجهم ؟ فإن ذكروا
مظلمة ظلموها أنصفوا , وإلا دعوا إلى الفيئة , فإن فاءوا فلا شيء عليهم , وإن أبوا
قوتلوا , ولا نرى هذا إلا قول مالك أيضا . فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نرد ما اختلفوا
فيه إلى ما افترض الله تعالى علينا الرد إليه , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. ففعلنا : فلم
نجد الله تعالى فرق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره , بل أمر
تعالى بقتال من بغى على أخيه المسلم - عموما - حتى يفيء إلى أمر الله تعالى:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وكذلك قوله عليه السلام: "من قتل دون ماله
فهو شهيد" أيضا - عموم - لم يخص معه سلطانا من غيره , ولا فرق في قرآن , ولا
حديث , ولا إجماع ولا قياس : بين من أريد ماله , أو أريد دمه , أو أريد فرج امرأته
, أو أريد ذلك من جميع المسلمين . وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله , وهذا لا
يحل بلا خلاف - وبالله تعالى التوفيق.
(11/99)
قال أبو محمد رحمه الله: ومن أسر من أهل
البغي , فإن الناس قد اختلفوا فيه : أيقتل أم لا ؟ فقال بعض أصحاب أبي حنيفة : ما
دام القتال قائما فإنه يقتل أسراهم , فإذا انجلت الحرب فلا يقتل منهم أسير.
قال أبو محمد رحمه الله: واحتج هؤلاء بأن عليا - رضي الله عنه - قتل ابن يثربي -
وقد أتي به أسيرا وقال الشافعي : لا يحل أن يقتل منهم أسير أصلا ما دامت الحرب
قائمة , ولا بعد تمام الحرب - وبهذا نقول . برهان ذلك : أن النبي صلى الله عليه
وسلم قد صح عنه أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد
إيمان , أو زنى بعد إحصان , أو نفس بنفس". وأباح الله تعالى دم المحارب ,
وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دم من حد في الخمر ثم شربها في الرابعة . فكل
من ورد نص بإباحة دمه : مباح الدم , وكل من لم يبح الله تعالى دمه ولا رسوله صلى
الله عليه وسلم حرام الدم بقول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ,
وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"
وأما احتجاجهم بفعل علي - رضي الله عنه - فلا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها - أنه لا
حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني - أنه لا يصح مسندا
إلى علي رضي الله عنه . والثالث - أنه لو صح لكان حجة عليهم لا لهم ; لأن ذلك
الخبر إنما هو في ابن يثربي ارتجز يوم ذلك , فقال:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ... قاتل عليا وهند الجمل
ثم ابن صوحان على دين علي
فأسر , فأتي به علي بن أبي طالب , فقال له : استبقني ؟ فقال له علي : أبعد إقرارك
بقتل ثلاثة من المسلمين : عليا , وهندا , وابن صوحان - وأمر بضرب عنقه - فإنما
قتله علي قودا بنص كلامه - وهم لا يرون القود في مثل هذا ؟ فعاد احتجاجهم به حجة
عليهم , ولاح أنهم مخالفون لقول علي في ذلك ولفعله والرابع - أنه قد صح عن علي
النهي عن قتل الأسراء في الجمل وصفين - على ما نذكر إن شاء الله تعالى - فبطل
تعلقهم بفعل علي في ذلك , وما نعلمهم شغبوا بشيء غير هذا . فإن قالوا : قد كان
قتله - بلا خلاف - مباحا قبل الإسار , فهو على ذلك بعد الإسار حتى يمنع منه نص ,
أو إجماع ؟ قلنا لهم : هذا باطل , وما حل قتله قط قبل الإسار مطلقا , لكن حل قتله
ما دام باغيا مدافعا , فإذا لم يكن باغيا مدافعا : حرم قتله - وهو إذا أسر فليس
حينئذ باغيا , ولا مدافعا : فدمه حرام . وكذلك لو ترك القتال وقعد مكانه ولم يدافع
لحرم دمه - وإن لم يؤسر - وبالله تعالى التوفيق. وإنما قال الله تعالى:
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ولم يقل :
قاتلوا التي تبقى , والقتال والمقاتلة فعل من فاعلين , فإنما حل قتال الباغي ,
ومقاتلته , ولم يحل قتله قط في غير المقاتلة , والقتال , فهذا نص القرآن - وبالله
تعالى التوفيق . فإن قالوا
(11/100)
نقيسه على المحارب ؟ قلنا : المحارب
المقدور عليه يقتل إن رأى الإمام ذلك قبل تمام الحرب وبعدها بلا خلاف في أن حكمه
في كلا الأمرين سواء - وأيضا فليس يختلف أحد في أن حكم الباغي غير حكم المحارب ,
وبالتفريق بين حكمهما جاء القرآن .
قال أبو محمد رحمه الله: واختلفوا أيضا في الإجهاز على جرحاهم , والقول فيهم
كالقول في الأسراء سواء , لأن الجريح إذا قدر عليه فهو أسير , وأما ما لم يقدر
عليه وكان ممتنعا فهو باغ كسائر أصحابه . وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن
جريج قال : أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
قال : قال علي بن أبي طالب : لا يذفف على جريح , ولا يقتل أسير , ولا يتبع مدبر -
وكان لا يأخذ مالا لمقتول , يقول : من اعترف شيئا فليأخذه . ومن طريق عبد الرزاق
عن يحيى بن العلاء عن جويبر قال : أخبرتني امرأة من بني أسد قالت : سمعت عمارا بعد
ما فرغ علي من أصحاب الجمل ينادي : لا تقتلن مدبرا ولا مقبلا , ولا تذففوا على
جريح , ولا تدخلوا دارا , ومن ألقى السلاح فهو آمن , كالمأسور , قد قدرنا أن نصلح
بينه وبين المبغي عليه بالعدل , وهو أن نمنعه من البغي , بأن نمسكه ولا ندعه يقاتل
. وكذلك الجريح إذا قدرنا عليه , ونص هذه الآية يقتضي تحريم دم الأسير , ومن قدر
عليه ; لأن فيها إيجاب الإصلاح بينهما - نعني الباغي والمبغي عليه - ولا يجوز أن
يصلح بين حي وميت , وإنما يصلح بين حيين - فصح تحريم دم الأسير , ومن قدر عليه من
أهل البغي بيقين . واختلفوا هل يجوز اتباع مدبرهم ؟ فقالت طائفة : لا يتبع المدبر
منهم أصلا . وقال آخرون : إن كانوا تاركين للقتال جملة , منصرفين إلى بيوتهم , فلا
يحل اتباعهم أصلا , وإن كانوا منحازين إلى فئة أو لائذين بمعقل يمتنعون فيه , أو
زائلين عن الغالبين لهم من أهل العدل إلى مكان يأمنونهم فيه لمجيء الليل , أو ببعد
الشقة ثم يعودون إلى حالهم : فيتبعون.
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا نقول ; لأنه نص القرآن ; لأن الله تعالى افترض
علينا قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله تعالى , فإذا فاءوا حرم علينا قتلهم وقتالهم
, فهم إذا أدبروا تاركين لبغيهم , راجعين إلى منازلهم , أو متفرقين عما هم عليه ,
فبتركهم البغي صاروا فائين إلى أمر الله , فإذا فاءوا إلى أمر الله فقد حرم قتلهم
, وإذا حرم قتلهم فلا وجه لاتباعهم , ولا شيء لنا عندهم حينئذ . وأما إذا كان
إدبارهم ليتخلصوا من غلبة أهل الحق - وهم باقون على بغيهم - فقتالهم باق علينا بعد
; لأنهم لم يفيئوا بعد إلى أمر الله تعالى . فإن احتج محتج بما ناه عبد الله بن
أحمد الطلمنكي نا أحمد بن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن
عبد الخالق البزار نا محمد بن معمر نا عبد الملك بن عبد العزيز
(11/101)
انا كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله
فيمن بغى من هذه الأمة ؟ قال : الله ورسوله أعلم , قال : لا يجهز على جريحها , ولا
يقتل أسيرها , ولا يطلب هاربها , ولا يقسم فيئها" فإن كوثر بن حكيم ساقط
ألبتة متروك الحديث - ولو صح لكان حجة لنا ; لأن الهارب : هو التارك لما هو فيه ,
فأما المتخلص ; ليعود فليس هاربا - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: واختلفوا أيضا في قتال أهل البغي ؟ فقال بعض أصحاب الحديث
: تقسم أموالهم وتخمس - وبه قال الحسن بن حي : أموال اللصوص المحاربين مغنومة
مخمسة , ما كان منها في عسكرهم . وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة : ما وجد في أيدي
أهل البغي من السلاح والكراع فإنه فيء يقسم ويخمس - ولم ير ذلك في غير السلاح
والكراع . وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه : أما ما دامت الحرب قائمة فإنه يستعان في
قتالهم بما أخذ من سلاحهم وكراعهم خاصة ; فإذا تلف من ذلك شيء في حال الحرب فلا
ضمان فيه , فإذا وضعت الحرب أوزارها لم يؤخذ شيء من أموالهم لا سلاح , ولا كراع ,
ولا غير ذلك - يرد عليهم ما بقي مما قاتلوا به في الحرب من سلاحهم وكراعهم وقال
مالك , والشافعي , وأصحابنا : لا يحل لنا شيء من أموالهم : لا سلاح , ولا كراع ,
ولا غير ذلك - لا في حال الحرب ولا بعدها ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا
كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه , بعون الله تعالى . فنظرنا فيما
احتج به أبو حنيفة , وأصحابه , بأن يستعمل سلاحهم , وكراعهم ما دامت الحرب قائمة -
فلم نجد لهم في ذلك حجة أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا
من قول صاحب , ولا إجماع - وما كان هكذا فهو باطل بلا شك , وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" والسلاح والكراع مال
من مالهم فهو محرم على غيرهم , لكن الواجب أن يحال بينهم وبين كل ما يستعينون به
على باطلهم ; لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . فصح بهذا يقينا أن تخليتهم
يستعملون السلاح في دماء أهل العدل والكراع في قتالهم تعاون على الإثم والعدوان
فهو محرم بنص القرآن . وصح أن الحيلولة بينهم وبين السلاح والكراع في حال البغي :
تعاون على البر والتقوى , وأما استعماله فلا يحل ; لما ذكرنا , إلا أن يضطر إليه
فيجوز حينئذ , ومن اضطر إلى الدفاع عن نفسه بحق ففرض عليه أن يدفع الظلم عن نفسه ,
وعن غيره , بما أمكنه من سلاح نفسه أو سلاح غيره , فإن لم يفعل فهو ملق
(11/102)
بيده إلى التهلكة , وهذا حرام عليه -
فسقط قول أبي حنيفة وأصحابه . ثم نظرنا في قول أبي يوسف فلم نجد لهم شبهة إلا خبرا
رواه فطر بن خليفة عن محمد بن الحنفية : أن عليا قسم يوم الجمل فيهم بين أصحابه ما
قوتل به من الكراع والسلاح - وهذا خبر فاسد , لأن فطرا ضعيف . وذكروا أيضا ما كتب
به إلى يوسف بن عبد البر النمري قال : نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن عيسى
بن رفاعة الخولاني نا بكر بن سهل نا نعيم بن حماد نا محمد بن فضيل عن عطاء بن
السائب عن أبي البختري , والشعبي , وأصحاب علي " عن علي أنه لما ظهر على
أصحاب الجمل بالبصرة يوم الجمل جعل لهم ما في عسكر القوم من السلاح , فقالوا : كيف
تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ولا نساؤهم ؟ قال : هاتوا سهامكم فأقرعوا على
عائشة , فقالوا : نستغفر الله , فخصمهم علي رضي الله عنه وعرفهم أنها إذا لم تحل
لم يحل بنوها " وهذا أيضا أثره ضعيف , ومداره على نعيم بن حماد وهو الذي روى
بإسناد أحسن من هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على بضع وسبعين
فرقة أشدها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون
الحلال" فإن أجازوه هنا فليجيزوه هنالك . ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأنه
لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم قولة لعلي رضي الله عنه قد
خالفوها بآرائهم . ثم نظرنا فيما ذهب إليه الحسن بن حي فلم نجد لهم علقة إلا من
طريق عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أصحابه عن حكيم بن جبير عن عصمة الأسدي قال : بهش
الناس إلى علي فقالوا : اقسم بيننا نساءهم وذراريهم , فقال علي : عنتني الرجال
فعنيتها وهذه ذرية قوم مسلمين في دارهم , لا سبيل لكم عليهم ما أوت الدار من مال
فهو لهم , وما أجلبوا به عليكم في عسكرهم فهو لكم مغنم .
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا خبر في غاية الفساد ; لأن ابن عيينة - رحمه الله -
رواه عن أصحابه الذين لا يدرى من هم , ثم عن حكيم بن جبير - وهو هالك كذاب فلم يبق
إلا من قال : إن جميع أموالهم مخمسة مغنومة , وقول من قال : لا يحل منها شيء
فنظرنا في تلك . فوجدناهم يحتجون بما نا به حمام بن أحمد قال نا عباس بن أصبغ نا
محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن زهير بن حرب نا عفان بن مسلم نا محمد بن
ميمون نا محمد بن سيرين عن أخيه معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى
فوقه سيماهم التحليق والتسبيد". ومن طريق مسلم ني محمد بن المثنى نا محمد بن
أبي عدي عن
(11/103)
سليمان - هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي
سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذكر قوما يكونون في أمته
يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق وهم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى
الطائفتين إلى الحق" , وذكر باقي الخبر . قالوا : وقد قال الله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات أولئك هم خير البرية} . قالوا : فمن الباطل المتيقن أن يكونوا مسلمين
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم شر الخلق , أو من شر الخلق , فالخلق
والبرية سواء , قالوا : فإذ هم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شر
الخلق , وقد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه أبدا , فهم
بيقين من المشركين , الذين قال الله تعالى : إنهم {شر البرية} لا من الذين آمنوا
الذين شهد الله تعالى لهم أنهم من {خير البرية} فأموالهم مغنومة مخمسة كأموال
الكفار.
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا قول صحيح , واحتجاج صادق , إلا أنه مجمل غير مرتب
والصحيح من هذا هو جمع الآيات والأحاديث , فمن خرج بتأويل هو فيه مخطئ , لم يخالف
فيه الإجماع , ولا قصد فيه خلاف القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وهو يتعمد خلافهما , أو يعند عنهما بعد قيام الحجة عليه , أو خرج طالبا غلبة في
دنيا , ولم يخف طريقا , ولا سفك الدم جزافا , ولا أخذ المال ظلما , فهذا هو الباغي
الذي يصلح بينه وبين من بغى عليه , على ما في آية البغاة وعلى ما قال عليه السلام
من خروج المارقة بين الطائفتين من أمته , إحداهما باغية , وهي التي تقتل عمارا ,
والأخرى أولى بالحق , وحمد عليه السلام من أصلح بينهما . كما روينا من طريق
البخاري نا صدقة نا ابن عيينة نا أبو موسى عن الحسن سمع أبا بكرة قال: "سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر , والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس
مرة , وإليه مرة , ويقول : ابني هذا سيد , ولعل الله يصلح به بين فئتين من
المسلمين" فإن زاد الأمر حتى يخيفوا السبيل , ويأخذوا مال المسلمين غلبة ,
بلا تأويل , أو يسفكوا دما كذلك , فهؤلاء محاربون لهم حكم المحاربة , فإن زاد
الأمر حتى يخرقوا الإجماع فهم مرتدون : تغنم أموالهم كلها حينئذ وتخمس وتقسم -
وبالله تعالى التوفيق . ولا يحل مال المحارب , ولا مال الباغي ولا شيء منه ;
لأنهما وإن ظلما فهما مسلمان - ولا يحل شيء من مال المسلم , إلا بحق , وقد يحل دمه
, ولا يحل ماله , كالزاني المحصن , والقاتل عمدا - وقد يحل ماله ولا يحل دمه ,
كالغاصب ونحو ذلك , وإنما يتبع النص , فما أحل الله تعالى ورسوله عليه الصلاة
والسلام من دم أو مال حل , وما
(11/104)
حرما من دم أو مال فهو حرام , والأصل في ذلك التحريم حتى يأتي إحلال , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وبالله تعالى التوفيق .
(11/105)
2155- مسألة : ما أصابه الباغي من دم أو
مال:
اختلف الناس فيما أصابوه في حال القتال من دم أو مال أو فرج , فقال أبو حنيفة ,
ومالك , والشافعي , وبعض أصحابنا : لا يؤاخذون بشيء من ذلك , ولا قود في الدماء
ولا دية , ولا ضمان فيما أتلفوه من الأموال , إلا أن يوجد بأيديهم شيء قائم مما
أخذوه فيرد إلى أصحابه . وقال الأوزاعي : إن كانت الفئتان إحداهما باغية والأخرى
عادلة في سواد العامة , فإمام الجماعة المصلح بينهما يأخذ من الباغية على الأخرى
ما أصابت منها بالقصاص في القتلى , والجراحة , كما كان أمر تينك الفئتين اللتين
نزل فيهما القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الولاة .
قال أبو محمد رحمه الله: وقال بعض أصحابنا : القصاص عليهم , وضمان ما أتلفوا
كغيرهم , فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بمن الله تعالى
وطوله - فوجدنا من قال : لا يؤاخذون بشيء , يحتجون من طريق عبد الرزاق عن معمر
أخبرني الزهري : أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها ,
وشهدت على قومها بالشرك , ولحقت بالحرورية , فتزوجت فيهم : ثم إنها رجعت إلى قومها
ثانية ؟ فكتب إليه : أما بعد فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير , فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج
استحلوه بتأويل القرآن , إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد إلى صاحبه وإني أرى أن ترد
إلى زوجها , وأن يحد من افترى عليها . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : حدثنا عيسى
بن يونس عن معمر عن الزهري قال : هاجت ريح الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم متوافرون , فاجتمع رأيهم على أنه لا يقاد ولا يودى ما أصيب على تأويل القرآن
إلا ما يوجد بعينه . وعن سعيد بن المسيب أنه قال : إذا التقت الفئتان فما كان
بينهما من دم أو جراحة فهو هدر , ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية , حتى فرغ منها
؟ قال : فكل طائفة ترى الأخرى باغية . قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة
غير هذا , وهذا ليس بشيء لوجهين . أحدهما - أنه منقطع لأن الزهري رحمه الله لم
يدرك تلك الفتنة ولا ولد إلا بعدها ببضع عشرة سنة والثاني - أنه لو صح - كما قال -
لما كان هذا إلا رأيا من بعض الصحابة لا نصا ولا إجماعا منهم , ولا حجة في رأي
بعضهم دون بعض , وإنما افترض الله تعالى علينا أهل الإسلام اتباع القرآن , وما صح
عن النبي عليه السلام , أو ما أجمعت عليه الأمة , ولم
(11/105)
يأمر الله تعالى قط باتباع ما أجمع عليه
بعض أولي الأمر منا , وإذا وقعت تلك الفتنة فبلا شك أن الماضين بالموت من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أكثر من الباقين , ولقد كان أصحاب بدر
ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا , وعدوا , إذ مات عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فما وجد
منهم في الحياة إلا نحو مائة واحدة فقط , فبطل التعلق بما رواه الزهري لو صح ,
فكيف وهو لا يصح أصلا ؟ ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال أخبرني غير واحد من عبد
القيس عن حميد بن هلال عن أبيه , قال : لقد أتيت الخوارج وإنهم لأحب قوم على وجه
الأرض إلي فلم أزل فيهم حتى اختلفوا , فقيل لعلي بن أبي طالب قاتلهم , فقال : لا ,
حتى يقتلوا , فمر بهم رجل استنكروا هيئته , فثاروا إليه , فإذا هو عبد الله بن
خباب , فقالوا : حدثنا ما سمعت أباك يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
سمعته يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون فتنة القاعد فيها
خير من القائم , والقائم خير من الماشي , والماشي خير من الساعي والساعي في النار"
قال : فأخذوه وأم ولده فذبحوهما جميعا على شط النهر فلقد رأيت دماهما في النهر
كأنهما شريكان فأخبر بذلك علي بن أبي طالب فقال : أقيدوني من ابن خباب ؟ قالوا :
كلنا قتلناه فحينئذ استحل قتالهم , فقتلهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا أثر أصح من أثر الزهري , أو مثله , بأن علي بن أبي
طالب رأى القود على الخوارج فيمن قتلوه بتأويل القرآن , بخلاف ما ذكر الزهري من
إجماعهم . فصح الخلاف في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم , وبلا شك ندري أن القائلين
من الصحابة رضي الله عنهم لأبي بكر الصديق أن لا يقاتل أهل الردة أكثر عددا وأتم فضلا
, من الذين ذكر الزهري عنه أنه إجماع لا يصح على أن لا يؤخذ أحد بدم أصابه على
تأويل القرآن . لا بقود ولا بدية , وأن لا يضمن أحد مالا أصابه على تأويل القرآن ,
ولم يكن قولهم ذلك حجة يسوغ الأخذ بمثل ما قالوا , وإنما رجع الأمر فيما ذكر
الزهري إجماعا إلى حكم الوالي , ولم يكن إلا عليا , والأشهر عنه إيجاب القود كما
ذكرنا , أو معاوية , وإنما كان الحق في ذلك بيد علي لا بيده , وإنما كان معاوية
مجتهدا مخطئا مأجورا فقط - وبالله تعالى التوفيق . وأما احتجاج ابن المسيب "
بأن كل طائفة ترى الأخرى باغية " فليس بشيء ; لأن الله تعالى لم يكلنا إلى
رأي الطائفتين , لكن أمر من صح عنده بغي إحداهما بقتال الباغية , ولو كان ما قاله
سعيد رضي الله عنه - لما كانت إحداهما أولى بالمقاتلة من الأخرى , ولبطلت الآية
وهذا لا يجوز .
(11/106)
قال أبو محمد رحمه الله: والقول عندنا أن البغاة كما قدمنا في صدر كلامنا ثلاث أصناف : صنف تأولوا تأويلا يخفى وجهه على كثير من أهل العلم , كمن تعلق بآية خصتها أخرى , أو بحديث قد خصه آخر , أو نسخها نص آخر , فهؤلاء كما قلنا معذورون , حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدا , أو يتلف مالا مجتهدا , أو يقضي في فرج خطأ مجتهدا , ولم تقم عليه الحجة في ذلك , ففي الدم دية على بيت المال , لا على الباغي , ولا على عاقلته ويضمن المال كل من أتلفه , ونسخ كل ما حكموا به , ولا حد عليه في وطء فرج جهل تحريمه ما لم يعلم بالتحريم - وهكذا أيضا من تأول تأويلا خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته . وأما من تأول تأويلا فاسدا لا يعذر فيه , لكن خرق الإجماع - أي شيء كان - ولم يتعلق بقرآن ولا سنة , ولا قامت عليه الحجة وفهمها , وتأول تأويلا يسوغ , وقامت عليه الحجة وعند , فعلى من قتل هكذا القود في النفس فما دونها , والحد فيما أصاب بوطء حرام , وضمان ما استهلك من مال . وهكذا من قام في طلب دنيا مجردا بلا تأويل , ولا يعذر هذا أصلا ; لأنه عامد لما يدري أنه حرام - وبالله تعالى التوفيق . وهكذا من قام عصبية ولا فرق - وقد تكون الفئتان باغيتين إذا قامتا معا في باطل , فإذا كان هكذا فالقود أيضا على القاتل , من أي الطائفتين كان - وهكذا القول في المحاربين يقتل بعضهم بعضا . قال أبو محمد رحمه الله: ونذكر البرهان في كل هذا فصلا فصلا : أما قولنا : من لم تقم عليه الحجة فلا قود عليه ولا حد , فلقول الله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فلا حجة إلا على من بلغته الحجة , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وجعفر بن أبي طالب ومن معه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم بأرض الحبشة , بينهم المهامه الفيح , والبلاد البعيدة , ولجة البحر - والفرائض تنزل بالمدينة ولا تبلغهم إلا بعد عام أو أعوام كثيرة , وما لزمتهم ملامة عند الله تعالى , ولا عند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عند أحد من الأمة . فصح يقينا : أن من جهل حكم شيء من الشريعة فهو غير مؤاخذ به إلا في ضمان ما أتلف من مال فقط ; لأنه استهلكه بغير حق , فعليه متى علم أن يرده إلى صاحبه إن أمكن , وأن لا يصر على ما فعل وهو يعلم - . وأما وجوب الدية في ذلك على بيت المال خاصة فلما ذكرناه في " كتاب الدماء والقصاص " ولما رويناه من طريق أبي داود ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا ابن أبي ذئب ني سعيد - هو ابن أبي سعيد المقبري - قال سمعت أبا شريح الكعبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن
(11/107)
يقتلوا" وإنما قتلوه متأولين يوم
الفتح . وأما من قامت عليه الحجة وبلغه حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه
وسلم وفهمه ولم يكن عنده إلا العناد والتعلق : إما بتقليد مجرد , أو برأي مفرد أو
بقياس , فليس معذورا أو عليه القود أو الدية , وضمان ما أتلف , والحد في الفرج ;
لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وهؤلاء معتدون بلا شك فعليهم مثل ما اعتدوا به - وبالله
تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما من قتلوه فقد قال قوم : إنه شهيد فلا يغسل ولا يصلى
عليه , لكن يدفن كما هو وقال آخرون : بل يغسل ويكفن ويصلى عليه - وبهذا نأخذ ;
لأنهم , وإن كانوا شهداء - كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا عمرو بن علي نا عبد
الرحمن بن مهدي نا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي
عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد بن
عمرو بن نفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو
شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد". ومن طريق أحمد بن
شعيب أخبرني محمد بن رافع , ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قالا : نا سليمان - هو
ابن داود الهاشمي نا إبراهيم - هو ابن سعد - عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار
بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون
دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد". ومن طريق أحمد بن شعيب يبلغ به
النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد"
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن من قتله من البغاة فإنما قتل على أحد هذه الوجوه ,
فهو في ظاهر الأمر شهيد , وليس كل شهيد يدفن دون غسل ولا صلاة . وقد صح : أن
المبطون شهيد , والمطعون شهيد , والغريق شهيد , وصاحب ذات الجنب شهيد , والمرأة
تموت بجمع شهيد , وصاحب الهدم شهيد - وكل هؤلاء لا خلاف في أنهم يغسلون ويكفنون
ويصلى عليهم . والأصل في كل مسلم أن يغسل ويكفن ويصلى عليه , إلا من خصه نص أو
إجماع , ولا نص , ولا إجماع , إلا فيمن قتله الكفار في المعترك ومات في مصرعه -
فهؤلاء هم الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزملوا بدمائهم في ثيابهم
ويدفنوا كما هم دون غسل ولا تكفين - ولا يجب فرضا عليهم صلاة , فبقي سائر الشهداء
, والموتى , على حكم الإسلام في الغسل , والتكفين والصلاة - وبالله تعالى التوفيق
.
(11/108)
2156 - مسألة : هل للعادل أن يعمد قتل
أبيه الباغي أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: قال قائلون : لا يحل لمن كان من أهل العدل قتل أبيه , أو
(11/108)
أخيه , أو ذي رحم من أهل البغي عمدا , لكن إن ضربه ليصير بذلك غير ممتنع من أخذ الحق منه , فلا حرج عليه في ذلك . قال أبو محمد رحمه الله: ولسنا نقول بهذا , فإن بر الوالدين وصلة الرحم إنما أمر الله تعالى بهما ما لم يكن في ذلك معصية لله تعالى وإلا فلا , وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طاعة لأحد في معصية الله تعالى" وقد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية ولم يخص بذلك ابنا من أجنبي , وأمر بإقامة الحدود كذلك قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية . {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية . وقتال أهل البغي قتال في الدين , إلا أننا لا نختار أن يعمد المرء إلى أبيه - خاصة - أو جده , ما دام يجد غيرهما , فإن لم يفعل فلا حرج . وهكذا القول في إقامة الحد عليهما , وعلى الأم والجدة في القتل , والقطع والقصاص , والجلد , ولا فرق . فأما إذا رأى العادل أباه الباغي , أو جده , يقصد إلى مسلم يريد قتله , أو ظلمه , ففرض على الابن حينئذ أن لا يشتغل بغيره عنه , وفرض عليه دفعه عن المسلم - بأي وجه أمكنه - وإن كان في ذلك قتل الأب , والجد , والأم . برهان ذلك : ما روينا من طريق البخاري نا سعيد بن الربيع نا شعبة عن الأشعث بن سليم قال : سمعت معاوية بن سويد بن مقرن يقول : سمعت البراء بن عازب قال : "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع - فذكر - عيادة المرض , واتباع الجنائز , وتشميت العاطس , ورد السلام , ونصر المظلوم , وإجابة الداعي , وإبرار المقسم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما , قيل : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تمنعه , تأخذ فوق يده" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" فهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسلم المرء أخاه المسلم لظلم ظالم , وأن يأخذ فوق يد كل ظالم , وأن ينصر كل مظلوم , فإذا رأى المسلم أباه الباغي , أو ذا رحمه - كذلك - يريد ظلم مسلم , أو ذمي , ففرض عليه منعه من ذلك , بكل ما لا يقدر على منعه إلا به من قتال أو قتل , فما دون ذلك على عموم هذه الأحاديث وإنما افترض الله تعالى الإحسان إلى الأبوين , وأن لا ينهرا , وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة , فيما ليس فيه معصية الله تعالى فقط . وهكذا نقول : أنه لا يحل لمسلم له أب كافر أو أم كافرة , أن يهديهما إلى طريق الكنيسة , ولا أن يحملهما إليها , ولا أن يأخذ لهما قربانا , ولا أن يسعى لهما في خمر لشريعتهما الفاسدة , ولا أن يعينهما على شيء من معاصي الله تعالى من زنى , أو سرقة , أو غير ذلك , وأن لا يدعه يفعل شيئا من ذلك - وهو قادر على منعه , قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا
(11/109)
عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهذه
وصية جامعة لكل خير في العالم .
قال أبو محمد رحمه الله: وأما الفئتان الباغيتان معا فلا يحل للمسلمين إلا منعهما
وقتالهم جميعا ; لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى , فمن عجز عن ذلك وسعته
التقية وأن يلزم منزله , ومسجده , ومعاشه , ولا مزيد , وكلاهما لا يدعو إلى الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر . برهان ذلك : ما روينا من طريق مسلم ني عمرو الناقد نا
سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال : سمعت أبا هريرة يقول :
قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة
تلعنه , وحتى إن كان أخاه لأبيه وأمه" ومن طريق مسلم نا محمد بن رافع نا عبد
الرزاق نا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما نا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكر أحاديث : منها : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا
يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة
من النار". ومن طريق أحمد بن شعيب نا محمود بن غيلان نا أبو داود الطيالسي عن
شعبة أخبرني منصور - هو ابن المعتمر - قال : سمعت ربعيا - هو ابن حراش - يحدث عن
أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أشار المسلم على
أخيه بالسلاح فهما على حرف جهنم فإذا قتله خرا فيها جميعا". فهذه صفة
الطائفتين إذا كانتا باغيتين , ولا يمكن أن تكونا معا عادلتين ونسأل الله تعالى
العافية . وإنما قلنا : أن يقاد للباغي إذا قوتل ليفيء إلى أمر الله فقط , ولم
نحله بغير هذا الوجه , فمن قتل باغيا ليفيء إلى أمر الله تعالى فقد قتله كما أمره
الله تعالى - وكذلك لو قطع له عضوا في الحرب , أو عقر تحته فرسا , أو أفسد له
لباسا في المضاربة , فلا ضمان في شيء من ذلك ; لأنه فعل كل ذلك كما أمره الله
تعالى , ومن فعل كما أمره الله تعالى فقد أحسن , ومن أحسن فلا شيء عليه , لقوله
تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.
(11/110)
2157 - مسألة : أحكام أهل البغي:
اختلف الناس في أحكام أهل البغي فقال أبو حنيفة , وأصحابه - حاشا الطحاوي - أنه ما
حكم به قاضي أهل البغي فلا يجوز لقاضي أهل العدل أن يجيز ذلك , ولا أن يقبل كتابه
قالوا : وما أخذوه من صدقة فلا يأخذها الإمام ثانية , لكن الأفضل لمن أخذوها منه
أن يؤديها مرة أخرى . قالوا : وأما من مر عليهم من التجار فعشروه فإن الإمام يأخذه
ثانية من التجار . وقال الشافعي : ينفذ كل قضية قضوها إذا وافقت الحق , ويجزي ما
أخذوه من الزكاة , وما أقاموا من الحدود - وهو قول مالك . وقال أبو سليمان -
وأصحابنا لا ينفذ شيء من قضاياهم , ولا بد من إعادتها ولا يجزئ ما أخذوه من
الصدقات , ولا ما أقاموا من الحدود , ولا بد من أخذ الصدقات , ومن
(11/110)
إقامة الحدود ثانية .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه بعون
الله تعالى . فنظرنا في قول أبي حنيفة , فوجدناهم يحتجون بأن قالوا : إن أخذ
الصدقات إنما جاء التضييع من قبل الإمام فقد يجب عليه دفعهم , وأما من مر عليهم
فقد عرض ماله للتلف.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير هذا وهذا لا شيء ; لأنه لم يأت نص
ولا إجماع بأن تضييع الإمام يسقط الحقوق الواجبات لله تعالى وأيضا - فكما أخذوا
العشر ثانية ممن جعلوا ذنبه أنه عرض ماله للتلف فكذلك يلزمهم أن يأخذوا الزكاة
ثانية , ويجعلوا ذنب أهلها أنهم عرضوا أموالهم للتلف , فقد كان يمكنهم الهرب عن
موضع البغاة , أو يعذروا المعشرين . ثم نظرنا فيما احتج به مالك , والشافعي ,
فوجدناهم يقولون : إنهم إذا حكموا بالحق كما أمر الله تعالى ; وإذا أخذوا الزكاة
كما أمر الله تعالى , وأقاموا الحدود كما أمر الله تعالى , فقد تأدى كل ذلك كما
أمر الله تعالى , وإذا تأدى كما أمر الله تعالى , فلا يجوز أن يقام ذلك على أهله
ثانية , فيكون ذلك ظلما . وقال بعضهم : كما لا يؤاخذون بما أصابوا من دم أو مال ,
فكذلك لا يؤاخذون - هم ولا غيرهم - بما حكموا أو أقاموا من حد , أو أخذوا من مال
صدقة , أو غيرها - بحق أو بباطل - ولا فرق . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ليس
كما قالوا , وذلك أننا نسألهم , فنقول لهم : ماذا تقولون : إذا كان الإمام حاضرا
ممكنا عدلا , أيحل أن يأخذ صدقة دونه , أو يقيم حدا دونه , أو يحكم بين اثنين دونه
, أم لا يحل ذلك ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن قالوا : هذا كله مباح : خرقوا الإجماع
, وتركوا قولهم , وأبطلوا الأمانة التي افترضها الله تعالى , وأوجبوا أن لا حاجة
بالناس إلى إمام - وهذا خلاف الإجماع والنص . وإن قالوا : بل لا يحل أخذ شيء من
ذلك كله ما دام الإمام قائما فقد صح أن لا يحل أن يكون حاكما إلا من ولاه الإمام
الحكم , ولا أن يكون آخذا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك , ولا أن يكون مصدقا إلا
من ولاه الإمام أخذها , فإن ذلك كذلك فكل من أقام - حدا , أو أخذ صدقة , أو قضى
قضية , وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام , فلم يحكم كما أمره الله تعالى ,
ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى , ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالى ; فإذ لم
يفعل ذلك كما أمر , فلم يفعل شيئا من ذلك بحق , وإذا لم يفعل ذلك بحق , فإنما فعله
بباطل , وإذ فعله بباطل فقد تعدى ; وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا
ليس عليه أمرنا فهو رد" فإذ هو ظلم , فالظلم لا حكم
(11/111)
له إلا رده ونقضه فصح من هذا أن كل من
أخذ منهم صدقة فعليه ردها ; لأنه أخذها بغير حق , فهو متعد , فعليه ضمان ما أخذ ,
إلا أن يوصله إلى الأصناف المذكورة في القرآن فإذا أوصلها إليهم فقد تأدت الزكاة
إلى أهلها - وبالله تعالى التوفيق . وصح من هذا أن كل حد أقاموه فهو مظلمة لا يعتد
به , وتعاد الحدود ثانية ولا بد , وتؤخذ الدية من مال من قتلوه قودا , وأن يفسخ كل
حكم حكموه ولا بد . ويبين ما قلناه نصا : ما روينا من طريق مسلم : نا محمد بن نمير
نا عبد الله - هو ابن إدريس - نا ابن عجلان , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وعبيد الله
بن عمر , كلهم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده , قال :
"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر
واليسر والمنشط والمكره , وعلى أثرة علينا , وأن لا ننازع الأمر أهله , وعلى أن
نقول بالحق أينما كنا , لا نخاف في الله لومة لائم". ومن طريق مسلم نا أبو
بكر بن نافع ثنا غندر ثنا شعبة عن زياد بن علاقة قال : سمعت عرفجة , قال : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنه سيكون هنات وهنات فمن أراد أن
يفرق أمر هذه الأمة - وهي جميع - فاضربوه بالسيف , كائنا من كان".
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن لهذا الأمر أهلا لا يحل لأحد أن ينازعهم إياه ,
وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل . فصح أن المنازعين في الملك والرياسة
مريدون تفريق جماعة هذه الأمة , وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم , فهم عصاة بكل ذلك
. فصح أن أهل البغي عصاة في منازعتهم الإمام الواجب الطاعة , وإذ هم فيه عصاة ,
فكل حكم حكموه مما هو إلى إمام , وكل زكاة قبضوها مما قبضها إلى الإمام , وكل حد
أقاموه مما إقامته إلى الإمام - فكل ذلك منهم ظلم وعدوان . ومن الباطل أن تنوب
معصية الله تعالى عن طاعته , وأن يجزي الظلم عن العدل , وأن يقوم الباطل مقام الحق
, وأن يغني العدوان عن الإنصاف . فصح ما قلنا نصا ووجب رد كل ما عملوا من ذلك لقول
النبي عليه السلام: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" فإن لم يكن
للناس إمام ممكن فقد قلنا : إن كل من قام بالحق حينئذ فهو نافذ , فالبغاة - إن
كانوا مسلمين - فكل ما فعلوه في ذلك فهو نافذ - وأما إن كانوا كفارا فلا ينفذ من
حكم الكافر في دين الله تعالى شيء أصلا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/112)
2158 - مسألة : هل يستعان على أهل البغي
بأهل الحرب ؟ أو بأهل الذمة ؟ أو بأهل بغي آخرين:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : لا يجوز أن يستعان
عليهم بحربي , ولا بذمي , ولا بمن يستحل قتالهم , مدبرين - وهذا قول الشافعي
(11/112)
رضي الله عنه وقال أصحاب أبي حنيفة : لا
بأس بأن يستعان عليهم بأهل الحرب , وبأهل الذمة , وبأمثالهم من أهل البغي , وقد
ذكرنا هذا في " كتاب الجهاد " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: "إننا لا نستعين بمشرك" وهذا عموم مانع من أن يستعان به في ولاية
, أو قتال , أو شيء من الأشياء , إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة به فيه :
كخدمة الدابة , أو الاستئجار , أو قضاء الحاجة , ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن
الصغار . والمشرك : اسم يقع على الذمي والحربي .
قال أبو محمد رحمه الله: هذا عندنا - ما دام في أهل العدل منعة - فإن أشرفوا على
الهلكة واضطروا ولم تكن لهم حيلة , فلا بأس بأن يلجئوا إلى أهل الحرب , وأن
يمتنعوا بأهل الذمة , ما أيقنو أنهم في استنصارهم : لا يؤذون مسلما ولا ذميا - في
دم أو مال أو حرمة مما لا يحل . برهان ذلك : قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وهذا عموم لكل
من اضطر إليه , إلا ما منع منه نص , أو إجماع . فإن علم المسلم - واحدا كان أو
جماعة - أن من استنصر به من أهل الحرب , أو الذمة يؤذون مسلما , أو ذميا فيما لا
يحل , فحرام عليه أن يستعين بهما , وإن هلك , لكن يصبر لأمر الله تعالى - وإن تلفت
نفسه وأهله وماله - أو يقاتل حتى يموت شهيدا كريما , فالموت لا بد منه , ولا يتعدى
أحدا أجله . برهان هذا : أنه لا يحل لأحد أن يدفع ظلما عن نفسه بظلم يوصله إلى
غيره - هذا ما لا خلاف فيه . وأما الاستعانة عليهم ببغاة أمثالهم - فقد منع من ذلك
قوم - واحتجوا بقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} .
وأجازه آخرون - وبه نأخذ ; لأننا لا نتخذهم عضدا , ومعاذ الله , ولكن نضربهم
بأمثالهم صيانة لأهل العدل كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضاً} وإن أمكننا أن نضرب بين أهل الحرب من الكفار , حتى يقاتل
بعضهم بعضا , ويدخل إليهم من المسلمين من يتوصل بهم إلى أذى غيرهم , بذلك حسن .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله ينصر هذا الدين بقوم لا
خلاق لهم" كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب
أخبرني عمران بن بكار بن راشد ثنا أبو اليمان نا شعيب - هو ابن أبي حمزة - عن
الزهري أخبرني سعيد بن المسيب نا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". وحدثنا عبد الله
بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن سهل بن عسكر ثنا عبد
الرزاق أنا رياح بن زيد عن معمر بن راشد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن
مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن الله ليؤيد هذا الدين
بأقوام لا خلاق لهم".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا يبيح الاستعانة على أهل الحرب بأمثالهم , وعلى أهل
(11/113)
البغي بأمثالهم من المسلمين الفجار الذين لا خلاق لهم . وأيضا - فإن الفاسق مفترض عليه من الجهاد , ومن دفع أهل البغي , كالذي افترض على المؤمن الفاضل , فلا يحل منعهم من ذلك , بل الفرض أن يدعو إلى ذلك - وبالله تعالى التوفيق .
(11/114)
2159 - مسألة: ولو أن رجلا من أهل العدل
قتل في الحرب رجلا من أهل العدل , ثم قال : حسبته من أهل البغي
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن رجلا من أهل العدل قتل في الحرب رجلا من أهل العدل
, ثم قال : حسبته من أهل البغي , فإن كان ما يقول ممكنا , فالقول قوله مع يمينه ,
ثم يضمن ديته في ماله ; لأنه لم يقتله خطأ بل قتله عمدا قصدا إلى قتله إلا أنه لم
يعلم أنه حرام الدم , فلذلك لم يقد منه - وإن لم يمكن ما قال فعليه القود , أو
الدية باختيار أولياء المقتول وهكذا القول - سواء سواء , إذا قتله في أرض الحرب ,
ولا فرق . وكذلك لو رجع إلينا بعض أهل البغي تائبا فقتله رجل من أهل العدل وقال :
إني ظننته دخل ليطلب غرة , فإن نكل هؤلاء عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا ولا بد ; لأن
اليمين قد وجبت عليهم , ولا قود أصلا ; لأنه لم يثبت عليهم ما يوجب القود من
التعمد وهم عالمون . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا كانت جماعة من أهل العدل والسنة
في عسكر الخوارج وأهل البغي , فقتل بعضهم بعضا عمدا , وجرح بعضهم بعضا عمدا , وأخذ
بعضهم مال بعض عمدا , فلا شيء في ذلك : لا قود , ولا دية - غلب أهل الجماعة
والإمام العدل عليهم بعد ذلك : أو لم يغلبوا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ما لهذا القول جواب إلا أنه حكم إبليس , والله ما ندري
كيف انشرحت نفس مسلم لاعتقاد هذا القول المعاند لله تعالى , ولرسوله عليه السلام ,
أو كيف انطلق لسان مؤمن يدري أن الله تعالى أمره ونهاه بهذا القول السخيف - ونسأل
الله تعالى عافية شاملة - كأن أصحاب هذا القول لم يسمعوا ما أنزل الله تعالى من
وجوب القصاص في النفوس , والجراح , ومن تحريم الأموال , في القرآن , وعلى لسان
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا قول ما نعلم فيه لأبي حنيفة سلفا : لا من
صاحب ولا من تابع , ونبرأ إلى الله تعالى من هذا القول , فإنما موهوا بما روي من
حديث عبيد الله بن عمر : كما ثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري
ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , وذكر قتل عمر , قال : فأخبرني سعيد بن المسيب
أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ولم نجرب عليه كذبة قط , قال : حين قتل عمر بن
الخطاب انتهيت إلى الهرمزان , وجفينة , وأبي لؤلؤة - وهم بحي - فتبعتهم فثاروا
وسقط من بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه . وقال عبد الرحمن فانظروا بما قتل به
عمر فوجدوه خنجرا على النعت الذي نعت عبد الرحمن , فخرج عبيد الله بن عمر بن
الخطاب مشتملا على السيف حتى أتى الهرمزان فقال : اصحبني
(11/114)
ننظر إلى فرس لي - وكان الهرمزان بصيرا
بالخيل - فخرج بين يديه , فعلاه عبيد الله بالسيف , فلما وجد حد السيف قال : لا إله
إلا الله , فقتله . ثم أتى جفينة - وكان نصرانيا - فلما أشرف له علاه بالسيف فضربه
فصلب ما بين عينيه - ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة - جارية صغيرة تدعي الإسلام - فقتلها ,
فأظلمت الأرض يومئذ على أهلها . - ثم أقبل بالسيف صلتا في يده وهو يقول : والله لا
أترك في المدينة سبيا إلا قتلته وغيرهم ؟ كأنه يعرض بناس من المهاجرين , فجعلوا
يقولون له : ألق السيف , فأبى - ويهابونه أن يقربوا منه - حتى أتاه عمرو بن العاص
فقال : أعطني السيف يا ابن أخي ؟ فأعطاه إياه , ثم ثار إليه عثمان فأخذ برأسه ,
فتناصبا حتى حجز الناس بينهما . - فلما ولي عثمان قال : أشيروا علي في هذا الرجل
الذي فتق في الإسلام ما فتق - يعني عبيد الله بن عمر - فأشار عليه المهاجرون أن
يقتله , وقال جماعة من الناس : قتل عمر بالأمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم ,
أبعد الله الهرمزان , وجفينة ؟ فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين , إن
الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس من سلطان , إنما كان هذا الأمر ولا
سلطان لك , فاصفح عنه يا أمير المؤمنين قال : فتفرق الناس على خطبة عمرو , وودى
عثمان الرجلين والجارية . قال الزهري : وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب
أن أباه قال : فيرحم الله حفصة أن كانت لمن شيع عبيد الله على قتل الهرمزان ,
وجفينة - قال معمر : قال غير الزهري : قال عثمان : أنا ولي الهرمزان , وجفينة ,
والجارية , وإني قد جعلتها دية.
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روينا عن أحمد بن محمد عن أحمد بن الفضل عن محمد بن
جرير بإسناد لا يحضرني الآن ذكره : أن عثمان أقاد ولد الهرمزان من عبيد الله بن
عمر بن الخطاب , وأن ولد الهرمزان عفا عنه.
قال أبو محمد رحمه الله: وأي ذلك كان فلا حجة لهم في شيء منه ; لأن عبيد الله بن
عمر لم يقتل من قتل في عسكر أهل البغي , ولا في وقت كان فيه باغ من المسلمين على
وجه الأرض يعرف في دار الهجرة , ومحلة الجماعة وصحة الألفة , وفي أفضل عصابة
وأعدلها . وهذا خلاف قولهم في المسألة التي نحن فيها من قتل في عسكر أهل البغي وهم
لا يقولون بإهدار القود عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر , فقد خالفوا عثمان
ومن معه في هذه القصة . وأيضا - فإن في هذا الخبر : أن عثمان جعلها دية - وهذا
خلاف قولهم ; لأنهم لا يرون في ذلك دية , والواجب أن نحكم في كل ذلك كما نحكم في
محلة الجماعة ولا فرق ; لأن دين الله تعالى واحد في كل مكان , وكل زمان , وعلى كل
لسان , وما خص الله تعالى بإيجاب القود , وأخذ الحدود , وضمان الأموال وإقام
الصلاة , وإيتاء
(11/115)
الزكاة وصوم رمضان , وسائر شرائع الإسلام مكانا دون مكان , ولا زمانا دون زمان , ولا حالا دون حال , ولا أمة دون أمة - وبالله تعالى التوفيق .
(11/116)
2160 - مسألة :ولو كان في الباغين غلام
لم يبلغ أو امرأة
قال أبو محمد رحمه الله: ولو كان في الباغين غلام لم يبلغ أو امرأة فقاتلا دوفعا ,
فإن أدى ذلك إلى قتلهما في حال المقاتلة فهما هدر ; لأن فرضا على كل من أراده مريد
بغير حق أن يدفع عن نفسه الضر كيف أمكنه - ولا دية في ذلك , ولا قود . قال الله
تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن أهل البغي سألوا النظرة حتى ينظروا في أمورهم ؟
فإن لم يكن ذلك مكيدة , فعليه أن ينظرهم مدة يمكن في مثلها النظر فقط - وهذا مقدار
الدعاء , وبيان الحجة فقط , وأما ما زاد على ذلك فلا يجوز ; لقول الله تعالى:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فلم يفسح الله تعالى في ترك قتالهم إلا مدة الإصلاح
, فمن أبى قوتل . وأيضا - فإن فرضا على الإمام إنفاذ الحقوق عليهم وتأمين الناس من
جميعهم , وأن يأخذوهم بالافتراق إلى مصالح دينهم ودنياهم . ومن قال غير هذا سألناه
: ماذا يقول , إن استنظروه يوما أو يومين أو ثلاثة , وهكذا نزيده ساعة ساعة ,
ويوما يوما حتى يبلغ ذلك إلى انقضاء أعمارهم , وفي هذا إهلاك الدين والدنيا
والاشتغال بالتحفظ عنهم , كما هو فرض عليه النظر فيه , فإن حد في ذلك حدا من ثلاثة
أيام أو غير ذلك كلف أن يأتي بالدليل على ذلك من القرآن أو من تحديد رسول الله صلى
الله عليه وسلم في ذلك , ولا سبيل له إليه . فإن ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قد قاضى قريشا على أن يقيم بمكة ثلاثا وجعل أجل المصراة ثلاثا , وخيار
المخدوع في البيع ثلاثا , وأن الله تعالى أجل ثمود ثلاثة أيام ؟ قلنا لهم : نعم ,
هذا حق , وقد جعل الله تعالى أجل المولي أربعة أشهر , وأجل المتوفى عنها زوجها في
العدة أربعة أشهر وعشرا فما الذي جعل بعض هذه الأعذار أولى من بعض , فكان ما حكم
الله تعالى به , فهو الحق , وكان ما أراده مريد أن يزيده في حكم الله تعالى برأيه
وقياسه فهو الباطل - وبالله تعالى التوفيق .
(11/116)
تحصن البغاة في حصن في النساء والصبيان
...
2161 - مسألة : فإن تحصن البغاة في حصن فيه النساء والصبيان , فلا يحل قطع المير
عنهم , لكن يطلق لهم منه بمقدار ما يسع النساء والصبيان , ومن لم يكن من أهل البغي
فقط , ويمنعون ما وراء ذلك . وجائز قتالهم بالمنجنيق والرمي , ولا يحل قتالهم بنار
تحرق من فيه من غير أهل البغي , ولا بتغريق يغرقهم كذلك ; لقول الله تعالى: {وَلا
(11/116)
أقوال العلماء في أمان العبد والمرأة
والرجل الحر لأهل البغى
...
2162 - مسألة: إن أمان العبد , والمرأة , والرجل الحر جائز لأهل البغي .
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : إن أمان العبد , والمرأة , والرجل الحر جائز
لأهل البغي . وهذا عندنا ليس بشيء ; لأن أمان أهل البغي بأيديهم , متى تركوا
القتال حرمت دماؤهم , وكانوا إخواننا , وما داموا مقاتلين باغين فلا يحل لمسلم
إعطاؤهم الأمان على ذلك , فالأمان والإجارة هاهنا هدر ولغو , وإنما الأمان
والإجارة للكافر الذي يحل للإمام قتله - إذا أسروه - واستبقاؤه , لا في مسلم - إن
ترك بغيه - كان هو ممن يعطى الأمان ويجار . ولو أن أحدا من أهل البغي أجار كافرا
جازت إجارته , كإجارة غيره , ولا فرق ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يجير على المسلمين أدناهم". ولو أن أهل البغي دخلوا غزاة إلى دار الحرب
فوافقوا أهل العدل فقاتلوا معهم فغنموا , فالغنيمة بينهم على السواء ; لأنهم كلهم
مسلمون . ومن قتل من أهل البغي قتيلا من أهل الحرب فله سلبه ; لأنه من جملة
المخاطبين بذلك الحكم . ولو ترك أهل الحرب من الكفار , وأهل المحاربة من المسلمين
على قوم من أهل البغي , ففرض على جميع أهل الإسلام , وعلى الإمام عون أهل البغي
وإنقاذهم من أهل الكفر , ومن أهل الحرب ; لأن أهل البغي مسلمون . وقد قال الله
تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وأما أهل المحاربة من المسلمين فإنهم يريدون
ظلم أهل البغي في أخذ أموالهم , والمنع من الظلم واجب - قال الله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} فمن ترك المحارب , لم يعن المطلوب فقد أعان المحارب على إثمه
وعدوانه , وهذا حرام . ولو أن أهل العدل وأهل البغي توادعوا وتعاطوا الرهان فهذا
لا يجوز , إلا مع ضعف أهل العدل على المقاتلة ; لقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فما دمنا قادرين على
المقاتلة لهم لم يحل لنا غيرها أصلا , ولسنا في سعة من تركها ساعة
(11/117)
فما فوقها , فإن ضعفنا عن ذلك , فقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فإن قتلوا رهن أهل العدل لم يحل لنا قتل رهنهم ; لأنهم مسلمون غير مقاتلين , ولم يقتلوا لنا أحدا وإنما قتل الرهن غيرهم , وقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
(11/118)
كتاب الحدود
بيان أن الله تعالى لم يصف حداً من العقوبة محدوداً
...
كتاب الحدود
2163 - مسألة: بيان أن الله تعالى لم يصف حداً من العقوبة محدوداً
قال أبو محمد رحمه الله: لم يصف الله تعالى حدا من العقوبة محدودا لا يتجاوز في النفس
, أو الأعضاء , أو البشرة , إلا في سبعة أشياء : وهي : المحاربة , والردة , والزنى
, والقذف بالزنى , والسرقة , وجحد العارية , وتناول الخمر في شرب أو أكل فقط - وما
عدا ذلك فلا حد لله تعالى محدودا فيه - ولا حول ولا قوة إلا بالله . ونحن - إن شاء
الله - ذاكرون ما فيه الحدود مما ذكرنا بابا بابا - وبالله تعالى التوفيق - ثم
نذكر - إن شاء الله تعالى - أشياء لا حد فيها , وادعى قوم : أن فيها حدودا -
وبالله تعالى نتأيد . ثم نذكر - إن شاء الله تعالى - قبل ذلك أبوابا تدخل في جميع
الحدود , أو في أكثرها , فإن جمعها في كتاب واحد أولى من تكرارها في كل كتاب من
كتب الحدود - وبالله تعالى التوفيق . وهو أيضا - حصرها لمن يطلبها , وأبين
لاجتماعها في مكان واحد , إذ ليس كتاب من كتب الحدود أولى بهذه الأبواب من سائر
كتب الحدود - وبالله تعالى التوفيق . وهي : الحديث الوارد: "لا يزني الزاني
حين يزني وهو مؤمن" مع سائر ما ذكر فيه من الخمر , والسرقة , والنهبة . وهل
تقام الحدود في المساجد أم لا ؟ . وهل الحدود كفارة أم لا ؟ . واجتماع الحدود مع
القتل , والتوكيل في إقامة الحدود ؟ وهل تقام الحدود بعلم الحاكم أم لا ؟ والسجن
في التهمة , والامتحان بالضرب , والاعتراف بالإكراه , وما الإكراه والاستتابة في
الحدود ؟ ومتى يقام الحد على الجارية والغلام ؟ واعتراف العبد بالحد , والشهادة في
الحدود , والتأجيل في الحد والتعافي في الحدود قبل بلوغها إلى السلطان والترغيب في
إمامة من قال : لا يؤاخذ الله عبدا بأول ذنب - ادرءوا الحدود بالشبهات - الرجوع عن
الاعتراف بالحد ؟ الاعتراض على الحاكم في حكمه بالحد , هل يكشف ويسأل من ذكر عنه
حد أم لا ؟ هل تقام الحدود على الكفار أم لا ؟ كيف حد العبد من حد الحر ؟ كيف حد
المكاتب ؟
(11/118)
بيان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" و "لا ترجعوا بعدي كفاراً
".
...
2164 - مسألة : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا ترجعوا بعدي كفاراً
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا ترجعوا بعدي
(11/118)
2165 - مسألة : هل تقام الحدود في
المساجد أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: أنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا
محمد بن أيوب الصموت نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا أبو نشيط محمد بن
هارون , والحسن بن عرفة , قال أبو نشيط : نا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج نا
سعيد بن بشير عن قتادة وقال ابن عرفة : نا أبو حفص عمرو بن عبد الرحمن الأبار عن
إسماعيل بن مسلم - ثم اتفق قتادة , وإسماعيل - كلاهما عن عمرو بن دينار عن طاوس عن
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقام الحدود في المساجد ولا
يقتل بالولد الوالد".
قال أبو محمد رحمه الله: إسماعيل بن مسلم , وسعيد بن بشير ضعيفان - وبه - إلى
البزار نا يونس بن صالح بن معاذ نا محمد بن عمر الواقدي نا إسحاق بن حازم عن أبي
الأسود عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى أن تقام الحدود في المساجد". محمد بن عمر الواقدي ساقط مذكور بالكذب .
ومن طريق ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا محمد بن عبد الله عن العباس بن عبد الرحمن
بن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في
المساجد" - محمد بن عبد الله , والعباس : مجهولان . وعن وكيع نا مبارك عن
ظبيان بن صبيح الضبي , قال : قال عبد الله بن مسعود : "لا تقام الحدود في
المساجد" - ظبيان : مجهول . وعن وكيع نا سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق
بن شهاب قال : أتى عمر بن الخطاب رجل في حد , فقال : أخرجاه من المسجد ثم اضرباه
قال أبو محمد رحمه الله: هذا خبر صحيح , قد صح: "أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمر بتطييب المساجد وتنظيفها". وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ
أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فوجب صون المساجد , ورفعها , وتنظيفها -
فما كان من إقامة الحدود فيه تقذير للمسجد بالدم : كالقتل , والقطع , فحرام أن
يقام شيء من ذلك في المسجد , لأن ذلك ليس تطييبا ; ولا تنظيفا – وكذلك: "أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بالبقيع خارج المسجد". وأما ما كان
من الحدود جلدا فقط , فإقامته في المسجد جائز , وخارج المسجد أيضا جائز , إلا أن
خارج المسجد أحب إلينا , خوفا أن يكون من المجلود بول لضعف طبيعته , أو غير ذلك
مما لا يؤمن من المضروب . برهان ذلك : قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ
(11/123)
مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فلو كان إقامة الحدود بالجلد في المساجد حراما لفصل لنا ذلك مبينا في القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . وممن قال بإقامة الحدود بالجلد في المساجد : ابن أبي ليلى , وغيره - وبه نأخذ - وبالله تعالى التوفيق .
(11/124)
هل الحدود كفارة لمن تقوم عليه أم لا
...
2166 - مسألة : هل الحدود كفارة لمن أقيمت عليه أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: كل من أصاب ذنبا فيه حد فأقيم عليه ما يجب في ذلك فقد سقط
عنه ما أصاب من ذلك - تاب أو لم يتب - حاش المحاربة , فإن إثمها باق عليه وإن أقيم
عليه حدها , ولا يسقطها عنه إلا التوبة لله تعالى فقط . برهان ذلك : ما رويناه من
طريق مسلم نا يحيى بن يحيى , وأبو بكر بن أبي شيبة , وعمرو الناقد , وإسحاق بن
إبراهيم , ومحمد بن عبد الله بن نمير , كلهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي
إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مجلس , فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن
أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له , ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه
فأمره إلى الله , إن شاء عفا عنه , وإن شاء عذبه". وبه - إلى مسلم حدثني
إسماعيل بن سالم أنا هشيم أنا خالد - هو الحذاء - عن أبي قلابة عن أبي الأشعث - هو
الصنعاني - عن عبادة بن الصامت قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
أخذ على النساء : "أن لا نشرك بالله شيئا , ولا نسرق , ولا نزني , ولا نقتل
أولادنا , ولا يغتاب بعضنا بعضا - فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن أتى منكم حدا
فأقيم عليه فهو عقابه , ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله - إن شاء عذبه وإن شاء
غفر له". وأما تخصيصنا المحاربة من جميع الحدود , فلقول الله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَاداً} إلى قوله تعالى { عذاب عظيم } فنص الله تعالى نصا لا يحتمل
تأويلا , على أنهم مع إقامة هذا الحد عليهم , وأنه لهم خزي في الدنيا , ولهم مع
ذلك في الآخرة عذاب عظيم .
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب استعمال النصوص كلها كما جاءت , وأن لا يترك شيء
منها لشيء آخر وليس بعضها أولى بالطاعة من بعض , وكلها حق من عند الله تعالى - ولا
يجوز النسخ في شيء من ذلك : أما حديث عبادة - فإنه فضيلة لنا أن تكفر عنا الذنوب
بالحد , والفضائل لا تنسخ , لأنها ليست أوامر , ولا نواهي , وإنما النسخ في
الأوامر والنواهي - سواء وردت بلفظة الأمر والنهي - أو بلفظ الخبر , ومعناه الأمر
والنهي . وأما الخبر المحقق فلا يدخل النسخ فيه , ولو دخل لكان كذبا - وهذا
(11/124)
لا يجوز أن يظن بشيء من أخبار الله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم . وأما الآية في المحاربة - فإن وجوب العذاب في الآخرة
مع الخزي في الدنيا بإقامة الحد عليهم : خبر مجرد من الله تعالى , لا مدخل فيه
للأمر والنهي فأمن دخول النسخ في شيء من ذلك - والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن تعلق متعلق بما نا أحمد بن عمر العذري نا عبد الله بن
أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن دحيم نا عبد بن حميد الكشي ثنا عبد الرزاق عن
معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما أدري أتبع كان نبيا أم لا ؟ وما أدري ذو القرنين أنبيا كان أم
لا ؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا ؟". وبما ثناه أحمد بن عمر العذري
نا محمد بن أبي سعيد بن سختويه الإسفراييني - في داره بمكة - ثنا عبد العزيز بن
جعفر بن سعد أنا أحمد بن زنجويه بن موسى نا داود بن رشيد نا سيف بن هارون عن
إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: "بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايعت النساء , فمن مات منا ولم يأت بشيء
منهن : ضمن له الجنة , ومن مات منا وأتى بشيء فأقيم عليه الحد : فحسابه على الله
تعالى".
قال أبو محمد رحمه الله: أما حديث أبي هريرة فصحيح السند , وما نعلم له في وقتنا
هذا علة , إلا أن الذي لا نشك فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف قوله
, ولا يقول إلا الحق , وقد قال صلى الله عليه وسلم بأصح سند مما أوردنا آنفا من
طريق عبادة : "أن من أصاب من الزنى , والسرقة , والقتل , والغصب : شيئا ,
فأقيم عليه الحد , فهو كفارة له" فمن المحال أن يشك رسول الله صلى الله عليه
وسلم في شيء قد قطع به , وبشر أمته به , وهو وحي من الله تعالى أوحى إليه به .
والقول عندنا فيه : أن أبا هريرة لم يقل أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا الكلام , وقد سمعه أبو هريرة من أحد المهاجرين , ممن سمعه ذلك الصاحب من رسول
الله صلى الله عليه وسلم في أول البعث , قبل أن يسمع عبادة رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "إن الحدود كفارة" فهذا صحيح بأنه عليه السلام لا يعلم
إلا ما علمه الله تعالى , ثم أعلمه بعد ذلك ما لم يكن يعلمه حينئذ , وأخبر به
الأنصار , إذ بايعوه قبل الهجرة , والحدود حينئذ لم تكن نزلت بعد , لا حين بيعة
عبادة ولا قبل ذلك , وإنما نزلت بالمدينة بعد الهجرة , لكن الله تعالى أعلم رسوله
عليه السلام أنه سيكون لهذه الذنوب حدود , وعقوبات - وإن كان لم يعلمه بها - لكنه
أخبره أنها كفارات لأهلها - هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره - إن صح حديث أبي هريرة
ولم تكن فيه علة . وأما حديث جابر - فساقط لأنه
(11/125)
من رواية داود بن رشيد - وهو ضعيف . ثم لو صح لكان القول فيه كالقول في حديث أبي هريرة الذي تكلمنا فيه آنفا , والأمر كان حينئذ في حديث جابر أبين , لأن إسلام جرير متأخر جدا بعد الفتح , لم يدرك قط بيعة النساء التي كانت قبل القتال , لأن إسلام جرير كان بعد نزول " المائدة " فصار حديث عبادة قاضيا على كل ذلك , ومخبرا عن الله تعالى ما ليس في سائر الأخبار : من أن الحدود كفارة لأهلها , حاش ما خصه الله تعالى منها.
(11/126)
2167 - مسألة : هل تسقط الحدود بالتوبة
أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : إن الحدود كلها تسقط بالتوبة - وهذه رواية
رواها أبو عبد الرحمن الأشعري عن الشافعي , قالها بالعراق ورجع عنها بمصر - واحتج
أهل هذه المقالة : بما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب
أنا محمد بن بشار نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن يزيد
بن نعيم عن أبيه: "أن ماعز بن مالك أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقم
علي كتاب الله ؟ فأعرض عنه أربع مرات , ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمه
, فلما مسته الحجارة خرج يشتد , وخرج عبد الله بن أنس من نادي قومه بوظيف حمار ,
فضربه فصرعه , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بأمره فقال ألا تركتموه لعله
يتوب فيتوب الله عليه ؟ يا هذا لو سترته بثوبك كان خيرا لك". حدثنا حمام ثنا
عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن وضاح نا أبو بكر بن أبي
شيبة نا عمرو بن حماد بن طلحة عن أسباط بن نصر عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر عن
أبيه: "أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد عن كره
نفسها , فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها , ثم مر عليها قوم ذوو عدد , فاستغاثت
بهم , فأدركوا الذي استغاثت به , وسبقهم الآخر , فأتوا به النبي صلى الله عليه
وسلم فأخبرته : أنه وقع عليها , وأخبره القوم : أنهم أدركوه يشتد , فقال : إنما
كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني , قالت : كذب , هو الذي وقع علي ,
فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا به فارجموه فقام رجل من الناس فقال : لا
ترجموه وارجموني أنا الذي فعلت بها الفعل , فاعترف , فاجتمع ثلاثة عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم الذي وقع عليها , والذي أغاثها , والمرأة , فقال أما أنت فقد
غفر الله لك , وقال للذي أغاثها قولا حسنا فقال له عمر : أرجم الذي اعترف بالزنى ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا , إنه قد تاب إلى الله تعالى زاد ابن عمر في
روايته لو تابها أهل مدينة يثرب لقبل منهم". نا أبو عمر أحمد بن قاسم نا أبي
قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا الحارث بن أبي أسامة نا أبو النضر نا
أبو معاوية عن
(11/126)
ليث بن أبي سليم عن أبي بردة بن أبي موسى
الأشعري عن أبي مليح بن أسامة الهذلي عن واثلة بن الأسقع قال: "شهدت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأتاه رجل فقال : يا رسول الله , إني أصبت حدا من
حدود الله تعالى , فأعرض عنه , ثم أتاه الثانية فأعرض عنه ثم قالها الثالثة فأعرض
عنه , ثم أقيمت الصلاة , فلما قضى الصلاة أتى الرابعة , فقال : أصبت حدا من حدود
الله فأقم في حد الله قال : ألم تحسن الطهور - أو الوضوء - ثم شهدت الصلاة معنا
آنفا ؟ اذهب فهي كفارتك". ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب عن
عكرمة بن عمار نا شداد بن عبد الله عن الباهلي قال: "كنت مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في المسجد فقال له رجل : إني أصبت حدا فأقم علي وأقيمت الصلاة فصلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم خرج - ومعه الرجل - وتبعته , فقال : يا
رسول الله أقم علي حدي فإني أصبته , فقال : أليس حين خرجت من منزلك توضأت فأحسنت
الوضوء وشهدت معنا الصلاة ؟ قال : نعم , قال : فإن الله قد غفر لك ذنبك - أو
حدك".
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روينا هذا الخبر - وفيه " إني زنيت " كما
ثنا المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي نا محمد
بن أحمد الصواف نا أحمد بن هارون بن روح البرذنجي نا محمد بن عبد الملك الواسطي نا
عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس: "أن
رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , إني زنيت فأقم علي الحد
, ثم أقيمت الصلاة , فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم قد كفر عنك بصلاتك".
قال أبو محمد رحمه الله وقالوا : قد قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية إلى
قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} قالوا :
فصح النص من القرآن وصح الإجماع بأن حد المحاربة تسقطه التوبة قبل القدرة عليهم ,
فوجب أن تكون جميع الحدود من : الزنى , والسرقة , والقذف , وشرب الخمر كذلك ,
لأنها كلها حدود وقعت التوبة قبل القدرة على أهلها.
قال أبو محمد رحمه الله: هذا كل ما يمكن أن يحتج به أهل هذه المقالة , وذهب آخرون
إلى أن التوبة لا تسقط الحدود . واحتجوا : بما ناه حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد
بن عبد الملك بن أيمن نا بكر - هو ابن حماد - نا مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد
القطان - عن هشام الدستوائي نا يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المهلب أن
عمران بن الحصين حدثه أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم حبلى من
الزنا فقالت:
(11/127)
"إني أصبت حدا فأقمه علي , فدعا
وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ففعل فأمرها رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها , فقال عمر : تصلي
عليها وقد زنت ؟ فقال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ,
هل وجدت شيئا هو أفضل من أن جادت بنفسها ؟". ومن طريق مسلم نا محمد بن المثنى
حدثني عبد الأعلى نا داود بن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري: "أن رجلا من أسلم
يقال له : ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أصبت فاحشة
فأقمه علي فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ثم سأل قومه ؟ فقالوا : ما نعلم به
بأسا - فذكر باقي الحديث وفيه - فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجمه ,
فكان الناس فيه فرقتين : قائل يقول : هلك , لقد أحاطت به خطيئته , وقائل يقول : ما
توبة أفضل من توبة ماعز , إنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في
يده فقال : اقتلني بالحجارة , قال : فلبثوا بذلك يومين - أو ثلاثة - ثم جاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال استغفروا لماعز بن مالك ؟
فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد تاب
توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم". ومن طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير
نا بشير بن المهاجر نا عبد الله بن بريدة عن أبيه: "أن ماعز بن مالك أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن
تطهرني , فرده - فذكر الحديث وفيه - فجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله , إني قد
زنيت فطهرني , وأنه ردها , فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لم تردني كما رددت
ماعزا ؟ فوالله إني لحبلى , قال أما الآن فاذهبي وذكر باقي الخبر - فلما فطمته
أتته بالصبي - وفي يده كسرة خبز - فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته , وقد أكل الطعام
, فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر إلى صدرها وأمر الناس فرجموها -
فأقبل خالد بن الوليد فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد , فسبها , فسمع نبي الله
صلى الله عليه وسلم سبه إياها , فقال : مهلا يا خالد , فوالذي نفسي بيده لقد تابت
توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له , ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت". قالوا :
فهذا ماعز قد صحت توبته قبل الرجم بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ,
وبأنها مقبولة - وهذه الغامدية , والجهينية رضي الله عنهما - قد تابتا أتم توبة
وأصحها , مقبولة من الله تعالى بإخبار النبي عليه السلام ولم تسقط هذه التوبة عنهم
الحد . قالوا : وكذلك أيضا "حد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين
قذفوا عائشة - رضي الله عنها ؟"
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا في ذلك - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في ذلك
(11/128)
لنعلم الحق من ذلك [ فنتبعه ] بعون الله تعالى ومنه : فنظرنا في الحديث الذي احتج به من رأى الحدود ساقطة بالتوبة . فنظرنا في ذلك , فوجدناه مرسلا , فسقط التعلق به . ثم نظرنا في حديث علقمة بن وائل , فوجدناه لا يصح , لأنه من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين , شهد بذلك شعبة , وغيره , فسقط . ثم نظرنا في حديث واثلة بن الأسقع , فوجدنا الأول من طريق فيها ليث بن أبي سليم , وليس بالقوي . وأما حديث الباهلي , فوجدناه من طريق عكرمة بن عمار , وهو ضعيف جدا . فإن قيل : وقد رويتموه بأن فيه زينب ؟ قلنا : نعم , وفيه من لا يعرف رجاله , ثم أنه لو ثبت دون علة لما كانت فيه حجة , لأن فيه وجوها تمنع من استعماله : أحدها - أن ممكنا أن يكون هذا قبل نزول حد الزنى ثم نزل حد الزنى فكان الحكم لإيجاب الحد . فإن قيل : وممكن أيضا أن يكون بعد نزول حد الزنى ثم نزل حد الزنى فكان الحكم له ويكون ناسخا لما في حديث ماعز , والغامدية والجهينية ؟ قلنا : إن الواجب إذا تعارضت الأخبار أن يؤخذ بالزائد والزائد : هو الذي جاء بحكم لم يكن واجبا في معهود الأصل , وكان معهود الأصل بلا شك : أن لا حد على أحد - تائبا كان أو غير تائب - فجاء النص : بإيجاب الحدود جملة , وكانت هذه النصوص زائدة على معهود الأصل , وجاء حديث ماعز , والغامدية , والجهينية , فكان ما فيها من إيجاب الحد على التائب زائدا على ما في الخبر الذي فيه إسقاط الحد عن التائب - هذا لو كان في حديثهم أن الحد سقط عنه بالتوبة , فكيف وليس هذا فيه ؟ وإنما فيه إسقاط الحد بصلاته فقط , وهذا ما لا يقولونه [ بل هم يخالفون لهذا الحكم ] فبطل تعلقهم بهذا الخبر , وبتلك الأخبار جملة - وبالله تعالى التوفيق . فإن قالوا : هبكم أن حد الزنى قد وجدتم فيه , وفي حد القذف : إقامة الحد على من تاب , فمن أين لم تسقطوا حد السرقة , وحد الخمر بالتوبة ؟ ولا نص معكم في إقامتها على التائب منها ؟ قلنا : إن النص قد ورد جملة بإقامة الحدود في السرقة , والخمر , والزنى , والقذف , ولم يستثن الله تعالى تائبا من غير تائب , ولم يصح نص أصلا بإسقاط الحد عن التائب , فإذا الأمر كذلك فلا يحل أن يخص التائب من عموم أمر الله تعالى بإقامة الحدود بالرأي , والقياس دون نص ولا إجماع , فهذه عمدتنا في إقامة الحدود على التائب وغير التائب . وإنما حديث ماعز , والغامدية , والجهينية : مؤيد لقولنا في ذلك فقط , ولو لم يأت ما احتجنا إليها مع الأوامر الواردة بإقامة الحدود , لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". وقوله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام , والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
(11/129)
ومع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . ومع قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . ومع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب الخمر فاجلدوه" الحديث . فلم يخص عليه السلام شيئا من شيء مما أمر بإقامة الحد عليه تائبا من غيره {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} {وما كان ربك نسيا} . ثم نظرنا أيضا في احتجاجهم على هؤلاء المذكورين بأنهم قد أجمعوا على أن التوبة تسقط عذاب الآخرة - وهو العذاب الأكبر - فإذا أسقطت العذاب الأكبر فأحرى وأوجب أن تسقط العذاب الأقل , الذي هو الحد في الدنيا فوجدنا هذا كله لازما لكل من ذكرنا , لأنهم أصحاب قياس - بزعمهم - ولو صح قياس يوما ما من الدهر لكانت هذه المقاييس أصح قياس في العالم . وأين هذا من قياسهم الفاسد : الحديد على الذهب في الربا , وغزل القطن على الذهب والفضة في الربا , وقياسهم فرج الزوجة على يد السارق , وسائر قياساتهم الفاسدة التي لا تعقل . وأما نحن فلا يلزمنا هذا , لأن القياس كله باطل لا يحل القول بشيء منه في دين الله تعالى - والحمد لله رب العالمين . وعذاب الآخرة غير عذاب الدنيا , وليس إذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر , إذ لم يوجب ذلك نص قرآن , ولا سنة , ولا إجماع . وكثير من المعاصي ليس فيها في الدنيا حد , كالغصب - ومن قال لآخر : يا كافر - وكأكل لحم الخنزير , وعقوق الوالدين , وغير ذلك - وليس ذلك بموجب أن يكون فيها في الآخرة عقاب , بل فيها أعظم العقاب في الآخرة . فصح أن أحكام الدنيا غير متعلقة بأحكام الآخرة - وبالله تعالى التوفيق . وقد احتجوا بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله تعالى : {غفور رحيم} فوجدناهم لا حجة لهم في هذه الآية : لأن الله تعالى لم يسقط الحد بالتوبة مطلقة , ولو أراد ذلك لقال: {إلا الذين تابوا} ولم يقل " من بعد ذلك " فلما قال تعالى: {من بعد ذلك} بين لنا تعالى أن هذه التوبة لا تكون إلا من بعد الجلد ثمانين , واستحقاق اسم الفسوق , ورد الشهادة , لا قبل الجلد بنص القرآن , فإنما سقط بالتوبة بعد الجلد ما عدا الجلد , لأن الجلد قد نفذ فلا يسقط بعده بالتوبة إلا الفسق , وحكم قبول الشهادة فقط . وأيضا : فبعد نزول هذه الآية جلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسطح بن أثاثة , وحسان بن ثابت , وحمنة بنت جحش - فبطل التعلق في إسقاط الحد بالتوبة المذكورة في الآية . وصح أنه إنما سقط بها ما عدا الحد - وهو الفسق , ورد الشهادة فقط - فبطل كل ما شغب هؤلاء القوم به - وصح أنه لا يسقط بالتوبة شيء من الحدود , حاشا حد الحرابة الذي ورد النص بسقوطها بالتوبة قبل القدرة عليهم فقط - وأما بالتوبة الكائنة منهم بعد القدرة عليهم , أو مع القدرة عليهم , فلا
(11/130)
يسقط بذلك عنهم حد المحاربة أصلا , لأن النص لم يسقط الحد عنهم إلا بالتوبة قبل القدرة عليهم فقط , وبقي ما عدا ذلك على إنفاذ ما أمر الله تعالى به فيه - وبالله تعالى التوفيق . قال علي رحمه الله : والدليل عندنا في ذلك أن من أقر بحد ولم يقل ما هو ؟ فلا شيء عليه أصلا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قال : علي حد فيه الجلد فقط : لم يقم أيضا جلد , لأنه قد يظن في فعله ذلك أنه حد يوجب جلدا - وليس كما يظن - فإذ هو ممكن فلا يحل لنا بشرته بإحلاله لنا إياها , لأن تحريم الله تعالى لها قبل إحلاله الفاسد . ولو أن امرأ قال لآخر : اضربني فقد أحللت لك بشرتي ؟ لم يحل ضربه أصلا , لأنه ليس له أن يحل من نفسه ما حرم الله تعالى منها , ولا أن يحرم منها ما أحله الله تعالى . ولو قال من صح عليه الجلد في القذف , أو الزنى , أو الخمر : قد حرمت عليكم بشرتي , لكان كلامه هذرا ولغوا . وكذلك لو أحل لآخر قتل نفسه أو قطع يده أو أحلت المرأة فرجها لأجنبي . أو حرم الرجل فرجه على امرأته , أو حرمت هي فرجها عليه , لكان كل ذلك باطلا , ولا حرام إلا ما حرم الله تعالى أو رسوله عليه السلام , قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فإن قال علي لله تعالى حد يوجب : إما زنا , وإما قذفا , وإما شرب خمر , فهذا لم يحقق ولا أقر إقرارا صحيحا - وليس عليه إلا حد الخمر , لأنه أقل الحدود الواجبة عليه بيقين . ولا يحل أن يزداد عليه شيء بالشك , فلا يجوز أن يجلد شيئا حتى يتبين ما هو الحد الذي عليه , ويصفه وصفا تاما .
(11/131)
2167 - مسألة : السجن في التهمة:
قال أبو محمد رضي الله عنه : قال قوم : بالسجن في التهمة ؟ واحتجوا : بما ثنا أحمد
بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن أبي
العوام ثنا أحمد بن حاتم الطويل ثنا إبراهيم بن خثيم بن عراك عن أبيه عن جده عن
أبي هريرة : "أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة احتياطا , أو قال :
استظهارا : يوما وليلة". وبه - إلى قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح حدثني محمد بن
آدم نا ابن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده "عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه حبس في تهمة , ثم خلى سبيله". ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن بهز
بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ناسا من قومه في تهمة فحبسهم , فجاء رجل من قومي إلى النبي صلى الله عليه
وسلم وهو يخطب فقال : يا محمد , على ما تحبس جيرتي ؟ فصمت النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : إن ناسا يقولون : إنك لتنهى عن الشيء وتستخلي به , فقال النبي صلى
الله عليه وسلم ما يقول ؟ فجعلت أعرض بينهما بكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي
(11/131)
دعوة لا يفلحون بعده , قال : فلم يزل
النبي صلى الله عليه وسلم حتى فهمها ؟ قال : قد قالوها ؟ وقال قائلها منهم : والله
لو فعلتها لكان علي وما كان عليهم , خلوا له عن جيرانه". وبه - إلى عبد
الرزاق عن ابن جريج أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري عن عراك بن مالك قال: "أقبل
رجلان من بني غفار حتى نزلا منزلا بضجنان من مياه المدينة , وعندها ناس من غطفان
معهم ظهر لهم , فأصبح الغطفانيون قد أضلوا بعيرين من إبلهم فاتهموا بهما الغفاريين
, فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أمرهم , فحبس أحد الغفاريين ,
وقال للآخر : اذهب فالتمس ؟ فلم يكن إلا يسيرا حتى جاء بهما , فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لأحد الغفاريين - حسبت أنه المحبوس - استغفر لي ؟ فقال : غفر الله لك يا
رسول الله , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ولك وقتلك في سبيله , قال :
فقتل يوم اليمامة".
قال أبو محمد رحمه الله: وذهب إلى هذا قوم , كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن
جريج قال : كتب عمر بن عبد العزيز بن عبد الله كتابا قرأته : إذا وجد المتاع مع
الرجل المتهم فقال : ابتعته فاشدده في السجن وثاقا , ولا تحله بكتاب أحد حتى يأتيه
فيه أمر الله تعالى , قال ابن جريج : فذكرت ذلك لعطاء فأنكره . وذهب آخرون - إلى
المنع من الحبس بالتهمة , كما روينا من طريق عبد الرزاق نا ابن جريج , قال : سمعت
عبد الله بن أبي مليكة يقول : أخبرني عبد الله بن أبي عامر قال : انطلقت في ركب
حتى إذا جئنا ذا المروة سرقت عيبة لي , ومعنا رجل متهم , فقال أصحابي : يا فلان
اردد عليه عيبته ؟ فقال : ما أخذتها : فرجعت إلى عمر بن الخطاب فأخبرته , فقال :
من أنتم ؟ فعددتهم , فقال : أظنها صاحبها للذي أتهم ؟ فقلت : لقد أردت يا أمير
المؤمنين أن تأتي به مصفدا , فقال عمر : أتأتي به مصفودا بغير بينة , لا أكتب لك
فيها , ولا أسألك عنها , وغضب وما كتب لي فيها , ولا سأل عنها , فأنكر عمر - رضي
الله عنه - أن يصفد أحد بغير بينة.
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك فوجدنا الأحاديث المذكورة لا حجة في شيء
منها , لأن إبراهيم بن خثيم ضعيف , وبهز بن حكيم ليس بالقوي , وحديث عراك مرسل ,
ثم لو صح لكان فيه الدليل على المنع من الحبس لاستغفار رسول الله صلى الله عليه
وسلم من ذلك . فإن ذكروا حديث: "المرأة الغامدية التي قالت لرسول الله صلى
الله عليه وسلم طهرني , قال : ويحك , ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه , قالت :
لعلك تردني كما رددت ماعز بن مالك , قالت : إني حبلى من الزنى , قال : أثيب أنت ؟
قالت : نعم , قال : فلا نرجمنك حتى تضعي ما في بطنك , قال : فكفلها رجل من الأنصار
حتى وضعت , فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قد وضعت الغامدية قال :
إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه ؟ فقال رجل من الأنصار : إلي
رضاعه , فرجمها".
(11/132)
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا لا حجة لهم
فيه , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجنها ولا أمر بذلك , لكن فيه : أن
الأنصاري تولى أمرها وحياطتها فقط .
قال أبو محمد رحمه الله: فإن ذكروا قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً} فإن هذا حكم منسوخ بإجماع الأمة . قال علي رحمه الله : فإذ لم يبق لمن
رأى السجن حجة , فالواجب طلب البرهان على صحة القول الآخر , فنظرنا في ذلك فوجدنا
من قال بسجنه لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون متهما لم يصح قبله شيء , أو يكون
قد صح قبله شيء من الشر , فإن كان متهما بقتل , أو زنا , أو سرقة , أو شرب , أو
غير ذلك : فلا يحل سجنه , لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن
الظن أكذب الحديث" وقد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتهمون
بالكفر - وهم المنافقون - فما حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحدا -
وبالله تعالى التوفيق .
(11/133)
حكم من أصاب حداً مرتين فصاعداً
...
2169 مسألة : فيمن أصاب حدا مرتين فصاعدا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في ذلك , كمن زنى مرتين فأكثر قبل أن يحد في
ذلك , أو قذف مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو شرب الخمر مرتين فأكثر قبل أن
يقام عليه الحد , أو سرق مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو جحد عارية مرتين
فأكثر , قبل أن يقام عليه الحد في ذلك أو حارب مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد
في ذلك ؟ فقالت طائفة : ليس في كل ذلك إلا حد واحد فقط - وقالت طائفة : عليه لكل
مرة حد .
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب أن ننظر في ذلك ؟ لنعلم الحق فنتبعه - بعون الله
تعالى - فنظرنا في قول من قال : لكل فعلة حد ؟ فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وقال
تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ووجدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا
محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة
أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب
فاجلدوه" وذكر باقي الخبر قالوا : فوجب بنص كلام الله تعالى , وكلام رسوله
صلى الله عليه وسلم على من زنى الجلد المأمور به , وعلى من سرق قطع يده , وعلى من
قذف الجلد المأمور به وعلى من شرب الخمر الجلد المأمور به , فاستقر ذلك فرضا عليه
, فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أنه متى زنى ثانية وجب عليه حد ثان , وإذا سرق ثانية
وجب
(11/133)
عليه بالسرقة الثانية قطع ثان , وإذا قذف
ثانية وجب عليه حد ثان , وإذا شرب ثانية وجب عليه حد ثان ولا بد - وهكذا في كل
مرة.
قال أبو محمد رحمه الله: أما قولهم : إن الله تعالى قال: {الزانية والزاني} الآية
وقوله تعالى: {والسارق والسارقة} الآية. وقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات}
الآية. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب
فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه" فكل ذلك حق , ويكفر من أنكر لفظه ومعناه .
وأما قولهم : فاستقر ذلك فرضا عليه , فهذا وهم أصحابنا , ولسنا نقول بهذا , لكن
نقول : إنه لا يجب شيء من الحدود المذكورة بنفس الزنى , ولا بنفس القذف , ولا بنفس
السرقة , ولا بنفس الشرب , لكن حتى يستضيف إلى ذلك معنى آخر - وهو ثبات ذلك عند
الحاكم بإقامة الحدود , إما بعلمه , وإما ببينة عادلة , وإما بإقراره , وأما ما لم
يثبت عند الحاكم فلا يلزمه حد , لا جلد , ولا قطع أصلا . برهان ذلك : هو أنه لو
وجبت الحدود المذكورة بنفس الفعل لكان فرضا على من أصاب شيئا من ذلك أن يقيم الحد
على نفسه ليخرج مما لزمه , أو أن يعجل المجيء إلى الحاكم فيخبره بما عليه ليؤدي ما
لزمه فرضا في ذمته , لا في بشرته , وهذا أمر لا يقوله أحد من الأمة كلها بلا خلاف
. أما إقامته الحد على نفسه فحرام عليه ذلك بإجماع الأمة كلها , وأنه لا خلاف في
أنه ليس لسارق أن يقطع يد نفسه , بل إن فعل ذلك كان عند الأمة كلها عاصيا لله
تعالى , فلو كان الحد فرضا واجبا بنفس فعله لما حل له الستر على نفسه , ولا جاز له
ترك الإقرار طرفة عين , ليؤدي عن نفسه ما لزمه . وإنما أمر الله تعالى ورسوله -
عليه السلام - الأئمة وولاتهم بإقامة الحدود المذكورة على من جناها , وبيقين الضرورة
ندري أن الله تعالى لم يأمرهم من ذلك إلا إذا ثبت ذلك عندهم , وصح يقينا أن لكل
زنا يزنيه , وكل قذف يقذفه , وكل شرب يشربه , وكل سرقة يسرقها , وكل حرابة يحارب ,
وكل عارية يجحدها قبل علم الإمام بذلك , فلم يجب عليه فيه شيء , لكنا نقول : إن
الله تعالى أوجب على من زنى مرة , أو ألف مرة - إذا علم الإمام بذلك - جلد مائة ,
وعلى القاذف , والسارق , والمحارب , وشارب الخمر , والجاحد مرة , وألف مرة حدا
واحدا , إذا علم الحاكم ذلك كله . قال أبو محمد رحمه الله: وأما إن وقع على من فعل
شيئا من ذلك تضييع من الإمام , أو أميره لغير ضرورة , ثم شرع في إقامة الحد فوقعت
ضرورة منعت من إتمامه فواقع فعلا آخر من نوع الأول , فقولنا , وقول أصحابنا سواء :
يستتم عليه الحد الأول , ثم يبتدئ في الثاني ولا بد . برهان ذلك : أن الحد كله قد
وجب بعلم الإمام , أو
(11/134)
أميره مع قدرته على إقامة جميع الحد , ثم
أحدث ذنبا آخر , فلا يجزي عنه حد قد تقدم وجوبه.
قال أبو محمد رحمه الله: ونسأل المخالفين عن قولهم فيمن زنى مرات , أو شرب مرات ,
أو قذف مرات إنسانا واحدا , أو سرق مرات , أو حارب مرات - وعلم الإمام كل ذلك -
وقدر على إقامة الحدود عليه , ثم لم يحد حتى واقع ما ذكرنا , فلم يوجبوا عليه إلا
حدا واحدا , ما الفرق بين هذا وبين قول من قال منهم : إن أفطر عامدا فوطئ أياما من
شهر رمضان أن عليه لكل يوم كفارة ؟ ومن حلف أيمانا كثيرة على أشياء مختلفة فعليه
لكل يمين كفارة ؟ ومن قال منهم : إن ظاهر مرات كثيرة فإن لكل ظهار كفارة ؟ وقولهم
كلهم : إن من أصاب - وهو محرم - صيودا فعليه لكل صيد جزاء بل قال بعضهم : إنه لو
أصاب صيدا واحدا - وهو قارن - فعليه جزاءان . فإن ادعوا في كفارة الإفطار في رمضان
إجماعا : ظهر جهل من ادعى ذلك , أو كذبه , لأن زفر بن الهذيل وغيره - منهم - يرى
أن من أفطر بوطء أو غيره جميع أيام شهر رمضان - ولم يكفر - فليس عليه إلا كفارة
واحدة فقط - وهذا هو الواجب - على قول سعيد بن المسيب - لأن المحفوظ عنه أن شهر
رمضان كله صوم واحد , من أفطر يوما منه فعليه قضاء جميعه يقضي شهرا , ولا بد , ومن
أفطره كله فعليه شهر واحد أيضا ولا مزيد .
(11/135)
حكم من أصاب حداً ثم لحق بالمشركين أو
ارتد
...
2170 - مسألة : فيمن أصاب حدا ثم لحق بالمشركين أو ارتد:
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب
أنا قتيبة بن سعيد ثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق السبيعي عن جرير
بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أبق
العبد إلى الشرك فقد حل دمه".
قال أبو محمد رحمه الله: فبهذا نأخذ , والعبد هاهنا كل حر وعبد , فكلنا عبيد الله
تعالى , ومن لحق بأرض الشرك بغير ضرورة فهو محارب , هذا أقل أحواله إن سلم من
الردة بنفس فراقه جماعة الإسلام , وانحيازه إلى أرض الشرك : بما حدثنا يوسف بن عبد
الله بن عبد البر النمري ثنا خلف بن القاسم ثنا أحمد بن سعد المهراني ثنا أحمد بن
عبد الجبار ثنا أبو معاوية محمد بن خازم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي
حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين".
قال أبو محمد رحمه الله: وسنستقصي الكلام - إن شاء الله تعالى - في هذا في "
كتاب الردة " من هذا الكتاب . فإن قال قائل : إنما ذكر رسول الله صلى الله
عليه وسلم هاهنا مع ذكر
(11/135)
العبد الآباق , فصح أنه إنما عنى بذلك المماليك فقط ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : ليس الإباق لفظا موقوفا على المماليك الذين لنا فقط , بل كل من هرب عن سيده ومالكه فهو آبق , والله تعالى مالك الجميع , والكل عبيده ومماليكه , فمن هرب عن جماعة الله تعالى , وعلى دار دين الله تعالى إلى دار أعداء الله تعالى المحاربين لله عز وجل فهو آبق . برهان ذلك : قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إذ أبق إلى الفلك المشحون} فقد سمى الله تعالى فعل يونس رسوله صلى الله عليه وسلم - وهو حر بلا خلاف - إذ فر عن أمر ربه تعالى إباقا - فصح أن الإباق لكل حر وعبد - وبالله تعالى التوفيق . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن قدامة عن جرير عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال : كان جرير بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة وإن مات مات كافرا ؟ فأبق غلام لجرير فأخذه فضرب عنقه". قال أبو محمد رحمه الله: ولا يسقط عن اللاحق بالمشركين لحاقه بهم شيئا من الحدود التي أصابها قبل لحاقه , ولا التي أصابها بعد لحاقه , لأن الله تعالى أوجب الحدود في القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أرسلها ولم يسقطها . وكذلك لم يسقطها عن المرتد , ولا عن المحارب , ولا عن الممتنع , ولا عن الباغي , إذا قدر على إقامتها عليهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . ونحن نشهد بشهادة الله تعالى أن الله عز وجل لو أراد أن يستثني أحدا من هؤلاء لما سكت عن ذلك إعناتا لنا , ولا أهمله , ولا أغفله , فإذ لم يعلمنا بذلك فنحن نقسم بالله تعالى أن الله تعالى ما أراد قط إسقاط حد أصابه لاحق بالشرك قبل لحاقه , أو أصابه بعد لحاقه بهم , أو أصابه مرتد قبل ردته أو بعدها , وأن من خالف هذا فمخطئ عند الله تعالى بيقين لا شك فيه . وقد صح النص والإجماع بإسقاطه , وهو ما أصابه أهل الكفر ما داموا في دار الحرب قبل أن يتذمموا أو يسلموا فقط , فهذا خارج بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل من أسلم منهم , فلم يؤاخذهم بشيء مما سلف لهم من قتل , أو زنا , أو قذف , أو شرب خمر , أو سرقة , وصح الإجماع بذلك . فإن قال قائل : فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. فصح بهذا أن المرتد من الكفار بلا شك فإذ هو منهم فحكمه حكمهم . وذكروا من طريق مسلم حدثنا محمد بن المثنى ثنا الضحاك - يعني أبا عاصم النبيل - أنا حيوة بن شريح ثنا يزيد بن أبي حبيب عن شمامة المهري ثنا مضر ثنا عمرو بن العاص في سياقة الموت يبكي طويلا , فذكر الحديث , وفيه قال فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله
(11/136)
صلى الله عليه وسلم فقلت: "ابسط
يمينك فلأبايعك , فبسط يمينه , فقبضت يدي فقال : ما لك يا عمرو ؟ فقلت : أردت أن
أشترط , فقال : تشترط ماذا ؟ قلت : أن يغفر لي , قال : أما علمت أن الإسلام يهدم
ما قبله , وأن الهجرة تهدم ما قبلها , وأن الحج يهدم ما قبله". وذكر باقي
الكلام ومن طريق مسلم حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون , لإبراهيم بن دينار - واللفظ
لإبراهيم - قال : ثنا حجاج - هو ابن محمد - عن ابن جريج أخبرني يعلى بن مسلم : أنه
سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس: "أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا
وزنوا فأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو
إليه لحسن , ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ؟ فنزل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله {يلق أثاما} , و {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية } .
قال أبو محمد رحمه الله: تمام الآية الأولى إلى قوله {حسنات} . والأخرى {إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} . وكل هذا حق ولا حجة لهم فيه بل عليهم على
ما نبين - إن شاء الله تعالى . أما قول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية , فنعم , هكذا نقول , ولم
نخالفهم في هذه الآية , ولا هي مسألتنا , وإنما مسألتنا : هل تقام عليهم الحدود
السالفة أم لا ؟ وليس في هذه الآية من هذا حكم أصلا لا بنص من القرآن , ولا من
السنة , وأن التائب منا مغفور له , وأن ماعزا مغفور له والغامدية , والجهينية :
مغفور لهما بلا شك , ولم تسقط عنهم مغفرة الله تعالى لهم ذنبهم : حد الله تعالى
الواجب في الدنيا , وإنما أسقطت مغفرة الله تعالى عنهم عذاب الآخرة فقط , ولم يسقط
عنهم الحد بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم مع علمه صلى الله عليه وسلم
أنه مغفور لهم أقام عليهم حد الزنى الذي قد غفره الله تعالى لهم . وقد جلد رسول
الله صلى الله عليه وسلم مسطح بن أثاثة في القذف وهو بدري مغفور له وجلد النعمان
في الخمر وهو بدري مغفور له , وجلد عمر - رضي الله عنه - بحضرة الصحابة - رضي الله
عنهم - قدامة بن مظعون وهو بدري مغفور له , كل ما فعل في الخمر , ولو تمت الشهادة
على المغيرة لحده وهو بدري مغفور له ما قد فعل - فصح أن المغفرة من الله تعالى لا
تسقط الحدود الواجبة في الدنيا , ومن خالف هذا وقال : إن التوبة تسقط الحدود كلها
خالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا , وقد تقصينا هذا في باب مفرد
لذلك قبل هذا بأبواب يسيرة . وأما قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فلا حجة لهم في هذا أصلا , لأنه ليس فيها إسقاط الحدود على من
أبق إليهم , أو ارتد , وإنما فيها : أن المرتد من الكفار , وهذا لا شك
(11/137)
فيه عند مسلم . فإن قالوا : بلى , ولكن
لما كان منهم حكم له بحكمهم ؟ قلنا : لهم هذا واضح , وبرهان ذلك : إجماعكم معنا
على أن المرتد لا يقر على ردته , بخلاف المشرك الكتابي الذي يقر على كفره إذا أدى
الجزية صاغرا وتذمم , وأنه لا يقبل من المرتد جزية أصلا عندكم , وأنه لا تنكح
المرتدة بخلاف المشركة الكتابية , وأنه لا تؤكل ذبيحة المرتد بخلاف المشرك الكتابي
, ولا يسترق المرتد إن سبي كما يسترق المشرك إن سبي - فقد أقررتم ببطلان قياسكم
الفاسد فأبطلتم أن يقاس المرتد على الكافر في شيء من هذه الوجوه , ويلزمكم أن لا
تقيسوه عليهم في سقوط الحدود , فهو أحوط لقياسكم , ولاح أنهم في هذه المسألة - لا
النص من القرآن والسنة اتبعوا , ولا القياس طردوا , ولا تعلقوا بشيء أصلا - وبالله
تعالى التوفيق . وصح أن قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ} إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط - وهذا حق لا يختلف فيه
اثنان من المسلمين . فإن ادعوا أن المرتد لا تقبل منه جزية , ولا تؤكل ذبيحته ,
ولا يسترق إجماعا : دل ذلك على جهل من ادعى ذلك أو كذبه , فقد صح عن بعض السلف :
أخذ الجزية منهم , وعن بعض الفقهاء : أكل ذبيحته إن ارتد إلى دين صابئ . وأبو
حنيفة وأصحابه يقولون : إن المرتدة إذا لحقت بأرض الحرب سبيت واسترقت ولم تقتل ,
ولو أنها هاشمية أو عبشمية . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري
ثنا عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل : أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إلى
عمر بن عبد العزيز في رجل أسلم ثم ارتد ؟ فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : أن اسأله
عن شرائع الإسلام , فإن كان قد عرفها فاعرض عليه الإسلام , فإن أبى فاضرب عنقه ,
وإن كان لم يعرفها فغلظ عليه الجزية ودعه . قال معمر : وأخبرني قوم من أهل الجزيرة
: أن قوما أسلموا ثم لم يمكثوا إلا قليلا حتى ارتدوا ؟ فكتب فيهم ميمون بن مهران
إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر بن عبد العزيز : أن رد عليهم الجزية ودعهم . وقد
روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما حديث عمرو بن العاص فهو عليهم أعظم حجة , لأن فيه
تسوية النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والهجرة والحج في أن كل واحد منها
يهدم ما قبله , وهم لا يختلفون - ولا أحد نعلمه - في أن الحج لا يسقط حدا أصابه
المرء قبل حجه ولم يتب منه , ولم تطل مدته دونه , فمن الباطل أن يتحكموا في حكم
الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيحملوا قوله عليه السلام: "إن
الإسلام يهدم ما قبله" على أن الإسلام يسقط
(11/138)
الحدود التي واقعها العبد قبل إسلامه ,
ويجعل الحج لا يسقطها , وكلا الأمرين جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
مجيئا واحدا , وأن هذا الخبر ضد قولهم في هذه المسألة , وذلك أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إنما أخبر أن الإسلام يهدم ما قبله , وأن الهجرة تهدم ما
قبلها , وأن الحج يهدم ما قبله , فقالوا هم : إن الردة إلى الكفر تهدم ما قبلها من
الحدود الواجبة قياسا للكفر على الإسلام , وأن الهجرة إلى الشيطان , واللحاق بدار
الكفر وأهل الحرب , تهدم ما قبلها من الحدود , قياسا على الهجرة إلى الله تعالى
وإلى دار الإسلام , وأن الحج لا يهدم ما قبله ؟ وهذا عين العناد والخلاف والمكابرة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما حديث عمر فإنه لم يتكلم قط في ذلك الخبر في
ثبات الحدود أو سقوطها , وإنما تكلم في المغفرة . وإذا قلنا : إن مغفرة الله تعالى
للذنوب لا تسقط الحدود الواجبة في تلك الذنوب إلا حيث صح النص , والإجماع بإسقاطها
فقط , وليس ذلك إلا في الحربي الكافر يبتدئ الإسلام فقط . ونحن نقول : إن الإسلام
والهجرة الصادقة إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام وأن الحج المبرور يهدم ما قبله
من الذنوب , ومن صفة كل ما ذكرنا من الإسلام الحسن , والهجرة الصادقة - والحج
المبرور أن يتوب صاحب هذه الحال عن كل ذنب سلف قبله . برهان ذلك : ما حدثنا به عبد
الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا خلاد بن
يحيى نا سفيان بن منصور , والأعمش , كلاهما عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال
: "قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية
؟ قال : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية , ومن أساء في الإسلام
أخذ بالأول والآخر".
قال أبو محمد رحمه الله: فحكم الإحسان في الإسلام هو التوبة من كل ذنب أسلفه أيام
كفره , وأما من أصر على معاصيه : فما أحسن في إسلامه بل أساء فيه , وكذلك من لم
يهجر ما نهى الله تعالى عنه , فليس تام الهجرة - وكل حج أصر صاحبه على المعاصي فيه
فلم يوف حقه من البر , فليس مبرورا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/139)
الاستتابة في الحدود وترك السجن
...
2171 - مسألة : الاستتابة في الحدود وترك سجنه:
حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج قال
: حضرت عبد العزيز بن عبد الله جلد إنسانا الحد في فرية , فلما فرغ من ذلك قال له
أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن ربيعة : إن من الأمر أن يستتاب عند ذلك ,
فقال عبد العزيز للمجلود : تب , فحسبته أنه قال : أتوب إلى الله . قال ابن جريج :
وأخبرني بعض علماء أهل المدينة أنهم لا يختلفون أنه يستتاب كل من عمل عمل قوم لوط
, أو زنى , أو افترى , أو شرب , أو سرق , أو حارب , قال عبد الرزاق : وأخبرني أبو
بكر
(11/139)
عن غير واحد عن ابن المسيب أنه قال : سنة
الحد أن يستتاب صاحبه إذا فرغ من جلده , قال سعيد بن المسيب : إن قال : قد تبت -
وهو غير رضي - لم تقبل شهادته.
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا نقول , لأن التوبة فرض من الله تعالى على كل مذنب ,
ولأن الدعاء إلى التوبة فرض على كل مسلم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية . وإذا كان هذا الإصرار على الذنب حراما بإجماع
الأمة كلها المتيقن : فالتوبة والإقلاع فرض بإجماع الأمة كلها , لا خلاف في ذلك ,
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ} . وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ} الآية .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما كانت التوبة من سبيل الله تعالى المفترض سلوكها
وكانت من الخير والمعروف : كان فرضا على كل مسلم أن يدعو إليها بالنصوص التي ذكرنا
, واستتابة المذنب قبل إقامة الحد عليه واجبة , لقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فالمسارعة إلى الفرض فرض , فإن لم يستتبه الإمام
, أو من حضره إلا حتى أقيم عليه الحد , فواجب أن يستتاب بعد الحد - على ما ذكرنا -
فإن لم يتب فأقيم عليه استتيب , فإن تاب أطلق , ولا سبيل عليه بحبس أصلا , لأنه قد
أخذ حق الله تعالى منه الذي لا حق له قبله سواه , فالزيادة على ذلك تعد لحدود الله
تعالى , وهذا حرام .
(11/140)
2172 - مسألة:حكم من قال لا أتوب
قال أبو محمد رحمه الله: فإن قال : لا أتوب , فقد أتى منكرا , فواجب أن يعزر على
ما نذكره في " كتاب التعزير " إن شاء الله تعالى , لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع
فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". فيجب أن يضرب أبدا حتى يتوب
, هذا إن صرح بأن لا يتوب , فإذا أدى ذلك إلى منيته , فذلك عقيرة الله , وقتيل الحق
, لا شيء على متولي ذلك , لأنه أحسن فيما فعل به , وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فإن سكت ولم يقل : أتوب , ولا : لا أتوب , فواجب
حبسه وإعادة الاستتابة عليه أبدا حتى ينطق بالتوبة , فيطلق . برهان ذلك : أنه قد
صح منه الذنب , ووجبت عليه التوبة , ولا تعرف توبته إلا بنطقه بها , فهو ما لم
ينطق بها وبالإصرار : فممكن أن يتوب في نفسه , وممكن أن لا يتوب , فلما كان كلا
الأمرين ممكنا لم يحل ضربه , لأنه لم يأت بمنكر تيقن أنه أتى به , ولم يجز تسريحه
, لأن فرضا عليه دعاؤه إلى التوبة حتى يتوب , ولا سبيل إلى إمساكه - وبالله تعالى
التوفيق وهكذا أبدا متى تاب ثم واقع الذنب أو غيره , فقد جاء عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم خبران مرسلان في أنه استتاب السارق بعد قطع يده : كما حدثنا حمام
(11/140)
نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري
نا عبد الرزاق عن ابن جريج , وسفيان الثوري , ومعمر , قال ابن جريج , وسفيان ,
كلاهما : عن أبي خصفة , عن محمد بن عثمان بن ثوبان , وقال معمر : عن أيوب
السختياني , قال أيوب , وابن ثوبان : "أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم
برجل سرق شملة فقيل يا رسول الله هذا سرق ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما
إخاله , أسرقت ؟ قال : نعم , قال : فاذهبوا فاقطعوا يده , ثم احسموها , ثم ائتوني
به , فأتوه به , فقال : إني أتوب إلى الله , فقال : اللهم تب عليه" . وبه -
إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"قطع رجلا ثم أمر به فحسم قال له تب إلى الله تعالى ؟ فقال : أتوب إلى الله
تعالى , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن السارق إذا قطعت يده وقعت في النار
, فإن عاد تبعها , وإن تاب استشالها". قال عبد الرزاق يقول استشالها
استرجعها.
قال أبو محمد رحمه الله: هذان مرسلان ولا حجة في مرسل , وإنما الحجة فيما أوردنا
من النصوص قبل , وإنما أوردناهما لئلا يموه مموه بما فيهما من الاستتابة بعد القطع
- وبالله تعالى التوفيق.
(11/141)
2173 ـ مسألة : الامتحان في الحدود , وغيرها : بالضرب , أو السجن أو التهديد ؟ قال علي رحمه الله : لا يحل الامتحان في شيء من الأشياء بضرب , ولا بسجن , ولا بتهديد , لأنه لم يوجب ذلك قرآن , ولا سنة ثابتة , ولا إجماع , ولا يحل أخذ شيء من الدين , إلا من هذه الثلاثة النصوص بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" . فحرم الله تعالى البشر , والعرض , فلا يحل ضرب مسلم , ولا سبه إلا بحق أوجبه القرآن , أو السنة الثابتة . وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فلا يحل لأحد أن يمنع مسلما من المشي في الأرض بالسجن بغير حق أوجبه قرآن أو سنة ثابتة . وأما من صح قبله حق ولواه ومنعه , فهو ظالم قد تيقن ظلمه , فواجب ضربه أبدا حتى يخرج مما عليه , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع" ولأمره عليه السلام بجلد عشرة فأقل فيما دون الحد على ما نذكره في " باب التعزير " إن شاء الله تعالى , وإنما هذا فيما صح أنه عنده أو يعلم مكانه , لما ذكرنا . وأما من كلف إقرارا على غيره فقط - وقد علم أنه يعلم الجاني - فلا يجوز تكليفه ذلك , لأنها شهادة , ومن كتم الشهادة فإنه فاسق , لقول الله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . فإذ هو فاسق آثم , فلا ينتفع بقوله , لا يحل قبول شهادته حينئذ , وهو مجرح بذلك أبدا ما لم يتب , فلا
(11/141)
يحل أن يهدد أحد , ولا أن يروع بأن يبعث
إلى ظالم يعتدي عليه - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله: ولا خلاف
في أن كل هذا حرام في الذمي كما هو في المسلم , فإن ضرب حتى أقر , فقد جاء عن بعض
السلف في هذا : ما حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن
وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب : أن طارقا كان جعل ثعلبا الشامي
على المدينة يستخلفه , فأتى بإنسان اتهم بسرقة , فلم يزل يجلده حتى اعترف بالسرقة
, فأرسل إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فاستفتاه ؟ فقال ابن عمر : لا تقطع يده حتى
يبرزها .
قال أبو محمد رحمه الله: أما إن لم يكن إلا إقراره فقط فليس بشيء , لأن أخذه
بإقرار هذه صفته لم يوجبها قرآن , ولا سنة , ولا إجماع , وقد صح تحريم بشرته ودمه
بيقين , فلا يحل شيء من ذلك إلا بنص أو إجماع فإن استضاف إلى الإقرار أمر يتحقق به
يقينا صحة ما أقر به - ولا يشك في أنه صاحب ذلك - فالواجب إقامة الحد عليه , وله
القود - مع ذلك - على من ضربه - السلطان كان أو غيره - لأنه ضربه ظالما له دون أن
يجب عليه ضرب - وهو عدوان - وقد قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} الآية , وليس ظلمه , وما وجب عليه من حد الله تعالى , أو
لغيره , بمسقط حقه عند غيره في ظلمه له , بل يؤخذ منه ما عليه , ويعطي هو من غيره
. وهكذا قال مالك , وغيره , في السارق يمتحن فيخرج السرقة بعينها : أن عليه القطع
إذا كانت مما يقطع فيه , إلا أن يقول : دفعها إلي إنسان أدفعها له , وإنما اعترفت
لما أصابني من الضرب : فلا يقطع . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا صحيح , وبه يقول .
وأما البعثة في المتهم وإيهامه دون تهديد ما يوجب عليه الإقرار فحسن واجب :
"كبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف اليهودي - الذي ادعت الجارية
التي رض رأسها - فسيق إليه فلم يزل به - عليه السلام - حتى اعترف فأقاد منه".
وكما فعل علي بن أبي طالب إذ فرق بين المدعى عليهم القتل وأسر إلى أحدهم , ثم رفع
صوته بالتكبير فوهم الآخر أنه قد أقر , ثم دعا بالآخر فسأله فأقر , حتى أقروا كلهم
: فهذا حسن , لأنه لا إكراه فيه , ولا ضرب . وقد كره هذا مالك , ولا وجه لكراهيته
, لأنه ليس فيه عمل محظور , وهو فعل صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ينكر ذلك ,
وإنما الكره . ما حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا
أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد
القطان نا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي عن أبيه عن الحارث بن سويد عن عبد الله بن
مسعود أنه قال : ما من كلام يدرأ عني سوطا أو سوطين عند سلطان إلا تكلمت به.
(11/142)
وعن شريح أنه قال : السجن كره , والوعيد
كره , والقيد كره , والضرب كره .
وقال أبو محمد رحمه الله: كل ما كان ضررا في جسم , أو مال , أو توعد به المرء في
ابنه , أو أبيه , أو أهله , أو أخيه المسلم , فهو كره , لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه". ولما روينا من طريق
البخاري نا مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
(11/143)
2174 - مسألة : الشهادة على الحدود:
قال علي : نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن
وضاح نا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن علي بن كليب عن أبيه أن علي
بن أبي طالب كان يأمر بالشهود إذا شهدوا على السارق أن يقطعوه يلون ذلك ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ليس هذا بواجب , لأنه لا يوجبه قرآن , ولا سنة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثابتة , لكن طاعة الإمام أو أميره واجبة , فإذا أمر
الإمام أو أميره الشهود , أو غيرهم أن يقطعه لزمتهم الطاعة وبالله تعالى التوفيق .
وبه - إلى وكيع نا إسرائيل عن جابر الجعفي عن الشعبي في رجلين شهدا على ثلاثة أنهم
سرقوا , قال : يقطعون . قال علي رحمه الله : وهكذا نقول - ولو شهد عدلان على ألف
رجل , أو أكثر , بقتل , أو بسرقة , أو بحرابة , أو بشرب خمر , أو بقذف : لوجب
القود , والقطع , والحد - في كل ذلك على جميعهم بشهادة الشاهدين - ولا فرق بين
شهادتهما عليهم مجتمعين , وبين شهادتهما على كل واحد منهم على انفراده .
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن عدلين شهدا على عدول بشيء مما ذكرنا وقال المشهود
عليهم : نشهد عليهم بكذا وكذا , مثل ما شهد به الشاهدان عليهم أو شيئا آخر ؟ لم
يلتفت إلى شهادة المشهود عليهم أصلا - ووجب إنفاذ الحدود والحقوق عليهم بشهادة
السابقين إلى الشهادة . برهان ذلك : أن المشهود عليهم بما ذكرنا قد بطلت عدالتهم ,
وصحت جرحتهم بشهادة العدلين عليهم بما شهدا به , مما يوجب الحد , فإن من ثبت عليه
ما يوجب الحد , أو بعض المعاصي التي لا توجب حدا , كالغصب , وغيره : فهو مجرح فاسق
بيقين , ولا شهادة لمجرح فاسق أصلا . فلو أن المشهود عليهم صحت توبتهم بعد ما كان
منهم : وجب بذلك أن تعود عدالتهم , فإذا كان ذلك كذلك , فإن الشهادتين معا مقبولتان
, وينفذ على كلا الطائفتين شهدت به عليها الأخرى , إلا أن كلتا الشهادتين شهادة
واجبة قبولها بنص القرآن والسنة
(11/143)
في أمره تعالى بالحكم بشهادة العدول - وبالله تعالى التوفيق . فإن شهدت كلتا الطائفتين على الأخرى معا لم تسبق إحدى الشهادتين الأخرى : إما عند حاكمين , وإما في عقدين عند حاكم واحد , فهما أيضا شهادتان قائمتان صحيحتان , فإن كلتا الشهادتين تبطل بيقين لا شك فيه , لأنه ليست إحداهما بأولى بالقبول من الأخرى , فلو قبلناهما معا , لكنا قد صرنا موقنين بأننا ننفذ الشهادة الآن دأبا حكما بشهادة فساق , لأن كل شهادة منهما توجب الفسق والجرحة على الأخرى , والمنع من قبول الشهادة الأخرى . ولو حكمنا بإحدى الشهادتين على الأخرى مطارفة لكان هذا عين الظلم والجور , إذ لم يوجب ترجيح إحداهما على الأخرى نص ولا إجماع , ومن أراد أن يرجح الشهادة هاهنا بأعدل البينتين , أو بأكثرهما عددا : فهو خطأ من القول , لأنه لم يوجب الله تعالى قط شيئا من ذلك , ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أجمعت الأمة عليه , والحكم بمثل هذا لا يجوز .
(11/144)
حكم من شهد في حد بعد حين
...
2175 - مسألة : من شهد في حد بعد حين:
قال أبو محمد رحمه الله: نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن
أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية ثنا وكيع نا مسعر بن كدام عن أبي عون - هو
محمد بن عبد الله الثقفي - قال عمر بن الخطاب : من شهد على رجل بحد لم يشهد به حين
أصابه , فإنما يشهد على ضغن . قال علي : نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم
بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : بلغني عن ربيعة أنه قال في رجل زنى
في صباه واطلع على ذلك رهط عدول , فلم يرفعوا أمره , ولبث بذلك سنين , وحسنت حالته
, ثم نازع رجلا فرماه بذلك , وأتى على ذلك بالبينة واعترف , فإنه يرجم , لا يضع
الحد عن أهله طول زمان , ولا أن يحدث صاحب ذلك حسن هيئة - قال ابن وهب : يريد
بصباه : سفهه بعد الاحتلام . قال أبو محمد رحمه الله: وقال أبو حنيفة , وأصحابه :
إن شهد أربعة عدول أحرار مسلمون بالزنى بعد مدة فلا حد عليه . قال أبو يوسف :
مقدار المدة المذكورة شهر واحد . وقالوا : إن شهد عليه عدلان مسلمان حران بسرقة
بعد مدة فلا قطع عليه , لكن يضمن ما شهد عليه بأنه سرقه . ولو شهدا عليه بشرب خمر
, فإن كانت الشهادة وريح الخمر توجد منه , أو وهو سكران - : أقيم عليه الحد - وإن
كانت تلك الشهادة بعد ذهاب الريح أو السكر , فلا حد عليه إلا أن يكونوا حملوه إلى
الإمام في مصر آخر , فزال الريح أو السكر في الطريق : فإنه يحد . ولو شهد عليه بعد
مدة طويلة بقذف أو جراحة حد للقذف , ووجب عليه حكم تلك الجراحة . وقال الشافعي ,
وأصحابه , وأصحابنا : يقام عليه الحد في كل ذلك . وقال الأوزاعي , والليث , والحسن
بن حي مثل ذلك.
(11/144)
قال أبو محمد رحمه الله: وإذ قد بلغنا
هاهنا فلنتكلم - بعون الله تعالى - في حكم من اطلع على حد , أهو في حرج إن كتم
الشهادة أم في سعة من ذلك ؟ فنقول : قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ
لِلَّهِ} وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ
اللَّهِ} . وقال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . وقال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا} . ووجدنا ما روينا من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث - هو ابن سعد -
عن عقيل عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في
حاجة أخيه كان الله في حاجته , ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب
يوم القيامة , ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب استعمال هذه النصوص كلها , فنظرنا في ذلك : فوجدنا
العمل في جمعها - الذي لا يحل لأحد غيره - لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يخص عموم
الآيات المذكورة بالخبر المذكور , وإما أن يخص عموم الخبر المذكور بالآيات
المذكورات , إذ لا يمكن ألبتة غير هذا ولا بد من أحد العملين , فإن خصصنا عموم
الآيات بالخبر كان القول في ذلك أن القيام بالشهادات كلها , والإعلان بها فرض ,
إلا ما كان منها ستر المسلم في حد من الحدود , فالأفضل الستر , وإن خصصنا عموم الخبر
بالآيات كان القول في ذلك أن الستر على المسلم حسن , إلا ما كان من أداء الشهادات
فإنه واجب . فنظرنا : أي هذين العملين هو الذي يقوم البرهان على صحته فيؤخذ به ,
إذ لا يحل أخذ أحدهما مطارفة دون الآخر , ولا يجوز أن يكونا جمعا جميعا , بل الحق
في أحدهما بلا شك . فنظرنا في ذلك - بعون الله تعالى - فوجدنا الستر على المسلم
الذي ندبنا إليه في الحديث لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما يستره ويستر
عليه في ظلم يطلب به المسلم , فهذا فرض واجب , وليس هذا مندوبا إليه , بل هو
كالصلاة والزكاة . وإما أن يكون في الذنب يصيبه المسلم ما بينه وبين ربه تعالى ,
ولم يقل أحد من أهل الإسلام بإباحة الستر على مسلم في ظلم ظلم به مسلما , كمن أخذ
مال مسلم بحرابة واطلع عليه إنسان , أو غصبه امرأته , أو سرق حرا , وما أشبهه ,
فهذا فرض على كل مسلم أن يقوم به حتى يرد الظلامات إلى أهلها ؟ فنظرنا في الحديث
المذكور فوجدناه ندبا لا حتما , وفضيلة لا فرضا , فكان الظاهر منه أن للإنسان أن
يستر على المسلم يراه على حد بهذا الخبر , ما لم يسأل عن تلك الشهادة نفسها , فإن
سئل عنها ففرض عليه إقامتها وأن لا يكتمها , فإن كتمها حينئذ فهو عاص لله تعالى .
وصح بهذا اتفاق الخبر مع الآيات , وأن إقامة الشهادة لله تعالى , وتحريم
(11/145)
كتمانها , وكون المرء ظالما بذلك , فإنما
هو إذا دعي فقط , لا إذا لم يدع , كما قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا
مَا دُعُوا} . ثم نظرنا في الخبر المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الذي حدثناه حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا إبراهيم بن
محمد نا يحيى بن يعمر نا ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عبد الله
بن عمرو بن عثمان عن أبي عمرة الأنصاري - هو عبد الرحمن بن زيد بن خالد - أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي
بالشهادة قبل أن يسألها , أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها".
قال أبو محمد رحمه الله: فكان هذا عموما في كل شهادة في حد أو غير حد , ووجدنا قول
الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ} فسوى الله تعالى بين وجوب أداء المرء الشهادة على نفسه , وعلى
والديه , وأقاربه , والأباعد , فوجب من هذه النصوص أن الشهادة لا حرج على المرء في
ترك أدائها ما لم يسألها - حدا كان أو غيره - فإذا سئلها ففرض عليه أداؤها - حدا
أو غيره وأن من كان لإنسان عنده شهادة , والمشهود له لا يدري بها - : ففرض عليه
إعلامه بها , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قيل : لمن
يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه , ولأئمة المسلمين , وعامتهم" فإن سأله
المشهود أداءها لزمه ذلك فرضا , لما ذكرنا قبل من قول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وإن لم يسأل لم يلزمه أن يؤديها - وبالله تعالى
التوفيق . وأما من كانت عنده شهادة على إنسان بزنى , فقذف ذلك الزاني إنسان فوقف
القاذف على أن يحد للمقذوف , ففرض على الشاهد على المقذوف الزاني أن يؤدي الشهادة
ولا بد , سئلها أو لم يسألها - علم القاذف بذلك أو لم يعلم - وهو عاص لله تعالى إن
لم يؤدها حينئذ , لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . ولقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه". ولقوله عليه
السلام: "انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما". فهذا إذا أدى الشهادة التي
عنده بصحة ما قذف به , معين على إقامة حد بحق غير ظالم به , معين على البر والتقوى
- وإن لم يؤدها : معين على الإثم والعدوان , وهو ظالم قد أسلمه للظلم , إذ تركه
يضرب بغير حق . فإن ذكروا : ما ناه يوسف بن عبد الله وغيره قالوا : حدثنا محمد بن
الجسور ثنا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس حدثنا يحيى بن بكير نا مالك بن أنس عن
يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: "إن رجلا من أسلم جاء إلى أبي
بكر الصديق فقال : إن الآخر زنى , فقال له أبو بكر : هل ذكرت ذلك لغيري ؟ فقال :
لا , قال أبو بكر : فتب إلى الله , واستتر بستر الله , فإن الله يقبل التوبة عن
(11/146)
عباده , فلم تقر نفسه حتى أتى عمر بن الخطاب , فقال له كما قال لأبي بكر , فقال له عمر كما قال له أبو بكر فلم تقر نفسه حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الآخر زنى , قال سعيد بن المسيب : فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا - كل ذلك يعرض عنه - حتى إذا أكثر عليه ؟ بعث إلى أهله , فقال : أيشتكي , أبه جنة ؟ فقالوا : لا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكر أم ثيب ؟ فقالوا : بل ثيب - : فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم . قال سعيد : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أسلم يقال له هزال : لو سترته بردائك لكان خيرا لك". قال يحيى : فذكرت هذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي ؟ فقال يزيد هزال جدي - وهذا الحديث حق قال علي : فإن هذا الحديث مرسل لم يسنده سعيد , ولا يزيد بن نعيم ولا حجة في مرسل , ولو انسند لما خرج منه إلا أن الستر , وترك الشهادة أفضل فقط - هذا على أصول القائلين بالقياس إذا سلم لهم - وبالله تعالى التوفيق.
(11/147)
حكم اختلاف الشهود في الحدود
...
2176 - مسألة : اختلاف الشهود في الحدود:
قال أبو محمد: فلما اختلفوا في ذلك , فنظرنا في ذلك , فالذي نقول به : أن كل ما
تمت به الشهادة , ووجب القضاء بها , فإن كل ما زاده الشهود على ذلك فلا حكم له ,
ولا يضر الشهادة اختلافهم , كما لا يضرها سكوتهم عنه - وأن كل ما لا تتم الشهادة
إلا به - : فهذا هو الذي يفسدها اختلافهم , فالشهادة إذا تمت من أربعة عدول بالزنى
على إنسان بامرأة يعرفونها أجنبية , لا يشكون في ذلك , ثم اختلفوا في المكان , أو
في الزمان , أو في المزني بها , فقال بعضهم : أمس بامرأة سوداء , وقال بعضهم :
بامرأة بيضاء اليوم - : فالشهادة تامة , والحد واجب , لأن الزنى قد تم عليه , ولا
يحتاج في الشهادة إلى ذكر مكان ولا زمان , ولا إلى ذكر التي زنى بها - فالسكوت عن
ذكر ذلك وذكره سواء - وكذلك في السرقة , ولو قال أحدهما : أمس , وقال الآخر : عام
أول , أو قال أحدهما : بمكة , وقال الآخر : ببغداد , فالسرقة قد صحت , وتمت
الشهادة فيها - ولا معنى لذكر المكان , ولا الزمان , ولا الشيء المسروق منه - سواء
اختلفا فيه , أو اتفقا فيه , أو سكتا عنه , لأنه لغو , وحديث زائد , ليس من
الشهادة في شيء . وكذلك في شرب الخمر , وفي القذف : فالحد قد وجب , ولا معنى لذكر
المكان , والمقذوف في ذلك , والمسكوت عنه وذكره , والاتفاق عليه والاختلاف فيه
سواء.
قال أبو محمد رحمه الله: ومن ادعى الخلاف في ذلك ؟ فيلزمه أن يراعي اختلاف الشهود
في لباس الزاني , والسارق , والشارب , والقاذف , فإن قال أحدهما : كان في رأسه
قلنسوة , وقال الآخر : عمامة , أو قال أحدهما : كان عليه ثوب أخضر , وقال الآخر :
بل أحمر , وقال أحدهما : في غيم , وقال الآخر : في صحو - فهذا كله لا معنى له .
فإن قال قائل : إن الغرض
(11/147)
في مراعاة الاختلاف إنما هو أن تكون
الشهادة على عمل واحد فقط , وإذا اختلفوا في المكان , أو الزمان , أو المقذوف , أو
المزني بها , أو المسروق منه , أو الشيء المسروق : فلم يشهدوا على عمل واحد ؟ قلنا
: من أين وقع لكم أن تكون الشهادة في كل ذلك على عمل واحد , وأي قرآن , أو سنة ,
أو إجماع أوجب ذلك ؟ وأي نظر أوجبه ؟ وهذا ما لا سبيل إلى وجوده , بل الغرض إثبات
الزنى المحرم , والقذف المحرم , والسرقة المحرمة , والشرب المحرم , والكفر المحرم
فقط , ولا مزيد , وبيان ذلك : قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية . فصح بهذه
الآية : أن الواجب إنما هو إثبات الزنى فقط , وهو الذي رماها به , ولا معنى لذكره
التي رماها ولا سكوته عنه , فليس عليه أن يأتي بأكثر من أربعة شهداء : على أن الذي
رماها به من الزنى حق , ولا نبالي عملا واحدا كان أو أربعة أعمال , لأن كل ذلك زنا
. وكذلك إن شهد عليه بالقذف لمحصنة , فقد ثبت عليه بالقرآن ثمانون جلدة , ولم يحد
الله تعالى أن يكون في الشهادة ذكر الزمان , ولا ذكر المكان فالزيادة لهذا باطل
بيقين , لأن الله تعالى لم يأمر به , ولا بمراعاته . وكذلك قال الله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فحسبنا , وصحة الشهادة
بأنها سارقة , أو أنه سارق , ولم نجد الله تعالى ذكر الزمان , أو المكان , أو
المسروق منه , أو الشيء المسروق , فمراعاة ذلك باطل بيقين لا شك فيه . وهكذا قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب الخمر فاجلدوه" فأوجب الجلد
بشرب الخمر , فإذا صحت الشهادة بشرب الخمر فقد وجب الحد , بنص أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم في ذلك , ولا معنى لمراعاة ذكر مكان , أو زمان , أو صفة الخمر , أو
صفة الإناء - إذ لم يأت نص بذلك عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم
فمراعاة ذلك باطل بلا شك - والحمد لله رب العالمين .
قال أبو محمد:وقد جاء نحو ذلك عن السلف : كما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا ابن
مفرج حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب أنا السري بن
يحيى قال : حدثنا الحسن البصري قال : شهد الجارود على قدامة بن مظعون أنه شرب
الخمر - وكان عمر قد أمر قدامة على البحرين - فقال عمر للجارود : من يشهد معك ؟
قال : علقمة الخصي ؟ فدعا علقمة , فقال له عمر : بم تشهد ؟ فقال علقمة : وهل تجوز
شهادة الخصي ؟ قال عمر : وما يمنعه أن تجوز شهادته إذا كان مسلما , قال علقمة :
رأيته يقيء الخمر في طست , قال عمر : فلا وربك ما قاءها حتى شربها : فأمر به فجلد
الحد , فهذا حكم عمر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يعرف له منهم مخالف في
إقامة
(11/148)
الحد بشهادتين مختلفتين إحداهما : أنه رآه يشرب الخمر , والأخرى : أنه لم يره يشربها , لكن رآه يتقيؤها - وعهدناهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم , وهم هاهنا قد خالفوا عمر بن الخطاب , والجارود , وجميع من بحضرتهما من الصحابة , فلا مؤنة عليهم - وحسبنا الله ونعم الوكيل .
(11/149)
2177 - مسألة : الإقرار بالحد بعد مدة
وأيهما أفضل الإقرار أم الاستتار به:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في ذلك , فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما
اختلفوا فيه لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى - : فنظرنا فيما احتجت به
الطائفة المختارة للستر , وأن جميع الأمة متفقون على أن الستر مباح , وأن الاعتراف
مباح , إنما اختلفوا في الأفضل , ولم يقل أحد من أهل الإسلام : إن المعترف بما عمل
مما يوجب الحد : عاص لله تعالى في اعترافه , ولا قال أحد من أهل الإسلام قط : إن الساتر
على نفسه ما أصاب من حد : عاص لله تعالى : فنظرنا في تلك الأخبار التي جاءت في ذلك
فوجدناها كلها لا يصح منها شيء , إلا خبرا واحدا في آخرها , لا حجة لهم فيه , على
ما نبين إن شاء الله تعالى . وأما خبر هزال الذي صدرنا به من طريق شعبة عن محمد بن
المنكدر عن ابن هزال عن أبيه : فمرسل , فلا حجة فيه ; لأنه مرسل . وكذلك الذي من
طريق ابن المبارك عن يحيى بن سعيد عن ابن المنكدر - ويزيد بن النعيم أيضا مرسل .
وكذلك حديث مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري : مرسل أيضا . وحديث الليث عن يحيى بن
سعيد مرسل أيضا - فبطل الاحتجاج برواية يحيى بن سعيد - وبالله تعالى التوفيق . ثم
نظرنا في هذا الخبر من طريق عكرمة بن عمار , فوجدناه لا حجة فيه لوجهين : أحدهما :
أنه مرسل , والثاني : أن عكرمة بن عمار ضعيف . ثم نظرنا فيه من طريق حبان بن هلال
عن أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن يزيد بن
نعيم بن هزال الأنصاري عن عبد الله بن دينار فوجدناه أيضا مرسلا . ثم نظرنا فيه من
طريق ابن جريج عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبد الله بن دينار : فوجدناه أيضا
مرسلا . ثم نظرنا فيه من رواية معمر عن أيوب السختياني عن حميد بن هلال : فوجدناه
أيضا مرسلا . ثم نظرنا فيه من رواية الحبلي عن أبي قلابة - فوجدناه مرسلا . وأما
حديث حماد بن سلمة , ففيه أبو المنذر لا يدرى من هو - وأبو أمية المخزومي ولا يدرى
من هو ؟ وهو أيضا مرسل , وحتى لو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة , لأنه ليس فيه
إلا: "ما إخالك سرقت" ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق -
فلو صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذي سيق إليه بالسرقة: "ما
إخالك سرقت" لكنا على يقين من أنه عليه السلام قد صدق
(11/149)
ذلك , وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق
, وليس في هذا تلقين له , ولا دليل على أن الستر أفضل - فبطل تعلقهم بهذا الخبر
جملة . وأما حديث مسلم في الإجهاد فلا حجة فيه لوجهين : أحدهما : أنه من رواية
محمد بن عبد الله بن أخي الزهري , وهو ضعيف . والثاني : أنه لو صح لما كانت لهم
فيه حجة أصلا , لأن الإجهاد المذكور إنما هو ما ذكره المرء مفتخرا به , لأنه ليس
في هذا الخبر أنه يخبر به الإمام معترفا ليقام عليه كتاب الله تعالى , وإنما فيه
ذم المجاهرة بالمعصية - وهذا لا شك فيه حرام . ثم نظرنا في حديث مسلم الذي رواه
ابن شهاب عن أبي سلمة , وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أعرض عن المعترف مرات" فوجدناه صحيحا لا داخلة فيه لأحد , إلا أنه
لا حجة لهم فيه , لأن الناس في سبب إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه على
قولين : فطائفة قالت : إنما أعرض عنه , لأن الإقرار بالزنى لا يتم إلا بتمام أربع
مرات , وطائفة قالت : إنما أعرض عنه - عليه السلام - لأنه ظن أن به جنونا , أو شرب
خمرا - ولم يقل أحد من الأمة : أن الحاكم إذا ثبت عنده الإقرار بالحد جاز له أن
يستره ولا يقيمه - فبطل تعلقهم بهذا الخبر , وسنستقصي الكلام في تصحيح أحد هذين
الوجهين بعد هذا - إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فلم يبق لهذه الطائفة خبر يتعلقون به أصلا ؟ ثم نظرنا فيما روي في
ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - فوجدناه أيضا لا يصح منه شيء : أما الرواية عن
أبي بكر , وعمر - رضي الله عنهما - في قولهما للأسلمي : استتر بستر الله , فلا تصح
, لأنها عن سعيد بن المسيب مرسلة . وكذلك حديث إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة
عن عبد الله بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن : أن أبا بكر فهو مرسل .
قال أبو محمد: ثم نظرنا فيما احتجت به الطائفة الأخرى , فوجدنا الرواية عن الصحابة
أن الطائفة منهم قالت : ما توبة أفضل من توبة ماعز : جاء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فوضع يده في يده وقال : اقتلني بالحجارة . فصح هذا من قول طائفة عظيمة
من الصحابة - رضي الله عنهم - بل لو قلنا : إنه لا مخالف لهذه الطائفة من الصحابة
- رضي الله عنهم - لصدقنا , لأن الطائفة الأخرى لم تخالفها , وإنما قالت : لقد هلك
ماعز , لقد أحاطت به خطيئته - فإنما أنكروا أمر الخطيئة لا أمر الاعتراف , فوجدنا
تفضيل الاعتراف لم يصح عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم - خلافه . ثم نظرنا فيما
احتجوا به من الآثار : فوجدناها في غاية الصحة والبيان , لأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حمد توبة ماعز ,
(11/150)
والغامدية , وذكر عليه السلام : أن توبة
ماعز لو قسمت بين أمة لوسعتهم - وأن الغامدية لو تاب توبتها صاحب مكس لغفر له -
وأن الجهينية لو قسمت توبتها بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم , ثم رفع - عليه
السلام - الإشكال جملة , فقال : إنها لم تجد أفضل من أن جادت بنفسها لله . فصح
يقينا أن الاعتراف بالذنب ليقام عليه الحد أفضل من الاستتار له بشهادة النبي صلى
الله عليه وسلم أنه لا أفضل من جود المعترف بنفسه لله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: ومن البرهان على ذلك أيضا . ما رويناه من طريق مسلم أنا
يحيى بن يحيى , وأبو بكر بن أبي شيبة , وعمرو الناقد , وإسحاق بن إبراهيم - هو ابن
راهويه - ومحمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن سفيان بن عيينة - واللفظ لعمرو , قال
سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال:
"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس , فقال : بايعوني على أن لا
تشركوا بالله شيئا , ولا تزنوا , ولا تسرقوا , ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا
بالحق , فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة
له , ومن أصاب شيئا فستره الله عليه , فأمره إلى الله , إن شاء عفا عنه , وإن شاء
عذبه".
قال علي رحمه الله : فارتفع الإشكال جملة - والحمد لله رب العالمين - وصح بنص كلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامه أمته , ونصيحته إياهم بأحسن ما علمه ربه
تعالى , أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله تعالى - إن شاء عذبه وإن
شاء غفر له - وأن من أقيم عليه الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب , وكفره الله تعالى عنه
- وبالضرورة ندري : أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في إمكانها أو عذاب الآخرة ,
وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار ؟ - نعوذ بالله منها - فكيف من أكثر من
ذلك ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن اعتراف المرء بذنبه عند الإمام أفضل من الستر
بيقين , وأن الستر مباح بالإجماع - وبالله تعالى التوفيق.
(11/151)
حكم تعافي الحدود قبل بلوغها الى الحاكم
...
2178 - مسألة : تعافوا الحدود قبل بلوغها إلى الحاكم:
قال أبو محمد رحمه الله: أنا عبد الله بن ربيع أنا عمر بن عبد الملك أنا محمد بن
بكر أنا أبو داود أنا سليمان بن داود المهري نا ابن وهب سمعت ابن جريج يحدث عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله عمرو بن العاص " أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب". نا
حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن وضاح نا سحنون نا
ابن وهب قال : سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب
(11/151)
عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب". نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبي نا محمد بن جعفر نا سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح عن طارق بن مرقع عن صفوان بن أمية: "أن رجلا سرق بردة فرفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأمر بقطعه , فقال : يا رسول الله قد تجاوزت عنه , قال فلولا كان هذا قبل أن تأتيني به يا أبا وهب - فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم". نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا هلال بن العلاء الرقي نا حسين نا زهير نا عبد الملك - هو ابن أبي بشير - أنا عكرمة عن صفوان بن أمية أنه طاف بالبيت فصلى ثم لف رداء له في برده فوضعه تحت رأسه فنام , فأتاه لص فاستله من تحت رأسه , فأخذه فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هذا سرق ردائي ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أسرقت رداء هذا ؟ قال : نعم , قال : اذهبا به فاقطعا يده - قال صفوان : ما كنت أريد أن تقطع يده في ردائي ؟ قال : فلو ما كان هذا قبل". نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا أحمد بن عثمان بن حكيم نا عمرو عن أسباط عن سماك عن حميد بن أخت صفوان عن صفوان بن أمية , قال: "كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما , فجاء رجل فاختلسها مني , فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع , فأتيته فقلت له : تقطعه من أجل ثلاثين درهما , أنا أضعه وأنسئه ثمنها ؟ قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به ؟". نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار المكي حدثه: "أنه قيل لصفوان بن أمية : لا دين لمن لم يهاجر ؟ فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه , فقال : ما أقدمك , قال : قيل لي : إنه لا دين لمن لم يهاجر , قال فأقسمت عليك لترجعن إلى أباطيح مكة - ثم جيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل فقال : إن هذا سرق خميصتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقطعوا يده - قال : عفوت عنه يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن تأتيني به ؟". نا يوسف بن عبد الله نا أحمد بن محمد بن الجسور نا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس نا يحيى بن بكير نا مالك نا ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أن صفوان بن أمية , قيل له: "إنه من لم يهاجر هلك , فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد , وتوسد رداءه , فجاء سارق فأخذ رداءه , فأخذ صفوان السارق , فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده , فقال صفوان : إني لم أرده بهذا , هو عليه صدقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن تأتيني به".
(11/152)
قال أبو محمد رحمه الله: وجاء فيه أيضا
عن بعض السلف كما رويناه بالسند المذكور إلى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن
الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان ؟ فشفع
له الزبير ليرسله , فقال : لا , حتى أبلغ به إلى السلطان , فقال له الزبير : إذا
بلغت به إلى السلطان فلعن الله الشافع والمشفع
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجدناها
لا يصح منها شيء أصلا : أما الأول فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عمرو , وهي صحيفة .
وأما حديث صفوان فلا يصح فيه شيء أصلا , لأنها كلها منقطعة , لأنها عن عطاء ,
وعكرمة , وعمرو بن دينار , وابن شهاب , وليس منهم أحد أدرك صفوان . وأما عن عطاء
عن طارق بن مرتفع وهو مجهول , أو عن أسباط عن سماك عن حميد بن أخت صفوان وهذا ضعيف
عن ضعيف عن مجهول . قال علي : فإذ ليس في هذا الباب أثر يعتمد عليه , فالمرجوع
إليه هو طلب حكم هذه المسألة من غير هذه الآثار : فنظرنا في ذلك فوجدنا قد صح
بالبراهين التي قد أوردنا قبل : أن الحد لا يجب إلا بعد بلوغه إلى الإمام وصحته
عنده . فإذ الأمر كذلك فالترك لطلب صاحبه قبل ذلك مباح , لأنه لم يجب عليه فيما
فعل حد بعد - ورفعه أيضا مباح , إذ لم يمنع من ذلك نص أو إجماع , فإذ كلا الأمرين
مباح , فالأحب إلينا - دون أن يفتى به - أن يعفى عنه ما كان وهلة ومستورا , فإن
أذى صاحبه وجاهر : فرفعه أحب إلينا - وبالله تعالى التوفيق.
(11/153)
2179 - مسألة : هل تدرأ الحدود بالشبهات
أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: ذهب قوم إلى أن الحدود تدرأ بالشبهات , فأشدهم قولا بها
واستعمالا لها أبو حنيفة , وأصحابه , ثم المالكيون , ثم الشافعيون . وذهب أصحابنا
إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة , ولا أن تقام بشبهة وإنما هو الحق لله تعالى
ولا مزيد , فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة , لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" وإذا ثبت الحد
لم يحل أن يدرأ بشبهة لقول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا
تَعْتَدُوهَا}.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في اللفظ الذي يتعلق
به من تعلق أيصح أم لا ؟ فنظرنا فيه فوجدناه قد جاء من طرق ليس فيها عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم نص , ولا كلمة , إنما هي عن بعض أصحاب من طرق كلها لا خير
فيها
(11/153)
كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي
نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب قال
: ادرءوا الحدود ما استطعتم وبه - إلى سفيان الثوري عن القاسم بن عبد الرحمن قال
قال ابن مسعود : ادرءوا الحدود ما استطعتم وعن أبي هريرة ادفعوا الحدود ما وجدتم مدفعا
عن ابن عمر قال : ادفعوا الحدود بالشبهات وعن عائشة ادرءوا الحدود عن المسلمين ما
استطعتم وعن عمر بن الخطاب , وابن مسعود كانا يقولان : ادرءوا عن عباد الله الحدود
فيما شبه عليكم.
قال أبو محمد رحمه الله: وهي كلها لا شيء : أما من طريق عبد الرزاق فمرسل , والذي
من طريق عمر كذلك , لأنه عن إبراهيم عن عمر ولم يولد إبراهيم إلا بعد موت عمر بنحو
خمسة عشر عاما والآخر الذي عن ابن مسعود مرسل , لأنه من طريق القاسم بن عبد الرحمن
بن عبد الله بن مسعود وأما أحاديث ابن حبيب ففضيحة , لو لم يكن فيها غيره لكفى
فكلها مرسلة قال أبو محمد رحمه الله: فحصل مما ذكرنا أن اللفظ الذي تعلقوا به لا
نعلمه روي عن أحد أصلا , وهو ادرءوا الحدود بالشبهات لا عن صاحب , ولا عن تابع إلا
الرواية الساقطة التي أوردنا من طريق إبراهيم بن الفضل عن عبد الله بن دينار عن
ابن عمر , وإبراهيم ساقط وإنما جاء كما ترى عن بعض الصحابة مما لم يصح ادرءوا
الحدود ما استطعتم وهذا لفظ إن استعمل أدى إلى إبطال الحدود جملة على كل حال -
وهذا خلاف إجماع أهل الإسلام , وخلاف الدين , وخلاف القرآن , والسنن , لأن كل أحد
هو مستطيع على أن يدرأ كل حد يأتيه فلا يقيمه فبطل أن يستعمل هذا اللفظ وسقط أن
تكون فيه حجة لما ذكرنا وأما اللفظ الآخر في ذكر الشبهات ؟ فقد قلنا : "
ادرءوا " لا نعرفه عن أحد أصلا , إلا ما ذكرنا مما لا يجب أن يستعمل فقط ;
لأنه باطل لا أصل له , ثم لا سبيل لأحد إلى استعماله , لأنه ليس فيه بيان ما هي
تلك " الشبهات " فليس لأحد أن يقول في شيء يريد أن يسقط به حدا "
هذا شبهة " إلا كان لغيره أن يقول : ليس بشبهة , ولا كان لأحد أن يقول في شيء
لا يريد أن يسقط به حدا : ليس هذا شبهة , إلا كان لغيره أن يقول : بل هو شبهة ,
ومثل هذا لا يحل استعماله في دين الله تعالى , إنه لم يأت به قرآن , ولا سنة صحيحة
, ولا سقيمة , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا معقول , مع الاختلاط الذي فيه كما
ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن شغب مشغب بما رويناه من طريق البخاري
(11/154)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم
كان لما استبان أترك , ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان
, والمعاصي حمى الله , من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" فإن هذا صحيح , وبه
نقول , وهو عليهم لا لهم , لأنه ليس فيه إلا ترك المرء ما اشتبه عليه , فلم يدر ما
حكمه عند الله تعالى في الذي له تعبدنا به , وهذا فرض لا يحل لأحد مخالفته وهكذا
نقول : إن من جهل - أحرام هذا الشيء أم حلال ؟ فالورع له أن يمسك عنه , ومن جهل
أفرض هو أم غير فرض ؟ فحكمه أن لا يوجبه , ومن جهل أوجب الحد أم لم يجب ؟ ففرضه أن
لا يقيمه , لأن الأعراض والدماء حرام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" وأما إذا تبين وجوب الحد فلا
يحل لأحد أن يسقطه , لأنه فرض من فرائض الله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم أحدا أشد جسرا على إقامة الحد بالشبهات وحيث لا
تجب إقامتها منهم , ثم يسقطونها حيث أوجبها الله تعالى ورسوله عليه السلام , ونحن
ذاكرون من ذلك طرفا كافيا إن شاء الله تعالى , فأول ذلك النفس التي عظم الله تعالى
أمرها وحرم قتلها إلا بالحق فأما المالكيون - فقتلوا النفس المحرمة بدعوى من لعله
يريد أن يشفي نفسه من عدوه مع أيمان رجلين من عشيرته وإن كانا أفسق البرية , وهم
لا يعطونه بدعواه نواة معفونة , ولو حلفوا مع دعواه ألف يمين وكانوا أصلح البرية ,
هذا سفك الدم المحرم بالشبهة الفاسدة التي لا شبهة أبرد منها ويقتلون بشهادة اللوث
غير العدل والقسامة , ولا يعطون بشهادتهم فلسين , ويقتلون الآبي عن الصلاة إن أقر
بها , وأنها فرض , ويقتلون الممسك آخر حتى قتل , ولا يحدون الممسك امرأة حتى يزنى
بها , ويقتلون الساحر دون استتابة , وإنما هي حيل , وكبيرة كالزنى , ولا يقتلون
آكل الربا , وقول الله تعالى فيه أشد من قوله في الساحر , ويقتلون المستتر بالكفر
- ولا يدرءون عنه بإعلانه التوبة , ولا يقتلون المعلن بالكفر إذا أظهر التوبة ,
ولا فرق , ويقتلون المسلم بالكافر إذا قتله غيلة , ولا يجيزون في ذلك عفو الولي -
وهذا خلاف القرآن , والسنة , وإقامة الحدود بالشبهة الفاسدة , ويجلدون القاتل
المعفو عنه مائة جلدة , وينفونه سنة وأما الحنفيون - فيقتلون المسلم بالكافر خلافا
على الله تعالى , وعلى رسوله عليه السلام , ومحافظة لأهل الكفر , ولا يقتلون
الكافر إذا سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضرة أهل الإسلام في أسواقهم ومساجدهم
, ولا يقتلون من أهل الكفر من سب الله تعالى جهارا بحضرة المسلمين - وهذه أمور
نعوذ بالله منها - ويقتلون الذمي الذي قد حرم دمه إلا بالحق بشهادة كافرين وأما
الزنى : فإن المالكيين - يحدون بالحبل ولعله من
(11/155)
إكراه - ويرجمون المحصن إذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها , أو فعل فعل قوم لوط - محصنا كان أو غير محصن - ولا يحدون واطئ البهيمة - ولا المرأة تحمل على نفسها كلبا - وكل ذلك إباحة فرج بالباطل , ولا يحدون التي تزني - وهي عاقلة بالغة مختارة - بصبي لم يبلغ , ويحدون الرجل إذا زنى بصبية من سن ذلك الصبي وأن ابن القاسم لا يحد النصراني , ولا اليهودي , إذا زنى بمسلمة , ويطلقون الحربي النازل عندنا بتجارة , والمتذمم يغرم الجزية على تملك المسلمات اللواتي سباهن قبل نزوله , وتذممه من حرائر المسلمات من القرشيات والأنصاريات , وغيرهن , وعلى وطئهن , وبيعهن صراحا مباحا - وهذه قولة ما سمع بأفحش منها ؟
(11/156)
بيان ان المالكيين يقطعون في السرقة
الرجلين
...
2180 - مسألة: وأما السرقة: فإن المالكيين يقطعون فيها الرجلين:
بلا نص ثابت ولا إجماع , ويقطعون من دخل منزل إنسان فأخرج منه ما يساوي ثلاثة
دراهم , وقال : إن صاحب الدار أرسلني في هذه الحاجة وصدقه صاحب الدار , ولا
يلتفتون إلى شيء من هذا , أو يقطعون يده مطارفة , ويقطعون جماعة سرقت ربع دينار
فقط , ورأوا - في أحد أقوالهم - أنه إذا غلط بالسارق فقطعت يساره أنه تقطع اليد
الأخرى - فقطعوا يديه جميعا في سرقة واحدة , وما عين الله تعالى قط يمنى من يسرى ,
والحنفيون يقطعون فيها الرجل بعد اليد بغير نص ولا إجماع وأما القذف : فإن
المالكيين يحدون حد القذف , في التعريض , ويسقطون جميع الحدود بالقتل حاشا حد
القذف , فإن كانوا يسقطون سائر الحدود بالشبهة , فما بالهم لا يسقطون حد القذف
أيضا بالشبهة ؟ وقالوا : إنما فعلنا ذلك خوف أن يقال للمقذوف : لو لم يكن الذي
قذفك صادقا لحد لك , ففي أي دين وجدوها من قرآن أو سنة أو قياس ؟ ويحدون شارب
الخمر , ولو جرعة منه خوف أن يقذف أحدا بالزنى , وهو لم يقذف أحدا بعد , فأي عجب
في إقامة الحدود بلا شبهة , ويتعلقون برواية ساقطة عن بعض الصحابة , قد أعاذهم
الله تعالى من مثلها ويحدون من قال لآخر : لست ابن فلان إذا نفاه عن أبيه ويحدون
من قذف امرأته بإنسان سماه , وإن لاعن امرأته , وهذا خلاف لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم مجرد ويحدون من قذف إنسانا نكح نكاحا فاسدا لا يحل مثله , وهو عالم
بالتحريم - هذا وهم يحدون من قذف امرأة مسلمة ظهر بها حمل , وهم يقرون أنهم لا
يحلفون , ولا يقطعون أنه من زنى , ومنهم من يرى الحد على من قال لآخر : زنت عينك ,
أو زنت يدك - وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أن اليدين تزنيان
وزناهما البطش , والعينين تزنيان وزناهما النظر , والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"
وأما الخمر : فإن المالكيين يقيمون الحد فيه بالنكهة - وكل من له معرفة يدري أن من
أكل الكمثرى الشتوي
(11/156)
وبعض أنواع التفاح : أن نكهة فمه , ونكهة شارب الخمر : سواء - وأيضا فلعله ملأ فمه منها ولم يجرعها فبقيت النكهة , أو لعله دلس عليه بها وهو لا يدري , ثم يجلدون - هم والحنفيون في الخمر : ثمانين جلدة , وجمهور الصحابة على أن الحد فيها أربعون , فلم يدرءوا الأربعين الزائدة بالشبهة , ولم يوجبها قرآن , ولا سنة , ولا إجماع ويحدون ثمانين - كما قلنا - بفرية لم يفترها بعد , فيقدمون له الحدود , ولعله لا يقذف أحدا أبدا , ولا فرق بين هذا وبين أن يقدموا له حد زنى لم يكن منه , أو حد سرقة لم يكن منه ويحدون - هم والشافعيون : الفاضل العالم المتأول إحلال النبيذ المسكر , ويقبلون مع ذلك شهادته , ويأخذون العلم عنه - ولا يحدون المتأول في الشغار , والمتعة - وإن كان عالما بالتحريم - ولا في الخليطين - وإن كان حراما – كالخمرة.
(11/157)
2181 مسألة : اعتراف العبد بما يوجب الحد:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا ؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا أصحابنا
يقولون : قال الله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} والعبد مال من مال سيده فاعترافه بما يجب إبطال
بعض مال سيده كسب على غيره , فلا يجوز بنص القرآن ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا احتجاج صحيح إن لم يأت ما يدفعه : فنظرنا فوجدنا الله
تعالى يقول: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فأمر الله تعالى بقبول شهادة
المرء على نفسه وعلى والديه , وأقربائه - ولم يختلف الناس في أن شهادة المرء على
نفسه مقبولة - دون آخر معه دون يمين - تلزمه , سواء كان فاسقا , أو عدلا - مؤمنا
كان أو كافرا - وأن شهادته على غيره لا تقبل إلا بشرط العدالة , وبأن يكون معه
غيره , أو يمين الطالب - على حسب اختلاف الناس في ذلك - ولم يخص الله تعالى عبدا
من حر , فلما ورد هذان النصان من عند رب العالمين : وجب أن ننظر في استعمالهما ؟
فوجدنا أصحابنا يقولون : هو شاهد على نفسه , كاسب على غيره : فلا يقبل , ووجدنا من
خالفهم بقول : بل هو شاهد على نفسه , كاسب عليها , وإن أدى ذلك إلى نقص في مال
سيده , ولم يقصد الشهادة على مال سيده ؟ فنظرنا في هذين الاستعمالين - إذ لا بد من
استعمال أحدهما - فوجدنا قول أصحابنا في أنه كاسب على غيره إنما يصح بواسطة ,
وبإنتاج , لا بنفس الإقرار ؟ ووجدنا قول من خالفهم يصح بنفس القصة , لأنه إنما أقر
على نفسه بنفس لفظه - وهو ظاهر مقصده - وإنما يتعدى ذلك إلى السيد بتأويل لا بظاهر
إقراره ؟ فكان هذا أصح الاستعمالين , وأولاهما ولو كان ما قالوه أصحابنا لوجب أن
لا يحد العبد في زنى , ولا في سرقة , ولا في خمر , ولا في قذف , ولا في حرابة -
وإن قامت بذلك
(11/157)
بينة - وأن لا يقتل في قود , لأنه في ذلك كاسب على غيره , وفي الحد عليه إتلاف لمال سيده ؟ وهذا ما لا يقولونه , لا هم ولا غيرهم.
(11/158)
حكم من قال لا يؤاخذ الله عبداً بأول ذنب
...
2182 - مسألة : من قال : لا يؤاخذ الله عبدا بأول ذنب:
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن
وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن قرة بن عبد الرحمن المعافري عن ابن شهاب قال : أتي
أبو بكر الصديق بسارق ؟ فقال: اقطعوا يده فقال : أقلنيها يا خليفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم فوالله ما سرقت قبلها ؟ فقال له أبو بكر : كذبت , والذي نفسي بيده
ما غافص الله مؤمنا بأول ذنب يعمله وبه - إلى ابن وهب عن سفيان الثوري عن حميد
الطويل عن أنس بن مالك قال: أتي عمر بن الخطاب بسارق فقال : والله ما سرقت قبلها ؟
فقال له عمر : كذبت ورب عمر , ما أخذ الله عبدا عند أول ذنب وبه - إلى ابن وهب عن
عبد الله بن سمعان بهذا , وأن علي بن أبي طالب قال له: الله أحلم من أن يأخذ عبده
في أول ذنب يا أمير المؤمنين ؟ فأمر به عمر فقطع , فلما قطع قام إليه علي بن أبي
طالب فقال له : أنشدك الله , كم سرقت من مرة ؟ قال له : إحدى وعشرين مرة - [ غافصه
: فاجأه وأخذه على غرة ] قال أبو محمد رحمه الله: يفعل الله ما يشاء , وكل أحكامه
عدل وحق , فقد يستر الله الكثير والقليل , على من يشاء - إما إملاء وإما تفضلا -
ليتوب , ويأخذ بالذنب الواحد , وبالذنوب - عقوبة أو كفارة له: {لا معقب لحكمه} و
{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} والإسنادان عن أبي بكر , وعلي :
ضعيفان , أحدهما مرسل , والآخر مرسل ساقط , والإسناد في ذلك عن عمر صحيح - ولله
الأمر من قبل ومن بعد .
(11/158)
2183 - مسألة : هل تقام الحدود على أهل
الذمة:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا الخبر ؟ فجاء عن علي بن أبي طالب : لا
حد على أهل الذمة في الزنى وجاء عن ابن عباس : لا حد على أهل الذمة في السرقة وقال
أبو حنيفة : لا حد على أهل الذمة في الزنى , ولا في شرب الخمر - وعليهم الحد في
القذف , وفي السرقة , إلا المعاهد في السرقة , لكن يضمنها , وقال محمد بن الحسن
صاحبه : لا أمنع الذمي من الزنى , وشرب الخمر - وأمنعه من الغناء وقال مالك : لا
حد على أهل الذمة في زنى , ولا في شرب الخمر - وعليهم الحد في القذف , والسرقة
وقال الشافعي , وأبو سليمان , وأصحابهما : عليهم الحد في كل ذلك حدثنا حمام نا ابن
مفرج نا عبد الأعلى بن محمد نا الدبري نا عبد الرزاق نا الثوري أخبرني سماك بن حرب
قابوس بن المخارق عن أبيه قال : كتب محمد بن أبي بكر إلى علي بن أبي طالب يسأله عن
مسلمين تزندقا , وعن مسلم زنى بنصرانية , وعن مكاتب مات وترك بقية من
(11/158)
2184 - مسألة : حد المماليك:
قال أبو محمد رحمه الله: الحدود كلها أربعة أقسام لا خامس لها : إما إماتة بصلب ,
أو بقتل بسيف , أو برجم بالحجارة , وما جرى مجراها - وإما نفي - وإما قطع - وإما
جلد وجاء النص وإجماع الأمة كلها على أن حد المملوكة الأنثى في بعض وجوه الجلد -
وهو الزنى مع الإحصان خاصة - : نصف حد الحر والحرة في ذلك واتفقوا كلهم مع النص :
أن حد المماليك في القتل والصلب كحد الأحرار - وجاء النص أيضا في النفي الذي ليس
له أمر سواه واختلفوا فيما عدا ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى : فذهبت طائفة
إلى أن حد الإماء , والعبيد - فيما عدا ما ذكرنا , ولا نحاش شيئا - كحد الأحرار
سواء سواء , وهو قول أصحابنا وقالت طائفة : حد العبيد , والإماء - في الجلد كله -
على النصف من حد الأحرار والحرائر - وحد العبيد , والإماء في القطع كحد الأحرار
والحرائر - فاختلف هؤلاء : فطائفة تقول به في الأحرار , ولا تقول به في العبيد ,
والنساء , والإماء , والحرائر فالذين يقولون بالنفي المؤقت جملة اختلفوا : فطائفة
جعلت حد الإماء والعبيد فيه نصف حد الحر والحرة - وهو قول الشافعي , وأصحابه
(11/160)
وطائفة جعلت فيه حد الإماء خاصة على
النصف من حد الحرائر , وجعلت فيه حد العبيد كحد الأحرار - وهو قول أبي سليمان ,
وأصحابنا أما الطائفة التي لا تقول بالنفي المؤقت , فهم : أبو حنيفة , وأصحابه
وأما الطائفة التي قالت به في الأحرار خاصة , ولم يقولوا به في العبيد , ولا في
الإماء , ولا في الحرائر , فهم : مالك , وأصحابه وقالت طائفة : حد العبيد ,
والإماء في جلد الزنى على نصف حد الأحرار والحرائر , وحد العبيد , والإماء في القذف
كحد الحر , والحرة - وهو قول روي عن عمر بن عبد العزيز , وغيره قال أبو محمد رحمه
الله: والذي نقول به إنه حد المماليك ذكورهم , وإناثهم في الجلد , والنفي المؤقت ,
والقطع : على النصف من حد الحر والحرة - وهو كل ما يمكن أن يكون له نصف وأما ما لا
يمكن أن يكون له نصف من القتل بالسيف , أو الصلب , أو النفي الذي لا وقت له :
فالمماليك , والأحرار فيه سواء قال أبو محمد رحمه الله: فأما أقوال من ذكرنا
فالتناقض فيها ظاهر لا خفاء به , وما نعلم لهم شبهة أصلا , وسنذكر أقوالهم إن شاء
الله تعالى - إلا أن يقول قائل : إن القطع لا يمكن تنصيفه , فهو خطأ من قبل الآثار
, ومن قبل الحس والمشاهدة فأما من قبل الحس والمشاهدة : فإن اليد معروفة المقدار ,
فقطع نصفها ممكن ظاهر بالعيان - وهو قطع الأنامل فقط ويبقى الكف - وقد وجدناهم
يوقعون على الأنامل خاصة حكم اليد , فلا يختلفون فيمن قطعت أنامله كلها أن له دية
يد , فمن قطع الأنامل خاصة فقد وافق النص , لأنه قطع ما يقع عليه اسم يد - كما
أمره الله تعالى - وقطع نصف ما يقطع من الحر ; كما جاء النص أيضا على ما نذكره -
وكذلك الرجل أيضا لها مقدار معروف , فقطع نصفها ممكن - وهو قطعها من وسطها مع
الساق فقط وأما من طريق الآثار : فحدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا
الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن علي بن أبي طالب كان يقطع اليد من
الأصابع والرجل من نصف القدم وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي المقدام
, قال : أخبرني من رأى علي بن أبي طالب يقطع يد رجل من المفصل وبه - إلى عبد
الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار , قال : كان عمر بن الخطاب يقطع القدم من
مفصلها , وكان علي يقطع القدم - قال ابن جريج : أشار لي عمرو إلى شطرها.
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد جاء النص عن علي - رضي الله عنه - قطع اليد من
المفصل , وقطعها من الأصابع : فالواجب حمل ذلك على خلاف التناقض الذي لا وجه له ,
لكن على أن ذلك في حالين مختلفين , وهكذا القول في القدم أيضا.
قال أبو محمد رحمه الله: والقوم أصحاب قياس بزعمهم , وقد صح النص
(11/161)
والإجماع على أن حد الأمة المحصنة في الزنى نصف حد الحرة المحصنة , وصح النص والإجماع أن حد العبد في القتل بالسيف , والصلب : كحد الحر - وكذلك في النفي غير المؤقت , فكان يلزمهم على أصولهم التي ينتمون إليها في القول بالقياس على أن يجعلوا ما اختلف فيه من القطع مردودا إلى أشبه الجنسين به فهذه عمدتهم التي اتفقوا عليها في القياس , فإذا فعلوا هذا وجب أن يكون القطع مقيسا على الجلد , لا على القتل , ولا على النفي غير المؤقت , وذلك أن القتل لا يتنصف , وكذلك النفي غير المؤقت وأما الجلد فيتنصف والقطع يتنصف فكان قياس ما يتنصف على ما يتنصف أولى من قياس ما يتنصف على ما لا يتنصف - هذا أصح قياس لو صح شيء من القياس يوما ما قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك ليلوح الحق من ذلك فنتبعه فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى في الإماء {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فكان هذا من الله تعالى لا يحل خلافه , وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ولم يخص الله تعالى من ذلك إلا الإماء فقط {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وأبقى العبيد فلم يخص كما خص الإماء " ومن الباطل أن يريد الله تعالى أن يخص العبيد مع الإماء فيقتصر على ذكر الإماء ويمسك عن ذكر العبيد ويكلفنا من ذلك علم الغيب ومعرفة ما عنده مما لم يعرفنا به , حاشا لله تعالى من هذا وكذلك قال الله عز وجل {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فلم يخص تعالى هاهنا أمة من حرة , ولا عبدا من حر ومن الباطل أن يريد الله تعالى أن لا تجلد العبيد والإماء في القذف ثمانين جلدة , ويكون أقل من ذلك , ثم يأمرنا بجلد من قذف ثمانين جلدة , ولا يبين ذلك لنا , أفي حر دون عبد ؟ وفي حرة دون أمة ؟ وهذا خلاف قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقد قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} فكان حد القذف من حدود الله تعالى , وحد الزنى من حدود الله تعالى فلا يحل أن يتعدى ما حد الله تعالى منها ؟ وحد الله تعالى في القذف ثمانين , وفي الزنى مائة , فلا يحل لأحد أن يتعدى ما حد الله تعالى في أحدهما إلى ما حد الله تعالى في الآخر فواضح بلا شك أن حمل أحدهما على الآخر في عبد , أو أمة , أو حر , أو حرة : فقد تعدى حدود الله , وسوى ما خالف الله تعالى بينهما وقال الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فقلتم : إن الحر , والعبد , والأمة سواء , فأين زهق عنكم قياسكم الذي خالفتم به القرآن في حد العبد القاذف , والأمة القاذفة ؟ ومن أين وجب أن تستسهلوا مخالفة قول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} قياسا
(11/162)
على قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَاب} وعظم عندكم أن تخالفوا قوله: {فاقطعوا أيديهما} قياسا على قوله:
{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} إن هذا لعجب جدا ؟ قال أصحابنا : ووجدنا الله
تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً
بِمَا كَسَبَا} فكان من المحال أن يريد الله تعالى أن يكون حكم العبد والأمة في
ذلك بخلاف حكم الحر والحرة ثم لا يبينه ؟ هذا أمر قد تيقنا أن الله تعالى لا
يكلفنا إياه , ولا يريده منا ؟ قالوا : ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا شرب فاجلدوه" وجلد في الخمر حدا مؤقتا ولم يخص - عليه السلام -
بذلك الحكم حرا من عبد , ولا حرة من أمة - وهو المبين عن الله تعالى ؟
قال أبو محمد رحمه الله: كل ما ذكره أصحابنا فهو حق صحيح - إن لم تأت سنة ثابتة
تبين صحة ما ذهبنا إليه - وأما إن جاءت سنة صحيحة توجب ما قلناه , فالواجب الوقوف
عند ما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين لنا مراد ربنا تعالى
, فنظرنا في ذلك : فوجدنا ما ثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن
شعيب أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن علية نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة
عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه وأقيم عليه الحد بحساب
ما عتق منه". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا
محمد بن عيسى الدمشقي نا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن قتادة وأيوب السختياني
قال قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي بن أبي طالب , وقال أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ,
ثم اتفق علي , وابن عباس , كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكاتب
يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه ويرث بقدر ما عتق
منه".
قال أبو محمد رحمه الله: هذا إسناد عجيب , كأن عليه من شمس الضحى نورا , ما ندري
أحدا غمزه بشيء إلا أن بعضهم ادعى أن وهيبا أرسله.
قال أبو محمد رحمه الله: فكان ماذا إذا أرسله وهيب ؟ قد أسند حكم المكاتب فيما
ذكرنا , وفي ديته حماد بن سلمة , وحماد بن زيد عن أيوب , وأسنده علي بن المبارك
ويحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيضا :
فإن الحنفيين , والمالكيين , متفقون على أن المرسل كالمسند ولا فرق , فعلى قولهم
ما زاده إرسال وهيب بن خالد إلا قوة , فإذ قد صح , وثبت فقد وجب ضرورة بنص حكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حدود المماليك جملة عموما لذكورهم
(11/163)
وإناثهم : مخالفة لحكم حدود الأحرار عموما لذكورهم وإناثهم , وإذ ذلك كذلك فلا قول لأحد من الأمة إلى أن حد المماليك على النصف من حدود الأحرار , فكان هذا واجبا القول به , وبهذا نقول - وبالله تعالى التوفيق.
(11/164)
هلي يقيم السيد الحدود على مماليكه أم لا
...
2185 - مسألة : هل يقيم السيد الحدود على مماليكه أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة: يقيم السيد جميع
الحدود من القتل فما دونه على مماليكه وقالت طائفة : يحد السيد مماليكه في الزنى ,
والخمر , والقذف , ولا يحده في قطع ؟ قالوا : وإنما يحده إذا شهد عليه بذلك الشهود
وقالت طائفة : لا يحد السيد مملوكه في شيء من الأشياء , وإنما الحدود إلى السلطان
فقط فالقول الأول : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد
الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق , وجلد
عبدا له زنى من غير أن يرفعهما وبه - إلى عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع
عن ابن عمر قال : إن جارية لحفصة سحرتها واعترفت بذلك , فأخبرت بها عبد الرحمن بن
زيد بن الخطاب , فقتلها , فأنكر ذلك عليها عثمان بن عفان ؟ فقال له ابن عمر : ما
تنكر على أم المؤمنين امرأة سحرت فاعترفت ؟ فسكت عثمان وبه - إلى عبد الرزاق عن
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم عن نافع قال : أبق غلام لابن عمر فمر على غلمة
لعائشة أم المؤمنين فسرق منهم جرابا فيه تمر , وركب حمارا لهم فأتي به ابن عمر
فبعث به إلى سعيد بن العاص - وهو أمير على المدينة - فقال سعيد : لا يقطع غلام أبق
؟ فأرسلت إليه عائشة : إنما غلمتي غلمتك , وإنما جاع , وركب الحمار ليبلغ عليه ,
فلا تقطعه ؟ قال : فقطعه ابن عمر وعن إبراهيم النخعي أن النعمان بن مقرن قال :
لابن مسعود أمتي زنت ؟ قال : اجلدها , قال : إنها لم تحصن ؟ قال : إحصانها إسلامها
قال شعبة : أنا الأعمش عن إبراهيم بهذا , وفيه : جلدها خمسين وعن عبد الله بن
مسعود وغيره , قالوا : إن الرجل يجلد مملوكته الحدود في بيته , وأن النعمان بن
مقرن سأل عبد الله بن مسعود قال : أمتي زنت ؟ قال : اجلدها خمسين , قال إنها لم
تحصن ؟ قال ابن مسعود : إحصانها إسلامها وعن ابن وهب نا ابن جريج : أن عمرو بن
دينار أخبره : أن فاطمة بنت رسول الله كانت تجلد وليدتها خمسين إذا زنت وعن أنس بن
مالك : أنه كان يجلد ولائده خمسين إذا زنين حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن
الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج نا عمرو بن دينار أن الحسن بن محمد
ابن الحنفية أخبره : أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم جلدت أمة لها الحد زنت
وعن إبراهيم النخعي قال : كان علقمة , والأسود يقيمان الحد على جواري قومهما.
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روي عن بعض من ذكرنا , وغيرهم : جواز عفو
(11/164)
السيد عن مماليكه في الحدود : كما نا
حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن رجل عن سلام بن
مسكين أخبرني عن حبيب بن أبي فضالة أن صالح بن كريز حدثه أنه جاء بجارية له زنت
إلى الحكم بن أيوب , قال : فبينما أنا جالس إذ جاء أنس بن مالك فجلس فقال : يا
صالح ما هذه الجارية معك ؟ قلت : جاريتنا بغت فأردت أن أرفعها إلى الإمام ليقيم
عليها الحد ؟ قال : لا تفعل , رد جاريتك , واتق الله واستر عليها ؟ قلت : ما أنا
بفاعل حتى أرفعها , قال له أنس : لا تفعل وأطعني , قال صالح : فلم يزل يراجعني حتى
قلت له : أردها على أن ما كان علي من ذنب فأنت له ضامن ؟ فقال أنس : نعم , قال :
فرددتها وعن إبراهيم النخعي في الأمة تزني , قال : تجلد خمسين , فإن عفا عنها سيدها
فهو أحب إلينا , قال عبد الرزاق : وبه نأخذ قال أبو محمد رحمه الله: وهذان أثران
ساقطان , لأنهما عمن لم يسم وأما من فرق بين ذات الزوج وغير ذات الزوج فكما نا
حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن
سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : في الأمة إذا كانت ليست بذات زوج فظهر منها
فاحشة جلدت نصف ما على المحصنات من العذاب يجلدها سيدها فإن كانت من ذوات الأزواج
رفع أمرها إلى الإمام وعن ربيعة أنه قال : إحصان المملوكة أن تكون ذات زوج , فيذكر
منها فاحشة فلا يصدق عليها سيدها , والزوج يذب عن ولده , وعن رحمها , وعن ما بيده
, فليس يقيم الفاحشة عليها إلا بشهادة أربعة , ولا يقيم الحد عليها إذا ثبت إلا
السلطان , قال الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وأما من فرق بين
الجلد في الزنى , والخمر , والقذف , وبين القطع في السرقة , فهو قول مالك , والليث
: وما نعلمه عن أحد قبلهما.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا نظرنا في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بمن الله
تعالى - فوجدنا أبا حنيفة , وأصحابه , يحتجون بما : ناه عبد الله بن ربيع نا عبد
الله بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد
بن سلمة عن يحيى البكاء عن مسلم بن يسار عن أبي عبد الله - رجل من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم - قال : كان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه , قال : هو عالم
فخذوا عنه , فسمعته يقول : الزكاة , والحدود , والفيء , والجمعة , إلى السلطان وعن
الحسن البصري : أنه ضمن هؤلاء أربعا : الجمعة , والصدقة , والحدود , والحكم وعن
ابن محيريز أنه قال : الحدود , والفيء , والزكاة , والجمعة , إلى السلطان
(11/165)
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم
شبهة غير هذا , وكل هذا لا حجة لهم فيه , لأنه ليس في شيء مما ذكروا : أن لا يقيم
الحدود على المماليك ساداتهم , وإنما فيه ذكر الحدود عموما إلى السلطان , وهكذا
نقول , لكن يخص من ذلك حدود المماليك إلى ساداتهم بدليل - إن وجد ثم أيضا - لو كان
فيما ذكروه لما كانت فيه حجة , لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما قول مالك , والليث , في التفريق بين الجلد , والقطع
, والقتل , فلا نعلم لهم أيضا حجة أصلا , ولا ندري لهم في هذا التفريق سلفا من
صاحب , ولا تابع , ولا متعلقا من قرآن , ولا من سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولعل
بعضهم أن يقول : إن السيد له جلد عبيده وإمائه أدبا , وليس له قطع أيديهم أدبا ,
فلما كان الحد في الزنى , والخمر , والقذف جلدا كان ذلك للسادات , لأنه حد , وجلد
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا القول في غاية الفساد لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" فجلد الأدب هو غير جلد
الحد بلا شك - وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا في قول ربيعة , فوجدناه قولا لا
تؤيده حجة , لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة : أما قول ربيعة فإن للزوج أن ينوب
عنها فحجة زائفة جدا , وما جعل الله تعالى للزوج اعتراضا , ولا ذبا فيما جاءت
السنة بإقامته عليها وأما من رأى السيد يقيم جميع الحدود على مماليكه , فنظرنا فيه
فوجدنا : ما نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن
محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عيسى بن حماد المصري نا الليث بن سعد عن
سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد , ولا يثرب عليها , ثم
إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها , ثم إن زنت الثالثة فليبعها لو بحبل من
شعر" وعن مسلم أيضا : أنا القعنبي أنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن
؟ قال: "إن زنت فاجلدوها , ثم إن زنت فاجلدوها , ثم إن زنت فاجلدوها , ثم
بيعوها , ولو بضفير" قال ابن شهاب : والضفير - الحبل قال ابن شهاب : لا أدري
أبعد الثالثة , أو الرابعة - والأخبار فيما ذكرنا كثيرة جدا.
قال أبو محمد رحمه الله: ثم نتكلم - بعون الله تعالى - فيما ذكرنا في الأخبار
المذكورة من بيع الأمة التي تزني , فنقول : إن الليث روى هذا الحديث عن سعيد
(11/166)
ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي
هريرة : إن زنت الثالثة فليبعها - ولو بحبل من شعر - وهكذا رواه عبد الرزاق عن
عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة وهكذا أيضا - رواه خالد
بن الحارث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة , فلم يذكروا زناها المرة
الثالثة جلدا , بل ذكروا البيع فقط وعن أبي صالح عن أبي هريرة أن يقام الحد عليها
ثلاث مرات , ثم تباع بعد الثالثة مع الجلد - وهكذا رواه سفيان بن عيينة قال علي :
فوجب أن يلغى الشك ويستقر البيع بعد الثالثة مع الجلد - والطرق كلها في ذلك في
غاية الصحة , وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو عن الله تعالى , قال الله
تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} فإذ ذلك كذلك فأمره صلى الله عليه
وسلم بالبيع في الثالثة ندب برهان ذلك : أمره بالبيع في الرابعة لا يمكن ألبتة إلا
هذا , لأنه لو كان أمره صلى الله عليه وسلم في الثالثة فرضا لما أباح حبسها إلى
الرابعة وأما البيع في الرابعة ففرض لا بد منه , لأن أوامره صلى الله عليه وسلم
على الفرض لقول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}
الآية.
قال أبو محمد رحمه الله: ويجبره السلطان على بيعها أحب أم كره بما ينتهي إليه
العطاء فيها , ولا يتأتى بها طلب زيادة , ولا سوق , كما أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن تباع - ولو بحبل من شعر , أو ضفير من شعر - إذا لم يوجد فيها إلا ذلك
, فإن زنت في خلال تعريضها للبيع , أو قبل أن تعرض حدها أيضا , لعموم أمره صلى
الله عليه وآله وسلم بجلدها إن زنت - وكذلك إن غاب السيد أو مات , فلا بد من بيعها
على الورثة ضرورة - فإن كانت لصغار جلدها الولي أو الكافل , لقول رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم في رواية مالك عن الزهري فاجلدوها , فهو عموم لكل من قام به ,
ولا يلزم البيع في العبد إذا زنى , لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما
أمر بذلك الأمة إذا زنت {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} {وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وكذلك إن سرقت الأمة أو شربت الخمر ,
فإنها تحد ولا يلزم بيعها , لأن النص إنما جاء في زناها فقط {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيّاً}.
قال أبو محمد رحمه الله: فلو أعتقها السيد إذا تبين زناها لم ينفذ عتقه بل هو
مردود , لأنه مأمور ببيعها وإخراجها عن ملكه , فهو في عتقه إياها , أو كتابته لها
, أو هبته إياها , أو الصدقة بها , أو إصداقها , أو إجارتها , أو تسليمها في شيء
بصفة غير البيع - مما شاء نقدا أو إلى أجل - بدنانير أو بدراهم : مخالف لأمر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال عليه السلام: "من عمل عملا ليس عليه
أمرنا فهو رد" وكذلك لو دبرها فمات , أو أوصى بها , فكل ذلك باطل , ولا بد من
بيعها.
(11/167)
قال أبو محمد رحمه الله: ولا يجوز أن يقيم الحد السيد على مماليكه إلا بالبينة , أو بإقرار المماليك , أو صحة علمه ويقينه , على نص قوله صلى الله عليه وسلم: "فتبين زناها" ولا يطلق على إقامة الحدود على المماليك إلا أهل العدالة , فقط من المسلمين
(11/168)
2186 - مسألة : أي الأعضاء تضرب في
الحدود:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا ؟ وقال الله تعالى: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ففعلنا :
فوجدنا الله تعالى قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقال عليه السلام: "إذا شرب فاجلدوه" وقال
عليه السلام: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب
عام" وسنذكر كل ذلك - إن شاء الله تعالى - فلم نجد عن الله تعالى , ولا عن
رسوله صلى الله عليه وسلم أمرا بأن يخص عضوا بالضرب دون عضو إلا حد القذف وحده ,
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: "البينة وإلا حد في