الكتاب : نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
أبواب الدفن وأحكام القبور
باب تعميق القبر واختيار اللحد على الشق
1 -
عن رجل من الأنصار قال : ( خرجنا في جنازة فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على حفيرة القبر فجعل يوصي الحافر ويقول : أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين
رب عذق له في الجنة )
- رواه أحمد وأبو داود
2 -
وعن هشام بن عامر قال : ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد
فقلنا : يا رسول الله الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم : احفروا وأعمقوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد فقالوا
: فمن نقدم يا رسول الله قال : قدموا أكثرهم قرآنا وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر
واحد )
- رواه النسائي والترمذي بنحوه وصححه
-
الحديث الأول أخرجه أيضا البيهقي . قال الحافظ : إسناده صحيح . والحديث الثاني
أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجه واختلف فيه على حميد بن هلال راويه عن هشام فمنهم
من أدخل بينه وبين سعد بن هشام ابنه ومنهم من أدخل بينهما أبا الدهماء ومنهم من لم
يذكر بينهما أحدا
قوله : ( يوصي ) بالواو والصاد من التوصية وذكر ابن المواق أن الصواب يرمي بالراء
والميم وأطال في ذلك . وفيه مشروعية التوصية من الحاضرين للدفن بتوسيع القبر وتفقد
ما يحتاج إلى التفقد
قوله : ( رب عذق ) العذق بفتح العين النخلة والجمع أعذق وأعذاق وبكسر العين القنو
منها والعنقود من العنب والجمع أعذاق وعذوق
قوله : ( وأعمقوا وأحسنوا ) فيه دليل على مشروعية إعماق القبر وإحسانه . وقد اختلف
في حد الإعماق فقال الشافعي : قامة . وقال عمر بن عبد العزيز : إلى السرة . وقال
الإمام يحيى : إلى الثدي . وأقله ما يواري الميت ويمنع السبع . وقال مالك : لا حد
لإعماقه . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال : أعمقوا
القبر إلى قدر قامة وبسطة
قوله : ( وادفنوا الاثنين ) الخ فيه جواز الجمع بين جماعة في قبر واحد ولكن إذا
دعت إلى ذلك حاجة كما في مثل هذه الواقعة وإلا كان [ ص 125 ] مكروها كما ذهب إليه
الهادي والقاسم وأبو حنيفة والشافعي . قال المهدي في البحر : أو تبركا كقبر فاطمة
فيه خمسة يعني فاطمة والحسن بن علي وعلي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي
الباقر وولده جعفر بن محمد الصادق وهذا من المجاورة لا من الجمع بين جماعة في قبر
واحد الذي هو المدعى . وقد قدمنا في باب ترك غسل الشهيد طرفا من الكلام على دفن
الجماعة في قبر
قوله : ( قدموا أكثرهم قرآنا ) فيه دليل على أنه يقدم في اللحد من كان أكثرهم أخذا
للقرآن ويلحق بذلك سائر المزايا الدينية لعدم الفارق
3 -
وعن عامر بن سعد قال : ( قال سعد : ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه
4 -
وعن أنس قال : ( لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان رجل يلحد وآخر
يضرح فقالوا نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فأرسل إليهما فسبق صاحب
اللحد فلحدوا له )
- رواه أحمد وابن ماجه . ولابن ماجه هذا المعنى من حديث ابن عباس وفيه : ( إن أبا
عبيدة بن الجراح كان يضرح وإن أبا طلحة كان يلحد )
5 -
وعن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللحد لنا والشق
لغيرنا )
- رواه الخمسة . قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
-
حديث أنس قال الحافظ : إسناده حسن . وحديث ابن عباس الأول قال الحافظ أيضا : في
إسناده ضعف وحديثه الثاني أخرجه من ذكره المصنف عن سعيد بن جبير عنه قال : ( قال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي كما وجدنا ذلك في
بعض النسخ الصحيحة من جامعه . وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف
( وفي الباب ) عن جرير بن عبد الله عند أحمد والبزار وابن ماجه بنحو حديث ابن عباس
الثاني وفيه عثمان بن عمير وهو ضعيف وزاد أحمد بعد قوله لغيرنا أهل الكتاب . وعن
ابن عمر عند أحمد وفيه عبد الله العمري بلفظ : ( أنهم ألحدوا للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم لحدا ) وأخرجه ابن أبي شيبة عنه بلفظ : ( ألحدوا للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم ولأبي بكر وعمر ) وعن جابر عند ابن شاهين بنحو حديث سعد بن أبي وقاص .
وعن بريدة عند ابن عدي في الكامل وعن عائشة [ ص 126 ] عند ابن ماجه بنحو حديث أنس
وإسناده ضعيف وله طريق أخرى عند ابن أبي حاتم في العلل وقال : إنها خطأ والصواب
المحفوظ مرسل وكذا رجح الدارقطني المرسل
قوله : ( ألحدوا ) قال النووي في شرح مسلم : هو بوصل الهمزة وفتح الحاء ويجوز بقطع
الهمزة وكسر الحاء يقال لحد يلحد كذهب يذهب وألحد يلحد إذا حفر القبر واللحد بفتح
اللام وضمها معروف وهو الشق تحت الجانب القبلي من القبر انتهى . قال الفراء :
الرباعي أجود وقال غيره : الثلاثي أكثر ويؤيده حديث عائشة في قصة دفن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد . وسمي اللحد لحدا لأنه شق يعمل
في جانب القبر فيميل عن وسطه والإلحاد في أصل اللغة الميل والعدول . ومنه قيل
للمائل عن الدين ملحد
قوله : ( وانصبوا على اللبن نصبا ) فيه استحباب نصب اللبن لأنه الذي صنع برسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم باتفاق الصحابة . قال النووي : وقد نقلوا أن عدد
لبناته صلى الله عليه وآله وسلم تسع
قوله : ( كان يضرح ) أي يشق في وسط القبر . قال الجوهري : الضرح الشق
( والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على استحباب اللحد وأنه أولى من الضرح وإلى
ذلك ذهب الأكثر كما قال النووي وحكى في شرح مسلم إجماع العلماء على جواز اللحد
والشق انتهى . ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرر من كان يضرح ولم
يمنعه . ولا يقدح في صحة حديث ابن عباس الثاني وما في معناه تحير الصحابة عند موته
صلى الله عليه وآله وسلم هل يلحدون له أو يضرحون بأن يقال لو كان عندهم علم بذلك
لم يتحيروا لأنه يمكن أن يكون من سمع منه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لم يحضر عند
موته
باب من أين يدخل الميت قبره وما يقال عند ذلك والحثي في القبر
1 -
عن أبي إسحاق قال : ( أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد فصلى عليه ثم
أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال : هذا من السنة )
- رواه أبو داود وسعيد في سننه وزاد ثم قال : ( أنشطوا الثوب فإنما يصنع هذا
بالنساء )
2 -
وعن ابن عمر : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كان إذا وضع الميت في
القبر قال بسم [ ص 127 ] الله وعلى ملة رسول الله ) وفي لفظ : ( وعلى سنة رسول
الله )
- رواه الخمسة إلا النسائي
3 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر
الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا )
- رواه ابن ماجه
-
الحديث الأول سكت عنه أبو داود المنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده رجال
الصحيح . ( وفي الباب ) عن ابن عباس عند الشافعي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم سل من قبل رأسه سلا ) وعن ابن عمر عند أبي بكر النجاد مثله . وعن أبي رافع
عند ابن ماجه قال : ( سل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ سلا ورش
على قبره الماء ) وأما الزيادة التي زادها سعيد فسيأتي الكلام فيها
والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم ( وفي الباب ) عن ابن عمر عند النسائي
والحاكم وغيرهما وفيه الأمر به وقد اختلف في رفعه ووقفه ورجح الدارقطني والنسائي
الوقف ورجح غيرهما الرفع وقد رواه ابن حبان من طريق سعيد عن قتادة مرفوعا وروى
البزار والطبراني عن ابن عمر نحوه وابن ماجه عنه مرفوعا وفي إسناده حماد بن عبد
الرحمن الكلبي وهو مجهول . وعن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عند
الطبراني قال : قال لي اللجلاج : يا بني إذا أنا مت فألحدني فإذا وضعتني في لحدي فقل
بسم الله وعلى ملة رسول الله ثم شن علي التراب شنا ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة
وخاتمتها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك . واللجلاج بجيمين
وفتح اللام الأولى . وعن أبي حازم مولى الغفاري حدثني البياضي وهو صحابي كما في
الكاشف وغيره عند الحاكم يرفعه بلفظ : ( الميت إذا وضع في قبره فليقل الذين يضعونه
حين يوضع في اللحد بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
وعن أبي أمامة عند الحاكم والبيهقي بلفظ : ( لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : منها
خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة
رسول الله ) الحديث وسنده ضعيف كما قال الحافظ . والحديث الثالث قال أبو حاتم في
العلل : هذا حديث باطل وقال الحافظ : إسناده ظاهر الصحة قال ابن ماجه : حدثنا
العباس بن الوليد حدثنا يحيى بن صالح حدثنا سلمة بن كلثوم حدثنا الأوزاعي عن يحيى
بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكره ورجاله ثقات وقد رواه ابن أبي داود من
هذا الوجه وصححه . قال الحافظ : لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه [ ص 128 ]
بالبطلان إلا بعد أن تبين له وأظن العلة فيه عنعنة الأوزاعي وعنعنة شيخه وهذا كله
إن كان يحيى بن صالح هو الوحاظي شيخ البخاري
( وفي الباب ) عن عامر بن ربيعة عند البزار والدارقطني قال : ( رأيت النبي صلى
الله عليه وآله وسلم حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعا وحثى على
قبره بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه ) وزاد البزار : ( فأمر فرش
عليه الماء ) قال البيهقي : وله شاهد من حديث جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا رواه
الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن جعفر . وعن أبي المنذر عند أبي داود في المراسيل :
( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حثى في قبر ثلاثا ) قال أبو حاتم في العلل :
أبو المنذر مجهول . وعن أبي أمامة عند البيهقي قال : توفي رجل فلم تصب له حسنة إلا
ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه . وعن أبي هريرة غير حديث الباب عند أبي
الشيخ مرفوعا : ( من حثى على مسلم احتسابا كتب له بكل ثراة حسنة ) قال الحافظ :
إسناده ضعيف
قوله : ( وقال هذا من السنة ) فيه وفيما قدمنا دليل على أنه يستحب أن يدخل الميت
من قبل رجلي القبر أو موضع رجلي الميت منه عند وضعه فيه وإلى ذلك ذهب الشافعي
وأحمد والهادي والناصر والمؤيد بالله وقال أبو حنيفة : أنه يدخل القبر من جهة
القبلة معرضا إذ هو أيسر وإتباع السنة أولى من الرأي
وقد استدل لأبي حنيفة بما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم
أدخلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة القبلة ويجاب بأن البيهقي ضعفها .
وقد روى عن الترمذي تحسين حديث ابن عباس منها وأنكر ذلك عليه لأن مداره على الحجاج
بن أرطأة قال في ضوء النهار : على أنه لا حاجة إلى التضعيف بذلك لأن قبر النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كان عن يمين الداخل إلى البيت لاصقا بالجدار والجدار الذي
ألحد تحته هو القبلة فهو مانع من إدخال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة
القبلة ضرورة انتهى . قال في البدر المنير بعد أن ذكر أنه أدخل صلى الله عليه وآله
وسلم من جهة القبلة : وهو غير ممكن كما ذكره الشافعي في الأم وأطنب في الشناعة على
من يقول ذلك ونسبه إلى الجهالة ومكابرة الحس انتهى
قوله : ( ثم قال أنشطوا الثوب ) بهمزة فنون فشين معجمة فطاء مهملة أي اختلسوه ذكر
معناه في القاموس وقد أخرج نحو هذه الزيادة يوسف القاضي بإسناد له عن رجل عن علي :
( أنه أتاهم وهم يدفنون قيسا وقد بسط الثوب على قبره فجذبه وقال : إنما يصنع هذا
بالنساء ) والطبراني عن أبي إسحاق أيضا أن عبد الله بن يزيد صلى على الحارث الأعور
وفيه ثم لم [ ص 129 ] يدعهم يمدون ثوبا على القبر وقال هكذا السنة وقد رواه ابن
أبي شيبة من طريق الثوري عن أبي إسحاق بلفظ : ( شهدت جنازة الحارث فمدوا على قبره
ثوبا فجذبه عبد الله بن يزيد وقال : إنما هو رجل ) ورواه البيهقي بإسناد صحيح إلى
أبي إسحاق السبيعي أنه حضر جنازة الحارث الأعور فأمر عبد الله بن يزيد أن يبسطوا
عليه ثوبا . قال الحافظ : لعل الحديث كان فيه فأمر أن لا يبسطوا فسقطت لا أو كان
فيه فأبى بدل فأمر . وروى البيهقي من حديث ابن عباس قال : ( جلل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قبر سعد بثوبه قال البيهقي : لا أحفظه إلا من حديث يحيى بن
عقبة بن أبي العيزار وهو ضعيف . وروى عبد الرزاق عن الشعبي عن رجل أن سعد بن مالك
قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فستر على القبر حتى دفن سعد بن معاذ
فيه فكنت ممن أمسك الثوب وفي إسناده هذا المبهم . وقد أوله القائلون باختصاص ذلك
بالمرأة على أنه إنما فعل صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بقبر سعد لأنه كان مجروحا
وكان جرحه قد تغير
قوله : ( قال بسم الله ) الخ فيه استحباب هذا الذكر عند وضع الميت في قبره
قوله : ( من قبل رأسه ) فيه دليل على أن المشروع أن يحثى على الميت من جهة رأسه
ويستحب أن يقول عند ذلك { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى }
ذكره أصحاب الشافعي . وقال الهادي : بلغنا عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان
إذا حثى على ميت قال اللهم إيمانا بك وتصديقا برسلك وإيقانا ببعثك هذا ما وعد الله
ورسوله وصدق الله ورسوله ثم قال من فعل ذلك كان له بكل ذرة حسنة
باب تسليم القبر ورشه بالماء وتعليمه ليعرف وكراهة البناء والكتابة عليه
1 -
عن سفيان التمار أنه : ( رأى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسنما )
- رواه البخاري في صحيحه
2 -
وعن القاسم قال : ( دخلت على عائشة فقلت : يا أمة بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى
الله عليه وآله وسلم وصاحبيه فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة
ببطحاء العرصة الحمراء ) [ ص 130 ]
- رواه أبو داود
-
الرواية الأولى أخرجها أيضا ابن أبي شيبة من طريق سفيان المذكور وزاد وقبر أبي بكر
وقبر عمر كذلك . وكذلك أخرجه أبو نعيم وذكر هذه الزيادة التي ذكرها ابن أبي شيبة .
والرواية الثانية أخرجها أيضا الحاكم من هذا الوجه وزاد : ( ورأيت قبر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم مقدما وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وعمر رأسه عند رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
( وفي الباب ) عن صالح بن أبي صالح عند أبي داود في المراسيل قال : ( رأيت قبر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم شبرا أو نحو شبر ) وعن عثيم بن بسطام المديني عند
أبي بكر الآجري في كتاب صفة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( رأيت قبره
صلى الله عليه وآله وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع
أصابع ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه )
قوله : ( مسنما ) أي مرتفعا . قال في القاموس : التسنيم ضد التسطيح وقال سطحه
كمنعه وبسطه
قوله : ( ولا لاطئة ) أي ولا لازقة بالأرض
( وقد اختلف أهل العلم ) في الأفضل من التسنيم والتسطيح بعد الاتفاق على جواز الكل
. فذهب الشافعي وبعض أصحابه والهادي والقاسم والمؤيد بالله إلى أن التسطيح أفضل
واستدلوا برواية القاسم بن محمد بن أبي بكر المذكورة وما وافقها قالوا وقول سفيان
التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي لاحتمال أن قبره صلى الله عليه وآله وسلم لم
يكن في الأول مسنما بل كان في أول الأمر مسطحا ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر
بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة وبهذا يجمع
بين الروايات ويرجح التسطيح ما سيأتي من أمره صلى الله عليه وآله وسلم عليا أن لا
يدع قبرا مشرفا إلا سواه . وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية
وادعى القاضي حسين اتفاق أصحاب الشافعي عليه ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء أن
التسنيم أفضل وتمسكوا بقول سفيان التمار والأرجح أن الأفضل التسطيح لما سلف
3 -
وعن أبي الهياج الأسدي عن علي قال : ( أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته )
- رواه [ ص 131 ] الجماعة إلا البخاري وابن ماجه
-
قوله : ( عن ابن الهياج ) هو بفتح الهاء وتشديد الياء واسمه حيان بن حصين
قوله : ( لا تدع تمثالا إلا طمسته ) فيه أمر بتغيير صور ذوات الأرواح
قوله : ( ولا قبرا مشرفا إلا سويته ) فيه أن السنة أن القبر لا يرفع رفعا كثيرا من
غير فرق بين من كان فاضلا ومن كان غير فاضل . والظاهر أن رفع القبور زيادة على
القدر المأذون فيه محرم وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك
والقول بأنه غير محظور لوقوعه من السلف والخلف بلا نكير كما قال الإمام يحيى
والمهدي في الغيث لا يصح لأن غاية ما فيه أنهم سكتوا عن ذلك والسكوت لا يكون دليلا
إذا كان في الأمور الظنية وتحريم رفع القبور ظني ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث
دخولا أوليا القبب والمشاهد المعمورة على القبور وأيضا هو من اتخاذ القبور مساجد
وقد لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعل ذلك كما سيأتي وكم قد سرى عن تشييد
أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد
الكفار للأصنام وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصدا
لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا
إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت
الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه فإنا لله وإنا إليه راجعون ومع هذا المنكر
الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالما ولا
متعلما ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن
كثيرا من هؤلاء المقبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله
فاجرا فإذا قيل له بعد ذلك احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى
واعترف بالحق وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه
تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للإسلام
أشد من الكفر وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله وأي مصيبة يصاب بها
المسلمون تعدل هذه المصيبة وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن هذا الشرك البين واجبا :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي [ ص 132 ]
ولو نارا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في الرماد
4 -
وعن جعفر بن محمد عن أبيه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رش على قبر
ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء )
- رواه الشافعي
5 -
وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرة )
- رواه ابن ماجه
-
الحديث الأول مرسل وأخرجه أيضا سعيد بن منصور والبيهقي من هذا الوجه مرسلا بهذا
اللفظ وزادا : ورفع قبره قدر شبر
( وفي الباب ) عن جابر عند البيهقي قال : ( رش على قبر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بالماء رشا فكان الذي رش على قبره بلال بن رباح بدأ من قبل رأسه من شقه
الأيمن حتى انتهى إلى رجليه ) وفي إسناده الواقدي والكلام فيه معروف
( وفي الباب ) عن عامر بن ربيعة تقدم في الباب الأول وروى سعيد بن منصور أن الرش
على القبر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى مشروعية الرش على
القبر ذهب الشافعي وأبو حنيفة والقاسمية . والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن عدي قال
أبو زرعة : هذا خطأ والصواب رواية من روى عن المطلب بن حنطب وسيأتي . وقد رواه
الطبراني في الأوسط من حديث أنس بإسناد آخر فيه ضعف ورواه الحاكم في المستدرك في
ترجمة عثمان بن مظعون بإسناد آخر فيه الواقدي من حديث أبي رافع فذكر معناه
وروى أبو داود من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب قال : ( لما مات عثمان بن مظعون
خرج بجنازته فدفن فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا أن يأتي بحجر فلم يستطع
حمله فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحسر عن ذراعيه قال المطلب :
قال الذي أخبرني كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين
حسر عنهما ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال : أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من
أهلي ) قال الحافظ : وإسناده حسن ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب وهو
صدوق انتهى . والمطلب ليس صحابيا ولكنه بين أن مخبرا أخبره ولم يسمه وإبهام
الصحابي لا يضر . ( وفيه دليل ) على جعل علامة على قبر الميت كنصب حجر أو نحوه .
قال الإمام يحيى : فأما نصب حجرين على المرأة وواحدة على الرجل فبدعة قال في البحر
: قلت لا باس به لقصد التمييز لنصبه على قبر ابن مظعون [ ص 133 ]
6 -
وعن جابر قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه
وأن يبنى عليه )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه ولفظه : ( نهى أن تجصص
القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ ) وفي لفظ النسائي : ( نهى أن يبنى
على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه )
-
الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال الحاكم : الكتابة وإن لم
يذكرها مسلم فهي على شرطه وهي صحيحة غريبة . وقال أهل العلم من أئمة المسلمين من
المشرق إلى المغرب على خلاف ذلك
( وفي الباب ) عن ابن مسعود ذكره صاحب مسند الفردوس عن الحاكم مرفوعا : ( لا يزال
الميت يسمع الآذان ما لم يطين عليه ) قال الحافظ : وإسناده باطل فإنه من رواية
محمد بن القاسم الطايكاني وقد رموه بالوضع
قوله : ( أن يجصص القبر ) في رواية لمسلم : ( عن تقصيص القبور ) والتقصيص بالقاف
وصادين مهملتين هو التجصيص . والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة هي الجص وفيه
تحريم تجصيص القبور . وأما التطيين فقال الترمذي : وقد رخص قوم من أهل العلم في
تطيين القبور منهم الحسن البصري والشافعي . وقد روى أبو بكر النجاد من طريق جعفر
بن محمد عن أبيه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع قبره من الأرض شبرا
وطين بطين أحمر من العرصة ) وحكى في البحر عن الهادي والقاسم أنه لا بأس بالتطيين
لئلا ينطمس . وقال الإمام يحيى وأبو حنيفة : يكره
قوله : ( وأن يقعد عليه ) فيه دليل على تحريم القعود على القبر وإليه ذهب الجمهور
وقال مالك في الموطأ : المراد بالقعود الحدث . قال النووي : وهذا تأويل ضعيف أو
باطل والصواب أن المراد بالقعود الجلوس ومما يوضحه الرواية الواردة بلفظ : ( لا
تجلسوا على القبور ) كما سيأتي
قوله : ( وأن يبنى عليه ) فيه دليل على تحريم البناء على القبر وفصل الشافعي
وأصحابه فقالوا : إن كان البناء في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة
فحرام ولا دليل على هذا التفصيل وقد قال الشافعي : رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم
ما يبنى ويدل على الهدم حديث علي المتقدم
قوله : ( وأن يكتب عليها ) فيه تحريم الكتابة على القبور وظاهره عدم الفرق بين
كتابة اسم الميت على القبر وغيرها وقد استثنت الهادوية رسم الاسم فجوزوه لا على
وجه الزخرفة قياسا على وضعه صلى الله عليه وآله وسلم الحجر على قبر عثمان كما تقدم
وهو من التخصيص بالقياس وقد قال به الجمهور لا أنه قياس في مقابلة النص كما قال في
ضوء النهار ولكن الشأن في صحة هذا القياس [ ص 134 ]
قوله : ( وأن توطأ ) فيه دليل على تحريم وطء القبر والكلام فيه كالكلام في القعود
عليه ولعل مالكا لا يخالف هنا
قوله : ( أو يزاد عليه ) بوب على هذه الزيادة البيهقي باب لا يزاد عليه القبر أكثر
من ترابه لئلا يرتفع . وظاهره أن المراد بالزيادة عليه الزيادة على ترابه وقيل
المراد بالزيادة عليه أن يقبر ميت على قبر ميت آخر
باب من يستحب أن يدفن المرأة
1 -
عن أنس قال : ( شهدت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تدفن وهو جالس على
القبر فرأيت عيناه تدمعان فقال : هل فيكم أحد لم يقارف الليلة فقال أبو طلحة : أنا
قال : فانزل في قبرها فنزل في قبرها )
- رواه أحمد والبخاري . ولأحمد عن أنس : ( أن رقية لما ماتت قال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم : لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله فلم يدخل عثمان بن عفان
القبر )
-
قوله : ( بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) هي أم كلثوم زوج عثمان رواه
الواقدي عن طليح بن سليمان وبهذا الإسناد أخرجه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أم
كلثوم وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة والطبري والطحاوي من هذا الوجه ورواه حماد
بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية كما ذكره المصنف عن أحمد وكذلك أخرجه البخاري
في التاريخ الأوسط والحاكم في المستدرك . قال البخاري : ما أدرى ما هذا فإن رقية
ماتت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ببدر لم يشهدها . قال الحافظ : وهم حماد في
تسميتها فقط ويؤيد أنها أم كلثوم ما رواه ابن سعد أيضا في ترجمة أم كلثوم من طريق
عمرة بنت عبد الرحمن قالت : نزل في حفرتها أبو طلحة وأغرب الخطابي فقال : هذه
البنت كانت لبعض بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسبت إليه
قوله : ( لم يقارف ) بقاف وفاء زاد ابن المبارك عن فليح أراه يعني الذنب ذكره
البخاري في باب من يدخل قبر المرأة تعليقا ووصله الإسماعيلي وكذا قال شريح بن
النعمان عن فليح أخرجه أحمد عنه . وقيل معناه لم يجامع تلك الليلة وبه جزم ابن حزم
قال : معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم
يذنب تلك الليلة انتهى . ويقويه أن في رواية ثابت المذكور بلفظ : ( لا يدخل القبر
أحد قارف أهله البارحة فتنحى عثمان ) وقد استبعد أن [ ص 135 ] يكون عثمان جامع في
تلك الليلة التي حدث فيها موت زوجته لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف وأجيب عنه
باحتمال أن يكون مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع ولم يكن يظن موتها تلك
الليلة وليس في الخبر ما يقتضي أنه واقع بعد موتها بل ولا حين احتضارها
( والحديث ) يدل على أنه يجوز أن يدخل المرأة في قبرها الرجال دون النساء لكونهم
أقوى على ذلك وأنه يقدم الرجال الأجانب الذين بعد عهدهم بالملاذ في المواراة على
الأقارب الذين قرب عهدهم بذلك كالأب والزوج وعلل بعضهم تقدم من لم يقارف بأنه
حينئذ يأمن من أن يذكره الشيطان بما كان منه تلك الليلة وحكى عن ابن حبيب أن السر
في إيثار أبي طلحة على عثمان أن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة فتلطف
صلى الله عليه وآله وسلم في منعه في النزول قبر زوجته بغير تصريح . ووقع في رواية
حماد المذكورة فلم يدخل عثمان القبر
( وفي الحديث ) أيضا جواز الجلوس على شفير القبر وجواز البكاء بعد الموت . وحكى
ابن قدامة عن الشافعي أنه يكره لخبر : ( فإذا وجب فلا تبكين باكية ) يعني إذا مات
وهو محمول على الأولوية . والمراد لا ترفع صوتها بالبكاء ويمكن الفرق بين النساء
والرجال في ذلك لأن بكاء النساء قد يفضي إلى ما لا يحل من النوح لقلة صبرهن
باب آداب الجلوس في المقبرة والمشي فيها
1 -
عن البراء بن عازب قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة
رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد فجلس رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم مستقبل القبلة وجلسنا معه )
- رواه أبو داود
2 -
وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لأن يجلس أحدكم
على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي
3 -
وعن عمرو بن حزم قال : ( رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئا على قبر
فقال : لا تؤذ صاحب هذا القبر أو لا تؤذه )
- رواه أحمد [ ص 136 ]
4 -
وعن بشير بن الخصاصية : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يمشي في
نعلين بين القبور فقال : يا صاحب السبتيتين ألقهما )
- رواه الخمسة إلا الترمذي
-
حديث البراء سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح على كلام في
المنهال بن عمرو وشيخه زاذان . وقد أخرجه من هذه الطريق النسائي وابن ماجه . وحديث
عمرو بن حزم قال الحافظ في الفتح : إسناده صحيح . وحديث بشير سكت عنه أبو داود
والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا خالد بن نمير فإنه يهم . وأخرجه أيضا الحاكم وصححه
قوله : ( مستقبل القبلة ) فيه دليل على استحباب الاستقبال في الجلوس لمن كان
منتظرا دفن الجنازة
قوله : ( لأن يجلس أحدكم ) الخ فيه دليل على أنه لا يجوز الجلوس على القبر وقد
تقدم النهي عن ذلك وذهاب الجمهور إلى التحريم والمراد بالجلوس القعود وروى الطحاوي
من حديث محمد بن كعب قال : إنما قال أبو هريرة : ( من جلس على قبر يبول عليه أو
يتغوط فكأنما جلس على جمرة ) قال في الفتح : لكن إسناده ضعيف وقال نافع : كان ابن
عمر يجلس على القبور . ومخالفة الصحابي لما روي لا تعارض المروي
قوله : ( لا تؤذ صاحب القبر ) هذا دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن المراد بالجلوس
القعود وفيه بيان علة المنع من الجلوس أعني التأذي
قوله : ( السبتيتين ) قد تقدم تفسير ذلك في باب تغير الشيب والمراد بها جلود البقر
وكل جلد مدبوغ وإنما قيل لها السبتية أخذا من السبت وهو الحلق لأن شعرها قد حلق
عنها . وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز المشي بين القبور بالنعلين ولا يختص عدم
الجواز بكون النعلين سبتيتين لعدم الفارق بينها وبين غيرها . وقال ابن حزم : يجوز
وطء القبور بالنعال التي ليست سبتية لحديث : ( إن الميت يسمع خفق نعالهم ) وخص
المنع بالسبتية وجعل هذا جمعا بين الحديثين وهو وهم لأن سماع الميت لخفق النعال لا
يستلزم أن يكون المشي على قبر أو بين القبور فلا معارضة . وقال الخطابي : إن النهي
عن السبتية لما فيها من الخيلاء ورد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبسها
كما تقدم في باب تغيير الشيب [ ص 137 ]
باب الدفن ليلا
1 -
عن ابن عباس قال : ( مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فمات
بالليل فدفنوه ليلا فلما أصبح أخبروه فقال : ما منعكم أن تعلموني قالوا : كان
الليل فكرهنا وكانت ظلمة أن نشق عليك فأتى قبره فصلى عليه )
- رواه البخاري وابن ماجه . قال البخاري : ودفن أبو بكر ليلا
2 -
وعن عائشة قالت : ( ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سمعنا
صوت المساحي من آخر الليل ليلة الأربعاء ) قال محمد بن إسحاق : والمساحي المرور
- رواه أحمد
3 -
وعن جابر قال : ( رأى ناس نارا في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في القبر يقول : ناولوني صاحبكم وإذا هو الذي كان يرفع صوته بالذكر )
- رواه أبو داود
-
حديث ابن عباس أخرجه أيضا مسلم وقد روى نحوه عن جماعة من الصحابة قدمنا ذكرهم في
باب الصلاة على الغائب وقدمنا شرح هذا الحديث والاختلاف في اسم هذا الإنسان المبهم
هنالك . ودفن أبي بكر بالليل ذكره البخاري تعليقا في باب الدفن في الليل ووصله في
آخر كتاب الجنائز في باب موت يوم الاثنين من حديث عائشة . ولابن أبي شيبة من حديث
القاسم بن محمد قال : دفن أبو بكر ليلا . ومن حديث عبيد بن السباق أن عمر دفن أبا
بكر بعد العشاء الأخيرة قال الحافظ في الفتح : وصح أن عليا دفن فاطمة ليلا . وحديث
جابر سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا محمد بن مسلم الطائفي ففيه
مقال
وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس نحوه ولفظه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة وقال : رحمك الله إن كنت لأواها
تلاء للقرآن ) قال الترمذي : حديث ابن عباس حديث حسن
قوله : ( صوت المساحي ) هي جمع مسحاة والمسحاة آلة من حديد يجرف بها الطين مشتقة
من السحو وهو كشف وجه الأرض والميم فيها زائدة
قوله : ( المرور ) جمع مر بفتح الميم بعدها راء مهملة وهو المسحاة على ما في
القاموس . وقيل صوت المسحاة على الأرض
( والأحاديث ) المذكورة في الباب [ ص 138 ] تدل على جواز الدفن بالليل وبه قال
الجمهور وكرهه الحسن البصري واستدل بحديث أبي قتادة المتقدم في باب استحباب إحسان
الكفن وفيه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زجر أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى
عليه ) وأجيب عنه أن الزجر منه صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لترك الصلاة لا
للدفن بالليل أو لأجل أنهم كانوا يدفنون بالليل لرداءة الكفن فالزجر إنما هو لما
كان الدفن بالليل مظنة إساءة الكفن كما تقدم فإذا لم يقع تقصير في الصلاة على
الميت وتكفينه فلا بأس بالدفن ليلا . وقد قيل في تعليل كراهة الدفن بالليل أن
ملائكة النهار أرأف من ملائكة الليل ولم يصح ما يدل على ذلك
باب الدعاء للميت بعد دفنه
1 -
عن عثمان قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف
عليه فقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل )
- رواه أبو داود
2 -
وعن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير قالوا : ( إذا سوى على الميت قبره وانصرف
الناس عنه كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره يا فلان قل لا إله إلا الله أشهد
أن لا إله إلا الله ثلاث مرات يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى
الله عليه وآله وسلم ثم ينصرف )
- رواه سعيد في سننه
-
الحديث الأول أخرجه أيضا الحاكم وصححه والبزار وقال : لا يروى عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إلا من هذا الوجه . والأثر المروي عن راشد وضمرة وحكيم ذكره الحافظ
في التلخيص وسكت عنه وراشد المذكور شهد صفين مع معاوية ضعفه ابن حزم وقال
الدارقطني : يعتبر به . والثلاثة كلهم من قدماء التابعين حمصيون . وقد روى نحوه
مرفوعا من حديث أبي أمامة عند الطبراني وعبد العزيز الحنبلي في الشافي أنه قال : (
إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصنع
بموتانا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إذا مات أحد من إخوانكم
فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه
يسمعه [ ص 139 ] ولا يجيب ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدا ثم يقول يا
فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل اذكر ما خرجت
عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنك رضيت بالله
ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد بيد
صاحبه ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته فقال رجل : يا رسول الله فإن لم
يعرف أمه قال : ينسبه إلى أمه حواء يا فلان بن حواء ) قال الحافظ في التلخيص :
وإسناده صالح وقد قواه الضياء في أحكامه . وفي إسناده سعيد الأزدي بيض له أبو حاتم
وقال الهيثمي بعد أن ساقه : في إسناده جماعة لم أعرفهم انتهى . وفي إسناده أيضا
عاصم بن عبد الله وهو ضعيف . قال الأثرم : قلت لأحمد هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت
يقف الرجل ويقول يا فلان بن فلانة قال : ما رأيت أحدا يفعله إلا أهل الشام حين مات
أبو المغيرة روى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه وكان
إسماعيل ابن عياش يرويه يشير إلى حديث أبي أمامة انتهى . وقد استشهد في التلخيص
لحديث أبي أمامة بالأثر الذي رواه سعيد بن منصور وذكر له شواهد أخر خارجة عن البحث
لا حاجة إلى ذكرها
قوله : ( إذا فرغ من دفن الميت ) الخ فيه مشروعية الاستغفار للميت عند الفراغ من
دفنه وسؤال التثبيت له لأنه يسئل في تلك الحال وفيه دليل على ثبوت حياة القبر وقد
وردت بذلك أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر وفيه أيضا دليل على أن الميت يسئل في قبره
وقد وردت به أيضا أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما وورد أيضا ما يدل على أن
السؤال في القبر مختص بهذه الأمة كما في حديث زيد بن ثابت عن مسلم إن هذه الأمة
تبتلى في قبورها وبدلك جزم الحكيم الترمذي . وقال ابن القيم : السؤال عام للأمة
وغيرها وليس في الأحاديث ما يدل على الاختصاص
قوله : ( وعن راشد وضمرة ) هما تابعيان قديمان وكذلك حكيم ابن عمير وكل الثلاثة من
حمص
قوله : ( كانوا يستحبون ) ظاهره إن المستحب لذلك الصحابة الذين أدركوهم وقد ذهب
إلى استحباب ذلك أصحاب الشافعي
باب النهي عن اتخاذ المساجد والسرج في المقبرة
1 -
عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قاتل [ ص 140 ] الله
اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )
- متفق عليه
2 -
وعن ابن عباس قال : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور
والمتخذين عليها المساجد والسرج )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه
-
الحديث الثاني حسنه الترمذي وفي إسناده أبو صالح باذام ويقال باذان مولى أم هانئ
بنت أبي طالب وهو صاحب الكلبي . وقي قيل إنه لم يسمع من ابن عباس وقد تكلم فيه
جماعة من الأئمة قال ابن عدي : ولا أعلم أحدا من المتقدمين رضيه . وقد روي عن يحيى
بن سعيد أنه كان يحسن أمره
قوله : ( قاتل الله اليهود ) زاد مسلم والنصارى ومعنى قاتل قتل وقيل لعن فإنه قد
ورد بلفظ اللعن
قوله : ( اتخذوا ) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب المقاتلة كأنه قيل ما سبب
مقاتلتهم فأجيب بقوله اتخذوا
قوله : ( مساجد ) ظاهره أنهم كانوا يجعلونها مساجد يصلون فيها وقيل هو أعم من
الصلاة عليها وفيها وقد أخرج مسلم : ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها أو
عليها ) وروى مسلم أيضا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك في مرضه
الذي مات منه قبل موته بخمس وزاد فيه فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
) وفيه دليل على تحريم اتخاذ القبور مساجد وقد زعم بعضهم إن ذلك إنما كان في ذلك
الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان ورده ابن دقيق العيد
قوله : ( لعن الله زائرات القبور ) فيه تحريم زيارة القبور للنساء وسيأتي الكلام
على ذلك
قوله : ( والسرج ) فيه دليل على تحريم اتخاذ السرج على المقابر لما يفضي إليه ذلك
من الاعتقادات الفاسدة كما عرفت مما تقدم
باب وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى
1 -
عن عبد الله بن عمرو : ( أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن
هشام بن العاص نحر حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك
فقال : أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك )
- رواه أحمد
2 -
وعن أبي هريرة : ( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن أبي مات ولم
يوص أفينفعه أن أتصدق عنه قال : نعم )
- رواه أحمد ومسلم [ ص 141 ] والنسائي وابن ماجه
3 -
وعن عائشة : ( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن أمي افتلتت نفسها
وأراها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال : نعم )
- متفق عليه
4 - وعن
ابن عباس : ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أمي توفيت
أينفعها إن تصدقت عنها قال : نعم قال : فإن لي مخرفا فأنا أشهدك أني قد تصدقت به
عنها )
- رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي
5 -
وعن الحسن عن سعد بن عبادة : ( أن أمه ماتت فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت
فأتصدق عنها قال : نعم قلت : فأي الصدقة أفضل قال : سقي الماء قال الحسن : فتلك
سقاية آل سعد بالمدينة )
- رواه أحمد والنسائي
-
حديث سعد رجال إسناده عند النسائي ثقات ولكن الحسن لم يدرك سعدا وقد أخرجه أيضا
أبو داود وابن ماجه
قوله : ( نحر حصته خمسين ) إنما كانت حصته خمسين لأن العاص بن وائل خلف ابنين
هشاما وعمرا فأراد هشام أن يفي بنذر أبيه فنحر حصته من المائة التي نذرها وحصته
خمسون وأراد عمرو أن يفعل كفعل أخيه فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فأخبره أن موت أبيه على الكفر مانع من وصول نفع ذلك إليه وأنه لو أقر بالتوحيد
لأجزأ ذلك عنه ولحقه ثوابه ( وفيه دليل ) على أن نذر الكافر بما هو قربة لا يلزم
إذا مات على كفره وأما إذا أسلم وقد وقع منه نذر في الجاهلية ففيه خلاف والظاهر
أنه يلزمه الوفاء بنذره لما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر : ( أن عمر قال : يا
رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له صلى الله
عليه وآله وسلم : أوف بنذرك ) وفي ذلك أحاديث يأتي ذكرها في باب من نذر وهو مشرك
من كتاب النذور
قوله : ( نفعه ذلك ) فيه دليل على أن ما فعله الولد لأبيه المسلم من الصوم والصدقة
يلحقه ثوابه
قوله : ( افتلتت ) بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وبعدها لام مكسورة على صيغة
المجهول ماتت فجأة كذا في القاموس
وقوله : ( نفسها ) بالضم على الأشهر نائب مناب الفاعل
قوله : ( وأراها ) بضم الهمزة بمعنى أظنها
قوله : ( فإن لي مخرفا ) في رواية مخراف والمخرف والمخراف الحديقة من النخل أو
العنب أو غيرهما
قوله : ( قال سقي الماء ) فيه دليل على أن سقي الماء أفضل الصدقة . ولفظ أبي داود
: ( فأي الصدقة أفضل قال : الماء فحفروا بئرا وقال هذه لأم سعد ) [ ص 142 ] وأخرج
هذا الحديث الدارقطني في غرائب مالك . وقد أخرج الموطأ من حديث سعيد بن سعد بن
عبادة : ( أنه خرج سعد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه وحضرت أمه
الوفاة بالمدينة فقيل لها أوصي فقالت فيما أوصي والمال مال سعد فتوفيت قبل أن يقدم
سعد ) فذكر الحديث . وقد قيل أن الرجل المبهم في حديث عائشة وفي حديث ابن عباس هو
سعد بن عبادة ويدل على ذلك أن البخاري أورد بعد حديث عائشة حديث ابن عباس بلفظ : (
أن سعد بن عبادة قال : إن أمي ماتت وعليها نذر ) وكأنه رمز إلى أن المبهم في حديث
عائشة هو سعد
وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية
منهما ويصل إليهما ثوابها فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى { وأن ليس للإنسان
إلا ما سعى } ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد وقد ثبت أن ولد
الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات
القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها .
وقد اختلف في غير الصدقة من أعمال البر هل يصل إلى الميت فذهبت المعتزلة إلى أنه
لا يصل إليه شيء واستدلوا بعموم الآية . وقال في شرح الكنز : إن للإنسان أن يجعل
ثواب عمله لغيره صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة قرآن أو غير ذلك من
جميع أنواع البر ويصل ذلك إلى الميت وينفعه عند أهل السنة انتهى . والمشهور من
مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن وذهب أحمد
بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي أنه يصل كذا ذكره النووي في
الأذكار . وفي شرح المنهاج لابن النحوي لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على
المشهور والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته وينبغي الجزم به لأنه
دعاء فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعي فلأن يجوز بما هو له أولى ويبقى الأمر
فيه موقوفا على استجابة الدعاء وهذا المعنى لا يختص بالقراءة بل يجري على سائر
الأعمال والظاهر أن الدعاء متفق عليه أنه ينفع الميت والحي القريب والبعيد بوصية
وغيرها . وعلى ذلك أحاديث كثيرة بل كان أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب
انتهى
وقد حكى النووي في شرح مسلم الإجماع على وصول الدعاء إلى الميت وكذا حكى الإجماع
أيضا على أن الصدقة نقع عن الميت ويصل ثوابها ولم يقيد ذلك بالولد . وحكى أيضا
الإجماع على لحوق قضاء [ ص 143 ] الدين والحق أنه يخصص عموم الآية بالصدقة من
الولد كما في أحاديث الباب وبالحج من الولد كما في خبر الخثعمية ومن غير الولد
أيضا كما في حديث المحرم عن أخيه شبرمة ولم يستفصله صلى الله عليه وآله وسلم هل
أوصى شبرمة أم لا وبالعتق من الولد كما وقع في البخاري في حديث سعد خلافا للمالكية
على المشهور عندهم وبالصلاة من الولد أيضا لما روى الدارقطني : ( أن رجلا قال : يا
رسول الله إنه كان لي أبوان أبرهما في حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما فقال
صلى الله عليه وآله وسلم : إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم
لهما مع صيامك ) وبالصيام من الولد لهذا الحديث . ولحديث عبد الله بن عمرو المذكور
في الباب . ولحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم : ( أن امرأة قالت : يا رسول الله
إن أمي ماتت وعليها صوم نذر فقال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك
عنها قالت : نعم قال : فصومي عن أمك ) وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي من حديث
بريدة : ( أن امرأة قالت : إنه كان على أمي صوم شهر أفأصوم عنها قال : صومي عنها )
ومن غير الولد أيضا لحديث : ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) متفق عليه من حديث
عائشة وبقراءة يس من الولد وغيره لحديث : ( اقرؤوا على موتاكم يس ) وقد تقدم
وبالدعاء من الولد لحديث : ( أو ولد صالح يدعو له ) ومن غيره لحديث : ( استغفروا
لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل ) وقد تقدم . ولحديث : ( فضل الدعاء للأخ
بظهر الغيب ) ولقوله تعالى { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ولما ثبت من الدعاء للميت عند الزيارة كحديث
بريدة عند مسلم وأحمد وابن ماجه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا قائلهم السلام عليكم أهل الديار من
المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية )
وبجميع ما يفعله الولد لوالديه من أعمال البر لحديث : ( ولد الإنسان من سعيه )
وكما تخصص هذه الأحاديث الآية المتقدمة كذلك يخصص حديث أبي هريرة عند مسلم وأهل
السنن قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مات الإنسان انقطع
عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) فإن ظاهره أنه
لا ينقطع عنه ما عدا هذه الثلاثة كائنا من كان . وقد قيل إنه يقاس على هذه المواضع
التي وردت بها الأدلة غيرها [ ص 144 ] فيلحق الميت كل شيء فعله غيره . وقال في شرح
الكنز : إن الآية منسوخة بقوله تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم } وقيل
الإنسان أريد به الكافر وأما المؤمن فله ما سعى إخوانه . وقيل ليس له من طريق
العدل وهو له من طريق الفضل وقيل اللام بمعنى على كما في قوله تعالى { ولهم اللعنة
} أي وعليهم انتهى
باب تعزية المصاب وثواب صبره وأمره به وما يقول لذلك
1 -
عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال : ( ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز و جل من حلل
الكرامة يوم القيامة )
- رواه ابن ماجه
2 -
وعن الأسود عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من عزى مصابا
فله مثل أجره )
- رواه ابن ماجه والترمذي
3 -
وعن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما من مسلم ولا مسلمة
يصاب بمصيبة فيذكرها وإن قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله تبارك وتعالى
له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب )
- رواه أحمد وابن ماجه
-
حديث عمرو بن حزم رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد
حدثني قيس أبو عمارة مولى الأنصار قال : سمعت عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو
بن حزم فساقه وهؤلاء كلهم ثقات إلا قيسا أبا عمارة ففيه لين وقد ذكره الحافظ في التلخيص
وسكت عنه . وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا الحاكم وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا
من حديث علي بن عاصم . ورواه بعضهم عن محمد ابن سوقة بهذا الإسناد مثله موقوفا ولم
يرفعه ويقال أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم هذا الحديث نقموه عليه انتهى . قال
البيهقي : تفرد به علي بن عاصم وقال ابن عدي : قد رواه مع علي بن عاصم محمد بن
الفضل بن عطية وعبد الرحمن بن مالك بن مغول . وروي عن إسرائيل وقيس بن الربيع
والثوري وغيرهم . وروى ابن الجوزي في الموضوعات من طريق نصر بن حماد عن شعبة نحوه
. وقال الخطيب : رواه عبد الحكم بن منصور والحارث بن عمران الجعفري وجماعة مع علي
بن عاصم وليس [ ص 145 ] شيء منها ثابتا ويحكى عن أبي داود قال : عاتب يحيى بن سعيد
القطان علي بن عاصم في وصل هذا الحديث وإنما هو عندهم منقطع وقال : إن أصحابك
الذين سمعوه معك لا يسندونه فأبى أن يرجع قال الحافظ : ورواية الثوري مدارها على
حماد بن الوليد وهو ضعيف جدا وكل المتابعين لعلي بن عاصم أضعف منه بكثير وليس فيها
رواية يمكن التعلق بها إلا طريق إسرائيل فقد ذكرها صاحب الكمال من طريق وكيع عنه
ولم أقف على إسنادها بعد . قال في التلخيص : وله شاهد أضعف منه من طريق محمد بن
عبد الله العرزمي عن أبي الزبير عن جابر ساقه ابن الجوزي في الموضوعات وله أيضا
شاهد آخر من حديث أبي برزة مرفوعا : ( من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة ) قال
الترمذي : غريب . ومن شواهده حديث عمرو بن حزم الذي قبله قال السيوطي في التعقبات
: وأخرج البيهقي في الشعب عن محمد بن هارون الفأفاء وكان ثقة صدوقا قال : ( رأيت
في المنام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم حديث علي بن عاصم الذي يرويه عن ابن سوقة : ( من عزى مصابا هو عنك قال : نعم
) فكان محمد بن هارون كلما حدث بهذا الحديث بكى . وقال الذهبي : أبلغ ما شنع به
على علي بن عاصم هذا الحديث وهو مع ضعفه صدوق في نفسه وله صورة كبيرة في زمانه وقد
وثقه جماعة قال يعقوب بن شيبة : كان من أهل الدين والصلاح والخير والتاريخ وكان
شديد التوقي أنكر عليه كثرة الغلط مع تماديه على ذلك . وقال وكيع : ما زلنا نعرفه
بالخير فخذوا الصحاح من حديثه ودعوا الغلط . وقال أحمد : أما أنا فأحدث عنه كان
فيه لجاج ولم يكن متهما . وقال الفلاس : صدوق . وحديث الحسين في إسناده هشام بن
زياد وفيه ضعف عن أمه وهي لا تعرف
قوله : ( من عزى مصابا ) فيه دليل على أن تعزية المصاب من موجبات الكسوة من الله
تعالى لمن فعل ذلك من حلل كرامته
قوله : ( فله مثل أجره ) فيه دليل على أنه يحصل للمعزي بمجرد التعزية مثل أجر
المصاب وقد يستشكل ذلك باعتبار أن المشقة مختلفة ويجاب عنه بجوابات ليس هذا محل
بسطها . وثمرة التعزية الحث على الرجوع إلى الله تعالى ليحصل الأجر . قال في البحر
: والمشروع مرة واحدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( التعزية مرة ) انتهى .
قال الهادي والقاسم والشافعي : وهي بعد الدفن أفضل لعظم المصاب بالمفارقة . وقال
أبو حنيفة والثوري : إنما هي قبله لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : [ ص 146 ] ( فإذا
وجب فلا تبكين باكية ) أخرجه مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان
والحاكم والمراد بالوجوب دخول القبر كما وقع في رواية لأحمد ولأن وقت الموت حال
الصدمة الأولى كما سيأتي والتعزية تسلية فينبغي أن يكون وقت الصدمة التي يشرع
الصبر عندها
قوله : ( فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب ) فيه دليل على أن استرجاع المصاب عند ذكر
المصيبة يكون سببا لاستحقاقه لمثل الأجر الذي كتبه الله له في الوقت الذي أصيب فيه
بتلك المصيبة وإن تقادم عهدها ومضت عليها أيام طويلة والاسترجاع هو قول القائل إنا
لله وإنا إليه راجعون
4 -
وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى
)
- رواه الجماعة
5 -
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : ( لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول : إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك
ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب )
- رواه الشافعي
6 -
وعن أم سلمة قالت : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من عبد
تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا
منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها قالت : فلما توفي أبو سلمة قالت
: من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت : ثم عزم الله
لي فقلتها اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها قالت : فتزوجت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
-
حديث جعفر بن محمد في إسناده القاسم بن عبد الله بن عمر وهو متروك وقد كذبه أحمد
بن حنبل ويحيى بن معين . وقال أحمد أيضا : كان يضع الحديث ورواه الحاكم عن أنس في
مستدركه وصححه وفي إسناده عباد بن عبد الصمد وهو ضعيف جدا وزاد : فقال أبو بكر
وعمر هذا الخضر
قوله : ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) في رواية للبخاري : ( عند أول صدمة )
ونحوها لمسلم . والمعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع
فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر وأصل الصدمة ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير
للمصيبة الواردة على القلب . وقال الخطابي : المعنى إن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه
ما كان عند مفاجأة المصيبة بخلاف [ ص 147 ] ما بعد ذلك . وقال غيره : إن المراد لا
يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره . وأول
الحديث : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر فقال : اتقي
الله واصبري فقالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فقيل لها إنه النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تجد عنده
بوابين فقالت : لم أعرفك يا رسول الله فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) ( 1
)
قوله : ( إن في الله عزاء من كل مصيبة ) الخ فيه دليل على أنه تستحب التعزية لأهل
الميت بتعزية الخضر عليه السلام وأصل العزاء في اللغة الصبر الحسن والتعزية التصبر
وعزاه صبره فكل ما يجلب للمصاب صبرا يقال له تعزية بأي لفظ كان ويحصل به للمعزي
الأجر المذكور في الأحاديث السابقة وأحسن ما يعزى به ما أخرجه البخاري ومسلم من
حديث أسامة بن زيد قال : ( كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسلت إليه
إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت فقال للرسول : ارجع
إليها وأخبرها إن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر
ولتحتسب ) الحديث وسيأتي وهذا لا يختص بالصغير باعتبار السبب لأن كل شخص يصلح أن
يقال له وفيه ذلك ولو سلم أن أول الحديث يختص بمن مات له صغير كان الأمر بالصبر
والاحتساب المذكور آخر الحديث غير مختص به
قوله : ( اللهم أجرني ) قال القاضي : يقال أجرني بالقصر والمد حكاهما صاحب الأفعال
. قال الأصمعي : وأكثر أهل اللغة قالوا هو مقصور لا يمد ومعنى أجره الله أعطاه
أجره وجزاه صبره وهمه في مصيبته
قوله : ( وأخلف لي ) قال النووي : هو بقطع الهمزة وكسر اللام . قال أهل اللغة :
يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله أخلف الله عليك أي رد
عليك مثله فإن ذهب مالا يتوقع مثله بأن ذهب والد أو عم ( 2 ) قيل له خلف الله عليك
بغير ألف أي كان الله خليفة منه عليك
قوله : ( إلا أجره الله ) قال [ ص 148 ] النووي : هو بقصر الهمزة ومدها والقصر
أفصح وأشهر كما سبق
قوله ( ثم عزم الله لي فقلتها ) أي خلق في عزما ( 3 )
_________
( 1 ) وفي هذا الحديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كل أحد . وفيه أيضا
الاعتذار إلى أهل الفضل إذا أساء الإنسان أدبه معهم . والله أعلم
( 2 ) عبارة النووي في شرح مسلم بزيادة أو أخ لمن لا جد له ولا والد له اه
( 3 ) وسبب تأويل قولها ثم عزم الله لي بخلق في عزما أن فعل الله تعالى لا يسمى
عزما من حيث أن حقيقة العزم حدوث رأي لم يكن والله منزه عن هذا . قاله العلامة
النووي في شرح مسلم . والله أعلم
باب صنع الطعام لأهل الميت وكراهته منهم للناس
1 -
عن عبد الله بن جعفر قال : ( لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم : اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم )
- رواه الخمسة إلا النسائي
2 -
وعن جرير بن عبد الله البجلي قال : ( كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام
بعد دفنه من النياحة )
- رواه أحمد
3 -
وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا عقر في الإسلام )
- رواه أحمد وأبو داود . وقال : قال عبد الرزاق : كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو
شاة في الجاهلية
-
حديث عبد الله بن جعفر أخرجه أيضا الشافعي وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي وأخرجه
أيضا أحمد والطبراني وابن ماجه من حديث أسماء بنت عميس وهي والدة عبد الله بن جعفر
وحديث جرير أخرجه أيضا ابن ماجه وإسناده صحيح وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري
ورجال إسناده رجال الصحيح
قوله : ( اصنعوا لآل جعفر ) فيه مشروعية القيام بمؤنة أهل الميت مما يحتاجون إليه
من الطعام لاشتغالهم عن أنفسهم بما دهمهم من المصيبة قال الترمذي : وقد كان بعض
أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت بشيء لشغلهم بالمصيبة وهو قول الشافعي
انتهى
قوله : ( كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت ) الخ يعني أنهم كانوا يعدون الاجتماع
عند أهل الميت بعد دفنه وأكل الطعام عندهم نوعا من النياحة لما في ذلك من التثقيل
عليهم وشغلتهم مع ما هم فيه من شغلة الخاطر بموت الميت وما فيه من مخالفة السنة
لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت طعاما فخالفوا ذلك وكلفوهم صنعة الطعام
لغيرهم
قوله : ( لا عقر في الإسلام ) فيه دليل على عدم جواز العقر في الإسلام كما كان في
الجاهلية قال الخطابي : كان أهل الجاهلية [ ص 149 ] يعقرون الإبل على قبر الرجل
الجواد يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف فنحن
نعقرها عند قبره حتى تأكلها السباع والطير فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في
حياته قال : ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في
القيامة راكبا ومن لم يعقر عنده حشر راجلا انتهى . وهذا إنما يتم على فرض أنهم
كانوا يعقرون الإبل فقط لا على ما نقله أبو داود عن عبد الرزاق أنهم كانوا يعقرون
عند القبر بقرة أو شاة
باب ما جاء في البكاء على الميت وبيان المكروه منه
1 -
عن جابر قال : ( أصيب أبي يوم أحد فجعلت أبكي فجعلوا ينهوني ورسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم : تبكين أولا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه )
- متفق عليه
2 -
وعن ابن عباس قال : ( ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبكت
النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده وقال :
مهلا يا عمر ثم قال : إياكن ونعيق الشيطان ثم قال : إنه مهما كان من العين والقلب
فمن الله عز و جل ومن الرحمة وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان )
- رواه أحمد
-
حديث ابن عباس فيه علي بن زيد وفيه كلام وهو ثقة وقد أشار إلى الحديث الحافظ في
التلخيص وسكت عنه
قوله : ( فجعلت أبكي ) في لفظ للبخاري : ( فجعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي ) وفي
لفظ آخر له : ( فذهبت أريد أن أكشف عنه فنهاني قومي ثم ذهبت أكشف عنه فنهاني قومي
)
قوله : ( ينهوني ) في رواية للبخاري : ( وينهوني )
قوله : ( ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينهاني ) فيه دليل على جواز
البكاء الذي لا صوت معه وسيأتي تحقيق ذلك
قوله : ( فجعلت عمتي فاطمة تبكي ) قال في الفتح : هي شقيقة أبيه عبد الله بن عمرو
. وفي لفظ للبخاري : ( فسمع صوت نائحة فقال : من هذه فقالوا : بنت عمرو أو أخت
عمرو ) والشك من سفيان والصواب بنت عمرو ووقع في الإكليل للحاكم تسميتها هند بنت
عمرو فلعل لها اسمين أو [ ص 150 ] أحدهما اسمها والآخر لقبها أو كانتا جميعا
حاضرتين
قوله : ( تبكين أو لا تبكين ) قيل هذا شك من الراوي هل استفهم أو نهي والظاهر أنه ليس
بشك وإنما المراد به التخيير والمعنى أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه
لصعودهم بروحه ومن كان بهذه المثابة تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكى عليه
بل يفرح بما صار إليه . وفيه إذن بالبكاء المجرد مع الإرشاد إلى أولوية الترك لمن
كان بهذه المنزلة
قوله : ( إياكن ونعيق الشيطان ) هو النواح والصراخ المنهي عنه بالأحاديث الآتية
قوله : ( إنه مهما كان من العين والقلب ) الخ فيه دليل على جواز البكاء المجرد عما
لا يجوز من فعل اليد كشق الجيب واللطم ومن فعل اللسان كالصراخ ودعوى الويل والثبور
ونحو ذلك
3 - وعن ابن عمر قال : ( اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية فقال : قد قضى فقالوا : لا يا رسول الله فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأى القوم بكاءه بكوا قال : ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم )
4 -
وعن أسامة بن زيد قال : ( كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسلت إليه إحدى
بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها في الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
: ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها
فلتصبر ولتحتسب فعاد الرسول فقال : إنها أقسمت لتأتينها قال : فقام النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل قال : فانطلقت معهم فرفع إليه
الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال سعد : ما هذا يا رسول الله ( 1 )
قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء )
- متفق عليهما [ ص 151 ]
-
قوله ( اشتكى ) أي ضعف وشكوى بغير تنوين
قوله : ( فلما دخل عليه ) زاد مسلم : ( فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين معه )
قوله : ( وجده في غشية ) قال النووي : بفتح الغين وكسر الشين المعجمتين وتشديد
الياء قال القاضي : هكذا رواية الأكثرين قال : وضبطه بعضهم بإسكان الشين وتخفيف
الياء . وفي رواية البخاري : ( في غاشية ) وكله صحيح وفيه قولان أحدهما من يغشاه
من أهله والثاني ما يغشاه من كرب الموت
قوله : ( فلما رأى القوم بكاءه بكوا ) هذا فيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة
إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه
ولم يعترض بمثل ما اعترض به هناك فدل على أنه تقرر عندهم العلم بأن مجرد البكاء
بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر
قوله : ( ألا تسمعون ) لا يحتاج إلى مفعول لأنه جعل كالفعل اللازم أي لا توجدون
السماع وفيه إشارة إلا أنه فهم من بعضهم الإنكار فبين لهم الفرق بين الحالتين
قوله : ( إن الله ) بكسر الهمزة لأنه ابتداء كلام وفيه دليل على جواز البكاء
والحزن اللذين لا قدرة للمصاب على دفعهما
قوله : ( ولكن يعذب بهذا ) أي إن قال سوءا أو يرحم إن قال خيرا ويحتمل أن يكون
معنى قوله ويرحم أي إن لم ينفذ الوعيد
قوله : ( إحدى بناته ) هي زينب كما وقع عند ابن أبي شيبة
قوله : ( إن صبيا لها ) قيل هو علي بن أبي العاص بن الربيع وهو من زينب وفيه نظر
لأن الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالأخبار ذكروا أن عليا المذكور عاش حتى
ناهز الحلم وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة وهذا
لا يقال في حقه صبيا عرفا وإن جاز من حيث اللغة . وفي الأنساب للبلازري أن عبد
الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما مات
وضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجره وقال : إنما يرحم الله من عباده الرحماء
. وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة قال : ثقل ابن لفاطمة فبعثت إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فذكر نحو حديث الباب وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء فعلى
هذا الابن المذكور محسن ابن علي وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرا في
حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذا أولى إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت
أن المرسلة زينب لكن الصواب في حديث الباب أن المراسلة زينب كما قال الحافظ وأن
الولد صبية كما في مسند أحمد [ ص 152 ] وكذا أخرجه أبو سعيد ابن الأعرابي في معجمه
. ويدل على ذلك ما عند أبي داود بلفظ : ( إن ابنتي أو ابني ) وفي رواية : ( إن
ابنتي قد حضرت )
قوله : ( إن لله ما أخذ ) ( 2 ) قدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخرا في
الواقع لما يقتضيه المقام والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذ هو الذي كان أعطاه
فإن أخذه أخذ ما هو له فلا ينبغي الجزع لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع
إذا استعيدت منه ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الموت
أو ثوابهم على المصيبة أو ما هو أعم من ذلك . وما في الموضعين مصدرية ويجوز أن
تكون موصولة والعائد محذوف
قوله : ( وكل شيء عنده بأجل مسمى ) أي كل من الأخذ والإعطاء أو من الأنفس أو ما هو
أعم من ذلك وهي جملة ابتدائية معطوفة على الجمل المذكورة ويجوز في كل النصب عطفا
على اسم أن فينسحب التأكيد عليه ومعنى العندية العلم فهو من مجاز الملازمة والأجل
يطلق على الحد الأخير وعلى مطلق العمر
قوله : ( مسمى ) أي معلوم أو مقدر أو نحو ذلك
قوله : ( ولتحتسب ) أي تنو بصبرها طلب الثواب من ربها
قوله : ( ونفسه تقعقع ) بفتح التاء والقافين والقعقعة حكاية صوت الشن اليابس إذا
حرك
قوله : ( كأنها في شنة ) بفتح الشين وتشديد النون القربة الخلقة اليابسة شبه البدن
بالجلد اليابس وحركة الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها
قوله : ( ففاضت عيناه ) أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد صرح به في رواية
شعبة
قوله : ( هذه رحمة ) أي الدمعة أثر رحمة وفيه دليل على جواز ذلك وإنما المنهي عنه
الجزع وعدم البصر
قوله : ( وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) الرحماء جمع رحيم وهو من صيغ
المبالغة ومقتضاه أن رحمة الله تعالى تختص لمن اتصف بالرحمة وتحقق بها بخلاف من
فيه أدنى رحمة لكن ثبت عند أبي داود وغيره من حديث عبد الله بن عمرو : ( الراحمون
يرحمهم الرحمن ) والراحمون جمع راحم فيدخل فيه من فيه أدنى رحمة . ومن في قوله من
عباده بيانية وهي حال من المفعول قدمت ليكون أوقع [ ص 153 ]
_________
( 1 ) فيه دليل على مشروعية تذكير أهل العلم إذا نسوا أمرا ففعلوا خلافه لأن سعدا
رضي الله عنه ظن أن جميع أنواع البكاء حرام وظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
نسي فذكره فأعلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن مجرد البكاء ودمع العين ليس
بحرام ولا مكروه بل هو رحمة وفضيلة وإنما المحرم النوح والندب والبكاء المقرون
بهما أو بأحدهما . والله أعلم
( 2 ) قال النووي رحمه الله تعالى : وتقريره أن هذا الذي أخذ منكم كان له لا لكم
فلم يأخذ إلا ما هو له فينبغي أن لا تجزعوا كما لا يجزع من استردت منه وديعة أو
عارية . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وله ما أعطى ) معناه أن ما وهبه لكم
ليس خارجا عن ملكه بل هو له سبحانه وتعالى يفعل فيه ما يشاء . والله أعلم
5 -
وعن عائشة : ( أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأبو بكر وعمر قالت : فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وأنا
في حجرتي )
- رواه أحمد
6 -
وعن ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم من أحد سمع نساء من
عبد الأشهل يبكين على هلكاهن فقال : لكن حمزة لا بواكي له فجئن نساء الأنصار فبكين
على حمزة عنده فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ويحهن أيتن ههنا
يبكين حتى الآن مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم )
- رواه أحمد وابن ماجه
7 -
وعن جابر بن عتيك : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء يعود عبد الله بن
ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع فقال : غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح
النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دعهن
فإذا وجب فلا تبكين باكية قالوا : وما الوجوب يا رسول الله قال : الموت )
- رواه أبو داود والنسائي
-
حديث عائشة وابن عمر أشار إليهما الحافظ في التلخيص وسكت عنهما ورجال إسناد حديث
ابن عمر ثقات إلا أسامة بن زيد الليثي ففيه مقال . وقد أخرج له مسلم وحديث جابر بن
عتيك أخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم
قوله : ( وأبو بكر وعمر ) الخ محل الحجة من هذا الحديث تقرير النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لهما على البكاء وعدم إنكاره عليهما مع أنه قد حصل منهما زيادة على مجرد
دمع العين ولهذا فرقت عائشة وهي في حجرتها بين بكاء أبي بكر وعمر ولعل الواقع
منهما مما لا يمكن دفعه ولا يقدر على كتمه ولم يبلغ إلى الحد المنهي عنه
قوله : ( ولكن حمزة لا بواكي له ) هذه المقالة منه صلى الله عليه وآله وسلم مع عدم
إنكاره للبكاء الواقع من نساء عبد الأشهل على هلكاهن تدل على جواز مجرد البكاء .
وقوله : ( ولا يبكين على هالك بعد اليوم ) ظاهره المنع من مطلق البكاء وكذلك قوله
في حديث جابر بن عتيك : ( فإذا وجب فلا تبكين باكية ) وذلك يعارض ما في الأحاديث
المذكورة في الباب من الإذن بمطلق البكاء بعد الموت ويعارض أيضا سائر الأحاديث
الواردة في الإذن بمطلق البكاء مما لم يذكره المصنف كحديث عائشة في قصة عثمان بن مظعون
عند أبي داود والترمذي وحديث أبي هريرة عند النسائي وابن ماجه [ ص 154 ] وابن حبان
بلفظ : ( مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة فانتهرهن عمر فقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم : دعهن يا ابن الخطاب فإن النفس مصابة والعين دامعة
والعهد قريب ) وحديث بريدة عند مسلم في زيارته صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه
وسيأتي . وحديث أنس عند الشيخين : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذرفت عيناه
لما جعل ابنه إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه فقيل له في ذلك فقال : إنها رحمة ثم
قال : العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ) وهو عند الترمذي من
حديث جابر بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف
فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن : أتبكي أو لم تكن نهيت عن البكاء فقال :
لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان
) الحديث قال الترمذي : حسن . فيجمع بين الأحاديث بحمل النهي عن البكاء مطلقا
ومقيدا ببعد الموت على البكاء المفضي إلى ما لا يجوز من النوح والصراخ وغير ذلك
والإذن به على مجرد البكاء الذي هو دمع العين وما لا يمكن دفعه من الصوت وقد أرشد
إلى هذا الجمع قوله : ( ولكن نهيت عن صوتين ) الخ وقوله في حديث ابن عباس المتقدم
: ( إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز و جل ومن الرحمة ) وقوله في حديث
ابن عمر السابق : ( إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ) فيكون معنى قوله
: ( لا يبكين على هالك بعد اليوم ) وقوله : ( فإذا وجب فلا تبكين باكية ) النهي عن
البكاء الذي يصحبه شيء مما حرمه الشارع . وقيل إنه يجمع بأن الأذن بالبكاء قبل
الموت والنهي عنه بعده ويرد بحديث أبي هريرة المذكور قريبا وبحديث عائشة الذي ذكره
المصنف . وبحديث بريدة في قصة زيارته صلى الله عليه وآله وسلم لأمه . وبحديث جابر
وابن عباس المذكورين في أول الباب وقيل إنه يجمع بحمل أحاديث النهي عن البكاء بعد
الموت على الكراهية وقد تمسك بذلك الشافعي فحكي عنه كراهة البكاء بعد الموت والجمع
الذي ذكرناه أولا هو الراجح
قوله : ( قالوا وما الوجوب ) الخ في رواية لأحمد أن بعض رواة الحديث قالوا الوجوب
إذا دخل قبره والتفسير المرفوع أصح وأرجح [ ص 155 ]
باب النهي عن النياحة والندب وخمش الوجوه ونشر الشعر ونحوه والرخصة في يسير الكلام من صفة الميت
1 - عن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوة الجاهلية )
2 - وعن أبي بردة قال : ( وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال : أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة )
3 - وعن المغيرة بن شعبة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنه من نيح عليه يعذب بما نيح عليه )
4 - وعن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الميت يعذب ببكاء الحي ) وفي رواية : ( ببعض بكاء أهله عليه )
5 - وعن ابن عمر : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الميت يعذب ببكاء أهله )
6 -
وعن عائشة قالت : ( إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله ليزيد
الكافر عذابا ببكاء أهله عليه )
- متفق على هذه الأحاديث . ولأحمد ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال : ( الميت يعذب في قبره بما نيح عليه )
-
قوله : ( ليس منا ) أي من أهل سنتنا وطريقتنا وليس المراد به إخراجه من الدين
وفائدة إيراد هذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل
لولده عند معاتبته لست منك ولست مني أي ما أنت على طريقتي . وحكى عن سفيان أنه كان
يكره الخوض في تأويل هذه اللفظة ويقول ينبغي أن نمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس
وأبلغ في الزجر وقيل المعنى ليس على ديننا الكامل أي أنه خرج من فرع من فروع الدين
وإن كان معه أصله حكاه ابن العربي قال الحافظ : ويظهر لي إن هذا النفي يفسره
التبرء الذي في حديث أبي موسى وأصل البراءة الانفصال من الشيء وكأنه توعده بأن لا
يدخله في شفاعته مثلا
قوله : ( من ضرب الخدود ) خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله
قوله : ( وشق الجيوب ) جمع جيب بالجيم وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس
والمراد بشقه إكمال [ ص 156 ] فتحه إلى آخره وهو من علامات السخط
قوله : ( ودعا بدعوة الجاهلية ) أي من النياحة ونحوها وكذا الندبة كقولهم واجبلاه
وكذا الدعاء بالويل والثبور كما سيأتي
قوله : ( وجع ) بكسر الجيم
قوله : ( في جحر امرأة من أهله ) الخ في رواية لمسلم : ( أغمي على أبي موسى فأقبلت
امرأته أم عبد الله تصيح برنة ) ولأبي نعيم في المستخرج على مسلم : ( أغمي على أبي
موسى فصاحت امرأته بنت أبي دومة ) وذلك يدل على أن الصائحة أم عبد الله بنت أبي
دومة واسمها صفية قاله عمر بن شبة في تاريخ البصرة
قوله : ( أنا بريء ) قال المهلب : أي ممن فعل ذلك الفعل ولم يرد نفيه عن الإسلام
والبراءة الانفصال كما تقدم
قوله : ( الصالقة ) بالصاد المهملة والقاف أي التي ترفع صوتها بالبكاء ويقال فيه
بالسين بدل الصاد ومنه قوله تعالى { سلقوكم بألسنة حداد } وعن ابن الأعرابي الصلق
ضرب الوجه والأول أشهر
قوله : ( والحالقة ) هي التي تحلق شعرها عند المصيبة
قوله : ( والشاقة ) هي التي تشق ثوبها . ولفظ مسلم : ( أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق
) أي حلق شعره وصلق صوته أي رفعه وخرق ثوبه
( والحديثان ) يدلان على تحريم هذه الأفعال لأنها مشعرة بعدم الرضا بالقضاء
قوله : ( من نيح عليه يعذب بما نيح عليه ) ظاهره وظاهر حديث عمر وابنه المذكورين
بعده إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر هذه الأحاديث جماعة
من السلف منهم عمر وابنه . وروي عن أبي هريرة أنه رد هذه الأحاديث وعارضها بقوله {
ولا تزر وازرة وزر أخرى } وروى عنه أبو يعلى أنه قال : تالله لئن انطلق رجل مجاهد
في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب
هذه السفيهة . وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم الشيخ أبو حامد وغيره
وذهب جمهور العلماء إلى تأويل هذه الأحاديث لمخالفتها للعمومات القرآنية وإثباتها
لتعذيب من لا ذنب له واختلفوا في التأويل فذهب جمهورهم كما قال النووي إلى تأويلها
بمن أوصى بأن يبكى عليه لأنه بسببه ومنسوب إليه قالوا وقد كان ذلك من عادة العرب
كما قال طرفة بن العبد :
إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد
قال في الفتح : واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية والحديث
دال على أنه إنما يقع عند الامتثال والجواب أنه ليس في السياق [ ص 157 ] حصر فلا
يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلا انتهى . ومن التأويلات
ما حكاه الخطابي أن المراد أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه وذلك أن شدة
بكائهم غالبا إنما تقع عند دفنه وفي تلك الحال يسئل ويبتدأ به عذاب القبر فيكون
معنى الحديث على هذا أن الميت يعذب حال بكاء أهله عليه ولا يلزم من ذلك أن يكون
بكاؤهم سببا لتعذيبه . قال الحافظ : ولا يخفى ما فيه من التكلف ولعل قائله أخذه من
قول عائشة : ( إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه ليعذب بمعصيته أو
بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن ) أخرجه مسلم . ومنها ما جزم به القاضي أبو بكر
بن الباقلاني وغيره أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه وإن اللام في الميت
لمعهود معين واحتجوا بما أخرجه مسلم من حديث عائشة أنها قالت : ( يغفر الله لأبي عبد
الرحمن أما إنه لم يكذب ولكن نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم على يهودية ) فذكرت الحديث . وأخرج البخاري نحوه عنها . ومنها أن ذلك يختص
بالكافر دون المؤمن واستدل لذلك بحديث عائشة المذكور في الباب قال في الفتح : وهذه
التأويلات عن عائشة متخالفة وفيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل بما
استشعرت من معارضة القرآن . وقال القرطبي : إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي
بالتخطئة والنسيان وعلى أنه سمع بعضا أو لم يسمع بعضا بعيد لأن الرواة لهذا المعنى
من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح . ومنها
أن ذلك يقع لمن أهمل نهي أهله عن ذلك وهو قول داود وطائفة . قال ابن المرابط : إذا
علم المرء ما جاء في النهي عن النوح وعرف أن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم
يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره
بمجرده . ومنها أنه يعذب بسبب الأمور التي يبكيه أهله بها ويندبونه لها فهم
يمدحونه بها وهو يعذب بصنيعه وذلك كالشجاعة فيما لا يحل والرياسة المحرمة وهذا
اختيار ابن حزم وطائفة واستدل بحديث ابن عمر المتقدم بلفظ : ( ولكن يعذب بهذا
وأشار إلى لسانه ) وقد رجح هذا الإسماعيلي وقال : قد كثر كلام العلماء في هذه
المسألة وقال كل فيها باجتهاده على حسب ما قدر له ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم
ذكروه وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغزون ويسبون ويقتلون وكان أحدهم إذا مات بكته
باكيته بتلك الأفعال المحرمة فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله
به [ ص 158 ] لأن الميت يندب بأحسن أفعاله وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر وهي زيادة
ذنب في ذنوبه يستحق عليها العقاب . ومنها أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة بما
يندبه أهله ويدل على ذلك حديث أبي موسى وحديث النعمان بن بشير الآتيان . ومنها أن
معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها وهذا اختيار أبي جعفر
الطبري ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين
واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم من حديث
قيلة بفتح القاف وسكون الباء التحتية وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال : ( فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه فيا عباد الله
لا تعذبوا موتاكم ) قال الحافظ : وهو حسن الإسناد . وأخرج أبو داود والترمذي
أطرافا منه . قال الطبري : ويؤيد ما قال أبو هريرة أن أعمال العباد تعرض على
أقربائهم من موتاهم ثم ساقه بإسناد صحيح وقد وهم المغربي في شرح بلوغ المرام فجعل
قول أبي هريرة هذا حديثا وصحف الطبري بالطبراني . ومن أدلة هذا التأويل حديث
النعمان بن بشير الآتي وكذلك حديث أبي موسى لما فيهما من أن ذلك يبلغ الميت
قال ابن المرابط : حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه . واعترضه ابن رشيد فقال
: ليس نصا وإنما هو محتمل فإن قوله يستعبر إليه صويحبه ليس نصا في أن المراد به
الميت بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي وأن الميت حينئذ يعذب ببكاء الجماعة عليه .
قال في الفتح : ويحتمل أن يجمع بين هذه التأويلات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن
يقال مثلا من كان طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب
بصنيعه ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به ومن كان يعرف من أهله
النياحة وأهمل نهيهم عنها فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب
بالتوبيخ كيف أهمل النهي ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم
خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على
معصية ربهم عز و جل . قال : وحكى الكرماني تفصيلا آخر وحسنه وهو التفرقة بين حال
البرزخ وحال يوم القيامة فيحمل قوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } على يوم القيامة
وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ انتهى . وأنت خبير بأن الآية عامة لأن الوزر
المذكور فيها واقع في سياق النفي والأحاديث المذكورة في الباب مشتملة على وزر خاص
وتخصيص العمومات القرآنية بالأحاديث الأحادية هو [ ص 159 ] المذهب المشهور الذي
عليه الجمهور فلا وجه لما وقع من رد الأحاديث بهذا العموم ولا ملجئ إلى تجشم
المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار الآية . وأما ما روته عائشة عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ذلك في الكافر أو في يهودية معينة فهو غير مناف
لرواية غيرها من الصحابة لأن روايتهم مشتملة على زيادة والتنصيص على بعض أفراد
العام لا يوجب نفي الحكم عن بقية الأفراد لما تقرر في الأصول من عدم صحة التخصيص
بموافق العام والأحاديث التي ذكر فيها تعذيب مختص بالبرزخ أو بالتألم أو
بالاستعبار كما في حديث قيلة لا تدل على اختصاص التعذيب المطلق في الأحاديث بنوع
منها لأن التنصيص على ثبوت الحكم لشيء بدون مشعر بالاختصاص به لا ينافي ثبوته
لغيره فلا إشكال من هذه الحيثية وإنما الإشكال في التعذيب بلا ذنب وهو مخالف لعدل
الله وحكمته على فرض عدم حصول سبب من الأسباب التي يحسن عندها في مقتضى الحكمة
كالوصية من الميت بالنوح وإهمال نهيهم عنه والرضا به وهذا يؤل إلى مسألة التحسين
والتقبيح والخلاف فيها بين طوائف المتكلمين معروف ونقول ثبت عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فسمعنا وأطعنا ولا نزيد على هذا
( واعلم ) أن النووي حكى إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي
يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين
7 -
وعن أبي مالك الأشعري : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أربع في أمتي من
أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم
والنياحة وقال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من
قطران ودرع من جرب )
- رواه أحمد ومسلم
8 -
وعن أبي موسى : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الميت يعذب ببكاء الحي
إذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واكاسباه جبذ الميت وقيل له أنت عضدها أنت
ناصرها أنت كاسبها )
- رواه أحمد . وفي لفظ : ( ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول واجبلاه واسنداه أو
نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت ) رواه الترمذي
9 -
وعن النعمان بن بشير قال : ( أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي [ ص
160 ] واجبلاه وا كذا وا كذا تعدد عليه فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي
أنت كذلك فلما مات لم تبك عليه )
- رواه البخاري
-
حديث أبي موسى رواه أيضا الحاكم وصححه وحسنه الترمذي . وحديث النعمان أخرجه
البخاري في المغازي من صحيحه وأخرجه أيضا مسلم
قوله : ( والطعن في الأنساب ) هو من المعاصي التي يتساهل فيها العصاة . وقد أخرج
مسلم من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اثنتان
في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ) وقد اختلف في توجيه
إطلاق الكفر على من فعل هاتين الخصلتين . قال النووي : فيه أقوال أصحها أن معناهما
من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية . والثاني أنه يؤدي إلى الكفر . والثالث كفر
النعمة والإحسان . والرابع أن ذلك في المستحل انتهى
قوله : ( والاستسقاء بالنجوم ) هو قول القائل مطرنا بنوء كذا أو سؤال المطر من
الأنواء فإن كان ذلك على جهة اعتقاد أنها المؤثرة في نزول المطر فهو كفر . وقد ثبت
في الصحيح من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي
كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ) وإخبار
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن هذه الأربع لا تتركها أمته من علامات نبوته
فإنها باقية فيهم على تعاقب العصور وكرور الدهور لا يتركها من الناس إلا النادر
القليل )
قوله : ( الميت يعذب ببكاء الحي ) قد تقدم الكلام عليه
قوله : ( واعضداه ) الخ أي أنه كان لها كالعضد وكان لها ناصرا وكاسبا وكان لها
كالجبل تأوي إليه عند طروق الحوادث فتعتصم به ومستندا تستند إليه في أمورها
قوله : ( يلهزانه ) أن يلكزانه
( وهذه الأحاديث ) تدل على تحريم النياحة وهو مذهب العلماء كافة كما قال النووي
إلا ما يروى عن بعض المالكية فإنه قال : النياحة ليست بحرام واستدل بما أخرجه مسلم
عن أم عطية قالت : ( لما نزلت هذه الآية { يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا
يعصينك في معروف } قالت : كان منه النياحة قالت : فقلت يا رسول الله إلا آل فلان
فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم : إلا آل فلان ) وغاية ما فيه الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة [
ص 161 ] فما الدليل على حل ذلك لغيرها في غير آل فلان . وللشارع أن يخص من العموم
ما شاء وقد استشكل القاضي عياض هذا الحديث ولا مقتضى لذلك فإن للشارع أن يخص من
شاء بما شاء . وقد ورد لعن النائحة والمستمعة من حديث أبي سعيد عند أحمد ومن حديث
ابن عمر عند الطبراني والبيهقي ومن حديث أبي هريرة عند ابن عدي . قال الحافظ في
التلخيص : وكلها ضعيفة . وأخرج مسلم من حديث أم عطية أيضا قالت : ( أخذ علينا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم مع البيعة أن لا ننوح فما وفت منا امرأة إلا خمس
فذكرت منهن أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وثبت عنه صلى الله عليه
وآله وسلم أنه أمر رجلا أنه ينهى نساء جعفر عن البكاء كما في البخاري ومسلم
والمراد بالبكاء ههنا النوح كما تقدم
10 -
وعن أنس قال : ( لما ثقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت
فاطمة : واكرب أبتاه فقال : ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت : يا أبتاه
أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه فلما دفن قالت
فاطمة : أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التراب )
- رواه البخاري
11 -
وعن أنس : ( أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فوضع فمه
بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال : وانبياه واخليلاه واصفياه )
- رواه أحمد
-
قوله في حديث أنس الأول : ( واكرب أبتاه ) قال في الفتح : في هذا نظر وقد رواه
مبارك بن فضالة عن ثابت بلفظ : ( واكرباه )
قوله : ( أطابت أنفسكم ) قال في الفتح : ولسان حال أنس لم تطب أنفسنا لكن قهرناها
امتثالا لأمره . وقد قال أبو سعيد : ما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا .
ومثله عن أنس يريد أن تغيرت عما عهدنا من الألفة والصفاء والرقة لفقدان ما كان
يمدهم به من التعليم . ويؤخذ من قول فاطمة الخ جواز ذكر الميت بما هو متصف به إن
كان معلوما . قال الكرماني : وليس هذا من نوح الجاهلية من الكذب ورفع الصوت وغيره
إنما هو ندبة مباحة انتهى . وعلى فرض صدق اسم النوح في لسان الشارع على مثل هذا
فليس في فعل فاطمة وأبي بكر دليل على جواز ذلك لأن الصحابي لا يصلح للحجية كما
تقرر في الأصول . ويحمل ما وقع منهما على أنهما لم يبلغهما أحاديث النهي عن ذلك [
ص 162 ] الفعل ولم ينقل أن ذلك وقع منهما بمحضر جميع الصحابة حتى يكون كالإجماع
منهم على الجواز لسكوتهم عن الإنكار والأصل أيضا عدم ذلك
باب الكف عن ذكر مساوي الأموات
1 -
عن عائشة قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تسبوا الأموات
فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا )
- رواه أحمد والبخاري والنسائي
2 -
وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا
أحياءنا )
- رواه أحمد والنسائي
- حديث
ابن عباس أخرجه عنه بمعناه الطبراني في الأوسط بإسناد فيه صالح بن نبهان وهو ضعيف
وأخرج نحوه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث سهل بن سعد والمغيرة
قوله : ( لا تسبوا الأموات ) ظاهره النهي عن سب الأموات على العموم وقد خصص هذا
العموم بما تقدم في حديث أنس وغيره أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم عند ثنائهم
بالخير والشر : ( وجبت أنتم شهداء الله في أرضه ) ولم ينكر عليهم . وقيل أن اللام
في الأموات عهدية والمراد بهم المسلمون لأن الكفار مما يتقرب إلى الله عز و جل
بسبهم ويدل على ذلك قوله في حديث ابن عباس المذكور : ( لا تسبوا أمواتنا ) وقال
القرطبي في الكلام على حديث وجبت : إنه يحتمل أجوبة : الأول أن الذي كان يحدث عنه
بالسر مستظهرا به فيكون من باب لا غيبة لفاسق أو كان منافقا أو يحمل النهي على ما
بعد الدفن والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه أو يكون هذا النهي العام متأخرا
فيكون ناسخا . قال الحافظ : وهذا ضعيف . وقال ابن رشيد ما محصله : إن السب يكون في
حق الكافر وفي حق المسلم أما في حق الكافر فيمتنع إذا تأذى به الحي المسلم وأما
المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة عليه وقد يجب في بعض
المواضع وقد تكون مصلحة للميت كمن علم أنه أخذ مالا بشهادة زور ومات الشاهد فإن
ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن من بيده المال يرده إلى صاحبه والثناء على الميت
بالخير والشر من باب الشهادة لا من باب السب انتهى . والوجه تبقية الحديث على
عمومه إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر وجرح المجروحين من الرواة [ ص 163
] أحياء وأمواتا لإجماع العلماء على جواز ذلك وذكر ذلك مساوي الكفار والفساق
للتحذير منهم والتنفير عنهم . قال ابن بطال : سب الأموات يجري مجرى الغيبة فإن كان
أغلب أحوال المرء الخير وقد تكون منه الفلتة فالاغتياب له ممنوع وإن كان فاسقا
معلنا فلا غيبة له وكذلك الميت انتهى . ويتعقب بأن ذكر الرجل بما فيه حال حياته قد
يكون لقصد زجره وردعه عن المعصية أو لقصد تحذير الناس منه وتنفيرهم وبعد موته قد
أفضى إلى ما قدم فلا سواء وقد عملت عائشة رواية هذا الحديث بذلك في حق من استحق
عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه كما روى ذلك عنها
عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة ورواه ابن حبان من وجه آخر وصححه والمتحري لدينه
في اشتغاله بعيوب نفسه ما يشغله عن نشر مثالب الأموات وسب من لا يدري كيف حاله عند
بارئ البريات ولا ريب أن تمزيق عرض من قدم على من قدم وجثا بين يدي من هو بما تكنه
الضمائر أعلم مع عدم ما يحمل على ذلك من جرح أو نحوه أحموقة لا تقع لمتيقظ ولا
يصاب بمثلها متدين بمذهب ونسأل الله السلامة بالحسنات ويتضاعف عند وبيل عقابها
الحسرات . اللهم اغفر لنا تفلتات اللسان والقلم في هذه الشعاب والهضاب وجنبنا عن
سلوك هذه المسالك التي هي في الحقيقة مهالك ذوي الألباب
قوله : ( فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ) أي وصلوا إلى ما عملوا من خير وشر والربط
بهذه العلة من مقتضيات الحمل على العموم
قوله : ( فتؤذوا الأحياء ) أي فيتسبب عن سبهم أذية الأحياء من قرابتهم ولا يدل هذا
على جواز سب الأموات عند عدم تأذي الأحياء كمن لا قرابة له أو كانوا لا يبلغهم ذلك
لأن سب الأموات منهي عنه للعلة المتقدمة ولكونه من الغيبة التي وردت الأحاديث
بتحريمها فإن كان سببا لأذية الأحياء فيكون محرما من جهتين وإلا كان محرما من جهة .
وقد أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم : اذكروا محاسن أمواتكم وكفوا عن مساويهم ) وفي إسناده عمران بن أنس المكي
وهو منكر الحديث كما قال البخاري . وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه . وقال
الكرابيسي : حديثه ليس بالمعروف . وأخرج أبو داود عن عائشة قالت : ( قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه ) وقد سكت أبو داود
والمنذري عن الكلام على هذا الحديث [ ص 164 ]
باب استحباب زيارة القبور للرجال دون النساء وما يقال عند دخولها
1 -
عن بريدة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد كنت نهيتكم عن زيارة
القبور فقد أذن لمحمد بزيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة )
- رواه الترمذي وصححه
2 -
وعن أبي هريرة قال : ( زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من
حوله فقال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها
فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت )
- رواه الجماعة
-
الحديث الأول أخرجه أيضا مسلم وأبو داود وابن حبان والحاكم والحديث الثاني عزاه
المصنف إلى الجماعة بدون استثناء ولم أجده في البخاري ولا عزاه غيره إليه فينظر .
وقد أخرجه أيضا الحاكم
( وفي الباب ) عن ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وفي إسناده أيوب بن هانئ مختلف
فيه . وعن أبي سعيد الخدري عند الشافعي وأحمد والحاكم . وعن أبي ذر عند الحاكم
وسنده ضعيف . وعن علي بن أبي طالب عليه السلام عند أحمد . وعن عائشة عند ابن ماجه
( وهذه الأحاديث ) فيها مشروعية زيارة القبور وقد حكى الحازمي ( 1 ) والعبدري
والنووي اتفاق أهل العلم على أن زيارة القبور للرجال جائزة . قال الحافظ : كذا
أطلقوه وفيه نظر لأن ابن أبي شيبة وغيره رووا عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي
والشعبي أنهم كرهوا ذلك مطلقا حتى قال الشعبي : لولا نهي النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لزرت قبر ابنتي فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء
وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ والله أعلم . وذهب ابن حزم إلى أن زيارة القبور واجبة
ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به وهذا يتنزل على الخلاف في الأمر بعد النهي
هل يفيد الوجوب أو مجرد الإباحة فقط والكلام في ذلك مستوفى في الأصول
قوله : ( فقد أذن لمحمد ) الخ فيه دليل على جواز زيارة قبر القريب الذي لم يدرك
الإسلام . قال القاضي عياض : سبب زيارته صلى الله عليه وآله وسلم قبرها أنه قصد
قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها . ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم في [ ص
165 ] آخر الحديث : ( فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت )
قوله : ( فلم يؤذن لي ) فيه دليل على عدم جواز الاستغفار لمن مات على غير ملة
الإسلام
_________
( 1 ) عقد الحازمي في كتابه الاعتبار لذلك بابا قال باب النهي عن زيارة القبور ثم
الرخصة فيها وذكر الأحاديث الواردة في الباب ثم قال في آخر الباب : وزيارة القبور
مأذون فيها للرجال اتفق على ذلك أهل العلم قاطبة اه
3 -
وعن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن زوارات القبور )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه
4 -
وعن عبد الله بن أبي مليكة : ( أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها : يا
أم المؤمنين من أين أقبلت قالت : من قبر أخي عبد الرحمن فقلت لها : أليس كان نهى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور قالت : نعم كان نهى عن زيارة
القبور ثم أمر بزيارتها )
- رواه الأثرم في سننه
-
الحديث الأول أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه . والحديث الثاني أخرجه أيضا الحاكم
وأخرجه أيضا ابن ماجه عن عائشة مختصرا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص
في زيارة القبور )
( وفي الباب ) عن حسان عند أحمد وابن ماجه والحاكم . وعن ابن عباس عند أحمد وأصحاب
السنن والبزار وابن حبان والحاكم وفي إسناده أبو صالح مولى أم هانئ وهو ضعيف
( وفي الباب ) أيضا أحاديث تدل على تحريم إتباع الجنائز للنساء فتحريم زيارة
القبور تؤخذ منها بفحوى الخطاب منها عن ابن عمرو عند أبي داود والحاكم : ( أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى فاطمة ابنته فقال : ما أخرجك من بيتك فقالت :
أتيت أهل هذا الميت فرحمت على ميتهم فقال لها : فلعلك بلغت معهم الكدى قالت : معاذ
الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر فقال : لو بلغت معهم الكدى فذكر تشديدا في ذلك
فسألت ربيعة : ما الكدى فقال : القبور فيما أحسب ) وفي رواية : ( لو بلغت معهم
الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك ) قال الحاكم صحيح الإسناد على شرط الشيخين
ولم يخرجاه . قال ابن دقيق العيد : وفيما قاله الحاكم عندي نظر فإن رواية ربيعة بن
سيف لم يخرج له الشيخان في الصحيح شيئا فيما أعلم . وعن أم عطية عند الشيخين قالت
: ( نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) وعنها أيضا عند الطبراني وفيه : ( أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاهن أن يخرجن في جنازة ) وقد ذهب إلى كراهة الزيارة
للنساء جماعة من أهل العلم وتمسكوا بأحاديث الباب واختلفوا في الكراهة هل هي كراهة
تحريم أو تنزيه وذهب الأكثر إلى الجواز إذا أمنت الفتنة واستدلوا بأدلة منها
دخولهن تحت الإذن العام بالزيارة [ ص 166 ] ويجاب عنه بأن الإذن العام مخصص بهذا
النهي الخاص المستفاد من اللعن أما على مذهب الجمهور فمن غير فرق بين تقدم العام
وتأخره ومقارنته وهو الحق . وأما على مذهب البعض القائلين بأن العام المتأخر ناسخ
فلا يتم الاستدلال به إلا بعد معرفة تأخره . ومنها ما رواه مسلم عن عائشة قالت : (
كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور قال : قولي السلام على أهل الديار من
المؤمنين ) الحديث . ومنها ما أخرجه البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مر بامرأة تبكي عند قبر فقال : اتقي الله واصبري قالت : إليك عني ) الحديث ولم
ينكر عليها الزيارة . ومنها ما رواه الحاكم : ( أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده ) قال القرطبي :
اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من
المبالغة ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من
الصياح ونحو ذلك وقد يقال إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لهن لأن تذكر الموت
يحتاج إليه الرجال والنساء انتهى . وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع
بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر
5 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى المقبرة فقال : السلام
عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي . ولأحمد من حديث عائشة مثله وزاد : ( اللهم لا تحرمنا
أجرهم ولا تفتنا بعدهم )
6 -
وعن بريدة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى
المقابر أن يقول قائلهم السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن
شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
-
حديث عائشة أخرجه أيضا مسلم بلفظ : ( قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين
والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم
للاحقون ) وأخرج أيضا عنها أنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كلما كان ليلتها منه يخرج إلى البقيع من آخر الليل فيقول السلام عليكم دار قوم
مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل
بقيع الغرقد )
قوله : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ) دار قوم منصوب على النداء أي يا أهل فحذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل منصوب على الاختصاص قال صاحب المطالع : ويجوز
جره على البدل من الضمير [ ص 167 ] في عليكم . قال الخطابي : إن اسم الدار يقع على
المقابر قال : وهو صحيح فإن الدار في اللغة تقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير
المأهول
قوله : ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) التقييد بالمشيئة على سبيل التبرك وامتثال
قول الله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا إن يشاء الله } وقيل
المشيئة عائدة إلى الكون معهم في تلك التربة وقيل غير ذلك
( والأحاديث ) فيها دليل على استحباب التسليم على أهل القبور والدعاء لهم بالعافية
. قال الخطابي وغيره : إن السلام على الأموات والأحياء سواء في تقديم السلام على
عليكم بخلاف ما كانت الجاهلية عليه كقولهم
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
باب ما جاء في الميت ينقل أو ينبش لغرض صحيح
1 -
عن جابر قال : ( أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن
فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه ) وفي رواية : ( أتى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه
فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه فالله أعلم وكان كسا عباسا قميصا قال سفيان : فيرون
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألبس عبد الله قميصه مكافأة بما صنع )
- رواهما البخاري
2 -
وعن جابر قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتلى أحد أن يردوا إلى
مصارعهم وكانوا نقلوا إلى المدينة )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي
3 -
وعن جابر قال : ( دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة )
- رواه البخاري والنسائي . ولمالك في الموطأ أنه سمع غير واحد يقول : إن سعد بن
أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق فحملا إلى المدينة ودفنا بها . ولسعيد في سننه
عن شريح بن عبيد الحضرمي أن رجالا قبروا صاحبا لهم لم يغسلوه ولم يجدوا له كفنا ثم
لقوا معاذ بن جبل فأخبروه فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره ثم غسل وكفن وحنط ثم
صلي عليه
-
قوله : ( عبد الله بن أبي ) يعني ابن سلول وهو رأس المنافقين ورئيسهم
قوله : ( بعد ما دفن ) كان أهل عبد الله بن أبي بادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي
صلى [ ص 168 ] الله عليه وآله وسلم فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته فأمر بإخراجه
وفيه دليل على جواز إخراج الميت من قبره إذا كان في ذلك مصلحة له من زيادة البركة
عليه ونحوها
قوله : ( فالله أعلم ) لفظ البخاري والله أعلم بالواو وكأن جابرا التبست عليه
الحكمة في صنعه صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله ذلك بعد ما تبين نفاقه
قوله : ( وكان كسا عباسا ) يعني ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وذلك يوم بدر لما أتي بالأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد
الله بن أبي فكساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياه فلذلك ألبسه النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قميصه هكذا ساقه البخاري في الجهاد فيمكن أن يكون هذا هو السبب في
إلباسه صلى الله عليه وآله وسلم قميصه ويمكن أن يكون السبب ما أخرجه البخاري أيضا
في الجنائز أن ابن عبد الله المذكور قال : ( يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي
جلدك ) وفي رواية أنه قال : ( أعطني قميصك أكفنه فيه ) ويمكن أن يكون السبب هو
المجموع للسؤال والمكافأة ولا مانع من ذلك
قوله : ( وكانوا نقلوا إلى المدينة ) فيه جواز إرجاع الشهيد إلى الموضع الذي أصيب
فيه بعد نقله منه وليس في هذا أنهم كانوا قد دفنوا بالمدينة ثم أخرجوا من القبور
ونقلوا
قوله : ( فلم تطب نفسي ) فيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لأمر يتعلق بالحي لأنه
لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه وقد بين جابر ذلك بقوله فلم تطب نفسي ولكن
هذا إن ثبت إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن له بذلك أو قرره عليه وإلا فلا
حجة في فعل الصحابي والرجل الذي دفن معه هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام
الأنصاري وكان صديق والد جابر وزوج أخته هند بنت عمرو . وروى ابن إسحاق في المغازي
: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اجمعوا بينهما فإنهما كانا متصادقين
في الدنيا )
قوله : ( حتى أخرجته ) في لفظ للبخاري : ( فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم
وضعته غير هنية في أذنه ) وظاهر هذا يخالف ما في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي
صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو يعني والد جابر الأنصاريين
كانا قد حفر السيل قبرهما وكانا في قبر واحد فحفر عنهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا
بالأمس وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة . وقد جمع ابن عبد البر
بينهما بتعدد القصة . قال في الفتح : وفيه نظر لأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه
في [ ص 169 ] قبر وحده بعد ستة أشهر . وفي حديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد
ست وأربعين سنة فإما أن يكون المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة أو أن السيل
خرق أحد القبرين فصارا كقبر واحد . وقد أخرج نحو ما ذكره في الموطأ ابن إسحاق في
المغازي وابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر بإسناد صحيح . ومعنى قوله ( هنية )
أي شيئا يسيرا وهي بنون بعدها تحتانية مصغرا وهو تصغير هنة
قوله : ( فحملا إلى المدينة ) فيه جواز نقل الميت من الموطن الذي مات فيه إلى موطن
آخر يدفن فيه والأصل الجواز فلا يمنع من ذلك إلا بدليل
قوله : ( فأمرهم أن يخرجوه ) الخ فيه أنه يجوز نبش الميت لغسله وتكفينه والصلاة
عليه وهذا وإن كان قول صحابي ولا حجة فيه ولكن جعل الدفن مسقطا لما علم من وجوب
غسل الميت أو تكفينه أو الصلاة عليه محتاج إلى دليل ولا دليل
كتاب الزكاة
-
الزكاة في اللغة النماء يقال زكا الزرع إذا نما وترد أيضا بمعنى التطهير وترد شرعا
بالاعتبارين معا أما بالأول فلأن إخراجها سبب للنماء في المال أو بمعنى أن الأجر
يكثر بسببها أو بمعنى أن تعلقها بالأموال ذات النماء كالتجارة والزراعة . ودليل
الأول : ( ما نقص مال من صدقة ) لأنها يضاعف ثوابها كما جاء : ( إن الله تعالى
يربي الصدقة ) وأما الثاني فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل وطهرة من الذنوب ( 1
) قال في الفتح : وهي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها . قال أبو
بكر ابن العربي : تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والعفو والحق
. وتعريفها في الشرع : إعطاء جزء من النصاب إلى فقير ونحوه غير متصف بمانع شرعي [
ص 170 ] يمنع من الصرف إليه . ووجوب الزكاة أمر مقطوع به في الشرع يستغني عن تكلف
الاحتجاج له وإنما وقع الاختلاف في بعض فروعها فيكفر جاحدها . وقد اختلف في الوقت
الذي فرضت فيه فالأكثر أنه بعد الهجرة . وقال ابن خزيمة : إنها فرضت قبل الهجرة .
واختلف الأولون فقال النووي : إن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة . وقال ابن
الأثير : في التاسعة . قال في الفتح : وفيه نظر لأنها ذكرت في حديث ضمام ابن ثعلبة
وفي حديث وفد عبد القيس وفي عدة أحاديث وكذا في مخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكانت في
أول السابعة وقال فيها يأمرنا بالزكاة . وقد أطال الكلام الحافظ على هذا في أوائل
كتاب الزكاة من الفتح فليرجع إليه
_________
( 1 ) قال الإمام النووي : وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها . وقيل
لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه كما سبق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (
والصدقة برهان ) . قالوا : وسميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه
بظاهره وباطنه . اه . وقوله لوجود المعنى اللغوي فيها هو النماء . وقد شاهدنا ذلك
حسا ومعنى فعلى محبي كثرة الأموال وزيادتها وتضاعفها أضعافا كثيرة أن يخرجوا زكاة
أموالهم ولا يبخلوا بها فإنه مضرة عليهم في الدنيا بتسليط أنواع الهلاك عليها وفي
الآخرة بتكثير صنوف العقاب عليهم والله أعلم
باب الحث عليها والتشديد في منعها
1 -
عن ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن
قال : إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول
الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة
فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم فإن أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها
وبين الله حجاب )
- رواه الجماعة
-
قوله : ( لما بعث معاذا ) كان بعثه سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كما ذكره البخاري في أواخر المغازي . وقيل كان ذلك في سنة تسع عند منصرفه من تبوك
رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك وقد أخرجه ابن سعد في الطبقات عنه ثم حكى
ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان واتفقوا على
أنه لم يزل باليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها واختلف
هل كان واليا أو قاضيا فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول
قوله : ( تأتي قوما من أهل الكتاب ) هذا كالتوطئة للوصية لنستجمع همته عليها لكون
أهل الكتاب أهل علم في الجملة فلا يكون في مخاطبتهم كمخاطبته الجهال من عبدة
الأوثان
قوله : ( فادعهم ) الخ إنما وقعت البداءة بالشهادتين لأنهما أصل الدين الذي لا يصح
بشيء غيرهما فمن [ ص 171 ] كان منهم غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من
الشهادتين على التعيين ومن كان موحد فالمطالبة له بالجمع بينهما
قوله : ( فإن هم أطاعوك ) الخ استدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث
دعوا أولا إلى الإيمان فقط ثم دعوا إلى العمل ورتب ذلك عليه بالفاء وتعقب بأن
مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به وبأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في
الوجوب كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب وقد قدمت إحداهما على
الأخرى في هذا الحديث ورتبت الأخرى عليها بالفاء
قوله : ( خمس صلوات ) استدل به على أن الوتر ليس بفرض وكذلك تحية المسجد وصلاة
العيد وقد تقدم البحث عن ذلك
قوله : ( فإن هم أطاعوك لذلك ) قال ابن دقيق العيد : يحتمل وجهين أحدهما أن يكون
المراد إن هم أطاعوك بالإقرار بوجوبها عليهم والتزامهم بها والثاني أن يكون المراد
الطاعة بالفعل وقد رجح الأول بأن المذكور هو الإخبار بالفريضة فتعود الإشارة إليها
ويرجح الثاني أنهم لو أخبروا بالفريضة فبادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى ولم يشترط
التلفظ بخلاف الشهادتين فالشرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب . وقال الحافظ :
المراد القدر المشترك بين الأمرين فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى
وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة فإذا صلوا وبعد ذكر الزكاة فإذا
أقروا بذلك فخذ منهم
قوله : ( صدقة ) زاد البخاري في رواية في أموالهم وفي رواية له أخرى افترض عليهم
زكاة في أموالهم
قوله : ( تؤخذ من أغنيائهم ) استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة
وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه فمن امتنع منهم أخذت منه قهرا
قوله : ( على فقرائهم ) استدل به لقول مالك وغيره أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف
واحد وفيه بحث كما قال ابن دقيق العيد لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب
في ذلك وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء . قال الخطابي : وقد يستدل به من لا يرى على
المديون زكاة إذا لم يفضل من الدين الذي عليه قدر نصاب لأنه ليس بغني إذ إخراج
ماله مستحق لغرمائه
قوله : ( فإياك وكرائم أموالهم ) كرائم منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره والكرائم
جمع كريمة أي نفيسة . ( وفيه دليل ) على أنه لا يجوز للمصدق أخذ خيار المال لأن
الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بالمالك إلا برضاه
قوله : ( واتق دعوة المظلوم ) فيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في
ذكره عقب المنع من أخذ كرائم الأموال الإشارة إلى أن أخذها ظلم
قوله : ( حجاب ) أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع [ ص 172 ] والمراد أنها مقبولة
وإن كان عاصيا كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا : ( دعوة المظلوم
مستجابة وإن كان فاجرا ففجره على نفسه ) قال الحافظ : وإسناده حسن . وليس المراد
إن لله تعالى حجابا يحجبه عن الناس . قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث :
وقد احتج به على وجوب صرف الزكاة في بلدها واشتراط إسلام الفقير وأنها تجب في مال
الطفل الغني عملا بعمومه كما تصرف فيه مع الفقر انتهى . وفيه أيضا دليل على بعث
السعاة وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وقبول خبر الواحد ووجوب
العمل به وإيجاب الزكاة في مال المجنون للعموم أيضا وأن من ملك نصابا لا يعطى من
الزكاة من حيث أنه جعل أن المأخوذ منه غني وقابله بالفقير وأن المال إذا تلف قبل
التمكن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال . وقد استشكل عدم ذكر الصوم
والحج في الحديث مع أن بعث معاذ كان في آخر الأمر كما تقدم وأجاب ابن الصلاح بأن
ذلك تقصير من بعض الرواة وتعقب بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث
النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان وأجاب الكرماني بأن اهتمام الشارع بالصلاة
والزكاة أكثر ولهذا كررا في القرآن فمن ثم لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث مع
أنهما من أركان الإسلام وقيل إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه
بشيء كحديث : ( بني الإسلام على خمس ) فإذا كان في الدعاء على الإسلام اكتفي
بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة ولو كان بعد وجود فرض الحج والصوم لقوله
تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } مع أن نزولها بعد فرض الصوم
والحج
2 -
وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من صاحب كنز لا
يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى
يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة
وإما إلى النار وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما
كانت تستن عليه كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في
يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من
صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها
وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها
حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله
[ ص 173 ] إما إلى الجنة وإما إلى النار قالوا : فالخيل يا رسول الله قال : الخير
في نواصيها أو قال الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الخيل ثلاثة هي
لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر فأما التي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله
ويعدها له فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا ولو رعاها في مرج فما
أكلت من شيء إلا كتب الله له أجرا ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في
بطونها أجر حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها ولو استنت شرفا أو شرفين كتب له بكل
خطوة تخطوها أجر وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرما وتجملا ولا ينسى حق
ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها وأما التي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا وبطرا أو
بذخا ورياء الناس فذلك الذي هي عليه وزر قالوا : فالخمر يا رسول الله قال : ما
أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة { من يعمل مثقال ذرة خيرا
يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } )
- رواه أحمد ومسلم
-
قوله : ( ما من صاحب كنز ) قال الإمام أبو جعفر الطبري : الكنز كل شيء مجموع بعضه
على بعض سواء كان في بطن الأرض أو في ظهرها قال صاحب العين وغيره : وكان مخزونا .
قال القاضي عياض : اختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن وفي الحديث
فقال أكثرهم : هو كل مال وجب فيه صدقة الزكاة فلم تؤد فأما مال أخرجت زكاته فليس
بكنز وقيل الكنز هو المذكور عن أهل اللغة ولكن الآية منسوخة بوجوب الزكاة وقيل
المراد بالآية أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك وقيل كل ما زاد على أربعة آلاف فهو
كنز وان أديت زكاته وقيل هو ما فضل عن الحاجة ولعل هذا كان في أول الإسلام وضيق
الحال واتفق أئمة الفتوى على القول الأول لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا
تؤدى زكاته ) وفي صحيح مسلم : ( من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع )
وفي آخره : ( فيقول أنا كنزك ) وفي لفظ لمسلم يدل قوله ( ما من صاحب كنز لا يؤدي
زكاته ) ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منهما حقهما )
قوله : ( ثم يرى سبيله ) قال النووي : هو بضم الياء التحتية من يرى وفتحها وبرفع
لام سبيله ونصبها
قوله : ( إلا بطح لها بقاع قرقر ) القاع المستوي الواسع في سوى من الأرض قال
الهروي : وجمعه قيعة وقيعان مثل جار وجيرة وجيران . والقرقر بقافين مفتوحتين
وراءين أولهما ساكنة المستوي [ ص 174 ] أيضا من الأرض الواسع . والبطح قال جماعة
من أهل اللغة : معناه الإلقاء على الوجه قال القاضي عياض : وقد جاء في رواية
للبخاري تخبط وجهه بأخفافها قال : وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح أن يكون على
الوجه وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد فقد يكون على وجهه وقد يكون على ظهره
ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها
قوله : ( كأوفر ما كانت ) يعني لا يفقد منها شيء . وفي رواية لمسلم : ( أعظم ما
كانت )
قوله : ( تستن عليه ) أي تجري عليها وهو بفتح الفوقية وسكون السين المهملة بعدها
فوقية مفتوحة ثم نون مشددة
قوله : ( كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها ) وقع في رواية لمسلم : ( كلما مر
عليه أولاها رد عليه أخراها ) قال القاضي عياض : وهو تغيير وتصحيف وصوابه الرواية
الأخرى يعني المذكورة في الكتاب
قوله : ( ليس فيها عقصاء ) الخ قال أهل اللغة : العقصاء ملتوية القرنين وهي بفتح
العين المهملة وسكون القاف بعدها صاد مهملة ثم ألف ممدودة . والجلحاء بجيم مفتوحة
ثم لام ساكنة ثم حاء مهملة التي لا قرن لها
قوله : ( تنطحه ) بكسر الطاء وفتحها لغتان حكاهما الجوهري وغيره والكسر أفصح وهو
المعروف في الرواية
قوله : ( الخيل في نواصيها الخير ) جاء تفسيره في الحديث الآخر في الصحيح بأنه
الأجر والمغنم وفيه دليل على بقاء الإسلام والجهاد إلى يوم القيامة والمراد قبيل
القيامة بيسير وهو وقت إتيان الريح الطيبة من قبل اليمن التي تقبض روح كل مؤمن
ومؤمنة كما ثبت في الصحيح
قوله : ( فأما التي هي له أجر ) هكذا في أكثر نسخ مسلم وفي بعضها : ( فأما الذي هي
له أجر ) وهي أوضح وأظهر
قوله : ( في مرج ) بميم مفتوحة وراء ساكنة ثم جيم وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب
قوله : ( ولو استنت شرفا أو شرفين ) أي جرت والشرف بفتح الشين المعجمة والراء وهو
العالي من الأرض وقيل المراد طلقا أو طلقين
قوله : ( أشرا وبطرا وبذخا ) قال أهل اللغة : الأشر بفتح الهمزة والشين المعجمة
المرح واللجاج . والبطر بفتح الباء بواحدة من أسفل والطاء المهملة ثم راء هو
الطغيان عند الحق . والبذخ بفتح الباء الموحدة والذال المعجمة بعدها خاء معجمة هو
بمعنى الأشر والبطر
قوله : ( إلا هذه الآية الفاذة الجامعة ) المراد بالفاذة القليلة النظير وهي
بالذال المعجمة المشددة والجامعة العامة المتناولة لكل خير ومعروف ومعنى ذلك أنه
لم ينزل علي فيها نص بعينها ولكن نزلت [ ص 175 ] هذه الآية العامة . وقد يحتج بهذا
من قال لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجاب بأنه لم يظهر له
فيها شيء ومحل ذلك الأصول
( والحديث ) يدل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والإبل والغنم . وقد زاد مسلم في
هذا الحديث : ( ولا صاحب بقر ) الخ قال النووي : وهو أصح حديث ورد في زكاة البقر
وقد استدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل لما وقع في رواية لمسلم عند ذكر
الخيل : ( ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها ) وتأول الجمهور هذا الحديث على
أن المراد يجاهد بها . وقيل المراد بالحق في رقابها الإحسان إليها والقيام بعلفها
وسائر مؤنها والمراد بظهورها إطراق فحلها إذا طلبت عاريته وقيل المراد حق الله مما
يكسبه من مال العدو على ظهورها وهو خمس الغنيمة وسيأتي الكلام على هذه الأطراف
التي دل الحديث عليها
قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه دليل أن تارك الزكاة لا يقطع له بالنار وآخره
دليل في إثبات العموم انتهى
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان
أبو بكر وكفر من كفر من العرب فقال عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها
فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى فقال : والله لأقاتلن من
فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر : فوالله ما هو
إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه لكن في لفظ مسلم والترمذي وأبي داود : ( لو منعوني
عقالا كانوا يؤدونه ) بدل العناق
-
قوله : ( وكفر من كفر من العرب ) قال الخطابي : أهل الردة كانوا صنفين صنفا ارتدوا
عن الدين ونابذوا الملة وعدلوا إلى الكفر وهم الذين عناهم أبو هريرة وهذه الفرقة
طائفتان إحداهما أصحاب مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه
في النبوة وأصحاب الأسود العنسي ومن استجاب له من أهل اليمن وهذه الفرقة بأسرها
منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدعية النبوة لغيره فقاتلهم أبو
بكر حتى قتل مسيلمة باليمامة والعنسي بصنعاء وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم . والطائفة
الأخرى ارتدوا عن الدين فأنكروا الشرائع وتركوا [ ص 176 ] الصلاة والزكاة وغيرهما
من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية فلم يكن يسجد لله في الأرض
إلا في ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس قال : والصنف الآخر هم
الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة فأنكروا وجوبها ووجوب أدائها إلى الإمام
وهؤلاء على الحقيقة أهل البغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصا
لدخولهم في غمار أهل الردة وأضيف الاسم في الجملة إلى أهل الردة إذ كانت أعظم
الأمرين وأهمهما وأرخ مبدأ قتال أهل البغي من زمن علي بن أبي طالب عليه السلام إذ
كانوا منفردين في زمانه لم يخلطوا بأهل الشرك وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين
للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولم يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا
على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد كانوا جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها
إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف
ووقعت الشبهة لعمر بن الخطاب فراجع أبا بكر وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس ) الحديث . وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر
الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه فقال له أبو بكر : إن الزكاة حق المال
يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال متعلقة بأطراف شرائطها والحكم المعلق بشرطين
لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها فكان في ذلك من قوله
دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة ولذلك رد المختلف فيه
إلى المتفق عليه
وقد اجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم ومن أبي بكر بالقياس ودل ذلك على
أن العموم يخص بالقياس وأن جميع ما تضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرط واستثناء
مراعى فيه ومعتبر صحته فلما استقر عند عمر صحة رأي أبي بكر وبان له صوابه تابعه
على قتال القوم وهو معنى قوله فعرفت أنه الحق يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي
أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة . وقد زعم زاعمون من الرافضة أن أبا بكر
أول من سبى المسلمين وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن
الخطاب في قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك
سكن لهم } خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره وأنه مقيد
بشرائط [ ص 177 ] لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية
والصلاة على المتصدق ما كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومثل هذه الشبهة إذا
وجدت كان ذلك مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم وزعموا أن قتالهم كان عسفا
وهؤلاء قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في
السلف وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة
مسيلمة وغيره ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء هم الذين
سماهم الصحابة كفارا ولذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة .
واستولد علي بن أبي طالب عليه السلام جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد بن
الحنيفة ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى فأما مانعوا
الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد كفارا
وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما مانعوه من حقوق
الدين وذلك أن الردة اسم لغوي فكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتد عنه
وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء
والمدح وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا وأما قوله
تعالى { خذ من أموالهم صدقة } وما ادعوه من كون الخطاب خاصا برسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فإن خطاب كتاب الله على ثلاثة أوجه : خطاب عام كقوله تعالى { يا
أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية ونحوها . وخطاب خاص برسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم لا يشركه فيه غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع
التشريك كقوله تعالى { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } وكقوله { خالصة لك من دون
المؤمنين } . وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو وجميع أمته في
المراد به سواء كقوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وكقوله تعالى { فإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله } ونحو ذلك . ومنه قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } وهذا
غير مختص به بل يشاركه فيه الأمة . والفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله والمبين عنه معنى ما أراد فقدم اسمه ليكون
سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه لهم . وأما التطهير والتزكية والدعاء
منه صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب الصدقة فإن الفاعل [ ص 178 ] لها قد ينال ذلك
كله بطاعة الله وطاعة رسوله فيها وكل ثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى الله عليه
وآله وسلم فإنه باق غير منقطع
قوله : ( حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الخ المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل
الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ويقاتلون ولا يرفع عنهم السيف
قوله : ( لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ) قال النووي : ضبطناه بوجهين فرق
وفرق بتشديد الراء وتخفيفها ومعناه من أطاع في الصلاة وجحد في الزكاة أو منعها
قوله : ( عناقا ) بفتح العين بعدها نون وهو الأنثى من أولاد المعز . وفي الرواية
الأخرى : ( عقالا ) وقد اختلف في تفسيره فذهب جماعة إلى أن المراد بالعقال زكاة
عام . قال النووي : وهو معروف في اللغة كذلك وهذا قول الكسائي والنضر بن شميل وأبي
عبيد والمبرد وغيرهم من أهل اللغة وهو قول جماعة من الفقهاء قال : والعقال الذي هو
الحبل الذي يعقل به البعير لا يجب دفعه في الزكاة فلا يجوز القتال عليه فلا يصح
حمل الحديث على هذا . وذهب كثير من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي
يعقل به البعير وهذا القول محكي عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما وهو اختيار صاحب
التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين . قال صاحب التحرير : قول من قال المراد صدقة
عام تعسف وذهاب عن طريقة العرب لأن الكلام خرج مخرج التضييق والتشديد والمبالغة
فيقتضي قلة ما علق به العقال وحقارته وإذا حمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى
قال النووي : وهذا الذي اختاره هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره وكذلك أقول أنا ثم
اختلفوا في المراد بقوله منعوني عقالا فقيل قدر قيمته كما في زكاة الذهب والفضة
والمعشرات والمعدن والركاز والفطرة والمواشي في بعض أحوالها وهو حيث يجوز دفع
القيمة . وقيل زكاة عقال إذا كان من عروض التجارة وقيل المراد المبالغة ولا يمكن
تصويره ويرده ما تقدم . وقيل إنه العقال الذي يؤخذ مع الفريضة لأن على صاحبها
تسليمها يرباطها
( واعلم ) أنها قد وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن مانع الزكاة يقاتل حتى يعطيها
ولعلها لم تبلغ الصديق ولا الفاروق ولو بلغتهما لما خالف عمر ولا احتج أبو بكر
بتلك الحجة التي هي القياس فمنها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر
قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا
أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا
ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق [ ص 179 ] الإسلام وحسابهم على الله ) وأخرج البخاري
ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا
فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) وأخرج مسلم
والنسائي من حديث جابر بن عبد الله نحوه . وفي الباب أحاديث
4 -
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول : في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها
مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ابله عزمة من عزمات ربنا تبارك
وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيئا )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال : ( وشطر ماله ) وهو حجة في أخذها من الممتنع
ووقوعها موقعها
-
الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وقال يحيى بن معين : إسناده صحيح إذا كان من
دون بهز ثقة وقد اختلف في بهز فقال أبو حاتم : لا يحتج به وروى الحاكم عن الشافعي
أنه قال : ليس بهز حجة وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت لقلنا به
وكان قال به في القديم ثم رجع . وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال : ما أدري وجهه وسئل
عن إسناده فقال : صالح الإسناد . وقال ابن حبان : لولا هذا الحديث لأدخلت بهزا في
الثقات . وقال ابن حزم : إنه غير مشهور العدالة . وقال ابن الطلاع : إنه مجهول
وتعقبا بأنه قد وثقه جماعة من الأئمة . وقال ابن عدي : لم أر له حديثا منكرا .
وقال الذهبي : ما تركه عالم قط وقد تكلم فيه أنه كان يلعب بالشطرنج . قال ابن
القطان : وليس ذلك بضائر له فإن استباحته مسألة فقهية مشتهرة . قال الحافظ : وقد
استوفيت الكلام فيه في تلخيص التهذيب . وقال البخاري : بهز بن حكيم يختلفون فيه
وقال ابن كثير : الأكثر لا يحتجون به . وقال الحاكم : حديثه صحيح وقد حسن له
الترمذي عدة أحاديث ووثقه واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له فيه
وروى عن أبي داود أنه حجة عنده
قوله : ( في كل إبل سائمة ) يدل على أنه لا زكاة في المعلوفة
قوله : ( في كل أربعين ) الخ سيأتي تفصيل الكلام في ذلك
قوله : ( لا تفرق إبل عن حسابها ) أي لا يفرق أحد الخليطين ملكه عن ملك صاحبه
وسيأتي أيضا تحقيقه
قوله : ( مؤتجرا ) أي طالبا للأجر
قوله : ( فإنا آخذوها ) [ ص 180 ] استدل به على أنه يجوز للإمام أن يأخذ الزكاة
قهرا إذ لم يرض رب المال وعلى أنه يكتفي بنية الإمام كما ذهب إلى ذلك الشافعي
والهادوية وعلى أن ولاية قبض الزكاة إلى الإمام وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة
وأصحابه ومالك والشافعي في أحد قوليه
قوله : ( وشطر ماله ) أي بعضه . وقد استدل به على أنه يجوز للإمام أن يعاقب بأخذ
المال وإلى ذلك ذهب الشافعي في القديم من قوليه ثم رجع عنه وقال : إنه منسوخ وهكذا
قال البيهقي وأكثر الشافعية . قال في التلخيص : وتعقبه النووي فقال : الذي ادعوه
من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف ودعوى النسخ غير
مقبولة مع الجهل بالتاريخ وقد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة
بالمال . وحكى صاحب ضوء النهار عن النووي أنه نقل الإجماع مثلهما وهو يخالف ما
قدمنا عنه فينظر . وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء لأنه صلى الله عليه
وآله وسلم حكم عليه بضمان ما أفسدت ولم ينقل أنه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك
القضية أضعف الغرامة ولا يخفى أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للمعاقبة بأخذ
المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقا ولا يصلح للتمسك به على عدم الجواز
وجعله ناسخا البتة وقد ذهب إلى جواز المعاقبة بالمال الإمام يحيى والهادوية . وقال
في الغيث : لا أعلم في جواز ذلك خلافا بين أهل البيت واستدلوا بحديث بهز هذا وبهم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة وقد تقدم في
الجماعة . وبحديث عمر عند أبي داود قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه ) وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة المديني
قال البخاري : عامة أصحابنا يحتجون به وهو باطل
وقال الدارقطني : أنكروه على صالح ولا أصل له والمحفوظ أن سالما أمر بذلك في رجل
غل في غزاة مع الوليد بن هشام . قال أبو داود : وهذا أصح . وبحديث ابن عمرو ابن
العاص عند أبي داود والحاكم والبيهقي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا
بكر وعمر أحرقوا متاع الغال وضربوه ) وفي إسناده زهير بن محمد قيل هو الخراساني
وقيل غيره وهو مجهول وسيأتي الكلام على هذا الحديث في كتاب الجهاد وله شاهد مذكور
هنالك . وبحديث أن سعد بن أبي وقاص سلب عبدا وجده يصيد في حرم المدينة قال : (
سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من وجدتموه يصيد فيه فخذوا سلبه )
أخرجه مسلم . [ ص 181 ] وبحديث تغريم كاتم الضالة أن يردها ومثلها . وحديث تضمين
من أخرج غير ما يأكل من الثمر المعلق مثليه كما أخرجه أبو داود وسكت عنه هو
والمنذري من حديث عبد الله بن عمرو : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن
الثمر المعلق فقال : من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة ( 1 ) فلا شيء عليه
ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه
الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة )
وأخرج نحوه النسائي والحاكم وصححه وسيأتي في كتاب السرقة . ومن الأدلة قضية المددى
الذي أغلظ لأجله الكلام عوف بن مالك عن خالد بن الوليد لما أخذ سلبه فقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا ترد عليه ) أخرجه مسلم وبإحراق علي بن أبي طالب
عليه السلام لطعام المحتكر ودور قوم يبيعون الخمر وهدمه دار جرير بن عبد الله
ومشاطرة عمر لسعد بن أبي وقاص في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه
وتضمينه لحاطب ابن أبي بلتعة مثلي قيمة الناقة التي غصبها عبيده وانتحروها وتغليظه
هو وابن عباس الدية على من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام
( وقد أجيب ) عن هذه الأدلة بأجوبة : أما عن حديث بهز فيما فيه من المقال وبما
رواه ابن الجوزي في جامع المسانيد والحافظ في التلخيص عن إبراهيم الحربي أنه قال
في سياق هذا المتن لفظة وهم فيها الراوي وإنما هو فإنا آخذوها من شطر ماله أي يجعل
ماله شطرين ويتخير عليه المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة
فأما ما لا يلزمه فلا وبما قال بعضهم إن لفظة وشطر ماله بضم الشين المعجمة وكسر
الطاء المهملة فعل مبني للمجهول ومعناه جعل ماله شطرين يأخذ المصدق الصدقة من أي
الشطرين أراد
ويجاب عن القدح بما في الحديث من المقال بأنه مما لا يقدح بمثله . وعن كلام الحربي
وما بعده بأن الأخذ من خير الشطرين صادق عليه اسم العقوبة بالمال لأنه زائد على
الواجب . وأما حديث هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإحراق فأجيب عنه بأن
السنة أقوال وأفعال وتقريرات والهم ليس من الثلاثة ويرد بأنه صلى الله عليه وآله
وسلم لا يهم إلا بالجائز وأما حديث عمر فيما فيه من المقال المتقدم . وكذلك أجيب
عن حديث ابن عمرو . وأما حديث سعد بن أبي وقاص فبأنه من باب الفدية كما يجب على من
يصيد صيد مكة وإنما عين صلى الله عليه وآله وسلم نوع الفدية هنا بأنها سلب [ ص 182
] العاضد فيقتصر على السبب لقصور العلة التي هي هتك الحرمة عن التعدية . وأما حديث
تغريم كاتم الضالة والمخرج غير ما يأكل من الثمر . وقضية المددى فهي واردة على سبب
خاص فلا يجاوز بها إلى غيره لأنها وسائر أحاديث الباب مما ورد على خلاف القياس
لورود الأدلة كتابا وسنة بتحريم مال الغير . قال الله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة } { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها
إلى الحكام } وقال صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة حجة الوداع : ( إنما دماؤكم
وأموالكم وأعراضكم ) الحديث قد تقدم . وقال : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من
نفسه ) وأما تحريق على طعام المحتكر ودور القوم وهدمه دار جرير فبعد تسليم صحة
الإسناد إليه وانتهاض فعله للاحتجاج به يجاب عنه بأن ذلك من قطع ذرائع الفساد كهدم
مسجد الضرار وتكسير المزامير . وأما المروي عن عمر من ذلك فيجاب عنه بعد ثبوته
بأنه أيضا قول صحابي لا ينتهض للاحتجاج به ولا يقوى على تخصيص عمومات الكتاب
والسنة وكذلك المروي عن ابن عباس
قوله : ( عزمة من عزمات ربنا ) قال في البدر المنير : عزمة خير مبتدأ محذوف تقديره
ذلك عزمة وضبطه صاحب إرشاد الفقه بالنصب على المصدر وكلا الوجهين جائز من حيث
العربية . ومعنى العزمة في اللغة الجد في الأمر . وفيه دليل على أن أخذ ذلك واجب
مفروض من الأحكام . والعزائم الفرائض كما في كتب اللغة
_________
( 1 ) الخبنة بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة ما تحمله في حضنك
باب صدقة المواشي
1 -
عن أنس : ( أن أبا بكر كتب لهم إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله فمن سئلها من المسلمين على
وجهها فليعطها ومن سئل فوق ذلك فلا يعطه فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم في كل
خمس ذود شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين فإن لم تكن
ابنة مخاض فابن لبون ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين
فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين فإذا بلغت واحدة وستين
ففيها جذعة إلى خمس وسبعين [ ص 183 ] فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى
تسعين فإذا بلغت واحدة وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى عشرين ومائة فإذا زادت
على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فإذا تباين أسنان الإبل
في فرائض الصدقات فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل
منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة
وليست عنده إلا جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت
عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن
استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة ابنه لبون وليست عنده إلا حقة فإنها
تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست
عنده وعنده ابنة لبون وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن
استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده إلا ابن لبون
ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء
إلا أن يشاء ربها . وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى
عشرين ومائة فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه
إلى ثلاثمائة فإذا زادت ففي كل مائة شاة ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا
تيس إلا أن يشاء المصدق ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما
كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من
أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها . وفي الرقة ربع العشر فإذا
لم يكن المال إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبخاري وقطعه في عشرة مواضع . ورواه الدارقطني
كذلك وله فيه في رواية في صدقة الإبل : ( فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففي كل
أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ) قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح ورواته كلهم
ثقات
-
الحديث أخرجه أيضا الشافعي والبيهقي والحاكم قال ابن حزم : هذا كتاب في نهاية
الصحة عمل به الصديق بحضرة العلماء ولم يخالفه أحد وصححه ابن حبان أيضا وغيره
قوله : ( إن أبا بكر كتب لهم ) في لفظ للبخاري : ( إن أبا بكر كتب له هذا [ ص 184
] الكتاب لما وجهه إلى البحرين هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله )
قوله : ( التي فرض رسول الله ) معنى فرض هنا أوجب أو شرع يعني بأمر الله تعالى .
وقيل معناه قدر لأن إيجابها ثابت بالكتاب فيكون المعنى أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بين ذلك . قال في الفتح : وقد يرد الفرض بمعنى البيان كقوله تعالى { قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وبمعنى الإنزال كقوله { إن الذي فرض عليك القرآن }
وبمعنى الحل كقوله { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } وكل ذلك لا يخرج
عن معنى التقدير . ووقع استعمال الفرض بمعنى اللزوم حتى يكاد يغلب عليه وهو لا
يخرج عن معنى التقدير . وقد قال الراغب : كل شيء ورد في القرآن فرض على فلان فهو
بمعنى الإلزام وكل شيء ورد فرض له فهو بمعنى لم يحرم عليه وذكر أن معنى قوله تعالى
{ إن الذي فرض عليك القرآن } أي أوجب عليك العمل به وهذا يؤيد قول الجمهور أن
الفرض مرادف للوجوب وتفريق الحنفية بين الفرض والواجب باعتبار ما يثبتان به لا
مشاحة فيه وإنما النزاع في حمل ما ورد من الأحاديث الصحيحة على ذلك لأن اللفظ
السابق لا يحمل على الاصطلاح الحادث انتهى
قوله : ( ورسوله ) في نسخة رسوله بدون واو وهو الصواب كما في البخاري وغيره
قوله : ( ومن سئل فوق ذلك فلا يعطه ) أي من سئل زائدا على ذلك في سن أو عدد فله
المنع . ونقل الرافعي الاتفاق على ترجيحه . وقيل معناه فليمنع الساعي وليتول إخراجه
بنفسه أو يدفعها إلى ساع فإن الساعي الذي طلب الزكاة يكون بذلك متعديا وشرطه أن
يكون أمينا . قال الحافظ : لكن محل هذا إذا طلب الزيادة بغير تأويل انتهى ولعله
يشير بهذا إلى الجمع بين هذا الحديث وحديث : ( ارضوا مصدقيكم ) عند مسلم والنسائي
من حديث جرير وحديث : ( سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم
وبين ما يبغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم
) أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عتيك . وفي لفظ للطبراني من حديث سعد بن أبي
وقاص ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس فتكون هذه الأحاديث محمولة على أن للعامل تأويلا
في طلب الزائد على الواجب
قوله : ( الغنم ) هو مبتدأ وما قبله خبره وهو يدل على أن إخراج الغنم فيما دون خمس
وعشرين من الإبل متعين وإليه ذهب مالك وأحمد فلا يجزئ عندهما إخراج بعير عن أربع
وعشرين . قال [ ص 185 ] الشافعي والجمهور : يجزئ لأنه إذا أجزأ في خمس وعشرين
فإجزاؤه فيما دونها بالأولي قال في الفتح : ولأن الأصل أن يجب في جنس المال وإنما
عدل عنه رفقا بالمالك فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه فإن كانت قيمة البعير
مثلا دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم والأقيس أنه لا يجزئ انتهى
قوله : ( في كل خمس زود شاة ) الذود بفتح الذال المعجمة وسكون الواو بعدها ذال
مهملة قال الأكثر : وهو من الثلاثة إلى العشرة لا واحد له من لفظه وقال أبو عبيدة
: من الاثنين إلى العشرة قال : وهو مختص بالإناث
وقال سيبويه : تقول ثلاث ذود لأن الذود مؤنث وليس باسم كسر عليه مذكر وقال القرطبي
: أصله ذاد يذود إذا رفع شيئا فهو مصدر وكأن من كان عنده دفع عن نفسه معرة الفقر
وشدة الفاقة والحاجة . وقال ابن قتيبة : إنه يقع على الواحد فقط وأنكر أن يراد
بالذود الجمع قال : ولا يصح أن يقال خمس ذود كما لا يصح أن يقال خمس ثوب وغلطه بعض
العلماء في ذلك وقال أبو حاتم السجستاني : تركوا القياس في الجمع فقالوا خمس ذود
لخمس من الإبل كما قالوا ثلاثمائة على غير قياس قال القرطبي : وهذا صريح في أن
الذود واحد في لفظه قال الحافظ : والأشهر ما قاله المتقدمون أنه لا يطلق على الواحد
قوله : ( فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض ) بنت المخاض بفتح الميم بعدها
خاء معجمة خفيفة وآخره ضاد معجمة هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثاني وحملت
أمها والماخض الحامل والمراد أنه قد دخل وقت حملها وإن لم تحمل وهذا يدل على أنه
يجب في الخمس والعشرين إلى الخمس والثلاثين بنت مخاض وإليه ذهب الجمهور . وأخرج
ابن أبي شيبة وغيره عن علي عليه السلام أن في الخمس والعشرين خمس شياه فإذا صارت
ستا وعشرين كان فيها بنت مخاض . وقد روي عنه هذا مرفوعا وموقوفا قال الحافظ :
وإسناد المرفوع ضعيف
قوله : ( فابن لبون ذكر ) هو الذي دخل في السنة الثالثة وصارت أمه لبونا بوضع
الحمل وقوله ذكر تأكيد لقوله ابن لبون وفيه دليل على جواز العدول إلى ابن اللبون
عند عدم بنت المخاض
قوله : ( ابنة لبون ) زاد البخاري : أنثى
قوله : ( حقة ) الحقة بكسر المهملة وتشديد القاف والجمع حقاق بالكسر وطروقة الفحل
بفتح أوله أي مطروقة كحلوبة بمعنى محلوبة والمراد أنها بلغت أن يطرقها الفحل وهي
التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة
قوله : ( ففيها جذعة ) الجذعة بفتح الجيم والذال المعجمة وهي التي أتى عليها أربع
سنين ودخلت في الخامسة
قوله : ( ففي كل أربعين بنت لبون ) [ ص 186 ] المراد أنه يجب بعد مجاوزة المائة
والعشرين بواحدة في كل أربعين بنت لبون فيكون الواجب في مائة وإحدى وعشرين ثلاث
بنات لبون وإلى هذا ذهب الجمهور ولا اعتبار بالمجاوزة بدون واحدة كنصف أو ثلث أو
ربع خلافا للإصطخري فقال : يجب ثلاث بنات لبون بزيادة بعض واحدة ويرد عليه ما عند
الدارقطني في آخر هذا الحديث وما في كتاب عمر الآتي بلفظ : ( فإذا كانت إحدى
وعشرين ومائة ) ومثله في كتاب عمرو بن حزم وإلى ما قاله الجمهور ذهب الناصر
والهادي في الأحكام حكى ذلك عنهما المهدي في البحر وحكى في البحر أيضا عن علي وابن
مسعود والنخعي وحماد والهادي وأبي طالب والمؤيد بالله وأبي العباس : إن الفريضة
تستأنف بعد المائة والعشرين فيجب في الخمس شاة ثم كذلك واحتج لهم بقوله صلى الله
عليه وآله وسلم وما زاد على ذلك استؤنفت الفريضة وهذا إن صح كان محمولا على
الاستئناف المذكور في الحديث أعني إيجاب بنت اللبون في كل أربعين والحقة في كل
خمسين جمعا بين الأحاديث ( لا يقال ) إنه يرجح حديث الاستئناف بمعنى الرجوع إلى
إيجاب شاة في كل خمس إلى خمس وعشرين على حسب التفصيل المتقدم بأنه متضمن للإيجاب
يعني إيجاب شاة مثلا في الخمس الزائدة على مائة وعشرين وحديث الباب وما في معناه
متضمن للإسقاط لأنا نقول هو وهم ناشئ من قوله : ( وإذا زادت ففي كل أربعين ) فظن
أن معناه في كل أربعين من الزيادة فقط وليس كذلك بل معناه في كل أربعين من الزيادة
والمزيد . وحكى في الفتح عن أبي حنيفة مثل قول علي وابن مسعود ومن معهما وقيده في
البحر بأنه يقول بذلك إلى مائة وخمس وأربعين ثم له فيما زاد روايتان كالمذهب الأول
وكالمذهب الثاني
قوله : ( ويجعل معها شاتين ) الخ فيه دليل على أنه يجب على المصدق قبول ما هو أدون
ويأخذ التفاوت من جنس غير جنس الواجب وكذا العكس وذهبت الهادوية إلى أن الواجب
إنما هو زيادة فضل القيمة من المصدق أو رب المال ويرجع في ذلك إلى التقويم لكن
أجاب الجمهور عن ذلك بأنه لو كان كذلك لم ينظر إلى ما بين السنين في القيمة وكان
العرض يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف ذلك في الأمكنة فلما قدر الشارع التفاوت
بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في الأصل في مثل ذلك ولولا تقدير
الشارع بذلك لتعينت بنت المخاض مثلا ولم يجز أن تبدل ابن لبون مع التفاوت . وذهب
أبو حنيفة إلى أنه يرجع إلى القيمة فقط عند التعذر [ ص 187 ] وذهب زيد بن علي إلى
أن الفضل بين كل ستين شاة أو عشرة دراهم
قوله : ( إلا أن يشاء ربها ) أي إلا أن يتطوع متبرعا
قوله : ( فإذا زادت ففيها شاتان ) قد ورد ما يدل على تعيين أقل المراد من هذه
الزيادة المطلقة ففي كتاب عمرو بن حزم فإذا كانت إحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين
ففيها شاتان وقد تقدم خلاف الإصطخري في ذلك
قوله : ( ففي كل مائة شاة ) مقتضاه أنه لا تجب الشاة الرابعة حتى توفى أربعمائة
شاة وهو مذهب الجمهور وعن بعض الكوفيين والحسن بن صالح ورواية عن أحمد إذا زادت
على الثلاثمائة واحدة وجبت الأربع
قوله : ( هرمة ) بفتح الهاء وكسر الراء هي الكبيرة التي سقطت أسنانها
قوله : ( ولا ذات عوار ) بفتح العين المهملة وضمها وقيل بالفتح فقط أي معيبة وقيل
بالفتح العيب وبالضم العور . واختلف في مقدار ذلك فالأكثر على أنه ما ثبت به الرد
في البيع وقيل ما يمنع الإجزاء في الأضحية ويدخل في المعيب المريض والذكر بالنسبة
إلى الأنثى والصغير بالنسبة إلى سن أكبر منه
قوله : ( ولا تيس ) بتاء فوقية مفتوحة وياء تحتية ساكنة ثم سين مهملة وهو فحل
الغنم
قوله : ( إلا أن يشاء المصدق ) قال في الفتح : اختلف في ضبطه يعني المصدق فالأكثر
على أنه بالتشديد والمراد المالك وهو اختيار أبي عبيد وتقدير الحديث لا تؤخذ هرمة
ولا ذات عيب أصلا ولا يؤخذ التيس إلا برضا المالك لكونه محتاجا إليه ففي أخذه بغير
اختياره إضرار به وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث ومنهم من ضبطه بتخفيف الصاد
وهو الساعي وكأنه أشير بذلك إلى التفويض إليه في اجتهاده لكونه يجري مجرى الوكيل
فلا يتصرف بغير المصلحة فيتقيد بما تقتضيه القواعد وهذا قول الشافعي انتهى
قوله : ( ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ) قال في الفتح : قال
مالك في الموطأ : معنى هذا أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت
فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا يجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة أو يكون للخليطين
مائتا شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد
منهم إلا شاة واحدة . وقال الشافعي : هو خطاب لرب المال من جهة والساعي من جهة
فأمر كل منهما أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة فرب المال يخشى أن
تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل والساعي أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر فمعنى
قوله خشية الصدقة أي خشية أن تكثر أو تقل فلما كان محتملا للأمرين لم يكن الحمل
على [ ص 188 ] أحدهما أولى من الآخر فحمل عليهما معا لكن الذي يظهر أنه حمله على
المالك أظهر . واستدل به على أن من كان عنده دون النصاب من الفضة ودون النصاب من
الذهب مثلا أنه لا يجب ضم بعضه إلى بعض حتى يصير نصابا كاملا فيجب عليه فيه الزكاة
خلافا لمن قال بالضم كالمالكية والهادوية والحنفية
واستدل به أحمد على أن من كان له ماشية ببلد لا تبلغ النصاب وله ببلد آخر ما يوفيه
منها أنها لا تضم قال ابن المنذر وخالفه الجمهور فقالوا تجمع على صاحب المال
أمواله ولو كانت في بلدان شتى ويخرج منها الزكاة واستدل به أيضا على إبطال الحيلة
والعمل على المقاصد المدلول عليها بالقرائن
قوله : ( وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ) قال في الفتح :
اختلف في المراد بالخليطين فعند أبي حنيفة أنهما الشريكان قال : ولا يجب على أحد
منهما فيما يملك إلا مثل الذي كان يجب عليهما لو لم يكن خلط وتعقبه ابن جرير بأنه
لو كان تفريقهما مثل جمعهما في الحكم لبطلت فائدة الحديث وإنما نهى عن أمر لو فعله
كان فيه فائدة ولو كان كما قال لم يكن لتراجع الخليطين بينهما بالسوية معنى . ومثل
تفسير أبي حنيفة روى البخاري عن سفيان وبه قال مالك وقال الشافعي وأحمد وأصحاب
الحديث : إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا والخلط عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت
والحوض والفحل والشركة أخص منهما . ومثل ذلك روى سفيان في جامعه عن عمر والمصير
إلى هذا التفسير متعين . ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله
تعالى { وإن كثيرا من الخلطاء } وقد بينه قبل ذلك بقوله { إن هذا أخي له تسع
وتسعون نعجة } واعتذر بعضهم عن الحنفية بأن الحديث لم يبلغهم أو أرادوا أن الأصل
ليس فيما دون خمس ذود صدقة وحكم الخليط يخالفه ويرد بأن ذلك مع الانفراد وعدم
الخلطة لا إذا انضم ما دون الخمس إلى عدد لخليط يكون به الجميع نصابا فإنه يجب
تزكية الجميع لهذا الحديث وما ورد في معناه ولا بد من الجمع بهذا . ومعنى التراجع
كما قال الخطابي أن يكون بينهما أربعون شاة مثلا لكل واحد منهما عشرون قد عرف كل
منهما عين ماله فيأخذ المصدق من أحدهما شاة فيرجع المأخوذ من ماله على خليطة بقيمة
نصف شاة وهي تسمى خلطة الجوار
قوله : ( وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة ) لفظ شاة الأول منصوب
على أنه مميز عدد أربعين ولفظ شاة الثاني منصوب أيضا على أنه مميز نسبة ناقصة إلى
السائمة
قوله : ( وفي الرقة ) بكسر الراء وتخفيف [ ص 189 ] القاف هي الفضة الخالصة سواء
كانت مضروبة أو غير مضروبة . قال الحافظ : قيل أصلها الورق فحذفت الواو وعوضت
الهاء وقيل تطلق على الذهب والفضة بخلاف الورق وعلى هذا قيل إن الأصل في زكاة
النقدين نصاب الفضة فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم فضة خالصة وجبت فيه الزكاة
وهي ربع العشر وهذا قول الزهري وخالفه الجمهور وسيأتي البحث عن ذلك في باب زكاة
الذهب والفضة
2 -
وعن الزهري عن سالم عن أبيه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كتب
الصدقة ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي قال : فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى
توفي ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها قال : فلقد هلك عمر يوم هلك وإن ذلك لمقرون
بوصيته قال : فكان فيها في الإبل في خمس شاة حتى تنتهي إلى أربع وعشرين فإذا بلغت
إلى خمس وعشرين ففيها بنت مخاض إلى خمس وثلاثين فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون
فإذا زادت على خمس وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين فإذا زادت واحدة ففيها
حقة إلى ستين فإذا زادت ففيها جذعة إلى خمس وسبعين فإذا زادت ففيها ابنتا لبون إلى
تسعين فإذا زادت ففيها حقتان إلى عشرين ومائة فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة
وفي كل أربعين ابنة لبون . وفي الغنم من أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت
شاة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة فإذا زادت بعد
فليس فيها شيء حتى تبلغ أربعمائة فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة وكذلك لا يفرق
بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق مخافة الصدقة وما كان من خليطين فهما يتراجعان
بالسوية لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب من الغنم )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : حديث حسن . وفي هذا الخبر من رواية الزهري
عن سالم مرسلا : ( فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ
تسعا وعشرين ومائة فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة حتى تبلغ تسعا
وثلاثين ومائة فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حقتان وبنت لبون حتى تبلغ تسعا
وأربعين ومائة فإذا بلغت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق حتى تبلغ تسعا وخمسين ومائة
فإذا كانت ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون حتى تبلغ تسعا وستين ومائة فإذا كانت
سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وسبعين ومائة فإذا بلغت
ثمانين ومائة ففيها حقتان [ ص 190 ] وابنتا لبون حتى تبلغ تسعا وثمانين ومائة فإذا
كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وابنة لبون حتى تبلغ تسعا وتسعين ومائة فإذا
كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي السنين وجدت أخذت ) رواه أبو
داود
-
الحديث أخرج المرفوع منه أيضا الدارقطني والحاكم والبيهقي ويقال تفرد بوصله سفيان
بن حسين وهو ضعيف في الزهري خاصة والحفاظ من أصحاب الزهري لا يصلونه رواه أبو داود
والدارقطني والحاكم عن أبي كريب عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال : هذه نسخة
كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر . قال
ابن شهاب : أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها وهي التي انتسخ
عمر بن عبد العزيز من عبد الله وسالم ابني عبد الله بن عمر فذكر الحديث وقال
البيهقي : تابع سفيان بن حسين على وصله سليمان بن كثير وأخرجه أيضا ابن عدي من
طريقه ولكنه كما قال الحافظ لين في الزهري وقد اتفق الشيخان على إخراج حديث سليمان
بن كثير والاحتجاج به . وأخرج مسلم حديث سفيان بن حسين واستشهد به البخاري . قال
الترمذي في كتاب العلل : سألت البخاري عن هذا الحديث فقال أرجو أن يكون محفوظا
وسفيان بن حسين صدوق انتهى . وضعف ابن معين هذا الحديث وقال : تفرد به سفيان بن
حسين ولم يتابع سفيان أحد عليه وسفيان ثقة دخل مع يزيد بن المهلب خراسان وأخذوا
عنه . وفي رواية للدارقطني في هذا الحديث أن في خمس وعشرين خمس شياه وضعفها لأنها
من طريق سليمان بن أرقم عن الزهري وهو ضعيف . واعلم أن المرفوع من هذا الحديث وهو
بعض حديث أنس السابق وقد تقدم شرحه
قوله : ( ففيها بنتا لبون وحقة ) الحقة عن خمسين وبنتا اللبون عن ثمانين وكذلك إذا
بلغت مائة وأربعين فيها حقتان عن مائة وبنت لبون عن أربعين وإذا بلغت مائة وخمسين
ففيها ثلاث حقاق عن كل خمسين حقة وإذا بلغت مائة وستين ففيها أربع بنات لبون عن كل
أربعين واحدة وإذا بلغت مائة وسبعين ففيها ثلاث بنات لبون عن مائة وعشرين وحقة عن
خمسين وإذا بلغت مائة وثمانين ففيها حقتان عن مائة وابنتا لبون عن ثمانين وإذا
بلغت مائة وتسعين ففيها ثلاث حقاق عن مائة وخمسين وبنت لبون عن أربعين وإذا بلغت
مائتين ففيها أربع حقاق عن كل خمسين حقة أو خمس بنات لبون عن كل أربعين واحدة وهذا
لا يخالف ما تقدم في حديث أنس لأن قوله فيه : [ ص 191 ] ( ففي كل أربعين بنت لبون
وفي كل خمسين حقة ) معناه مثل هذا لا فرق بينه وبينه إلا أنه مجمل وهذا مفصل .
وزاد أبو داود في هذا الحديث بعد قوله ( ولا ذات عيب ) فقال : وقال الزهري : إذا
جاء المصدق قسمت الشياه أثلاثا ثلثا شرارا وثلثا خيارا وثلثا وسطا فيأخذ من الوسط
3 -
وعن معاذ بن جبل قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن
وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل
حالم دينارا أو عد له معافر )
- رواه الخمسة وليس لابن ماجه فيه حكم الحالم
4 -
وعن يحيى بن الحكم : ( أن معاذا قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لصدق أهل اليمن فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة
فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين
الثمانين والتسعين فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمرني أن لا آخذ
فيما بين ذلك وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها )
- رواه أحمد
-
الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه الدارقطني والحاكم وصححه أيضا من رواية أبي وائل
عن مسروق عن معاذ . ورواه أبو داود والنسائي من رواية أبي وائل عن معاذ ورجح
الترمذي والدارقطني الرواية المرسلة ويقال إن مسروقا لم يسمع من معاذ وقد بالغ ابن
حزم في تقرير ذلك . وقال ابن القطان : هو على الاحتمال وينبغي أن يحكم لحديثه
بالاتصال على رأي الجمهور . وقال ابن عبد البر في التمهيد : إسناده متصل صحيح ثابت
ووهم عبد الحق فنقل عنه أنه قال : مسروق لم يلق معاذا وتعقبه ابن القطان بأن أبا
عمر إنما قال ذلك في رواية مالك عن حميد بن قيس عن طاوس عن معاذ وقد قال الشافعي :
طاوس عالم بأمر معاذ وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا وهذا مما لا أعلم
من أحد فيه خلافا انتهى . قال الحافظ في التلخيص : ورواه البزار والدارقطني من
طريق ابن عباس بلفظ : ( لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذا إلى اليمن
أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة جذعا أو جذعة ) الحديث لكنه من
طريق بقية عن المسعودي وهو ضعيف . والرواية الثانية المذكورة عن معاذ أخرجها أيضا
البزار وفي إسنادها الحسن بن عمارة وهو ضعيف ويدل على ضعفه ذكره فيها لقدوم معاذ
على النبي [ ص 192 ] صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقدم إلا بعد موته . وقد أخرج
نحو هذه الرواية مالك في الموطأ من طرق طاوس عن معاذ وليس عنده أن معاذا قدم قبل
موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل صرح فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مات قبل قدومه وحكى الحافظ عن عبد الحق أنه قال : في زكاة البقر حديث متفق على
صحته يعني في النصب . وحكى أيضا عن ابن جرير الطبري أنه قال : صح الإجماع المتيقن
المقطوع به الذي لا اختلاف فيه أن في كل خمسين بقرة بقرة فوجب الأخذ بهذا وما دون
ذلك مختلف فيه ولا نص في إيجابه وتعقبه صاحب الإمام بحديث عمرو بن حزم الطويل في
الديات وغيرها فإن فيه كل ثلاثين باقورة ( 1 ) تبيع جذع أو جذعة وفي كل أربعين
باقورة بقرة . وحكى أيضا عن ابن عبد البر أنه قال في الاستذكار : لا خلاف بين
العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه فيها
انتهى
قوله : ( من كل ثلاثين من البقر ) فيه دليل على أن الزكاة لا تجب فيما دون
الثلاثين وإليه ذهبت العترة والفقهاء وحكى في البحر عن سعيد بن المسيب والزهري
أنها تجب في خمس وعشرين منها كالإبل ورده بأن النصب لا تثبت بالقياس وإن سلم فالنص
مانع
قوله : ( تبيعا أو تبيعة ) التبيع على ما في القاموس والنهاية ما كان في أول سنه
وفي حديث عمرو بن حزم جذع أو جذعة
قوله : ( مسنة ) حكى في النهاية عن الأزهري أن البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن
إذا كان في ألسنة الثانية والاقتصار على المسنة في الحديث يدل على أنه لا يجزئ
المسن ولكنه أخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعا : ( وفي كل أربعين مسنة أو مسن )
قوله : ( ومن كل حالم دينارا ) فسره أبو داود بالمحتلم والمراد به أخذ الجزية ممن
لم يسلم
قوله : ( معافر ) بالعين المهملة حي من همدان لا ينصرف لما فيه من صيغة منتهى
الجموع وإليهم تنسب الثياب المعافرية والمراد هنا الثياب المعافرية كما فسره بذلك
أبو داود
قوله : ( أن الأوقاص ) الخ هي جمع وقص بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وإبدال
الصاد سينا وهو ما بين الفرضين عند الجمهور واستعمله الشافعي فيما دون النصاب
الأول . وقد وقع الاتفاق على أنه لا يجب فيها شيء في البقر إلا في رواية عن أبي
حنيفة فإنه أوجب فيما بين الأربعين والستين ربع مسنة وروى عنه وهو المصحح له أنه
يجب قسطه من المسنة
_________
( 1 ) أهل اليمن يسمون البقر باقورة
5 - وعن رجل يقال له سعر عن مصدقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهما [ ص 193 ] قالا : ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نأخذ شافعا والشافع التي في بطنها ولدها )
6 -
وعن سويد بن غفلة قال : ( أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعه
يقول : إن في عهدي أنا لا نأخذ من راضع لبن ولا نفرق بين مجتمع ولا نجمع بين مفترق
وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها )
- رواهما أحمد وأبو داود والنسائي
-
الحديث الأول أخرجه أيضا الطبراني وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص
ورجال إسناده ثقات . والحديث الثاني أخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي وفي إسناده
هلال بن خباب وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه بعضهم
قوله : ( يقال له سعر ) بكسر السين المهملة وسكون العين المهملة وآخره راء كذا في
جامع الأصول ومختصر المنذري . وفي كتاب ابن عبد البر بفتح السين المهملة وهو ابن
ديسم بفتح الدال المهملة وسكون الياء التحتية وفتح السين المهملة الكناني الديلي
روى عنه ابنه جابر هذا الحديث وذكر الدارقطني وغيره أن له صحبة وقيل كان في زمن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما جاء في هذا الحديث
قوله : ( من راضع لبن ) فيه دليل على أنها لا تؤخذ الزكاة من الصغار التي ترضع
اللبن وظاهره سواء كانت منفردة أو منضمة إلى الكبار ومن أوجبها فيها عارض هذا بما
أخرجه مالك في الموطأ والشافعي وابن حزم أن عمر قال لساعيه سفيان بن عبد الله
الثقفي : اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يده ولا تأخذها كما سيأتي
وهو مبني على جواز التخصيص بمذهب الصحابي والحق خلافه
قوله : ( كوماء ) بفتح الكاف وسكون الواو هي الناقة العظيمة السنام
( والحديثان ) يدلان على أنه لا يجوز للمصدق أن يأخذ من خيار الماشية وقد أخرج
الشيخان من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث معاذا إلى
اليمن قال له : إياك وكرائم أموالهم ) وقد تقدم الكلام على قوله ( ولا يفرق بين
مجتمع ولا يجمع بين مفترق )
7 -
وعن عبد الله بن معاوية الغاضري من غاضرة قيس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم : ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله
وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولا يعطى الهرمة [ ص 194 ] ولا
الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة لكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره
ولم يأمركم بشره )
- رواه أبو داود
-
الحديث أخرجه أيضا الطبراني وجود إسناده وسياقه أتم سندا ومتنا وذكره أبو القاسم
البغوي في معجم الصحابة مسندا وعبد الله هذا له صحبة وهو معدود في أهل حمص قيل إنه
لم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا حديثا واحدا والغاضري بالغين والضاد
المعجمتين
قوله : ( رافدة ) الرافدة المعينة والمعطية والمراد هنا المعنى الأول أي معينة له
على أداء الزكاة
قوله : ( ولا الدرنة ) بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسورة ثم نون وهي
الجرباء قاله الخطابي وأصل الدرن الوسخ كما في القاموس وغيره
قوله : ( ولا الشرط اللئيمة ) الشرط بفتح الشين المعجمة والراء قال أبو عبيد : هي
صغار المال وشراره واللئيمة البخيلة باللبن
قوله : ( ولكن من وسط أموالكم ) الخ فيه دليل على أنه ينبغي أن يخرج الزكاة من
أوساط المال لا من شراره ولا من خياره
8 -
وعن أبي بن كعب قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصدقا فمررت برجل
فلم أجد عليه في ماله إلا ابنة مخاض فأخبرته أنها صدقته فقال : ذاك ما لا لبن فيه
ولا ظهر وما كنت لأقرض الله ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة سمينة فخذها فقلت
: ما أنا بآخذ ما لم أومر به فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك قريب
فخرج معي وخرج بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره
الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذاك الذي عليك وإن تطوعت بخير
قبلناه منك وآجرك الله فيه قال : فخذها فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بقبضها ودعا له بالبركة )
- رواه أحمد
-
الحديث أخرجه أيضا أبو داود بأتم مما هنا وصححه الحاكم وفي إسناده محمد بن إسحاق
وخلاف الأئمة في حديثه مشهور إذا عنعن وهو هنا قد صرح بالتحديث
قوله : ( ولا ظهر ) يعني أن بنت المخاض ليست ذات لبن ولا صالحة للركوب عليها
قوله : ( ولكن هذه ناقة سمينة ) لفظ أبي داود : ( لكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة )
قوله : ( منك قريب ) زاد أبو داود فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي
فافعل فإن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته قال : فإني فاعل فخرج معي [ ص 195 ]
بالناقة التي عرضت علي الخ
قوله : ( فأخبره الخبر ) لفظ أبي داود : ( فقال له : يا نبي الله أتاني رسولك
ليأخذ مني صدقة مالي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ولا رسوله قط قبله فجمعت مالي فزعم أن ما علي فيه إلا ابنة مخاض ) ثم ذكر نحو ما
تقدم
( والحديث ) يدل على جواز أخذ سن أفضل من السن التي تجب على المالك إذا رضي بذلك
وهو مما لا أعلم فيه خلافا
9 -
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي : ( أن عمر بن الخطاب قال : تعد عليهم بالسخلة
يحملها الراعي ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة ولا الربي ولا الماخض ولا فحل الغنم
وتأخذ الجذعة والثنية وذلك عدل بين غذاء المال وخياره )
- رواه مالك في الموطأ
-
الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن حزم وأغرب ابن أبي شيبة فرواه مرفوعا قال : حدثنا
أبو أسامة عن النهاس بن قهم عن الحسن بن مسلم قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم سفيان بن عبد الله على الصدقة ) الحديث . ورواه أيضا أبو عبيد في
الأموال من طريق الأوزاعي عن سالم بن عبد الله المحاربي أن عمر بعث مصدقا فذكر
نحوه
قوله : ( تعد عليهم بالسخلة ) استدل به على وجوب الزكاة في الصغار وقد تقدم في
المرفوع من حديث سويد بن غفلة ما يخالفه
قوله : ( الأكولة ) بفتح الهمزة وضم الكاف العاقر من الشياه والشاة تعزل للأكل
هكذا في القاموس وأما الأكولة بضم الهمزة والكاف فهي قبيحة المأكول وليست مرادة
هنا لأن السياق في تعداد الخيار
قوله : ( ولا الربي ) بضم الراء وتشديد الباء الموحدة هي الشاة التي تربى في البيت
للبنها
قوله : ( ولا فحل الغنم ) إنما منعه من أخذه مع كونه لا يعد من الخيار لأن المالك
يحتاج إليه لينزو على الغنم
قوله : ( وتأخذ الجذعة والثنية ) المراد الجذعة من الضأن والثنية من المعز ويدل
على ذلك ما في بعض روايات حديث سويد بن غفلة المتقدم أن المصدق قال : إنما حقنا في
الجذعة من الضأن والثنية من المعز
قوله : ( بين غذاء المال ) الغذاء بالغين المعجمة المكسورة بعدها ذال معجمة جمع
غذي كغني السخال
( وقد استدل ) بهذا الأثر على أن الماشية التي تؤخذ في الصدقة هي المتوسطة بين
الخيار والشرار . وفي المرفوع النهي عن كرائم [ ص 196 ] الأموال كما تقدم من حديث
معاذ وعن المعيب كما تقدم في حديث أنس وعمر والأمر بأخذ الوسط كما تقدم في حديث
الغاضري
باب لا زكاة في الرقيق والخيل والحمر
1 -
عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس على المسلم
صدقة في عبده ولا فرسه )
- رواه الجماعة . ولأبي داود : ( ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر )
ولأحمد ومسلم : ( ليس للعبد صدقة إلا صدقة الفطر )
2 -
وعن عمر وجاءه ناس من أهل الشام فقالوا : ( إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحب
أن يكون لنا فيها زكاة وطهور قال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله واستشار أصحاب محمد
صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي : هو حسن إن لم تكن جزية
راتبة يؤخذون بها من بعدك )
- رواه أحمد
3 -
وعن أبي هريرة قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحمير فيها زكاة
فقال : ما جاءني فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن
يعمل مثقال ذرة شرا يره } )
- رواه أحمد . وفي الصحيحين معناه
-
الأثر المروي عن عمر قال في مجمع الزوائد : رجاله ثقات
قوله : ( ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه ) قال ابن رشيد : أراد بذلك الجنس
في الفرس والعبد لا الفرد الواحد إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرف والفرس المعد
للركوب ولا خلاف أيضا أنها لا تؤخذ من الرقاب وإنما قال بعض الكوفيين : تؤخذ منها
بالقيمة . وقال أبو حنيفة : إنها تجب في الخيل إذا كانت ذكرانا وإناثا نظرا إلى
النسل وله في المنفردة روايتان ولا يرد عليه أنه يلزم مثل هذا في سائر السوائم إذا
انفردت لعدم التناسل لأنه يقول إنه إذا عدم التناسل حصل فيها النمو للأكل والخيل
لا تؤكل عنده . قال الحافظ : ثم عنده أن المالك يتخير بين أن يخرج عن كل فرس
دينارا أو يقوم ويخرج ربع العشر وهذا الحديث يرد عليه وأجيب من جهته يحمل النفي
فيه على الرقبة لا على القيمة وهو خلاف الظاهر . ومن جملة ما يرد به عليه حديث علي
عند أبي داود بإسناد حسن مرفوعا : ( قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة )
وسيأتي . واستدل [ ص 197 ] على الوجوب بما وقع في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : (
أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في الخيل ثم لم ينس حق الله في ظهورها ) وقد تقدم
الجواب عن ذلك في شرح حديث أبي هريرة ( ومن جملة ) ما استدل به ما أخرجه الدارقطني
والبيهقي والخطيب من حديث جابر عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( في كل فرس سائمة
دينار أو عشرة دراهم ) وهذا الحديث مما لا تقوم به حجة لأنه قد ضعفه الدارقطني
والبيهقي فلا يقوى على معارضة حديث الباب الصحيح وتمسك أيضا بما روي عن عمر أنه
أمر عامله بأخذ الصدقة من الخيل وقد تقرر أن أفعال الصحابة وأقوالهم لا حجة فيها
لا سيما بعد إقرار عمر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر لم يأخذ الصدقة
من الخيل كما في الرواية المذكورة في الباب ( وقد احتج ) بظاهر حديث الباب
الظاهرية فقالوا لا تجب الزكاة في الخيل والرقيق لا لتجارة ولا لغيرها وأجيب عنهم
بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع ( 1 ) كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم
هذا الحديث ولا يخفى أن الإجماع على وجوب زكاة التجارة في الجملة لا يستلزم وجوبها
في كل نوع من أنواع المال لأن مخالفة الظاهرية في وجوبها في الخيل والرقيق الذي هو
محل النزاع مما يبطل الاحتجاج عليهم بالإجماع على وجوبها فيهما فالظاهر ما ذهب
إليه أهله
قوله : ( إن لم تكن جزية ) الخ ظاهر هذا أن عليا لا يقول بجواز أخذ الزكاة من هذين
النوعين وإنما حسن الأخذ من الجماعة المذكورين لكونهم قد طلبوا من عمر ذلك . وحديث
أبي هريرة المذكور في الباب هو طرف من حديثه المتقدم في أول الكتاب وقد شرحناه
هنالك [ ص 198 ] وقد استدل به على عدم وجوب الزكاة في الحمر لأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم سئل عن زكاتها فلم يذكر أن فيها الزكاة والبراءة الأصلية مستصحبة
والأحكام التكليفية لا تثبت بدون دليل ولا أعرف قائلا من أهل العلم يقول بوجوب
الزكاة في الحمر لغير تجارة واستغلال
_________
( 1 ) ويستأنس للجمهور بما رواه الترمذي والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده عبد الله بن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من ولي يتيما
له مال ليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ) وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أرشد ولي اليتيم إلى التجارة بمال الصبي لتربح فيخرج زكاتها خوفا
من أن يذهب المال بدون استثمار ولا يعقل أن المال إذا كان نقدا لا يثمر تخرج زكاته
وإذا كان تجارة يثمر فلا تخرج زكاته . وحديث عمرو وإن كان إسناده ضعيفا فله شاهد
عند الشافعي ولفظه : ( ابتغوا في أموال الأيتام لا تأكلها الزكاة ) ولعموم
الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا والله أعلم
باب زكاة الذهب والفضة
1 -
عن علي عليه السلام قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد عفوت لكم
عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما وليس في تسعين
ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي . وفي لفظ : ( قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق وليس
فيما ليس دون المائتين زكاة ) رواه أحمد والنسائي
-
الحديث روي من طريق عاصم بن ضمرة عن علي . ومن طريق الحارث الأعور عن علي أيضا قال
الترمذي : روى هذا الحديث الأعمش وأبو عوانة وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة
عن علي . وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي
وسألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح انتهى . وقد حسن
هذا الحديث الحافظ وقال الدارقطني : الصواب وقفه على علي
( الحديث يدل ) على وجوب الزكاة في الفضة وهو مجمع على ذلك . ويدل أيضا على أن
زكاتها ربع العشر ولا أعلم في ذلك خلافا . ويدل أيضا على اعتبار النصاب في زكاة
الفضة وهو إجماع أيضا وعلى أنه مائتا درهم قال الحافظ : ولم يخالف في أن نصاب
الفضة مائتا درهم إلا ابن حبيب الأندلسي فإنه قال : إن أهل كل بلد يتعاملون
بدراهمهم . وذكر ابن عبد البر اختلافا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها
من دراهم البلدان قيل وبعضهم اعتبر النصاب بالعدد لا بالوزن وهو خارق للإجماع وهذا
البعض الذي أشار إليه هو المريسي وبه قال المغربي من الظاهرية كما في البحر وقد
قوى كلام هذا المغربي الظاهري المغربي الصنعاني في شرح بلوغ المرام وقال : إنه
الظاهر إن لم يمنع منه إجماع وحكى في البحر عن مالك أنه يغتفر نقص الحبة والحبتين
ولا بد أن يكون النصاب خالصا عن الغش كما ذهب إليه [ ص 199 ] الجمهور . وقال
المؤيد بالله والإمام يحيى أنه يغتفر اليسير وقدره الإمام يحيى بالعشر فما دون .
وحكى في البحر عن أبي حنيفة أنه يغتفر ما دون النصف وسيأتي تحقيق مقدار الدرهم (
وفي الحديث ) أيضا دليل على أنه لا زكاة في الخيل والرقيق وقد تقدم الكلام على ذلك
2 -
وعن جابر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس فيما دون خمس أواق
من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة وليس فيما دون خمس أوسق من
التمر صدقة )
- رواه أحمد ومسلم وهو لأحمد والبخاري من حديث أبي سعيد
3 -
وعن علي ابن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا كانت لك مائتا
درهم وحال عليهما الحول ففيها خمس دراهم وليس عليك شيء يعني من الذهب حتى يكون لك
عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار )
- رواه أبو داود
-
حديث أبي سعيد المشار إليه هو متفق عليه . ولفظه في البخاري : ( ليس فيما دون خمسة
أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود
من الإبل صدقة ) وحديث علي هو من حديث أبي إسحاق عن الحارث الأعور وعاصم بن ضمرة
عنه وقد تقدم أن البخاري قال : كلاهما عنده صحيح وقد حسنه الحافظ والحارث ضعيف وقد
كذبه ابن المديني وغيره وروى عن ابن معين توثيقه وعاصم وثقه ابن المديني وقال
النسائي : ليس به بأس
قوله : ( خمس أواق ) بالتنوين وبإثبات التحتية مشددا ومخففا جمع أوقية بضم الهمزة
وتشديد التحتانية وحكى اللحياني وقية بحذف الألف وفتح الواو . قال في الفتح :
ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهما بالاتفاق والمراد بالدرهم الخالص من
الفضة سواء كان مضروبا أو غير مضروب . قال عياض : قال أبو عبيد : إن الدرهم لم يكن
معلوم القدر حتى جاء عبد الملك بن مروان فجمع العلماء فجعل كل عشرة دراهم سبعة
مثاقيل قال : وهذا يلزم منه أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أحال نصاب الزكاة على
أمر مجهول وهو مشكل والصواب أن معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب
الإسلام وكانت مختلفة في الوزن فعشرة مثلا وزن عشرة وعشرة وزن ثمانية فاتفق الرأي
على أن تنقش بالكتابة العربية ويصير وزنها وزنا [ ص 200 ] واحدا وقال غيره : لم
يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام . وأما الدرهم فأجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل
عشرة دراهم انتهى
قوله : ( من الورق ) قد تقدم الكلام عليه وكذا تقدم الكلام على قوله خمس ذود
قوله : ( خمسة أوسق ) جمع وسق بفتح الواو ويجوز كسرها كما حكاه صاحب المحكم وجمعه
حينئذ أوساق كحمل وأحمال وهو ستون صاعا بالاتفاق وقد وقع في رواية ابن ماجه من
طريق أبي البختري عن أبي سعيد نحو هذا الحديث وفيه : ( والوسق ستون صاعا ) وأخرجها
أبو داود أيضا لكن قال : ( ستون مختوما ) وللدارقطني من طريق عائشة : ( الوسق ستون
صاعا ) وفيه دليل على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق وسيأتي البحث عن ذلك
قوله : ( عشرون دينارا ) الدينار مثقال والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم والدرهم
ستة دوانيق والدانق قيراطان والقيراط طسوجان والطسوج حبتان والحبة سدس ثمن درهم
وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من درهم كذا في القاموس في فصل الميم من حرف الكاف
( وفيه دليل ) على أن نصاب الذهب عشرون دينارا وإلى ذلك ذهب الأكثر وروي عن الحسن
البصري أن نصابه أربعون وروي عنه مثل قول الأكثر ونصابه معتبر في نفسه . وقال طاوس
: إنه يعتبر في نصابه التقويم بالفضة فما بلغ منه ما يقوم بمائتي درهم وجبت فيه
الزكاة ويرده الحديث
قوله : ( وحال عليه الحول ) فيه دليل على اعتبار الحول في زكاة الذهب ومثله الفضة
وإلى ذلك ذهب الأكثر . وذهب ابن عباس وابن مسعود والصادق والباقر والناصر وداود
إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصابا أن يزكيه في الحال تمسكا بقوله ( في
الرقة ربع العشر ) وهو مطلق مقيد بهذا الحديث فاعتبار الحول لا بد منه والضعف الذي
في حديث الباب منجبر بما عند ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والعقيلي من حديث عائشة
من اعتبار الحول . وفي إسناده حارثة بن أبي الرجال وهو ضعيف وبما عند الدارقطني
والبيهقي من حديث ابن عمر مثله وفيه إسماعيل بن عياش وحديثه عن غير أهل الشام ضعيف
وبما عند الدارقطني من حديث أنس وفيه حسان بن سياه وهو ضعيف
قوله : ( ففيها نصف دينار ) فيه دليل على أن زكاة الذهب ربع العشر ولا أعلم فيه
خلافا [ ص 201 ]
باب زكاة الزرع والثمار
1 -
عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( فيما سقت الأنهار والغيم العشور
وفيما سقي بالسانية نصف العشور )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال الأنهار والعيون
2 -
وعن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فيما سقت السماء والعيون
أو كان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر )
- رواه الجماعة إلا مسلما لكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجه بعلا بدل عثريا
-
قوله : ( والغيم ) بفتح الغين المعجمة وهو المطر وجاء في رواية الغيل باللام . قال
أبو عبيد : هو ما جرى من المياه في الأنهار وهو سيل دون السيل الكبير . وقال ابن
السكيت : هو الماء الجاري على الأرض
قوله : ( العشور ) قال النووي : ضبطناه بضم العين جمع عشر . وقال القاضي عياض :
ضبطناه عن عامة شيوخنا بفتح العين وقال : وهو اسم للمخرج من ذلك . وقال صاحب
المطالع : أكثر الشيوخ يقولونه بالضم وصوابه الفتح . قال النووي : وهذا الذي ادعاه
من الصواب ليس بصحيح وقد اعترف بأن أكثر الرواة رووه بالضم وهو الصواب جمع عشر وقد
اتفقوا على قولهم عشور أهل الذمة بالضم ولا فرق بين اللفظين
قوله : ( بالسانية ) هي البعير الذي يستقى به الماء من البئر ويقال له الناضح يقال
منه سنا يسنو سنوا إذا استقى به
قوله : ( فيما سقت السماء ) المراد بذلك المطر أو الثلج أو البرد أو الطل والمراد
بالعيون الأنهار الجارية التي يستقي منها من دون اغتراف بآلة بل تساح إساحة
قوله : ( أو كان عثريا ) هو بفتح العين المهملة وفتح الثاء المثلثة وكسر الراء
وتشديد التحتانية . وحكي عن ابن الأعرابي تشديد المثلثة ورده ثعلب . قال الخطابي :
هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى وهو المستنقع في
بركة ونحوها يصب إليه ماء المطر في سواق تسقي إليه قال : واشتقاقه من العاثور وهي
الساقية التي يجري فيها الماء لأن الماشي يتعثر فيها قال : ومثله الذي يشرب من
الأنهار بغير مؤنة أو يشرب بعروقه كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها فتصل
إليه عروق الشجر فيستغني عن السقي . قال الحافظ : وهذا التفسير أولى من إطلاق أبي
عبيدة أن العثري ما سقته السماء لأن سياق الحديث يدل على المغايرة وكذا قول من فسر
العثري بأنه الذي [ ص 202 ] لا حمل له لأنه لا زكاة فيه . قال ابن قدامة : لا نعلم
في هذه التفرقة التي ذكرها خلافا
قوله : ( بالنضح ) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة أي بالسانية
قوله : ( بعلا ) بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة ويروى بضمها قال في
القاموس البعل الأرض المرتفعة تمطر في السنة مرة وكل نخل وزرع لا يسقى أو ما سقته
السماء انتهى . وقيل هو الأشجار التي تشرب بعروقها من الأرض
( والحديثان ) يدلان على أنه يجب العشر فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوهما مما
ليس فيه مؤنة كثيرة ونصف العشر فيما سقي بالنواضح ونحوها مما فيه مؤنة كثيرة قال
النووي : وهذا متفق عليه وإن وجد مما يسقى بالنضح تارة وبالمطر أخرى فإن كان ذلك
على جهة الاستواء وجب ثلاثة أرباع العشر وهو قول أهل العلم . قال ابن قدامة : لا
نعلم فيه خلافا وإن كان أحدهما أكثر كان حكم الأقل تبعا للأكثر عند أحمد والثوري
وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي . وقيل يؤخذ بالتقسيط . قال الحافظ : ويحتمل أن يقال
إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع
ولو كان أقل
3 -
وعن أبي سعيد : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق
صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة )
- رواه الجماعة . وفي لفظ لأحمد ومسلم والنسائي : ( ليس فيما دون خمسة أوساق من
تمر ولا حب صدقة ) ولمسلم في رواية : ( من ثمر ) بالثاء ذات النقط الثلاث
4 -
وعن أبي سعيد أيضا ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الوسق ستون صاعا )
- رواه أحمد وابن ماجه ولأحمد وأبي داود : ( ليس فيما دون خمسة أوساق زكاة والوسق
ستون مختوما
-
قوله : ( ليس فيما دون خمسون أوسق ) قد تقدم تفسير الوسق والأواقي والذود
قوله : ( الوسق ستون صاعا ) هذا الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان من طريق
عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد وأخرجه أيضا النسائي وأبو داود وابن ماجه من
طريق أبي البختري من أبي سعيد . قال أبو داود : وهو منقطع لم يسمع أبو البختري عن
أبي سعيد . وقال أبو حاتم : لم يدركه . وأخرج البيهقي نحوه من حديث ابن عمر . وابن
ماجه من حديث جابر وإسناده ضعيف . قال الحافظ : وفيه عن عائشة وعن سعيد بن المسيب
. وحديث : ( ليس [ ص 203 ] فيما دون خمسة أوسق صدقة ) مخصص لعموم حديث جابر المتقدم
في أول الباب . ولحديث ابن عمر المذكور بعده لأنهما يشملان الخمسة الأوسق وما
دونها وحديث أبي سعيد هذا خاص بقدر الخمسة الأوسق فلا تجب الزكاة فيما دونها وإلى
هذا ذهب الجمهور . وذهب ابن عباس وزيد بن علي والنخعي وأبو حنيفة إلى العمل بالعام
فقالوا تجب الزكاة في القليل والكثير ولا يعتبر النصاب وأجابوا عن حديث الأوساق
بأنه لا ينتهض لتخصيص حديث العموم لأنه مشهور وله حكم المعلوم وهذا إنما يتم على
مذهب الحنفية القائلين بأن دلالة العموم قطعية وأن العمومات القطعية لا تخصص
بالظنيات ولكن ذلك لا يجري فيما نحن بصدده فإن العام والخاص ظنيان كلاهما والخاص
أرجح دلالة وإسنادا فيقدم على العام تقدم أو تأخر أو قارن على ما هو الحق من أنه
يبنى العام على الخاص مطلقا وهكذا يجب البناء إذا جهل التاريخ وقد قيل إن ذلك
إجماع والظاهر أن مقام النزاع من هذا القبيل . وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن
الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض إلا أن أبا حنيفة قال تجب في
جميع ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب والقضب والحشيش والشجر الذي ليس له ثمر
انتهى . وحكى عياض عن داود أن كل ما يدخله الكيل يراعى فيه النصاب وما لا يدخل فيه
الكيل ففي قليله وكثيره الزكاة وهو نوع من الجمع . وقال ابن العربي : أقوى المذاهب
وأحوطها للمساكين قول أبي حنيفة وهو التمسك بالعموم انتهى . وههنا مذهب ثالث حكاه
صاحب البحر عن الباقر والصادق أنه يعتبر النصاب في التمر والزبيب والبر والشعير إذ
هي المعتادة فانصرف إليها وهو قصر للعام على بعض ما يتناوله بلا دليل
5 -
وعن عطاء بن السائب قال : ( أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة
من الخضراوات صدقة فقال له موسى بن طلحة : ليس لك ذلك إن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم كان يقول ليس في ذلك صدقة )
- رواه الأثرم في سننه . وهو من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله به
-
الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى
بن طلحة عن معاذ بلفظه . وأما القثاء والبطيخ والرمان والقضب فعفو عفا عنه رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال الحافظ : وفيه ضعف وانقطاع . وروى [ ص 204 ]
الترمذي بعضه من حديث عيسى بن طلحة عن معاذ وهو ضعيف . وقال الترمذي : ليس يصح عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء يعني في الخضراوات وإنما يروى عن موسى بن طلحة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا . وذكره الدارقطني في العلل وقال : الصواب
مرسل . وروى البيهقي بعضه من حديث موسى بن طلحة قال : عندنا كتاب معاذ . ورواه
الحاكم وقال : موسى تابعي كبير لا ينكر أنه لقي معاذا . وقال ابن عبد البر : لم
يلق معاذا ولا أدركه وكذلك قال أبو زرعة وروى البزار والدارقطني من طريق الحارث بن
نبهان عن عطاء بن السائب عن موسى بن طلحة عن أبيه مرفوعا : ( ليس في الخضراوات
صدقة ) قال البزار : لا نعلم أحدا قال فيه عن أبيه إلا الحارث بن نبهان . وقد حكى
ابن عدي تضعيفه عن جماعة والمشهور عن موسى مرسل . ورواه الدارقطني من طريق مروان
بن محمد السنجاري عن جرير عن عطاء بن السائب فقال عن أنس بدل قوله عن أبيه ولعله
تصحيف منه ومروان مع ذلك ضعيف جدا . وروى الدارقطني من حديث على مثله وفيه الصقر
بن حبيب وهو ضعيف جدا
( وفي الباب ) عن محمد بن جحش عند الدارقطني وفي إسناده عبد الله بن شبيب . قيل
عنه إنه يسرق الحديث . وعن عائشة عند الدارقطني أيضا وفيه صالح بن موسى وفيه ضعف .
وعن علي موقوفا عند البيهقي . وعن عمر كذلك عنده
( والحديث يدل ) على عدم وجوب الزكاة في الخضراوات وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي
وقالا إنما تجب الزكاة فيما يكال ويدخر للاقتيات . وعن أحمد أنها تخرج مما يكال
ويدخر ولو كان لا يقتات وبه قال أبو يوسف ومحمد وأوجبها في الخضراوات الهادي
والقسم إلا الحشيش والحطب لحديث الناس شركاء في ثلاث ووافقهما أبو حنيفة إلا أنه
استثنى السعف والتبن واستدلوا على وجوب الزكاة في الخضراوات بعموم قوله تعالى { خذ
من أموالهم صدقة } وقوله { ومما أخرجنا لكم من الأرض } وقوله { وآتوا حقه يوم
حصاده } وبعموم حديث ( فيما سقت السماء العشر ) ونحوه قالوا وحديث الباب ضعيف لا
يصلح لتخصيص هذه العمومات وأجيب بأن طرقه يقوي بعضها بعضا فينتهض لتخصيص هذه
العمومات ويقوي ذلك ما أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني من حديث أبي موسى ومعاذ
حين بعثهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال
: ( لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر ) قال
البيهقي : رواته ثقات وهو متصل . وما أخرجه الطبراني عن عمر قال : ( إنما سن رسول
[ ص 205 ] الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة في هذه الأربعة فذكرها ) وهو من
رواية موسى ابن طلحة عن عمر . قال أبو زرعة : موسى عن عمر مرسل . وما أخرجه ابن
ماجه والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ : ( إنما سن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب ) زاد ابن ماجه
: ( والذرة ) وفي إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك . وما أخرج البيهقي
من طريق مجاهد قال : لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا في
خمسة فذكرها . وأخرج أيضا من طريق الحسن فقال : لم يفرض الصدقة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إلا في عشرة فذكر الخمسة المذكورة والإبل والبقر والغنم والذهب
والفضة . وحكى أيضا عن الشعبي أنه قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إلى أهل اليمن إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب . قال البيهقي : هذه
المراسيل طرقها مختلفة وهي يؤكد بعضها بعضا ومعها حديث أبي موسى ومعها قول عمر
وعلي وعائشة ليس في الخضراوات زكاة انتهى . فلا أقل من انتهاض هذه الأحاديث لتخصيص
تلك العمومات التي قد دخلها التخصيص بالأوساق والبقر العوامل وغيرهما فيكون الحق
ما ذهب إليه الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي من أن الزكاة لا تجب إلا
في البر والشعير والتمر والزبيب لا فيما عدا هذه الأربعة مما أخرجت الأرض وأما
زيادة الذرة في حديث عمرو بن شعيب فقد عرفت أن في إسنادها متروكا ولكنها معتضدة
بمرسل مجاهد والحسن
6 -
وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث عبد الله بن رواحة
فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه
إليهم بذلك الخرص لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق )
- رواه أحمد وأبو داود
7 -
وعن عتاب بن أسيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث على الناس من
يخرص عليهم كرومهم وثمارهم )
- رواه الترمذي وابن ماجه . وعنه أيضا قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا )
- رواه أبو داود والترمذي
8 -
وعن سهل بن أبي حثمة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا خرصتم
فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه [ ص 206 ]
-
حديث عائشة فيه واسطة بين ابن جريج والزهري ولم يعرف . وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني
بدون الواسطة المذكورة وابن جريج مدلس فلعله تركها تدليسا . وذكر الدارقطني
الاختلاف فيه فقال رواه صالح عن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة
وأرسله معمر ومالك وعقيل ولم يذكروا أبا هريرة وحديث عتاب بن أسيد أخرجه أيضا
باللفظ الأول أبو داود وابن حبان وباللفظ الثاني النسائي وابن حبان والدارقطني
ومداره على سعيد بن المسيب عن عتاب وقد قال أبو داود : لم يسمع منه وقال ابن قانع
: لم يدركه . وقال المنذري : انقطاعه ظاهر لأن مولد سعيد في خلافة عمر ومات عتاب
يوم مات أبو بكر وسبقه إلى ذلك ابن عبد البر . وقال ابن السكن : لم يرو عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم من وجه غير هذا وقد رواه الدارقطني بسند فيه الواقدي
فقال عن سعيد بن المسيب عن المسور بن مخرمة عن عتاب بن أسيد . وقال أبو حاتم :
الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عتابا مرسل وهذه
رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري . وحديث سهل بن أبي حثمة أخرجه أيضا ابن حبان
والحاكم وصححاه وفي إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن ابن أبي حثمة
وقد قال البزار : إنه انفرد به وقال ابن القطان : لا يعرف حاله قال الحاكم : وله
شاهد بإسناد متفق على صحته أن عمر بن الخطاب أمر به . ومن شواهده ما رواه ابن عبد
البر عن جابر مرفوعا : ( خففوا في الخرص ) الحديث وفي إسناده ابن لهيعة
( والأحاديث المذكورة ) تدل على مشروعية الخرص في العنب والنخل وقد قال الشافعي في
أحد قوليه بوجوبه مستدلا بما في حديث عتاب من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أمر بذلك وذهبت العترة ومالك وروي عن الشافعي إلى أنه جائز فقط وذهبت الهادوية
وروي عن الشافعي أيضا إلى أنه مندوب وقال أبو حنيفة لا يجوز لأنه رجم بالغيب
والأحاديث المذكورة ترد عليه . وقد قصر جواز الخرص على مورد النص بعض أهل الظاهر
فقال لا يجوز إلا في النخل والعنب ووافقه على ذلك شريح وأبو جعفر وابن أبي الفوارس
وقيل يقاس عليه غيره مما يمكن ضبطه بالخرص واختلف في خرص الزرع فأجازه للمصلحة
الإمام يحيى ومنعته الهادوية والشافعية
قوله : ( ودعوا الثلث ) قال ابن حبان : له معنيان : أحدهما أن يترك الثلث أو الربع
من العشر . وثانيهما أن يترك ذلك في نفس الثمرة قبل أن تعشر . وقال الشافعي : أن
يدع ثلث الزكاة [ ص 207 ] أو ربعها ليفرقها هو بنفسه . وقيل يدع له ولأهله قدر ما
يأكلون ولا يخرص . وأخرج أبو نعيم في الصحابة من طريق الصلت بن زييد بن الصلت عن
أبيه عن جده : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمله على الخرص فقال :
أثبت لنا النصف وأبق لهم النصف فإنهم يسرقون ولا تصل إليهم )
9 -
وعن الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة قال الزهري : تمرين من تمر
المدينة )
- رواه أبو داود
10 -
وعن أبي أمامة بن سهل في الآية التي قال الله عز و جل { ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون } قال : هو الجعرور ولون حبيق فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
يؤخذ في الصدقة الرذالة )
- رواه النسائي
-
الحديث الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح . والحديث
الثاني في إسناده عبد الجليل بن حبيب اليحصبي ولا باس به وبقية رجاله رجال الصحيح
وقد أخرج نحوه الترمذي وقال : حسن صحيح غريب من حديث البراء : ( قال في قوله تعالى
{ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل فكان
الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه
في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه
فسقط البسر والتمر فيأكل وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه
الشيص والحشف والقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا
أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } قال : لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم
يأخذه إلا على إغماض وحياء قال : فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده )
قوله : ( الجعرور ) بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الراء وسكون الواو بعدها
راء قال في القاموس هو تمر رديء
قوله : ( ولون الحبيق ) بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون التحتية بعدها
قاف . قال في القاموس حبيق كزبير تمرد قل
قوله : ( الرذالة ) بضم الراء بعدها ذال معجمة هي ما انتقى جيده كما في القاموس .
وقوله ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) الخ فيه دليل على [ ص 208 ] أنه
لا يجوز للمالك أن يخرج الرديء عن الجيد الذي وجبت فيه الزكاة نصا في التمر وقياسا
في سائر الأجناس التي تجب فيها الزكاة وكذلك لا يجوز للمصدق أن يأخذ ذلك
باب ما جاء في زكاة العسل
1 -
عن أبي سيارة المتعي قال : ( قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال : فأد العشور قال :
قلت يا رسول الله احم لي جبلها قال : فحمى لي جبلها )
- رواه أحمد وابن ماجه
2 -
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخذ من
العسل العشر )
- رواه ابن ماجه . وفي رواية له : ( جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي واديا يقال له سلبة فحمى له
ذلك الوادي فلما ولى عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأله عن ذلك فكتب
عمر إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عشور نحله
فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء )
- رواه أبو داود والنسائي . ولأبي داود في رواية بنحوه وقال : ( من كل عشر قرب
قربة )
-
حديث أبي سيارة أخرجه أيضا أبو داود والبيهقي وهو منقطع لأنه من رواية سليمان بن
موسى عن أبي سيارة قال البخاري : لم يدرك سليمان أحدا من الصحابة وليس في زكاة
العسل شيء يصح
قال أبو عمر ابن عبد البر : لا يقوم بهذا حجة . وحديث عمرو بن شعيب . قال
الدارقطني : يروى عن عبد الرحمن بن الحارث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مسندا .
ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن شعيب عن عمر مرسلا . قال الحافظ : فهذه
علته وعبد الرحمن وابن لهيعة ليسا من أهل الإتقان لكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد
الثقات وتابعهما أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عند ابن ماجه وغيره
( وفي الباب ) عن ابن عمر عند الترمذي : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال في العسل في كل عشرة أزقاق زق ) وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد
خولف . وقال النسائي : هذا حديث منكر . ورواه البيهقي وقال : تفرد به صدقة وهو
ضعيف وقد تابعه طلحة بن زيد عن موسى بن يسار ذكره المروزي ونقل عن أحمد تضعيفه
وذكر الترمذي أنه سأل [ ص 209 ] البخاري عنه فقال هو عن نافع عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم مرسل وعن أبي هريرة عند البيهقي وعبد الرزاق وفي إسناده عبد الله
بن محرر بمهملات وهو متروك . وعن سعد ابن أبي ذئاب عند البيهقي : ( أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم استعمله على قومه وأنه قال لهم أدوا العشر في العسل ) وفي
إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري والأزدي وغيرهما . قال الشافعي : وسعد بن
أبي ذئاب يحكي ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره فيه بشيء
وأنه شيء رآه هو فتطوع له به قومه . قال ابن المنذر : ليس في الباب شيء ثابت
قوله : ( متعان ) بضم الميم وسكون المثناة بعدها مهملة وكذا المتعي
قوله : ( سلبة ) بفتح المهملة واللام والباء الموحدة هو واد لبني متعان قال البكري
في معجم البلدان : وقد استدل بأحاديث الباب على وجوب العشر في العسل أبو حنيفة
وأحمد وإسحاق وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم وحكاه في البحر عن عمر وابن عباس
وعمر بن عبد العزيز والهادي والمؤيد بالله وأحد قولي الشافعي . وقد حكى البخاري
وابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز أنه لا يجب في العسل شيء من
الزكاة وروى عنه عبد الرزاق أيضا مثل ما روى عنه صاحب البحر ولكنه بإسناد ضعيف كما
قال الحافظ في الفتح . وذهب الشافعي ومالك والثوري وحكاه ابن عبد البر عن الجمهور
إلى عدم وجوب الزكاة في العسل وحكاه في البحر عن علي عليه السلام وأشار العراقي في
شرح الترمذي إلى أن الذي نقله ابن المنذر عن الجمهور أولى من نقل الترمذي
( واعلم ) أن حديث أبي سيارة وحديث هلال إن كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب
الزكاة في العسل لأنهما تطوعا بها وحمى لهما بدل ما أخذ وعقل عمر العلة فأمر بمثل
ذلك ولو كان سبيله سبيل الصدقات لم يخير في ذلك . وبقية أحاديث الباب لا تنتهض
للاحتجاج بها . ويؤيد عدم الوجوب ما تقدم من الأحاديث القاضية بأن الصدقة إنما تجب
في أربعة أجناس ويؤيده أيضا ما رواه الحميدي بإسناده إلى معاذ بن جبل أنه أتى بوقص
البقر والعسل فقال معاذ : كلاهما لم يأمرني فيه صلى الله عليه وآله وسلم بشيء
قوله : ( وإلا فإنما هو ذباب غيث ) أي وإن لم يؤدوا عشور النحل فالعسل مأخوذ من
ذباب النحل وأضاف الذباب إلى الغيث لأن النحل يقصد مواضع القطر لما فيها من العشب
والخصب
قوله : ( يأكله من يشاء ) يعني العسل فالضمير راجع إلى المقدر المحذوف ( وفيه دليل
) على أن العسل الذي يوجد في الجبال يكون من سبق إليه أحق به [ ص 210 ]
باب ما جاء في الركاز والمعدن
1 -
عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : العجماء جرحها جبار
والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس )
- رواه الجماعة
2 -
وعن ربيعة بن عبد الرحمن عن غير واحد : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا
يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم )
- رواه أبو داود ومالك في الموطأ
-
الحديث الأول له طرق وألفاظ . والحديث الثاني أخرجه أيضا الطبراني والحاكم
والبيهقي بدون قوله ( وهي من ناحية الفرع ) الخ قال الشافعي بعد أن روى هذا الحديث
: ليس هذا مما يثبته أهل الحديث ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إلا إقطاعه . وأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم . قال البيهقي : هو كما قال الشافعي وقد روى هذا الحديث عن
الدراوردي عن ربيعة المذكور موصولا . وكذلك أخرجه الحاكم في المستدرك وكذا ذكره
ابن عبد البر . ورواه أبو سيرة المديني عن مطرف عن مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة
عن أبيه عن بلال موصولا لكن لم يتابع عليه . ورواه أبو أويس عن كثير بن عبد الله
عن أبيه عن جده . وعن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس هكذا . قال البيهقي :
وأخرجه من الوجهين الآخرين أبو داود وسيأتي حديث ابن عباس المشار إليه في باب ما
جاء في إقطاع المعادن من كتاب إحياء الموات
قوله : ( العجماء ) سميت البهيمة عجماء لأنها لا تتكلم
قوله : ( جبار ) أي هدر وسيأتي الكلام على ذلك
قوله : ( وفي الركاز الخمس ) الركاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاء مأخوذ من
الركز بفتح الراء يقال ركزه يركزه إذا دفعه فهو مركوز وهذا متفق عليه . قال مالك
والشافعي : الركاز دفن الجاهلية . وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما : إن المعدن
ركاز واحتج لهم بقول العرب أركز الرجل إذا أصاب ركازا وهي قطع من الذهب تخرج من
المعادن وخالفهم في ذلك الجمهور فقالوا لا يقال للمعدن ركاز واحتجوا بما وقع في
حديث الباب من التفرقة بينهما بالعطف فدل ذلك على المغايرة وخص الشافعي الركاز [ ص
211 ] بالذهب والفضة . وقال الجمهور ولا يختص واختاره ابن المنذر
قوله : ( القبلية ) منسوبة إلى قبل بفتح القاف والباء وهي ناحية من ساحل البحر
بينها وبين المدينة خمسة أيام . والقرع موضع بين نخلة والمدينة
( والحديث ) الأول يدل على أن زكاة الركاز الخمس على الخلاف السابق في تفسيره .
قال ابن دقيق العيد : ومن قال من الفقهاء أن في الركاز الخمس إما مطلقا أو في أكثر
الصور فهو أقرب إلى الحديث انتهى . وظاهره سواء كان الواجد له مسلما أو ذميا وإلى
ذلك ذهب الجمهور فيخرج الخمس وعند الشافعي لا يؤخذ منه شيء . واتفقوا على أنه لا
يشترط فيه الحول بل يجب إخراج الخمس في الحال وإلى ذلك ذهبت العترة . قال في الفتح
: وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي فحكى عن الشافعي الاشتراط ولا يعرف ذلك في شيء
من كتبه ولا كتب أصحابه . ومصرف هذا الخمس مصرف خمس الفيء عند مالك وأبي حنيفة
والجمهور وعند الشافعي مصرف الزكاة وعن أحمد روايتان . وظاهر الحديث عدم اعتبار
النصاب وإلى ذلك ذهبت الحنفية والعترة وقال مالك وأحمد وإسحاق يعتبر لقوله صلى
الله عليه وآله وسلم : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) وقد تقدم وأجيب بأن الظاهر
من الصدقة الزكاة فلا تتناول الخمس وفيه نظر
قوله : ( فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة ) فيه دليل لمن قال أن الواجب في
المعادن الزكاة وهي ربع العشر كالشافعي وأحمد وإسحاق ومن أدلتهم أيضا قوله صلى
الله عليه وآله وسلم ( في الرقة ربع العشر ) ويقاس غيرها عليها . وذهبت العترة
والحنفية والزهري وهو قول للشافعي إلى أنه يجب فيه الخمس لأنه يصدق عليه اسم
الركاز وقد تقدم الخلاف في ذلك
أبواب إخراج الزكاة
باب المبادرة إلى إخراجها
1 -
عن عقبة بن الحارث قال : ( صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العصر فأسرع ثم دخل
البيت فلم يلبث أن خرج فقلت أو قيل له فقال : كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة
فكرهت أن أبيته فقسمته )
- رواه البخاري
2 -
وعن عائشة قالت : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما خالطت
الصدقة مالا قط إلا أهلكته ) [ ص 212 ]
- رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي وزاد : ( قال : يكون قد وجب عليك في
مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال ) وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة
بالعين
-
قوله : ( تبرا ) بكسر المثناة وسكون الموحدة الذهب الذي لم يصف ولم يضرب . قال
الجوهري : لا يقال إلا للذهب وقد قاله بعضهم في الفضة انتهى . وأطلقه بعضهم على
جميع جواهر الأرض قبل أن تصاغ وتضرب حكاه ابن الأنباري عن الكسائي كذا أشار إليه
ابن دريد
قوله : ( أن أبيته ) أي أتركه يبيت عندي
قوله : ( فقسمته ) في رواية للبخاري : ( فأمرت بقسمته )
( والحديث الأول ) يدل على مشروعية المبادرة بإخراج الصدقة . قال ابن بطال : فيه
أن الخير ينبغي أن يبادر به فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن والتسويف
غير محمود . زاد غيره : وهو أخلص للذمة وأنفى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى
للرب تعالى وأمحى للذنب
( والحديث الثاني ) يدل على أن مجرد مخالطة الصدقة لغيرها من الأموال سبب لإهلاكه
وظاهره وإن كان الذي خلطها بغيرها من الأموال عازما على إخراجها بعد حين لأن
التراخي عن الإخراج مما لا يبعد أن يكون سببا لهذه العقوبة أعني هلاك المال
واحتجاج من احتج به على تعلق الزكاة بالعين صحيح لأنها لو كانت متعلقة بالذمة لم
يستقم هذا الحديث لأنها لا تكون في جزء من أجزاء المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها
ولا كونها سببا لإهلاك ما خالطته
باب ما جاء في تعجيلها
1 -
عن علي عليه السلام : ( أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك )
- رواه الخمسة إلا النسائي
2 -
وعن أبي هريرة قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمر على الصدقة فقيل
منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله
وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى وأما العباس
فهي علي ومثلها معها ثم قال : يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه )
- رواه [ ص 213 ] أحمد ومسلم . وأخرجه البخاري وليس فيه ذكر عمر ولا قيل له في
العباس . وقال فيه فهي عليه ومثلها معها . قال أبو عبيد : أرى والله أعلم أنه أخر
عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس وللإمام أن يؤخر على وجه النظر ثم يأخذه ومن
روى فهي علي ومثلها فيقال كان تسلف منه صدقة عامين ذلك العام والذي قبله
-
حديث علي أخرجه أيضا الحاكم والدارقطني والبيهقي وفيه اختلاف ذكره الدارقطني ورجح
إرساله وكذا رجحه أبو داود وقال الشافعي : لا أدري أثبت أم لا يعني هذا الحديث .
ويشهد له ما أخرجه البيهقي عن علي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنا
كنا احتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين ) رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا ويعضده
أيضا حديث أبي هريرة المذكور بعده
قوله : ( ينقم ) بكسر القاف وفتحها والكسر أفصح وابن جميل هذا قال ابن الأثير : لا
يعرف اسمه لكن وقع في تعليق القاضي حسين الشافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله
وذكر الشيخ سراج الدين بن الملقن أن بعضهم سماه حميدا ووقع في رواية ابن جريح أبو
جهم بن حذيفة بدل ابن جميل وهو خطأ لإطباق الجميع على ابن جميل . وقوله الأكثر أنه
كان أنصاريا وأما أبو جهم بن حذيفة فهو قرشي فافترقا
قوله : ( وأعتاده ) جمع عتاد بفتح العين المهملة بعدها فوقية وبعد الألف دال مهملة
والأعتاد آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها ويجمع أيضا على أعتدة . ومعنى ذلك
أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظنا منهم أنها للتجارة وأن الزكاة فيها واجبة فقال
لهم : لا زكاة فيها علي فقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن خالدا منع الزكاة
فقال : إنكم تظلمونه لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله تعالى قبل الحول عليها فلا
زكاة فيها ويحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها لأنه قد
وقف أمواله لله تعالى متبرعا فكيف يشح واجب عليه . واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة
التجارة وبه قال جمهور السلف والخلف خلافا لداود ( وفيه دليل ) على صحة الوقف وصحة
وقف المنقول وبه قالت الأمة بأسرها إلا أبا حنيفة وبعض الكوفيين وقال بعضهم : هذه
الصدقة التي منعها ابن جميل وخالد والعباس لم تكن زكاة إنما كانت صدقة تطوع حكاه
القاضي عياض قال : ويؤيده أن عبد الرزاق روى هذا الحديث وذكر في روايته : ( أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ندب الناس إلى الصدقة ) وذكر تمام الحديث قال ابن
القصار من المالكية : وهذا التأويل [ ص 214 ] أليق بالقصة ولا يظن بالصحابة منع
الواجب وعلى هذا فعذر خالد واضح لأنه أخرج ماله في سبيل الله فما بقي له مال يحتمل
المواساة بصدقة التطوع ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه . وقال في العباس
هي علي ومثلها معها أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه انتهى كلام ابن القصار . قال
القاضي عياض : ولكن ظاهر الأحاديث في الصحيحين أنها في الزكاة لقوله : ( بعث رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عمر على الصدقة ) وإنما كان يبعث في الفريضة ورجح
هذا النووي
قوله : ( فهي علي ومثلها معها ) مما يقوي أن المراد بهذا أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أخبرهم أنه تعجل من العباس صدقة عامين ما أخرجه أبو داود الطيالسي من
حديث أبي رافع : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر : إنا كنا تعجلنا
صدقة مال العباس عام الأول ) وما أخرجه الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود : (
أنه صلى الله عليه وآله وسلم تسلف من العباس صدقة عامين ) وفي إسناده محمد بن
ذكوان وهو ضعيف . ورواه البزار من حديث موسى ابن طلحة عن أبيه نحوه وفي إسناده
الحسن بن عمارة وهو متروك . ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وفي إسناده مندل بن
علي والعرزمي وهما ضعيفان والصواب أنه مرسل ومما يرجح أن المراد ذلك أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم لو أراد أن يتحمل ما عليه لأجل امتناعه لكفاه أن يتحمل مثلها
من غير زيادة وأيضا الحمل على الامتناع فيه سوء ظن بالعباس
( والحديثان ) يدلان على أنه يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ولو لعامين وإلى ذلك ذهب
الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وبه قال الهادي والقاسم . قال المؤيد بالله وهو أفضل
وقال مالك وربيعة وسفيان الثوري وداود وأبو عبيد بن الحارث . ومن أهل البيت الناصر
إنه لا يجزئ حتى يحول الحول واستدلوا بالأحاديث التي فيها تعليق الوجوب بالحول وقد
تقدمت . وتسليم ذلك لا يضر من قال بصحة التعجيل لأن الوجوب متعلق بالحول بلا نزاع
وإنما النزاع في الإجزاء قبله [ ص 215 ]
باب تفرقة الزكاة في بلدها ومراعاة المنصوص عليه لا القيمة وما يقال عند دفعها
1 -
عن أبي جحيفة قال : ( قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ
الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا )
- رواه الترمذي وقال : حديث حسن
2 -
وعن عمران بن حصين : ( أنه استعمل على الصدقة فلما رجع قيل له : أين المال قال :
وللمال أرسلتني أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه )
- رواه أبو داود وابن ماجه
3 -
وعن طاوس قال : ( كان في كتاب معاذ من خرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في
مخلاف عشيرته )
- رواه الأثرم في سننه
-
الحديث الأول هو من رواية حفص بن عياث عن أشعث عن عون بن أبي جحفة عن أبيه وهؤلاء
ثقات إلا أشعث بن سوار ففيه مقال . وقد أخرج له مسلم متابعة . قال الترمذي بعد ذكر
الحديث : وفي الباب عن ابن عباس
والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا إبراهيم
بن عطاء وهو صدوق
والحديث الثالث أخرجه أيضا سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى طاوس بلفظ : ( من انتقل
من مخلاف عشيرته فصدقته وعشره في مخلاف عشيرته )
( وفي الباب ) عن معاذ عند الشيخين : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه
إلى اليمن قال له : خذها من أغنيائهم وضعها في فقرائهم ) وقد استدل بهذه الأحاديث
على مشروعية صرف زكاة كل بلد في فقراء أهله وكراهية صرفها في غيرهم . وقد روي عن
مالك والشافعي والثوري أنه لا يجوز صرفها في غير فقراء البلد . وقال غيرهم : إنه
يجوز مع كراهة لما علم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستدعي الصدقات
من الأعراب إلى المدينة ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار كما أخرج النسائي من
حديث عبد الله بن هلال الثقفي قال : ( جاء رجل إلى رسول [ ص 216 ] الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقال : كدت أقتل بعدك في عناق أو شاة من الصدقة فقال صلى الله عليه
وآله وسلم : لولا أنها تعطى فقراء المهاجرين ما أخذتها ) ولما أخرجه البيهقي وعلقه
البخاري عن معاذ : ( أنه قال لأهل اليمن : ائتوني بكل خميس ولبيس آخذه منكم مكان
الصدقة فإنه أرفق بكم وأنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة ) وفيه انقطاع . وقال
الإسماعيلي : إنه مرسل فلا حجة فيه لا سيما مع معارضته لحديثه المتفق عليه الذي
تقدم وقد قال فيه بعض الرواة من الجزية بدل قوله الصدقة . أو يحمل على أنه بعد
كفاية من في اليمن وإلا فما كان معاذ ليخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قوله : ( من مخلاف ) الخ فيه دليل على أن من انتقل من بلد إلى بلد كان زكاة ماله
لأهل البلد الذي انتقل منه مهما أمكن إيصال ذلك إليهم
4 -
وعن معاذ بن جبل : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن فقال :
خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر )
- رواه أبو داود وابن ماجه . والجبرانات المقدرة في حديث أبي بكر تدل على أن
القيمة لا تشرع وإلا كانت تلك الجبرانات عبثا
-
الحديث صححه الحاكم على شرطهما وفي إسناده عطاء عن معاذ ولم يسمع منه لأنه ولد بعد
موته أو في سنة موته أو بعد موته بسنة . وقال البزار : لا نعلم أن عطاء سمع من
معاذ . وقد استدل بهذا الحديث من قال إنها تجب الزكاة من العين ولا يعدل عنها إلى
القيمة إلا عند عدمها وعدم الجنس وبذلك قال الهادي والقاسم والشافعي والإمام يحيى
. وقال أبو حنيفة والمؤيد بالله إنها تجزه مطلقا وبه قال الناصر والمنصور بالله
وأبو العباس وزيد بن علي واستدلوا بقول معاذ ائتوني بكل خميس ولبيس قال الخميس
واللبيس ليس إلا قيمة عن الأعيان التي تجب فيها الزكاة وهو مع كونه فعل صحابي لا
حجة فيه فيه انقطاع وإرسال كما قدمنا ذلك في الشرح للحديث الذي قبل هذا فالحق أن
الزكاة واجبة من العين لا يعدل عنها إلى القيمة إلا لعذر
قوله : ( والجبرانات ) بضم الجيم جمع جبران وهو ما يجبر به الشيء وذلك نحو قوله في
حديث أبي بكر السابق : ( ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ) فإن
ذلك ونحوه يدل على أن الزكاة واجبة في العين ولو كانت القيمة هي الواجبة لكان ذكر
ذلك عبثا لأنها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فتقدير [ ص 217 ] الجبران بمقدار
معلوم يناسب تعلق الوجوب بالقيمة وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا
5 -
وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أعطيتم الزكاة
فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما )
- رواه ابن ماجه
6 -
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه
قوم بصدقة قال : اللهم صل عليهم فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال اللهم صل على آل
أبي أوفى )
- متفق عليه
-
الحديث الأول إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا سويد بن سعيد حدثنا الوليد بن
مسلم عن البختري عن عبيد عن أبيه أبي هريرة فذكره والبختري بن عبيد الطابخي ( 1 )
متروك وسويد بن سعيد فيه مقال ( وفي الباب ) عن وائل بن حجر عند النسائي قال : (
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة : اللهم
بارك فيه وفي إبله )
قوله : ( فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا ) كأنه جعل هذا القول نفس الثواب لما كان له
دخل في زيادة الثواب
قوله : ( اللهم صل عليهم ) في رواية على آل فلان . وفي أخرى على فلان
قوله : ( على آل أبي أوفى ) يريد أبا أوفى نفسه لأن الآل يطلق على ذات الشيء كقوله
في قصة أبي موسى : ( لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود ) وقيل لا يقال ذلك إلا في
حق الرجل الجليل القدر واسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي شهد هو
وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة واستدل بهذا الحديث على جواز الصلاة على
غير الأنبياء وكرهه مالك والجمهور . قال ابن التين : وهذا الحديث يعكر عليه وقد
قال جماعة من العلماء يدعو آخذ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء لهذا الحديث . وأجيب
عنه بأن أصل الصلاة الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعو له فصلاة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم على أمته دعاء لهم بالمغفرة وصلاة أمته دعاء له بزيادة القربة
والزلفى ولذلك كانت لا تليق بغيره وفيه دليل على أنه يستحب الدعاء عند أخذ الزكاة
لمعطيها وأوجبه بعض أهل الظاهر وحكاه الحناطي وجها لبعض الشافعية وأجيب بأنه لو
كان واجبا لعلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 218 ] السعاة . ولأن سائر ما
يأخذه الإمام من الكفارات والديون وغيرها لا يجب عليه فيه الدعاء فكذلك الزكاة
وأما الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصا به لكون صلاته صلى الله عليه وآله وسلم
سكنا لهم بخلاف غيره
_________
( 1 ) هو بالموحدة المكسورة والمعجمة قال في التقريب : الشامي من أهل قلمون بفتح
القاف واللام ضعيف متروك من السابعة
باب من دفع صدقته إلى من ظنه من أهلها فبان غنيا
1 -
عن أبي هريرة : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال رجل : لأتصدقن
بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال : اللهم
لك الحمد على سارق لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون
تصدق الليلة على زانية فقال : اللهم لك الحمد على زانية فقال : لأتصدقن بصدقة فخرج
بصدقة فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال : اللهم لك الحمد على
زانية وعلى سارق وعلى غني فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها
تستعف به من زناها ولعل السارق أن يستعف به عن سرقته ولعل الغني أن يعتبر فينفق
مما آتاه الله عز و جل )
- متفق عليه
-
قوله : ( قال رجل ) وقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة عن الأعرج في هذا الحديث أنه
كان من بني إسرائيل
قوله : ( لأتصدقن ) زاد في رواية متفق عليها الليلة وهذا اللفظ من باب الالتزام
كالنذر مثلا والقسم فيه مقدر كأنه قال والله لأتصدقن
قوله : ( في يد سارق ) أي وهو لا يعلم أنه سارق وكذلك على الزانية وكذلك على الغني
قوله : ( تصدق ) بضم أوله على البناء للمجهول
قوله : ( لك الحمد ) أي لا لي لأن صدقتي وقعت في يد من لا يستحقها فلك الحمد حيث
كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي قال الطيبي : لما عزم أن يتصدق على مستحق فوضعها بيد
سارق حمد الله على أنه لم يقدر له أن يتصدق على من هو أسوأ حالا أو أجرى الحمد
مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيما لله تعالى فلما تعجبوا
من فعله تعجب هو أيضا فقال اللهم لك الحمد على سارق أي تصدقت عليه فهو متعلق
بمحذوف . قال الحافظ : ولا يخفى بعد هذا الوجه . وأما الذي قبله فأبعد منه والذي
يظهر الأول وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله فحمد الله سبحانه على تلك الحال لأنه
المحمود على جميع الأحوال لا يحمد على مكروه سواه . وقد ثبت : ( أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال الحمد لله على كل حال )
قوله : ( فأتي [ ص 219 ] فقيل له ) في رواية الطبراني فساءه ذلك فأتي في منامه .
وكذلك أخرجه أبو نعيم والإسماعيلي وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين
وغيره . قال الكرماني : قوله ( أتي ) أي أري في المنام أو سمع هاتفا ملكا أو غيره
أو أخبره نبي أو أفتاه عالم . وقال غيره : أو أتاه ملك فكلمه فقد كانت الملائكة
تكلم بعضهم في بعض الأمور وقد ظهر بما سلف أن الواقع هو الأول دون غيره
قوله : ( أما صدقتك فقد قبلت ) في رواية للطبراني : ( إن الله قد قبل صدقتك ) في
الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير ولهذا
تعجبوا . وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع .
واختلف الفقهاء في الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض ولا دلالة في الحديث على
الإجزاء ولا المنع ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث بلفظ الاستفهام فقال باب إذا
تصدق على غني وهو لا يعلم ولم يجزم بالحكم . قال في الصحيح : فإن قيل إن الخبر
إنما تضمن قصة خاصة وقع الإطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن أين
يقع تعميم الحكم فالجواب أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على
تعدية الحكم فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب انتهى
باب براءة رب المال بالدفع إلى السلطان مع العدل والجور وأنه إذا ظلم بزيادة لم يحتسب به عن شيء
1 -
عن أنس : ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أديت الزكاة إلى
رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله قال : نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت
منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها )
- مختصر لأحمد . وقد احتج بعمومه من يرى المعجلة إلى الإمام إذا هلكت عنده من ضمان
الفقراء دون الملاك
2 -
وعن ابن مسعود : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنها ستكون بعدي
أثرة وأمور تنكرونها قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا قال : تؤدون الحق الذي عليكم
وتسألون الله الذي لكم )
- متفق عليه
3 -
وعن وائل بن حجر [ ص 220 ] قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجل
يسأله فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم فقال : اسمعوا
وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم )
- رواه مسلم والترمذي وصححه
-
الحديث الأول أخرجه أيضا الحارث بن وهب وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه
( وفي الباب ) عن جابر بن عتيك مرفوعا عند أبي داود بلفظ : ( سيأتيكم ركب مبغضون
فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا
فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم )
وعن سعد بن أبي وقاص عند الطبراني في الأوسط مرفوعا : ( ادفعوا إليهم ما صلوا
الخمس )
وعن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وأبي سعيد عند سعيد بن منصور وابن أبي شيبة
: ( أن رجلا سألهم عن الدفع إلى السلطان فقالوا ادفعها إلى السلطان ) وفي رواية :
( أنه قال لهم هذا السلطان يفعل ما ترون فأدفع إليه زكاتي قالوا نعم ) ورواه
البيهقي عنهم وعن غيرهم أيضا وروى ابن أبي شيبة من طريق قزعة قال : قلت لابن عمر
أن لي مالا فإلى من أدفع زكاته قال : ادفعها إلى هؤلاء القوم يعني الأمراء قلت إذا
يتخذون بها ثيابا وطيبا قال : وإن . وفي رواية : أنه قال : ادفعوا صدقة أموالكم
إلى من ولاه الله أمركم فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها
( وفي الباب ) أيضا عند البيهقي عن أبي بكر الصديق والمغيرة بن شعبة وعائشة وأخرج
البيهقي أيضا عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه قال : ( ادفعوها إليهم وإن شربوا الخمور
) وأخرج أيضا من حديث أبي هريرة ( إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك فإن اعتدى عليك
فوله ظهرك ولا تلعنه وقل اللهم إني أحتسب عندك ما أخذ مني )
قوله : ( أثرة ) بفتح الهمزة والثاء المثلثة هي اسم لاستئثار الرجل على أصحابه
( والأحاديث ) المذكورة في الباب استدل بها الجمهور على جواز دفع الزكاة إلى
سلاطين الجور وإجزائها وحكى المهدي في البحر عن العترة وأحد قولي الشافعي أنه لا
يجوز دفع الزكاة إلى الظلمة ولا يجزئ واستدلوا بقوله تعالى { لا ينال عهدي
الظالمين } ويجاب بأن هذه الآية على تسليم صحة الاستدلال بها على محل النزاع
عمومها مخصص بالأحاديث المذكورة في الباب
وقد زعم بعض المتأخرين أن الأدلة المذكورة تدل على مطلوب المجوزين لأنها في المصدق
والنزاع في الوالي وهو غفلة عن حديث ابن مسعود وحديث وائل بن حجر المذكورين في
الباب
وقد حكى في التقرير عن أحمد بن عيسى والباقر مثل قول الجمهور وكذلك عن [ ص 221 ]
المنصور وابن مضر
وقد استدل للمانعين أيضا بما رواه ابن أبي شيبة عن خيثمة قال : ( سألت ابن عمر عن
الزكاة فقال : ادفعها إليهم ثم سألته بعد ذلك فقال : لا تدفعها إليهم فإنهم قد
أضاعوا الصلاة ) وهذا مع كونه قول صحابي ولا حجة فيه ضعيف الإسناد لأنه من رواية
جابر الجعفي
ومن جملة ما احتج به صاحب البحر للقائلين بالجواز بأنها لم تزل تؤخذ كذلك ولا تعاد
وبأن عليا لم يثن على من أعطى الخوارج وأجاب عن الأول بأنه ليس بإجماع وعن الثاني
بأن ذلك كان لعذر أو مصلحة إذ لا تصريح بالإجزاء ولا يخفى ضعف هذا الجواب والحق ما
ذهب إليه الجمهور من الجواز والإجزاء
4 -
وعن بشير بن الخصاصية قال : ( قلنا يا رسول الله إن قوما من أصحاب الصدقة يعتدون
علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا فقال : لا )
- رواه أبو داود
-
الحديث أخرجه أيضا عبد الرزاق وسكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده ديسم السدوسي
ذكره ابن حبان في الثقات . وقال في التقريب : مقبول . ( وفي الباب ) عن جرير بن
عبد الله وأبي هريرة عند البيهقي
( والحديث ) استدل به على أنه لا يجوز كتم شيء عن المصدقين وإن ظلموا وتعدوا وقد
عورض ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من سئل فوق ذلك فلا يعطه ) كما تقدم
في حديث أنس الطويل الذي رواه عن كتاب أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وتقدم الجمع بين هذا الحديث وبين ذلك هنالك . قال ابن رسلان : لعل المراد بالمنع
من الكتم أن ما أخذه الساعي ظلما يكون في ذمته لرب المال فإن قدر المالك على
استرجاعه منه استرجعه وإلا استقر في ذمته
باب أمر الساعي أن يعد الماشية حيث ترد الماء ولا يكلفهم حشدها إليه
1 -
عن عبد الله بن عمرو : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : تؤخذ صدقات
المسلمين على مياههم )
- رواه أحمد . وفي رواية لأحمد وأبي داود : ( لا جلب ولا جنب ولا تؤخذ صدقاتهم إلا
في ديارهم ) [ ص 222 ]
-
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص وفي إسناده محمد ابن إسحاق
وقد عنعن
( وفي الباب ) عن عمران بن حصين عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وابن حبان
وصححاه بمثل حديث الباب . وعن أنس عند أحمد والبزار وابن حبان وعبد الرزاق وأخرجه
النسائي عنه من وجه آخر
قوله : ( لا جلب ) بفتح الجيم واللام ولا جنب بفتح الجيم والنون قال ابن إسحاق :
معنى لا جلب أن تصدق الماشية في موضعها ولا تجلب إلى المصدق ومعنى لا جنب أن يكون
المصدق بأقصى مواضع أصحاب الصدقة فيجنب إليه فنهوا عن ذلك وفسر مالك الجلب بأن
تجلب الفرس في السباق فيحرك وراءه الشيء يستحث به فيسبق والجنب أن يجنب مع الفرس
الذي سابق به فرسا آخر حتى إذا دنا تحول الراكب عن الفرس المجنوب فسبق . قال ابن
الأثير : له تفسيران فذكرهما وتبعه المنذري في حاشيته
( والحديث ) يدل على أن المصدق هو الذي يأتي للصدقات ويأخذها على مياه أهلها لأن
ذلك أسهل لهم
باب سمة الإمام المواشي إذا تنوعت عنده
1 -
عن أنس قال : ( عدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله ابن أبي
طلحة ليحنكه فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة )
- أخرجاه . ولأحمد وابن ماجه : ( دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسم
غنما في آذانها )
2 -
وعن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر : ( إن في الظهر ناقة عمياء فقال : أمن نعم
الصدقة أو من نعم الجزية قال أسلم : من نعم الجزية وقال إن عليها ميسم الجزية )
- رواه الشافعي
-
قوله : ( الميسم ) بكسر الميم وسكون الياء التحتية وفتح السين المهملة وأصله موسم
لأن فاءه واو لكنها لما سكنت وكسر ما قبلها قلبت ياء وهي الحديدة التي يوسم بها أي
يعلم بها وهو نظير الخاتم
( وفيه دليل ) على جواز وسم إبل الصدقة ويلحق بها غيرها من الأنعام والحكمة في ذلك
تمييزها وليردها من أخذها ومن التقطها وليعرفها صاحبها فلا يشتريها إذا تصدق بها
مثلا لئلا يعود في صدقته قال في الفتح : ولم أقف على تصريح بما كان مكتوبا على
ميسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن ابن الصباغ [ ص 223 ] من الشافعية نقل
إجماع الصحابة على أنه يكتب في ميسم الزكاة زكاة أو صدقة وقد ذكره بعض الحنفية
الوسم بالميسم لدخوله في عموم النهي عن المثلة وحديث الباب يخصص هذا العموم فهو
حجة عليه
( وفي الحديث ) اعتناء الإمام بأموال الصدقة وتوليها بنفسه وجواز تأخير القسمة
لأنها لو عجلت لاستغني عن الوسم
قوله : ( إن عليها ميسم الجزية ) الخ فيه دليل على أن وسم إبل الجزية كان يفعل في
أيام الصحابة كما كان يوسم إبل الصدقة
أبواب الأصناف الثمانية
باب ما جاء في الفقير والمسكين والمسألة والغني
1 -
عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس المسكين الذي
ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف اقرؤوا إن
شئتم لا يسألون الناس إلحافا وفي لفظ : ( ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده
اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن
به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس )
- متفق عليهما
-
قوله : ( ولا اللقمة واللقمتان ) في رواية للبخاري : الأكلة والأكلتان
قوله : ( يغنيه ) هذه صفة زائدة على الغنى المنهي ( 1 ) إذ لا يلزم من حصول اليسار
للمرء أن يغنى به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر وكان المعنى نفي اليسار المقيد بأنه
يغنيه مع وجود أصل اليسار
( وفي الحديث ) دليل على أن المسكين هو الجامع بين عدم الغنى وعدم تفطن الناس له
لما يظن به لأجل تعففه وتظهره بصورة الغني من عدم الحاجة ومع هذا فهو مستعفف عن
السؤال
( وقد استدل ) به من يقول أن الفقير أسوأ حالا من المسكين وأن المسكين الذي له شيء
لكنه لا يكفيه والفقير الذي لا شيء له ويؤيده قوله تعالى { أما السفينة فكانت
لمساكين يعملون في البحر } فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها وإلى هذا
ذهب الشافعي والجمهور كما قال في الفتح . وذهب أبو حنيفة والعترة إلى أن المسكين
دون الفقير واستدلوا بقوله تعالى { أو مسكينا ذا متربة } قالوا لأن المراد يلصق
بالتراب للعرى . وقال ابن القاسم وأصحاب مالك : إنهما سواء [ ص 224 ] وروي عن أبي
يوسف ورجحه الجلال قال : لأن المسكنة لازمة للفقير إذ ليس معناها الذل والهوان
فإنه ربما كان بغنى النفس أعز من الملوك الأكابر بل معناها العجز عن إدراك المطالب
الدنيوية والعاجز ساكن عن الانتهاض إلى مطالبه انتهى
وقيل الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل حكاه ابن بطال . وظاهره أيضا أن
المسكين من اتصف بالتعفف وعدم الإلحاف في السؤال لكن قال ابن بطال بمعناه المسكين
الكامل وليس المراد نفي أصل المسكنة بل هو كقوله أتدرون من المفلس الحديث . وقوله
تعالى { ليس البر } الآية وكذا قرره القرطبي وغير واحد
( ومن جملة ) حجج القول الأول قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اللهم أحيني
مسكينا ) مع تعوذه من الفقر والذي ينبغي أن يعول عليه أن يقال المسكين من اجتمعت
له الأوصاف المذكورة في الحديث والفقير من كان ضد الغني كما في الصحاح والقاموس
وغيرهما من كتب اللغة وسيأتي تحقيق الغني فيقال لمن عدم الغنى فقير ولمن عدمه مع
التعفف عن السؤال وعدم تفطن الناس له مسكين . وقيل إن الفقير من يجد القوت
والمسكين من لا شيء له . وقيل الفقير المحتاج والمسكين من أذله الفقر حكى هذين
صاحب القاموس
_________
( 1 ) هكذا الأصل وصوابه أي الغني المغني
2 -
وعن أنس : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : المسألة لا تحل إلا
لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع )
- رواه أحمد وأبو داود . وفيه تنبيه على أن الغارم لا يأخذ مع الغنى
3 -
وعن عبد الله بن عمرو قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تحل
الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه والنسائي لكنه لهما من حديث أبي هريرة ولأحمد الحديثان
4 -
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار : ( أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين فقال : إن شئتما
أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال أحمد : هذا أجودها إسنادا
-
حديث أنس أخرجه أيضا ابن ماجه والترمذي وحسنه وقال : لا نعرفه إلا من حديث الأخضر
بن عجلان انتهى . والأخضر بن عجلان قال يحيى بن معين : صالح وقال أبو حاتم الرازي
: يكتب حديثه . وحديث عبد الله بن عمرو حسنه الترمذي وذكر أن شعبة لم يرفعه وفي
إسناده ريحان بن يزيد وثقه يحيى بن معين وقال أبو حاتم [ ص 225 ] الرازي : شيخ
مجهول . وقال بعضهم : لم يصح إسناد هذا الحديث وإنما هو موقوف على عبد الله بن
عمرو . وقال أبو داود : الأحاديث الأخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضها
لذي مرة سوي وبعضها لذي مرة قوي
وحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أخرجه أيضا الدارقطني وروي عن أحمد أنه قال : ما
أجوده من حديث وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه المصنف أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم
( وفي الباب ) عن طلحة عند الدارقطني وعن ابن عمر عند ابن عدي وعن حبشي بن جنادة
عند الترمذي . وعن جابر عند الدارقطني . وعن أبي زميل عن رجل من بني هلال عند أحمد
. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عند الطبراني
قوله : ( مدقع ) بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر القاف وهو الفقر الشديد
الملصق صاحبه بالدقعاء وهي الأرض التي لا نبات بها
قوله : ( أو لذي غرم مفظع ) الغرم بضم الغين المعجمة وسكون الراء هو ما يلزم أداؤه
تكلفا لا في مقابلة عوض والمفظع بضم الميم وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة وبالعين
المهملة وهو الشديد الشنيع الذي جاوز الحد
قوله : ( أو لذي دم موجع ) هو الذي يتحمل دية عن قريبه أو حميمه أو نسيبه القاتل
يدفعها إلى أولياء المقتول وإن لم يدفعها قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله
وإراقة دمه
( والحديث ) يدل على جواز المسألة لهؤلاء الثلاثة
قوله : ( لا تحل الصدقة لغني ) قد اختلفت المذاهب في المقدار الذي يصير به الرجل
غنيا فذهبت الهادوية والحنفية إلى أن الغني من ملك النصاب فيحرم عليه أخذ الزكاة
واحتجوا بما تقدم في حديث معاذ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( تؤخذ من
أغنيائهم وترد في فقرائهم ) قالوا فوصف من تؤخذ منه الزكاة بالغني وقد قال لا تحل
الصدقة لغني وقال بعضهم : هو من وجد ما يغديه ويعشيه حكاه الخطابي واستدل بما
أخرجه أبو داود وابن حبان وصححه عن سهل بن الحنظلية قال : ( قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم : من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار قالوا : يا رسول
الله وما يغنيه قال : قدر ما يغديه ويعشيه ) وسيأتي . وقال الثوري وابن المبارك
وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل العلم : هو من كان عنده خمسون درهما أو قيمتها
واستدلوا بحديث ابن مسعود عند الترمذي وغيره مرفوعا : ( من يسأل الناس وله ما
يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش قيل : يا رسول الله وما يغنيه قال :
خمسون درهما أو حسابها من الذهب ) وسيأتي . وقال الشافعي وجماعة : إذا كان عنده
خمسون درهما [ ص 226 ] أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة
وروي عن الشافعي أن الرجل قد يكون غنيا بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه
في نفسه وكثرة عياله . وقال أبو عبيد ابن سلام : هو من وجد أربعين درهما واستدل
بحديث أبي سعيد الآتي بلفظ : ( وله قيمة أوقية ) لأن الأربعين الدرهم قيمة الأوقية
وقيل هو من لا يكفيه غلة أرضه للسنة حكاه في البحر عن أبي طالب والمرتضى
قوله : ( ولا لذي مرة سوي ) المرة بكسر الميم وتشديد الراء قال الجوهري : المرة
القوة وشدة العقل ورجل مرير أي قوي ذو مرة . وقال غيره : المرة القوة على الكسب
والعمل وإطلاق المرة هنا وهي القوة مقيد بالحديث الذي بعده أعني قوله ( ولا لقوي
مكتسب ) فيؤخذ من الحديثين أن مجرد القوة لا يقتضي عدم الاستحقاق إلا إذا قرن بها
الكسب . وقوله ( سوي ) أي مستوي الخلق قاله الجوهري . والمراد استواء الأعضاء
وسلامتها
قوله : ( جلدين ) بإسكان اللام أي قويين شديدين . قال الجوهري : الجلد بفتح اللام
هو الصلابة والجلادة تقول منه جلد الرجل بالضم فهو جلد يعني بإسكان اللام وجليد
بين الجلد والجلادة
قوله : ( مكتسب ) أي يكتسب قدر كفايته وفيه دليل على أنه يستحب للإمام أو المالك
الوعظ والتحذير وتعريف الناس بأن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي قوة على الكسب كما
فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويكون ذلك برفق
5 -
وعن الحسن بن علي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : للسائل حق وإن
جاء على فرس )
- رواه أحمد وأبو داود وهو حجة في قبول قول السائل من غير تحليف وإحسان الظن به
6 -
وعن أبي سعيد قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سأل وله قيمة
أوقية فقد ألحف )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي
7 -
وعن سهل بن الحنظلية : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من سأل وعنده
ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم قالوا : يا رسول الله وما يغنيه قال : ما يغديه
أو يعشيه )
- رواه أحمد واحتج به وأبو داود وقال : ( يغديه ويعشيه )
8 -
وعن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال
: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم
القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه قالوا : يا رسول الله وما غناه قال : خمسون درهما
أو حسابها من الذهب )
- رواه [ ص 227 ] الخمسة وزاد أبو داود وابن ماجه والترمذي : فقال رجل لسفيان إن
شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير فقال سفيان حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن
يزيد
-
أما حديث الحسن بن علي فالذي وقفنا عليه في النسخ الصحيحة من هذا الكتاب أن الراوي
للحديث الحسن بن علي وفي سنن أبي داود وغيرها أن الراوي للحديث الحسين بن علي .
وهذا الحديث في إسناده يعلى ابن أبي يحيى سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال : مجهول
وقال أبو علي سعيد بن عثمان ابن السكن : قد روي من وجوه صحاح حضور الحسين بن علي
عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولعبه بين يديه وتقبيله إياه فأما الرواية
التي يرويها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلها مراسيل
وقال أبو القاسم البغوي في معجمه نحوا من ذلك . وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى بن
الحذاء سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورآه ولم يكن بينه وبين أخيه الحسن
بن علي إلا ظهر واحد . وحديث أبي سعيد سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده
ثقات وعبد الرحمن بن محمد أبي الرجال المذكور في إسناده قد وثقه أحمد والدارقطني
وابن معين وذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما أخطأ . وحديث سهل أخرجه ابن حبان
وصححه . وحديث ابن مسعود حسنه الترمذي وقال : وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من
أجل هذا الحديث
قوله : ( وإن جاء على فرس ) فيه الأمر بحسن الظن بالمسلم الذي امتهن نفسه بذل
السؤال فلا يقابله بسوء الظن به واحتقاره بل يكرمه بإظهار السرور له ويقدر أن
الفرس التي تحته عارية أو أنه ممن يجوز له أخذ الزكاة مع الغنى كمن تحمل حمالة أو
غرم غرما لإصلاح ذات البين
قوله : ( وله قيمة أوقية ) قال أبو داود : زاد هشام في روايته وكانت الأوقية على
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين درهما
قوله : ( فقد ألحف ) قال الواحدي : الإلحاف في اللغة هو الإلحاح في المسألة . قال
أبو الأسود الدؤلي : ليس للسائل الملحف مثل الرد . قال الزجاج : معنى ألحف شمل
بالمسألة والإلحاف في المسألة هو أن يشتمل على وجوه الطلب بالمسألة كاشتمال اللحاف
في التغطية . وقال غيره : معنى الإلحاف في المسألة مأخوذ من قولهم ألحف الرجل إذا
مشى في لحف الجبل وهو أصله كأنه استعمل الخشونة في الطلب
قوله : ( فإنما يستكثر ) أي يطلب الكثرة
قوله : ( ما يغديه ) بفتح الغين المعجمة وتشديد الدال المهملة أي من الطعام بحيث
يشبعه
قوله : ( ويعشيه ) بفتح العين أيضا . فعلى رواية [ ص 228 ] التخيير يكون المعنى أن
الإنسان إذا حصل له أكلة في النهار غداء أو عشاء كفته واستغنى بها . وعلى رواية
الجمع يكون المعنى أنه إذا حصل له في يومه أكلتان كفتاه
قوله : ( خدوشا ) بضم الخاء المعجمة جمع خدش وهو خمش الوجه بظفر أو حديدة أو
نحوهما
قوله : ( أو كدوشا ) بضم الكاف والدال المهملة وبعد الواو شين معجمة جمع كدش وهو
الخدش
قوله : ( أو حسابها من الذهب ) هذه رواية أحمد ورواية أبي داود : ( أو قيمتها من
الذهب )
( وهذه الأحاديث ) الثلاثة قد استدل بكل واحد منها طائفة من المختلفين في حد الغنى
وقد تقدم بيان ذلك ويجمع بينها بأن القدر الذي يحرم السؤال عنده هو أكثرها وهي
الخمسون عملا بالزيادة
9 -
وعن سمرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن المسألة كد يكد بها
الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه )
- رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه
10 -
وعن أبي هريرة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لأن يغدو
أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا
أعطاه أو منعه )
- متفق عليه . وعنه أيضا : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من سأل الناس
أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر ) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
-
قوله : ( كد ) هذا لفظ الترمذي وابن حبان في صحيحه ولفظ أبي داود ( كدوح ) وهي
آثار الخموش
قوله : ( إلا أن يسأل الرجل سلطانا ) فيه دليل على جواز سؤال السلطان من الزكاة أو
الخمس أو بيت المال أو نحو ذلك فيخص به عموم أدلة تحريم السؤال
قوله : ( أو في أمر لا بد منه ) فيه دليل على جواز المسألة عند الضرورة والحاجة
التي لا بد عندها من السؤال نسأل الله السلامة
قوله : ( وعن أبي هريرة ) الخ فيه الحث على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو
امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك ولولا قبح المسألة في نظر
الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا
لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل . وأما قوله خير
له فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب والأصح
عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب
اعتقاد السائل وتسمية الذي يعطاه خيرا [ ص 229 ] وهو في الحقيقة شر
قوله : ( تكثرا ) فيه دليل على أن سؤال التكثر محرم وهو السؤال لقصد الجمع من غير
حاجة
قوله : ( فإنما يسأل جمرا ) الخ قال القاضي عياض : معناه أنه يعاقب بالنار قال :
ويحتمل أن يكون على ظاهره وأن الذي يأخذ يصير جمرا يكوى به كما ثبت في مانع الزكاة
11 -
وعن خالد بن عدي الجهني قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من
بلغه معروف عن أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق
ساقه الله إليه )
- رواه أحمد
12 -
وعن ابن عمر قال : ( سمعت عمر يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر إليه مني فقال : خذه إذا جاءك من هذا المال
شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك )
- متفق عليه
-
حديث خالد بن عدي أخرجه أيضا أبو يعلى والطبراني في الكبير قال في مجمع الزوائد :
ورجال أحمد رجال الصحيح
قوله : ( ولا إشراف نفس ) الإشراف بالمعجمة التعرض للشيء والحرص عليه من قولهم
أشرف على كذا إذا تطاول وقيل للمكان المرتفع مشرف لذلك . قال أبو داود : سألت أحمد
عن إشراف النفس فقال : بالقلب وقال يعقوب بن محمد : سألت أحمد عنه فقال : هو أن
يقول مع نفسه يبعث إلي فلان بكذا . وقال الأثرم : يضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك
قوله : ( يعطيني ) سيأتي ما يدل على أن عطية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر
بسبب العمالة كما في حديث ابن السعدي ولهذا قال الطحاوي ليس معنى هذا الحديث في
الصدقات وإنما هو في الأموال وليست هي من جهة الفقر ولكن شيء من الحقوق فلما قال
عمر أعطه من هو أفقر إليه مني لم يرض بذلك لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر قال :
ويؤيده قوله في رواية شعيب : ( خذه فتموله ) فدل على أنه ليس من الصدقات
( واختلف العلماء ) فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب على ثلاثة مذاهب حكاها أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري بعد إجماعهم على أنه مندوب . قال النووي : الصحيح
المشهور الذي عليه الجمهور أنه مستحب في غير عطية السلطان وأما عطية السلطان يعني
الجائر فحرمها قوم وأباحها آخرون وكرهها قوم والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد
السلطان حرمت وكذا إن أعطى من لا يستحق وإن لم يغلب الحرام فمباح إن [ ص 230 ] لم
يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ
وقالت طائفة : الأخذ واجب من السلطان وغيره وقال آخرون : هو مندوب في عطية السلطان
دون غيره . وحديث خالد بن عدي يرده . قال الحافظ : ويؤيده حديث سمرة في السنن إلا
أن يسأل ذا سلطان قال : والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد
عطيته ومن علم كون ماله حراما فتحرم عطيته ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع ومن
أباحه أخذ بالأصل انتهى
قال ابن المنذر : واحتج من رخص بأن الله تعالى قال في اليهود { سماعون للكذب
أكالون للسحت } وقد رهن الشارع صلى الله عليه وآله وسلم درعه عند يهودي مع علمه
بذلك . وكذا أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير
والمعاملات الفاسدة . قال الحافظ : وفي حديث الباب إن للإمام أن يعطي بعض رعيته
إذا رأى لذلك وجها وإن كان غيره أحوج إليه منه وأن رد عطية الإمام ليس من الأدب
ولا سيما من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه
}
قوله : ( من هو أفقر إليه مني ) ظاهره أن عمر لم يكن غنيا لأن صيغة أفعل تدل على
الاشتراك في الأصل وهو الافتقار إلى المال ولكن ظاهر أمره صلى الله عليه وآله وسلم
له بالأخذ إذا لم يكن مستشرفا ولا سائلا أنه لا فرق بين كونه غنيا أو فقيرا وهكذا
في قبول المال من غير سلطان لا فرق فيه بين الغني والفقير على ظاهر حديث خالد بن
عدي وسيكرر المصنف حديث خالد بن عدي هذا في كتاب الهبة ونذكر بقية الكلام عليه
هنالك إن شاء الله تعالى
باب العاملين عليها
1 -
عن بسر بن سعيد : ( أن ابن السعدي المالكي قال : استعملني عمر على الصدقة فلما
فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة فقلت : إنما عملت لله فقال : خذ ما أعطيت
فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال
لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق )
- متفق عليه
-
قوله : ( أن ابن السعدي ) هو أبو محمد عبد الله بن وقدان بن عبد الله بن عبد شمس [
ص 231 ] ابن عبدود بن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب . وإنما قيل له
السعدي لأن أباه استرضع في بني سعد بن بكر بن هوازن وقد صحب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قديما وقال : وفدت في نفر من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم . والمالكي نسبة إلى مالك بن حنبل
قوله : ( بعمالة ) قال الجوهري : العمالة بالضم رزق العامل على عمله
قوله : ( فعملني ) بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عمل وجعل لي عمالة
قوله : ( من غير أن تسأل ) فيه دليل على أنه لا يحل أكل ما حصل من المال عن مسألة
( وفي الحديث ) دليل على أن عمل الساعي سبب لاستحقاقه الأجرة كما أن وصف الفقر
والمسكنة هو السبب في ذلك وإذا كان العمل هو السبب اقتضى قياس قواعد الشرع أن
المأخوذ في مقابلته أجرة ولهذا قال أصحاب الشافعي تبعا له : إنه يستحق أجرة المثل
( وفيه ) أيضا دليل على أن من نوى التبرع يجوز له أخذ الأجرة بعد ذلك ولهذا قال
المصنف رحمه الله : وفيه دليل على أن نصيب العامل يطيب له وإن نوى التبرع أو لم
يكن مشروطا انتهى
2 -
وعن المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب : ( أنه والفضل بن عباس انطلقا إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ثم تكلم أحدنا فقال : يا رسول الله جئناك
لتؤمرنا على هذه الصدقات فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ونؤدي إليك ما يؤدي الناس
فقال : إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس )
- مختصر لأحمد ومسلم . وفي لفظ لهما : ( لا تحل لمحمد ولا لآل محمد )
-
قوله : ( أوساخ الناس ) هذا بيان لعلة التحريم والإرشاد إلى تنزه الآل عن أكل
الأوساخ وإنما سميت أوساخا لأنها تطهرة لأموال الناس ونفوسهم كما قال تعالى {
تطهرهم وتزكيهم بها } فذلك من التشبيه وفيه إشارة إلى أن المحرم على الآل إنما هو
الصدقة الواجبة التي يحصل بها تطهير المال . وأما صدقة التطوع فنقل الخطابي وغيره
الإجماع على أنها محرمة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وللشافعي قول أنها
تحل وتحل للآل على قول الأكثر وللشافعي قول بالتحريم وسيأتي الكلام في تحريم
الصدقة الواجبة على بني هاشم . وظاهر هذا الحديث أنها لا تحل لهم ولو كان أخذهم
لها من باب العمالة وإليه ذهب الجمهور . وقال أبو حنيفة والناصر : العمالة معاوضة
بمنفعة والمنافع مال فهي كما لو اشتراها بماله وهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته
للنص . قال النووي : وهذا [ ص 232 ] ضعيف أو باطل وهذا الحديث صريح في رده
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق هذا الحديث ما لفظه : وهو يمنع جعل العامل
من ذوي القربى انتهى . وتعقب بأن الحديث إنما يمنع دخول ذوي القربى في سهم العامل
ولا يمنع من جعلهم عمالا عليها ويعطون من غيرها فإنه جائز بالإجماع وقد استعمل علي
عليه السلام بني العباس رضي الله عنه
3 -
وعن أبي موسى قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الخازن المسلم
الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه حتى يدفعه إلى الذي أمر له
به أحد المتصدقين )
- متفق عليه
-
قوله : ( طيبة به نفسه ) هذه الأوصاف لا بد من اعتبارها في تحصيل أجر الصدقة
للخازن فإنه إذا لم يكن مسلما لم تصح منه نية التقرب وإن لم يكن أمينا كان عليه
وزر الخيانة فكيف يحصل له أجر الصدقة وإن لم تكن نفسه بذلك طيبة لم يكن له نية فلا
يؤجر
قوله : ( أحد المتصدقين ) قال القرطبي : لم نروه إلا بالتثنية ومعناه أن الخازن
بما فعل متصدق وصاحب المال متصدق آخر فهما متصدقان قال : ويصح أن يقال على الجمع
فتكسر القاف ويكون معناه أنه متصدق من جملة المتصدقين
( والحديث ) يدل على أن المشاركة في الطاعة توجب المشاركة في الأجر ومعنى المشاركة
أن له أجرا كما أن لصاحبه أجرا وليس معناه أنه يزاحمه في أجره بل المراد المشاركة
في الطاعة في أصل الثواب فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب وإن كان أحدهما أكثر ولا يلزم
أن يكون مقدار ثوابهما سوء بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه فإذا أعطى
المالك خازنه مائة درهم أو نحوها ليوصلها إلى مستحق للصدقة على باب داره فأجر
المالك أكثر وإن أعطاه رمانة أو رغيفا أو نحوهما حيث ليس له كثير قيمة ليذهب به
إلى محتاج في مسافة بعيدة بحيث يقابل ذهاب الماشي إليه أكثر من الرمانة ونحوها
فأجر الخازن أكثر . وقد يكون الذهاب مقدار الرمانة فيكون الأجر سواء . قال ابن
رسلان : ويدخل في الخازن من يتخذه الرجل على عياله من وكيل وعبد وامرأة وغلام ومن
يقوم على طعام الضيفان
4 -
وعن بريدة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من استعملناه على عمل
فرزقناه رزقا فما أخذ بعد فهو غلول )
- رواه أبو داود [ ص 233 ]
-
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وفيه دليل على أنه لا يحل
للعامل زيادة على ما فرض له من استعمله وأن ما أخذه بعد ذلك فهو من الغلول وذلك
بناء على أنها إجارة ولكنها فاسدة يلزم فيها أجرة المثل ولهذا ذهب البعض إلى أن
الأجرة المفروضة من المستعمل للعامل تؤخذ على حسب العمل فلا يأخذ زيادة على ما
يستحقه وقيل يأخذ ويكون من باب الصرف
( وفي الحديث ) أيضا دليل على أنه يجوز للعامل أن يأخذ حقه من تحت يده ولهذا قال
المصنف رحمه الله تعالى : وفيه تنبيه على جواز أن يأخذ العامل حقه من تحت يده
فيقبض من نفسه لنفسه انتهى
باب المؤلفة قلوبهم
1 -
عن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يسئل شيئا على الإسلام
إلا أعطاه قال : فأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة قال :
فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة )
- رواه أحمد بإسناد صحيح
2 -
وعن عمرو بن تغلب : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه
فأعطى رجالا وترك رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ولكني
أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما إلى ما جعل في قلوبهم
من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم حمر النعم )
- رواه أحمد والبخاري
-
الحديثان يدلان على جواز التأليف لمن لم يرسخ إيمانه من مال الله عز و جل وقد ورد
في ذلك أحاديث كثيرة منها إعطاؤه صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان
بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وعباس بن مرداس كل إنسان منهم مائة من
الإبل
وروي أيضا أنه أعطى علقمة بن علاثة مائة ثم قال للأنصار لما عتبوا عليه : ألا
ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل وتذهبون [ ص 234 ] برسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم إلى رحاكم ثم قال لما بلغه أنهم قالوا يعطي صناديد نجد ويدعنا : ( إنما
فعلت ذلك لأتألفهم ) كما في صحيح مسلم . وقد ذهب إلى جواز التأليف العترة والجبائي
والبلخي وابن مبشر . وقال الشافعي : لا نتألف كافرا فأما الفاسق فيعطى من سهم
التأليف . وقال أبو حنيفة وأصحابه : قد سقط بانتشار الإسلام وغلبته واستدلوا على
ذلك بامتناع أبي بكر من إعطاء أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس ابن مرداس والظاهر
جواز التأليف عند الحاجة إليه فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا
ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والقلب فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو
الإسلام تأثير لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة وقد عد ابن الجوزي أسماء المؤلفة
قلوبهم في جزء مفرد فبلغوا نحو الخمسين نفسا
باب قول الله تعالى وفي الرقاب
1 -
وهو يشمل بعمومه المكاتب وغيره . وقال ابن عباس : ( لا بأس أن يعتق من زكاة ماله )
- ذكره عنه أحمد والبخاري
2 -
وعن البراء بن عازب قال : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
دلني على عمل يقربني إلى الجنة ويبعدني من النار فقال : أعتق النسمة وفك الرقبة
قال : يا رسول الله أو ليسا واحدا قال : لا عتق النسمة أن تفرد بعتقها وفك الرقبة
أن تعين في ثمنها )
- رواه أحمد والدارقطني
3 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثلاثة كلهم حق على الله
عونه الغازي في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح المتعفف )
- رواه الخمسة إلا أبا داود
-
حديث البراء بن عازب قال في مجمع الزوائد : رجاله ثقات وحديث أبي هريرة قال
الترمذي : حسن صحيح
قوله : ( المكاتب وغيره ) قد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى { وفي الرقاب }
فروي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن جبير والليث والثوري والعترة والحنفية والشافعية
وأكثر أهل العلم أن المراد به المكاتبون يعانون من الزكاة على الكتابة . وروي عن
ابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد وإليه مال البخاري
وابن المنذر أن المراد بذلك أنها تشتري رقاب لتعتق واحتجوا بأنها لو اختصت
بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لأنه غارم وبأن [ ص 235 ] شراء الرقبة لتعتق أولى
من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولأن
الشراء يتيسر في كل وقت بخلاف الكتابة
وقال الزهري : إنه يجمع بين الأمرين وإليه أشار المصنف وهو الظاهر لأن الآية تحتمل
الأمرين وحديث البراء المذكور فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها وعلى أن العتق
وإعانة المكاتبين على مال الكتابة من الأعمال المقربة من الجنة والمبعدة من النار
قوله : ( حق على الله ) فيه دليل على أن الله يتولى إعانة هؤلاء الثلاثة ويتفضل
عليهم بأن لا يحوجهم لكن بشرط أن يكون الغازي غازيا في سبيل الله والمكاتب مريدا
للأداء والناكح متعففا
وقد اختلف في المكاتب إذا كان فاسقا هل يعان على الكتابة أم لا فذهبت الهادوية إلى
أنه لا يعان قالوا لأنه لا قربة في إعانته . وقال الشافعي والإمام يحيى والمؤيد
بالله : إنه يعان وهو الظاهر
باب الغارمين
1 -
عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة
لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع )
- رواه أحمد وأبو داود
2 -
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : ( تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أسأله فيها فقال : أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ثم قال : يا
قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى
يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من
عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه
لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش
فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود
-
حديث أنس قد تقدم في باب ما جاء في الفقير والمسكين والمسألة وتقدم الكلام عليه
هنالك
قوله : ( حمالة ) بفتح الحاء المهملة وهو ما يتحمله الإنسان ويلتزمه في ذمته
بالاستدانة ليدفعه في إصلاح ذات البين وإنما تحل له المسألة بسببه ويعطى من الزكاة
بشرط أن يستدين [ ص 236 ] لغير معصية وإلى هذا ذهب الحسن البصري والباقر والهادي
وأبو العباس وأبو طالب . وروي عن الفقهاء الأربعة والمؤيد بالله أنه يعان لأن
الآية لم تفصل وشرط بعضهم أن الحمالة لا بد أن تكون لتسكين فتنة وقد كانت العرب
إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك
والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة ولا شك أن هذا من مكارم الأخلاق وكانوا
إذا علموا أن أحدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته وأعطوه ما تبرأ به ذمته وإذا سأل
لذلك لم يعد نقصا في قدره بل فخرا
قوله : ( فنأمر لك ) بنصب الراء
قوله : ( رجل ) يجوز فيه الجر على البدل والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف
قوله : ( جائحة ) هي ما اجتاح المال وأتلفه إتلافا ظاهرا كالسيل والحريق
قوله : ( قواما ) بكسر القاف وهو ما تقوم به حاجته ويستغني به وهو بفتح القاف الاعتدال
قوله : ( سدادا ) هو بكسر السين ما تسد به الحاجة والخلل . وأما السداد بالفتح
فقال الأزهري : هو الإصابة في النطق والتدبير والرأي ومنه سداد من عوز
قوله : ( من ذوي الحجا ) بكسر الحاء المهملة مقصور العقل وإنما جعل العقل معتبرا
لأن من لا عقل له لا تحصل الثقة بقوله وإنما قال من قومه لأنهم أخبر بحاله وأعلم
بباطن أمره والمال مما يخفى في العادة ولا يعلمه إلا من كان خبيرا بحاله وظاهره
اعتبار شهادة ثلاثة على الإعسار وقد ذهب إلى ذلك ابن خزيمة وبعض أصحاب الشافعي .
وقال الجمهور : تقبل شهادة عدلين كسائر الشهادات غير الزنا وحملوا الحديث على
الاستحباب
قوله : ( فاقة ) قال الجوهري : الفاقة الفقر والحاجة
قوله : ( فسحت ) بضم السين وسكون الحاء المهملتين وروي بضم الحاء وهو الحرام وسمي
سحتا لأنه يسحت أي يمحق
وهذا الحديث مخصص بما في حديث سمرة من جواز سؤال الرجل للسلطان وفي الأمر الذي لا
بد منه فيزادان على هذه الثلاثة ويكون الجميع خمسة
باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل
1 -
وعن أبي سعيد قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تحل الصدقة لغني
إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك )
- رواه أبو داود . وفي لفظ : ( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها [ ص 237
] أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه بها فأهدى
منها الغني ) رواه أبو داود وابن ماجه
-
الحديث أخرجه أيضا أحمد ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد وأبو يعلى والبيهقي
والحاكم وصححه وقد أعل بالإرسال لأنه رواه بعضهم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ولكنه رواه الأكثر عنه عن أبي سعيد والرفع زيادة يتعين الأخذ
بها
قوله : ( لغني ) قد قدمنا الكلام عليه في باب ما جاء في الفقير والمسكين
قوله : ( إلا في سبيل الله ) أي للغازي في سبيل الله كما في الرواية الآخرة
قوله : ( أو ابن السبيل ) قال المفسرون : هو المسافر المنقطع يأخذ من الصدقة وإن
كان غنيا في بلده . وقال مجاهد : هو الذي قطع عليه الطريق وقال الشافعي : ابن
السبيل المستحق للصدقة هو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إلا
بمعونة
قوله : ( لعامل عليها ) قال ابن عباس : ويدخل في العامل الساعي والكاتب والقاسم
والحاشر الذي يجمع الأموال وحافظ المال والعريف وهو كالنقيب للقبيلة وكلهم عمال
لكن أشهرهم الساعي والباقي أعوان له أو ظاهر هذا أنه يجوز الصرف من الزكاة إلى
العامل عليها سواء كان هاشميا ولكن هذا مخصص بحديث المطلب بن ربيعة المتقدم أو غير
هاشمي فإنه يدل على تحريم الصدقة على العامل الهاشمي ويؤيده حديث أبي رافع الآتي
في باب تحريم الصدقة على بني هاشم فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجوز له
أن يصحب من بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصدقة لكونه من موالي بني
هاشم
قوله : ( أو رجل اشتراها بماله ) فيه أنه يجوز لغير دافع الزكاة شراؤها ويجوز
لآخذها بيعها ولا كراهة في ذلك . ( وفيه دليل ) على أن الزكاة والصدقة إذا ملكها
الآخذ تغيرت صفتها وزال عنها اسم الزكاة وتغيرت الأحكام المتعلقة بها
قوله : ( أو غارم ) وهو من غرم لا لنفسه بل لغيره كإصلاح ذات البين بأن يخاف وقوع
فتنة بين شخصين أو قبيلتين فيستدين من يطلب صلاح الحال بينهما مالا لتسكين الثائرة
فيجوز له أن يقضي ذلك من الزكاة وإن كان غنيا . قال المصنف رحمه الله تعالى :
ويحمل هذا الغارم على من تحمل حمالة لإصلاح ذات البين كما في حديث قبيصة لا لمصلحة
نفسه لقوله في حديث أنس : ( أو ذي غرم مفظع ) انتهى
قوله : ( فأهدى منها الغني ) فيه جواز إهداء الفقير الذي صرفت إليه الزكاة بعضا
منها إلى الأغنياء لأن صفة الزكاة قد زالت عنها وفيه أيضا دليل على جواز قبول هدية
[ ص 238 ] الفقير للغني
( وفي هذا الحديث ) دليل على أنها لا تحل الصدقة لغير هؤلاء الخمسة من الأغنياء
وما ورد بدليل خاص كان مخصصا لهذا العموم كحديث عمر المتقدم في باب ما جاء في
الفقير والمسكين
2 -
وعن ابن لاس الخزاعي قال : ( حملنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إبل من
الصدقة إلى الحج )
- رواه أحمد وذكره البخاري تعليقا
3 -
وعن أم معقل الأسدية : ( أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت العمرة فسألت
زوجها البكر فأبى فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له فأمره أن يعطيها
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الحج والعمرة في سبيل الله )
- رواه أحمد
4 -
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل قالت : ( لما حج رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله وأصابنا مرض
وهلك أبو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغ من حجته جئته فقال :
يا أم معقل ما منعك أن تخرجي قالت : لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جمل هو
الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال : فهلا خرجت عليه فإن الحج في
سبيل الله )
- رواه أبو داود
-
حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود
والنسائي والترمذي وابن ماجه وفي إسناده رجل مجهول وفي إسناده أيضا إبراهيم بن
مهاجر بن جابر البجلي الكوفي وقد تكلم فيه غير واحد وقد اختلف على أبي بكر بن عبد
الرحمن فيه فروي عنه عن رسول مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها . وروي عنه عن أم
معقل بغير واسطة وروي عنه عن أبي معقل
والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف
قوله : ( ابن لاس ) هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ ابن والذي في البخاري أبي لاس
وكذا في التقريب من ترجمة عبد الله ابن عنمة ولاس بسين مهملة خزاعي اختلف في اسمه
فقيل زياد وقيل عبد الله بن عنمة بمهملة ونون مفتوحتين وقيل غير ذلك له صحبة
وحديثان هذا أحدهما وقد وصله مع أحمد ابن خزيمة والحاكم وغيرهما من طريقه . قال
الحافظ : ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق لهذا توقف ابن المنذر في ثبوته
( وأحاديث الباب ) تدل على أن الحج والعمرة في سبيل الله وأن [ ص 239 ] من جعل
شيئا من ماله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين وإذا كان شيئا مركوبا جاز
حمل الحاج والمعتمر عليه وتدل أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من
الزكاة إلى قاصدين الحج والعمرة
باب ما يذكر من استيعاب الأصناف
1 -
عن زياد بن الحارث الصدائي قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فبايعته فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها
ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك )
- رواه أبو داود . ويروى : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لسلمة بن صخر :
اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك )
-
حديث زياد بن الحارث الصدائي في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وقد
تكلم فيه غير واحد . وحديث سلمة بن صخر له طرق وروايات يأتي ذكر بعضها في الصيام
وهذه إحداها
وقد أخرجها بهذا اللفظ أحمد في مسنده بإسناد فيه محمد بن إسحاق ولم يصرح بالتحديث
ومع هذا فهذه الرواية تعارض ما سيأتي من الروايات الصحيحة : ( أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أعانه بعرق من تمر ) من طريق جماعة من الصحابة وإنما أورد المصنف
هذه الرواية ههنا للاستدلال بها على أن الصرف فيمن لزمته كفارة من الزكاة جائز
قوله : ( فجزأها ) بتشديد الزاي وهذا الحديث مع الآية يرد على المزني وأبي حفص بن
الوكيل من أصحاب الشافعي حيث قالا : إنه لا يصرف خمس الزكاة إلى من يصرف إليه خمس
الفيء والغنيمة ويرد أيضا على أبي حنيفة والثوري والحسن البصري حيث قالوا يجوز
صرفها إلى بعض الأصناف الثمانية حتى قال أبو حنيفة يجوز صرفها إلى الواحد وعلى
مالك حيث قال يدفعها إلى أكثرهم حاجة أي لأن كل الأصناف يدفع إليهم للحاجة فواجب
اعتبار أمسهم حاجة [ ص 240 ]
باب تحريم الصدقة على بني هاشم ومواليهم دون موالي أزواجهم
1 -
عن أبي هريرة قال : ( أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة )
- متفق عليه . ولمسلم : ( إنا لا تحل لنا الصدقة )
-
قوله : ( فجعلها في فيه ) زاد في رواية : ( فلم يفطن له النبي صلى الله عليه وآله
وسلم حتى قام ولعابه يسيل فضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدقيه )
قوله : ( كخ كخ ) بفتح الكاف وكسرها وسكون المعجمة مثقلا ومخففا وبكسرها منونة
وغير منونة فيخرج من ذلك ست لغات والثانية تأكيد للأولى وهي كلمة تقال لردع الصبي
عند مناولة ما يستقذر قيل إنها عربية وقيل أعجمية وزعم الداودي أنها معربة وقد
أوردها البخاري في باب من تكلم بالفارسية
قوله : ( ارم بها ) في رواية لأحمد : ( ألقها يا بني ) وكأنه كلمه أولا بهذا فلما
تمادى قال له كخ كخ إشارة إلى استقذار ذلك ويحتمل العكس
قوله : ( لا تحل لنا الصدقة ) وفي رواية : ( لا تحل لآل محمد الصدقة ) وكذا عند
أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه . قال الحافظ : وإسناده قوي . وللطبراني
والطحاوي من حديث أبي ليلى الأنصاري نحوه
( والحديث يدل ) على تحريم الصدقة عليه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله واختلف
ما المراد بالآل هنا فقال الشافعي وجماعة من العلماء : إنهم بنو هاشم وبنو المطلب
واستدل الشافعي على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشرك بني المطلب مع بني
هاشم في سهم ذوي القربى ولم يعط أحدا من قبائل قريش غيرهم وتلك العطية عوض عوضوه
بدلا عما حرموه من الصدقة كما أخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم قال : ( مشيت أنا
وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا : يا رسول الله أعطيت بني
المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم : إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ) وأجيب عن ذلك بأنه إنما أعطاهم
ذلك لموالاتهم لا عوضا عن الصدقة . وقال أبو حنيفة ومالك والهادوية : هم بنو هاشم
فقط [ ص 241 ] وعن أحمد في بني المطلب روايتان . وعن المالكية فيما بين هاشم وغالب
بن فهر قولان فعن أصبغ منهم هم بنو قصي وعن غيره بنو غالب بن فهر كذا في الفتح .
والمراد ببني هاشم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس وآل الحارث ولم يدخل في
ذلك آل أبي لهب لما قيل من أنه لم يسلم أحد منهم في حياته صلى الله عليه وآله وسلم
ويرده ما في جامع الأصول أنه أسلم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح وسر صلى الله
عليه وآله وسلم بإسلامهما ودعا لهما وشهدا معه حنينا والطائف ولهما عقب عند أهل
النسب . قال ابن قدامة : لا يعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة
وكذا قال أبو طالب من أهل البيت حكى ذلك عنه في البحر وكذا حكى الإجماع ابن رسلان
وقد نقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة وقيل عنه تجوز لهم إذا حرموا سهم ذوي القربى
حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم . قال في الفتح : وهو وجه لبعض
الشافعية . وحكى فيه أيضا عن أبي يوسف أنها تحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم وحكاه
في البحر عن زيد بن علي والمرتضى وأبي العباس والإمامية . وحكاه في الشفاء عن ابني
الهادي والقاسم العياني . قال الحافظ : وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة
الجواز . المنع . جواز التطوع دون الفرض عكسه . والأحاديث الدالة على التحريم على
العموم ترد على الجميع . وقد قيل إنها متواترة تواترا معنويا ويؤيد ذلك قوله تعالى
{ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } وقوله { قل ما أسألكم عليه من
أجر } ولو أحلها لآله أوشك أن يطعنوا فيه . ولقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة
تطهرهم وتزكيهم بها } وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم ( أن الصدقة أوساخ الناس )
كما رواه مسلم وأما ما استدل به القائلون بحلها للهاشمي من الهاشمي من حديث العباس
الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث بإسناد كله من بني
هاشم : ( أن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله إنك حرمت علينا صدقات
الناس هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض قال : نعم ) فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته
وقد أطال صاحب الميزان الكلام على ذلك فليس بصالح لتخصيص تلك العمومات الصحيحة
وأما قول العلامة محمد بن إبراهيم الوزير بعد أن ساق الحديث ما لفظه : وأحسب له
متابعا لشهرة القول به قال : والقول به قول الجماعة وافرة من أئمة العترة وأولادهم
وأتباعهم بل ادعى بعضهم أنه إجماعهم ولعل توارث هذا بينهم يقوي الحديث انتهى .
فكلام [ ص 242 ] ليس على قانون الاستدلال لأن مجرد الحسبان أن له متابعا وذهاب
جماعة من أهل البيت إليه لا يدل على صحته وأما دعوى أنهم أجمعوا عليه فباطل باطل
ومطولات مؤلفاتهم ومختصراتها شاهدة لذلك
وأما قول الأمير في المنحة أنها سكنت نفسه إلى هذا الحديث بعد وجدان سنده وما عضده
من دعوى الإجماع فقد عرفت بطلان دعوى الإجماع وكيف يصح إجماع لأهل البيت والقاسم
والهادي والناصر والمؤيد بالله وجماعة من أكابرهم بل جمهورهم خارجون عنه . وأما
مجرد وجدان السند للحديث بدون كشف عنه فليس مما يوجب سكون النفس
( والحاصل ) أن تحريم الزكاة على بني هاشم معلوم من غير فرق بين أن يكون المزكي
هاشميا أو غيره فلا ينفق من المعاذير عن هذا المحرم المعلوم إلا ما صح عن الشارع
لا ما لفقه الواقعون في هذه الورطة من الأعذار الواهية التي لا تخلص ولا ما لم يصح
من الأحاديث المروية في التخصيص ولكثرة أكلة الزكاة من آل هاشم في بلاد اليمن
خصوصا أرباب الرياسة قام بعض العلماء منهم في الذب عنهم وتحليل ما حرم الله عليهم
مقاما لا يرضاه الله ولإنقاذ العلماء فألف في ذلك رسالة هي في الحقيقة كالسراب
الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجده شيئا وصار يتسلى بها أرباب النباهة
منهم
وقد يتعلل بعضهم بما قاله البعض منهم إن أرض اليمن خراجية وهو لا يشعر أن هذه
المقالة مع كونها من أبطل الباطلات ليست مما يجوز التقليد فيه على مقتضى أصولهم
فالله المستعان ما أسرع الناس إلى متابعة الهوى وإن خالف ما هو معلوم من الشريعة
المطهرة
( واعلم ) أن ظاهر قوله لا تحل لنا الصدقة عدم حل صدقة الفرض والتطوع وقد نقل
جماعة منهم الخطابي الإجماع على تحريمها عليه صلى الله عليه وآله وسلم وتعقب بأنه
قد حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولا . وكذا في رواية عن أحمد
وقال ابن قدامة : ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة وأما آل النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال أكثر الحنفية : وهو المصحح عن الشافعية والحنابلة وكثير من
الزيدية أنها تجوز لهم صدقة التطوع دون الفرض قالوا لأن المحرم عليهم إنما هو
أوساخ الناس وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع وقال في البحر : إنه خصص صدقة التطوع
للقياس على الهبة والهدية والوقف وقال أبو يوسف وأبو العباس : إنها تحرم [ ص 243 ]
عليهم كصدقة الفرض لأن الدليل لم يفصل
2 -
وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( بعث رجلا من بني مخزوم
على الصدقة فقال لأبي رافع : اصحبني كيما تصيب منها قال : لا حتى أتي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فأسأله وانطلق فسأله فقال : إن الصدقة لا تحل لنا وإن
موالي القوم من أنفسهم )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي
-
الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه . ( وفي الباب ) عن ابن عباس عند
الطبراني
قوله : ( من أنفسهم ) بضم الفاء ولفظ الترمذي مولى القوم منهم أي حكمه كحكمهم
( الحديث ) يدل على تحريم الصدقة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحريمها على آله
وقد تقدم الكلام على ذلك . ويدل على تحريمها على موالي آل بني هاشم ولو كان الأخذ
على جهة العمالة وقد سلف ما فيه
قال الشافعي : حرم على مواليه من الصدقة ما حرم على نفسه وبه قال أبو حنيفة وهو
مروي أيضا عن الناصر والشافعي وأصحابه وإليه ذهب المؤيد بالله وأبو طالب وهو مروي
عن الناصر وابن الماجشون . وقال مالك ويحيى وهو مروي أيضا عن الناصر والشافعي في
قول له إنها تحل لهم قال في البحر : لأن علة التحريم مفقودة وهي الشرف قلنا جزم
الخبر بدفع ذلك انتهى . ونصب هذه العلة في مقابل هذا الدليل الصحيح من الغرائب
التي يعتبر بها المتيقظ
3 -
وعن أم عطية قالت : ( بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة من الصدقة
فبعثت إلى عائشة منها بشيء فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : هل
عندكم من شيء فقالت : لا إلا أن نسيبة بعثت إلينا من الشاة التي بعثتم بها إليها
فقال : إنها قد بلغت محلها )
- متفق عليه
4 -
وعن جويرة بنت الحارث : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها فقال :
هل من طعام فقالت : لا والله ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطيتها مولاتي من
الصدقة فقال : قدميها فقد بلغت محلها )
- رواه أحمد ومسلم
- قوله
: ( هل عندكم من شيء ) أي من الطعام
قوله : ( نسيبة ) قال في الفتح : بالنون والمهملة والموحدة مصغرا اسم أم عطية
انتهى . وأما نسيبة بفتح النون وكسر السين فهي أم عمارة
قوله : ( بلغت محلها ) قوله أي أنها لما تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها [ ص
244 ] انتقلت عن حكم الصدقة فحلت محل الهدية وكانت تحل لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بخلاف الصدقة كما تقدم كذا قال ابن بطال . قال في الفتح : وضبطه بعضهم
بكسرها من الحلول أي بلغت مستقرها والأول أولى انتهى
( والحديث ) يدل على أن موالي أزواج بني هاشم ليس حكمهم كحكم موالي بني هاشم فتحل
لهم الصدقة وقد نقل ابن بطال اتفاق الفقهاء على عدم دخول الزوجات في ذلك وفيه نظر
لأن ابن قدامة ذكر أن الخلال أخرج من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة : ( أنها قالت
إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة ) قال : وهذا يدل على تحريمها قال الحافظ : وإسناده
إلى عائشة حسن . وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا وهذا لا يقدح فيما نقله ابن بطال وذكر
ابن المنير أنها لا تحرم الصدقة على الأزواج قولا واحدا
( ولا يقال ) إن قول البعض بدخولهن في الآل يستلزم تحريم الصدقة عليهن فإن ذلك غير
لازم
( وفي الحديثين ) أيضا دليل على أنه يجوز لمن تحرم عليه الصدقة الأكل منها بعد
مصيرها إلى المصرف وانتقالها عنه بهبة أو هدية أو نحوها . وفي الباب عن عائشة عند
البخاري وغيره : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بلحم فقالت له : هذا ما
تصدق به على بريرة فقال : هو لها صدقة ولنا هدية )
باب نهي المتصدق أن يشتري ما تصدق به
1 -
عن عمر بن الخطاب قال : ( حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت
أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لا
تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه )
- متفق عليه
2 -
وعن ابن عمر : ( أن عمر حمل على فرس في سبيل الله ) وفي لفظ : ( تصدق بفرس في سبيل
الله ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لا
تعد في صدقتك يا عمر )
- رواه الجماعة زاد البخاري فبذلك كان ابن عمر لا يترك أن يبتاع شيئا تصدق به إلا
جعله صدقة )
-
قوله ( عن عمر ) هذا يقتضي أن الحديث من مسند عمر والرواية الأخرى تقتضي أنه من
مسند ابن عمر ورجح الدارقطني الثاني
قوله : ( حملت على فرس ) المراد أنه ملكه إياه [ ص 245 ] ولذلك ساغ له بيعه ومنهم
من قال كان عمر قد حبسه وإنما ساغ للرجل بيعه لأنه حصل فيه هزال عجز بسببه عن
اللحاق بالخيل وضعف عن ذلك وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به ويرجح الأول قوله ( لا
تعد في صدقتك ) ولو كان حبسا لعلله به
قوله : ( فأضاعه ) أي لم يحسن القيام عليه وقصر في مؤنته وخدمته وقيل لم يعرف مقداره
فأراد بيعه بدون قيمته وقيل معناه استعمله في غير ما جعل له والأول أظهر
قوله : ( وإن أعطاكه بدرهم ) هو مبالغة في تنقيصه وهو الحامل له على شرائه
قوله : ( لا تعد ) إنما سمى شراءه برخص عودا في الصدقة من حيث أن الغرض منها ثواب
الآخرة فإذا اشتراها برخص فكأنه اختار عرض الدنيا على الآخرة فيصير راجعا في ذلك
المقدار الذي سومح فيه
قوله : ( كالعائد في قيئه ) استدل به على تحريم ذلك لأن القيء حرام . قال القرطبي
: وهذا هو الظاهر من سياق الحديث ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة لكون القيء
مما يستقذر وهو قول الأكثر ويلحق بالصدقة الكفارة والنذر وغيرهما من القربات
قوله : ( لا يترك أن يبتاع ) الخ أي كان إذا اتفق له أن يشتري شيئا مما تصدق به لا
يتركه في ملكه حتى يتصدق به فكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو لمن أراد
أن يتملكها لا لمن يردها صدقة
( والحديث ) يدل على كراهة الرجوع عن الصدقة وأن شراءها برخص نوع من الرجوع فيكون
مكروها وقد قيل إنه يعارض هذا الحديث الحديث المتقدم عن أبي سعيد في حل الصدقة
لرجل اشتراها بماله وجمع بينهما بحمل هذا على كراهة التنزيه ولهذا قال المصنف رحمه
الله تعالى : وحمل قوم هذا على التنزيه واحتجوا بعموم قوله ( أو رجل اشتراها بماله
) في خبر أبي سعيد ويدل عليه ابتياع ابن عمر وهو راوي الخبر ولو فهم منه التحريم
لما فعله وتقرب بصدقة تستند إليه انتهى
والظاهر أنه لا معارضة بين هذا وبين حديث أبي سعيد المتقدم لأن هذا في صدقة التطوع
وذاك في صدقة الفريضة فيكون الشراء جائزا في صدقة الفريضة لأنه لا يتصور الرجوع
فيها حتى يكون الشراء مشبها له بخلاف صدقة التطوع فإنه يتصور الرجوع فيها فكره ما
يشبهه وهو الشراء نعم يعارض حديث [ ص 246 ] الباب في الظاهر ما أخرجه مسلم وأبو
داود والترمذي والنسائي وابن ماجه : ( أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقالت : كنت تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت الوليدة قال : وجب أجرك
ورجعت إليك في الميراث )
ويجمع بجواز تملك الشيء المتصدق به بالميراث لأن ذلك ليس مشبها بالرجوع عن الصدقة
دون سائر المعاوضات
باب فضل الصدقة على الزوج والأقارب
1 -
عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
: تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت : فرجعت إلى عبد الله فقلت : إنك رجل
خفيف ذات اليد وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمرنا بالصدقة فأته فاسأله
فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم قالت : فقال عبد الله بل ائتيه أنت
قالت : فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
حاجتي حاجتها قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ألقيت عليه
المهابة قالت : فخرج علينا بلال فقلنا له : ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في
حجورهما ولا تخبر من نحن قالت : فدخل بلال فسأله فقال له : من هما فقال : امرأة من
الأنصار وزينب قال : أي الزيانب فقال : امرأة عبد الله فقال لهما : أجران أجر
القرابة وأجر الصدقة )
- متفق عليه . ولفظ البخاري : ( أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وعلى أيتام لي في حجري
)
-
قوله : ( إنك رجل خفيف ذات اليد ) هذا كناية عن الفقر . وفي لفظ للبخاري : ( إن
زينب كانت تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها فقالت لعبد الله : سل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أيجزئ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة )
الحديث
قوله : ( فإذا امرأة من الأنصار ) زاد النسائي والطيالسي : يقال لها زينب . وفي
رواية للنسائي : انطلقت امرأة عبد الله يعني ابن مسعود وامرأة أبي مسعود يعني عقبة
بن عمرو الأنصاري
( استدل بهذا الحديث ) على أنه يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها وبه قال
الثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وإحدى [ ص 247 ] الروايتين عن مالك . وعن أحمد
وإليه ذهب الهادي والناصر والمؤيد بالله وهذا إنما يتم دليلا بعد تسليم أن هذه
الصدقة صدقة واجبة وبذلك جزم المازري . ويؤيد ذلك قولها ( أيجزئ عني ) وتعقبه عياض
بأن قوله ( ولو من حليكن ) وكون صدقتها كانت من صناعتها يدلان على التطوع وبه جزم
النووي وتأولوا قولها أيجزئ عني أي في الوقاية من النار كأنها خافت أن صدقتها على
زوجها لا يحصل لها المقصود وما أشار إليه من الصناعة احتج به الطحاوي لقول أبي
حنيفة إنها لا تجزئ زكاة المرأة في زوجها فأخرج من طريق رائطة امرأة ابن مسعود
أنها كانت امرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق عليه وعلى ولده فهذا يدل على أنها صدقة
تطوع
( واحتجوا ) أيضا على أنها صدقة تطوع بما في البخاري من حديث أبي سعيد : ( أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم ) قالوا :
لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر والمهدي في
البحر وغيرهما وتعقب هذا بأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من تلزم المعطي
نفقته والأم لا يلزمها نفقة ابنها مع وجود أبيه
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث : وهذا عند أكثر أهل العلم في صدقة
التطوع انتهى
والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها أما أولا فلعدم المانع من ذلك ومن
قال أنه لا يجوز فعليه الدليل وأما ثانيا فلأن ترك استفصاله صلى الله عليه وآله
وسلم لها ينزل منزلة العموم فلما لم يستفصلها عن الصدقة هل هي تطوع أو واجب فكأنه
قال يجزئ عنك فرضا كان أو تطوعا
( وقد اختلف ) في الزوج هل يجوز له أن يدفع زكاته إلى زوجته فقال ابن المنذر :
أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة شيئا لأن نفقتها واجبة عليه ويمكن أن
يقال أن التعليل بالوجوب على الزوج لا يوجب امتناع الصرف إليها لأن نفقتها واجبة
عليه غنية كانت أو فقيرة فالصرف إليها لا يسقط عنه شيئا . وأما الصدقة على الأصول
والفصول وبقية القرابة فسيأتي الكلام عليها
2 -
وعن سلمان بن عامر : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الصدقة على المسكين
صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي
3 -
وعن أبي أيوب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أفضل الصدقة
الصدقة على ذي الرحم الكاشح )
- رواه أحمد . وله مثله من حديث [ ص 248 ] حكيم بن حزام
4 -
وعن ابن عباس قال : ( إذا كان ذوو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك وإن كنت
تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول )
- رواه الأثرم في سننه
-
حديث سلمان أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم وحسنه الترمذي . قال
الحافظ : وفي الباب عن أبي طلحة وأبي أمامة عند الطبراني
قوله : ( الكاشح ) هو المضمر للعداوة
وقد استدل بالحديثين على جواز صرف الزكاة إلى الأقارب سواء كانوا ممن تلزم لهم
النفقة أم لا لأن الصدقة المذكورة فيهما لم تقيد بصدقة التطوع ولكنه قد تقدم عن
ابن المنذر وصاحب البحر أنهما حكيا الإجماع على عدم جواز صرف الزكاة إلى الأولاد
وكذا سائر الأصول والفصول كما في البحر فإنه قال مسألة : ولا تجزئ في أصوله وفصوله
مطلقا إجماعا . وقال صاحب ضوء النهار : إن دعوى الإجماع وهم قال وكيف ومحمد بن
الحسن ورواية عن العباس إنها تجزئ في الآباء والأمهات ثم قال : قلت والمسألة في
البحر لم تنسب إلى قائل فضلا عن الإجماع وهذا وهم منه رحمه الله تعالى . فإن صاحب
البحر صرح بنسبتها إلى الإجماع كما حكيناه سالفا فقد نسبت إلى قائل وهم أهل
الإجماع إلا أنه يدل لما روي عن ابن عباس ( 1 ) ومحمد بن الحسن ما في البخاري
وأحمد عن معن بن يزيد قال : ( أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد فجئت
فأخذتها فقال : والله ما إياك أردت فجئت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال : لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن )
وسيأتي هذا الحديث في كتاب الوكالة إن شاء الله تعالى ولكنه يحتمل أن تكون الصدقة
صدقة تطوع بل هو الظاهر . وقد روي عن مالك أنه يجوز الصرف في بني البنين وفيما فوق
الجد والجدة وأما غير الأصول والفصول من القرابة الذين تلزم نفقتهم فذهب الهادي
والقاسم والناصر والمؤيد بالله ومالك والشافعي إلى أنه لا يجزئ الصرف إليهم
وقال أبو حنيفة وأصحابه والإمام يحيى : يجوز ويجزئ إذ لم يفصل الدليل لعموم الأدلة
المذكورة في الباب وقال الأولون : إنها مخصصة بالقياس ولا أصل له . وأما الأثر
المروي عن ابن عباس فكلام صحابي ولا حجة فيه لأن للاجتهاد في ذلك مسرحا . ويؤيد
الجواز والإجزاء الحديث الذي تقدم عند البخاري بلفظ : ( زوجك وولدك أحق من تصدقت
عليهم ) وترك [ ص 249 ] الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال
كما سلف ثم الأصل عدم المانع فمن زعم أن القرابة أو وجوب النفقة مانعان فعليه
الدليل ولا دليل
_________
( 1 ) [ في الأصل " أبي عباس " والصحيح " ابن عباس " كما هو
في النص أعلاه . نظام سبعة ]
باب زكاة الفطر
1 -
عن ابن عمر قال : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر من رمضان
صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من
المسلمين )
- رواه الجماعة . ولأحمد والبخاري وأبي داود : ( وكان ابن عمر يعطي التمر إلا عاما
واحدا أعوز التمر فأعطى الشعير ) وللبخاري : ( وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو
يومين )
2 -
وعن أبي سعيد قال : ( كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا
من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب )
- أخرجاه . وفي رواية : ( كنا نخرج زكاة الفطر إذا كان فينا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو
صاعا من أقط فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة فقال : إني لأرى مدين من
سمراء الشام يعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك قال أبو سعيد : فلا أزال أخرجه كما
كنت أخرجه ) رواه الجماعة لكن البخاري لم يذكر فيه قال أبو سعيد فلا أزال الخ .
وابن ماجه لم يذكر لفظة أو في شيء منه . وللنسائي عند أبي سعيد قال : ( فرض رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من
تمر أو صاعا من أقط وهو حجة في أن الأقط أصل . وللدارقطني عن ابن عيينة عن ابن
عجلان عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد قال : ( ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إلا صاعا من دقيق أو صاعا من تمر أو صاعا من سلت أو صاعا من
زبيب أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط ) . فقال ابن المديني لسفيان : يا أبا محمد
إن أحدا لا يذكر في هذا الدقيق قال : بلى هو فيه . رواه الدارقطني واحتج به أحمد
على إجزاء الدقيق
-
قوله : ( فرض ) فيه دليل على أن صدقة الفطر من الفرائض وقد نقل ابن المنذر وغيره
الإجماع على ذلك ولكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية على قاعدتهم في التفرقة
بين الفرض والواجب قالوا إذ لا دليل قاطع تثبت به الفرضية . قال الحافظ : [ ص 250
] وفي نقل الإجماع نظر لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الأصم قالا : إن
وجوبها نسخ واستدل لهما بما روى النسائي وغيره عن قيس بن سعد بن عبادة قال : (
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت
الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله ) قال : وتعقب بأن في إسناده راويا مجهولا
وعلى تقدير الصحة فلا دليل فيه على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول لأن نزول
فرض لا يوجب سقوط فرض آخر
ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من
الشافعية قالوا ومعنى قوله في الحديث فرض أي قدر وهو أصله في اللغة كما قال ابن
دقيق العيد لكن نقل في عرف الشرع إلى الوجوب فالحمل عليه أولى . وقد ثبت أن قوله
تعالى { قد أفلح من تزكى } نزلت في زكاة الفطر كما روى ذلك ابن خزيمة
قوله : ( زكاة الفطر ) أضيفت الزكاة إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان كذا قال
في الفتح . وقال ابن قتيبة : والمراد بصدقة الفطر صدقة النفوس مأخوذ من الفطرة
التي هي أصل الخلقة . قال الحافظ : والأول أظهر . ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث
زكاة الفطر في رمضان
وقد استدل بقوله زكاة الفطر على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر لأنه وقت
الفطر من رمضان وقيل وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد لأن الليل ليس محلا للصوم
وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر والأول قول الثوري وأحمد وإسحاق
والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك والثاني قول أبي حنيفة والليث
والشافعي في القديم والرواية الثانية عن مالك وبه قال الهادي والقاسم والناصر
والمؤيد بالله ويقويه قوله في حديث ابن عمر الآتي أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل
خروج الناس إلى الصلاة ولكنها لم تقيد القبلية بكونها في يوم الفطر
قال ابن دقيق العيد : الاستدلال بقوله زكاة الفطر على الوقت ضعيف لأن الإضافة إلى
الفطر لا تدل على وقت الوجوب بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان وأما
وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر
قوله : ( صاعا من تمر أو صاعا من شعير ) قال في الفتح : انتصب صاعا على التمييز أو
أنه مفعول ثان
قوله : ( على العبد والحر ) ظاهره يدل على أن العبد يخرج عن نفسه ولم يقل به إلا
داود فقال يجب على السيد أن يمكن عبده من الاكتساب لها ويدل على ما ذهب إليه
الجمهور من كون الوجوب على [ ص 251 ] السيد حديث : ( ليس على المرء في عبده ولا
فرسه صدقة إلا صدقة الفطر ) ولفظ مسلم : ( ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر )
قوله : ( الذكر والأنثى ) ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا . وبه
قال الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق : تجب
على زوجها تبعا للنفقة . قال الحافظ : وفيه نظر لأنهم قالوا إن أعسر وكانت الزوجة
أمة وجبت فطرتها على السيد بخلاف النفقة فافترقا . واتفقوا على أن المسلم لا يخرج
عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزم وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن
علي الباقر مرسلا : ( أدوا صدقة الفطر عمن يمونون ) وأخرجه البيهقي من هذا الوجه
فزاد في إسناده ذكر على وهو منقطع . وأخرجه من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف وأخرجه
أيضا عنه الدارقطني
قوله : ( والصغير والكبير ) وجوب فطرة الصغير في ماله والمخاطب بإخراجها وليه وإن
كان للصغير مال وإلا وجبت على من تلزمه نفقته وإلى هذا ذهب الجمهور . وقال محمد بن
الحسن : هي على الأب مطلقا فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه . وعن سعيد بن المسيب
والحسن البصري : لا تجب إلا على من صام واستدل لهما بحديث ابن عباس الآتي بلفظ : (
صدقة الفطر طهرة للصائم ) قال في الفتح : وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب كما
أنها تجب على من لا يذنب كمتحقق الصلاح أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة قال : فيه
. ونقل ابن المنذر الإجماع على أنهما لا تجب على الجنين وكان أحمد يستحبه ولا
يوجبه
قوله : ( من المسلمين ) فيه دليل على اشتراط الإسلام في وجوب الفطرة فلا تجب على
الكافر
قال الحافظ : وهو أمر متفق عليه وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة نقل ابن
المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب لكن فيه وجه للشافعية ورواية عن أحمد . وهل
يخرجها المسلم عن عبده الكافر قال الجمهور : لا . خلافا لعطاء والنخعي والثوري
والحنفية وإسحاق واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ليس على المسلم في
عبده صدقة إلا صدقة الفطر ) وأجاب الجمهور بأنه يبني عموم قوله في عبده على خصوص
قوله من المسلمين في حديث الباب ولا يخفى أن قوله من المسلمين أعم من قوله في عبده
من وجه وأخص من وجه فتخصيص أحدهما بالآخر تحكم ولكنه يؤيد اعتبار الإسلام ما عند
مسلم بلفظ : ( على كل نفس من المسلمين حر أو عبد ) واحتج بعضهم على وجوب إخراجها
عن العبد بأن ابن عمر راوي الحديث كان يخرج عن عبده الكافر وهو أعرف بمراد الحديث
وتعقبه بأنه لو صح حمل على [ ص 252 ] أنه كان يخرج عنهم تطوعا ولا مانع منه
وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين أهل البادية وغيرهم وإليه ذهب الجمهور . وقال الزهري
وربيعة والليث : إن زكاة الفطر تختص بالحاضرة ولا تجب على أهل البادية
قوله : ( أعوز التمر ) بالمهملة والزاي أي احتاج يقال أعوزني الشيء إذا احتجت إليه
فلم أقدر عليه وفيه دليل على أن التمر أفضل ما يخرج في صدقة الفطر
قوله : ( بيوم أو يومين ) فيه دليل على جواز تعجيل الفطرة قبل يوم الفطر وقد جوزه
الشافعي من أول رمضان وجوزه الهادي والقاسم وأبو حنيفة وأبو العباس وأبو طالب ولو
إلى عامين عن البدن الموجود وقال الكرخي وأحمد بن حنبل : لا تقدم على وقت وجوبها
إلا ما يغتفر كيوم أو يومين وقال مالك والناصر والحسن بن زياد : لا يجوز التعجيل
مطلقا كالصلاة قبل الوقت وأجاب عنهم في البحر بأن ردها إلى الزكاة أقرب . وحكى
الإمام يحيى إجماع السلف على جواز التعجيل
قوله : ( صاعا من طعام ) الخ ظاهره المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده وقد حكى
الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة وأنه اسم خاص له قال هو وغيره : قد كانت
لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب إلى سوق الطعام فهم
منه سوق القمح وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه لأنه لما غلب استعمال اللفظ فيه كان
خطوره عند الإطلاق أغلب . قال في الفتح : وقد رد ذلك ابن المنذر وقال : ظن بعض
أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد صاعا من طعام حجة لمن قال صاع من حنطة وهذا غلط
منه وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم أورد طريق حفص بن ميسرة عند البخاري وغيره أن
أبا سعيد قال : ( كنا نخرج في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفطر صاعا
من طعام قال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر ) وهي ظاهرة فيما
قال . وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى وأخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحهما أن أبا
سعيد قال لما ذكروا عنده صدقة رمضان لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم صاع تمر أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط فقال له رجل من
القوم أو مدين من قمح فقال لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها . قال ابن
خزيمة : ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد هذا غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم ويدل على
أنه خطأ قوله فقال رجل الخ إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم [ ص 253 ] كانوا يخرجون
منها صاعا لما قال الرجل أو مدين من قمح . وقد أشار أيضا أبو داود إلى أن ذكر
الحنطة فيه غير محفوظ
قوله : ( حتى قدم معاوية ) زاد مسلم : ( حاجا أو معتمرا وكلم الناس على المنبر )
وزاد ابن خزيمة : وهو يومئذ خليفة
قوله : ( من سمراء الشام ) بفتح السين المهملة وإسكان الميم وبالمد هي القمح
الشامي . قال النووي : تمسك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة وفيه نظر لأنه
فعل صحابي قد خالف فيه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم وقد صرح بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه
وآله وسلم . قال ابن المنذر : لا نعلم في القمح خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يعتمد عليه ولم يكن البر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه
فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من الشعير وهم الأئمة
فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة
وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد قال الحافظ صحيحة .
أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح انتهى . وهذا مصير منه إلى اختيار ما
ذهب إليه الحنفية لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك وكذلك ابن عمر
فلا إجماع في المسألة
قوله : ( ولم يذكر لفظة أو ) يعني لم يذكر حرف التخيير في شيء من طرق الحديث
قوله : ( أو صاعا من أقط ) بفتح الهمزة وكسر القاف وهو لبن يابس غير منزوع الزبد .
وقال الأزهري : يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى ينصل . وقد اختلف في إجزائه
على قولين أحدهما أنه لا يجزئ لأنه غير مقتات وبه قال أبو حنيفة إلا أنه جاز
إخراجه بدلا عن القيمة على قاعدته . والقول الثاني أنه يجزئ وبه قال مالك وأحمد
وهو الراجح لهذا الحديث الصحيح من غير معارض . وروي عن أحمد أنه يجزئ مع عدم وجدان
غيره وزعم الماوردي أنه يجزئ عن أهل البادية دون أهل الحاضرة فلا يجزئ عنهم بلا
خلاف وتعقبه النووي فقال : قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع
قوله : ( إلا صاعا من دقيق ) ذكر الدقيق ثابت في سنن أبي داود من حديث أبي سعيد
أيضا ولكنه قال أبو داود : إن ذكر الدقيق وهم من ابن عيينة . وقد روى ذلك ابن
خزيمة من حديث ابن عباس قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تؤدى
زكاة رمضان صاعا من طعام عن الصغير والكبير [ ص 254 ] والحر والمملوك من أدى سلتا
قبل منه وأحسبه قال من أدى دقيقا قبل منه ومن أدى سويقا قبل منه ورواه الدارقطني
ولكن قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث فقال : منكر لأن ابن سيرين لم
يسمع من ابن عباس
وقد استدل بذلك على جواز إخراج الدقيق كما يجوز إخراج السويق وبه قال أحمد وأبو
قاسم الأنماطي لأنه مما يكال وينتفع به الفقير وقد كفى فيه الفقير مؤنة الطحن
وقال الشافعي ومالك : إنه لا يجزئ إخراجه لحديث ابن عمر المتقدم ولأن منافعه قد
نقصت والنص ورد في الحب وهو يصلح لما لا يصلح له الدقيق والسويق
قوله : ( من سلت ) بضم السين المهملة وسكون اللام بعدها مثناة فوقية نوع من الشعير
وهو كالحنطة في ملاسته وكالشعير في برودته وطبعه . والروايات المذكورة في الباب
تدل على أن الواجب من هذه الأجناس المنصوصة في الفطرة صاع ولا خلاف في ذلك إلا في
البر والزبيب
وقد ذهب أبو سعيد وأبو العالية وأبو الشعثاء والحسن البصري وجابر بن زيد والشافعي
ومالك وأحمد وإسحاق والهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله إلى أن البر والزبيب
كذلك يجب من كل واحد منهما صاع وقال من تقدم ذكره من الصحابة في كلام ابن المنذر
وزاد في البحر أبا بكر وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وزيد بن علي والإمام يحيى أن
الواجب نصف صاع منهما والقول الأول أرجح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض
صدقة الفطر صاعا من طعام والبر مما يطلق عليه اسم الطعام إن لم يكن غالبا فيه كما
تقدم وتفسيره بغير البر إنما هو لما تقدم من أنه لم يكن معهودا عندهم فلا يجزئ دون
الصاع منه ويمكن أن يقال أن البر على تسليم دخوله تحت لفظ الطعام مخصص بما أخرجه
الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ : ( صدقة الفطر مدان من قمح ) وأخرج نحوه
الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا أيضا . وأخرج نحوه الدارقطني
من حديث عصمة بن مالك وفي إسناده الفضل بن المختار وهو ضعيف . وأخرج أبو داود
والنسائي عن الحسن مرسلا بلفظ : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه
الصدقة صاعا من تمر أو من شعير أو نصف صاع من قمح )
وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صغير بلفظ
: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صدقة الفطر صاع من بر أو قمح عن كل
اثنين )
وأخرج سفيان الثوري في جامعه عن علي عليه السلام موقوفا [ ص 255 ] بلفظ : ( نصف
صاع بر ) وهذه تنتهض بمجموعها للتخصيص . وحديث أبي سعيد الذي فيه التصريح بالحنطة
قد تقدم ما فيه على أنه لم يذكر إطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك
3 -
وعن ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى
قبل خروج الناس إلى الصلاة )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه
-
قوله : ( قبل خروج الناس إلى الصلاة ) قال ابن التين : أي قبل خروج الناس إلى صلاة
العيد وبعد صلاة الفجر . قال ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال
يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول { قد أفلح من تزكى
وذكر اسم ربه فصلى } ولابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن هذه الآية فقال : ( نزلت في زكاة الفطر )
وحمل الشافعي التقييد بقبل صلاة العيد على الاستحباب لصدق اليوم على جميع النهار .
وقد رواه أبو معشر عن نافع عن ابن عمر بلفظ : ( كان يأمرنا أن نخرجها قبل أن نصلي
فإذا انصرف قسمه بينهم وقال : أغنوهم عن الطلب ) أخرجه سعيد بن منصور ولكن أبو
معشر ضعيف . ووهم ابن العربي في عزو هذه الزيادة لمسلم
( وقد استدل ) بالحديث على كراهة تأخيرها عن الصلاة وحمله ابن حزم على التحريم
4 -
وعن ابن عباس قال : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر طهرة
للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن
أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات )
- رواه أبو داود وابن ماجه
-
الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم وصححه
قوله : ( طهرة ) أي تطهيرا لنفس من صام رمضان من اللغو وهو ما لا ينعقد عليه القلب
من القول والرفث . قال ابن الأثير : الرفث هنا هو الفحش من الكلام
قوله : ( وطعمة ) بضم الطاء وهو الطعام الذي يؤكل . وفيه دليل على أن الفطرة تصرف
في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة كما ذهب إليه الهادي والقاسم وأبو طالب .
وقال المنصور بالله : هي كالزكاة فتصرف في مصارفها وقواه المهدي
قوله : ( من أداها قبل الصلاة ) أي [ ص 256 ] قبل صلاة العيد
قوله : ( فهي زكاة مقبولة ) المراد بالزكاة صدقة الفطر
قوله : ( فهي صدقة من الصدقات ) يعني التي يتصدق بها في سائر الأوقات وأمر القبول
فيها موقوف على مشيئة الله تعالى . والظاهر أن من أخرج الفطرة بعد صلاة العيد كان
كمن لم يخرجها باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة وقد ذهب الجمهور إلى
أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر
والحديث يرد عليهم . وأما تأخيرها عن يوم العيد فقال ابن رسلان : إنه حرام
بالاتفاق لأنها زكاة فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج الصلاة عن وقتها .
وحكى في البحر عن المنصور بالله أن وقتها إلى آخر اليوم الثالث من شهر شوال
5 -
وعن إسحاق بن سليمان الرازي قال : ( قلت لمالك بن أنس أبا عبد الله كم قدر صاع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته فقلت :
أبا عبد الله خالفت شيخ القوم قال : من هو قلت : أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال فغضب
غضبا شديدا ثم قال لجلسائنا : يا فلان هات صاع جدك يا فلان هات صاع عمك يا فلان
هات صاع جدتك قال إسحاق : فاجتمعت آصع فقال : ما تحفظون في هذا فقال : هذا حدثني
أبي عن أبيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال هذا
حدثني أبي عن أخيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وقال الآخر حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقال مالك : أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثا )
- رواه الدارقطني
-
هذه القصة مشهورة أخرجها أيضا البيهقي بإسناد جيد . وقد أخرج ابن خزيمة والحاكم من
طريق عروة عن أسماء بنت أبي بكر أمه أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمد الذي يقتات به أهل المدينة . وللبخاري عن مالك
عن نافع عن ابن عمر أنه كان يعطي زكاة رمضان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بالمد الأول ولم يختلف أهل المدينة في الصاع وقدره من لدن الصحابة إلى يومنا هذا
إنه كما قال أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي . وقال العراقيون منهم أبو حنيفة
أنه ثمانية أرطال وهو قول مردود وتدفعه هذه القصة المسندة إلى صيعان [ ص 257 ]
الصحابة التي قررها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد رجع أبو يوسف يعقوب بن
إبراهيم صاحب أبي حنيفة بعد هذه الواقعة إلى قول مالك وترك قول أبي حنيفة
قوله : ( أنا حزرته ) بالحاء المهملة المفتوحة بعدها زاي مفتوحة ثم راء ساكنة أي
قدرته
قوله : ( آصع ) جمع صاع قال في البحر : والصاع أربعة أمداد إجماعا
( فائدة ) وقد اختلف في القدر الذي يعتبر ملكه لمن يلزمه الفطرة فقال الهادي
والقاسم وأحد قولي المؤيد بالله : إنه يعتبر أن يملك قوت عشرة أيام فاضل عما
استثنى للفقير وغير الفطرة لما أخرجه أبو داود في حديث ابن أبي صعير عن أبيه في
رواية بزيادة غني أو فقير بعد حر أو عبد
ويجاب عن هذا الدليل بأنه وإن أفاد عدم اعتبار الغنى الشرعي فلا يفيد اعتبار ملك
قوت عشر
وقال زيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه : إنه يعتبر أن يكون المخرج غنيا غنى شرعيا
واستدل لهم في البحر بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنما الصدقة ما كانت عن
ظهر غنى ) وبالقياس على زكاة المال ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب لأنه بلفظ :
( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ) كما أخرجه أبو داود ومعارض أيضا بما أخرجه أبو
داود والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا : ( أفضل الصدقة جهد المقل ) وما أخرجه
الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا : ( أفضل الصدقة سر إلى فقير وجهد من مقل )
وفسره في النهاية بقدر ما يحتمل حال قليل المال . وما أخرجه النسائي وابن خزيمة
وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال :
( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سبق درهم مائة ألف درهم فقال رجل :
وكيف ذاك يا رسول الله قال : رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها
ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به فهذا تصدق بنصف ماله ) الحديث
وأما الاستدلال بالقياس فغير صحيح لأنه قياس مع الفارق إذ وجوب الفطرة متعلق بالأبدان
والزكاة بالأموال . وقال مالك والشافعي وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحاق والمؤيد بالله
في أحد قوليه : إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا لقوت يوم وليلة لما تقدم من
أنها طهرة للصائم ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك ويؤيد ذلك ما تقدم من تفسيره
صلى الله عليه وآله وسلم من لا يحل له السؤال بمن يملك ما يغديه ويعشيه وهذا هو
الحق لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنيا ولا فقيرا ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار
الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا له ولا سيما والعلة التي شرعت لها [ ص 258 ]
الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهرة من اللغو والرفث واعتبار كونه واجدا
لقوت يوم وليلة أمر لا بد منه لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك
اليوم كما أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر قال : ( فرض رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم زكاة الفطر وقال : أغنوهم في هذا اليوم ) وفي رواية للبيهقي : (
أغنوهم عن طواف هذا اليوم ) وأخرجه أيضا ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي
سعيد فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغنائه في ذلك اليوم لا من
المأمورين بإخراج الفطرة وإغناء غيره وبهذا يندفع ما اعترض به صاحب البحر عن أهل
هذه المقالة من أنه يلزمهم إيجاب الفطرة على من لم يملك إلا دون قوت اليوم ولا
قائل به
كتاب الصيام
- قال النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح الصيام في اللغة الإمساك . وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة انتهى . وكان فرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة
باب ما يثبت به الصوم والفطر من الشهود
1 -
عن ابن عمر قال : ( تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه )
- رواه أبو داود والدارقطني وقال : تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة
2 -
وعن عكرمة عن ابن عباس قال : ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال
: إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله قال : نعم قال :
أتشهد أن محمدا رسول الله قال : نعم قال : يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا )
- رواه الخمسة إلا أحمد . ورواه أبو داود أيضا من حديث حماد بن سلمة عن سماك عن
عكرمة مرسلا بمعناه . وقال : ( فأمر بلالا فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا )
[ ص 259 ]
-
الحديث الأول أخرجه أيضا الدارمي وابن حبان والحاكم وصححاه والبيهقي وصححه ابن حزم
كلهم من طريق أبي بكر بن نافع عن نافع عنه
والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم قال الترمذي :
روي مرسلا وقال النسائي : إنه أولى بالصواب وسماك بن حرب إذا تفرد بأصل لم يكن حجة
( وفي الباب ) عن ابن عباس وابن عمر أيضا عند الدارقطني والطبراني في الأوسط من
طريق طاوس قال : ( شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلي وإليها وشهد
عنده على رؤية هلال شهر رمضان فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه
وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان
وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين ) قال الدارقطني : تفرد به حفص بن
عمر الأيلي وهو ضعيف
( والحديثان ) المذكوران في الباب يدلان على أنها تقبل شهادة الواحد في دخول رمضان
وإلى ذلك ذهب ابن المبارك وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه
قال النووي : وهو الأصح وبه قال المؤيد بالله وقال مالك والليث والأوزاعي والثوري
والشافعي في أحد قوليه والهادوية : إنه لا يقبل الواحد بل يعتبر اثنان واستدلوا
بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الآتي وفيه : ( فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا
وأفطروا ) وبحديث أمير مكة الآتي وفيه : فإن لم نره وشهد شاهدا عدل وظاهرهما
اعتبار شاهدين وتأولوا الحديثين المتقدمين باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي صلى
الله عليه وآله وسلم غيرهما وأجاب الأولون بأن التصريح بالاثنين غاية ما فيه المنع
من قبول الواحد بالمفهوم وحديثا الباب يدلان على قبوله بالمنطوق ودلالة المنطوق
أرجح . وأما التأويل بالاحتمال المذكور فتعسف وتجويز لو صح اعتبار مثله لكان مفضيا
إلى طرح أكثر الشريعة . وحكى في البحر عن الصادق وأبي حنيفة وأحد قولي المؤيد
بالله أنه يقبل الواحد في الغيم لاحتمال خفاء الهلال عن غيره لا الصحو فلا يقبل
إلا جماعة لبعد حفائه
واختلف أيضا في شهادة خروج رمضان فحكى في البحر عن العترة جميعا والفقهاء أنه لا
يكفي الواحد في هلال شوال . وحكى عن أبي ثور أنه يقبل . قال النووي في شرح مسلم :
لا تجوز شهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل
انتهى
( واستدل ) الجمهور بحديث ابن عمر وابن عباس المتقدم وهو مما لا تقوم به حجة لما
تقدم من ضعف من [ ص 260 ] تفرد به . وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وحديث
أمير مكة الآتيان فهما واردان في شهادة دخول رمضان . وأما حديث أمير مكة فظاهر
لقوله فيه نسكنا بشهادتهما . وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ففي بعض
ألفاظه إلا أن يشهد شاهدا عدل وهو مستثنى من قوله ( فأكملوا عدة شعبان ) فالكلام
في شهادة دخول رمضان
وأما اللفظ الذي سيذكره المصنف أعني قوله ( فإن شهد مسلمان فصوموا وأفطروا ) فمع
كون مفهوم الشرط قد وقع الخلاف في العمل به هو أيضا معارض بما تقدم من قبوله صلى
الله عليه وآله وسلم لخبر الواحد في أول الشهر وبالقياس عليه في آخره لعدم الفارق
فلا ينتهض مثل هذا المفهوم لإثبات هذا الحكم به وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار
الاثنين في شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة فالظاهر أنه يكفي فيه واحد قياسا على
الاكتفاء به في الصوم وأيضا التعبد بقبول خبر الواحد يدل على قبوله في كل موضع إلا
ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخبر الواحد كالشهادة على الأموال ونحوها
فالظاهر ما قاله أبو ثور ويمكن أن يقال أن مفهوم حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب
قد عورض في أول الشهر بما تقدم وأما في آخر الشهر فلا ينتهض ذلك القياس لمعارضته
لا سيما مع تأيده بحديث ابن عمر وابن عباس المتقدم وهو وإن كان ضعيفا فذلك غير
مانع من صلاحيته للتأييد فيصلح ذلك المفهوم المعتضد بذلك الحديث لتخصيص ما ورد من
التعبد بأخبار الآحاد والمقام بعد محل نظر
ومما يؤيد القول بقبول الواحد مطلقا أن قبوله في أول رمضان يستلزم الإفطار عند
كمال العدة استنادا إلى قوله وأجيب عن ذلك بأنه يجوز الإفطار بقول الواحد ضمنا لا
صريحا وفيه نظر
3 -
وعن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( اختلف
الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
: بالله لأهلا الهلال أمس فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يفطروا
)
- رواه أحمد وأبو داود وزاد في رواية : ( وأن يغدوا إلى مصلاهم )
-
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح وجهالة الصحابي غير قادحة .
وفي الباب عن عبيد الله أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له : ( أن ركبا جاؤوا
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم [ ص 261
] أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم ) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي
وابن ماجه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم . ورواه ابن حبان في صحيحه عن أنس
: ( أن عمومة له ) وهو وهم كما قال أبو حاتم في العلل
( والحديث ) يدل على قبول شهادة الأعراب وأنه يكتفى بظاهر الإسلام كما تقدم في
حديث الأعرابي في أول الباب : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له أتشهد أن
لا إله إلا الله قال نهم قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم ) الحديث وقد استدل
بحديث الباب على اعتبار شهادة الاثنين في الإفطار وغير خاف أن مجرد قبول شهادة
الاثنين في واقعة لا يدل على عدم قبول الواحد
قوله : ( فأمر الناس أن يفطروا ) فيه رد على من زعم أن أمره صلى الله عليه وآله
وسلم بالإفطار خاص بالركب كما فعل الجلال في رسالة له وقد نبهنا على ذلك في
الاعتراضات التي كتبناها عليها وسميناها إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة
الجلال في الهلال من الاختلال
4 -
وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب : ( أنه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال : ألا إني
جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألتهم وأنهم حدثوني أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم
فأتموا ثلاثين يوما فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا )
- رواه أحمد ورواه النسائي ولم يقل فيه مسلمان
5 -
وعن أمير مكة الحارث بن حاطب قال : ( عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما )
- رواه أبو داود والدارقطني وقال : هذا إسناد متصل صحيح
-
الحديث الأول ذكره الحافظ في التلخيص ولم يذكر فيه قدحا وإسناده لا بأس به على
اختلاف فيه
والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح إلا الحسين بن
الحارث الجدلي وهو صدوق وصححه الدارقطني كما ذكر المصنف والحارث بن حاطب المذكور
له صحبة خرج مع أبيه مهاجرا إلى أرض الحبشة وهو صغير وقيل ولد بأرض الحبشة هو
وأخوه محمد بن حاطب واستعمل على مكة سنة ست وستين
قوله : ( وانسكوا لها ) هو أعم من قوله صوموا لرؤيته لأن النسك في اللغة العبادة
وكل حق لله تعالى كذا في القاموس
قوله : ( فأتموا ثلاثين يوما ) فيه [ ص 262 ] الأمر بإتمام العدة وسيأتي الكلام
على ذلك
قوله : ( مسلمان ) فيه دليل على أنها لا تقبل شهادة الكافر في الصيام والإفطار
وقد استدل بالحديثين على اشتراط العدد في شهادة الصوم والإفطار . وقد تقدم الجواب
على ذلك الاستدلال
قوله : ( شاهدا عدل ) فيه دليل على اعتبار العدالة في شهادة الصوم وعارض ذلك من لم
يشترط العدالة بحديث الأعرابي المتقدم فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم
يختبره بل اكتفى بمجرد تكلمه بالشهادتين وأجيب بأنه أسلم في ذلك الوقت والإسلام يجب
ما قبله فهو عدل بمجرد تكلمه بكلمة الإسلام وإن لم ينضم إليها عمل في تلك الحال
باب ما جاء في يوم الغيم والشك
1 -
عن ابن عمر : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا رأيتموه فصوموا
وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له ) أخرجاه هما والنسائي وابن ماجه
وفي لفظ ( الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة
ثلاثين )
- رواه البخاري . وفي لفظ : ( أنه ذكر رمضان فضرب بيديه فقال الشهر هكذا وهكذا
وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا
ثلاثين ) رواه مسلم وفي رواية أنه قال : ( إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى
تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ) رواه مسلم وأحمد وزاد قال
نافع : وكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يوما يبعث من ينظر فإن رأى فذاك
وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو
قتر أصبح صائما )
-
قوله : ( إذا رأيتموه ) أي الهلال هو عند الإسماعيلي بلفظ : ( سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقول لهلال رمضان : إذا رأيتموه فصوموا ) وكذا أخرجه عبد
الرزاق . وظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلا أو نهارا لكنه محمول على
صوم اليوم المستقبل وهو ظاهر في النهي عن ابتداء رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه
صورة الغيم وغيرها ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به لكن
اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو [ ص 263 ] قوله ( فإن غم عليكم
فاقدروا له ) فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين الصحو والغيم فيكون التعليق على
الرؤية متعلقا بالصحو وأما الغيم فله حكم آخر ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني
مؤكدا للأول وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة . وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا
المراد بقوله ( فاقدروا له ) أي قدروا أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين ويرجح هذا
الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين
قوله : ( فإن غم ) بضم المعجمة وتشديد الميم أي حال بينه وبينكم سحاب أو نحوه
قوله : ( فاقدروا ) قال أهل اللغة : يقال قدرت الشيء أقدره وأقدره بكسر الدال
وضمها وقدرته وأقدرته كلها بمعنى واحد وهي من التقدير كما قال الخطابي ومعناه عند
الشافعية والحنفية وجمهور السلف والخلف فاقدروا له تمام الثلاثين يوما لا كما قال
أحمد بن حنبل وغيره أن معناه قدروه تحت السحاب فإنه يكفي في رد ذلك الروايات
المصرحة بالثلاثين كما تقدم ولا كما قال جماعة منهم ابن شريح ومطرف بن عبد الله
وابن قتيبة إن معناه قدروه بحساب المنازل قال في الفتح : قال ابن عبد البر : لا
يصح عن مطرف وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا ولا كما نقله ابن
العربي عن ابن شريح أن قوله فاقدروا له خطاب لمن خصه الله بهذا العلم . وقوله
فأكملوا العدة خطاب للعامة لأنه كما قال ابن العربي أيضا يستلزم اختلاف وجوب رمضان
فيجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد وقال : هذا بعيد عن
النبلاء
قوله : ( الشهر تسع وعشرون ) ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه
بل قد يكون ثلاثين . والمعنى أن الشهر يكون تسعة وعشرين أو اللام للعهد والمراد
شهر بعينيه ويؤيد الأول ما وقع في رواية لأم سلمة من حديث الباب بلفظ الشهر يكون
تسعة وعشرين
ويؤيد الثاني قول ابن مسعود : ( صمنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسعا
وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين ) أخرجه أبو داود والترمذي ومثله عن عائشة عند أحمد
بإسناد جيد
قوله : ( فلا تصوموا حتى تروه ) ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في كل أحد بل
المراد بذلك رؤية البعض إما واحدا على رأي الجمهور أو اثنان على رأي غيرهم وقد تقدم
الكلام على ذلك وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية
أهل بلد غيرها وسيأتي تحقيقه
قوله : ( الشهر هكذا وهكذا ) الخ قال النووي : حاصله أن الاعتبار بالهلال لأن
الشهر قد يكون تاما ثلاثين وقد يكون ناقصا تسعة وعشرين [ ص 264 ] وقد لا يرى
الهلال فيجب إكمال العدة ثلاثين قال : قالوا وقد يقع النقص متواليا في شهرين
وثلاثة وأربعة ولا يقع أكثر من أربعة
( وفي هذا الحديث ) جواز اعتماد الإشارة
قوله : ( قتر ) بفتح القاف والتاء الفوقية وبعدها راء هو الغبرة على ما في القاموس
قوله : ( أصبح صائما ) فيه دليل على أن ابن عمر كان يقول بصوم الشك وسيأتي بسط
الكلام في ذلك
2 -
وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن غبى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )
- رواه البخاري ومسلم وقال : ( فإن غبى عليكم فعدوا ثلاثين ) وفي لفظ : ( صوموا
لرؤيته فإن غمي عليكم فعدوا ثلاثين ) رواه أحمد . وفي لفظ : ( إذا رأيتم الهلال
فصوموا وإذا رأيتموه فانظروا فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ) رواه أحمد ومسلم
وابن ماجه والنسائي . وفي لفظ : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا
ثلاثين ثم أفطروا ) رواه أحمد والترمذي وصححه
-
قوله : ( صوموا لرؤيته ) اللام للتأقيت لا للتعليل وسيأتي الكلام على ذلك في باب
ما جاء في استقبال رمضان باليوم واليومين
قوله : ( فإن غبى ) بفتح الغين المعجمة وكسر الباء الموحدة مخففة وهو بمعنى غم
مأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة استعار ذلك لخفاء الهلال . قوله : ( فإن غمي
عليكم ) بضم المعجمة وتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم وهو بمعنى غم ونقل ابن
العربي أنه روي عمي بالعين المهملة من العمى وهو بمعناه لأنه ذهاب البصر عن
المشاهدات أو البصيرة عن المعقولات
( والحديث ) يدل على أنه يجب على من لم يشاهد الهلال ولا أخبره من شاهده أن يكمل
عدة شعبان ثلاثين يوما ثم يصوم ولا يجوز أن يصوم يوم ثلاثين من شعبان خلافا لمن
قال بصوم يوم الشك وسيأتي ذكرهم ويكمل عدة رمضان ثلاثين يوما ثم يفطر ولا خلاف في
ذلك
3 -
وعن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر
استقبالا )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي بمعناه وصححه وعنه في لفظ للنسائي : ( فأكملوا
العدة عدة شعبان ) رواه من حديث أبي يونس عن سماك عن عكرمة عنه ( لا تقدموا [ ص
265 ] ( 1 ) الشهر بصيام يوم ولا يومين إلا أن يكون شيئا يصومه أحدكم ولا تصوموا
حتى تروه ثم صوموا حتى تروه فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا )
رواه أبو داود
_________
( 1 ) وقع في آخر سطر من صحيفة 264 لا تقدموا . وصوابه : وفي لفظ لا تقدموا )
4 -
وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما
لا يتحفظه من غيره يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام )
- رواه أحمد وأبو داود والدارقطني . وقال : إسناد حسن صحيح
5 -
وعن حذيفة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقدموا الشهر حتى
تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة )
- رواه أبو داود والنسائي
6 -
وعن عمار بن ياسر قال : ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم محمدا صلى
الله عليه وآله وسلم )
- رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي وهو للبخاري تعليقا
-
حديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة والحاكم وهو من صحيح حديث سماك بن
حرب لم يدلس فيه ولم يلقن أيضا فإنه من رواية شعبة عنه وكان شعبة لا يأخذ عن شيوخه
ما دلسوا فيه ولا ما لقنوا . وحديث عائشة صححه أيضا الحافظ . وحديث حذيفة أخرجه
أيضا ابن حبان من طريق جرير عن منصور عن ربعي عن حذيفة . وحديث عمار أخرجه أيضا
ابن حبان وابن خزيمة وصححاه والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث صلة بن زفر قال :
كنا عند عمار فذكره وعلقه البخاري في صحيحه عن صلة وليس هو عند مسلم وقد وهم من
عزاه إليه . قال ابن عبد البر : هذا مسند عندهم مرفوع لا يختلفون في ذلك . وزعم
أبو القاسم الجوهري أنه موقوف ورد عليه ورواه إسحاق ابن راهويه عن وكيع عن سفيان
عن سماك عن عكرمة . ورواه الخطيب وزاد فيه ابن عباس
( وفي الباب ) عن أبي هريرة عند ابن عدي في ترجمة علي القرشي وهو ضعيف وعنه أيضا
حديث آخر عند النسائي بلفظ : ( لا تستقبلوا الشهر بصوم يوم أو يومين إلا أن يوافق
ذلك صياما كان يصومه أحدكم ) وعنه أيضا حديث آخر عند البزار بلفظ : ( نهى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صيام ستة أيام أحدها اليوم الذي يشك فيه ) وفي
إسناده عبد الله بن سعيد المقبري عن جده وهو ضعيف
وأخرجه أيضا الدارقطني وفي إسناده الواقدي وأخرجه أيضا البيهقي وفي إسناده عباد
وهو عبد الله بن سعيد المقبري المتقدم وهو منكر الحديث كما قال أحمد بن حنبل
( وقد استدل ) بهذه [ ص 266 ] الأحاديث على المنع من صوم يوم الشك . قال النووي :
وبه قال مالك والشافعي والجمهور . وحكى الحافظ في الفتح عن مالك وأبي حنيفة أنه لا
يجوز صومه عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك . قال ابن الجوزي في التحقيق : ولأحمد
في هذه المسألة وهي إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو غيره ليلة الثلاثين من شعبان
ثلاثة أقوال :
أحدها : يجب صومه على أنه من رمضان . وثانيها : لا يجوز فرضا ولا نفلا مطلقا بل
قضاء وكفارة ونذرا ونفلا يوافق عادة . ثالثها : المرجع إلى رأي الإمام في الصوم
والفطر وذهب جماعة من الصحابة إلى صومه منهم علي وعائشة وعمر وابن عمر وأنس بن
مالك وأسماء بنت أبي بكر وأبو هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم وجماعة من
التابعين منهم مجاهد وطاوس وسالم بن عبد الله وميمون بن مهران ومطرف بن الشخير
وبكر بن عبد الله المزني وأبو عثمان النهدي
وقال جماعة من أهل البيت باستحبابه وقد ادعى المؤيد بالله أنه أجمع على استحباب
صومه أهل البيت وهكذا قال الأمير الحسن في الشفاء والمهدي في البحر وقد أسند لابن
القيم في الهدى الرواية عن الصحابة المتقدم ذكرهم القائلين بصومه وحكى القول بصومه
عن جميع من ذكرنا منهم . ومن التابعين وقال وهو مذهب إمام أهل الحديث والسنة أحمد
بن حنبل واستدل المجوزون لصومه بأدلة : منها ما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي عن أم
سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصومه وأجيب عنه بأن مرادها أنه كان
يصوم شعبان كله لما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثها قالت : ( ما رأيته
يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان ) وهو غير محل النزاع لأن ذلك جائز عند
المانعين من صوم يوم الشك لما في الحديث الصحيح المتفق عليه من قوله صلى الله عليه
وآله وسلم : ( إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه )
وأيضا قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص
بالأمة ولا العام له ولهم لأنه يكون فعله مخصصا له من العموم . ومنها ما أخرجه
الشافعي عن علي عليه السلام قال : ( لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر
يوما من رمضان ) وأجيب بأن ذلك من رواية فاطمة بنت الحسين عن علي وهي لم تدركه
فالرواية منقطعة ولو سلم الاتصال فليس ذلك بنافع لأن لفظ الرواية أن رجلا شهد عند
علي على رؤية الهلال فصام وأمر الناس أن يصوموا ثم قال لأن أصوم الخ فالصوم لقيام
شهادة واحد عنده لا لكونه [ ص 267 ] يوم شك وأيضا الاحتجاج بذلك على فرض أنه عليه السلام
استحب صوم يوم الشك من غير نظر إلى شهادة الشاهد إنما يكون حجة على من قال بأن
قوله حجة على أنه قد روى عنه القول بكراهة صومه حكى ذلك عنه صاحب الهدى . قال ابن
عبد البر : وممن روى عنه كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمار
وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك
( والحاصل ) أن الصحابة مختلفون في ذلك وليس قول بعضهم بحجة على أحد والحجة ما
جاءنا عن الشارع وقد عرفته وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في الأبحاث التي
كتبتها على رسالة الجلال وسيأتي الكلام على استقبال رمضان بيوم أو يومين في آخر
الكتاب إن شاء الله تعالى
باب الهلال إذا رآه أهل بلدة هل يلزم بقية البلاد الصوم
1 -
عن كريب : ( أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها
واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر
الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال فقلت :
رأيناه ليلة الجمعة فقال : أنت رأيته فقلت : نعم ورآه الناس وصاموا أو صام معاوية
فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت : ألا
تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال : لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه
-
قوله : ( واستهل علي رمضان ) هو بضم التاء من استهل قاله النووي
قوله : ( أفلا تكتفي ) شك أحد رواته هل هو بالخطاب لابن عباس أو بنون الجمع
للمتكلم . وقد تمسك بحديث كريب هذا من قال أنه لا يلزم أهل بلد رؤية بلد غيرها وقد
اختلفوا في ذلك على مذاهب ذكرها صاحب الفتح
أحدها : أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم ولا يلزمهم رؤية غيرهم حكاه ابن المنذر عن
عكرمة والقاسم بن محمد وسالم وإسحاق وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه وحكاه
الماوردي وجها للشافعية
وثانيها : أنه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم
فيلزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه [ ص 268 ] كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في
الجميع قاله ابن الماجشون
وثالثها : أنها إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدا وإن تباعدت فوجهان لا يجب عند
الأكثر قاله بعض الشافعية واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن الشافعي
وفي ضبط البعيد أوجه أحدها اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه
النووي في الروضة وشرح المهذب . ثانيها : مسافة القصر قطع به البغوي وصححه الرافعي
والنووي
ثالثها : باختلاف الأقاليم حكاه في الفتح . رابعها : أنه يلزم أهل كل بلد لا يتصور
خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم حكاه السرخسي . خامسها : مثل قول ابن الماجشون
المتقدم . سادسها : أنه لا يلزم إذا اختلفت الجهتان ارتفاعا وانحدارا كأن يكون
أحدهما سهلا والآخر جبلا أو كان كل بلد في إقليم حكاه المهدي في البحر عن الإمام
يحيى والهادوية
وحجة أهل هذه الأقوال حديث كريب هذا . ووجه الاحتجاج به أن ابن عباس لم يعمل برؤية
أهل الشام وقال في آخر الحديث : ( هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يلزم أهل بلد
العمل برؤية أهل بلد آخر
( واعلم ) أن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم
عنه الناس والمشار إليه بقوله هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو
قوله فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين والأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ : ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا
تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )
وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين
فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به
على عدم اللزوم لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم ولو
سلم توجه الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر لكان عدم
اللزوم مقيدا بدليل العقل وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف
المطالع وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف
عمل بالاجتهاد وليس بحجة ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل فلا يشك عالم أن الأدلة
قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية
والرؤية من جملتها وسواء كان بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم
لا فلا يقبل التخصيص إلا بدليل ولو سلم صلاحية [ ص 269 ] حديث كريب هذا للتخصيص
فينبغي أن يقتصر فيه على محل النص إن كان النص معلوما أو على المفهوم منه إن لم
يكن معلوما لوروده على خلاف القياس ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ولا بمعنى لفظه حتى ننظر في عمومه وخصوصه إنما جاءنا بصيغة مجملة أشار
بها إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على تسليم أن ذلك المراد ولم
نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك العموم فينبغي الاقتصار على المفهوم
من ذلك الوارد على خلاف القياس وعدم الإلحاق به فلا يجب على أهل المدينة العمل
برؤية أهل الشام دون غيرهم ويمكن أن يكون في ذلك حكمة لا نعقلها ولو نسلم صحة
الإلحاق وتخصيص العموم به فغايته أن يكون في المحلات التي بينها من البعد ما بين
المدينة والشام أو أكثر وأما في أقل من ذلك فلا وهذا ظاهر فينبغي أن ينظر ما دليل
من ذهب إلى اعتبار البريد أو الناحية أو البلد في المنع من العمل بالرؤية والذي
ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم أو
حكاه القرطبي عن شيوخه أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد كلها ولا يلتفت إلى ما
قاله ابن عبد البر من أن هذا القول خلاف الإجماع قال : لأنهم قد أجمعوا على أنه لا
تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كحراسان والأندلس وذلك لأن الإجماع لا يتم
والمخالف مثل هؤلاء الجماعة
باب وجوب النية من الليل في الفرض دون النفل
1 -
عن ابن عمر عن حفصة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من لم يجمع
الصيام قبل الفجر فلا صيام له )
- رواه الخمسة
-
الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه مرفوعا وأخرجه أيضا الدارقطني قال
في التلخيص : واختلف الأئمة في رفعه ووقفه فقال ابن أبي حاتم عن أبيه : لا أدري
أيهما أصح يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم أو
رواية إسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم بغير واسطة الزهري لكن الوقف
أشبه . وقال أبو داود : لا يصح رفعه وقال الترمذي : الموقوف أصح ونقل في العلل عن
البخاري أنه قال : هو خطأ وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوف وقال
النسائي : الصواب عندي موقوف ولم يصح [ ص 270 ] رفعه . وقال أحمد : ما له عندي ذلك
الإسناد . وقال الحاكم في الأربعين : صحيح على شرط الشيخين . وقال في المستدرك :
صحيح على شرط البخاري . وقال البيهقي : رواته ثقات إلا أنه روي موقوفا . وقال
الخطابي : أسنده عبد الله بن أبي بكر والزيادة من الثقة مقبولة . وقال ابن حزم :
الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة وقال الدارقطني : كلهم ثقات انتهى كلام التلخيص . وقد
تقرر في الأصول وعلم الاصطلاح أن الرفع من الثقة زيادة مقبولة وإنما قال ابن حزم
إن الاختلاف يزيد الخبر قوة لأن من رواه مرفوعا فقد رواه موقوفا باعتبار الطرق
( وفي الباب ) عن عائشة عند الدارقطني وفيه عبد الله بن عباد وهو مجهول وقد ذكره
ابن حبان في الضعفاء وعن ميمونة بنت سعد عند الدارقطني أيضا بلفظ : ( سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من أجمع الصيام من الليل فليصم ومن أصبح ولم
يجمعه فلا يصم ) وفي إسناده الواقدي
( والحديث ) فيه دليل على وجوب تبييت النية وإيقاعها في جزء من أجزاء الليل وقد
ذهب إلى ذلك ابن عمر وجابر بن يزيد من الصحابة والناصر والمؤيد بالله ومالك والليث
وابن أبي ذئب ولم يفرقوا بين الفرض والنفل
وقال أبو طلحة وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل والهادي والقاسم : إنه لا يجب
التبييت في التطوع ويروى عن عائشة أنها تصح النية بعد الزوال . وروي عن علي عليه
السلام والناصر وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي أنها لا تصح النية بعد الزوال .
وقالت الهادوية وروي عن علي وابن مسعود والنخعي أنه لا يجب التبييت إلا في صوم
القضاء والنذر المطلق والكفارات وأن وقت النية في غير هذه من غروب شمس اليوم الأول
إلى بقية من نهار اليوم الذي صامه
وقد استدل القائلون بأنه لا يجب التبييت بحديث سلمة بن الأكوع والربيع عند الشيخين
: ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر رجلا من أسلم أن أذن في الناس إذ
فرض صوم عاشوراء الأكل من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم )
وأجيب بأن خبر حفصة متأخر فهو ناسخ لجوازها في النهار ولو سلم عدم النسخ فالنية
إنما صحت في نهار عاشوراء لكن الرجوع إلى الليل غير مقدور والنزاع فيما كان مقدورا
فيخص الجواز بمثل هذه الصورة أعني من ظهر له وجوب الصيام عليه من النهار كالمجنون
يفيق والصبي يحتلم والكافر يسلم وكمن انكشف له في النهار أن ذلك اليوم من رمضان .
واستدلوا [ ص 271 ] أيضا بحديث عائشة الآتي وسيأتي الجواب عنه
( والحاصل ) أن قوله لا صيام نكرة في سياق النفي فيعم كل صيام ولا يخرج عنه إلا ما
قام الدليل على أنه لا يشترط فيه التبييت والظاهر أن النفي متوجه إلى الصحة لأنها
أقرب المجازين إلى الذات أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية فيصلح الحديث للاستدلال
به على عدم صحة صوم من لا يبيت النية إلا ما خص كالصورة المتقدمة
والحديث أيضا يرد على الزهري وعطاء وزفر لأنهم لم يوجبوا النية في صوم رمضان وهو
يدل على وجوبها
ويدل أيضا على الوجوب حديث إنما الأعمال بالنيات والظاهر وجوب تجديدها لكل يوم
لأنه عبادة مستقلة مسقطة لفرض وقتها وقد وهم من قاس أيام رمضان على أعمال الحج
باعتبار التعدد للأفعال لأن الحج عمل واحد ولا يتم إلا بفعل ما اعتبره الشارع من
المناسك والإخلال بواحد من أركانه يستلزم عدم إجزائه
قوله : ( يجمع ) أي يعزم يقال أجمعت على الأمر أي عزمت عليه . قال المنذري : يجمع
بضم الياء آخر الحروف وسكون الجيم من الإجماع وهو أحكام النية والعزيمة يقال أجمعت
الرأي وأزمعت بمعنى واحد
2 -
وعن عائشة قالت : ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال : هل
عندكم من شيء فقلنا : لا فقال : فإني إذن صائم ثم أتانا يوما آخر فقلنا : يا رسول
الله أهدي لنا حيس فقال : أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل )
- رواه الجماعة إلا البخاري وزاد النسائي : ( ثم قال إنما مثل صوم المتطوع مثل
الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها ) وفي لفظ أيضا : ( قال
يا عائشة إنما منزلة من صام في غير رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة ماله
فجاد منها بما شاء فأمضاه وبخل منها مما شاء فأمسكه ) قال البخاري : وقالت أم
الدرداء : ( كان أبو الدرداء يقول عندكم طعام فإن قلنا لا قال فإني صائم يومي هذا
) قال : وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم
-
الرواية الأولى أخرجها أيضا الدارقطني والبيهقي وفي لفظ لمسلم : ( أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول هل من غداء فإن قالوا لا قال
فإني صائم ) وله ألفاظ عنده
ورواه أبو داود وابن حبان والدارقطني بلفظ : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يأتينا فيقول هل عندكم من غداء فإن قلنا نعم [ ص 272 ] تغدى وإن قلنا لا قال إني
صائم وإنه أتانا ذات يوم وقد أهدي لنا حيس ) الحديث
قوله : ( حيس ) بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها سين مهملة هو طعام
يتخذ من التمر والأقط والسمن وقد يجعل عوض الأقط الدقيق والفتيت قاله في النهاية .
وقد استدل بحديث عائشة أنه لا يجب تبييت النية في صوم التطوع وهم الجمهور كما قال
النووي وأجيب عنه بأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد كان نوى الصوم من الليل وإنما
أراد الفطر لما ضعف عن الصوم وهو محتمل لا سيما على رواية ( فلقد أصبحت صائما )
ولو سلم عدم الاحتمال كان غايته تخصيص صوم التطوع من عموم قوله : ( فلا صيام له )
قوله : ( إنما مثل صوم المتطوع ) الخ فيه دليل على أنه يجوز للمتطوع بالصوم أن
يفطر ولا يلزمه الاستمرار على الصوم وإن كان أفضل بالإجماع وظاهره أن من أفطر في
التطوع لم يجب عليه القضاء وإليه ذهب الجمهور
وقال أبو حنيفة ومالك والحسن البصري ومكحول والنخعي أنه لا يجوز للمتطوع الإفطار
ويلزمه القضاء إذا فعل واستدلوا على وجوب القضاء بما وقع في رواية للدارقطني
والبيهقي من حديث عائشة بلفظ : واقضي يوما مكانه ولكنهما قالا هذه الزيادة غير
محفوظة
قوله : ( كان أبو الدرداء ) هذا الأثر وصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق
قوله : ( وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة ) أما أثر أبي طلحة فوصله
عبد الرزاق وابن أبي شيبة . وأما أثر أبي هريرة فوصله البيهقي وعبد الرزاق . وأما
أثر ابن عباس فوصله الطحاوي . وأما أثر حذيفة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة أيضا
باب الصبي يصوم إذا أطاق وحكم من وجب عليه الصوم في أثناء الشهر أو اليوم
1 -
عن الربيع بنت المعوذ قالت : ( أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداة
عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان
أصبح مفطرا فليتم بقية يومه فكنا بعد ذلك نصومه ونصومه صبياننا الصغار [ ص 273 ]
منهم ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعب من العهن فإذا بكى أحدهم من الطعام
أعطيناها إياه حتى يكون عند الإفطار )
- أخرجاه . قال البخاري : وقال عمر لنشوان رمضان ويلك وصبياننا صيام وضربه
-
قوله : ( الربيع ) بتشديد الياء مصغرا ومعوذ بكسر الواو المشددة وهو ابن عون ويعرف
بابن عفراء
قوله : ( اللعبة ) بضم اللام المشددة بعدها عين مهملة ساكنة ثم باء موحدة ثم تاء
تأنيث وهي الشيء الذي يلعب به الصبيان
قوله : ( من العهن ) أي الصوف قيل هو المصبوغ منه
قوله : ( أعطيناها إياه حتى يكون عند الإفطار ) وقع في مسلم : ( أعطيناه إياه عند
الإفطار ) وهو مشكل ورواية البخاري توضح أنه سقط منه شيء . وقد رواه مسلم أيضا من
وجه آخر فقال فيه : ( فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم
)
قوله : ( لنشوان ) هو بفتح النون وسكون المعجمة كسكران وزنا ومعنى وجمعه نشاوى
كسكارى . قال ابن خالويه : سكر الرجل فانتشى وثمل بمعنى . وقال صاحب المحكم : نشا
الرجل وانتشى وتنشى كله بمعنى سكر . وقال ابن التين : النشوان السكران سكرا خفيفا
وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور والبغوي في الجعديات بلفظ : ( أن عمر بن الخطاب أتي
برجل شرب الخمر في رمضان فلما دنا منه جعل يقول للمنخرين والفم ) وفي رواية البغوي
فلما رفع إليه عثر فقال عمر على وجهك ويحك وصبياننا صيام . ثم أمر به فضرب ثمانين
سوطا ثم سيره إلى الشام
( الحديث ) استدل به على أن عاشوراء كان فرضا قبل أن يفرض رمضان وعلى أنه يستحب
أمر الصبيان بالصوم للتمرين عليه إذا أطاقوه وقد قال باستحباب ذلك جماعة من السلف
منهم ابن سيرين والزهري والشافعي وغيرهم واختلف أصحاب الشافعي في تحديد السن التي
يؤمر الصبي عندها بالصيام فقيل سبع سنين وقيل عشر وبه قال أحمد وقيل اثنتا عشرة
سنة وبه قال إسحاق وقال الأوزاعي إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يضعف فيهن حمل
على الصوم والمشهور عن المالكية أن الصوم لا يشرع في حق الصبيان والحديث يرد عليهم
لأنه يبعد كل البعد أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك
وأخرج ابن خزيمة من حديث رزينة بفتح الراء وكسر الزاي : ( أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كان يأمر برضعائه ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهم أن لا
يرضعن إلى الليل )
وقد توقف ابن خزيمة في صحته [ ص 274 ] قال الحافظ : وإسناده لا بأس به وهو يرد على
القرطبي قوله لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم بذلك ويبعد أن يكون أمر
بذلك لأنه تعذيب صغير بعبادة شاقة غير متكررة في السنة انتهى
مع أن الصحيح عند أهل الأصول والحديث أن الصحابي إذا قال فعلنا كذا في عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حكمه الرفع لأن الظاهر إطلاعه عليه مع توفر
دواعيهم إلى سؤالهم إياه عن الأحكام مع أن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه لأنه
إيلام لغير مكلف فلا يكون إلا بدليل ومذهب الجمهور أنه لا يجب الصوم على من دون
البلوغ وذكر الهادي في الأحكام أنه يجب على الصبي الصوم بالإطاقة لصيام ثلاثة أيام
واحتج على ذلك بما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إذا أطاق
الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام الشهر كله ) هذا الحديث ذكره السيوطي في
الجامع الصغير وقال أخرجه المرهبي عن ابن عباس ولفظه : ( تجب الصلاة على الغلام
إذا عقل والصوم إذا أطاق والحدود والشهادة إذا احتلم ) وقد حمل المرتضى كلام الهادي
على لزوم التأديب وحمله السادة الهارونيون على أنه يؤمر بذلك تعويدا وتمرينا
2 -
وعن سفيان بن عبد الله بن ربيعة قال : ( حدثنا وفدنا الذين قدموا على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بإسلام ثقيف قالوا وقدموا عليه في رمضان وضرب عليهم قبة
في المسجد فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر )
- رواه ابن ماجه
3 -
وعن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه : ( أن أسلم أتت إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقال : صمتم يومكم هذا قالوا : لا قال : فأتموا بقية يومكم واقضوا )
- رواه أبو داود
-
الحديث الأول إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أحمد بن خالد
الوهبي حدثنا محمد بن إسحاق عن عيسى بن عبد الله بن مالك عن عطية بن سفيان بن عبد
الله فذكره ورجال إسناده فيهم الثقة والصدوق ومن لا بأس به وفيه عنعنة محمد بن
إسحاق وهذا الحديث هو طرف من حديث قدوم ثقيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وإنزاله لهم المسجد
والحديث الثاني أخرجه الترمذي أيضا من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه
فذكره
( الحديث الأول ) يدل على وجوب الصيام على من أسلم في رمضان ولا أعلم فيه خلافا
( والحديث [ ص 275 ] الثاني ) فيه دليل على أنه يجب الإمساك على من أسلم في نهار
رمضان ويلحق به من تكلف أو فاق من الجنون أو زال عذره المانع من الصوم وأنه يجب
عليه القضاء لذلك اليوم وإن لم يكن مخاطبا بالصوم في أوله . قال في الفتح : وعلى
تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعين القضاء لأن من لم يدرك
اليوم بكماله لا يلزمه القضاء كمن بلغ أو أسلم في أثناء النهار
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث الربيع وما بعده ما لفظه : وهذا حجة
في أن صوم عاشوراء كان واجبا وأن الكافر إذا أسلم أو بلغ الصبي في أثناء يومه لزمه
إمساكه وقضاؤه ولا حجة فيه على سقوط تبييت النية لأن صومه إنما لزمهم في أثناء
اليوم انتهى . وقد قدمنا الكلام على جميع هذه الأطراف
أبواب ما يبطل الصوم وما يكره وما يستحب
باب ما جاء في الحجامة
1 -
عن رافع بن خديج قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفطر الحاجم
والمحجوم )
- رواه أحمد والترمذي . ولأحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث ثوبان وحديث شداد بن
أوس مثله . ولأحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مثله . ولأحمد من حديث عائشة وحديث
أسامة بن زيد مثله
2 - وعن ثوبان : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم )
3 -
وعن الحسن بن معقل بن سنان الأشجعي أنه قال : ( مر علي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فقال أفطر الحاجم
والمحجوم )
- رواهما أحمد وهما دليل على أن من فعل ما يفطر جاهلا يفسد صومه بخلاف الناسي .
قال أحمد : أصح حديث في هذا الباب حديث رافع بن خديج وقال ابن المديني : أصح شيء
في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس
-
حديث رافع أخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه قال الترمذي : ذكر عن أحمد [ ص 276 ] أنه
قال : هذا أصح شيء في هذا الباب وبالغ أبو حاتم فقال : هو عندي من طريق رافع باطل
. ونقل عن يحيى بن معين أنه قال : هو أضعف أحاديث الباب . وحديث ثوبان أخرجه أيضا
النسائي وابن حبان والحاكم وروي عن أحمد أنه قال : هو أصح ما روي في الباب وكذا
قال الترمذي عن البخاري وصححه البخاري تبعا لعلي بن المديني نقله الترمذي في العلل
. وحديث شداد بن أوس أخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة وابن حبان وصححاه وصححه أيضا
أحمد والبخاري وعلي بن المديني
وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا النسائي من طريق عبد الله بن بشير عن الأعمش عن أبي
صالح عنه وله طريق أخرى عن شقيق بن ثور عن أبيه عنه . وحديث عائشة أخرجه أيضا
النسائي وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف . وحديث أسامة أخرجه أيضا النسائي وفيه
اختلاف . وحديث ثوبان الآخر أخرجه أيضا النسائي وهو أحد ألفاظ حديثه المشار إليه
أولا . وحديث معقل بن سنان في إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط ورواه الطبراني في
الكبير وأخرجه أيضا النسائي وذكر الاختلاف فيه
( وفي الباب ) عن أبي موسى عند النسائي والحاكم وصححه علي بن المديني . وقال
النسائي : رفعه خطأ والموقوف أخرجه ابن أبي شيبة وعلقه البخاري ووصله أيضا بدون
ذكر أفطر الحاجم والمحجوم له . وعن بلال عند النسائي . وعن علي عند النسائي أيضا .
قال علي بن المديني اختلف فيه على الحسن . وعن أنس وجابر وابن عمر وسعد بن أبي
وقاص وأبي يزيد الأنصاري وابن مسعود عند ابن عدي في الكامل والبزار وغيرهما
( وقد استدل ) بأحاديث الباب القائلون بفطر الحاجم والمحجوم ويجب عليهما القضاء
وهم علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبو
الوليد النيسابوري وابن حبان حكاه عن هؤلاء الجماعة صاحب الفتح وصرح بأنهم يقولون
أنه يفطر الحاجم والمحجوم له وهو يرد ما قاله المهدي في البحر وتبعه المغربي في
شرح بلوغ المرام وصاحب ضوء النهار من أنه لم يقل أحد من العلماء بأن الحاجم يفطر .
ومن القائلين بأنه يفطر الحاجم والمحجوم له أبو هريرة وعائشة قال الزعفراني : إن
الشافعي علق القول به على صحة الحديث وبذلك قال الداودي من المالكية . وذهب
الجمهور إلى أن الحجامة لا تفسد الصوم وحكاه في البحر عن جماعة من الصحابة منهم
علي وابنه الحسن وأنس وأبو سعيد الخدري وزيد بن [ ص 277 ] أرقم وعن العترة وأكثر
الفقهاء والحسن البصري وعطاء والصادق . قال الحازمي : ممن روينا عنه ذلك من
الصحابة سعد بن أبي وقاص والحسن بن علي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن أرقم وابن
عمر وأنس وعائشة وأم سلمة ومن التابعين والعلماء الشعبي وعروة والقاسم بن محمد
وعطاء بن يسار وزيد بن أسلم وعكرمة وأبو العالية وإبراهيم وسفيان ومالك والشافعي
وأصحابه إلا ابن المنذر . وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنها منسوخة بالأحاديث
التي ستأتي . وأجيب عن ذلك بما سنذكره في شرحها وأجابوا أيضا بما أخرجه الطحاوي
وعثمان الدارمي والبيهقي في المعرفة عن ثوبان أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما
قال أفطر الحاجم والمحجوم لأنهما كانا يغتابان ورد بأن في إسناده يزيد بن ربيعة
وهو متروك وحكم ابن المديني بأنه حديث باطل . قال ابن خزيمة : جاء بعضهم بأعجوبة
فزعم أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال أفطر الحاجم والمحجوم لأنهما كانا
يغتابان فإذا قيل له فالغيبة تفطر الصائم قال لا فعلى هذا لا يخرج من مخالفة
الحديث بلا شبهة وأجابوا أيضا بأن المراد بقوله أفطر الحاجم والمحجوم أنهما
سيفطران باعتبار ما يؤل الأمر إليه كقوله تعالى { إني أراني أعصر خمرا } قال
الحافظ : ولا يخفى تكلف هذا التأويل
وقال البغوي في شرح السنة : معنى أفطر الحاجم والمحجوم أي تعرضا للإفطار أما
الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص وأما المحجوم فلأنه لا
يأمن من ضعف قوته بخروج الدم فيؤل أمره إلى أن يفطر وهذا أيضا جواب متكلف وسيأتي
التصريح بما هو الحق
4 -
عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم
) رواه أحمد والبخاري . وفي لفظ : ( احتجم وهو محرم صائم )
- رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه
5 -
وعن ثابت البناني أنه قال لأنس ابن مالك : ( أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا إلا من أجل الضعف )
- رواه البخاري
6 -
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إنما
نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصال في الصيام والحجامة للصائم إبقاء على
أصحابه ولم يحرمهما )
- رواه أحمد وأبو داود
7 -
وعن أنس قال : ( أول ما كرهت الحجامة للصائم [ ص 278 ] أن جعفر ابن أبي طالب احتجم
وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أفطر هذان ثم رخص النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم )
- رواه الدارقطني وقال : كلهم ثقات ولا أعلم له علة
-
حديث ابن عباس ورد على أربعة أوجه كما حكاه في التلخيص عن بعض الحفاظ الأول احتجم
وهو محرم . الثاني احتجم وهو صائم . الثالث كالرواية الأولى التي ذكرها المصنف .
الرابع كالرواية الثانية التي ذكرها المصنف . وقد أخرج اللفظ الأول من الأربعة
الشيخان من حديث عبد الله بن بحينة وله طرق شتى عند النسائي وغيره من حديث أنس
وجابر والثاني رواه أصحاب السنن من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس لكن أعل بأنه
ليس من مسموع الحكم عن مقسم وله طرق أخرى . والثالث أخرجه من ذكر المصنف وكذلك
الرابع وأعله أحمد وعلي بن المديني وغيرهما فقال أحمد : ليس فيه صائم إنما هو محرم
عند أصحاب ابن عباس . وقال أبو حاتم : هذا خطأ أخطأ فيه شريك وقال الحميدي : إنه
صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن محرما صائما لأنه خرج في رمضان في غزاة الفتح ولم
يكن محرما انتهى
وإذا صح فينبغي أن يحمل على أن كل واحد من الصوم والإحرام وقع في حالة مستقلة وهذا
لا مانع منه وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام في رمضان وهو مسافر
وزاد الشافعي وابن عبد البر وغير واحد أن ذلك في حجة الوداع . قال الحافظ : وفيه
نظر لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مفطرا كما صح أن أم الفضل أرسلت إليه
بقدح لبن فشربه وهو واقف بعرفة وعلى تقدير وقوع ذلك فقد قال ابن خزيمة : هذا الخبر
لا يدل على أن الحجامة لا تفطر الصائم لأنه إنما احتجم وهو صائم محرم في سفر لا في
حضر لأنه لم يكن قط محرما مقيما ببلد قال : وللمسافر أن يفطر ولو نوى الصوم ومضى
عليه بعض النهار خلافا لمن أبى ذلك ثم احتج له لكن تعقب عليه الخطابي بأن قوله وهو
صائم دال على بقاء الصوم
قال الحافظ : قلت ولا مانع من إطلاق ذلك باعتبار ما كان عليه حالة الاحتجام لأنه
على هذا التأويل إنما أفطر بالاحتجام انتهى
وحديث أنس الأول اعترض على البخاري فيه بأنه سقط من إسناده حميد ما بين شعبة وثابت
البناني . وقال الحافظ : إن الخلل وقع فيه من غير البخاري وبين وجه ذلك
وحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه أيضا عبد الرزاق . قال في الفتح : وإسناده
صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر . وقوله إبقاء على أصحابه متعلق [ ص 279 ] بقوله
نهى . وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه عن أصحاب محمد
صلى الله عليه وآله وسلم قالوا إنما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحجامة
للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف . وحديث أنس الآخر قال في الفتح : رواته كلهم
من رجال البخاري
( وفي الباب ) عن أبي سعيد الخدري قال : رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
الحجامة أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني قال الحافظ : إسناده صحيح ورجاله
ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه واستشهد له بحديث أنس المذكور
وله حديث آخر عند الترمذي والبيهقي : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثلاث لا
يفطرن القيء والحجامة والاحتلام ) وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف
وقال الترمذي : هذا الحديث غير محفوظ . وقد رواه الداروردي وغير واحد عن زيد بن
أسلم مرسلا ورواه أبو داود عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ورجحه أبو حاتم وأبو زرعة وقال : إنه أصح وأشبه بالصواب وتبعهما البيهقي
. وقال الدارقطني : رواه كامل بن طلحة عن مالك بن زيد موصولا ثم رجع عنه وليس هو
من حديث مالك قال : ورواه هشام بن سعد عن زيد موصولا ولا يصح وأخرجه في السنن
( وفي الباب ) عن ابن عباس عند البزار وهو معلول وعن ثوبان عند الطبراني وسنده
ضعيف . وقد استدل الجمهور بالأحاديث المذكورة على أن الحجامة لا تفطر ولكن حديث
ابن عباس لا يصلح لنسخ الأحاديث السابقة أما أولا فلأنه لم يعلم تأخره لما عرفت من
عدم انتهاض تلك الزيادة أعني قوله في حجة الوداع وأما ثانيا فغاية فعل النبي صلى
الله عليه وآله وسلم الواقع بعد عموم يشمله أن يكون مخصصا له من العموم لا رافعا
لحكم العام نعم حديث ابن أبي ليلى وأنس وأبي سعيد يدل على أن الحجامة غير محرمة
ولا موجبة لإفطار الحاجم ولا المحجوم فيجمع بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة في حق
من كان يضعف بها وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ إلى حد يكون سببا للإفطار ولا
تكره في حق من كان لا يضعف بها وعلى كل حال تجنب الحجامة للصائم أولى فيتعين حمل
قوله أفطر الحاجم والمحجوم على المجاز لهذه الأدلة الصارفة له عن معناه الحقيقي [
ص 280 ]
باب ما جاء في القيء والاكتحال
1 -
عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من ذرعه القيء فليس عليه
قضاء ومن استقاء عمدا فليقض )
- رواه الخمسة إلا النسائي
-
الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم وله ألفاظ . قال النسائي : وقفه
عطاء على أبي هريرة . وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث هشام عن محمد عن أبي
هريرة تفرد به عيسى بن يونس . وقال البخاري : لا أراه محفوظا وقد روي من غير وجه
ولا يصح إسناده . وقال أبو داود و بعض الحفاظ : لا نراه محفوظا . قال الحافظ :
وأنكره أحمد وقال في روايته ليس من ذا شيء يعني أنه غير محفوظ كما قال الخطابي
وصححه الحاكم على شرطهما
( وفي الباب ) عن ابن عمر موقوفا عند مالك في الموطأ والشافعي بلفظ : ( من استقاء
وهو صائم فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء )
قوله : ( من ذرعه ) قال في التلخيص : هو بفتح الذال المعجمة أي غلبه
قوله : ( من استقاء عمدا ) أي استدعى القيء وطلب خروجه تعمدا
( والحديث ) يدل على أنه لا يبطل صوم من غلبه القيء ولا يجب عليه القضاء ويبطل صوم
من تعمد إخراجه ولم يغلبه ويجب عليه القضاء . وقد ذهب إلى هذا علي وابن عمر وزيد
بن أرقم وزيد بن علي والشافعي والناصر والإمام يحيى حكى ذلك عنهم في البحر . وحكى
ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفسد الصيام
وقال ابن مسعود وعكرمة وربيعة والهادي والقاسم : إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالبا
أو مستخرجا ما لم يرجع منه شيء باختيار واستدلوا بحديث أبي سعيد المتقدم في الباب
الذي قبل هذا بلفظ : ( ثلاث لا يفطرن القيء والحجامة والاحتلام ) وأجيب بأن فيه
المقال المتقدم فلا ينتهض معه للاستدلال . ولو سلم صلاحيته لذلك فهو محمول كما قال
البيهقي على من ذرعه القيء وهذا لا بد منه لأن ظاهر حديث أبي سعيد أن القيء لا
يفطر مطلقا وظاهر حديث أبي هريرة أنه يفطر نوع منه خاص فيبني العام على الخاص
ويؤيد حديث أبي هريرة ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الجارود
وابن حبان والدارقطني والبيهقي والطبراني وابن منده والحاكم [ ص 281 ] من حديث أبي
الدرداء : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاء فأفطر )
قال معدان ابن أبي طلحة الراوي له عن أبي الدرداء : فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت
له أن أبا الدرداء أخبرني فذكره فقال : صدق أنا صببت عليه وضوءه . قال ابن منده :
إسناده صحيح متصل وتركه الشيخان لاختلاف في إسناده . قال الترمذي : جوده حسين
المعلم وهو أصح شيء في هذا الباب وكذلك قال أحمد . قال البيهقي : هذا حديث مختلف
في إسناده فإن صح فهو محمول على القيء عامدا وكأنه كان صلى الله عليه وآله وسلم
صائما تطوعا وقال في موضع آخر : إسناده مضطرب ولا تقوم به حجة
2 -
وعن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده : ( عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال : ليتقه الصائم )
- رواه أبو داود والبخاري في تاريخه . وفي إسناده مقال قريب . قال ابن معين : عبد
الرحمن هذا ضعيف وقال أبو حاتم الرازي : هو صدوق
-
الحديث قال ابن معين أيضا : هو منكر . وقال الذهبي : إنه روي عن سعيد بن إسحاق
فقلب اسمه أولا فقال عن إسحاق بن سعيد بن كعب ثم غلط في الحديث فقال عن أبيه عن
جده ثم النعمان بن معبد غير معروف . وقد استدل بهذا الحديث ابن شبرمة وابن أبي
ليلى فقالا : إن الكحل يفسد الصوم وخالفهم العترة والفقهاء وغيرهم فقالوا : إن
الكحل لا يفسد الصوم وأجابوا عن الحديث بأنه ضعيف لا ينتهض للاحتجاج به
واستدل ابن شبرمة وابن أبي ليلى بما أخرجه البخاري تعليقا ووصله البيهقي
والدارقطني وابن أبي شيبة من حديث ابن عباس بلفظ : ( الفطر مما دخل والوضوء مما
خرج ) قال : وإذا وجد طعمه فقد دخل ويجاب بأن في إسناده الفضل بن المختار وهو ضعيف
جدا وفيه أيضا شعبة مولى ابن عباس وهو ضعيف
وقال ابن عدي : الأصل في هذا الحديث أنه موقوف . وقال البيهقي : لا يثبت مرفوعا
ورواه سعيد بن منصور موقوفا من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عنه . ورواه الطبراني من
حديث أبي أمامة . قال الحافظ : وإسناده أضعف من الأول . ومن حديث ابن عباس مرفوعا
( واحتج الجمهور ) على أن الكحل لا يفسد الصوم بما أخرجه ابن ماجه عن عائشة أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم [ ص 282 ] وفي إسناده بقية
عن الزبيدي عن هشام عن عروة والزبيدي المذكور اسمه سعيد ابن أبي سعيد ذكره ابن عدي
وأورد هذا الحديث في ترجمته وكذا قال البيهقي وصرح به في روايته وزاد أنه مجهول
وقال النووي في شرح المهذب : رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من رواية بقية عن سعد بن
أبي سعيد وهو ضعيف قال : وقد اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين مردودة
انتهى
قال الحافظ : وليس سعيد ابن أبي سعيد بمجهول بل هو ضعيف واسم أبيه عبد الجبار على
الصحيح وفرق ابن عدي بين سعيد بن أبي سعيد الزبيدي فقال هو مجهول وسعيد بن عبد
الجبار فقال هو ضعيف وهما واحد . ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله بن أبي
رافع عن أبيه عن جده : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتحل وهو صائم
) . قال ابن أبي حاتم عن أبيه : هذا حديث منكر وقال في محمد : إنه منكر الحديث
وكذا قال البخاري ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر قال في التلخيص :
وسنده مقارب
ورواه ابن أبي عاصم في كتاب الصيام له من حديث ابن عمر أيضا بلفظ : ( خرج علينا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيناه مملوءتان من الإثمد وذلك في رمضان وهو
صائم ) ورواه الترمذي من حديث أنس في الأذن فيه لمن اشتكت عينه . وقال : إسناده
ليس بالقوي ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب شيء
ورواه أبو داود من فعل أنس قال الحافظ : ولا بأس بإسناده قال : وفي الباب عن بريرة
مولاة عائشة في الطبراني . وعن ابن عباس في شعب الإيمان للبيهقي والظاهر ما ذهب
إليه الجمهور لأن البراءة الأصلية لا تنتقل عنها إلا بدليل وليس في الباب ما يصلح
للنقل لا سيما بعد أن شد هذا الحديث من عضدها وعلى فرض صلاحية حديث الفطر مما دخل
للاحتجاج به يكون اكتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخصصا للكحل وكذلك على فرض
صلاحية حديث الباب يكون محمولا على الأمر باجتناب الكحل المطيب لأن المروح هو
المطيب فلا يتناول ما لا طيب فيه ويمكن أن يقال حديث الاكتحال صارف للأمر عن
حقيقته أعني الوجوب فيكون الاكتحال مكروها ولكنه يبعد أن يفعل صلى الله عليه وآله
وسلم ما هو مكروه
قوله : ( بالإثمد ) بكسر الهمزة وهو حجر للكحل كما في القاموس [ ص 283 ]
باب من أكل أو شرب ناسيا
1 -
عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من نسي وهو صائم
فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما الله أطعمه وسقاه )
- رواه الجماعة إلا النسائي . وفي لفظ : ( إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا
فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه ) رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح .
وفي لفظ : ( من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة ) قال الدارقطني
: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري
-
لفظ الدارقطني الأول أخرجه من رواية محمد بن عيسى بن الطباع عن ابن علية عن هشام
عن ابن سيرين عنه وقال بعد قوله إسناده صحيح : إن رواته كلهم ثقات
واللفظ الثاني أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم قال الحافظ في بلوغ المرام
: وهو صحيح وقد تعقب قول الدارقطني إنه تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاري بأن ابن
خزيمة أيضا أخرجه عن إبراهيم بن محمد الباهلي عن الأنصاري وبأن الحاكم أخرجه من
طريق أبي حاتم الرازي عن الأنصاري أيضا قال الأنصاري هو المتفرد به كما قال
البيهقي وهو ثقة
قال في الفتح : والمراد أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان . وقد
أخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا : ( من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء
عليه ) قال الحافظ : وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات الحديث
بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل
بما هو دونه في القوة ويعتضد أيضا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالف
لهم كما قال ابن المنذر وابن حزم وغيرهما منهم علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة وابن
عمر ثم هو موافق لقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } فالنسيان ليس من
كسب القلوب وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه انتهى
( وقد ذهب إلى هذا الجمهور ) فقالوا من أكل ناسيا فلا يفسد صومه ولا قضاء عليه ولا
كفارة . وقال مالك وابن أبي ليلى والقاسمية : إن من أكل ناسيا فقد بطل صومه ولزمه
القضاء واعتذر بعض [ ص 284 ] المالكية عن الحديث بأنه خبر واحد مخالف للقاعدة وهو
اعتذار باطل
( والحديث ) قاعدة مستقلة في الصيام ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما
بقي من الحديث إلا القليل ولرد من شاء ما شاء
وأجاب بعضهم أيضا بحمل الحديث على التطوع حكاه ابن التين عن ابن شعبان وكذا قاله
ابن القصار واعتذر بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان وهو حمل غير صحيح واعتذار
فاسد يرده ما وقع في حديث الباب من التصريح بالقضاء ومن الغرائب تمسك بعض
المتأخرين في فساد الصوم ووجوب القضاء بما وقع في حديث المجامع بلفظ : ( واقض يوما
مكانه ) قال : ولم يسأله هل جامع عامدا أو ناسيا وهذا يرده ما وقع في أول الحديث
فإنه عند سعيد بن منصور بلفظ : ( فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تب إلى
الله واستغفره وتصدق واقض يوما مكانه ) والتوبة والاستغفار إنما يكونان عن العمد
لا عن الخطأ وأيضا بعد تسليم تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم يكون حديث الباب
مخصصا له فلم يبق ما يوجب ترك العمل بالحديث
وأما اعتذار ابن دقيق العيد عن الحديث بأن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات
والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات فيجاب عنه بأن غاية هذه القاعدة المدعاة
أن تكون بمنزلة الدليل فيكون حديث الباب مخصصا لها
قوله : ( فإنما الله أطعمه وسقاه ) هو كناية عن عدم الإثم لأن الفعل إذا كان من
الله كان الإثم منتفيا
قوله : ( من أفطر يوما من رمضان ) ظاهره يشمل المجامع . وقد اختلف فيه فبعضهم لم
ينظر إلى هذا العموم وقال إنه ملحق بمن أكل أو شرب وبعضهم منع من الإلحاق لقصور
حالة المجامع عن حالة الآكل والشارب . وفرق بعضهم بين الأكل والشرب القليل والكثير
وظاهر الحديث عدم الفرق . ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد عن أم إسحاق أنها كانت عند
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة
فقال لها ذو اليدين الآن بعد ما شبعت فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (
أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك ) [ ص 285 ]
باب التحفظ من الغيبة واللغو وما يقول إذا شتم
1 -
عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كان يوم صوم أحدكم
فلا يرفث يومئذ ولا يصخب فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم والذي نفس
محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما إذا
أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه )
- متفق عليه
2 -
وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من لم يدع قول
الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )
- رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي
-
قوله : ( فلا يرفث ) بضم الفاء وكسرها ويجوز في ماضيه التثليث والمراد به هنا
الكلام الفاحش وهو بهذا المعنى بفتح الراء والفاء وقد يطلق على الجماع وعلى
مقدماته وعلى ذكر ذلك مع النساء أو مطلقا
قال في الفتح : ويحتمل أن يكون النهي لما هو أعم منها . وفي رواية : ولا يجهل أي
لا يفعل شيئا من أفعال الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك :
قوله : ( ولا يصخب ) الصخب هو الرجة واضطراب الأصوات للخصام . قال القرطبي : لا
يفهم من هذا أن غير يوم الصوم يباح فيه ما ذكر وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد
بالصوم
قوله : ( أو قاتله ) يمكن حمله على ظاهره ويمكن أن يراد بالقتل اللعن فيرجع إلى
معنى الشتم ولا يمكن حمل قاتله وشاتمه على الفاعلة لأن الصائم مأمور بأن يكف نفسه
عن ذلك فكيف يقع ذلك وإنما المعنى إذا جاء متعرضا لمقاتلته أو مشاتمته كأن يبدأه
بقتل أو شتم اقتضت العادة أن يكافئه عليها فالمراد بالمفاعلة إرادة غير الصائم ذلك
من الصائم وقد تطلق المفاعلة على وقوع الفعل من واحد كما يقال عالج الأمر وعاناه
قال في الفتح : وأبعد من حمله على ظاهره فقال المراد إذا بدرت من الصائم مقابلة
الشتم بالشتم على مقتضى الطبع فلينزجر عن ذلك ومما يبعد ذلك ما وقع في رواية فإن
شتمه أحد
قوله : ( إني امرؤ صائم ) في رواية لابن خزيمة بزيادة : ( وإن كنت قائما فاجلس )
ومن الرواة من ذكر قوله ( إني امرؤ صائم مرتين )
واختلف في المراد بقوله إني صائم هل يخاطب بها الذي [ ص 286 ] يشتمه ويقاتله أو
يقولها في نفسه وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة ورجح النووي في
الأذكار الأول وقال في شرح المهذب : كل منهما حسن والقول باللسان أقوى ولو جمعهما
لكان حسنا وقال الروياني : إن كان رمضان فليقل بلسانه وإن كان غيره فليقله في نفسه
. وادعى ابن العربي أن موضع الخلاف في التطوع وأما في الفرض فليقله بلسانه قطعا
قوله : ( والذي نفس محمد بيده ) هذا القسم لقصد التأكيد
قوله : ( لخلوف ) بضم المعجمة واللام وسكون الواو وبعدها فاء قال عياض : هذه
الرواية الصحيحة وبعض الشيوخ يقول بفتح الخاء . قال الخطابي : وهو خطأ وحكى عن
القابسي الوجهين وبالغ النووي في شرح المهذب فقال : لا يجوز فتح الخاء واحتج غيره
لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة ذكرها سيبويه وغيره وليس هذا
منها والخلوف تغير رائحة الفم
قوله : ( أطيب عند الله من ريح المسك ) اختلف في معناه فقال المازري : هو مجاز
لأنها جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك لتقريب الصائم من الله
فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك
إليكم وإلى ذلك أشار ابن عبد البر وإنما جعل من باب المجاز لأن الله تعالى منزه عن
استطابة الروائح لأن ذلك من صفات الحيوان والله يعلم الأشياء على ما هي عليه .
وقيل المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على خلاف ما عندكم وقيل المراد "
ن الله يجازيه في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي المكلوم وريح
جرحه يفوح مسكا قاله القاضي عياض والمراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من
ريح المسك حكاه القاضي عياض أيضا
وقال الداودي من المغاربة : المعنى أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك حيث ندب إليه في
الجمع والأعياد ومجالس الذكر ورجحه النووي وقد اختلف هل ذلك في الدنيا أو في
الآخرة فقال بالأول ابن الصلاح وبالثاني ابن عبد السلام . واحتج ابن الصلاح بما
أخرجه ابن حبان بلفظ : ( فم الصائم حين يخلف من الطعام ) وكذا أخرجه أحمد وبما
أخرجه أيضا الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي في الشعب من حديث جابر بلفظ : ( فإن
خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك ) قال المنذري : إسناده مقارب واحتج
ابن الصلاح أيضا بأن ما قاله هو ما ذهب إليه الجمهور . واحتج ابن عبد السلام على
ما قاله بما في مسلم وأحمد والنسائي : ( أطيب عند الله يوم القيامة ) وأخرج أحمد
هذه الزيادة من وجه آخر ويترتب على هذا الخلاف القول بكراهة السواك للصائم وقد
تقدم البحث عنه [ ص 287 ] في موضعه
قوله : ( للصائم فرحتان إذا أفطر ) الخ قال القرطبي : معناه فرح بزوال جوعه وعطشه
حيث أبيح له الفطر وهذا الفرح طبيعي وهو السابق إلى الفهم وقيل أن فرحه لفطره إنما
هو من حيث أنه تمام صومه وخاتمة عبادته . قال في الفتح : ولا مانع من الحمل على ما
هو أعم مما ذكر ففرح كل واحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في ذلك فمنهم من يكون
فرحه مباحا وهو الطبيعي ومنهم من يكون مستحبا وهو أن يكون لتمام العبادة والمراد
بالفرح إذا لقي ربه أنه يفرح بما يحصل له من الجزاء والثواب
قوله : ( الزور والعمل به ) زاد البخاري في رواية والجهل . وأخرج الطبراني من حديث
أنس : ( من لم يدع الخنى والكذب ) قال الحافظ : ورجاله ثقات والمراد بالزور الكذب
قوله : ( فليس لله حاجة ) الخ قال ابن بطال : ليس معناه أنه يؤمر بأن يدع صيامه
وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه قال في الفتح : ولا مفهوم لذلك فإن
الله لا يحتاج إلى شيء وإنما معناه فليس لله إرادة في صيامه فوضع الحاجة موضع
الإرادة . وقال ابن المنير في حاشيته على البخاري : بل هو كناية عن عدم القبول كما
يقول المغضب لمن رد عليه شيئا طلبه منه فلم يقم به لا حاجة لي في كذا . وقال ابن
العربي : مقتضى هذا الحديث أن لا يثاب على صيامه ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في
الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه واستدل بهذا الحديث على أن هذه الأفعال تنقص ثواب
الصوم وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر
باب الصائم يتمضمض أو يغتسل من الحر
1 -
عن عمر قال : ( هششت يوما فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقلت صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم : أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم قلت لا بأس بذلك فقال صلى الله عليه وآله
وسلم : ففيم )
- رواه أحمد وأبو داود
2 -
وعن أبي بكر بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (
رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم )
- رواه أحمد وأبو داود
-
الحديث الأول أخرجه أيضا النسائي وقال : إنه منكر . وقال أبو بكر البزار : [ ص 288
] لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم
والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي ورجال إسناده رجال الصحيح
قوله : ( هششت ) بشينين معجمتين أي نشطت وارتحت والهشاش في الأصل الارتياح والخفة
والنشاط كذا في القاموس
قوله : ( أرأيت لو تمضمضت ) الخ فيه إشارة إلى فقه بديع وهو أن المضمضة لا تنقض
الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه فكذلك القبلة لا تنقضه وهي من دواعي الجماع وأوائله
التي تكون مفتاحا له والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع فكلما ثبت عند عمر أن
أوائل الشرب لا تفسد الصيام كذلك أوائل الجماع لا تفسده وسيأتي الخلاف في التقبيل
قوله : ( يصب الماء على رأسه ) الخ فيه دليل على أنه يجوز للصائم أن يكسر الحر بصب
الماء على بعض بدنه أو كله وقد ذهب إلى ذلك الجمهور ولم يفرقوا بين الأغسال
الواجبة والمسنونة والمباحة . وقالت الحنفية : إنه يكره الاغتسال للصائم واستدلوا
بما أخرجه عبد الرزاق عن علي من النهي عن دخول الصائم الحمام وهو مع كونه أخص من
محل النزاع في إسناده ضعف كما قال الحافظ
واعلم أنه يكره للصائم المبالغة في المضمضة والاستنشاق لحديث الأمر بالمبالغة في
ذلك إلا أن يكون صائما وقد تقدم . واختلف إذا دخل من ماء المضمضة والاستنشاق إلى
جوفه خطأ فقالت الحنفية والقاسمية ومالك والشافعي في أحد قوليه والمزني : إنه يفسد
الصوم
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق والأوزاعي والناصر والإمام يحيى وأصحاب الشافعي : إنه لا
يفسد الصوم كالناسي . وقال زيد بن علي : يفسد الصوم بعد الثلاث المرات . وقال
الصادق : يفسد إذا كان التمضمض لغير قربة . وقال الحسن البصري والنخعي : إنه يفسد
إن لم يكن الفريضة
باب الرخصة في القبلة للصائم إلا لمن يخاف على نفسه
1 -
عن أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبلها وهو صائم )
- متفق عليه
2 -
وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل وهو صائم ويباشر
وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه )
- رواه الجماعة إلا النسائي . وفي لفظ : ( كان يقبل في رمضان وهو صائم ) رواه أحمد
ومسلم
3 -
وعن عمر بن أبي سلمة : ( أنه سأل رسول [ ص 289 ] الله صلى الله عليه وآله وسلم
أيقبل الصائم فقال له : سل هذه لأم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يفعل ذلك فقال : يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال
له : أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له )
- رواه مسلم وفيه أن أفعاله حجة
4 -
وعن أبي هريرة : ( أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المباشرة للصائم
فرخص له وأتاه آخر فنهاه عنها فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب )
- رواه أبو داود
-
حديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص وفي إسناده أبو
العنبس الحارث بن عبيد سكتوا عنه وقال في التقريب : مقبول وقد أخرجه ابن ماجه من
حديث ابن عباس ولم يصرح برفعه والبيهقي من حديث عائشة مرفوعا وأخرج نحوه أحمد من
حديث عبد الله بن عمرو
قوله : ( كان يقبلها ) فيه دليل على أنه يجوز التقبيل للصائم ولا يفسد به الصوم .
قال النووي : ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم إلا إن أنزل بها ولكنه متعقب بأن ابن
شبرمة أفتى بإفطار من قبل . ونقله الطحاوي عن قوم ولم يسمهم وقد قال بكراهة
التقبيل والمباشرة على الإطلاق قوم وهو المشهور عند المالكية . وروى ابن أبي شيبة
بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكره القبلة والمباشرة
ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمهما وأباح القبلة مطلقا قوم . قال في الفتح :
وهو المنقول صحيحا عن أبي هريرة قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة وبالغ بعض
الظاهرية فقال : إنها مستحبة . وفرق آخرون بين الشاب والشيخ فأباحوها للشيخ دون
الشاب تمسكا بحديث أبي هريرة المذكور في الباب وما ورد في معناه وبه قال ابن عباس
أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما وفرق آخرون بين من يملك نفسه ومن لا يملك .
واستدلوا بحديث عائشة المذكور في الباب وبه قال سفيان والشافعي ولكنه ليس إلا قولا
لعائشة نعم نهيه صلى الله عليه وآله وسلم للشاب وإذنه للشيخ يدل على أنه لا يجوز
التقبيل لمن خشي أن تغلبه الشهوة وظن أنه لا يملك نفسه عند التقبيل ولذلك ذهب قوم
إلى تحريم التقبيل على من كان تتحرك به شهوته والشاب مظنة لذلك ويعارض حديث أبي
هريرة ما أخرجه النسائي عن عائشة قالت : ( أهوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ليقبلني فقلت إني صائمة فقال وأنا صائم فقبلني ) وعائشة كانت شابة حينئذ إلا أن
يكون حديث أبي هريرة مختصا بالرجال [ ص 290 ] ولكنه بعيد لأن الرجال والنساء سواء
في هذا الحكم . ويمكن أن يقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم من حال عائشة
أنها لا تتحرك شهوتها بالتقبيل
وقد أخرج ابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يمس شيئا من وجهها
وهي صائمة فدل على أنه كان يجنبها ذلك إذا صامت تنزيها منه لها عن تحرك الشهوة
لكونها ليست مثله . وقد دل حديث عمرو بن أبي سلمة المذكور على جواز التقبيل للصائم
من غير فرق بين الشاب وغيره وحديث أبي هريرة أخص منه فيبنى العام على الخاص
( واحتج ) من قال بتحريم التقبيل والمباشرة مطلقا بقوله تعالى { فالآن باشروهن }
قالوا فمنع من المباشرة في هذه الآية نهارا . وأجيب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم هو المبين عن الله تعالى وقد أباح المباشرة نهارا فدل على أن المراد
بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها وغاية ما في الآية أن تكون
عامة في كل مباشرة مخصصة بما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم وما أذن به والمراد
بالمباشرة المذكورة في الحديث ما هو أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى حد الجماع
فيكون قوله كان يقبل ويباشر من ذكر العام بعد الخاص لأن المباشرة في الأصل التقاء
البشرتين ووقع الخلاف فيما إذا باشر الصائم أو قبل أو نظر فأنزل أو أمذى فقال
الكوفيون والشافعي : يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء
وقال مالك وإسحاق : يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في الإمذاء فيقضي فقط واحتج له بأن
الإنزال أقصى ما يطلب في الجماع من الالتذاذ في كل ذلك . وتعقب بأن الأحكام علقت
بالجماع فقط وروى ابن القاسم عن مالك أنه يجب القضاء على من باشرا وقبل فانعظ أنزل
أو لم ينزل أمذى أم لم يمذ وأنكره غيره عن مالك وروى عبد الرزاق عن حذيفة أن من
تأمل خلق امرأة وهو صائم بطل صومه قال في الفتح : وإسناده ضعيف : قال وقال ابن
قدامة : إن قبل فأنزل أفطر بلا خلاف كذا قال وفيه نظر فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر
ولو أنزل وقوى ذلك وذهب إليه
قوله : ( لأربه ) بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته ويروى بكسر الهمزة وسكون
الراء أي عضوه . قال في الفتح : والأول أشهر وإلى ترجيحه أشار البخاري وبما أورده
من التفسير انتهى
( وفي الباب ) عن عائشة عند أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان
يقبلها ويمص لسانها ) قال الحافظ : وإسناده ضعيف ولو صح فهو محمول على أنه لم
يبتلع ريقه الذي خالطه ريقها
وعن رجل من الأنصار [ ص 291 ] عند عبد الرزاق بإسناد صحيح : ( أنه قبل امرأته وهو
صائم فأمر امرأته فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال إني أفعل ذلك
فقال زوجها ترخص الله لنبيه في أشياء فرجعت فقال أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم )
وأخرجه مالك لكنه أرسله
باب من أصبح جنبا وهو صائم
1 -
عن عائشة : ( أن رجلا قال : يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال : لست
مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : والله إني
لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود
2 -
وعن عائشة وأم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصبح جنبا من جماع
غير احتلام ثم يصوم في رمضان )
- متفق عليه
3 -
وعن أم سلمة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبح جنبا من جماع لا
حلم ثم لا يفطر ولا يقضي )
- أخرجاه
-
هذه الأحاديث استدل بها من قال أن من أصبح جنبا فصومه صحيح ولا قضاء عليه من غير
فرق بين أن تكون الجنابة عن جماع أو غيره وإليه ذهب الجمهور وجزم النووي بأنه
استقر الإجماع على ذلك
وقال ابن دقيق العيد : إنه صار ذلك إجماعا أو كالإجماع وقد ثبت من حديث أبي هريرة
ما يخالف أحاديث الباب فأخرج الشيخان عنه : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال :
من أصبح جنبا فلا صوم له ) وقد بقي على العمل بحديث أبي هريرة هذا بعض التابعين
كما نقله الترمذي . ورواه عبد الرزاق عن عروة بن الزبير وحكاه ابن المنذر عن طاوس
. قال ابن بطال : وهو أحد قولي أبي هريرة قال الحافظ : ولم يصح عنه لأن ابن المنذر
رواه عنه من طريق أبي المهزم وهو ضعيف
وحكى ابن المنذر أيضا عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر أنه يتم صومه ثم
يقضيه . وروى عبد الرزاق عن عطاء مثل قولهما . قال في الفتح : ونقل بعض المتأخرين
عن الحسن بن صالح بن حي إيجاب القضاء والذي نقله عنه الطحاوي استحبابه . ونقل ابن
[ ص 292 ] عبد البر عنه . وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض دون التطوع . ونقل
الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حق الجنب وأما المحتلم فأجمعوا على أنه
يجزئه
وتعقبه الحافظ بما أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه أفتى من أصبح جنبا
من احتلام أن يفطر . وفي رواية أخرى عنه عند النسائي أيضا : ( من احتلم من الليل
أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم ) وأجاب القائلون بأن من أصبح جنبا
يفطر عن أحاديث الباب بأجوبة منها أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم ورده
الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل وبأن حديث عائشة المذكور في أول الباب
يقتضي عدم اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك . وجمع بعضهم بين الحديثين بأن
الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الأفضل فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو
خالف جاز فيحمل حديث عائشة على بيان الجواز
وقد نقل النووي هذا الجمع عن أصحاب الشافعي وتعقبه الحافظ بأن الذي نقله البيهقي
وغيره عن أصحاب الشافعي هو سلوك طريقة الترجيح
وعن ابن المنذر وغيره سلوك النسخ وبالنسخ قال الخطابي . وقواه ابن دقيق العيد بأن
قوله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } يقتضي إباحة الوطء في ليلة
الصوم ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن
يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه . ويقوي ذلك أن قول الرجل للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر يدل على أن ذلك كان بعد نزول
الآية وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ست وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية
ويؤيد دعوى النسخ رجوع أبي هريرة عن الفتوى بذلك كما في رواية للبخاري أنه لما
أخبر بما قالت أم سلمة وعائشة فقال هما أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفي رواية ابن جريج فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك وكذا وقع عند النسائي أنه
رجع وكذا عند ابن أبي شيبة وفي رواية للنسائي أن أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن
عباس ووقع نحو ذلك في البخاري وقال أنه حدثه بذلك الفضل
وفي رواية أنه قال حدثني بذلك أسامة وأما ما أخرجه ابن عبد البر عن أبي هريرة أنه
قال كنت حدثتكم من أصبح جنبا فقد أفطر وأن ذلك من كيس أبي هريرة فقال الحافظ لا
يصح ذلك عن أبي هريرة لأنه من رواية [ ص 293 ] عمر بن قيس وهو متروك ومن حجج من
سلك طريق الترجيح ما قاله ابن عبد البر أنه صح وتواتر حديث عائشة وأم سلمة وأما
حديث أبي هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي بذلك وأيضا رواية اثنين مقدمة على
رواية واحد ولا سيما وهما زوجتان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والزوجات أعلم
بأحوال الأزواج وأيضا روايتهما موافقة للمنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية
وللمعقول وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال وليس في فعله شيء يحرم على الصائم فإن
الصائم قد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يفسد صومه بل يتمه إجماعا
قوله : ( ولا يقضي ) عزاه المصنف إلى البخاري ومسلم ولم نجده في البخاري بل هو مما
انفرد به مسلم فينظر في ذلك
باب كفارة من أفسد صوم رمضان بالجماع
1 -
عن أبي هريرة قال : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : هلكت يا
رسول الله قال : وما أهلكك قال : وقعت على امرأتي في رمضان قال : هل تجد ما تعتق
رقبة قال : لا قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال : لا قال : فهل تجد ما
تطعم ستين مسكينا قال : لا قال : ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرق
فيه تمر قال : تصدق بهذا قال : فهل على أفقر منا فما بين لابتيها أهل البيت أحوج
إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه وقال : اذهب فأطعمه
أهلك )
- رواه الجماعة . وفي لفظ ابن ماجه قال : ( أعتق رقبة قال : لا أجدها قال : صم
شهرين متتابعين قال : لا أطيق قال : أطعم ستين مسكينا ) وذكره وفيه دلالة قوية على
الترتيب . ولابن ماجه وأبي داود في رواية : ( وصم يوما مكانه ) وفي لفظ للدارقطني
فيه : ( فقال : هلكت وأهلكت فقال : ما أهلكك قال : وقعت على أهلي ) وذكره . وظاهر
هذا أنها كانت مكرهة
- في
الباب عن عائشة عند الشيخين ولفظ الدارقطني الذي ذكره المصنف قال الخطابي : إنه
تفرد به معلى بن منصور عن ابن عيينة وذكر البيهقي أن الحاكم نظر في كتاب معلى بن
منصور فلم يجد هذه اللفظة يعني هلكت وأهلكت وأخرجها من رواية الأوزاعي وذكر أنها
أدخلت على بعض الرواة في حديثه وأن أصحابه [ ص 294 ] لم يذكروها . قال الحافظ :
وقد رواها الدارقطني من رواية سلامة بن روح عن عقيل عن ابن شهاب
قوله : ( جاء رجل ) قال عبد الغني في المبهمات : إن اسمه سلمان أو سلمة بن صخر
البياضي . ويؤيده ما وقع عند ابن أبي شيبة عن سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته
وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن سعيد بن المسيب أنه سلمان ابن صخر
قوله : ( هلكت ) استدل به على أنه كان عامدا لأن الهلاك مجاز عن العصيان المؤدي
إلى ذلك فكأنه جعل المتوقع كالواقع مجازا فلا يكون في الحديث حجة على وجوب الكفارة
على الناسي وبه قال الجمهور . وقال أحمد وبعض المالكية : إنها تجب على الناسي
واستدلوا بتركه صلى الله عليه وآله وسلم للاستفصال وهو ينزل منزلة العموم
قال في الفتح : والجواب أنه قد تبين حاله بقوله ( هلكت واحترقت ) وأيضا وقوع
النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد
قوله : ( وقعت على امرأتي ) في رواية : ( أن رجلا أفطر في رمضان ) وبهذا استدلت
المالكية على وجوب الكفارة على من أفطر في رمضان بجماع أو غيره والجمهور حملوا
المطلق على المقيد وقالوا لا كفارة إلا في الجماع
قوله : ( رقبة ) استدلت الحنفية بإطلاق الرقبة على جواز إخراج الرقبة الكافرة
وأجيب عن ذلك بأنه يحمل المطلق على المقيد في كفارة القتل وبه قال الجمهور والخلاف
في المسألة مبسوط في الأصول
قوله : ( ستين مسكينا ) قال ابن دقيق العيد : أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى
ستين فلا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلا وبه قال
الجمهور . وقالت الحنفية : إنه لو أطعم الجميع مسكينا واحدا في ستين يوما كفى ويدل
على قولهم قوله ( فأطعمه أهلك ) وفي ذلك دليل على أن الكفارة تجب بالجماع خلافا
لمن شذ فقال لا تجب مستندا إلى أنها لو كانت واجبة لما سقطت بالإعسار وتعقب بمنع
السقوط كما سيأتي وفيه أيضا دليل على أنه يجزئ التكفير بكل واحدة من الثلاث الخصال
وروي عن مالك أنه لا يجزئ إلا الإطعام والحديث يرد عليه وظاهر الحديث أنه لا يجزئ
التكفير بغير هذه الثلاث وروي عن سعيد بن المسيب أنه يجزئ إهداء البدنة كما في
الموطأ عنه مرسلا
وقد روى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب أنه كذب من نقل عنه ذلك . وظاهر الحديث
أيضا أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب قال ابن العربي : لأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم نقله من أمر بعد [ ص 295 ] عدمه إلى أمر آخر وليس هذا شأن التخيير
ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك فقال : إن مثل هذا السؤال قد
يستعمل فيما هو على التخيير وقرره ابن المنير
قال البيضاوي : إن ترتيب الثاني على الأول والثالث على الثاني بالفاء يدل على عدم
التخيير مع كونها في معرض البيان وجواب السؤال فتنزل منزلة الشرط وإلى القول
بالترتيب ذهب الجمهور . وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير والذين
رووا الترتيب أكثر ومعهم الزيادة وجمع المهلب والقرطبي بين الروايات بتعدد الواقعة
قال الحافظ : وهو بعيد لأن القصة واحدة والمخرج متحد والأصل عدم التعدد وجمع بعضهم
بحمل الترتيب على الأولوية والتخيير على الجواز وعكسه بعضهم
قوله : ( فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) بضم الهمزة للأكثر على البناء
للمجهول والرجل الآتي لم يسم . ووقع في رواية للبخاري : ( فجاء رجل من الأنصار )
وفي أخرى للدارقطني : ( رجل من ثقيف )
قوله : ( بعرق فيه تمر ) بفتح المهملة والراء بعدها قاف وفي رواية القابسي بإسكان
الراء وقد أنكر ذلك عليه والصواب الفتح كما قال عياض
وقال الحافظ : الإسكان ليس بمنكر وهو الزنبيل والزنبيل هو المكتل قال في الصحاح :
المكتل يشبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعا ووقع عند الطبراني في الأوسط أنه أتى بمكتل
فيه عشرون صاعا فقال تصدق بهذا وفي إسناده ليث ابن أبي سليم ووقع مثل ذلك عند ابن
خزيمة من حديث عائشة وفي مسلم عنها فجاءه عرقان فيهما طعام
قال في الفتح : ووجهه أن التمر كان في عرق لكنه كان في عرقين في حال التحميل على
الدابة ليكون أسهل فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر فمن قال عرقان
أراد ابتداء الحال ومن قال عرق أراد ما آل إليه وقد ورد في تقدير الإطعام حديث علي
عند الدارقطني بلفظ : ( يطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد ) وفيه : ( فأتى بخمسة عشر
صاعا فقال أطعمه ستين مسكينا ) وكذا عند الدارقطني من حديث أبي هريرة . قال الحافظ
: من قال عشرون أراد أصل ما كان عليه ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما يقع به الكفارة
قوله : ( تصدق بهذا ) استدل به وبما قبله من قال أن الكفارة تجب على الرجل فقط وبه
قال الأوزاعي وهو الأصح من قولي الشافعي . وقال الجمهور تجب على المرأة على اختلاف
بينهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل واستدل
الشافعي بسكوته عن [ ص 296 ] إعلام المرأة في وقت الحاجة وتأخير البيان عنها لا
يجوز ورد بأنها لم تعترف ولم تسأل فلا حاجة ولا سيما مع احتمال أن تكون مكرهة كما
يرشد إلى ذلك قوله في رواية الدارقطني : ( هلكت وأهلكت )
قوله : ( فهل على أفقر منا ) هذا يدل على أنه فهم من الأمر له بالتصدق أن يكون
المتصدق عليه فقيرا
قوله : ( فما بين لابتيها ) بالتخفيف تثنية لابة وهي الحرة والحرة الأرض التي فيها
حجارة سود يقال لابة ولوبة ونوبة بالنون حكاهن الجوهري وجماعة من أهل اللغة
والضمير عائد إلى المدينة أي ما بين حرتي المدينة
قوله : ( فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) قيل سبب ضحكه ما شاهده من حال
الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبا في فدائها مهما أمكنه فلما وجد الرخصة طمع في
أن يأكل ما أعطيه في الكفارة . وقيل ضحك من بيان الرجل في مقاطع كلامه وحسن بيانه
وتوسله إلى مقصوده
وظاهر هذا أنه وقع منه ضحك يزيد على التبسم فيحمل ما ورد في صفته صلى الله عليه
وآله وسلم أن ضحكه كان التبسم على غالب أحواله
قوله : ( فأطعمه أهلك ) استدل به على سقوط الكفارة بالإعسار لما تقرر من أنها لا
تصرف في النفس والعيال ولم يبين له صلى الله عليه وآله وسلم استقرارها في ذمته إلى
حين يساره وهو أحد قولي الشافعي وجزم به عيسى بن دينار من المالكية وقال الجمهور
لا تسقط بالإعسار قالوا وليس في الخبر ما يدل على سقوطها عن المعسر بل فيه ما يدل
على استقرارها عليه قالوا أيضا والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة
وقيل المراد بالأهل المذكورين من لا تلزمه نفقتهم وبه قال بعض الشافعية ورد بما
وقع من التصريح في رواية بالعيال وفي أخرى من الأذن له بالأكل وقيل لما كان عاجزا
عن نفقة أهله جاز له أن يفرق الكفارة فيهم . وقيل غير ذلك وقد طول الكلام عليه في
الفتح
قوله : ( وصم يوما مكانه ) يعني مكان اليوم الذي جامع فيه قال الحافظ : وقد ورد
الأمر بالقضاء في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري وأخرجه
البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري . وحديث إبراهيم بن سعد في
الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة . وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين
بدونها ووقعت الزيادة أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن
كعب . وبمجموع هذه الطرق الأربع يعرف أن [ ص 297 ] لهذه الزيادة أصلا وقد حكى عن
الشافعي أنه لا يجب عليه القضاء واستدل له بأنه لم يقع التصريح في الصحيحين
بالقضاء ويجاب بأن عدم الذكر له في الصحيحين لا يستلزم العدم وقد ثبت عند غيرهما
كما تقدم . وظاهر إطلاق اليوم عدم اشتراط الفورية
باب كراهة الوصال
1 - عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الوصال فقالوا : إنك تفعله فقال : إني لست كأحدكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني )
2 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إياكم والوصال فقيل : إنك تواصل قال : إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فاكلفوا من العمل ما تطيقون )
3 -
وعن عائشة قالت : ( نهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصال رحمة لهم
فقالوا : إنك تواصل قال : إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني )
- متفق عليهن
4 -
وعن أبي سعيد : ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تواصل
فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر قالوا : إنك تواصل يا رسول الله قال : لست
كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني )
- رواه البخاري وأبو داود
-
وفي الباب عن أنس عند الشيخين . وعن بشير بن الخصاصية عند أحمد بلفظ : ( أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الوصال وقال : إنما يفعل ذلك النصارى )
وأخرجه أيضا الطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد قال في الفتح : إسناده صحيح .
وعن أبي ذر عند الطبراني في الأوسط
وعن رجل من الصحابة عند أبي داود وغيره قال في الفتح : وإسناده صحيح بلفظ : ( نهى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما ) وقد تقدم
قوله : ( يطعمني ربي ويسقيني ) قال في الفتح : اختلف في معناه فقيل هو على حقيقته
وأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي
صيامه وتعقبه ابن بطال ومن تبعه بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا وبأن قوله أظل يدل
على وقوع ذلك في النهار . وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ أبيت دون أظل وعلى
تقدير الثبوت فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى من حمل [ ص 298 ] لفظ ظل
على المجاز وعلى التنزل فلا يضر شيء من ذلك لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل
الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا يجري عليه أحكام المكلفين
وقال الزين ابن المنير : هو محمول على أن أكله وشربه في تلك الحال كحالة النائم
الذي يحصل له الشبع والري بالأكل والشرب ويستمر له ذلك حتى يستيقظ فلا يبطل بذلك
صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص من أجره . وقال الجمهور : هو مجاز عن لازم الطعام
والشراب وهو القوة فكأنه قال يعطيني قوة الآكل الشارب وهذا هو الظاهر
قوله : ( إياكم والوصال ) وقع في رواية لأحمد مرتين . وفي رواية لمالك ثلاث مرات
وإسنادها صحيح
قوله : ( فاكلفوا ) بسكون الكاف وبضم اللام أي احملوا من المشقة في ذلك ما تطيقون
. وحكى عياض عن بعضهم أنه قال : هو بهمزة قطع ولا يصح لغة
قوله : ( رحمة لهم ) استدل به من قال أن الوصال مكروه غير محرم وذهب الأكثر إلى
تحريم الوصال . وعن الشافعية وجهان التحريم والكراهة
( وأحاديث ) الباب تدل على ما ذهب إليه الجمهور وأجابوا بأن قوله رحمة لا يمنع
التحريم فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم . ومن أدلة القائلين بعدم التحريم ما ثبت
عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه واصل بأصحابه لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال فواصل
بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبوا أن
ينتهوا هكذا في البخاري وغيره وأجاب الجمهور عن ذلك بأن مواصلته صلى الله عليه
وآله وسلم بهم بعد نهيه لهم فلم يكن تقريرا بل تقريعا وتنكيلا واحتمل ذلك منهم
لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي وكان ذلك
أدعى إلى قبولهم لما يترتب عليه من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه
وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك . ومن الأدلة على أن الوصال غير محرم
حديث الرجل من الصحابة الذي قدمنا ذكره فإنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لم يحرم الوصال . ومنها ما رواه البزار والطبراني من حديث سمرة قال : ( نهى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصال وليس بالعزيمة ) ومنها إقدام الصحابة على
الوصال بعد النهي فإن ذلك يدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم كما قال
الحافظ . وقد ذهب إلى جوازه مع عدم المشقة عبد الله بن الزبير وروى ابن أبي شيبة
عنه بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما وذهب [ ص 299 ] إليه من الصحابة أخت
أبي سعيد ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزبير
وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبو الجوزاء كما في الفتح وهو الظاهر فلا أقل من أن تكون
هذه الأدلة التي ذكروها صارفة للنهي عن الوصال عن حقيقته وذهبت الهادوية إلى كراهة
الوصال مع عدم النية وحرمته مع النية
وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى
السحر لحديث أبي سعيد المذكور في الباب . ومثله ما أخرجه الطبراني من حديث جابر :
( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يواصل من سحر إلى سحر ) وأخرجه أحمد وعبد
الرزاق من حديث علي فإن كان اسم الوصال إنما يصدق على إمساك جميع الليل فلا معارضة
بين الأحاديث وإن كان يصدق على أعم من ذلك فيبني العام على الخاص ويكون المحرم ما
زاد على الإمساك إلى ذلك الوقت
باب آداب الإفطار والسحور
1 - عن ابن عمر قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم )
2 -
وعن سهل بن سعد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يزال الناس بخير ما
عجلوا الفطر )
- متفق عليهما
3 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله عز و جل أن
أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا )
- رواه أحمد والترمذي
-
حديث أبي هريرة قال الترمذي : حديث حسن غريب . وفي الباب عن عائشة عند الترمذي
وصححه : ( أنها سئلت عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما يعجل
الإفطار ويعجل الصلاة والآخر يؤخر الإفطار ويؤثر الصلاة فقالت : أيهما يعجل
الإفطار ويعجل الصلاة فقيل لها عبد الله بن مسعود قالت : هكذا صنع رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ) . والآخر أبو موسى
وعن أبي هريرة حديث آخر عند أبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ قال : ( قال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم : لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود
والنصارى يؤخرون )
وعن سهل بن سعد حديث آخر عند ابن حبان والحاكم بلفظ : ( لا تزال أمتي على سنتي ما
لم تنتظر بفطرها [ ص 300 ] النجوم ) وعن أبي ذر عند أحمد وسيأتي . وعن ابن عباس
وأنس أشار إليهما الترمذي . قال ابن عبد البر : أحاديث تعجيل الإفطار وتأخير
السحور صحاح متواترة . وأخرج عبد الرزاق وغيره بإسناد قال الحافظ : صحيح عن عمرو
بن ميمون الأودي قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسرع الناس إفطارا
وأبطأهم سحورا
قوله : ( إذا أقبل الليل ) زاد البخاري في رواية : ( من ههنا وأشار بإصبعيه قبل
الشرق ) والمراد وجود الظلمة
قوله : ( وأدبر النهار ) زاد البخاري في رواية ( من ههنا ) يعني من جهة المغرب
قوله : ( وغابت الشمس ) في رواية للبخاري وغربت الشمس ذكر في هذا الحديث ثلاثة
أمور وهي وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة فقد يظن
إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس
وكذلك إدبار النهار فمن ثم قيد بغروب الشمس
قوله : ( فقد أفطر الصائم ) أي دخل في وقت الفطر كما يقال أنجد إذا أقام بنجد
وأتهم إذا أقام بتهامة ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطرا في الحكم لكون الليل
ليس ظرفا للصيام الشرعي وقال ابن خزيمة : هو لفظ خبر ومعناه الأمر أي فليفطر ويرجح
الأول ما وقع في رواية عند البخاري فقد حل الإفطار
قوله : ( ما عجلوا الفطر ) زاد أبو ذر في حديثه : ( وأخروا السحور ) أخرجه أحمد
وسيأتي . وما ظرفية أي مدة فعلهم ذلك امتثالا للسنة ووقوفا عند حدها
قال المهلب : والحكمة في ذلك أن لا يزاد في النهار من الليل ولأنه أوفق بالصائم
وأقوى له على العبادة انتهى
وأيضا في تأخيره تشبه باليهود فإنهم يفطرون عند ظهور النجوم وقد كان الشارع يأمر
بمخالفتهم في أفعالهم وأقوالهم واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس
بالرؤية أو بإخبار عدلين أو عدل . وقد صرح الحديث القدسي بأن معجل الإفطار أحب
عباد الله إليه فلا يرغب عن الاتصاف بهذه الصفة إلا من كان حظه من الدين قليلا كما
تفعله الرافضة ولا يجب تعجيل الإفطار لما تقدم في الباب الأول من أذن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بالمواصلة إلى السحر كما في حديث أبي سعيد
4 -
وعن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفطر على رطبات قبل أن
يصلي فإن لم تكن رطبات فتمرات فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي
5 -
وعن سلمان بن عامر الضبي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا
أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن [ ص 301 ] لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور )
- رواه الخمسة إلا النسائي
6 -
وعن معاذ بن زهرة : ( أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أفطر قال
اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت )
- رواه أبو داود
-
حديث أنس حسنه الترمذي وقال أبو بكر البزار : لا يعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا
جعفر بن سليمان . وقال أيضا : رواه النشيطي فأنكروا عليه وضعف حديثه وقال ابن عدي
: تفرد به جعفر عن ثابت
والحديث مشهور بعبد الرزاق تابعه عمار بن هارون وسعيد بن سليمان النشيطي . قال
الحافظ : وأخرج أبو يعلى عن إبراهيم ابن الحجاج عن عبد الواحد بن ثابت عن ثابت عن
أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو
شيء لم تصبه النار ) وعبد الواحد قال البخاري : منكر الحديث وروى الطبراني في
الأوسط من طريق يحيى بن أيوب عن حميد عن أنس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إذا كان صائما لم يصل حتى يأتيه برطب وماء فيأكل ويشرب وإذا لم يكن رطب لم
يصل حتى يأتيه بتمر وماء ) وقال : تفرد به مسكين بن عبد الرحمن عن يحيى بن أيوب
وعنه زكريا بن عمر
وأخرج أيضا الترمذي والحاكم وصححه عن أنس مرفوعا : ( من وجد التمر فليفطر عليه ومن
لم يجد التمر فليفطر على الماء فإنه طهور ) . وحديث سليمان بن عامر أخرجه أيضا ابن
حبان والحاكم وصححاه وصححه أبو حاتم الرازي وروى ابن عدي عن عمران بن حصين بمعناه
وإسناده ضعيف وحديث معاذ مرسل لأنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وقد رواه الطبراني في الكبير والدارقطني من حديث ابن عباس بسند ضعيف ورواه أبو
داود والنسائي والدارقطني والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر وزاد : ( ذهب الظمأ
وابتلت العروق وأثبت الأجر إن شاء الله ) قال الدارقطني : إسناده حسن
وعند الطبراني عن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أفطر قال بسم
الله اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ) وإسناده ضعيف لأن فيه داود بن الزبرقان وهو
متروك
ولابن ماجه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : ( إن للصائم دعوة لا ترد ) وكان ابن عمر
إذا أفطر يقول اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ذنوبي
وحديثا أنس وسليمان يدلان على مشروعية الإفطار بالتمر فإن عدم فبالماء ولكن حديث [
ص 302 ] أنس فيه دليل على أن الرطب من التمر أولى من اليابس فيقدم عليه إن وجد
وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم وهذا أحسن
ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة . وقيل لأن الحلو يوافق الإيمان ويرق القلب
وإذا كانت العلة كونه حلوا والحلو له ذلك التأثير فيلحق به الحلويات كلها أما ما
كان أشد منه في الحلاوة فبفحوى الخطاب وما كان مساويا له فبلحنه . وحديث معاذ بن
زهرة فيه دليل على أنه يشرع للصائم أن يدعو عند إفطاره بما اشتمل عليه من الدعاء
وكذلك سائر ما ذكرناه في الباب
قوله : ( حسا حسوات ) أي شرب شربات والحسوة المرة الواحدة
7 -
وعن أبي ذر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : لا تزال أمتي بخير ما
أخروا السحور وعجلوا الفطر )
- رواه أحمد
8 -
وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تسحروا فإن في السحور بركة )
- رواه الجماعة إلا أبا داود
9 -
وعن عمرو بن العاص قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن فصلا ما
بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه
-
حديث أبي ذر في إسناده سليمان بن أبي عثمان قال أبو حاتم : مجهول . وفي الباب عن
أبي ليلى الأنصاري عند النسائي وأبي عوانة في صحيحه بنحو حديث أنس . وعن ابن مسعود
عند النسائي والبزار بنحوه أيضا . وعن أبي هريرة عند النسائي بنحوه أيضا . وعن قرة
بن إياس المزني عند البزار نحوه أيضا . وعن ابن عباس عند ابن ماجه والحاكم بلفظ :
( استعينوا بطعام السحر على صيام النهار وبقيلولة النهار على قيام الليل ) وله
شاهد في علل ابن أبي حاتم عنه وتشهد له رواية لابن داسه في سنن أبي داود وأخرجه
ابن حبان بلفظ : ( نعم سحور المؤمن التمر ) وعن ابن عمر عند ابن حبان بلفظ : ( إن
الله وملائكته يصلون على المتسحرين ) وفي رواية له عنه : ( تسحروا ولو بجرعة من
ماء ) وعن زيد بن ثابت عند الشيخين أنه ( كان بين تسحره صلى الله عليه وآله وسلم
ودخوله في الصلاة قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية ) وعن أنس عند البخاري بنحوه . وعن
أبي سعيد عند أحمد بلفظ : ( السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء
فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين ) ولسعيد بن [ ص 303 ] منصور من طريق أخرى
: ( تسحروا ولو بلقمة )
قوله : ( ما أخروا السحور ) أي مدة تأخيرهم
( وفيه دليل ) على مشروعية تأخير السحور وقد تقدم قول ابن عبد البر أن أحاديث
تأخير السحور صحاح متواترة
قوله : ( فإن في السحور بركة ) بفتح السين وضمها قال في الفتح : لأن المراد
بالبركة الأجر والثواب فيناسب الضم لأنه مصدر أو البركة كونه يقوي على الصوم وينشط
له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح لأنه اسم لما يتسحر به
( وفيه دليل ) على مشروعية التسحر وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ندبية السحور
انتهى
وليس بواجب لما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه أنهم واصلوا ومن مقويات
مشروعية السحور ما فيه من المخالفة لأهل الكتاب فإنهم لا يتسحرون كما صرح بذلك
حديث عمرو بن العاص وأقل ما يحصل به التسحر ما يتناوله المؤمن من مأكول أو مشروب
ولو جرعة من ماء كما تقدم في الأحاديث
أبواب ما يبيح الفطر وأحكام القضاء
باب الفطر والصوم في السفر
1 -
عن عائشة : ( أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أصوم
في السفر وكان كثير الصيام فقال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر )
- رواه الجماعة
2 - وعن أبي الدرداء قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله بن رواحة )
3 - وعن جابر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال : ما هذا فقالوا : صائم فقال : ليس من البر الصوم في السفر )
4 - وعن أنس قال : ( كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم )
5 -
وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة ومعه عشرة آلاف
وذلك على رأس ثمان [ ص 304 ] سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار بمن معه من المسلمين
إلى مكة يصوم ويصومون حتى إذا بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد أفطر وأفطروا
وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآخر فالآخر )
- متفق على هذه الأحاديث إلا أن مسلما له معنى حديث ابن عباس من غير ذكر عشرة آلاف
ولا تاريخ الخروج
6 -
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال : ( يا رسول الله أجد مني قوة على الصوم في
السفر فهل علي جناح فقال هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم
فلا جناح عليه )
- رواه مسلم والنسائي وهو قوي الدلالة على فضيلة الفطر
7 -
وعن أبي سعيد وجابر قالا : ( سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيصوم
الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض )
- رواه مسلم
8 -
وعن أبي سعيد قال : ( سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ونحن صيام
قال فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنكم قد دنوتم من
عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا آخر
فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزمة فأفطرنا ثم لقد
رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود
-
قوله : ( أأصوم ) قال ابن دقيق العيد : ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان فلا يكون فيه
حجة على من منع صوم رمضان في السفر . قال الحافظ : هو كما قال بالنسبة إلى سياق
حديث الباب لكن في رواية لمسلم أنه أجابه بقوله : ( هي رخصة من الله فمن أخذ بها
فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ) وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة لأن
الرخصة إنما تطلق في مقابل ما هو واجب . وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم
عنه أنه قال : ( يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه ربما صادفني
الشهر يعني رمضان وأنا أجد القوة وأجد لي أن أصوم أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا
فقال أي ذلك شئت ) وفي هذا الحديث دلالة على استواء الصوم والإفطار في السفر
قوله : ( في شهر رمضان ) هذا لفظ مسلم . وفي البخاري : ( خرجنا مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في بعض أسفاره ) وبرواية مسلم يتم المراد من الاستدلال ويتوجه بها
الرد على ابن حزم حيث زعم أن [ ص 305 ] حديث أبي الدرداء هذا لا حجة فيه لاحتمال
أن يكون ذلك الصوم تطوعا وقد قيل أن هذا السفر هو غزوة الفتح وهو وهم لأن أبا
الدرداء ذكر ابن عبد الله بن رواحة كان صائما في هذا السفر وهو استشهد بموته قبل
غزوة الفتح بلا خلاف وإن كانتا جميعا في سنة واحدة . وأيضا الذين صاموا في غزوة
الفتح جماعة من الصحابة ولم يستثن أبو الدرداء في هذه الرواية مع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إلا عبد الله بن رواحة
( وفي هذا الحديث ) دليل على أنه لا يكره الصوم لمن قوي عليه
قوله : ( في السفر ) في رواية للبخاري وابن خزيمة أنها غزوة الفتح
قوله : ( ورجلا قد ظلل عليه ) زعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل وعزا ذلك إلى مبهمات
الخطيب ولم يقل ذلك في هذه القصة وإنما قاله في قصة الذي نذر أن يصوم ويقوم في
الشمس وكان ذلك يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب . قال الحافظ : لم
نقف على اسم هذا الرجل
قوله : ( ليس من البر ) الخ قد أشار البخاري إلى أن السبب في قوله صلى الله عليه
وآله وسلم هذه المقالة هو ما ذكر من المشقة التي حصلت للرجل الذي ظلل عليه . وفي
ذلك دليل على أن الصيام في السفر لمن كان يشق عليه ليس بفضيلة
( وقد اختلف السلف ) في هذه المسألة أعني صوم رمضان في السفر فقالت طائفة : لا
يجزئ الصوم عن الفرض بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر وهو قول بعض
الظاهرية وحكاه في البحر عن أبي هريرة وداود والإمامية
قال في الفتح : وحكى عن عمر وابن عمرو وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم
انتهى . واحتجوا بقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }
قالوا لأن ظاهر قوله فعدة أي فالواجب عليه عدة وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر
فعدة . واحتجوا أيضا بما في حديث ابن عباس المذكور في الباب أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أفطر في السفر وكان ذلك آخر الأمرين وأن الصحابة كانوا يأخذون
بالآخر فالآخر من فعله فزعموا أن صومه صلى الله عليه وآله وسلم في السفر منسوخ
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري كما جزم بذلك البخاري
في الجهاد وكذلك وقعت عند مسلم مدرجة وبأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صام بعد
هذه القصة كما في حديث أبي سعيد المذكور في آخر الباب بلفظ : ( ثم لقد رأيتنا نصوم
مع رسول [ ص 306 ] الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك في السفر ) واحتجوا أيضا
بما أخرجه مسلم عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الفتح في
رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر
الناس ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة ) وفي رواية
له : ( أن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد
العصر ) الحديث . وسيأتي . وأجاب عنه الجمهور بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لأنه
عزم عليهم فخالفوا . واحتجوا أيضا بما في حديث جابر المذكور في الباب من قوله صلى
الله عليه وآله وسلم : ( ليس من البر الصوم في السفر ) وأجاب عنه الجمهور بأنه صلى
الله عليه وآله وسلم إنما قال ذلك في حق من شق عليه الصوم كما سبق بيانه ولا شك أن
الإفطار مع المشقة الزائدة أفضل وفيه نظر لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
ولكن قيل إن السياق والقرائن تدل على التخصيص . قال ابن دقيق العيد : وينبغي أن
يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم
وبين مجرد ورود العام على سبب فإن بين المقامين فرقا واضحا ومن أجراهما مجرى واحد
لم يصب فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة
رداء صفوان
وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات كما
في حديث الباب وأيضا نفي البر لا يستلزم عدم صحة الصوم وقد قال الشافعي : يحتمل أن
يكون المراد ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم
وقال الطحاوي : المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب وليس المراد به
إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برا لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان
للتقوي على لقاء العدو وقال الشافعي : نفي البر المذكور في الحديث محمول على من
أبى قبول الرخصة
وقد روى الحديث النسائي بلفظ : ( ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم رخصة الله
التي رخص لكم فاقبلوا ) قال ابن القطان : إسنادها حسن متصل يعني الزيادة ورواها
الشافعي ورجح ابن خزيمة الأول واحتجوا أيضا بما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن
عوف مرفوعا : ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ) ويجاب عنه بأن في إسناده ابن
لهيعة وهو ضعيف ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعا قال الحافظ :
والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا كذا أخرجه النسائي وابن المنذر ورجح وقفه ابن
أبي حاتم والبيهقي [ ص 307 ] والدارقطني ومع وقفه فهو منقطع لأن أبا سلمة لم يسمع
من أبيه وعلى تقدير صحته فهو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم
كحالة المشقة جمعا بين الأدلة واحتجوا أيضا بما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي
وحسنه عن أنس بن مالك الكعبي بلفظ : ( إن الله قد وضع عن المسافر الصوم وشطر
الصلاة ) ويجاب عنه بأنه مختلف فيه كما قال ابن أبي حاتم وعلى تسليم صحته فالوضع
لا يستلزم عدم صحة الصوم في السفر وهو محل النزاع وذهب الجمهور منهم مالك والشافعي
وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق به وبه قالت العترة وروي عن
أنس وعثمان بن أبي العاص . وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق : إن الفطر أفضل عملا
بالرخصة وروي عن ابن عباس وابن عمر وقال عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر :
أفضلهما أيسرهما فمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل
وقال آخرون : هو مخير مطلقا والأولى أن يقال من كان يشق عليه الصوم ويضره وكذلك من
كان معرضا عن قبول الرخصة فالفطر أفضل
أما الطرف الأول فلما قدمنا من الأدلة في حجج القائلين بالمنع من الصوم وأما الطرف
الثاني فلحديث : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه ) وقد تقدم . ولحديث : ( من رغب عن
سنتي فليس مني ) وكذلك يكون الصيام أفضل في حق من خاف على نفسه العجب أو الرياء
إذا صام في السفر . وقد روى الطبراني عن ابن عمر أنه قال : إذا سافرت فلا تصم فإنك
إن تصم قال أصحابك اكفوا الصيام ادفعوا للصائم وقاموا بأمرك وقالوا فلان صائم فلا
تزال كذلك حتى يذهب أجرك
وأخرج نحوه أيضا من طريق أبي ذر ومثل ذلك ما أخرجه البخاري في الجهاد عن أنس
مرفوعا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمفطرين لما خدموا الصائمين ذهب
المفطرون اليوم بالأجر ) وما كان من الصيام خاليا عن هذه الأمور فهو أفضل من
الإفطار
ومن أحب الوقوف على حقيقة المسألة فليراجع قبول البشرى في تيسير اليسرى للعلامة
محمد بن إبراهيم
قوله : ( الكديد ) بفتح الكاف وكسر الدال المهملة
قوله : ( وقديد ) بضم القاف مصغرا وبين الكديد ومكة مرحلتان . قال عياض : اختلفت
الروايات في الموضع الذي أفطر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكل في قضية
واحدة وكلها متقاربة والجميع من عمل عسفان
قوله : ( أجد مني قوة ) ظاهره أن الصوم لا يشق عليه ويفوت به حق . وفي رواية لمسلم
: ( إني رجل [ ص 308 ] أسرد الصوم ) وقد جعل المصنف رحمه الله تعالى هذا الحديث
قوي الدلالة على فضيلة الفطر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( فمن أخذ بها فحسن
ومن أحب أن يصوم فلا جناح ) فأثبت بالرخصة الحسن وهو أرفع من رفع الجناح
وأجاب الجمهور بأن هذا فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الأحاديث وقد
أسلفنا تحقيق ذلك
قوله : ( إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ) فيه دليل على أن الفطر لمن وصل
في سفره إلى موضع قريب من العدو أولى لأنه ربما وصل إليهم العدو إلى ذلك الموضع
الذي هو مظنة ملاقاة العدو ولهذا كان الإفطار أولى ولم يتحتم وأما إذا كان لقاء
العدو متحققا فالإفطار عزيمة لأن الصائم يضعف عن منازلة الأقران لا سيما عند غليان
مراجل الضراب والطعان ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة لجنود المحقين وإدخال الوهن
على عامة المجاهدين من المسلمين
( فائدة ) المسافة التي يباح الإفطار فيها هي المسافة التي يباح القصر فيها
والخلاف هنا كالخلاف هناك وقد قدمنا تحقيق ذلك في باب القصر فليرجع إليه
باب من شرع في الصوم ثم أفطر في يومه ذلك
1 -
عن جابر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى
بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس
يظنون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم
وصام بعضهم فبلغه أن ناسا صاموا فقال أولئك العصاة )
- رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه
2 - وعن أبي سعيد قال : ( أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نهر من ماء السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلة له فقال اشربوا أيها الناس قال فأبوا قال إني لست مثلكم إني أيسركم إني راكب فأبوا فثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخذه فنزل فشرب وشرب الناس وما كان يريد أن يشرب )
3 -
وعن ابن عباس قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح في شهر
رمضان فصام حتى مر بغدير في الطريق وذلك في نحر الظهيرة قال فعطش الناس فجعلوا
يمدون أعناقهم وتتوق [ ص 309 ] أنفسهم إليه قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم بقدح فيه ماء فأمسكه على يده حتى رآه الناس ثم شرب فشرب الناس )
- رواهما أحمد
-
حديث ابن عباس أخرج نحوه البخاري في المغازي من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن
عباس قال : ( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان والناس صائم ومفطر فلما
استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته ثم نظر الناس ) وسيأتي
وزاد في رواية أخرى من طريق طاوس عن ابن عباس : ( ثم دعا بماء فشرب نهارا ) وأخرجه
من طريق أبي الأسود عن عكرمة أوضح من سياق خالد ولفظه : ( فلما بلغ الكديد بلغه أن
الناس شق عليهم الصيام فدعا بقدح من لبن فأمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته
ثم شرب فأفطر فناوله رجلا إلى جنبه فشرب ) والأحاديث في هذا المعنى يشهد بعضها
لبعض
قوله : ( كراع الغميم ) هو بضم الكاف والغميم بفتح الغين المعجمة وهو اسم واد أمام
عسفان وهو من أموال أعالي المدينة
( وفيه دليل ) على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل وهو قول
الجمهور . قال في الفتح : وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر فأما لو نوى الصوم
وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار منعه الجمهور وقال
أحمد وإسحاق بالجواز واختاره المزني وهذا هو الحق ولحديث جابر المذكور في الباب
لما تقدم من أن كراع الغميم من أموال أعالي المدينة لحديث ابن عباس الذي سيأتي في
الباب الذي بعد هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أفطر حين استوى على راحلته . وهذا
الحديث أيضا يرد عن بعض السلف أن من استهل رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليس له
أن يفطر . وقد روي عن علي عليه السلام نحو ذلك بإسناد ضعيف والجمهور على الجواز
وهو الحق . واستدل المانع من الإفطار بقوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }
قوله : ( فشرب ) الخ فيه دليل على أن فضيلة الفطر لا تختص بمن أجهده الصوم أو خشي
العجب والرياء أو ظن به الرغبة عن الرخصة بل يلتحق بذلك من يقتدي به ليتابعه من
وقع له شيء من هذه الأمور الثلاثة ويكون الفطر في تلك الحال في حقه أفضل لفضيلة
البيان ويدل على هذا قوله في حديث أبي سعيد : ( وما كان يريد أن يشرب )
قوله : ( أولئك العصاة ) استدل به من قال بأن الفطر في السفر متحتم ومن قال بأنه
أفضل وقد تقدم الجواب عن ذلك
قوله : [ ص 310 ] ( في يوم صائف ) فيه أن الإفطار عند اشتداد الحر كما يكون في
أيام الصيف أفضل لأنه مظنة المشقة وأنه يشرع لمن مع المسافرين من إمام أو عالم أن
يفطر ليقتدي به الناس وإن لم يكن محتاجا إلى الإفطار لما تقدم
قوله : ( إني أيسركم إني راكب ) يعني إني أيسركم مشقة ثم بين ذلك بقوله إني راكب
قوله : ( في نحر الظهيرة ) أي في أول الظهيرة قال في القاموس : نحر النهار والشهر
أوله الجمع نحور انتهى
قوله : ( تتوق أنفسهم ) أي تشتاق قال في القاموس : تاق إليه توقا وتوقا وتياقة
وتوقانا اشتاق انتهى
قوله : ( فأمسكه على يده ) في رواية للبخاري : ( فرفعه إلى يده ) قال الحافظ : هذه
الرواية مشكلة لأن الرفع إنما يكون باليد وأجاب الكرماني بأن المعنى يحتمل أن يكون
رفعه إلى أقصى طول يده أي انتهى الرفع إلى أقصى غايتها وفي رواية لأبي داود فرفعه
إلى فيه
قوله : ( حتى رآه الناس ) في رواية للبخاري : ( ليراه ) وفي رواية للمستملي : (
ليريه ) بضم أوله وكسر الراء وفتح التحتانية والناس بالنصب على المفعولية
باب من سافر في أثناء يوم هل يفطر فيه ومتى يفطر
1 -
وعن ابن عباس قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان إلى حنين
والناس مختلفون فصائم ومفطر فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه
على راحلته أو راحته ثم نظر الناس المفطرون للصوام أفطروا )
- رواه البخاري
-
هذا أحد ألفاظ حديث ابن عباس وقد ورد بألفاظ مختلفة في البخاري وغيره وقد تقدم ذكر
بعضها وذكره المصنف ههنا للاستدلال به على أنه يجوز للمسافر الإفطار عند ابتداء
السفر لقوله فيه : ( فلما استوى على راحلته ) الخ وقال الشافعي : من أصبح في حضر
مسافرا فليس له أن يفطر إلا أن يثبت حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أفطر
يوم الكديد انتهى
( والحديث المذكور ) قد ثبت كما تقدم ولكنها لا تقوم به الحجة على إفطار من أصبح
في حضر مسافرا لأن بين الكديد والمدينة ثمانية أيام بل هو حجة على أنه يجوز لمن
صام أياما في سفره أن يفطر وقد ترجم عليه باب إذا صام [ ص 311 ] أياما من رمضان ثم
سافر والذي تقوم به الحجة على جواز إفطار من أصبح في حضر مسافرا هو حديث الباب
وكذلك حديث جابر المتقدم في الباب الأول كما تقدم تحقيق ذلك
قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث : قال شيخنا عبد الرزاق بن عبد القادر
صوابه خيبر أو مكة لأنه قصدهما في هذا الشهر فأما حنين فكانت بعد الفتح بأربعين
ليلة انتهى
والفتح كان لعشر بقين من رمضان وقيل لتسع عشرة ليلة خلت منه . قال في الفتح : وهو
الذي اتفق عليه أهل السير وكان خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في عاشر
شهر رمضان فإذا كانت حنين بعده بأربعين ليلة لم يستقم أن يكون السفر إليها في
رمضان
2 -
وعن محمد بن كعب قال : ( أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا وقد رحلت له
راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة فقال سنة ثم ركب )
- رواه الترمذي
3 -
وعن عبيد بن جبر قال : ( ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان
فدفع ثم قرب غداءه ثم قال اقترب فقلت ألست بين البيوت فقال أبو بصرة أرغبت عن سنة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد وأبو داود
-
الحديث الأول ذكره الحافظ وسكت عنه وفي إسناده عبد بن جعفر والد علي ابن المديني
وهو ضعيف
والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده ثقات .
وأخرج البيهقي عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنه كان يسافر وهو صائم
فيفطر من يومه
قوله : ( من الفسطاط ) هو اسم علم لمصر العتيقة التي بناها عمرو بن العاص
( والحديثان ) يدلان على أنه يجوز للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد
السفر منه . قال ابن العربي في العارضة : هذا صحيح ولم يقل به إلا أحمد أما
علماؤنا فمنعوا منه لكن اختلفوا إذا أكل هل عليه كفارة فقال مالك : لا وقال أشهب :
هو متأول وقال غيرهما : يكفر ونحب أن لا يكفر لصحة الحديث ولقول أحمد عذر يبيح
الإفطار فطر بأنه على الصوم يبيح الفطر كالمرض وفرق بأن المرض لا يمكن دفعه بخلاف
السفر . قال ابن العربي : وأما حديث أنس فصحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر ثم
ذكر أن قوله من السنة لا بد من أن يرجع إلى التوقيف والخلاف في ذلك معروف في [ ص
312 ] الأصول
والحق أن قول الصحابي من السنة ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وقد صرح هذان الصحابيان بأن الإفطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة
باب جواز الفطر للمسافر إذا دخل بلدا ولم يجمع إقامة
1 -
عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان وصام
حتى إذا بلغ الكديد الماء الذي بين قديد وعسفان فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر )
- رواه البخاري . ووجه الحجة منه أن الفتح كان لعشر بقين من رمضان هكذا جاء في
حديث متفق عليه
-
الكديد وقديد قد تقدم ضبطهما وتفسيرهما . والحديث يدل على أن المسافر إذا أقام
ببلد متردد أجاز له أن يفطر مدة تلك الإقامة كما يجوز له أن يقصر وقد عرفناك في
باب قصر الصلاة أن من حط رحله في بلد وأقام به يتم صلاته لأن مشقة السفر قد زالت
عنه ولا يقصر إلا إلى مقدار المدة التي قصر فيها صلى الله عليه وآله وسلم مع
إقامته ولا شك أن قصره صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما
زاد عليها ولكن ملاحظة الأصل منعت من مجاوزتها لأن القصر للمقيم لم يشرعه الشارع
فلا يثبت له إلا بدليل وقد دل الدليل على أنه يقصر في مثل المدة التي أقام فيها
صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم الخلاف في مقدارها فيقتصر على ذلك . وهكذا يقال
في الإفطار الأصل في المقيم أن لا يفطر لزوال مشقة السفر عنه إلا لدليل يدل على
جوازه له وقد دل الدليل على أن من كان مقيما ببلد وفي عزمه السفر يفطر مثل المدة
التي أفطرها صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وهي عشرة أيام أو أحد عشر على اختلاف
الروايات فيقتصر على ذلك ولا يجوز الزيادة عليه إلا بدليل
( فإن قيل ) الاعتبار بإطلاق اسم المسافر على المقيم المتردد وقد أطلقه عليه صلى
الله عليه وآله وسلم فقال إنا قوم سفر كما تقدم في القصر لا بالمشقة ولعدم
انضباطها قلنا قد تقدم الجواب عن ذلك في القصر فليرجع إليه [ ص 313 ]
باب ما جاء في المريض والشيخ والشيخة والحامل والمرضع
1 -
عن أنس بن مالك الكعبي : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله عز
و جل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم )
- رواه الخمسة . وفي لفظ بعضهم : ( وعن الحامل والمرضع )
-
الحديث حسنه الترمذي وقال : ولا يعرف لابن مالك هذا عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم غير هذا الحديث الواحد انتهى
وقال ابن أبي حاتم في علله : سألت أبي عنه يعني الحديث فقال اختلف فيه والصحيح عن
أنس بن مالك القشيري انتهى . قال المنذري : ومن يسمى بأنس بن مالك من رواة الحديث
خمسة صحابيان هذا وأبو حمزة أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وأنس بن مالك والد الإمام مالك بن أنس روي عنه حديث في إسناده نظر .
والرابع شيخ حمصي حدث . والخامس كوفي حدث عن حماد بن أبي سليمان والأعمش وغيرهما
انتهى
وينبغي أن يكون أنس بن مالك القشيري الذي ذكره ابن أبي حاتم سادسا إن لم يكن هو
الكعبي
( والحديث ) يدل على أن المسافر لا صوم عليه وقد تقدم البحث عن ذلك وأنه يصلي قصرا
وقد تقدم تحقيقه وأنه يجوز للحبلى والمرضع الإفطار وقد ذهب إلى ذلك العترة والفقهاء
إذا خافت المرضعة على الرضيع والحامل على الجنين وقالوا إنها تفطر حتما قال أبو
طالب : ولا خلاف في الجواز . وقال الترمذي : العمل على هذا عند أهل العلم . وقال
بعض أهل العلم : الحامل والمرضع يفطران ويقضيان ويطعمان وبه يقول سفيان ومالك
والشافعي وأحمد وقال بعضهم : ويفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما وإن شاءتا قضتا ولا
طعام عليهما وبه يقول إسحاق انتهى
وقد قال بعدم وجوب الكفارة مع القضاء الأوزاعي والزهري والشافعي في أحد أقواله .
وقال مالك والشافعي في أحد أقواله : إنها تلزم المرضع لا الحامل إذ هي كالمريض
2 -
وعن سلمة بن الأكوع قال : ( لما نزلت هذه الآية { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مساكين } كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى أنزلت الآية التي بعدها فنسختها )
- رواه الجماعة إلا أحمد
3 -
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى [ ص 314 ] عن معاذ بن جبل بنحو حديث سلمة وفيه : ( ثم
أنزل الله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص
فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام )
- مختصر لأحمد وأبي داود
4 -
وعن عطاء : ( سمع ابن عباس يقرأ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قال ابن عباس
: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان
مكان كل يوم مسكينا )
- رواه البخاري
5 -
وعن عكرمة : ( أن ابن عباس قال أثبتت للحبلى والمرضع )
- رواه أبو داود
-
حديث معاذ قد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا
قوله : ( الآية التي بعدها ) هي الآية المذكورة في حديث معاذ الذي بعده
قوله : ( فنسختها ) قد روي عن ابن عمر كما روي عن سلمة من النسخ ذكر ذلك البخاري
عنه معلقا وموصولا وقد أخرج أبو نعيم في المستخرج والبيهقي : ( أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قدم المدينة ولا عهد لهم بالصيام فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل
شهر حتى نزل رمضان فاستكثروا ذلك وشق عليهم فكان من يطعم مسكينا كل يوم ترك الصيام
ممن يطيقه رخص لهم في ذلك ثم نسخه قوله تعالى { وأن تصوموا خير لكم } فأمروا
بالصيام ) وهذا الحديث أخرجه أيضا أبو داود من طريق شعبة والمسعودي عن الأعمش مطولا
وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا وإذا تقرر أن الإفطار والإطعام كان رخصة ثم نسخ
لزم أن يصير الصيام حتما واجبا فكيف يصح الاستدلال على ذلك بقوله { وأن تصوموا خير
لكم } والخيرية لا تدل على الوجوب لدلالة قوله { خير لكم } على المشاركة في أصل
الخير
وأجاب عن ذلك الكرماني جوابا متكلفا حاصله أن المراد أن الصوم خير من التطوع
بالفدية والتطوع بها كان سنة والخير من السنة لا يكون واجبا أي لا يكون شيء خيرا
من السنة إلا الواجب كذا قال ولا يخفى بعده وتكلفه فالأولى ما روي عن سلمة بن
الأكوع وابن عمر أن الناسخ قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وإلى النسخ
في حق غير الكبير ممن يطيق الصيام ذهب الجمهور قالوا وحكم الإطعام باق في حق من لم
يطق الصيام وقال جماعة من السلف منهم مالك وأبو ثور وداود : إن جميع الإطعام منسوخ
وليس على الكبير إذا لم يطق الطعام وقال قتادة : كانت الرخصة لكبير يقدر على الصوم
ثم نسخ فيه وبقي فيمن لا يطيق وقال ابن عباس : إنها محكمة لكنها مخصوصة بالشيخ
الكبير كما وقع في الباب عنه
وقال زيد بن [ ص 315 ] أسلم والزهري ومالك : هي محكمة نزلت في المريض يفطر ثم يبرأ
فلا يقضي حتى يدخل رمضان آخر فيلزمه صومه ثم يقضي بعده ويطعم عن كل يوم مدا من
حنطة فإن اتصل مرضه برمضان الثاني فليس عليه إطعام بل عليه القضاء فقط
وقال الحسن البصري وغيره : الضمير في يطيقونه عائد على الإطعام لا على الصوم ثم
نسخ بعد ذلك قوله ( سمع ابن عباس يقرأ { وعلى الذين يطيقونه } ) هكذا في هذا
الكتاب وهو لا يناسب قوله آخر الكلام هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان
أن يصوما إلا أن يكون مرادا ابن عباس أن ذلك من مجاز الحذف كما روي عن بعض العلماء
والأصل وعلى الذين لا يطيقونه وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ وعلى الذين
يطوقونه أي يكلفونه ولا يطيقونه وهو المناسب لآخر الكلام
وقد روي عن ابن عباس أنه قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا ولا
قضاء عليه رواه الدارقطني والحاكم وصححاه وفيه مع ما في الباب عنه وعن معاذ دليل
على أنه يجوز للشيخ الكبير العاجز عن الصوم أن يفطر ويكفر وقد اختلف في قدر إطعام
المسكين فقيل نصف صاع عن كل يوم من أي قوت وبه قال أبو طالب وأبو العباس وغيرهما
من الهادوية وقيل صاع من غير البر ونصف صاع منه وبه قال أبو حنيفة والمؤيد بالله .
وقيل مد من بر أو نصف صاع من غيره وبه قال الشافعي وغيره وليس في المرفوع ما يدل
على التقدير
قوله : ( أثبتت للحبلى والمرضع ) لفظ أبي داود أن ابن عباس قال في قوله { وعلى
الذين يطيقونه } قال : كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام
أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا والحبلى والمرضع إذا خافتا يعني على أولادهما
أفطرتا وأطعمتا وأخرجه البزار كذلك وزاد في آخره وكان ابن عباس يقول لأم ولد له
حبلى أنت بمنزلة الذي لا يطيقه فعليك الفداء ولا قضاء عليك وصحح الدارقطني إسناده
باب قضاء رمضان متتابعا ومتفرقا وتأخيره إلى شعبان
1 -
عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قضاء رمضان إن شاء فرق وإن
شاء تابع )
- رواه الدارقطني . قال البخاري : قال ابن [ ص 316 ] عباس : لا بأس أن يفرق لقول
الله تعالى { فعدة من أيام أخر }
2 -
وعن عائشة قالت : ( نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات فسقطت متتابعات )
- رواه الدارقطني وقال : إسناد صحيح
-
حديث ابن عمر في إسناده سفيان بن بشر وقد تفرد بوصله قال الدارقطني : ورواه عطاء
بن عبيد بن عمير مرسلا قال الحافظ : وفي إسناده ضعف أيضا
وقد صحح الحديث ابن الجوزي وقال : ما علمنا أحدا طعن في سفيان بن بشر ورواه
الدارقطني أيضا من حديث عبد الله بن عمر وفي إسناده الواقدي وابن لهيعة ورواه من
حديث محمد بن المنكدر قال : ( بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن
تقطيع قضاء شهر رمضان فقال ذاك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم
والدرهمين ألم يكن قضاء والله أحق أن يعفو ) وقال : هذا إسناد حسن لكنه مرسل وقد
روي موصولا ولا يثبت
( وفي الباب ) عن أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة ورافع بن خديج أخرجها
البيهقي وهذه الطرق وإن كانت كل واحدة منها لا تخلو عن مقال فبعضها يقوي بعضا
فتصلح للاحتجاج بها على جواز التفريق وهو قول الجمهور وحكاه في البحر عن علي عليه
السلام وأبي هريرة وأنس ومعاذ ونقل ابن المنذر عن عائشة وجوب التتابع قال في الفتح
: وهو قول بعض أهل الظاهر وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن عمر أنه قال : يقضيه
تباعا وحكاه في البحر عن النخعي والناصر وأحد قولي الشافعي وتمسكوا بالقراءة
المذكورة أعني قوله ( متتابعات ) قال في الموطأ : هي قراءة أبي بن كعب وأجيب عن
ذلك بما تقدم عن عائشة أنها سقطت على أنه قد اختلف في الاحتجاج بقراءة الآحاد كما
تقرر في الأصول وإذا سلم أنها لم تسقط فهي منزلة عند من قال بالاحتجاج بها منزلة
أخبار الآحاد وقد عارضها ما في الباب من الأحاديث
وقال القاسم بن إبراهيم : إن فرق أساء وأجزأ . وحكى في البحر عن داود أن القاضي
يطابق وقت الفوات من أول الشهر وآخره ووسطه ومما احتج به للتتابع ما أخرجه
الدارقطني عن أبي هريرة : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كان عليه صوم من
رمضان فليسرده ولا يقطعه ) لكنه قال البيهقي لا يصح . وفي إسناده عبد الرحمن بن
إبراهيم القاضي وهو مختلف فيه . قال الدارقطني : ضعيف وقال أبو حاتم : ليس بالقوي
روى حديثا منكرا قال [ ص 317 ] عبد الحق : يعني هذا وتعقبه ابن القطان بأنه لم ينص
عليه فلعله غيره قال : ولم يأت من ضعفه بحجة والحديث حسن
قال الحافظ : قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه بأنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد
الرحمن
قوله : ( قال ابن عباس ) وصله عبد الرزاق وأخرجه الدارقطني عنه من وجه آخر
3 -
وعن عائشة قالت : ( كان يكون علي صوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان
وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه الجماعة ويروى بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في رجل مرض في رمضان فأفطر ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر فقال : ( يصوم الذي
أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم كل يوم مسكينا ) رواه الدارقطني عن أبي
هريرة من قوله وقال : إسناد صحيح موقوف
4 -
وروي عن ابن عمر : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من مات وعليه صيام
شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين )
- وإسناده ضعيف قال الترمذي : والصحيح أنه عن ابن عمر موقوف
5 -
وعن ابن عباس قال : ( إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن
عليه قضاء وإن نذر قضى عنه وليه )
- رواه أبو داود
-
حديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني وفي إسناده عمر بن موسى بن وجيه وهو ضعيف جدا
والراوي عنه إبراهيم بن نافع وهو أيضا ضعيف وروي عنه موقوفا وصححه الدارقطني كما ذكر
المصنف وغيره وحديث ابن عمر أخرجه الترمذي عن قتيبة عن عبثر بن القاسم عن أشعث عن
محمد عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وقال غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه
والصحيح أنه موقوف على ابن عمر قال وأشعث هو ابن سوار ومحمد هو ابن عبد الرحمن بن
أبي ليلى
قال الحافظ : ورواه ابن ماجه من هذا الوجه ووقع عنده عن محمد بن سيرين بدل محمد بن
عبد الرحمن وهو وهم منه أو من شيخه . وقال الدارقطني : المحفوظ وقفه على ابن عمر
وتابعه البيهقي على ذلك . وأثر ابن عباس صححه الحافظ وأخرجه الدارقطني وسعيد بن
منصور والبيهقي وعبد الرزاق موصولا وعلقه البخاري . قال عبد الحق في أحكامه : لا
يصح في الإطعام شيء يعني مرفوعا وكذا قال في الفتح
قوله : ( فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان ) استدل بهذا على أن عائشة كانت لا
تتطوع [ ص 318 ] بشيء من الصيام ولا في عشر ذي الحجة ولا عاشوراء ولا غير ذلك وهذا
الاستدلال إنما يتم بعد تسليم أنها كانت ترى أنه لا يجوز صيام التطوع لمن عليه دين
من رمضان ومن أين لقائله ذلك
قوله : ( وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا لفظ مسلم . وفي لفظ
للبخاري : ( الشغل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي رواية للترمذي وابن خزيمة
: ( أنها قالت ما قضيت شيئا مما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم )
( وفي الحديث ) دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا سواء كان لعذر أو لغير عذر
لأن الزيادة أعني قوله وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جزم بأنها
مدرجة جماعة من الحفاظ كما في الفتح ولكن الظاهر إطلاع النبي صلى الله عليه وآله
وسلم على ذلك لا سيما مع توفر دواعي أزواجه إلى سؤاله عن الأحكام الشرعية فيكون
ذلك أعني جواز التأخير مقيدا بالعذر المسوغ لذلك
قوله : ( ويطعم كل يوم مسكينا ) استدل به وبما ورد في معناه من قال بأنها تلزم
الفدية من لم يصم ما فات عليه في رمضان حتى حال عليه رمضان آخر وهم الجمهور وروي
عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وقال الطحاوي عن يحيى بن
أكثم قال وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم مخالفا . وقال النخعي وأبو حنيفة
وأصحابه أنها لا تجب الفدية لقوله تعالى { فعدة من أيام أخر } ولم يذكرها وأجيب
بأنها قد ذكرت في الحديث كما تقدم ويدل على ثبوتها قوله تعالى { وعلى الذين
يطيقونه فدية طعام مسكين } قال في البحر : ونسخ التخيير لا ينسخ وجوبها على من
أفطر مطلقا إلا ما خصه الإجماع وقال أبو العباس : إن ترك الأداء لغير عذر وجبت
وإلا فلا
وحكى في البحر عن الشافعي أنه إن ترك القضاء حتى حال لغير عذر لزمه وإلا فلا وأجيب
عن هذين القولين بأن الحديث لم يفرق وقد بينا أنه لم يثبت في ذلك عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم شيء وأقوال الصحابة لا حجة فيها وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل
على أنه الحق والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى
يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب
( وقد اختلف القائلون ) بوجوب الفدية هل يسقط القضاء بها أم لا فذهب الأكثر منهم
إلى أنه لا يسقط . وقال ابن عباس وابن عمر وقتادة وسعيد بن [ ص 319 ] المسيب أنه
يسقط والخلاف في مقدار الفدية ههنا كالخلاف في مقدارها في حق الشيخ العاجز عن
الصوم وقد تقدم بيانه
قوله : ( إذا مرض الرجل في رمضان ) الخ استدل به على وجوب الإطعام من تركة من مات
في رمضان بعد أن فات عليه بعضه وفيه خلاف والظاهر عدم الوجوب لأن قول الصحابة لا
حجة فيه ووقع التردد فيمن مات آخر شعبان وقد رجح في البحر عدم الوجوب لأن الأصل
البراءة
قوله : ( وإن نذر قضى عنه وليه ) سيأتي البحث عن هذا قريبا
باب صوم النذر عن الميت
1 -
عن ابن عباس : ( أن امرأة قالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر فأصوم
عنها فقال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها قالت : نعم قال :
فصومي عن أمك )
- أخرجاه . وفي رواية : ( أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن الله نجاها أن تصوم شهرا فأنجاها
الله فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فذكرت ذلك فقال صومي عنها ) . أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود
2 -
وعن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من مات وعليه صيام صام
عنه وليه )
- متفق عليه
3 - وعن
بريدة قال : ( بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أتته امرأة
فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت فقال : وجب أجرك وردها عليك الميراث
قالت : يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال : صومي عنها قالت :
إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال : حجي عنها )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه . ولمسلم في رواية صوم شهرين
-
قوله : ( أن امرأة ) هي من جهينة كما في البخاري
قوله : ( وعليها صوم نذر ) في رواية للبخاري : ( وعليها صوم شهر ) وفي أخرى له : (
أنه أتى رجل فسأل ) وفي رواية له أيضا : ( وعليها خمسة عشر يوما ) وفي رواية أيضا
: ( وعليها صوم شهرين متتابعين ) قال في الفتح : وقد ادعى بعضهم أن هذا اضطراب من
الرواة والذي يظهر تعدد الواقعة وأما الاختلاف في كون السائل رجلا أو امرأة
والمسؤول عنه أختا أو أما فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث
قوله : ( أرأيت ) الخ فيه مشروعية القياس [ ص 320 ] وضرب الأمثال ليكون أوضح وأوقع
في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه
وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة وهو أطيب
لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه وسيأتي مثل هذا في الحج إن شاء الله تعالى
قوله : ( فجاءت قرابة لها ) هذه الرواية مطلقة فينبغي أن تحمل على الرواية المقيدة
بذكر البنت
قوله : ( من مات وعليه صيام ) هذه الصيغة عامة لكل مكلف . وقوله ( صام عنه وليه )
خبر بمعنى الأمر تقديره فليصم
( وفيه دليل ) على أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات وعليه صوم أي صوم كان وبه قال
أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية وأبو ثور ونقل البيهقي عن الشافعي أنه علق
القول به على صحة الحديث وقد صح وبه قال الصادق والناصر والمؤيد بالله والأوزاعي
وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه قال البيهقي في الخلافيات : هذه السنة ثابتة
لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها والجمهور على أن صوم الولي عن الميت ليس
بواجب وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك وتعقب بأن بعض أهل
الظاهر يقول بوجوبه وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد إلى أنه لا يصام عن
الميت مطلقا وبه قال زيد بن علي والهادي والقاسم
وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد أنه لا يصام عنه إلا النذر وتمسك المانعون
مطلقا بما روي عن ابن عباس أنه قال لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد أخرجه
النسائي بإسناد صحيح من قوله وروى مثله عبد الرزاق عن ابن عمر من قوله وبما أخرجه
عبد الرزاق عن عائشة أنها قالت : ( لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم ) قالوا فلما
أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه
قال في الفتح : وهذه قاعدة لهم معروفة إلا أن الآثار عن عائشة وابن عباس فيها مقال
وليس فيها ما يمنع من الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جدا انتهى . وهذا
بناء من صاحب الفتح على أن لفظ حديث ابن عباس باللفظ الذي ذكرناه هنالك وهو أنه
قال كان لا يصوم أحد عن أحد ولكنه ذكره في التلخيص باللفظ الذي ذكرناه سابقا والحق
أن الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما رآه والكلام في هذا مبسوط في الأصول والذي
روي مرفوعا صريح في الرد على المانعين وقد اعتذروا بأن المراد بقوله ( صام عنه
وليه ) أي فعل عنه ما يقوم مقام الصوم وهو [ ص 321 ] الإطعام وهذا عذر بارد لا
يتمسك به منصف في مقابلة الأحاديث الصحيحة ومن جملة أعذارهم أن عمل أهل المدينة
على خلاف ذلك وهو عذر أبرد من الأول ومن أعذارهم أن الحديث مضطرب وهذا إن تم لهم
في حديث ابن عباس لم يتم في حديث عائشة فإنه لا اضطراب فيه بلا ريب
( وتمسك القائلون ) بأنه يجوز في النذر دون غيره بأن حديث عائشة مطلق وحديث ابن
عباس مقيد فيحمل عليه ويكون المراد بالصيام صيام النذر قال في الفتح : وليس بينهما
تعارض حتى يجمع بينهما فحديث ابن عباس صورة مستقلة يسأل عنها من وقعت له وأما حديث
عائشة فهو تقرير قاعدة عامة وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم
حيث قال في آخره : ( فدين الله أحق أن يقضى ) انتهى . وإنما قال أن حديث ابن عباس
صورة مستقلة يعني أنه من التنصيص على بعض أفراد العام فلا يصلح لتخصيصه ولا
لتقييده كما تقرر في الأصول
قوله : ( صام عنه وليه ) لفظ البزار : ( فليصم عنه وليه إن شاء ) قال في مجمع
الزوائد : وإسناده حسن
قال في الفتح : اختلف المجيزون في المراد بقوله وليه فقيل كل قريب . وقيل الوارث
خاصة . وقيل عصبته والأول أرجح والثاني قريب . ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت
عن نذر أمها قال واختلفوا هل يختص ذلك بالولي لأن الأصل عدم النيابة في العبادة
البدنية ولأنها عبادة لا يدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه
الدليل فيقتصر على ما ورد ويبقى الباقي على الأصل وهذا هو الراجح . وقيل لا يختص
بالولي فلو أمر أجنبيا بأن يصوم عنه أجزأ وقيل يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي
لكونه الغالب . وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير وبه جزم أبو الطيب الطبري
وقواه بتشبيهه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بالدين والدين لا يختص بالقريب انتهى
وظاهر الأحاديث أنه يصوم عنه وليه وإن لم يوص بذلك وأن من صدق عليه اسم الولي لغة
أو شرعا أو عرفا صام عنه ولا يصوم عنه من ليس بولي ومجرد التمثيل بالدين لا يدل
على أن حكم الصوم كحكمه في جميع الأمور
قوله : ( وردها عليك الميراث ) فيه دليل على أنه يجوز لمن ملك قريبا له عينا من
الأعيان ثم مات القريب بعد ذلك وورثه أن يتملك تلك العين وقد سبق الكلام على هذا
في كتاب الزكاة
قوله : ( قال حجي عنها ) فيه دليل على أنه يجوز [ ص 322 ] للابن أن يحج عن أمه أو
أبيه وإن لم يوص وسيأتي الكلام على ذلك في الحج إن شاء الله تعالى
أبواب صوم التطوع
باب صوم ست من شوال
1 -
عن أبي أيوب : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من صام رمضان ثم
أتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر )
- رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ورواه أحمد من حديث جابر
2 -
وعن ثوبان : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من صام رمضان وستة
أيام بعد الفطر كان تمام السنة من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها )
- رواه ابن ماجه
-
حديث ثوبان أخرجه أيضا النسائي وأحمد والدارمي والبزار . وفي الباب عن جابر عند
أحمد وعبد بن حميد والبزار وهو الذي أشار إليه المصنف وفي إسناده عمرو بن جابر وهو
ضعيف كذا في مجمع الزوائد . وعن أبي هريرة عند البزار وأبي نعيم والطبراني . وعن
ابن عباس عند الطبراني في الأوسط . وعن البراء بن عازب عند الدارقطني
( وقد استدل ) بأحاديث الباب على استحباب صوم ستة أيام من شوال وإليه ذهب الشافعي
وأحمد وداود وغيرهم وبه قالت العترة . وقال أبو حنيفة ومالك : يكره صومها واستدلا
على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها وهو باطل لا يليق بعاقل فضلا عن عالم نصب مثله في
مقابلة السنة الصحيحة الصريحة وأيضا يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها
ولا قائل به
واستدل مالك على الكراهة بما قال في الموطأ من أنه ما رأى أحدا من أهل العلم
يصومها ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة لم يكن تركهم دليلا ترد به السنة .
قال النووي في شرح مسلم : قال أصحابنا والأفضل أن تصام الست متوالية عقب يوم الفطر
قال : فإن فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى آخره حصلت فضيلة المتابعة لأنه يصدق
أنه أتبعه ستا من شوال . قال : قال العلماء : وإنما كان ذلك كصيام الدهر لأن [ ص
323 ] الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين وقد جاء هذا في حديث
مرفوع في كتاب النسائي
قوله : ( ستا من شوال ) على صيغة المؤنث ولو قال سنه بالهاء لكان صحيحا لأن
المعدود المميز إذا كان غير مذكور لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه يقال صمنا ستا
وستة وخمسا وخمسة وإنما يلزم إثبات الهاء مع المذكر إذا كان مذكورا لفظا وحذفها مع
المؤنث إذا كان كذلك وهذه قاعدة مسلوكة صرح بها أهل اللغة وأئمة الإعراب
قوله : ( بعد الفطر ) أي بعد اليوم الذي يفطر فيه وهو يوم عيد الإفطار فيحمل
المطلق على المقيد ويكون المراد بالست ثاني الفطر إلى آخر سابعه ولكنه يبقى النظر
في البعدية المذكورة هل يلزم أن تكون متصلة بيوم الفطر بلا فصل أو يجوز إطلاقها
على كل يوم من أيام شوال لكونها بعد يوم الفطر وهكذا يقال في قوله ( ثم أتبعه ستا
) لأن الإتباع يحتمل أن يكون بلا فاصل بين التابع والمتبوع إلا بما لا يصلح للصوم
وهو يوم الفطر ويحتمل أن يجوز إطلاقه مع الفاصل وإن كثر مهما كان التابع في شوال
باب صوم عشر ذي الحجة وتأكيد يوم عرفة لغير الحاج
1 -
عن حفصة قالت : ( أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صيام
عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر والركعتين قبل الغداة )
- رواه أحمد والنسائي
2 -
وعن أبي قتادة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صوم يوم عرفة يكفر
سنتين ماضية ومستقبلة وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي
3 -
وعن أبي هريرة قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم عرفة
بعرفات )
- رواه أحمد وابن ماجه
4 -
وعن أم الفضل : ( أنهم شكوا في صوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة فأرسلت
إليه بلبن فشرب وهو يخطب الناس بعرفة )
- متفق عليه
5 -
وعن عقبة بن عامر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يوم عرفة ويوم
النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي
-
حديث حفصة أخرجه أبو داود ولكنه لم يسمها بل قال عن بعض أزواج [ ص 324 ] النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ولفظه : ( قالت كان يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة
أيام من كل شهر وأول اثنين من الشهر والخميس ) وقد اختلف فيه على هنيدة بن خالد
فرواه عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وروي عنه عن حفصة .
وروي عنه عن أم سلمة وقد تقدم في كتاب العيدين أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر
ذي الحجة على العموم والصوم مندرج تحتها
وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها قالت : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم صائما في العشر قط ) وفي رواية : ( لم يصم العشر قط ) فقال العلماء : المراد
أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أن عدم رؤيتها له صائما لا يستلزم
العدم على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها كما في حديث الباب فلا
يقدح في ذلك عدم الفعل . وحديث أبي قتادة روي من طريق جماعة من الصحابة منهم زيد
بن أرقم وسهل بن سعد وقتادة بن النعمان وابن عمر عند الطبراني ومن حديث عائشة عند
أحمد
( وفي الباب ) عن أنس وغيره وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والحاكم
والبيهقي وصححه ابن خزيمة والحاكم وفي إسناده مهدي الهجري وهو مجهول . ورواه
العقيلي في الضعفاء من طريقه وقال لا يتابع عليه قال وقد روي عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بأسانيد جياد أنه لم يصم يوم عرفة بها ولا يصح عنه النهي عن صيامه
وحديث أم الفضل أخرج نحوه الشيخان من حديث ميمونة وأخرجه النسائي والترمذي وابن
حبان من حديث ابن عمر بلفظ : ( حججت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصم
ومع أبي بكر كذلك ومع عثمان فلم يصم وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه )
وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس وحديث عقبة في معناه أحاديث يأتي ذكره بعضها في
باب النهي عن صوم العيدين وأيام التشريق
قوله : ( صيام عاشوراء ) سيأتي البحث عنه وكذلك يأتي الكلام على قوله وثلاثة أيام
من كل شهر
قوله : ( والعشر ) فيه دليل على استحباب صوم عشر ذي الحجة وعلى أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم كان يصوم يوم عرفة ورواية أبي داود التي قدمنا بلفظ تسع ذي الحجة
قوله : ( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ) الخ في بعض ألفاظ الحديث : ( أحتسب على الله
أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ) وقد استشكل تكفيره السنة الآتية لأن
التكفير التغطية ولا تكون إلا لشيء قد وقع وأجيب بأن المراد يكفره بعد وقوعه أو
المراد أنه يلطف به فلا يأتي بذنب فيها [ ص 325 ] بسبب صيامه ذلك اليوم . وقد قيد
ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم بالصغائر . قال النووي : فإن لم تكن صغائر كفر من
الكبائر وإن لم تكن كبائر كان زيادة في رفع الدرجات
( والحديث ) يدل على استحباب صوم يوم عرفة وكذلك الأحاديث الواردة في معناه التي
قدمنا الإشارة إليها وإلى ذلك ذهب عمر وعائشة وابن الزبير وأسامة بن زيد وعثمان
ابن أبي العاص والعترة وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن عثمان وقال قتادة : إنه لا
بأس به إذ لم يضعف عن الدعاء ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم
واختاره الخطابي والمتولي من الشافعية وحكى في الفتح عن الجمهور أنه يستحب إفطاره
حتى قال عطاء من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم وقال يحيى بن
سعيد الأنصاري : إنه يجب فطر يوم عرفة للحاج
( واعلم ) أن ظاهر حديث أبي قتادة المذكور في الباب أنه يستحب صوم يوم عرفة مطلقا
. وظاهر حديث عقبة بن عامر المذكور في الباب أيضا أنه يكره صومه مطلقا لجعله قريبا
في الذكر ليوم النحر وأيام التشريق وتعليل ذلك بأنها عيد وأنها أيام أكل وشرب .
وظاهر حديث أبي هريرة أنه لا يجوز صومه بعرفات فيجمع بين الأحاديث بأن صوم هذا
اليوم مستحب لكل أحد مكروه لمن كان بعرفات حاجا
( والحكمة ) في ذلك أنه ربما كان مؤديا إلى الضعف عن الدعاء والذكر يوم عرفة هنالك
والقيام بأعمال الحج . وقيل الحكمة أنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه ويؤيده
حديث أبي قتادة . وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أفطر فيه لموافقته
يوم الجمعة وقد نهى عن إفراده بالصوم كما سيأتي ويرد هذا حديث أبي هريرة المصرح
بالنهي عن صومه مطلقا
قوله : ( فشرب وهو يخطب ) فيه دليل على جواز الأكل والشرب في المحافل من غير كراهة
. وفي رواية للبخاري من حديث ميمونة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شربه
والناس ينظرون إليه )
قوله : ( عيدنا أهل الإسلام ) فيه دليل على أن يوم عرفة وبقية أيام التشريق التي
بعد يوم النحر أيام عيد
باب صوم المحرم وتأكيد عاشوراء
1 - قد سبق أنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل [ ص 326 ] قال : شهر الله المحرم )
2 - وعن ابن عباس : ( وسئل عن صوم عاشوراء فقال : ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ولا شهرا إلا هذا الشهر يعني رمضان )
3 - وعن عائشة قالت : ( كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه )
4 - وعن سلمة بن الأكوع قال : ( أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء )
5 - وعن علقمة : ( أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله وهو يطعم يوم عاشوراء فقال يا أبا عبد الرحمن إن اليوم يوم عاشوراء فقال قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان ترك فإن كنت مفطرا فأطعم )
6 - وعن ابن عمر : ( أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن يوم عاشوراء من أيام الله فمن شاء صامه وكان ابن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صيامه )
7 - وعن أبي موسى قال : ( كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوموه أنتم )
8 - وعن ابن عباس قال : ( قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال ما هذا قالوا يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى فقال أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه )
9 -
وعن معاوية بن أبي سفيان قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء صام ومن شاء فليفطر )
- متفق على هذه الأحاديث كلها وأكثرها يدل على أن صومه وجب ثم نسخ ويقال لم يجب
بحال بدليل خبر معاوية وإنما نسخ تأكيد استحبابه
-
قوله : ( قد سبق أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل ) الخ هذا الحديث ذكره المصنف
رحمه الله تعالى في باب ما جاء في قيام الليل من أبواب صلاة التطوع وهو للجماعة
إلا البخاري عن أبي هريرة
( وفيه دليل ) على أن أفضل صيام التطوع صوم شهر المحرم ولا يعارضه حديث أنس عند
الترمذي قال : ( سئل رسول الله صلى [ ص 327 ] الله عليه وآله وسلم أي الصوم أفضل
بعد رمضان قال شعبان لتعظيم رمضان ) لأن في إسناده صدقة بن موسى وليس بالقوي .
ومما يدل على فضيلة الصيام في المحرم ما أخرجه الترمذي عن علي عليه السلام وحسنه :
( أنه سمع رجلا يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قاعد فقال يا رسول
الله أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان فقال إن كنت صائما بعد شهر رمضان فصم
المحرم فإنه شهر الله فيه يوم تاب فيه على قوم ويتوب فيه على قوم )
وقد استشكل قوم إكثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صوم شعبان دون المحرم مع
كون الصيام فيه أفضل من غيره وأجيب عن ذلك بجوابين الأول أنه صلى الله عليه وآله
وسلم إنما علم فضل المحرم في آخر حياته والثاني لعله كان يعرض له فيه سفر أو مرض
أو غيرهما
قوله : ( عن صوم عاشوراء ) قال في الفتح : هو بالمد على المشهور وحكى فيه القصر
وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي وأنه لا يعرف في الجاهلية ورد ذلك ابن دحية بأن ابن
الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء كذا في الفتح
وبحديث عائشة المذكور في الباب : ( أن الجاهلية كانوا يصومونه ) ولكن صومهم له لا
يستلزم أن يكون مسمى عندهم بذلك الاسم
قال في الفتح أيضا : واختلف أهل الشرع في تعيينه فقال الأكثر هو اليوم العاشر قال
القرطبي : عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة الليلة
العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم
عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه
الاسمية فامتنعوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر
وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا وضاروراء وساروراء وذالولاء
من الضار والسار والذال . قال الزين ابن المنير : الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم
العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية . وقيل هو اليوم التاسع
فعلى الأول اليوم مضاف الليلة الماضية وعلى الثاني هو ضاف لليلة الآتية وقيل إنما
سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم
أوردوها في التاسع قالوا وردنا عشرا بكسر العين . وروى مسلم من حديث الحكم بن
الأعرج انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه فقلت أخبرني عن يوم عاشوراء قال إذا
رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما فقلت أهكذا [ ص 328 ] كان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم يصوم قال : نعم . وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو التاسع
انتهى كلام الفتح
وقد تأول قول ابن عباس هذا الزين ابن المنير بأن معناه أنه ينوي الصيام في الليلة
المتعقبة للتاسع وقواه الحافظ بحديث ابن عباس الآتي : ( أنه صلى الله عليه وآله
وسلم قال : إذا كان المقبل إن شاء الله صمنا التاسع ) فلم يأت العام المقبل حتى
توفي قال : فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم العاشر وهم بصوم
التاسع فمات قبل ذلك . وأقول : الأولى أن يقال أن ابن عباس أرشد السائل له إلى اليوم
الذي يصام فيه وهو التاسع ولم يجب عليه بتعيين يوم عاشوراء أنه اليوم العاشر لأن
ذلك مما لا يسئل عنه ولا يتعلق بالسؤال عنه فائدة فابن عباس لما فهم من السائل أن
مقصوده تعيين اليوم الذي يصام فيه أجاب عليه بأنه التاسع . وقوله نعم بعد قول
السائل أهكذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم بمعنى نعم هكذا كان يصوم لو
بقي لأنه قد أخبرنا بذلك ولا بد من هذا لأنه صلى الله عليه وآله وسلم مات قبل صوم
التاسع وتأويل ابن المنير في غاية البعد لأن قوله وأصبح يوم التاسع صائما لا
يحتمله وسيأتي لكلام ابن عباس تأويل آخر
قوله : ( ما علمت ) الخ هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصيام بعد رمضان
ولكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره وقد تقدم أن أفضل الصوم
بعد رمضان على الإطلاق صوم المحرم وتقدم في الباب الذي قبل هذا أن صوم يوم عرفة
يكفر سنتين وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم
عاشوراء
قوله : ( فلما قدم المدينة صامه ) فيه تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام
عاشوراء وهو أول قدومه المدينة ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول فحينئذ كان
الأمر بذلك في أول السنة الثانية وفي السنة الثانية فرض شهر رمضان فعلى هذا لم يقع
الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة . ثم فوض الأمر في صومه إلى المتطوع
قوله : ( من شاء صامه ومن شاء تركه ) هذا يرد على من قال ببقاء فرضية صوم عاشوراء
كما نقله القاضي عياض عن بعض السلف ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه ليس الآن
بفرض والإجماع على أنه مستحب وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم ثم انعقد الإجماع بعده
على الاستحباب
قوله : ( وعن سلمة بن الأكوع ) قد تقدم شرح هذا الحديث في باب الصبي يصوم إذا أطاق
قوله : ( إن أهل الجاهلية [ ص 329 ] كانوا يصومون ) الخ في حديث عائشة أنها كانت
تصومه قريش . قال في الفتح : وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع
السالف كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة وغير ذلك
قال الحافظ : ثم رأيت في المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير عن عكرمة أنه سئل
عن ذلك فقال : أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم صوموا عاشوراء
يكفر ذلك انتهى
قوله : ( فرأى اليهود تصوم عاشوراء ) في رواية لمسلم : ( فوجد اليهود صياما ) وقد
استشكل ظاهر هذا الخبر لاقتضائه أنه صلى الله عليه وآله وسلم حين قدومه المدينة
وجد اليهود صياما يوم عاشوراء وإنما قدم المدينة في ربيع الأول . وأجيب بأن المراد
أن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة أو يكون في الكلام حذف
وتقديره قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد
اليهود فيه صياما ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب
السنين الشمسية فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم المدينة
قوله : ( فصامه وأمر بصيامه ) قد استشكل رجوعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهود
في ذلك . وأجاب المازري باحتمال أن يكون أوحى إليه بصدقهم أو تواتر عنده الخبر
بذلك أو أخبره من أسلم منهم كابن سلام ثم قال ليس في الخبر أنه ابتدأ الأمر بصيامه
بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك فغاية ما في القصة أنه لم يحدث
له بقول اليهود تجديد حكم ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أن أهل الجاهلية كانوا
يصومون كما تقدم إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك .
قال القرطبي : وعلى كل حال فلم يصمه إقتداء بهم فإنه كان يصومه قبل ذلك وكان ذلك
في الوقت الذي يجب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه
قوله : ( ولم يكتب عليكم صيامه ) الخ هذا كله من كلام النبي صلى الله عليه وآله
وسلم كما بينه النسائي . واستدل به على أنه لم يكن فرضا قط كما قال المصنف . قال
الحافظ : ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد ولم يكتب عليكم صيامه على الدوام كصيام
رمضان وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه ويؤيد ذلك أن معاوية إنما
صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنة الفتح والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء
والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أول العام الثاني ويؤخذ من مجموع [ ص 330 ]
الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه ثم تأكيد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد
بالنداء العام ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن
فيه الأطفال
ومقول ابن مسعود الثابت في مسلم لما فرض رمضان ترك عاشوراء مع العلم بأنه ما ترك
استحبابه بل هو باق فدل على أن المتروك وجوبه
وأما قول بعضهم المتروك تأكيد استحبابه والباقي مطلق الاستحباب فلا يخفى ضعفه بل تأكد
استحبابه باق ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه
وآله وسلم حيث قال : ( لئن بقيت لأصومن التاسع ) كما سيأتي ولترغيبه فيه وإخباره
بأنه يكفر سنة فأي تأكيد أبلغ من هذا
10 -
وعن ابن عباس قال : ( لما صام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عاشوراء وأمر
بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال : فإذا كان عام
المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه مسلم وأبو داود . وفي لفظ : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لئن
بقيت إلى قابل لأصومن التاسع يعني يوم عاشوراء ) رواه أحمد ومسلم . وفي رواية : (
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود صوموا
قبله يوما وبعده يوما ) رواه أحمد
-
رواية أحمد هذه ضعيفة منكرة من طريق داود بن علي عن أبيه عن جده رواها عنه ابن أبي
ليلى
قوله : ( تعظمه اليهود والنصارى ) استشكل هذا بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون
مما يدل على اختصاص ذلك بموسى واليهود . وأجيب باحتمال أن يكون سبب تعظيم النصارى
أن عيسى كان يصومه وهو مما لم ينسخ من شريعة موسى لأن كثيرا منها ما نسخ بشريعة
عيسى لقوله تعالى { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } وأكثر الأحكام إنما يتلقاها
النصارى من التوراة
وقد أخرج أحمد عن ابن عباس أن السفينة استوت على الجودي فيه فصامه نوح وموسى شكرا
لله تعالى وكان ذكر موسى دون غيره لمشاركته له في الفرح باعتبار نجاتهما وغرق
أعدائهما
قوله : ( صمنا اليوم التاسع ) يحتمل أن المراد أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى
اليوم العاشر إما احتياطا له وإما مخالفة لليهود والنصارى ويحتمل أن المراد أنه
يقتصر على صومه ولكنه ليس في اللفظ ما يدل [ ص 331 ] على ذلك ويؤيد الاحتمال الأول
قوله في آخر الحديث : ( صوموا قبله يوما وبعده يوما ) فإنه صريح في مشروعية ضم
اليومين إلى يوم عاشوراء . وقد أخرج الحديث المذكور بمثل اللفظ الذي رواه أحمد
البيهقي وذكره في التلخيص وسكت عنه وقال بعض أهل العلم : إن قوله ( صمنا التاسع )
يحتمل أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع وأنه أراد أن يضيفه إليه في الصوم فلما توفي
قبل ذلك كان الاحتياط صوم اليومين انتهى
والظاهر أن الأحوط صوم ثلاثة أيام التاسع والعاشر والحادي عشر فيكون صوم عاشوراء
على ثلاث مراتب الأولى صوم العاشر وحده . والثانية صوم التاسع معه . والثالثة صوم
الحادي عشر معهما وقد ذكر معنى هذا الكلام صاحب الفتح
قوله : ( يعني يوم عاشوراء ) قد تقدم تأويل كلام ابن عباس بأن يوم عاشوراء هو
اليوم التاسع وتأوله النووي بأنه مأخوذ من إظماء الإبل فإن العرب تسمي اليوم
الخامس من أيامه رابعا وكذا باقي الأيام وعلى هذه النسبة فيكون التاسع عاشرا . قال
: وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم ممن
قال بذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق . قال : وهذا
ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد انتهى
باب ما جاء في صوم شعبان والأشهر الحرم
1 -
عن أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما
إلا شعبان يصل به رمضان )
- رواه الخمسة . ولفظ ابن ماجه : ( كان يصوم شهري شعبان ورمضان )
2 -
وعن عائشة قالت : ( لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه
كان يصومه كله ) وفي لفظ : ( ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه
إلا قليلا بل كان يصومه كله ) وفي لفظ : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان
)
- متفق على ذلك كله
-
حديث أم سلمة حسنه الترمذي
قوله : ( شهرا تاما إلا شعبان ) وكذا قول عائشة فإنه كان يصومه كله . وقولها بل
كان يصومه كله ظاهره يخالف قول عائشة كان [ ص 332 ] يصومه إلا قليلا . وقد جمع بين
هذه الروايات بأن المراد بالكل والتمام الأكثر وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه
قال : جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال صام الشهر كله ويقال قام
فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره . قال الترمذي : كان ابن المبارك
جمع بين الحديثين بذلك وحاصله أن رواية الكل والتمام مفسرة برواية الأكثر ومخصصة
بها وأن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال . واستبعده الطيبي قال : لأن
لفظ كل تأكيد لإرادة الشمول ورفع التجوز فتفسيره بالبعض مناف له قال : فيحتمل على
أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان
وقيل المراد بقولها كله أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ومن أثنائه طورا
فلا يخلي شيئا منه من صيام ولا يخص بعضا منه بصيام دون بعض . وقال الزين ابن
المنير : إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة والمراد الأكثر وإما أن يجمع بأن
قولها أنه كان يصومه كله متأخر عن قولها أنه كان يصوم أكثره وأنها أخبرت عن أول
الأمر ثم أخبرت عن آخره ويؤيد الأول قولها ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة
غير رمضان أخرجه مسلم والنسائي
( واختلف ) في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وآله وسلم من صوم شعبان فقيل كان يشتغل
عن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان أشار إلى
ذلك ابن بطال ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت : ( كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه
صوم السنة فيصوم شعبان ) ولكن في إسناده ابن أبي ليلى وهو ضعيف
وقيل كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان ويؤيد ما أخرجه الترمذي عن أنس قال : ( سئل رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان فقال شعبان لتعظيم رمضان )
ولكن إسناده ضعيف لأن فيه صدقة ابن موسى وليس بالقوي
( وقيل الحكمة ) في ذلك أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان فكان يصوم
معهن . وقيل الحكمة أنه يتعقبه رمضان وصومه مفترض فكان يكثر من الصوم في شعبان قدر
ما يصوم في شهرين غيره لما يفوته من التطوع الذي يعتاده بسبب صوم رمضان والأولى أن
الحكمة في ذلك غفلة الناس عنه لما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن [ ص 333 ]
خزيمة من حديث أسامة قال : ( قلت : يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما
تصوم من شعبان قال : ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه
الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ) ونحوه من حديث عائشة عند
أبي يعلى ولا تعارض بين ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من صوم كل شعبان أو
أكثره ووصله برمضان وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين وكذا ما
جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني فإن الجمع بينها ظاهر بأن يحمل النهي على من
لم يدخل تلك الأيام في صيام يعتاده وقد تقدم تقييد أحاديث النهي عن التقدم بقوله
صلى الله عليه وآله وسلم : ( إلا أن يكون شيئا يصومه أحدكم )
( فائدة ) ظاهر قوله في حديث أسامة : ( إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب
ورمضان ) أنه يستحب صوم رجب لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان
بالصوم كما يعظمون رمضان ورجبا به
ويحتمل أن المراد غفلتهم عن تعظيم شعبان بصومه كما يعظمون رجبا بنحر النحائر فيه
فإنه كان يعظم بذلك عند الجاهلية وينحرون فيه العتيرة كما ثبت في الحديث والظاهر
الأول لأن المراد بالناس الصحابة فإن الشارع قد كان إذ ذاك محا آثار الجاهلية ولكن
غايته التقرير لهم على صومه وهو لا يفيد زيادة على الجواز . وقد ورد ما يدل على
مشروعية صومه على العموم والخصوص أما العموم فالأحاديث الواردة في الترغيب في صوم
الأشهر الحرم وهو منها بالإجماع . وكذلك الأحاديث الواردة في مشروعية مطلق الصوم
وأما على الخصوص فما أخرجه الطبراني عن سعيد ابن أبي راشد مرفوعا بلفظ : ( من صام
يوما من رجب فكأنما صام سنة ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم ومن صام
منه ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة ومن صام منه عشرة لم يسأل الله شيئا
إلا أعطاه ومن صام منه خمسة عشر يوما نادى مناد من السماء قد غفر لك ما مضى
فاستأنف العمل ومن زاد زاده الله ) ثم ساق حديثا طويلا في فضله
وأخرج الخطيب عن أبي ذر : ( من صام يوما من رجب عدل صيام شهر ) وذكر نحو حديث سعيد
بن أبي راشد
وأخرج نحوه أبو نعيم وابن عساكر من حديث ابن عمر مرفوعا . وأخرج نحوه البيهقي في
شعب الإيمان عن أنس مرفوعا . وأخرج [ ص 334 ] الخلال عن أبي سعيد مرفوعا : ( رجب
من شهور الحرم وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة فإذا صام الرجل منه يوما
وجدد صومه بتقوى الله نطق الباب ونطق اليوم وقالا يا رب اغفر له وإذا لم يتم صومه
بتقوى الله لم يستغفرا له وقيل خدعتك نفسك )
وأخرج أبو الفتح ابن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلا أنه : ( قال صلى الله
عليه وآله وسلم : رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي ) وحكى ابن السبكي عن
محمد ابن منصور السمعاني أنه قال لم يرد في استحباب صوم رجب على الخصوص سنة ثابتة
والأحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها عالم وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه أن
عمر كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان ويقول كلوا فإنما هو شهر كان
تعظمه الجاهلية
وأخرج أيضا من حديث زيد بن أسلم قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن
صوم رجب فقال : أين أنتم عن شعبان )
وأخرج عن ابن عمر ما يدل على أنه كان يكره صوم رجب ولا يخفاك أن الخصوصات إذا لم
تنتهض للدلالة على استحباب صومه انتهضت العمومات ولم يرد ما يدل على الكراهة حتى
يكون مخصصا لها . وأما حديث ابن عباس عند ابن ماجه بلفظ : ( أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم نهى عن صيام رجب ) ففيه ضعيفان زيد بن عبد الحميد وداود بن عطاء
3 -
وعن رجل من باهلة قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله
أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول فقال : فما لي أرى جسمك ناحلا قال : يا رسول الله
ما أكلت طعاما بالنهار ما أكلته إلا بالليل قال : من أمرك أن تعذب نفسك قلت : يا
رسول الله إني أقوى قال : صم شهر الصبر ويوما بعده قلت : إني أقوى قال : صم شهر
الصبر ويومين بعده قلت : إني أقوى قال : صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده وصم أشهر
الحرم )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه
-
الحديث أخرجه أيضا النسائي وقد اختلف في اسم الرجل الذي من باهلة فقال البغوي أبو
القاسم في معجم الصحابة : أن اسمه عبد الله بن الحارث وقال : سكن البصرة . وروى عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا لم يسمه وذكر في موضع آخر هذا الحديث وكذلك
قال ابن قانع في معجم الصحابة : أن اسمه عبد الله بن الحارث والراوي عنه مجيبة
الباهلية بضم الميم وكسر الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبعدها باء موحدة مفتوحة
وتاء التأنيث ففي رواية أبي داود عن أبيها أو عمها يعني هذا الرجل [ ص 335 ] وهكذا
قال أبو القاسم البغوي أنها قالت حدثني أبي أو عمي
وفي رواية النسائي مجيبة الباهلية عن عمه وقد ضعف هذا الحديث بعضهم لهذا الاختلاف
. قال المنذري : وهو متوجه وفيه نظر لأن مثل هذا الاختلاف لا ينبغي أن يعد قادحا
في الحديث
قوله : ( صم شهر الصبر ) يعني شهر رمضان
قوله : ( ويوما بعده ) إلى قوله وثلاثة أيام بعده فيه دليل على استحباب صوم يوم أو
يومين أو ثلاثة بعد شهر رمضان وقد تقدم أنه يستحب صيام ستة أيام فلا منافاة لأن
الزيادة مقبولة
قوله : ( وصم أشهر الحرم ) هي شهر القعدة والحجة ومحرم ورجب
( وفيه دليل ) على مشروعية صومها أما شهر محرم ورجب فقد قدمنا ما ورد فيهما على
الخصوص وكذلك العشر الأول من شهر ذي الحجة وأما شهر القعدة وبقية شهر الحجة فلهذا
العموم ولكنه ينبغي أن لا يستكمل صوم شهر منها ولا يصوم جميعها ويدل على ذلك ما
عند أبي داود من هذا الحديث بلفظ : ( صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك صم من
الحرم واترك )
باب الحث على صوم الاثنين والخميس
1 -
عن عائشة قالت : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحرى صيام الاثنين
والخميس )
- رواه الخمسة إلا أبا داود لكنه له من رواية أسامة بن زيد
2 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تعرض الأعمال كل اثنين
وخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم )
- رواه أحمد والترمذي . ولابن ماجه معناه . ولأحمد والنسائي هذا المعنى من حديث
أسامة بن زيد
3 -
وعن أبي قتادة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال
: ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود
-
حديث عائشة أخرجه أيضا ابن حبان وصححه وأعله ابن القطان بالراوي عنها وهو ربيعة
الجرشي وأنه مجهول قال الحافظ : وأخطأ في ذلك فهو صحابي . قال الترمذي : حديث
عائشة هذا حسن صحيح . وحديث أسامة أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده [ ص 336 ] رجل
مجهول ولكنه صحح الحديث ابن خزيمة وحديث أبي هريرة قال الترمذي حديث غريب وأورده
الحافظ في التلخيص وسكت عنه . وحديث أبي قتادة أخرجه من ذكر المصنف . ( وفي الباب
) عن حفصة عند أبي داود
( وأحاديث ) الباب تدل على استحباب صوم يوم الاثنين والخميس لأنهما يومان تعرض
فيهما الأعمال
قوله : ( فقال ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه ) الولادة والإنزال إنما كانا في
يوم الاثنين كما جاء في الأحاديث
باب كراهة إفراد يوم الجمعة ويوم السبت بالصوم
1 -
عن محمد بن عباد بن جعفر قال : ( سألت جابر أنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن
صوم يوم الجمعة قال : نعم )
- متفق عليه . وللبخاري في رواية : ( أن يفرد بصوم )
2 -
وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تصوموا يوم
الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم )
- رواه الجماعة إلا النسائي . ولمسلم : ( ولا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين
الليالي ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه
أحدكم ) ولأحمد يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا
قبله أو بعده
3 -
وعن جويرية : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها في يوم الجمعة وهي
صائمة فقال : أصمت أمس قالت : لا قال : تصومين غدا قالت : لا قال : فأفطري )
- رواه أحمد والبخاري وأبو داود وهو دليل على أن التطوع لا يلزم بالشروع
4 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تصوموا يوم الجمعة وحده )
5 -
وعن جنادة الأزدي قال : ( دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم جمعة
في سبعة من الأزد إناثا منهم وهو يتغدى فقال : هلموا إلى الغداء فقلنا : يا رسول
الله إنا صيام فقال : أصمتم أمس قلنا : لا قال : أفتصومون غدا قلنا : لا قال :
فأفطروا فأكلنا معه فلما خرج وجلس على المنبر دعا بإناء من ماء فشرب وهو على
المنبر والناس ينظرون يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة )
- رواهما أحمد
-
حديث ابن عباس هو مثل حديث أبي هريرة المتقدم وفي إسناده الحسين بن عبد الله بن
عبيد الله وثقه ابن معين وضعفه الأئمة . وحديث جنادة الأزدي هو [ ص 337 ] مثل حديث
جويرية وأخرجه أيضا الحاكم وأخرجه أيضا النسائي بإسناد رجاله رجال الصحيح إلا
حذيفة البارقي وهو مقبول
قوله : ( قال نعم ) زاد مسلم وأحمد وغيرهما : ( قال نعم ورب هذا البيت ) وفي رواية
النسائي : ( ورب الكعبة ) وهم صاحب العمدة فعزاها إلى مسلم
قوله : ( أن يفرد بصوم ) فيه دليل على أن النهي المطلق في الرواية الأولى مقيد
بالإفراد لا إذا لم يفرد الجمعة بالصوم كما يأتي في بقية الروايات
قوله : ( إلا وقبله يوم أو بعده يوم ) أي لا تصوموا قبله يوما أو تصوموا بعده يوما
وكذا وقع في رواية الإسماعيلي فقال : ( إلا أن تصوموا قبله أو بعده ) وفي رواية
لمسلم : ( إلا أن تصوموا قبله يوما أو بعده يوما ) وهذه الروايات تقيد مطلق النهي
أيضا
قوله : ( ولا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ) فيه دليل على عدم جواز
تخصيص ليلة الجمعة بقيام أو صلاة من بين الليالي
قال النووي في شرح مسلم : وهذا متفق على كراهته قال : واحتج به العلماء على كراهة
هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب قاتل الله واضعها ومخترعها فإنها بدعة منكرة
من البدع التي هي ضلالة وجهالة وفيها منكرات ظاهرة . وقد صنف جماعة من الأئمة
مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها ودلائل قبحها وبطلانها وتضليل
فاعلها أكثر من أن تحصر والله أعلم انتهى
واستدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام وقد حكاه ابن المنذر وابن
حزم عن علي عليه السلام وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر . قال ابن حزم : ولا نعلم لهم
مخالفا في الصحابة ونقله أبو الطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية
وقال ابن المنذر : ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد وهذا
يشعر بأنه يرى تحريمه . وقال أبو جعفر الطبري : يفرق بين العيد والجمعة بأن
الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده وذهب الجمهور إلى أن
النهي فيه للتنزيه . وقال مالك وأبو حنيفة : لا يكره واستدلا بحديث ابن مسعود
الآتي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قل ما كان يفطر يوم الجمعة ) قال في
الفتح : وليس فيه حجة لأنه يحتمل أنه كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي
كان يصومها ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعا بين الخبرين قال : ومنهم من عده
من الخصائص وليس بجيد لأنها لا تثبت بالاحتمال انتهى
ويمكن أن يقال بل دعوى اختصاص صومه به صلى الله عليه وآله وسلم جيدة لما تقرر في
الأصول من أن [ ص 338 ] فعله صلى الله عليه وآله وسلم لما نهي عنه نهيا يشمله يكون
مخصصا له وحده من العموم ونهيا يختص بالأمة لا يكون فعله معارضا له إذا لم يقم
دليل يدل على التأسي به في ذلك الفعل لخصوصه لا مجرد أدلة التأسي العامة فإنها
مخصصة بالنهي للأمة لأنه أخص منها مطلقا
ومن غرائب المقام ما احتج له بعض المالكية على عدم كراهة صوم يوم الجمعة يقال يوم
لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده وهذا قياس فاسد الاعتبار لأنه منصوب في مقابلة
النصوص الصحيحة وأغرب من ذلك قول مالك في الموطأ لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه
ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعضهم يصومه وأراه كان
يتحراه قال النووي : والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره وقد ثبت النهي عن صوم
الجمعة فيتعين القول به ومالك معذور فإنه لم يبلغه . قال الداودي من أصحاب مالك :
لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه
( وقد اختلف ) في سبب كراهة إفراد يوم الجمعة بالصيام على أقوال ذكرها صاحب الفتح
منها لكونه عيدا ويدل على ذلك رواية أحمد المذكورة في الباب واستشكل التعليل بذلك
بوقوع الإذن من الشارع بصومه مع غيره وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا
يستلزم الاستواء من كل وجه ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم ومنها
لئلا يضعف عن العبادة ورجحه النووي
قال في الفتح : وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه وأجاب النووي بأنه
يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل به يوم صومه من فتور أو تقصير .
قال الحافظ : وفيه نظر فإن الجبر لا ينحصر في الصوم بل يحصل بجميع أفعال الجبر
فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده
كمن أعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك وأيضا فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف
لا من يتحقق منه القوة ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في
جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه
ومنها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت . قال في الفتح :
وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام وخوف اعتقاد وجوبه قال في الفتح أيضا : وهو
منتقض بصوم الاثنين والخميس . ومنها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه
وآله وسلم من قيام الليل ذلك قاله المهلب . قال في الفتح : وهو منتقض بإجازة صومه
مع غيره وبأنه لو كان السبب ذلك لجاز صومه بعده صلى الله عليه وآله وسلم لارتفاع
الخشية ومنها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم . [ ص
339 ] قال في الفتح : وهو ضعيف
وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب الأول لما تقدم من حديث أبي هريرة وقد أخرجه الحاكم
أيضا ولما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي عليه السلام قال : ( من كان منكم
متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر )
6 -
وعن عبد الله بن بسر عن أخته واسمها الصماء : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال : لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا عود
عنب أو لحاء شجرة فليمضغه )
- رواه الخمسة إلا النسائي
7 -
وعن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلما كان يفطر يوم الجمعة )
- رواه الخمسة إلا أبا داود ويحمل هذا على أنه كان يصومه مع غيره
-
الحديث الأول أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي وصححه ابن السكن .
قال أبو داود في السنن : قال مالك هذا الحديث كذب وقد أعل بالاضطراب كما قال
النسائي لأنه روي كما ذكر المصنف . وروي عن عبد الله بن بسر وليس فيه عن أخته كما
وقع لابن حبان . قال الحافظ : وهذه ليست بعلة قادحة فإنه أيضا صحابي وقيل عنه عن
أبيه بسر . وقيل عنه عن أخته الصماء عن عائشة
قال الحافظ : ويحتمل أن يكون عند عبد الله عن أبيه وعن أخته وعند أخته بواسطة قال
: ولكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهن الرواية
وينبئ عن قلة ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث فلا
يكون ذلك دالا على قلة ضبطه وليس الأمر هنا كذا بل اختلف فيه أيضا على الراوي عبد
الله بن بسر . وقد ادعى أبو داود أن هذا الحديث منسوخ قال في التلخيص : ولا يتبين
وجه النسخ فيه ثم قال : يمكن أن يكون أخذه من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر ثم في آخر الأمر قال خالفوهم والنهي عن
يوم السبت يوافق الحالة الأولى وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية وهذه صورة النسخ
والله أعلم انتهى
وقد أخرج النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن كريب : ( أن ناسا من أصحاب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها عن الأيام التي كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أكثر لها صياما فقالت يوم السبت والأحد فرجعت إليهم
فكأنهم أنكروا ذلك فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها فقالت صدق وكان يقول إنهما يوما
عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم ) وصحح الحاكم إسناده [ ص 340 ] وصححه أيضا ابن
خزيمة
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم
من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس )
وسيأتي وقد جمع صاحب البدر المنير بين هذه الأحاديث فقال : النهي متوجه إلى
الإفراد والصوم باعتبار انضمام ما قبله أو بعده إليه ويؤيد هذا ما تقدم من إذنه
صلى الله عليه وآله وسلم لمن صام الجمعة أن يصوم السبت بعدها والجمع مهما أمكن
أولى من النسخ
والحديث الثاني حسنه الترمذي . وقال ابن عبد البر : هو صحيح ولا مخالفة بينه وبين
الأحاديث السابقة وأنه محمول على أنه كان يصله بيوم الخميس . وروى بسنده إلى أبي
هريرة أنه قال : ( من صام الجمعة كتب له عشرة أيام من أيام الآخرة لا يشاكلهن أيام
الدنيا ) وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم مفطرا يوم الجمعة قط ) وقد تقدم الكلام على صوم يوم الجمعة
قوله : ( أو لحاء شجرة ) اللحاء بكسر اللام بعدها حاء مهملة قشر الشجر
باب صوم أيام البيض وصوم ثلاثة أيام من كل شهر وإن كانت سواها
1 -
عن أبي ذر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا ذر إذا صمت من
الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي
2 -
وعن أبي قتادة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من كل شهر
ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود
3 -
وعن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد
والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس )
- رواه الترمذي وقال حديث حسن
4 -
وعن أبي ذر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صام من كل شهر
ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه { من جاء بالحسنة فله
عشر أمثالها } اليوم بعشرة )
- رواه ابن ماجه والترمذي
-
حديث أبي ذر الأول أخرجه أيضا ابن حبان وصححه . ولفظه عند النسائي [ ص 341 ]
والترمذي قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة
أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ) وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان وصححه
من حديث أبي هريرة ورواه النسائي من حديث جرير مرفوعا قال الحافظ : وإسناده صحيح
ورواه ابن أبي حاتم في العلل عن جرير موقوفا وصحح عن أبي زرعة وقفه وأخرجه أبو
داود والنسائي من طريق ابن ملحان القيسي عن أبيه . وأخرجه البزار من طريق ابن
البيلماني عن أبيه عن ابن عمر . وحديث عائشة روي موقوفا قال في الفتح : وهو أشبه .
وحديث أبي ذر الآخر حسنه الترمذي
( وفي الباب ) عن ابن مسعود عند أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة : ( أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر ) وعن حفصة عند أبي داود
والنسائي : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام
الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى )
وعن عائشة غير حديث الباب عند مسلم قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يبالي من أي الشهر صام )
وعن أبي هريرة غير حديثه الأول عند الشيخين بلفظ : ( أوصاني خليلي بصيام ثلاثة
أيام )
وعن ابن عباس عند النسائي بلفظ : ( كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يفطر أيام
البيض في حضر ولا سفر ) وسيأتي . وعن قرة بن إياس المزني وأبي عقرب وعثمان بن أبي
العاص أشار إلى ذلك الترمذي
قوله : ( فصم ثلاث عشرة ) الخ فيه دليل على استحباب صوم أيام البيض وهي الثلاثة
المعينة في الحديث وقد وقع الاتفاق بين العلماء على أنه يستحب أن تكون الثلاث
المذكورة في وسط الشهر كما حكاه النووي واختلفوا في تعيينها فذهب الجمهور إلى أنها
ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر . وقيل هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر .
وحديث أبي ذر المذكور في الباب وما ذكرنا من الأحاديث الواردة في معناه يرد ذلك
قوله : ( ثلاث من كل شهر ) الخ اختلفوا في تعيين هذه الثلاثة الأيام المستحبة من
كل شهر ففسرها عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر وغيرهم من الصحابة وجماعة من
التابعين وأصحاب الشافعي بأيام البيض . ويشكل على هذا قول عائشة المتقدم : ( لا
يبالي من أي الشهر صام ) وأجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعله كان
يعرض له ما يشغله من مراعاة ذلك أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز وكل ذلك في حقه أفضل
[ ص 342 ] والذي أمر به قد أخبر به أمته ووصاهم به وعينه لهم فيحمل مطلق الثلاث
على الثلاث المقيدة بالأيام المعينة واختار النخعي وآخرون أنها آخر الشهر واختار
الحسن البصري وجماعة أنها من أوله واختارت عائشة وآخرون صيام السبت والأحد
والاثنين من عدة شهر ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس من الشهر الذي بعده للحديث
المذكور في الباب عنها . وقال البيهقي : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم
من كل شهر ثلاثة أيام لا يبالي من أي الشهر صام ) كما في حديث عائشة قال : فكل من
رآه فعل نوعا ذكره وعائشة رأت جميع ذلك فأطلقت . وقال الروياني : صيام ثلاثة أيام
من كل شهر مستحب فإن اتفقت أيام البيض كان أحب
وفي حديث رفعه ابن عمر : ( أول اثنين في الشهر وخميسان بعده ) وروي عن مالك أنه
يكره تعيين الثلاث . قال في الفتح : وفي كلام غير واحد من العلماء أن استحباب صيام
أيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر انتهى
وهذا هو الحق لأن حمل المطلق على المقيد ههنا متعذر وكذلك استحباب السبت والأحد
والاثنين من شهر والثلاثاء والأربعاء والخميس من شهر غير استحباب ثلاثة أيام من كل
شهر وقد حكى الحافظ في الفتح في تعيين الثلاثة الأيام المطلقة عشرة أقوال وقد
ذكرنا أكثرها والحق أنها تبقى على إطلاقها فيكون الصائم مخيرا وفي أي وقت صامها
فقد فعل المشروع لكن لا يفعلها في أيام البيض
( فالحاصل ) من أحاديث الباب استحباب صيام تسعة أيام من كل شهر ثلاثة مطلقة وأيام
البيض والسبت والأحد والاثنين في شهر والثلاثاء والأربعاء والخميس في شهر
قوله : ( فذلك صيام الدهر ) وذلك لأن الحسنة بعشرة أمثالها فيعدل صيام الثلاثة
الأيام من كل شهر صيام الشهر كله فيكون كمن صام الدهر
باب صيام يوم وفطر يوم وكراهة صوم الدهر
1 - عن عبد الله بن عمرو : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : صم من كل شهر ثلاثة أيام قلت : إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قال : صم يوما وأفطر يوما فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود عليه السلام )
2 -
وعن عبد الله بن عمرو [ ص 343 ] قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
لا صام من صام الأبد )
- متفق عليهما
3 -
وعن أبي قتادة قال : ( قيل يا رسول الله كيف بمن صام الدهر قال : لا صام ولا أفطر
أو لم يصم ولم يفطر )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه
3 -
وعن أبي موسى : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من صام الدهر ضيقت عليه
جهنم هكذا وقبض كفه )
- رواه أحمد . ويحمل هذا على من صام الأيام المنهي عنها
-
حديث أبي موسى أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة والبيهقي وابن أبي شيبة . ولفظ ابن
حبان : ( ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين ) وأخرجه أيضا البزار والطبراني قال في
مجمع الزوائد : ورجاله رجال الصحيح
( وفي الباب ) عن عبد الله بن الشخير عند أحمد وابن حبان بلفظ : ( من صام الأبد
فلا صام ولا أفطر ) وعن عمران بن حصين أشار إليه الترمذي
قوله : ( فإنه أفضل الصيام ) مقتضاه أن الزيادة على ذلك من الصوم مفضولة وسيأتي
البحث عن ذلك
قوله : ( لا صام من صام الأبد ) استدل بذلك على كراهية صوم الدهر . قال ابن التين
: استدل على الكراهة من وجوه نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الزيادة وأمره بأن
يصوم ويفطر . وقوله ( لا أفضل من ذلك ) ودعاؤه على من صام الأبد . وقيل معنى قوله
لا صام النفي أي ما صام كقوله تعالى { فلا صدق ولا صلى } ويدل على ذلك ما عند مسلم
من حديث أبي قتادة بلفظ : ( ما صام وما أفطر ) وما عند الترمذي بلفظ : ( لم يصم
ولم يفطر ) قال في الفتح : أي لم يحصل أجر الصوم لمخالفته ولم يفطر لأنه أمسك .
وإلى كراهة صوم الدهر مطلقا ذهب إسحاق وأهل الظاهر وهي رواية عن أحمد . وقال ابن
حزم : يحرم ويدل للتحريم حديث أبي موسى المذكور في الباب لما فيه من الوعيد الشديد
( وذهب الجمهور ) كما في الفتح إلى استحباب صومه وأجابوا عن حديث ابن عمرو وحديث
أبي قتادة بأنه محمول على من كان يدخل على نفسه مشقة أو يفوت حقا قالوا ولذلك لم
ينه صلى الله عليه وآله وسلم حمزة بن عمرو الأسلمي وقد قال له يا رسول الله إني
أسرد الصوم ويجاب عن هذا بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر بل المراد أنه كان
كثير الصوم كما وقع ذلك في رواية الجماعة المتقدمة في باب الفطر والصوم في السفر .
ويؤيد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد من حديث أسامة : ( أن النبي صلى الله [ ص 344 ]
عليه وآله وسلم كان يسرد الصوم )
مع ما ثبت أنه لم يصم شهرا كاملا إلا رمضان وأجابوا عن حديث أبي موسى بحمله على من
صامه جميعا ولم يفطر في الأيام المنهي عنها كالعيدين وأيام التشريق وهذا هو اختيار
ابن المنذر وطائفة . وأجيب عنه بأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا صام ولا
أفطر لمن سأله عن صوم الدهر أن معناه أنه لا أجر له ولا إثم عليه ومن صام الأيام
المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه أثم بصومها بالإجماع
وحكى الأثرم عن مسدد أنه قال : معنى حديث أبي موسى ضيقت عليه جهنم فلا يدخلها وحكى
مثله ابن خزيمة عن المزني ورجحه الغزالي . والملجئ إلى هذا التأويل أن من ازداد
الله عملا صالحا ازداد عنده رفعة وكرامة . قال في الفتح : وتعقب بأن ليس كل عمل
صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقربا بل رب عمل صالح إذا ازداد منه ازداد
بعدا كالصلاة في الأوقات المكروهة انتهى
وأيضا لو كان المراد ما ذكروه لقال ضيقت عليه واستدلوا على الاستحباب بما وقع في
بعض طرق حديث عبد الله بن عمرو بلفظ : ( فإن الحسنة بعشرة أمثالها وذلك مثل صيام
الدهر ) وبما تقدم في حديث : ( من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر
) وبما تقدم في صيام أيام البيض أنه مثل صوم الدهر . قالوا : والمشبه به أفضل من
المشبه فكان صيام الدهر أفضل من هذه المشبهات فيكون مستحبا وهو المطلوب . قال
الحافظ : وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضي جواز المشبه به فضلا عن
استحبابه وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما
ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية
المشبه به من كل وجه واختلف المجوزون لصيام الدهر هل هو الأفضل أو صيام يوم وإفطار
يوم فذهب جماعة منهم إلى أن صوم الدهر أفضل واستدلوا على ذلك بأنه أكثر عملا فيكون
أكثر أجرا وتعقبه ابن دقيق العيد بأن زيادة الأجر بزيادة العمل ههنا معارضة
باقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى فالأولى التفويض إلى حكم الشارع وقد حكم بأن
صوم يوم وإفطار يوم أفضل الصيام هذا معنى كلامه ومما يرشد إلى أن صوم الدهر من
جملة الصيام المفضل عليه صوم يوم وإفطار يوم أن ابن عمرو طلب أن يصوم زيادة على
ذلك المقدار فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أفضل الصيام [ ص 345 ]
باب تطوع المسافر والغازي بالصوم
1 -
وعن ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يفطر أيام البيض
في حضر ولا سفر )
- رواه النسائي
2 -
وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صام يوما في سبيل
الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا )
- رواه الجماعة إلا أبا داود
-
الحديث الأول في إسناده يعقوب بن عبد الله القمي وجعفر بن أبي المغيرة القمي
وفيهما مقال . وفيه دليل على استحباب صيام أيام البيض في السفر ويلحق بها صوم سائر
التطوعات المرغب فيها
والحديث الثاني يدل على استحباب صوم المجاهد لأن المراد بقوله في سبيل الله الجهاد
. قال النووي : وهو محمول على من لا يتضرر به ولا يفوت به حقا ولا يختل قتاله ولا
غيره من مهمات غزوه . ومعناه المباعدة عن النار والمعافاة منها مسيرة سبعين سنة
باب في أن صوم التطوع لا يلزم بالشروع
1 -
عن أبي جحيفة قال : ( آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين سلمان وأبي الدرداء
فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها : ما شأنك قالت : أخوك
أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال : كل فإني
صائم فقال : ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال :
نم فنام ثم ذهب يقوم فقال : نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن فصليا
فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق
حقه فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم : صدق سلمان )
- رواه البخاري والترمذي وصححه
-
قوله : ( متبذلة ) بفتح المثناة الفوقية والموحدة بعدها وتشديد الذال المعجمة
المكسورة أي لابسة ثياب البذلة بكسر الموحدة وسكون الذال وهي المهنة وزنا ومعنى
والمراد أنها تاركة للبس ثياب الزينة . وفي رواية للكشمهيني : ( مبتذلة ) بتقديم [
ص 346 ] الموحدة وتخفيف الذال المعجمة والمعنى واحد
قوله : ( ليست له حاجة في الدنيا ) زاد ابن خزيمة : يصوم النهار ويقوم الليل
قوله : ( فقال كل ) القائل أبو الدرداء على ظاهر هذه الرواية وهي لفظ الترمذي ولفظ
البخاري : ( فقال كل قال فإني صائم ) فيكون القائل سلمان
قوله : ( فقال ما أنا بآكل حتى تأكل ) في رواية للبزار : ( فقال أقسمت عليك لتفطرن
) وكذا رواه ابن خزيمة والدارقطني والطبراني وابن حبان
قوله : ( فلما كان من آخر الليل ) في رواية ابن خزيمة : ( فلما كان عند السحر )
وعند الترمذي : ( فلما كان عند الصبح ) وللدارقطني : ( فلما كان في وجه الصبح )
قوله : ( ولأهلك عليك حقا ) زاد الترمذي وابن خزيمة : ( ولضيفك عليك حقا ) وزاد
الدارقطني : ( فصم وأفطر وصل ونم وائت أهلك )
قوله : ( صدق سلمان ) فيه دليل على مشروعية النصح للمسلم وتنبيه من غفل وفضل قيام
آخر الليل وثبوت حق المرأة على الزوج في حسن العشرة وجواز النهي عن المستحبات إذا
خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة وكراهة الحمل على النفس
في العبادة وجواز الفطر من صوم التطوع وسيأتي الكلام عليه
2 -
وعن أم هانئ : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها فدعا بشراب فشرب
ثم ناولها فشربت فقالت : يا رسول الله أما إني كنت صائمة فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم : الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر )
- رواه أحمد والترمذي . وفي رواية : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرب
شرابا فناولها لتشرب فقالت إني صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك فقال يعني إن كان
قضاء من رمضان فاقضي يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي )
رواه أحمد وأبو داود بمعناه
3 -
وعن عائشة قالت : ( أهدي لحفصة طعام وكنا صائمتين فأفطرنا ثم دخل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فقلنا يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية واشتهيناها فأفطرنا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا عليكما صوما مكانه يوما آخر )
- رواه أبو داود وهذا أمر ندب بدليل قوله : ( لا عليكما )
-
حديث أم هانئ أخرجه أيضا الدارقطني والطبراني والبيهقي وفي إسناده سماك وقد اختلف
عليه فيه وقال النسائي : سماك ليس يعتمد عليه إذا انفرد وقال البيهقي : في إسناده
[ ص 347 ] مقال وكذلك قال الترمذي وفي إسناده أيضا هارون ابن أم هانئ قال ابن
القطان : لا يعرف وفي إسناده أيضا يزيد بن أبي زياد الهاشمي قال ابن عدي : يكتب
حديثه وقال الذهبي : صدوق رديء الحفظ وقد غلط سماك في هذا الحديث فقال في بعض
الروايات أن ذلك كان يوم الفتح وهي عند النسائي والطبراني ويوم الفتح كان في رمضان
فكيف يتصور أن تكون صائمة قضاء أو تطوعا
وحديث عائشة أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده زميل . قال النسائي : ليس بالمشهور
وقال البخاري : لا يعرف لزميل سماع من عروة ولا ليزيد يعني يزيد بن الهاد سماع من
زميل ولا تقوم به الحجة . وقال الخطابي : إسناده ضعيف وزميل مجهول . وأخرج الحديث
الترمذي بلفظ : ( اقضيا يوما آخر مكانه ) وقال : رواه ابن أبي حفصة وصالح بن أبي
الأخضر عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل هذا يعني مرفوعا ورواه مالك بن أنس ومعمر
وعبيد الله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة مرسلا ولم
يذكروا فيه عروة وهذا أصح لأنه روي عن ابن جريج قال : سألت الزهري قلت له أحدثك
عروة عن عائشة قال لم أسمع من عروة في هذا شيئا ولكني سمعت في خلافة سليمان بن عبد
الملك من ناس عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث فذكره ثم أسنده كذلك . وقال
النسائي : هذا خطأ . وقال ابن عيينة في روايته : سئل الزهري عنه أهو عن عروة فقال
لا . وقال الخلال : اتفق الثقات على إرساله وتوارد الحفاظ على الحكم بضعفه وضعفه
أحمد والبخاري والنسائي بجهالة زميل
( وفي الباب ) عن عائشة غير الحديث المذكور في الباب : ( أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم دخل عليها ذات يوم فقال هل عندكم من شيء فقدمت له حيسا فقال لقد أصبحت
صائما فأكل منه ) وقد تقدم في باب وجوب النية وزاد النسائي فأكل وقال أصوم يوما
مكانه . قال النسائي : هي خطأ يعني الزيادة ونسب الدارقطني الوهم فيها إلى محمد بن
عمر الباهلي ولكن رواها النسائي من غير طريقه . وكذا الشافعي
( وفي الباب ) أيضا عن أبي سعيد عند البيهقي بإسناد قال الحافظ : حسن قال : ( صنعت
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طعاما فلما وضع قال رجل أنا صائم فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم دعاك أخوك وتكلف لك أفطر فصم مكانه إن شئت )
( والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على أنه يجوز لمن صام [ ص 348 ] تطوعا أن
يفطر لا سيما إذا كان في دعوة إلى طعام أحد من المسلمين . ويدل على أنه يستحب
للمتطوع القضاء لذلك اليوم . وقد ذهب إلى ذلك الجمهور من أهل العلم وحكى الترمذي
عن قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم رأوا عليه القضاء إذا أفطر
قال وهو قول مالك بن أنس
واستدلوا بحديث عائشة المذكور . وبحديث أبي سعيد في الباب . وأجيب عن ذلك بما في
حديث أم هانئ من التخيير فيجمع بينه وبين حديث عائشة وأبي سعيد بحمل القضاء على
الندب ويدل على جواز الإفطار وعدم وجوب القضاء حديث أبي جحيفة المتقدم لأن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قرر ذلك ولم يبين لأبي الدرداء وجوب القضاء عليه وتأخير
البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
قال ابن المنير : ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة
كقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } إلا أن الخاص يقدم على العام كحديث سلمان .
وقال ابن عبد البر : من احتج في هذا بقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } فهو جاهل
بأقوال أهل العلم فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء كأنه قال لا تبطلوا
أعمالكم بالرياء بل أخلصوها لله وقال آخرون : لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر
ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرض الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر
أو غيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب وهم لا يقولون
بذلك انتهى
ولا يخفى أن الآية عامة والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول
والصواب ما قال ابن المنير
قوله : ( لا عليكما ) فيه دليل على أنه يجوز لمن كان صائما عن قضاء أن يفطر ولا
إثم عليه لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستفصل هل الصوم قضاء أو تطوع ويؤيد ذلك
قوله في حديث أم هانئ إن كان قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه
قوله : ( يعني ) هذه اللفظة ليست في متن الحديث
باب ما جاء في استقبال رمضان باليوم واليومين وغير ذلك
1 -
عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يتقدمن أحدكم
رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما فليصمه ) [ ص 349 ]
- رواه الجماعة
2 -
وعن معاوية قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر قبل
شهر رمضان الصيام يوم كذا وكذا ونحن متقدمون فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر )
- رواه ابن ماجه . ويحمل هذا على التقدم بأكثر من يومين
3 -
وعن عمران بن حصين : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل هل صمت من سرر
هذا الشهر شيئا قال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا أفطرت رمضان
فصم يومين مكانه )
- متفق عليه . وفي رواية لهم : ( من سرر شعبان ) ويحمل هذا على أن الرجل كانت له
عادة بصيام سرر الشهر أو قد نذره )
-
حديث معاوية في إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن مولى ابن أمية وفيه
مقال والهيثم بن حميد وفيه أيضا مقال
قوله : ( لا يتقدمن أحدكم ) الخ قال العلماء : معنى الحديث ( لا تستقبلوا رمضان
بصيام على نية الاحتياط لرمضان ) قال الترمذي لما أخرج هذا الحديث العمل على هذا
عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان بمعنى رمضان انتهى .
وإنما اقتصر على يوم أو يومين لأنه الغالب فيمن يقصد ذلك . وقد قطع كثير من
الشافعية بأن ابتداء المنع من أول السادس عشر من شعبان واستدلوا بحديث العلاء بن
عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا : ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ) أخرجه
أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره . وقال الروياني من الشافعية : يحرم التقدم بيوم
أو يومين لحديث الباب ويكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر
وقال جمهور العلماء : يجوز الصوم تطوعا بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد
في النهي عنه . وقد قال أحمد وابن معين : إنه منكر . وقد استدل البيهقي على ضعفه
بحديث الباب وكذا صنع قبله الطحاوي واستظهر بحديث أنس مرفوعا : ( أفضل الصيام بعد
رمضان شعبان ) لكن إسناده ضعيف كما تقدم واستظهر أيضا بحديث عمران بن حصين المذكور
في الباب لقوله فيه : ( من سرر شعبان ) والسرر بفتح السين المهملة ويجوز كسرها
وضمها ويقال أيضا سرار بفتح أوله وكسره ورجح الفراء الفتح وهو من الاستسرار قال
أبو عبيدة والجمهور : المراد بالسرر هنا آخر الشهر سميت بذلك لاستسراء القمر فيها
وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين ونقل [ ص 350 ] أبو داود عن الأوزاعي
وسعيد بن عبد العزيز أن سرره أوله ونقل الخطابي عن الأوزاعي كالجمهور وقيل السرر
وسط الشهر حكاه أبو داود أيضا ورجحه بعضهم . ووجهه بأن السرر جمع سرة وسرة الشيء
وسطه . ويؤيده الندب إلى صيام البيض وهي وسط وإن لم يرد في صيام آخر الشهر ندب بل
ورد فيه نهي خاص بآخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان . ورجحه النووي بأن مسلما أفرد
الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات وأردف بها الروايات التي فيها
الحث على صيام البيض وهي وسط الشهر كما تقدم
وقد قال الخطابي أن بعض أهل العلم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
سؤاله ( 1 ) عن ذلك سؤال زجر وإنكار لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين
وتعقب بأنه لو أنكر ذلك لم يأمره بقضائه وأجاب الخطابي باحتمال أن يكون الرجل
أوجبها على نفسه فلذلك أمره بالوفاء وأن يقضي ذلك في شوال وقال آخرون فيه دليل على
أن النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين إنما هو لمن يقصد به التحري لأجل رمضان وأما
من لم يقصد ذلك فلا يتناوله النهي وهو خلاف ظاهر حديث النهي لأنه لم يستثن منه إلا
من كانت له عادة
وقال القرطبي : الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك وحمل
الأمر على من له عادة وهذا هو الظاهر وقد استثنى من له عادة في حديث النهي بقوله :
( إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما فليصمه ) فلا يجوز صوم النفل المطلق الذي لم تجر
بها عادة وكذلك يحمل حديث معاوية المذكور في الباب بعد ثبوته على من كان معتادا
للصوم في ذلك الوقت . وأما قول المصنف أنه يحمل على التقدم بأكثر من يومين فغير
ظاهر لأن حديث العلاء بن عبد الرحمن المتقدم يدل على المنع من صوم النصف الآخر من
شعبان وقد جمع الطحاوي بين حديث النهي وحديث العلاء بأن حديث العلاء محمول على من
يضعفه الصوم وحديث الباب مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان . قال في الفتح : وهو جمع
حسن
( وقد اختلف ) في الحكمة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين فقيل هي التقوي
بالفطر لرمضان ليدخل فيه بقوة ونشاط وفيه نظر لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصوم
ثلاثة أيام أو أربعة أيام جاز . وقيل الحكمة خشية اختلاط النفل بالفرض وفيه نظر
لأنه يجوز لمن له عادة كما تقدم . وقيل لأن الحكم معلق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو
يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم . قال في الفتح : وهذا هو المعتمد ولا يرد عليه
صوم من اعتاد ذلك لأنه قد أذن له فيه وليس [ ص 351 ] من الاستقبال في شيء ويلحق به
القضاء والنذر لوجوبهما قال بعض العلماء : يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية
على وجوب الوفاء بهما فلا يبطل القطعي بالظني
وفي حديث أبي هريرة بيان لمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الماضي (
صوموا لرؤيته ) فإن اللام فيه للتأقيت لا للتعليل . قال ابن دقيق العيد : ومع
كونها محمولة على التأقيت فلا بد من ارتكاب مجاز لأن وقت الرؤية وهي الليل لا يكون
محل الصوم وتعقبه الفاكهي بأن المراد بقوله ( صوموا ) انووا الصيام والليل كله طرف
للنية . قال الحافظ : فوقع في المجاز الذي فر منه لأن الناوي ليس صائما حقيقة
بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر
_________
( 1 ) هكذا الأصل تدبر
باب النهي عن صوم العيدين وأيام التشريق
1 -
عن أبي سعيد : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن صوم يومين يوم
الفطر ويوم النحر )
- متفق عليه . وفي لفظ لأحمد والبخاري : ( لا صوم في يومين ) ولمسلم : ( لا يصح
الصيام في يومين )
-
وفي الباب عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وابن عمر بنحو حديث الباب وهي في صحيح
البخاري ومسلم وتفرد به مسلم من حديث عائشة . قال النووي في شرح صحيح مسلم : وقد
أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو
كفارة أو غير ذلك ولو نذر صومهما متعمدا لعينهما
قال الشافعي والجمهور : لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما . وقال أبو حنيفة : ينعقد
ويلزمه قضاؤهما قال : فإن صامهما أجزأه وخالف الناس كلهم في ذلك انتهى . وبمثل قول
أبي حنيفة قال المؤيد بالله والإمام يحيى . وقال زيد بن علي والهادوية : يصح النذر
بصيامهما ويصوم في غيرهما ولا يصح صومه فيهما وهذا إذا نذر صومهما بعينهما كما
تقدم . وأما إذا نذر صوم يوم الاثنين مثلا فوافق يوم العيد فقال النووي : لا يجوز
له صوم العيد بالإجماع قال : وهل يلزمه القضاء فيه خلاف للعلماء وفيه للشافعي
قولان أصحهما لا يجب قضاؤه لأن لفظه لم يتناول القضاء وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر
جديد على المختار عند الأصوليين انتهى
( والحكمة ) في النهي عن صوم العيدين أن فيه [ ص 352 ] إعراضا عن ضيافة الله تعالى
لعباده كما صرح بذلك أهل الأصول
2 -
وعن كعب بن مالك : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه وأوس بن الحدثان
أيام التشريق فناديا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن وأيام منى أيام أكل وشرب )
- رواه أحمد ومسلم
3 -
وعن سعد بن أبي وقاص قال : ( أمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي أيام
منى أنها أيام أكل وشراب ولا صوم فيها يعني أيام التشريق )
- رواه أحمد
4 -
وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن صوم خمسة أيام في السنة يوم
الفطر ويوم النحر وثلاثة أيام التشريق )
- رواه الدارقطني
5 -
وعن عائشة وابن عمر قالا : ( لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد
الهدي )
- رواه البخاري . وله عنهما أنهما قالا : ( الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى
يوم عرفة فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى )
-
حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه أيضا البزار قال في مجمع الزوائد : ورجالهما يعني أحمد
والبزار رجال الصحيح . وحديث أنس في إسناده محمد بن خالد الطحان وهو ضعيف
( وفي الباب ) عن عبد الله بن حذافة السهمي عند الدارقطني بلفظ : ( لا تصوموا في
هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال ) يعني أيام منى وفي إسناده الواقدي . وعن
أبي هريرة عند الدارقطني وفي إسناده سعد بن سلام وهو قريب من الواقدي وفيه أن
المنادي بديل بن ورقاء . وأخرجه أيضا ابن ماجه من وجه آخر وابن حبان . وعن ابن
عباس عند الطبراني بنحو حديث عبد الله بن حذافة وفيه والبعال وقاع النساء وفي
إسناده إسماعيل بن أبي حبيب وهو ضعيف . وعن عمر بن خلدة عن أبيه عند أبي يعلى وعبد
بن حميد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه بنحوه وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي
وهو ضعيف . وعن ابن مسعود بن الحكم عن أمه عند النسائي : ( أنها رأت وهي بمنى في
زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راكبا يصيح يقول يا أيها الناس إنها أيام
أكل وشرب ونساء وبعال وذكر الله قالت فقلت من هذا فقالوا علي بن أبي طالب ) .
وأخرجه البيهقي من هذا الوجه لكن قال إن وجدته حدثته . وأخرجه ابن يونس في تاريخ
مصر من طريق يزيد بن الهاد عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قال يزيد فسألت عنها
فقيل إنها جدته . وعن نبيشة الهذلي عند مسلم في صحيحه بلفظ : ( أيام التشريق [ ص
353 ] أيام أكل وشراب ) وأخرجه ابن حبان عن أبي هريرة بنحوه وأخرجه النسائي عن بشر
بن سحيم بنحوه . وعن عقبة بن عامر عند أصحاب السنن وابن حبان والحاكم والبزار بلفظ
: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا
يصومها أحد )
وعن عمرو بن العاص عند أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر
بإفطارها وينهى عن صيامها )
( وقد استدل ) بهذه الأحاديث على تحريم صوم أيام التشريق وفي ذلك خلاف بين الصحابة
فمن بعدهم . قال في الفتح : وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي
طلحة من الصحابة الجواز مطلقا . وعن علي عليه السلام وعبد الله بن عمرو بن العاص
المنع مطلقا وهو المشهور عن الشافعي . وعن ابن عمر وعائشة وعبيد بن عمير في آخرين
منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد الهدي وهو قول مالك والشافعي في القديم . وعن
الأوزاعي وغيره أيضا يصومها المحصر والقارن انتهى
واستدل القائلون بالمنع مطلقا بأحاديث الباب التي لم تقيد بالجواز للمتمتع واستدل
القائلون بالجواز للمتمتع بحديث عائشة وابن عمر المذكور في الباب وهذه الصيغة لها
حكم الرفع وقد أخرجه الدارقطني والطحاوي بلفظ : ( رخص رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم للمتمتع إذا يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق ) وفي إسناده يحيى بن سلام
وليس بالقوي ولكنه يؤيد ذلك عموم الآية قالوا وحمل المطلق على المقيد واجب وكذلك
بناء العام على الخاص وهذا أقوى المذاهب . وأما القائل بالجواز مطلقا فأحاديث
الباب جميعها ترد عليه . قال في الفتح : وقد اختلف في كونها يعني أيام التشريق يومين
أو ثلاثة وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر في الشمس . وقيل
لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس . وقيل لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس وقيل
التشريق التكبير دبر كل صلاة انتهى
وحديث أنس المذكور في الباب يدل على أنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر [ ص 354 ]
كتاب الاعتكاف
1 - عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز و جل )
2 -
وعن ابن عمر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف العشر الأواخر
من رمضان )
- متفق عليهما . ولمسلم : ( قال نافع : وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف
فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
3 -
وعن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان
فلم يعتكف عاما فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين )
- رواه أحمد والترمذي وصححه . ولأحمد وأبي داود وابن ماجه هذا المعنى من رواية أبي
بن كعب
-
هذه الأحاديث فيها دليل على مشروعية الاعتكاف وهو متفق عليه كما قال النووي وغيره
. قال مالك : فكرت في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة إتباعهم للأثر فوقع في نفسي
أنه كالوصال وأراهم تركوه لشدته ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي
بكر بن عبد الرحمن انتهى
ومن كلام مالك هذا أخذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز وأنكر ذلك عليهم ابن العربي
وقال : إنه سنة مؤكدة وكذا قال ابن بطال في مواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ما يدل على تأكده . وقال أبو داود عن أحمد لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أنه
مسنون وتعقب الحافظ في الفتح قول مالك أنه لم يعتكف من السلف إلا أبو بكر بن عبد
الرحمن وقال لعله أراد صفة مخصوصة وإلا فقد حكي عن غير واحد من الصحابة أنه اعتكف
( واعلم ) أنه لا خلاف في عدم وجوب الاعتكاف إلا إذا نذر به
قوله : ( يعتكف ) الاعتكاف في اللغة هو الحبس واللزوم والمكث والاستقامة
والاستدارة قال العجاج :
فهن يعكفن به إذا حجا ... عكف النبيط يلعبون الفنزجا
والنبيط قوم من العجم والفنزج بالفاء والنون والزاي والجيم لعبة للعجم يأخذ كل
واحد منهم بيد صاحبه ويستديرون راقصين وقوله ( حجا ) أي أقام بالمكان . [ ص 355 ]
وفي الشرع المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة
قوله : ( العشر الأواخر من رمضان ) فيه دليل على استحباب مداومة الاعتكاف في العشر
الأواخر من رمضان لتخصيصه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الوقت بالمداومة على
اعتكافه
قوله : ( اعتكف عشرين ) فيه دليل على أن من اعتاد اعتكاف أيام ثم لم يمكنه أن
يعتكفها أنه يستحب له قضاؤها وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتكف لما
لم يعتكف العشر الأواخر من رمضان العشر الأواخر من شوال
4 -
وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى
الفجر ثم دخل معتكفه وأنه أمر بخباء فضرب لما أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من
رمضان فأمرت زينب بخبائها فضرب وأمرت غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بخبائها فضرب فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفجر نظر فإذا
الأخبية فقال : آلبر يردن فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف
في العشر الأواخر من شوال )
- رواه الجماعة إلا الترمذي لكن له منه : ( كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم
دخل معتكفه )
-
قوله : ( صلى الفجر ثم دخل معتكفه ) استدل به على أن أول وقت الاعتكاف من أول
النهار وبه قال الأوزاعي والليث والثوري . وقال الأئمة الأربعة وطائفة : يدخل قبيل
غروب الشمس وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل ولكن إنما يخلو بنفسه في
المكان الذي أعده للاعتكاف بعد صلاة الصبح
قوله : ( بخباء ) بخاء معجمة ثم باء موحدة
قوله : ( وأمرت غيرها ) الخ هذا يقتضي تعميم الأزواج وليس كذلك وقد فسر قوله من
أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعائشة وحفصة وزينب فقط ويؤيد ذلك ما وقع في
رواية للبخاري بلفظ : ( أربع قباب ) وفي رواية للنسائي : ( فلما صلى الصبح إذا هو
بأربعة أبنية قال لمن هذه قالوا لعائشة وحفصة وزينب ) الحديث والرابع خباؤه صلى
الله عليه وآله وسلم
قوله : ( آلبر ) بهمزة استفهام ممدودة وبغير مد وبنصب الراء
قوله : ( يردن ) بضم أوله وكسر الراء وسكون الدال ثم نون النسوة . وفي رواية
للبخاري : ( انزعوها فلا أراها )
قوله : ( فقوض ) بضم القاف [ ص 356 ] وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة أي
نقض
قوله : ( وترك الاعتكاف ) كان الحامل له صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك خشية أن
يكون الحامل للزوجات المباهاة والتنافس الناشيء عن الغيرة حرصا على القرب منه خاصة
فيخرج الاعتكاف عن موضوعه أو الحامل له على ذلك أن يكون باعتبار اجتماع النسوة
عنده يصير كالجالس في بيته وربما يشغله ذلك عن التخلي لما قصد من العبادة فيفوت
مقصوده بالاعتكاف
قوله : ( في العشر الأواخر من شوال ) في رواية في البخاري : ( حتى اعتكف في العشر
الأول من شوال ) ويجمع بينه وبين الرواية الأولى بأن المراد بقوله في العشر
الأواخر من شوال انتهاء اعتكافه . قال الإسماعيلي : فيه دليل على جواز الاعتكاف
بغير صوم لأن أول شوال يوم الفطر وصومه حرام وسيأتي الكلام عليه . وقال غيره : في
اعتكافه في شوال دليل على أن النوافل المعتادة إذا فاتت تقضى
قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه أن النذر لا يلزم بمجرد النية وأن السنن تقضى
وأن للمعتكف أن يلزم من المسجد مكانا بعينه وأن من التزم اعتكاف أيام معينة لم
يلزمه أول ليلة لها انتهى
( واستدل ) به أيضا على جواز الخروج من العبادة بعد الدخول فيها وأجيب عن ذلك بأنه
صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل المعتكف ولا شرع في الاعتكاف وإنما هم به ثم عرض
له المانع المذكور فتركه فيكون دليلا على جواز ترك العبادة إذا لم يحصل إلا مجرد
النية كما قال المصنف
5 -
وعن نافع عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اعتكف طرح له
فراشه أو يوضع له سريره وراء اسطوانة التوبة )
- رواه ابن ماجه
-
الحديث رجال إسناده في سنن ابن ماجه ثقات . وقد ذكره الحافظ في الفتح عن نافع أن
ابن عمر كان إذا اعتكف الخ ولم يذكر أنه مرفوع . وفي صحيح مسلم عن نافع أنه قال
وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يعتكف فيه من المسجد
( وفيه دليل ) على جواز طرح الفراش ووضع السرير للمعتكف في المسجد وعلى جواز
الوقوف في مكان معين من المسجد في الاعتكاف فيكون مخصصا للنهي عن إيطان المكان في
المسجد يعني ملازمته وقد تقدم الحديث في الصلاة
6 - وعن عائشة : ( أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه وكان لا يدخل البيت إلا [ ص 357 ] لحاجة الإنسان إذا كان معتكفا )
7 - وعنها أيضا قالت : ( إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة )
8 -
وعن صفية بنت حيي قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتكفا فأتيته
أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن
زيد )
- متفق عليهن
-
قوله : ( ترجل ) الترجيل بالجيم المشط والدهن فيه دليل على أنه يجوز للمعتكف
التنظيف والطيب والغسل والحلق والتزيين إلحاقا بالترجيل . والجمهور على أنه لا
يكره فيه إلا ما يكره في المسجد وعن مالك يكره الصنائع والحرف حتى طلب العلم وفيه
دليل على أن من أخرج بعض بدنه من المسجد لم يكن ذلك قادحا في صحة الاعتكاف
قوله : ( إلا لحاجة الإنسان ) فسرها الزهري بالبول والغائط وقد وقع الإجماع على
استثنائهما واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب ويلحق بالبول والغائط
القيء والفصد والحجامة لمن احتاج إلى ذلك وسيأتي الكلام على الخروج للحاجات
ولغيرها
قوله : ( فما أسأل عنه ) سيأتي الكلام على الخروج لزيارة المريض
قوله : ( ثم قمت لأنقلب ) أي ترجع إلى بيتها
قوله : ( لقلبني ) بفتح أوله وسكون القاف أي يردها إلى منزلها
( وفيه دليل ) على جواز خروج المعتكف من مسجد اعتكافه لتشييع الزائر
قوله : ( في دار أسامة بن زيد ) أي التي صارت له بعد ذلك لأن أسامة إذ ذاك ليس له
دار مستقلة بحيث يسكن فيها صفية وكانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم
حوالي أبواب المسجد
9 -
وعن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر
كما هو ولا يعرج يسأل عنه )
- رواه أبو داود
10 -
وعن عائشة قالت : ( السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس
امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا
اعتكاف إلا في مسجد جامع )
- رواه أبو داود
-
الحديث الأول في إسناده ليث بن أبي سليم وفيه مقال . قال الحافظ : والصحيح عن
عائشة من فعلها أخرجه مسلم وغيره وقال صح ذلك عن علي عليه السلام
والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي وليس فيه قالت السنة . وأخرجه أيضا من حديث
مالك وليس فيه ذلك . قال أبو داود : غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول [ ص 358 ]
فيه قالت السنة . وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج وما
عداه ممن دونها انتهى . وكذلك رجح البيهقي ذكره ابن كثير في الإرشاد . وعبد الرحمن
بن إسحاق هذا هو القرشي المدني يقال له عباد قد أخرج له مسلم في صحيحه ووثقه يحيى
بن معين وأثنى عليه غيره وتكلم فيه بعضهم
( الحديثان ) استدل بهما على أنه لا يجوز للمعتكف أن يخرج من معتكفه لعيادة المريض
ولا لما يماثلها من القرب كتشييع الجنازة وصلاة الجمعة . قال في الفتح : وروينا عن
علي عليه السلام والنخعي والحسن البصري إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضا أو خرج
للجمعة بطل اعتكافه وبه قال الكوفيون وابن المنذر في الجمعة . وقال الثوري
والشافعي وإسحاق : إن شرط شيئا من ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله
وهو رواية عن أحمد انتهى
وعند الهادوية أنه يجوز الخروج لتلك الأمور ونحوها ولكن في وسط النهار قياسا على
الحاجة المذكورة في حديث عائشة المتقدم وهو فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص
قوله : ( ولا يمس امرأة ولا يباشرها ) المراد بالمباشرة هنا الجماع بقرينة ذكر
المس قبلها . وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك ويؤيده ما روى الطبري وغيره من
طريق قتادة في سبب نزول الآية يعني قوله تعالى { ولا تباشرهن وأنتم عاكفون في
المساجد } أنهم كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء
فنزلت
قوله : ( ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ) فيه دليل على المنع من الخروج لكل
حاجة من غير فرق بين ما كان مباحا أو قربة أو غيرهما إلا الذي لا بد منه كالخروج
لقضاء الحاجة وما في حكمها
قوله : ( ولا اعتكاف إلا بصوم ) فيه دليل على أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصوم وأنه
شرط حكاه في البحر عن العترة جميعا وابن عباس وابن عمر ومالك والأوزاعي والثوري
وأبي حنيفة وحكى في البحر أيضا عن ابن مسعود والحسن البصري والشافعي وأحمد وإسحاق
أنه ليس بشرط قالوا يصح اعتكاف ساعة واحدة ولحظة واحدة واستدلوا بما تقدم من أنه
صلى الله عليه وآله وسلم اعتكف العشر الأول من شوال ومن جملتها يوم الفطر
وبحديث عمر الآتي وأجابوا عن حديث عائشة المذكور في الباب بما تقدم من الكلام عليه
وهذا هو الحق لا كما قال ابن القيم أن الراجح الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط
في الاعتكاف . وقد روي عن علي وابن مسعود أنه ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه
على نفسه ويدل على ذلك [ ص 359 ] حديث ابن عباس الآتي ويؤيد قول من قال بجواز
الاعتكاف ساعة أو لحظة حديث : ( من اعتكف فواق ناقة فكأنما أعتق نسمة ) رواه
العقيلي في الضعفاء من حديث عائشة وأنس . قال في البدر المنير : هذا حديث غريب لا
أعرفه بعد البحث الشديد عنه . وقال الحافظ : هو منكر ولكنه أخرجه الطبراني في
الأوسط قال الحافظ : لم أر في إسناده ضعفا إلا أن فيه وجادة وفي المتن نكارة شديدة
وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أن أقل مدة الاعتكاف يوم
قوله : ( ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع ) فيه دليل على أن المسجد شرط للاعتكاف .
قال في الفتح : واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن
لبابة المالكي فأجازه في كل مكان وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو
المكان المعد للصلاة . وفيه قول للشافعي قديم وفي وجه لأصحابه وللمالكية يجوز
للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه
بالمساجد التي تقام فيها الصلوات وخصه أبو يوسف بالواجب منه وأما النفل ففي كل
مسجد وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد انتهى كلام الفتح . وسيأتي قول من قال أنه
يختص بالمساجد الثلاثة
11 -
وعن ابن عمر : ( أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كنت نذرت في
الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : فأوف بنذرك )
- متفق عليه . وزاد البخاري : ( فاعتكف ليلة )
12 -
وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس على المعتكف صيام
إلا أن يجعله على نفسه )
- رواه الدارقطني وقال رفعه أبو بكر السوسي وغيره لا يرفعه
-
الحديث الثاني رجح الدارقطني والبيهقي وقفه وأخرجه الحاكم مرفوعا وقال صحيح
الإسناد
قوله : ( إن عمر سأل ) لم يذكر مكان السؤال . وفي رواية للبخاري أن ذلك كان
بالجعرانة لما رجعوا من حنين ويستفاد منه الرد على من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل
المنع من الصيام في الليل لأن غزوة حنين متأخرة عن ذلك
قوله : ( نذرت في الجاهلية ) زاد مسلم : فلما أسلمت سألت وفي ذلك رد على من زعم أن
المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكة وأنه إنما نذر في الإسلام وأصرح من ذلك ما أخرجه
الدارقطني بلفظ : نذر أن يعتكف في الشرك
قوله : ( أن اعتكف ليلة ) استدل به على جواز الاعتكاف يغير صوم لأن الليل ليس بوقت
صوم وقد أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يفي بنذره على الصفة التي أوجبها وتعقب
بأن في رواية لمسلم يوما بدل ليلة وقد جمع ابن حبان [ ص 360 ] وغيره بأنه نذر
اعتكاف يوم وليلة فمن أطلق ليلة أراد بيومها ومن أطلق يوما أراد بليلته
وقد ورد الأمر بالصوم في رواية أبي داود والنسائي بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قاله اعتكف وصم ) أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن بديل
ولكنه ضعيف وقد ذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار . قال في
الفتح : ورواية من روى يوما شاذة وقد وقع في رواية سليمان بن بلال عند البخاري
فاعتكف ليلة فدل على أنه لم يزد على نذره شيئا وأن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا
يشترط له حد معين
قوله : ( ليس على المعكتف صيام ) استدل به القائلون بأنه لا يشترط الصوم في الاعتكاف
وقد تقدم ذكرهم
وقد استدل بعض القائلين بأن الصوم شرط في الاعتكاف بقوله تعالى { ثم أتموا الصيام
إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) قال : فذكر الاعتكاف عقب الصوم
وتعقب بأنه ليس فيها ما يدل على تلازمهما وإلا لزم أن لا صوم إلا بالاعتكاف ولا قائل
به وفي حديث عمر المذكور في الباب رد على من قال أن أقل الاعتكاف عشرة أيام وفيه
أيضا دليل على أن النذر من الكافر لا يسقط عنه بالإسلام وسيأتي إن شاء الله تعالى
الكلام على ذلك
13 -
وعن حذيفة أنه قال لابن مسعود : ( لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال : لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال في مسجد جماعة )
- رواه سعيد في سننه
14 -
وعن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة
ترى الدم فربما وضعت الطشت تحتها من الدم )
- رواه البخاري . وفي رواية : ( اعتكف معه امرأة من أزواجه وكانت ترى الدم والصفرة
والطشت تحتها وهي تصلي ) رواه أحمد والبخاري وأبو داود
-
الحديث الأول أخرجه ابن أبي شيبة ولكن لم يذكر المرفوع منه واقتصر على المراجعة
التي فيه بين حذيفة وابن مسعود ولفظه : ( أن حذيفة جاء إلى عبد الله فقال ألا
أعجبك من قوم عكوف بين دارك ودار الأشعري يعني المسجد قال عبد الله فلعلهم أصابوا
وأخطأت ) فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وعلى أن عبد الله يخالفه ويجوز الاعتكاف في كل مسجد ولو كان ثم حديث عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ما خالفه وأيضا الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج
أحد شقيه وقد استشهد بعضهم لحديث حذيفة بحديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مرفوعا
بلفظ : [ ص 361 ] ( تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام
والمسجد الأقصى ) وهو متفق عليه ولكن ليس فيه ما يشهد لحديث حذيفة لأن أفضلية
المساجد الثلاثة واختصاصها بشد الرحال إليها لا تستلزم اختصاصها بالاعتكاف
وقد حكى في الفتح عن حذيفة أن الاعتكاف يختص بالمساجد الثلاثة ولم يذكر هذا الحديث
وحكى عن عطاء أنه يختص بمسجد مكة وعن ابن المسيب بمسجد المدينة
وقوله : ( أو قال في مسجد جماعة ) قيل فيه دليل لمذهب أبي حنيفة وأحمد المتقدم
قوله : ( بعض نسائه ) قال ابن الجوزي : ما عرفنا من أزواج النبي صلى الله عليه
وآله وسلم من كانت مستحاضة قال : والظاهر أن عائشة أشارت بقولها من نسائه أي من
النساء المتعلقات به وهي أم حبيبة بنت جحش أخت زينب ولكنه يرد عليه ما وقع في
البخاري في كتاب الاعتكاف بلفظ امرأة مستحاضة من أزواجه ووقع في رواية سعيد بن
منصور عن عكرمة أن أم سلمة كانت عاكفة وهي مستحاضة وهذه الرواية تفيد تعيينها
وقد حكى ابن عبد البر أن بنات جحش الثلاث كن مستحاضات زينب وحمنة وأم حبيبة ويدل
على ذلك ما وقع عند أبي داود عن عائشة أنها قالت استحيضت زينب بنت جحش . وقد عد
مغلطاي في المستحاضات سودة بنت زمعة وقد روى ذلك أبو داود تعليقا وذكر البيهقي أن
ابن خزيمة أخرجه موصولا فهذه ثلاث مستحاضات من أزواج النبي صلى الله عليه وآله
وسلم
قوله : ( من الدم ) أي لأجل الدم
( والحديث ) يدل على جواز مكث المستحاضة في المسجد وصحة اعتكافها وصلاتها وجواز
حدثها في المسجد عند أمن التلويث ويلحق بها دائم الحدث ومن به جرح يسيل وقد تقدم
البحث عن ذلك
باب الاجتهاد في العشر الأواخر وفضل قيام ليلة القدر وما يدعى به فيها وأي ليلة هي
1 -
عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا
الليل وأيقظ أهله وشد المئزر )
- متفق عليه . ولأحمد ومسلم : ( كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها
) [ ص 362 ]
-
قوله : ( أحيا الليل ) فيه استعارة الإحياء للاستيقاظ أي سهره فأحياه بالطاعة
وأحيا نفسه بسهره فيه لأن النوم أخو الموت
( والحديث ) فيه دليل على مشروعية الحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر من
رمضان وإحيائها بالعبادة واعتزال النساء وأمر الأهل بالاستكثار من الطاعة فيها
قوله : ( وأيقظ أهله ) أي للصلاة وفي الترمذي عن أم سلمة : ( لم يكن صلى الله عليه
وآله وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه )
قوله : ( وشد المئزر ) أي اعتزل النساء كما رواه عبد الرزاق عن الثوري وابن أبي
شيبة عن أبي بكر بن عياش وحكى في الفتح عن الخطابي أنه يحتمل أن يراد به الجد في
العبادة كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي شمرت له ويحتمل أن يراد التشمير
والاعتزال معا ويحتمل أن يراد حقيقته والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة
وهو طويل النجاد حقيقة يعني شد مئزره حقيقة واعتزل النساء وشمر للعبادة يعني فيكون
كناية وهو يجوز فيها إرادة اللازم والملزوم . وقد وقع في رواية : ( شد مئزره
واعتزل النساء ) فالعطف بالواو يقوي الاحتمال الأول كما قال الحافظ
2 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قام ليلة القدر
إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه
3 -
وعن عائشة قالت : ( قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول
فيها قال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )
- رواه الترمذي وصححه وأحمد وابن ماجه وقالا فيه : ( أرأيت إن وافقت ليلة القدر )
-
الحديث الأول قد تقدم مع شرحه في باب صلاة التراويح وأورده المصنف ههنا للاستدلال
به على مشروعية قيام ليلة القدر
والحديث الثاني صححه الترمذي كما ذكر المصنف وفيه دليل على إمكان معرفة ليلة القدر
وبقائها وسيأتي الكلام على ذلك
قوله : ( ليلة القدر ) اختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة فقيل هو
التعظيم لقوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره } والمعنى أنها ذات قدر لنزول
القرآن فيها أو لما يقع فيها من نزول الملائكة أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة
والمغفرة أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر وقيل القدر هنا التضييق لقوله تعالى { ومن
قدر عليه رزقه } ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها . وقيل القدر بمعنى
القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء . والمعنى [ ص 363 ] أنه يقدر فيها أحكام
تلك السنة لقوله تعالى { فيها يفرق كل أمر حكيم } وبه صدر النووي كلامه فقال : قال
العلماء سميت ليلة القدر لما يكتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى { فيها
يفرق } الآية
ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم
. قال التوربشتي : إنما جاء القدر بسكون الدال وإن كان الشائع في القدر الذي يؤاخي
القضاء فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء
وإظهاره وتحديده في تلك السنة لتحصيل ما يلقي إليهم فيها مقدار بمقدار
قوله : ( إنك عفو ) بفتح العين وضم الفاء وتشديد الواو صيغة مبالغة . وفيه دليل
على استحباب الدعاء في هذه الليلة بهذه الكلمات
4 -
وعن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كان متحريها
فليتحرها ليلة سبع وعشرين أو قال تحروها ليلة سبع وعشرين يعني ليلة القدر )
- رواه أحمد بإسناد صحيح
5 -
وعن ابن عباس : ( أن رجلا أتى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا نبي
الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة
القدر فقال عليك بالسابعة )
- رواه أحمد
6 -
وعن معاوية بن أبي سفيان : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة القدر قال
ليلة سبع وعشرين )
- رواه أبو داود
7 -
وعن ذر بن حبيش قال : ( سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له أن عبد الله بن مسعود يقول
من قام السنة أصاب ليلة القدر فقال أبي والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان
يحلف ما يستثني ووالله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين وإمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة
يومها بيضاء لا شعاع لها )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه
-
حديث ابن عباس أخرجه أيضا الطبراني في الكبير قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد
رجال الصحيح . وقد أخرج نحوه عبد الرزاق عن ابن عمر مرفوعا والمراد بالسابعة إما
السبع بقين أو لسبع مضين بعد العشرين . وحديث معاوية سكت عنه أبو داود والمنذري
ورجال إسناده رجال الصحيح
( وفي الباب ) عن جابر بن سمرة عند الطبراني في الأوسط بنحو حديث ابن عمر . وعن
ابن مسعود عند الطبراني قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ليلة
القدر فقال أيكم يذكر ليلة الصهيا [ ص 364 ] قلت أنا وذلك ليلة سبع وعشرين ) ورواه
ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناس من الصحابة
وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال : ( دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر قال ابن عباس فقلت
لعمر إني لأعلم أو أظن أي ليلة هي قال عمر أي ليلة هي فقلت سابعة تمضي أو سابعة
تبقى من العشر الأواخر فقال من أين علمت ذلك فقلت خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين
وسبعة أيام والدهر يدور في سبع والإنسان خلق من سبع ويأكل من سبع ويسجد على سبع
والطواف والجمار وأشياء ذكرها فقال عمر لقد فطنت لأمر ما فطنا له ) وقد أخرج نحو
هذه القصة الحاكم وإلى أن ليلة القدر ليلة السابع والعشرين ذهب جماعة من أهل العلم
وقد حكاه صاحب الحلية من الشافعية عن أكثر العلماء وقد اختلف العلماء فيها على
أقوال كثيرة ذكر منها في فتح الباري ما لم يذكره غيره وسنذكر ذلك على طريق
الاختصار فنقول :
( القول الأول ) أنها رفعت حكاه المتولي عن الروافض والفاكهاني عن الحنفية
( الثاني ) أنها خاصة بسنة واحدة وقعت في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم حكاه
الفاكهاني
( الثالث ) أنها خاصة بهذه الأمة جزم به جماعة من المالكية ونقله صاحب العمدة عن
الجمهور من الشافعية واعترض بحديث أبي ذر عند النسائي قال : قلت يا رسول الله
أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت فقال هي باقية واحتجوا بما ذكره مالك في الموطأ
بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقال أعمار أمته عن أعمار الأمم
الماضية فأعطاه الله ليلة القدر . قال الحافظ : وهذا محتمل للتأويل فلا يدفع
التصريح في حديث أبي ذر
( والرابع ) أنها ممكنة في جميع السنة وهو المشهور عن الحنفية وحكى عن جماعة من
السلف وهو مردود بكثير من أحاديث الباب المصرحة باختصاصها برمضان
( الخامس ) أنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه . وروي عن ابن عمر وأبي حنيفة
وبه قال ابن المنذر وبعض الشافعية ورجحه السبكي
( السادس ) أنها في ليلة معينة مبهمة قاله النسفي في