Translate

الأربعاء، 23 مارس 2022

3.كتاب : المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)

 

 

 كتاب : المحلى

المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)
الناشر : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية

[الكتاب مشكول وترقيمه موافق للمطبوع]

 ==   لا يضم قمح إلى شعير و لا تمر إليهما
...
645 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يُضَمُّ قَمْحٌ إلَى شَعِيرٍ, وَلاَ تَمْرٌ إلَيْهِمَا.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ, وَأَبُو يُوسُفَ: يُضَمُّ كُلُّ مَا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ: مِنْ الْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ وَالآُرْزُ, وَالذُّرَةِ, وَالدَّخَنِ, وَجَمِيعِ الْقَطَانِيِّ, بَعْضُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ, فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا ذَكَرْنَا, وَإِلاَّ فَلاَ.
وقال مالك: الْقَمْحُ, وَالشَّعِيرُ, وَالسُّلْتُ: صِنْفٌ وَاحِدٌ, يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ, فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ جَمِيعِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ; وَيُجْمَعُ الْحِمَّصُ, وَالْفُولُ, وَاللُّوبِيَا, وَالْعَدَسُ, وَالْجُلُبَّانُ وَالْبَسِيلَةُ, بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ. وَلاَ يُضَمُّ إلَى الْقَمْحِ, وَلاَ إلَى الشَّعِيرِ

(5/251)


وَلاَ إلَى السُّلْتِ. قَالَ: وَأَمَّا الآُرْزُ, وَالذُّرَةُ, وَالسِّمْسِمُ, فَهِيَ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ, لاَ يُضَمُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَيَّ شَيْءٍ أَصْلاً.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْعَلَسِ, فَمَرَّةٌ قَالَ: يُضَمُّ إلَى الْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ; وَمَرَّةٌ قَالَ: لاَ يُضَمُّ إلَى شَيْءٍ أَصْلاً.
وَرَأَى الْقَطَانِيَّ فِي الْبُيُوعِ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً, حَاشَا اللُّوبِيَا, وَالْحِمَّصَ; فَإِنَّهُ رَآهُمَا فِي الْبُيُوعِ صِنْفًا وَاحِدًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ; فَظَاهِرُ الْخَطَأِ جُمْلَةً, لاَ يَحْتَاجُ مِنْ إبْطَالِهِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ إيرَادِهِ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ قَسَّمَ هَذَا التَّقْسِيمَ, وَلاَ جَمَعَ هَذَا الْجَمْعَ, وَلاَ فَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقَ قَبْلَهُ، وَلاَ مَعَهُ، وَلاَ بَعْدَهُ, إلاَّ مَنْ قَلَّدَهُ, وَمَا لَهُ مُتَعَلَّقٌ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ يُعْرَفُ لَهُ وَجْهُ, وَلاَ مِنْ احْتِيَاطٍ أَصْلاً.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى جَمْعَ الْبُرِّ وَغَيْرِهِ فِي الزَّكَاةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ".
قال أبو محمد: وَلَوْ لَمْ يَأْتِ إلاَّ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ. لَكِنْ قَدْ خَصَّهُ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْجَحْدَرِيُّ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حدثنا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحِلُّ فِي الْبُرِّ وَالتَّمْرِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَلاَ يَحِلُّ فِي الْوَرِقِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقِيَ، وَلاَ يَحِلُّ فِي الإِبِلِ زَكَاةٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ ذَوْد"ٍ.
فَنَفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ عَمَّا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ الْبُرِّ, فَبَطَل بِهَذَا إيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ; مَجْمُوعًا إلَى شَعِيرٍ أَوْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ.
قال أبو محمد: وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقٌ عَلَى أَنْ لاَ يُجْمَعَ التَّمْرُ إلَى الزَّبِيبِ, وَمَا نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ الآخَرِ إلاَّ كَنِسْبَةِ الْبُرِّ مِنْ الشَّعِيرِ; فَلاَ النَّصَّ اتَّبَعُوا, وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدُوا, وَلاَ خِلاَفَ

(5/252)


بَيْنَ كُلِّ مَنْ يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْخَمْسَةِ الأَوْسُقِ فَصَاعِدًا لاَ فِي أَقَلَّ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ التَّمْرُ إلَى الْبُرِّ, وَلاَ إلَى الشَّعِيرِ.

(5/253)


و أما أصناف القمح فيضم بعضها إلى بعض
...
646 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا أَصْنَافُ الْقَمْحِ فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ;
وَكَذَلِكَ تُضَمُّ أَصْنَافُ الشَّعِيرِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ; وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ التَّمْرِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ الْعَجْوَةُ, وَالْبَرْنِيُّ, وَالصَّيْحَانِيُّ وَسَائِرُ أَصْنَافِهِ. وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ; لإِنَّ اسْمَ بُرٍّ يَجْمَعُ أَصْنَافَ الْبُرِّ; وَاسْمَ تَمْرٍ يَجْمَعُ أَصْنَافَ التَّمْرِ; وَاسْمَ شَعِيرٍ يَجْمَعُ أَصْنَافَ الشَّعِيرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/253)


من كانت له أرضون شتى في قرية واحدة أو في قرى شتى الخ
...
647 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُونَ شَتَّى فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ; أَوْ فِي قُرًى شَتَّى
فِي عَمَلِ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي أَعْمَالٍ شَتَّى وَلَوْ أَنَّ إحْدَى أَرْضَيْهِ فِي أَقْصَى الصِّينِ, وَالآُخْرَى إلَى أَقْصَى الأَنْدَلُسِ: فَإِنَّهُ يَضُمُّ كُلَّ قَمْحٍ أَصَابَ فِي جَمِيعِهَا بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ; وَكُلَّ شَعِيرٍ أَصَابَهُ فِي جَمِيعِهَا بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ, فَيُزَكِّيهِ; لاَِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالزَّكَاةِ فِي ذَاتِهِ, مُرَتَّبَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ فِي ذِمَّتِهِ وَمَالِهِ, دُونَ أَنْ يَخُصَّ اللَّهَ تَعَالَى; أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ مَا كَانَ فِي طُسُوجٍ وَاحِدًا, أَوْ رُسْتَاقٍ وَاحِدٍ: مِمَّا فِي طُسُّوجَيْنِ, أَوْ رُسْتَاقَيْنِ; وَتَخْصِيصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ بَاطِلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/253)


من لقط السنبل فاجتمع له من البر خمسة أوسق فصاعدا و من الشعير كذلك فعليه الزكاة فيها
...
648 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَقَطَ السُّنْبُلَ فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ الْبُرِّ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا, وَمِنْ الشَّعِيرِ كَذَلِكَ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا,
الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ, أَوْ بِالنَّهْرِ أَوْ بِالْعَيْنِ, أَوْ بِالسَّاقِيَّةِ, وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى مَنْ الْتَقَطَ مِنْ التَّمْرِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَبِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ.

(5/253)


649 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ أَزْهَى التَّمْرُ فِي مِلْكِهِ
وَالإِزْهَاءُ: هُوَ احْمِرَارُهُ فِي ثِمَارِهِ وَعَلَى مَنْ مَلَكَ الْبُرَّ, وَالشَّعِيرَ قَبْلَ دِرَاسِهِمَا, وَإِمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا مِنْ التِّبْنِ وَكَيْلِهِمَا بِأَيِّ وَجْهٍ مَلَكَ ذَلِكَ, مِنْ مِيرَاثٍ, أَوْ هِبَةٍ, أَوْ ابْتِيَاعٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ إصْدَاقٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى مَنْ انْتَقَلَ مِلْكُهُ، عَنِ التَّمْرِ قَبْلَ الإِزْهَاءِ, وَلاَ عَلَى مَنْ مَلَكَهَا بَعْدَ الإِزْهَاءِ, وَلاَ عَلَى مَنْ انْتَقَلَ مِلْكُهُ، عَنِ الْبُرِّ, وَالشَّعِيرِ, قَبْلَ دِرَاسِهِمَا وَإِمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا وَكَيْلِهِمَا;، وَلاَ عَلَى مَنْ مَلَكَهُمَا بَعْدَ إمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا وَكَيْلِهِمَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ، وَلاَ تَمْرٍ صَدَقَةٌ" فَلَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَبِّ صَدَقَةٌ إلاَّ بَعْدَ إمْكَانِ تَوْسِيقِهِ; فَإِنَّ صَاحِبَهُ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِكَيْلِهِ وَإِخْرَاجِ صَدَقَتِهِ; فَلَيْسَ تَأْخِيرُهُ الْكَيْلَ وَهُوَ لَهُ مُمْكِنٌ بِمُسْقِطٍ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى التَّوْسِيقِ الَّذِي بِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ قَبْلَ الدِّرَاسِ أَصْلاً; فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ الدِّرَاسِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْهَا، وَلاَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. فَمَنْ سَقَطَ مُلْكُهُ عَنْهُ قَبْلَ الدِّرَاسِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ, أَوْ إصْدَاقٍ: أَوْ مَوْتٍ, أَوْ جَائِحَةٍ, أَوْ نَارٍ, أَوْ غَرَقٍ, أَوْ غَصْبٍ فَلَمْ يُمْكِنْهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي وَقْتِ وُجُوبِهَا, وَلاَ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ. وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْكَيْلُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ الَّذِي خُوطِبَ بِزَكَاتِهِ; فَمَنْ مَلَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَلَكَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ التَّمْرُ كَذَلِكَ; لإِنَّ النَّصَّ جَاءَ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهِ إذَا بَدَا طِيبُهُ, كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(5/254)


أما النخل إذا أزهى خرص و ألزم الزكاة
...
650 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا النَّخْلُ فَإِنَّهُ إذَا أَزْهَى خُرِصَ وَأُلْزِمَ الزَّكَاةَ
كَمَا ذَكَرْنَا, وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا شَاءَ; وَالزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْت خُبَيْبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: أَتَانَا سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا أَوْ دَعُوا الثُّلُثَ; فَإِنْ لَمْ تَأْخُذُوا فَدَعُوا الرُّبُعَ" شَكَّ شُعْبَةُ فِي لَفْظَةِ "تَأْخُذُوا" وَ "تَدَعُوا".
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى الْيَهُودِ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ أَوَّلُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ

(5/255)


يُؤْكَلَ, ثُمَّ يُخَيِّرُونَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهَا بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَوْ يَدْفَعُوهَا إلَيْهِمْ بِذَلِكَ" وَإِنَّمَا كَانَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَرْصِ لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتَفْتَرِقُ.

(5/256)


إذا خرص فسواء باع الثمرة أو أو وهبها أو تصدق بها أو أطعمها أو أجيح فيها كل ذلك لا يسقط الزكاة عنه
...
651 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا خُرِصَ كَمَا ذَكَرْنَا فَسَوَاءٌ بَاعَ الثَّمَرَةَ صَاحِبُهَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا أَوْ أَطْعَمَهَا أَوْ أَجِيحَ فِيهَا: كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عَنْهُ;
لاَِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ, وَأَطْلَقَ عَلَى الثَّمَرَةِ وَأَمْكَنَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ, كَمَا لَوْ وَجَدَهَا, وَلاَ فَرْقَ.

(5/256)


652 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا غَلِطَ الْخَارِصُ أَوْ ظَلَمَ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ: رَدَّ الْوَاجِبَ إلَى الْحَقِّ,
فَأُعْطِيَ مَا زِيدَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا نَقَصَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَارِصِ ظُلْمٌ لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صَاحِبِ الثَّمَرَةِ إلاَّ الْعُشْرَ, لاَ أَقَلُّ، وَلاَ أَكْثَرُ, أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ, لاَ أَقَلُّ، وَلاَ أَكْثَرُ, وَنُقْصَانُ الْخَارِصِ ظُلْمٌ لاَِهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِسْقَاطٌ لِحَقِّهِمْ, وَكُلُّ ذَلِكَ إثْمٌ وَعُدْوَانٌ.

(5/256)


إن ادعى أن الخارص ظلمه أو أخطأ لم يصدق إلا بالبينة
...
653 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْخَارِصَ ظَلَمَهُ أَوْ أَخْطَأَ؟ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
إنْ كَانَ الْخَارِصُ عَدْلًا عَالِمًا, فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ جَائِرًا فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ؟
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ جَائِرًا فَهُوَ فَاسِقٌ فَخَبَرُهُ مَرْدُودٌ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَتَعَرُّضُ الْجَاهِلِ لِلْحُكْمِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِمَا لَا يَدْرِي جُرْحَةٌ; وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَوْلِيَتُهُ; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَتَوْلِيَتُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".

(5/256)


654 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ خَرْصُ الزَّرْعِ أَصْلاً;
لَكِنْ إذَا حُصِدَ, وَدُرِسَ, فَإِنْ جَاءَ الَّذِي يَقْبِضُ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ فَقَعَدَ عَلَى الدُّرُوسِ وَالتَّصْفِيَةِ وَالْكَيْلِ فَلَهُ ذَلِكَ, وَلاَ نَفَقَةَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ.

(5/256)


655 - مَسْأَلَةٌ: وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ زَرْعٌ عِنْدَ حَصَادِهِ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمَسَاكِينِ
مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ; وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ قَبْلُ فِي بَابِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ ذِكْرِنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/257)


من ساقى حائط نخل أو زارع أرضه بجزء مما يخرج منها فأيهما وقع في سهمه خمسة أوسق فصاعدا فعليه الزكاة
...
656 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَاقَى حَائِطَ نَخْلٍ أَوْ زَارِعَ أَرْضِهِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَيُّهُمَا وَقَعَ فِي سَهْمِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ كَذَلِكَ مِنْ بُرٍّ, أَوْ شَعِيرٍ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ,
وَإِلاَّ فَلاَ, وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فَصَاعِدًا فِي زَرْعٍ أَوْ فِي ثَمَرَةِ نَخْلٍ بِحَبْسٍ, أَوْ ابْتِيَاعٍ, أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَسَاكِينِ, أَوْ الْعُمْيَانِ, أَوْ الْمَجْذُومِينَ, أَوْ فِي السَّبِيلِ, أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِأَهْلِهِ أَوْ عَلَى مَسْجِد, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: فَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا ذَكَرْنَا; وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَى شَرِيكٍ مِنْ أَجْلِ ضَمِّ زَرْعِهِ إلَى زَرْعِ شَرِيكِهِ, قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا}، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وَأَمَّا مَنْ لاَ يَتَعَيَّنُ فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لاَِحَدِهِمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَلاَ زَكَاةَ إلاَّ عَلَى مُسْلِمٍ يَقَعُ لَهُ مِمَّا يُصِيبُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ.
وقال أبو حنيفة: فِي كُلِّ ذَلِكَ الزَّكَاةُ.
وَهَذَا خَطَأٌ, لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لاَ شَرِيعَةَ عَلَى أَرْضٍ, وَإِنَّمَا الشَّرِيعَةُ عَلَى النَّاسِ, وَالْجِنِّ; وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوا لَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي أَرَاضِي الْكُفَّارِ.
فَإِنْ قَالُوا: الْخَرَاجُ نَابَ عَنْهَا.
قلنا: كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ خَرَاجَ عَلَيْهِمْ, فَكَانَ يَجِبُ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِيمَا أَخْرَجَتْ أَرْضُهُمْ; وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ, وَبِإِجْمَاعِهِمْ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وقال الشافعي: إذَا اجْتَمَعَ لِلشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ وَسَنَذْكُرُ

(5/257)


657 - مَسْأَلَةٌ:- وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ الَّذِي لَهُ الزَّرْعُ أَوْ التَّمْرُ مَا أَنْفَقَ فِي حَرْثٍ أَوْ حَصَادٍ, أَوْ جَمْعٍ,
أَوْ دَرْسٍ, أَوْ تَزْبِيلٍ أَوْ جِدَادٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ -:فَيُسْقِطُهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَسَوَاءٌ تَدَايَنَ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتَدَايَنْ, أَتَتْ النَّفَقَةُ عَلَى جَمِيعِ قِيمَةِ الزَّرْعِ أَوْ الثَّمَرِ أَوْ لَمْ تَأْتِ, وَهَذَا مَكَانٌ قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ.
حَدَّثَنَا حُمَامٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ - عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, فِي الرَّجُلِ يُنْفِقُ عَلَى ثَمَرَتِهِ, قَالَ أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهَا, وَقَالَ الآخَرُ: يَرْفَعُ النَّفَقَةَ وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ يَسْقُطُ مِمَّا أَصَابَ النَّفَقَةَ, فَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّى, وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ: الزَّكَاةُ جُمْلَةً إذَا بَلَغَ الصِّنْفُ مِنْهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا; وَلَمْ يُسْقِطْ الزَّكَاةَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفَقَةِ الزَّارِعِ وَصَاحِبِ النَّخْلِ; فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقٍّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ نَصِّ قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابِنَا, إلَّا أَنَّ مَالِكًا, وَأَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ تَنَاقَضُوا وَأَسْقَطُوا الزَّكَاةَ عَنِ الأَُمْوَالِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إذَا

(5/258)


كَانَ عَلَى صَاحِبِهَا دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهَا أَوْ يَسْتَغْرِقُ بَعْضَهَا; فَأَسْقَطُوهَا عَنْ مِقْدَارِ مَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مِنْهَا.

(5/259)


لا يجوز أن يعد على صاحب الزرع في الزكاة ما أكل و أهله
...
658 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ مَا أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ
فَرِيكًا أَوْ سَوِيقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ السُّنْبُلَ الَّذِي يَسْقُطُ فَيَأْكُلُهُ الطَّيْرُ أَوْ الْمَاشِيَةُ أَوْ يَأْخُذُهُ الضُّعَفَاءُ, وَلاَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ حِينَ الْحَصَادِ; لَكِنْ مَا صُفِّيَ فَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ إلاَّ حِينَ إمْكَانِ الْكَيْلِ, فَمَا خَرَجَ، عَنْ يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ قَبْلَ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِيهِ. وقال الشافعي: وَاللَّيْثُ, كَذَلِكَ.
وقال مالك, وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُعَدُّ عَلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا تَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ, وَقَدْ يَسْقُطُ مِنْ السُّنْبُلِ مَا لَوْ بَقِيَ لاََتَمَّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَهَذَا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، وَلاَ الْمَنْعُ مِنْهُ أَصْلاً. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}.

(5/259)


فرض على الخارص أن يترك له ما يأكل هو و أهله رطبا على السعة
...
659 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا التَّمْرُ: فَفَرْضٌ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ رُطَبًا عَلَى السَّعَةِ,
لاَ يُكَلَّفُ عَنْهُ زَكَاةٌ.وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ.
وقال مالك, وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَتْرُكُ لَهُ شَيْئًا.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا أَوْ دَعُوا الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ"، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ الَّذِينَ إجْمَاعُهُمْ الإِجْمَاعُ الْمُتَّبَعُ فِي أَنَّ هَذَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ إلَى الأَكْلِ رُطَبًا.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا هُشَيْمٌ, وَزَيْدٌ كِلاَهُمَا: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ عَلَى خَرْصِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ, فَقَالَ: إذَا وَجَدْت الْقَوْمَ فِي نَخْلِهِمْ قَدْ خَرَفُوا فَدَعْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ, لاَ تَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ.

(5/259)


إن كان زرع أو نخل يسقى بعض العام بعين أو ساقية من نهر أو بماء السماء ..الخ
...
660 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ زَرْعٌ, أَوْ نَخْلٌ يُسْقَى بَعْضَ الْعَامِ بِعَيْنٍ, أَوْ سَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ,
وَبَعْضَ الْعَامِ بِنَضْحٍ, أَوْ سَانِيَةٍ, أَوْ خَطَّارَةٍ, أَوْ دَلْوٍ, فَإِنْ كَانَ النَّضْحُ زَادَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً ظَاهِرَةً وَأَصْلَحَهُ: فَزَكَاتُهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ; وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا، وَلاَ أَصْلَحَ فَزَكَاتُهُ الْعُشْرُ.
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: يُزَكِّي عَلَى الأَغْلَبِ مِنْ ذَلِكَ; وَهُوَ قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ.
حدثنا حمام، حدثنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيٌّ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قُلْت لِعَطَاءٍ: فِي الْمَالِ يَكُونُ عَلَى الْعَيْنِ أَوْ بَعْلاً عَامَّةَ الزَّمَانِ, ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى الْبِئْرِ يُسْقَى بِهَا فَقَالَ: إنْ كَانَ يُسْقَى بِالْعَيْنِ أَوْ الْبَعْلِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْقَى بِالدَّلْوِ: فَفِيهِ الْعُشْرُ, وَإِنْ كَانَ يُسْقَى بِالدَّلْوِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْقَى بِالْبَعْلِ: فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَعُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولاَنِ هَذَا الْقَوْلَ.
وقال مالك مَرَّةً: إنَّ زَكَاتَهُ بِاَلَّذِي غَذَّاهُ بِهِ وَتَمَّ بِهِ, لاَ أُبَالِي بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ سَقْيِهِ فَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: يُعْطِي نِصْفَ زَكَاتِهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُهَا نِصْفُ الْعُشْرِ, وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
قال أبو محمد: قَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ بِنِصْفِ الْعُشْرِ, وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ السَّمَاءَ تَسْقِيه وَيُصْلِحُهُ مَاءُ السَّمَاءِ; بَلْ قَدْ شَاهَدْنَا جُمْهُورَ السِّقَاءِ بِالْعَيْنِ وَالنَّضْحِ إنْ لَمْ

(5/260)


يَقَعْ عَلَيْهِ مَاءٌ السَّمَاءِ تَغَيَّرَ، وَلاَ بُدَّ, فَلَمْ يَجْعَلْ عليه السلام لِذَلِكَ حُكْمًا, فَصَحَّ أَنَّ النَّضْحَ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِلزَّرْعِ أَوْ النَّخْلِ فَزَكَاتُهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ. وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ الشَّافِعِيُّونَ فِيهِ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ.

(5/261)


661 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ زَرَعَ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ أَوْ أَكْثَرَ,
أَوْ حَمَلَتْ نَخْلَةٌ بَطْنَيْنِ فِي السَّنَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَضُمُّ الْبُرَّ الثَّانِي، وَلاَ الشَّعِيرَ الثَّانِي، وَلاَ التَّمْرَ الثَّانِي إلَى الأَوَّلِ; وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ يُزَكِّهِ; وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ بِانْفِرَادِهِ لَمْ يُزَكِّهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَمَعَا لَوَجَبَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الزَّرْعَيْنِ وَالتَّمْرَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَامَانِ أَوْ أَكْثَرُ; وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَإِذْ صَحَّ نَفْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ عَمَّا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ رَاعَى الْمُجْتَمَعَ, لاَ زَرْعًا مُسْتَأْنَفًا لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/261)


إن كان قمح بكير أو شعير بكير أو تمر بكير و آخر من جنس كل واحد منها مؤخر
...
662 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ قَمْحُ بِكِيرٍ أَوْ شَعِيرُ بِكِيرٍ أَوْ تَمْرُ بِكِيرٍ وَآخَرُ مِنْ جِنْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُؤَخَّرٌ,
فَإِنْ يَبِسَ الْمُؤَخَّرُ أَوْ أَزْهَى قَبْلَ تَمَامِ وَقْتِ حَصَادِ الْبَكِيرِ وَجِدَادِهِ فَهُوَ كُلُّهُ زَرْعٌ وَاحِدٌ وَتَمْرٌ وَاحِدٌ, يَضُمُّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ, وَتُزَكَّى مَعًا, إنْ لَمْ يَيْبَسْ الْمُؤَخَّرُ، وَلاَ أَزْهَى إلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ حَصَادِ الْبَكِيرِ فَهُمَا زَرْعَانِ وَتَمْرَانِ, يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الآخَرِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ زَرْعٍ وَكُلَّ تَمْرٍ فَإِنَّ بَعْضَهُ يَتَقَدَّمُ بَعْضًا فِي الْيُبْسِ وَالإِزْهَاءِ; وَإِنَّ مَا زُرِعَ فِي تَشْرِينَ الأَوَّلِ يَبْدَأُ يُبْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَيْبَسَ مَا زُرِعَ فِي شُبَاطَ, إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقَضِي وَقْتُ حَصَادِ الأَوَّلِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ الثَّانِي; لاَِنَّهَا صِيفَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَأَمَّا إذَا كَانَ لاَ يَجْتَمِعُ وَقْتُ حَصَادِهِمَا، وَلاَ يَتَّصِلُ وَقْتُ إزْهَائِهِمَا فَهُمَا زَمَنَانِ اثْنَانِ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَبْكَرُ مَا صَحَّ عِنْدَنَا يَقِينًا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَنْ يُزْرَعَ فِي بِلاَدٍ مِنْ شِنْتَ بَرِيَّةَ, وَهِيَ مِنْ

(5/261)


663 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ حُصِدَ قَمْحٌ أَوْ شَعِيرٌ ثُمَّ أُخْلِفَ فِي أُصُولِهِ زَرْعٌ
فَهُوَ زَرْعٌ آخَرُ, لاَ يُضَمُّ إلَى الأَوَّلِ; لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/262)


664 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِ الْمَالِ لاَ فِي عَيْنِ الْمَالِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذَا. وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: هُوَ أَنْ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ مِنْ زَمَنِنَا إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَأَعْطَى زَكَاتَهُ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّرْعِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ التَّمْرِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الذَّهَبِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْفِضَّةِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الإِبِلِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْبَقَرِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْغَنَمِ: فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لَهُ, بَلْ سَوَاءٌ أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ, أَوْ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهَا, أَوْ مِمَّا يَشْتَرِي, أَوْ مِمَّا يُوهَبُ, أَوْ مِمَّا يُسْتَقْرَضُ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي الْعَيْنِ إذْ لَوْ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ

(5/262)


كل مال وجبت فيه زكاة من الأموال التي ذكرنا فسواء تلف ذلك أو بعضه فالزكاة كلها واجبة في ذمة صاحبه
...
665 - مَسْأَلَةٌ: فَكُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةٌ مِنْ الأَمْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا, فَسَوَاءٌ تَلَفَ ذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ
أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ إثْرِ إمْكَانِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ, إثْرِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِمَا قَلَّ مِنْ الزَّمَنِ أَوْ كَثُرَ, بِتَفْرِيطٍ تَلَفَ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ: فَالزَّكَاةُ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ كَمَا كَانَتْ لَوْ لَمْ يَتْلَفْ, وَلاَ فَرْقَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي عَيْنِ الْمَالِ.
وَإِنَّمَا قلنا: إثْرَ إمْكَانِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ لاَِنَّهُ إنْ أَرَادَ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عَيْنِ الْمَالِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ, وَالإِبِلُ وَغَيْرُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ, إلاَّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُزَكَّى بِالْغَنَمِ وَلَهُ غَنَمٌ حَاضِرَةٌ فَهَذَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ مِنْ الْغَنَمِ الْحَاضِرَةِ, وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْطُلَ بِالزَّكَاةِ حَتَّى يَبِيعَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.

(5/263)


و كذلك لو أخرج الزكاة و عزلها ليدفعها إلى المصدق فضاعت الزكاة كلها أو بعضها فعليه إعادتها
...
666 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَعَزَلَهَا لِيَدْفَعَهَا إلَى الْمُصَدِّقِ أَوْ إلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَضَاعَتْ الزَّكَاةُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا كُلِّهَا،
وَلاَ بُدَّ, لِمَا ذَكَرْنَا; وَلاَِنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوَصِّلَهَا إلَى مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيصَالِهَا إلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ.
وقال أبو حنيفة: إنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَحُدَّ لِذَلِكَ مُدَّةً فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ بِأَيِّ وَجْهٍ هَلَكَ فَلَوْ هَلَكَ بَعْضُهُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ فَقَطْ, قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلَفَ, فَإِنْ كَانَ هُوَ اسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ.

(5/263)


667 مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّ بُرٍّ أَعْطَى, أَوْ أَيُّ شَعِيرٍ: فِي زَكَاتِهِ كَانَ أَدْنَى مِمَّا أَصَابَ أَوْ أَعْلَى: أَجْزَأَهُ,
مَا لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا بِعَفَنٍ, أَوْ تَآكُلٍ, فَلاَ يُجْزِئُ، عَنْ صَحِيحٍ, أَوْ مَا كَانَ رَدِيئًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ بِالنَّصِّ عُشْرُ مَكِيلَةِ مَا أَصَابَ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا إذَا كَانَتْ

(5/264)


و كذلك القول في زكاة التمر, أي تمر أخرج أجزأه
...
668 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي زَكَاةِ التَّمْرِ, أَيِّ تَمْرٍ أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ,
سَوَاءٌ مِنْ جِنْسِ تَمْرِهِ, أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ, أَدْنَى مِنْ تَمْرِهِ أَوْ أَعْلَى, مَا لَمْ يَكُنْ رَدِيًّا كَمَا ذَكَرْنَا, أَوْ مَعْفُونًا أَوْ مُتَآكِلاً, أَوْ الْجُعْرُورُ, أَوْ لَوْنُ الْحُبَيْقِ فَلاَ يُجْزِئُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, وَسَوَاءٌ كَانَ تَمْرُهُ كُلُّهُ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا, وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِتَمْرٍ سَالِمٍ غَيْرِ رَدِيءٍ, وَلاَ مِنْ هَذَيْنِ اللَّوْنَيْنِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}.
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حدثنا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ لَوْنَيْنِ مِنْ التَّمْرِ: الْجُعْرُورُ, وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ, وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمُونَ شِرَارَ ثِمَارِهِمْ فَيُخْرِجُونَهَا فِي الصَّدَقَةِ; فَنُهُوا، عَنْ ذَلِكَ, وَنَزَلَتْ، {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ

(5/265)


زكاة الغنم
تعريف الغنم في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم
...
زَكَاةُ الْغَنَمِ.
669 - مَسْأَلَةٌ: الْغَنَمُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْمٌ
يَقَعُ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ, فَهِيَ مَجْمُوعٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ. وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ الْمَاعِزِ وَالضَّأْنِ, كَضَأْنِ بِلاَدِ السُّودَانِ وَمَاعِزِ الْبَصْرَةِ وَالنَّفَدِ وَبَنَاتِ حَذَفٍ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ الْمَقْرُونُ الَّذِي نِصْفُهُ خِلْقَةُ مَاعِزٍ, وَنِصْفُهُ ضَأْنٍ, لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَنَمِ, وَالذُّكُورِ وَالإِنَاثِ سَوَاءٌ. وَاسْمُ الشَّاءِ أَيْضًا: وَاقِعٌ عَلَى الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي اللُّغَةِ. وَلاَ وَاحِدَ لِلْغَنَمِ مِنْ لَفْظِهِ, إنَّمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ: شَاةٌ, أَوْ مَاعِزَةٌ, أَوْ ضَانِيَةٌ, أَوْ كَبْشٌ, أَوْ تَيْسٌ: هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/267)


670 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُسْلِمُ الْوَاحِدُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ رَأْسًا حَوْلاً كَامِلاً مُتَّصِلاً عَرَبِيًّا قَمَرِيًّا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا, وَسَنَذْكُرُهُ فِي زَكَاةِ الْفَوَائِدِ, إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَكْفِي مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْمَاشِيَةِ, وَلَمْ يَحُدَّ وَقْتًا، وَلاَ نَدْرِي مِنْ هَذَا الْعُمُومِ مَتَى تَجِبُ الزَّكَاةُ, إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا عليه السلام فِي كُلِّ يَوْمٍ, وَلاَ فِي كُلِّ شَهْرٍ, وَلاَ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ فَصَاعِدًا, هَذَا مَنْقُولٌ بِإِجْمَاعٍ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي أَنَّهَا مَرَّةٌ فِي الْحَوْلِ, فَلاَ يَجِبُ فَرْضٌ إلاَّ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ, أَوْ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ بِنَقْلِ آحَادٍ، وَلاَ بِنَقْلِ تَوَاتُرٍ، وَلاَ بِنَقْلِ إجْمَاعٍ, وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْجَبَهَا بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ قَدْ صَحَّ وُجُوبُهَا بِنَقْلِ الإِجْمَاعِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ بِلاَ شَكٍّ; فَالآنُ وَجَبَتْ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.

(5/267)


إذا تمت في ملكه عاما ففيها شاة سواء كانت كلها ضأنا أو كلها ماعزا أو بعضها
...
671 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا تَمَّتْ فِي مِلْكِهِ عَامًا كَمَا ذَكَرْنَا, سَوَاءٌ كَانَتْ كُلُّهَا مَاعِزًا, أَوْ بَعْضُهَا أَكْثَرُهَا أَوْ أَقَلُّهَا ضَأْنًا, وَسَائِرُهَا كَذَلِكَ مِعْزَى:- فَفِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ
لاَ نُبَالِي ضَانِيَةً كَانَتْ أَوْ مَاعِزَةً, كَبْشًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مِنْ كِلَيْهِمَا, كُلُّ رَأْسٍ تُجْزِئُ مِنْهُمَا، عَنِ الضَّأْنِ, وَعَنِ الْمَاعِزِ; وَهَكَذَا مَا زَادَتْ حَتَّى تَتِمَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ كَمَا ذَكَرْنَا.
فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ لَوْ بَعْضَ شَاةٍ كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً كَمَا ذَكَرْنَا فَفِيهَا شَاتَانِ كَمَا قلنا, إلَى أَنْ تَتِمَّ مِائَتَيْ شَاةٍ.
فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ وَلَوْ بَعْضَ شَاةٍ كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً وَصَفْنَا فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ كَمَا حَدَّدْنَا وَهَكَذَا إلَى أَنْ تُتِمَّ أَرْبَعمِائَةِ شَاةٍ كَمَا وَصَفْنَا فَإِذَا أَتَمَّتْهَا كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً كَمَا ذَكَرْنَا فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ.
وَأَيَّ شَاةٍ أَعْطَى صَاحِبُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ لِلْمُصَدِّقِ، وَلاَ لاَِهْلِ الصَّدَقَاتِ رَدُّهَا, مِنْ غَنَمِهِ كَانَتْ أَوْ مِنْ غَيْرِ غَنَمِهِ, مَا لَمْ تَكُنْ هَرِمَةً أَوْ مَعِيبَةً; فَإِنْ أَعْطَاهُ هَرِمَةً; أَوْ مَعِيبَةً فَالْمُصَدِّقُ مُخَيَّرٌ, إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَجْزَأَتْ عَنْهُ, وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَكَلَّفَهُ فَتِيَّةً سَلِيمَةً, وَلاَ نُبَالِي كَانَتْ تُجْزِئُ فِي الأَضَاحِيِّ أَوْ لاَ تُجْزِئُ.
وَالْمُصَدِّقُ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ أَوْ أَمِيرُهُ فِي قَبْضِ الصَّدَقَاتِ،

(5/268)


وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ تَيْسًا ذَكَرًا إلاَّ أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الْغَنَمِ; فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ;، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ أَفْضَلَ الْغَنَمِ, فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي تَرْبَى أَوْ السَّمِينَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَفْضَلِ الْغَنَمِ جَازَ أَخْذُهَا; فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَاضِلَةً أَخَذَ مِنْهَا إنْ أَعْطَاهُ صَاحِبُهَا, سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كَانَ صَاحِبُهَا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ مَا ذَكَرْنَا أَجَزَّأَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الأَنْصَارِيُّ، حدثنا أَبِي، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: "هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ; فَمَنْ سَأَلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا, وَمَنْ سَأَلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطَ". ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ" فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَشَاتَانِ; فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ; فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ "فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا, وَلاَ يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً, وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ, وَلاَ تَيْسٌ إلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السَّلِيمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ النُّفَيْلِيِّ، حدثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ عليه السلام, فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ, ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى قُبِضَ, فَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْفَرَائِضِ: "وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَشَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ, فَإِنْ

(5/269)


كَانَتْ الْغَنَمُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ, وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْمِائَةَ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدٌ، هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ, وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ, فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ".
فَفِي هَذِهِ الأَخْبَارِ نَصُّ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلاَفٌ.
فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: لاَ يُؤْخَذُ مِنْ الضَّأْنِ إلاَّ ضَانِيَةٌ, وَمِنْ الْمَعْزِ إلاَّ مَاعِزَةٌ فَإِنْ كَانَا خَلِيطَيْنِ أُخِذَ مِنْ الأَكْثَرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ; بَلْ الَّذِي ذَكَرُوا خِلاَفٌ لِلسُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ, وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَمْعِ الْمَعْزَى مَعَ الضَّأْنِ, وَعَلَى أَنَّ اسْمَ غَنَمٍ يَعُمُّهَا, وَأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْمَاعِزِ, وَمِنْ الضَّأْنِ; وَلَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ فِي حُكْمِهَا فَرْقًا لَبَيَّنَهُ, كَمَا خَصَّ التَّيْسَ, وَإِنْ وُجِدَ فِي اللُّغَةِ اسْمُ التَّيْسِ يَقَعُ عَلَى الْكَبْشِ وَجَبَ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ إلاَّ بِرِضَا الْمُصَدِّقِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ الْمَاعِزَةِ، عَنِ الضَّأْنِ أَجَازَ أَخْذَ الذَّهَبِ، عَنِ الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ، عَنِ الذَّهَبِ وَهُمَا عِنْدَهُ صِنْفَانِ, يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِمَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً.
وَالْخِلاَفُ أَيْضًا فِي مَكَان آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إنْ مَلَكَ مِائَةَ شَاةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً وَبَعْضَ شَاةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ شَاةٌ وَاحِدَةٌ حَتَّى يَتِمَّ فِي مِلْكِهِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ, وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ شَاةٍ وَبَعْضَ شَاةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ شَاتَانِ حَتَّى يَتِمَّ فِي مِلْكِهِ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ. وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ "فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ" كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.

(5/270)


قال أبو محمد: فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ذَكَرُوا, وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَوْرَدْنَا "فَإِنْ زَادَتْ" وَلَمْ يَقُلْ "وَاحِدَةٌ" فَوَجَدْنَا الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّهَا إنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً أَوْ عَلَى مِائَتَيْ شَاةٍ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الْفَرِيضَةُ. وَوَجَدْنَا حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْفَرِيضَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ, فَكَانَ هَذَا عُمُومًا لِكُلِّ زِيَادَةٍ, وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, فَصَارَ مَنْ قَالَ بِقَوْلِنَا قَدْ أَخَذَ بِالْحَدِيثَيْنِ, فَلَمْ يُخَالِفْ وَاحِدًا مِنْهُمَا; وَصَارَ مَنْ قَالَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ, مُخَصِّصًا لَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَاهُنَا أَيْضًا خِلاَفٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ كِلاَهُمَا، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا زَادَتْ الْغَنَمُ وَاحِدَةٌ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ, فَكُلُّ مَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَهُوَ كَذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ لاَ سِيَّمَا الْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ, وَالْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَا عَظُمَتْ بِهِ الْبَلْوَى لاَ يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِد: أَنْ يَقُولُوا بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ; لأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمِائَتَيْ شَاةٍ إذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ تَنْتَقِلُ وَيَجِبُ فِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ, فَكَذَلِكَ إذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ وَاحِدَةٌ أَيْضًا, فَيَجِبُ أَنْ تَنْتَقِلَ الْفَرِيضَةُ, وَلاَ سِيَّمَا وَالْحَنَفِيُّونَ قَدْ قَلَّدُوا إبْرَاهِيمَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ بَقَرَةً, وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْبَقَرِ وَقْصًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَنْ يُقَلِّدُوهُ هَاهُنَا وَيَقُولُوا: لَمْ نَجِدْ فِي الْغَنَمِ وَقْصًا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانٍ وَتِسْعِينَ شَاةً; لاَ سِيَّمَا وَمَعَهُمْ هَاهُنَا فِي الْغَنَمِ قِيَاسٌ مُطَرَّدٌ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي الْبَقَرِ قِيَاسٌ أَصْلاً, وَكُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فِي الْبَقَرِ فَهُوَ لاَزِمٌ لَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ مِنْ الْغَنَمِ مِنْ قوله تعالى :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} ًوَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَلاَّ قَالُوا: هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا جَهِلَهُ إبْرَاهِيمُ.

(5/271)


فَإِنْ قَالُوا: إنَّ خِلاَفَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ, وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَنْ عَلِيٍّ, وَعَنْ صَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ.
قلنا: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ إلاَّ وَقَدْ خَالَفْتُمُوهَا, فَلَمْ تَكُنْ حُجَّةٌ فِيمَا خَالَفْتُمُوهُ فِيهِ, وَكَانَ حُجَّةٌ عِنْدَكُمْ فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا!!
قال أبو محمد: كُلُّهُ خَبْطٌ لاَ مَعْنَى لَهُ وَإِنَّمَا نُرِيهِمْ تَنَاقُضَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ فِي الدِّينِ بِتَرْكِ الْقِيَاسِ لِلسُّنَنِ إذَا وَافَقَتْ تَقْلِيدَهُمْ, وَبِتَرْكِ السُّنَنِ لِلْقِيَاسِ كَذَلِكَ, وَبِتَرْكِهِمَا جَمِيعًا كَذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ رَاعَى فِي الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ مَا تُجْزِئُ مِنْ الآُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ أَخْطَأَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا قَالَ نَصٌّ وَلاَ إجْمَاعٌ; فَكَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْجَذَعَةِ فَمَا دُونَهَا فِي زَكَاةِ الإِبِلِ, وَلاَ تُجْزِئُ فِي الآُضْحِيَّةِ, وَإِنَّمَا قَالَ عليه السلام لاَِبِي بُرْدَةَ "وَلَنْ تُجْزِئَ جَذَعَةٌ لاَِحَدٍ بَعْدَكَ" يَعْنِي فِي الآُضْحِيَّةِ; لاَِنَّهُ عَنْهَا سَأَلَهُ, وَقَدْ صَحَّ النَّصُّ بِإِيجَابِ الْجَذَعَةِ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ; فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَعْنِ إلاَّ الآُضْحِيَّةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا إنْ كَانَتْ الْغَنَمُ كُلُّهَا كَرَائِمُ أَخَذَ مِنْهَا بِرِضَا صَاحِبِهَا; فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كَرَائِمِ الْغَنَم, وَهَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الْغَنَمِ، وَلاَ بُدَّ مَا لَيْسَ بِكَرَائِمَ, وَأَمَّا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا كَرَائِمُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: هَذِهِ كَرَائِمُ هَذِهِ الْغَنَمِ; لَكِنْ يُقَالُ هَذِهِ كَرِيمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ الْكَرَائِمِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يُؤْمَرُ الْمُصَدِّقُ أَنْ يَصْدَعَ الْغَنَمَ صَدْعَيْنِ فَيَخْتَارُ صَاحِبُ الْغَنَمِ خَيْرَ الصَّدْعَيْنِ وَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ الآخَرِ.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَالَ: يُفَرِّقُ الْغَنَمَ أَثْلاَثًا, ثُلُثُ خِيَارٍ, وَثُلُثُ رُذَالٍ, وَثُلُثُ وَسَطٍ; ثُمَّ تَكُونُ الصَّدَقَةُ فِي الْوَسَطِ.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ هَرِمَةً، وَلاَ ذَاتَ عَوَارٍ، وَلاَ تَيْسًا.

(5/272)


وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ: "وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنِي بِشْرُ بْنُ عَاصِم بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ سُفْيَانَ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ آخُذُ الشَّاةَ الأَكُولَةَ، وَلاَ فَحْلَ الْغَنَمِ, وَلاَ الرُّبَى، وَلاَ الْمَاخِضَ, وَلَكِنِّي آخُذُ الْعَنَاقَ وَالْجَذَعَةَ، وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصْدِقًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ.

(5/273)


و ما صغر عن أن يسمى شاة لكن يسمى خروفا أو جديا أو سخلة لم يجز أن يؤخذ في الصدقة الواجبة
...
672 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا صَغُرَ، عَنْ أَنْ يُسَمَّى: شَاةً, لَكِنْ يُسَمَّى خَرُوفًا, أَوْ جَدْيًا, أَوْ سَخْلَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ،
وَلاَ أَنْ يُعَدَّ فِيمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، إلاَّ أَنْ يُتِمَّ سَنَةً، فَإِذَا أَتَمَّهَا عُدَّ, وَأُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْهُ.
قال أبو محمد: هَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُضَمُّ الْفَوَائِدُ كُلُّهَا مِنْ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ, وَالْمَوَاشِي, إلَى مَا عِنْدَ صَاحِبِ الْمَالِ فَتُزَكَّى مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ, وَلَوْ لَمْ يَفِدْهَا إلاَّ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ. هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ تَجِبُ فِي مِقْدَارِ مَا مَعَهُ الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ, وَلاَ يُبَالِي أَنَقَصَ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ، عَنِ النِّصَابِ أَمْ لاَ قَال: فَإِنْ مَاتَتْ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ كُلَّهَا وَبَقِيَ مِنْ عَدَدِ الْخِرْفَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ: فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ ثَلاَثِينَ عِجْلاً فَصَاعِدًا، أَوْ خَمْسًا مِنْ الْفُصْلاَنِ فَصَاعِدًا، عَامًا كَامِلاً دُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا. وقال مالك: لاَ تُضَمُّ فَوَائِدُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، إلَى مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِ مِنْهَا بَلْ يُزَكَّى كُلُّ مَالٍ بِحَوْلِهِ, حَاشَا رِبْحَ الْمَالِ وَفَوَائِدَ الْمَوَاشِي كُلِّهَا فَإِنَّهَا تُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ وَيُزَكَّى الْجَمِيعُ بِحَوْلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ، وَلَوْ لَمْ يُفِدْهَا إلاَّ قَبْلَ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ، إلاَّ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ فَائِدَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْمَاشِيَةِ, مِنْ غَيْرِ الْوِلاَدَةِ, فَلَمْ يَرَ أَنْ يُضَمَّ إلَى مَا عِنْدَ الْمَرْءِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلاَّ إذَا كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا مِقْدَارًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ. وَرَأَى أَنْ تُضَمَّ وِلاَدَةُ الْمَاشِيَةِ خَاصَّةً إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْهَا, سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا تَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ أَوْ لاَ تَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ.
وقال الشافعي: لاَ تُضَمُّ فَائِدَةٌ أَصْلاً إلَى مَا عِنْدَهُ, إلاَّ أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ فَقَطْ, فَإِنَّهَا تُعَدُّ مَعَ أُمَّهَاتِهَا, وَلَوْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِهَا إلاَّ قَبْلَ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ, هَذَا إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ, فَإِنْ نَقَصَتْ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، عَنِ النِّصَابِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا تَنَاقُضُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ وَتَقْسِيمِهِمَا فَلاَ خَفَاءَ بِهِ, لاَِنَّهُمَا قَسَّمَا تَقْسِيمًا لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَهُ هَاهُنَا أَيْضًا تَنَاقُضٌ أَشْنَعُ مِنْ تَنَاقُضِ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَهُوَ

(5/274)


أَنَّهُ رَأَى أَنْ يُرَاعَى أَوَّلُ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ دُونَ وَسَطٍ, وَرَأَى أَنْ تُعَدَّ أَوْلاَدُ الْمَاشِيَةِ مَعَ أُمَّهَاتِهَا وَلَوْ لَمْ تَضَعْهَا إلاَّ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي بِسَاعَةٍ, ثُمَّ رَأَى فِي أَرْبَعِينَ خَرُوفًا صِغَارًا وَمَعَهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ مُسِنَّةٌ أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ, وَهِيَ تِلْكَ الْمُسِنَّةُ فَقَطْ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُسِنَّةٌ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا, فَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مِائَةُ خَرُوفٍ وَعِشْرُونَ خَرُوفًا صِغَارًا كُلَّهَا وَمَعَهَا مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: إنْ كَانَ فِيهَا مُسِنَّتَانِ فَصَدَقَتُهَا تَانِكَ الْمُسِنَّتَانِ مَعًا, وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُمَا إلاَّ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ تِلْكَ الْمُسِنَّةِ وَحْدَهَا فَقَطْ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُسِنَّةٌ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ أَصْلاً. وَهَكَذَا قَالَ فِي الْعَجَاجِيلِ وَالْفُصْلاَنِ أَيْضًا, وَلَوْ مَلَكَهَا سَنَةً فَأَكْثَرَ!!
قال أبو محمد: وَهَذِهِ شَرِيعَةُ إبْلِيسَ لاَ شَرِيعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَعْنِي قَوْلَهُ: إنْ كَانَ مَعَ الْمِائَةِ خَرُوفٌ وَالْعِشْرُونَ خَرُوفًا: مُسِنَّتَانِ زَائِدَتَانِ أُخِذَتَا، عَنْ زَكَاةِ الْخِرْفَانِ كِلْتَاهُمَا, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا إلاَّ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ: أُخِذَتْ وَحْدُهَا، عَنْ زَكَاةِ الْخِرْفَانِ، وَلاَ مَزِيدَ وَمَا جَاءَ بِهَذَا قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ, وَلاَ أَحَدُ نَعْلَمُهُ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً فِي أَرْبَعِينَ خَرُوفًا: يُؤْخَذُ، عَنْ زَكَاتِهَا شَاةٌ مُسِنَّةٌ, وَبِهِ يَأْخُذُ زُفَرُ, ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: بَلْ يُؤْخَذُ، عَنْ زَكَاتِهَا خَرُوفٌ مِنْهَا; وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو يُوسُفَ; ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: لاَ زَكَاةَ فِيهَا; وَبِهِ يَأْخُذُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ.
وقال مالك كَقَوْلِ زُفَرَ, وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ, وَالشَّافِعِيُّ, كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ, وَقَالَ الشَّعْبِيُّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَقَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنْ تُعَدَّ الْخِرْفَانُ مَعَ أُمَّهَاتِهَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا فِي مَخَالِيفِ الطَّائِفِ, فَشَكَا إلَيْهِ أَهْلُ الْمَاشِيَةِ تَصْدِيقَ الْغِذَاءِ, وَقَالُوا: إنْ

(5/275)


كُنْت مُعْتَدًّا بِالْغِذَاءِ فَخُذْ مِنْهُ صَدَقَتَهُ. قَالَ عُمَرُ: فَقُلْ لَهُمْ: إنَّا نَعْتَدُّ بِالْغِذَاءِ كُلِّهَا حَتَّى السَّخْلَةُ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدِهِ وَقُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ آخُذُ الشَّاةَ الأَكُولَةَ، وَلاَ فَحْلَ الْغَنَمِ, وَلاَ الرُّبَى, وَلاَ الْمَاخِضَ، وَلَكِنِّي آخُذُ الْعَنَاقُ, وَالْجَذَعَةَ, وَالثَّنِيَّةَ: وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ, وَخِيَارِهِ.
وَرُوِّينَا هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سُفْيَانَ. مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَهُ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي هَذَا غَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ لاَ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لاَ يُزَكَّى حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ: تَعْنِي الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
فَهَذَا عُمُومٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ, وَعَائِشَةَ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهم،, لَمْ يَخُصُّوا فَائِدَةَ مَاشِيَةٍ بِوِلاَدَةٍ مِنْ سَائِرِ مَا يُسْتَفَادُ; وَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ إلاَّ كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهِمْ, وَقَائِلاً بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يَقُولُوهُ قَطُّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِينَ حَكَى عَنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَعُدَّ عَلَيْهِمْ أَوْلاَدَ

(5/276)


الْمَاشِيَةِ مَعَ أُمَّهَاتِهَا: قَدْ كَانَ فِيهِمْ بِلاَ شَكٍّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإِنَّ سُفْيَانَ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَيَّامَ عُمَرَ رضي الله عنه وَلِيَ الأَمْرَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ, وَبَقِيَ عَشْرَ سِنِينَ, وَمَاتَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً, وَكَانُوا بِالطَّائِفِ, وَأَهْلُ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا قَبْلَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ عَامٍ وَنِصْفٍ وَرَأَوْهُ عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ الْخِلاَفُ فِي هَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِلاَ شَكٍّ, وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ; وَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا، عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ مُتَّصِلَةٍ إلاَّ مِنْ طَرِيقَيْنِ: إحْدَاهُمَا: مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ, وَكِلاَهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَوْ مِنْ طَرِيقِ ابْنٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ لَمْ يُسَمَّ. وَالثَّانِيَةُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ, وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: خَالَفُوا قَوْلَ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا, فَقَالُوا: لاَ يُعْتَدُّ بِمَا وَلَدَتْ الْمَاشِيَةُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ الآُمَّهَاتُ دُونَ الأَوْلاَدِ عَدَدًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ تُعَدُّ عَلَيْهِمْ الأَوْلاَدُ, وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ.
وَالْخَامِسُ أَنَّهُمْ لاَ يَلْتَفِتُونَ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِأَصَحِّ مِنْ هَذَا الإِسْنَادِ, أَشْيَاءَ لاَ يُعْرَفُ لَهُ فِيهَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, إذَا خَالَفَ رَأْيَ مَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ: كَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ قَوْلَ عُمَرَ: الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: أَخْذَ عُمَرَ الزَّكَاةَ مِنْ الرَّقِيقِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ, وَصِفَةِ أَخْذِهِ الزَّكَاةَ مِنْ الْخَيْلِ. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ إيجَابَ عُمَرَ الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ, وَلاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ: أَمْرَ عُمَرَ الْخَارِصَ بِأَنْ يَتْرُكَ لاَِصْحَابِ النَّخْلِ مَا يَأْكُلُونَهُ لاَ يَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ, وَغَيْرِ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَقَدْ وَضَحَ أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ

(5/277)


بِعُمَرَ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ وَافَقَ شَهَوَاتِهِمْ لاَ حَيْثُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَهَذَا عَظِيمٌ فِي الدِّينِ جِدًّا.
قال أبو محمد: الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ الْقُرْآنُ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ فَصَاعِدًا كَمَا وَصَفْنَا, وَأَوْجَبَ فِيهَا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ أَوْ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةً, وَأَسْقَطَهَا عَمَّا عَدَا ذَلِكَ. وَوَجَدْنَا الْخِرْفَانَ وَالْجِدْيَانَ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ شَاةٍ، وَلاَ اسْمُ شَاءٍ فِي اللُّغَةِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِهَا دِينَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَخَرَجَتْ الْخِرْفَانُ, وَالْجِدْيَانُ، عَنْ أَنْ تَجِبَ فِيهَا زَكَاةٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لاَ يُؤْخَذَ خَرُوفٌ، وَلاَ جَدْيٌ فِي الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، عَنِ الشَّاءِ فَأَقَرُّوا بِأَنَّهُ لاَ يُسَمَّى شَاةً، وَلاَ لَهُ حُكْمُ الشَّاءِ, فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا زَكَاةٌ, فَلاَ تَجُوزُ هِيَ فِي الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ زَكَاةَ مَاشِيَةٍ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا حَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا مَنْ مَلَكَ خِرْفَانًا أَوْ عُجُولاً أَوْ فُصْلاَنًا سَنَةً كَامِلَةً فَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ تَمَامِ الْعَامِ، لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُسَمَّى غَنَمًا, وَبَقَرًا وَإِبِلاً.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، حدثنا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: "أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسْتُ إلَيْهِ, فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إنَّ فِي عَهْدِي أَنْ لاَ نَأْخُذَ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ".
قال أبو محمد: لَوْ أَرَادَ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ هُوَ فِي الزَّكَاةِ لَقَالَ: "أَنْ لاَ نَأْخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ" لَكِنْ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ وَرَاضِعُ لَبَنٍ اسْمٌ لِلْجِنْسِ صَحَّ بِذَلِكَ

(5/278)


أَنْ لاَ تُعَدَّ الرَّوَاضِعُ فِيمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا عَابَ هِلاَلَ بْنَ خَبَّابٍ, إلاَّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: لَقِيته وَقَدْ تَغَيَّرَ, وَهَذَا لَيْسَ جُرْحَةٌ, لإِنَّ هُشَيْمًا أَسَنُّ مِنْ يَحْيَى بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً, فَكَانَ لِقَاءُ هُشَيْمٍ لِهِلاَلٍ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ بِلاَ شَكٍّ.
وَأَمَّا سُوَيْدٌ فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَتَى إلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه السلام بِنَحْوِ خَمْسِ لَيَالٍ, وَأَفْتَى أَيَّامَ عُمَرَ رضي الله عنه.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو يُوسُفَ فَطَرَدَا قَوْلَهُمَا, إذْ أَوْجَبَا أَخْذَ خَرُوفٍ صَغِيرٍ فِي الزَّكَاةِ، عَنْ أَرْبَعِينَ خَرُوفًا فَصَاعِدًا, وُلِدَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَتْ أُمَّهَاتُهَا.
وَأَخْذُ مِثْلِ هَذَا فِي الزَّكَاةِ عَجَبٌ جِدًّا.
وَأَمَّا إذَا أَتَمَّتْ سَنَةً فَاسْمُ شَاةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا فَهِيَ مَعْدُودَةٌ وَمَأْخُوذَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَحَصَلُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَلَّدُوا عُمَرَ رضي الله عنه، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا, فَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ أَنْ تُعَدَّ الأَوْلاَدُ مَعَ الآُمَّهَاتِ إلاَّ إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا; وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ كَذَلِكَ.
وَحَصَلَ مَالِكٌ عَلَى قِيَاسٍ فَاسِدٍ مُتَنَاقِضٍ; لاَِنَّهُ قَاسَ فَائِدَةَ الْمَاشِيَةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْفَوَائِدِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ مِنْ عَدِّ أَوْلاَدِهَا مَعَهَا, ثُمَّ نَقَضَ قِيَاسَهُ فَرَأَى أَنْ لاَ تُضَمَّ فَائِدَةُ الْمَاشِيَةِ بِهِبَةٍ, أَوْ مِيرَاثٍ, أَوْ شِرَاءِ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْهَا إلاَّ إنْ كَانَ مَا عِنْدَهُ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ وَرَأَى أَنْ تُضَمَّ أَوْلاَدُهَا إلَيْهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا تَجِبُ فِي الزَّكَاةِ.
وَهَذِهِ تَقَاسِيمَ لاَ يُعْرَفُ أَحَدُ قَالَ بِهَا قَبْلَهُمْ, وَلاَ هُمْ اتَّبَعُوا عُمَرَ, وَلاَ طَرَدُوا الْقِيَاسَ, وَلاَ اتَّبَعُوا نَصَّ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ.
"تم الجزء الخامس من كتاب المحلى للإمام العلامة أبي محمد على المشهور بابن حزم ولله الحمد ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السادس مفتتحا "بزكاة البقر" فنسأل الله التوفيق لاتمامه أنه على ما يشاء قدير وبالاجابة جدير"

(5/279)


المجلد السادس
تابع كتاب الزكاة
زكاة البقر
الجواميس صنف من البقر يضم بعضها إلى بعض
...
بسم الله الرحمن الرحيم
زَكَاةُ الْبَقَرِ
673 - مَسْأَلَةٌ: الْجَوَامِيسُ صِنْفٌ مِنْ الْبَقَرِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِي أَقَلِّ مِنْ خَمْسِينَ مِنْ الْبَقَرِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا, أَوْ ذُكُورًا, وَإِنَاثًا, فَإِذَا تَمَّتْ خَمْسُونَ رَأْسًا مِنْ الْبَقَرِ وَأَتَمَّتْ فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا عَامًا قَمَرِيًّا مُتَّصِلاً كَمَا قَدَّمْنَا: فَفِيهَا بَقَرَةٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً مِنْ الْبَقَرِ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا بَقَرَتَانِ, وَهَكَذَا أَبَدًا, فِي كُلِّ خَمْسِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ, وَلاَ شَيْءَ زَائِدٌ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ;، وَلاَ يُعَدُّ فِيهَا مَا لَمْ يُتِمَّ حَوْلاً كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ; وَفِي خَمْسِ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ: وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ، حدثنا يَزِيدُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: فِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ الْبَقَرَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ الإِبِلِ, يَعْنِي فِي الزَّكَاةِ, قَالَ: وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا غَيْرُهُمْ فَقَالُوا: فِيهَا مَا فِي الإِبِلِ.
يَزِيدُ هَذَا هُوَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَوْ ابْنُ زُرَيْعٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ; وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:

(6/2)


فَرَائِضُ الْبَقَرِ مِثْلُ فَرَائِضِ الإِبِلِ, غَيْرَ الأَسْنَانِ فِيهَا, فَإِذَا كَانَتْ الْبَقَرُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بَقَرَتَانِ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَبَلَغَنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ" أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَخْفِيفًا لاَِهْلِ الْيَمَنِ, ثُمَّ كَانَ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُرْوَى.
حدثنا حمام، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ دَاوُد، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: اُسْتُعْمِلْت عَلَى صَدَقَاتِ عَكَّ, فَلَقِيت أَشْيَاخًا مِمَّنْ صَدَقَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ, فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: اجْعَلْهَا مِثْلَ صَدَقَةِ الإِبِلِ, وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَأَبِي قِلاَبَةَ وَآخَرُ قَالُوا: صَدَقَاتُ الْبَقَرِ كَنَحْوِ صَدَقَاتِ الإِبِلِ, فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ, وَفِي كُلِّ عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ, فَإِنْ زَادَتْ فَبَقَرَتَانِ مُسِنَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذْ زَادَتْ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدِ الْفَهْمِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَلْدَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ صَدَقَةَ الْبَقَرِ صَدَقَةُ الإِبِلِ, غَيْرَ أَنَّهُ لاَ أَسْنَانَ فِيهَا.
فَهَؤُلاَءِ كُتَّابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَجَمَاعَةٌ أَدَّوْا الصَّدَقَاتِ عَلَى عَهْدِ

(6/3)


رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَلْدَةَ, وَالزُّهْرِيُّ, وَأَبُو قِلاَبَةَ, وَغَيْرُهُمْ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ، حدثنا يَزِيدُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: إنَّ فِي كِتَابِ صَدَقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "أَنَّ الْبَقَرَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الإِبِلِ".
وَبِمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرُ قَالَ: أَعْطَانِي سِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ كِتَابًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى مَالِكِ بْنِ كُفْلاَنِسَ الْمُصْعَبِيِّينَ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالأَنْهَارُ الْعُشْرُ, وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّنَا نِصْفُ الْعُشْرِ، وَفِي الْبَقَرِ مِثْلُ الإِبِلِ".
وَبِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ هَذَا هُوَ آخِرُ الأَمْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ الأَمْرَ بِالتَّبِيعِ: نُسِخَ بِهَذَا.
وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ الْخَبَرِ مَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا: فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ بَقَرٍ إلاَّ مَا خَصَّهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ.
وَقَالُوا: مَنْ عَمِلَ مِثْلَ قَوْلِنَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ; وَمَنْ خَالَفَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ مَا وَجَبَ بِيَقِينٍ لَمْ يَسْقُطْ إلاَّ بِمِثْلِهِ.
وَقَالُوا: قَدْ وَافَقْنَا أَكْثَرَ خُصُومِنَا عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ تُجْزِئُ، عَنْ سَبْعَةٍ كَالْبَدَنَةِ; وَأَنَّهَا تُعَوَّضُ مِنْ الْبَدَنَةِ, وَأَنَّهَا لاَ يُجْزِئُ فِي الآُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ مِنْ هَذِهِ إلاَّ مَا يُجْزِئُ مِنْ تِلْكَ, وَأَنَّهَا تُشْعَرُ إذَا كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ كَالْبُدْنِ; فَوَجَبَ قِيَاسُ صَدَقَتِهَا عَلَى صَدَقَتِهَا.
وَقَالُوا: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ نِصَابًا مَبْدَؤُهُ ثَلاَثُونَ; لَكِنْ إمَّا خَمْسَةٌ كَالإِبِلِ، وَالأَوَاقِي, وَالأَوْسَاقِ وَأَمَّا أَرْبَعُونَ كَالْغَنَمِ, فَكَانَ حَمْلُ الْبَقَرِ عَلَى الأَكْثَرِ وَهُوَ الْخَمْسَةُ أَوْلَى.

(6/4)


وَقَالُوا: إنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ فَنَعَمْ, نَحْنُ نَقُولُ: بِهَذَا, أَوْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَمَّا دُونَ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ.
قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَحُكْمُهُ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَلْدَةَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَالزُّهْرِيِّ, وَهَؤُلاَءِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, فَيَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ اتِّبَاعَهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ, وَهُوَ الَّذِي لَهُ سَنَتَانِ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ; لَهَا أَرْبَعُ سِنِين; ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَتَانِ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سَبْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ, ثُمَّ هَكَذَا أَبَدًا, لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا زَائِدَةً, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِي كُلِّ ثَلاَثِينَ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
وَهَذَا قَوْلٌ صَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِنْ طَرِيقِ, أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ قَوْمٍ صَدَّقُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ, وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ, وطَاوُوس, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَهْلِ الشَّامِ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَرِوَايَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ, وَأَبِي وَائِلٍ كِلاَهُمَا، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا, وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً وقال بعضهم: ثَنِيَّةٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنْ مُعَاذٍ مِثْلُهُ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الأَوْقَاصِ, مَا بَيْنَ الثَّلاَثِينَ إلَى الأَرْبَعِينَ, وَمَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ إلَى الْخَمْسِينَ قَالَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ".

(6/5)


وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ جَذَعٌ قَدْ اسْتَوَى قَرْنَاهُ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَرَائِضُ الْبَقَرِ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا عِجْلٌ رَائِعٌ جَذَعٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ سَبْعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَإِنَّ فِيهَا بَقَرَةً وَعِجْلاً جَذَعًا, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ, ثُمَّ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ".
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْجَزَرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ, وَبَعَثَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ", وَفِيهِ: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ".
وَبِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيِّ، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّقِّيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَزَّارُ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ شَبَّوَيْهِ الْمَرْوَزِيِّ، حدثنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حدثنا بَقِيَّةُ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً جَذَعًا أَوْ جَذَعَةً, وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةً مُسِنَّةً, قَالُوا: فَالأَوْقَاصُ قَالَ: مَا أَمَرَنِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ; فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ, فَقَالَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ, فَقَدْ تَقَصَّيْنَاهُ لَهُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا نَعْلَمُ تَقَصَّوْهُ لاَِنْفُسِهِمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلاَثِينَ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ الْبَقَرُ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ

(6/6)


فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ وَرُبْعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سَبْعِينَ; فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ.
وَرُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ1 وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ فَذَكَرَهُ كَمَا أَوْرَدْنَا; وَهِيَ رِوَايَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ أَيْضًا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَوِّهَ هَؤُلاَءِ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ" يَعْنِي مِنْ الْبَقَرِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا بَقَرَةٌ وَجُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ بَقَرَةٍ; وَهَكَذَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ تَزِيدُ فَفِيهَا جُزْءٌ آخَرُ زَائِدٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ بَقَرَةٍ، هَكَذَا إلَى السِّتِّينَ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا إلاَّ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ زَائِدَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت حَمَّادًا، هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقُلْت إنْ كَانَتْ خَمْسِينَ بَقَرَةً فَقَالَ: بِحِسَابِ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَجَّاجِ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: يُحَاسَبُ صَاحِبُ الْبَقَرِ بِمَا فَوْقَ الْفَرِيضَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ الْعُكْلِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مَكْحُولٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي صَدَقَةِ الْبَقَرِ: مَا زَادَ فَبِالْحِسَابِ.
قال أبو محمد: هَذَا عُمُومُ إبْرَاهِيمَ, وَحَمَّادٍ, وَمَكْحُولٍ, وَظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِينَ إلَى الأَرْبَعِينَ وَعَلَى الأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ زَائِدَةٌ جُزْءٌ مِنْ بَقَرَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخٍ كَانُوا قَدْ صَدَّقُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ, مُخَالِفِينَ لِمَنْ جَعَلَ فِي أَقَلَّ مِنْ الأَرْبَعِينَ شَيْئًا.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْخَمْسِينَ، وَلاَ مَا فَوْقَهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ صَدَقَةَ الْبَقَرِ إنَّمَا هِيَ فِي كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ فَقَطْ هَكَذَا أَبَدًا.
كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "حماد بن أبي سلمة" وهو خطأ.

(6/7)


قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ عُمَّالُ ابْنِ الزُّبَيْرِ, وَابْنِ عَوْفٍ وَعُمَّالِهِ, يَأْخُذُونَ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً بَقَرَةً، وَمِنْ كُلِّ مِائَةٍ بَقَرَتَيْنِ, فَإِذَا كَثُرَتْ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا حَضَرْنَا ذِكْرُهُ مِمَّا رُوِّينَاهُ مِنْ اخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ، وَكُلُّ أَثَرٍ رُوِّينَاهُ فِيهَا وَوَجَبَ النَّظَرُ لِلْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَدِينُ بِهِ رَبَّهُ تَعَالَى فِي دِينِهِ.
فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ فَرْضٌ وَاجِبٌ فِي الْبَقَرِ.
كَمَا حَدَّثَنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنِ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا الأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ" فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ، وَلاَ بَقَرٍ، وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا, وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا, كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ".
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قَطُّ, وَأُقْعِدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسِيرُ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا، وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَأُقْعِدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِقَوَائِمِهَا", وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ فَرْضًا طَلَبُ ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا, حَتَّى لاَ يَتَعَدَّى قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه}.
فَنَظَرْنَا الْقَوْلَ الأَوَّلَ فَوَجَدْنَا الآثَارَ الْوَارِدَةَ فِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْقَطِعَةٌ وَالْحُجَّةُ لاَ تَجِبُ إلاَّ بِمُتَّصِلٍ, إلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا: بِهَا, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا فِي أُصُولِهِمْ وَتَحَكَّمُوا بِالْبَاطِلِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: إنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ بِهَا نَسْخُ إيجَابِ التَّبِيعِ, وَالْمُسِنَّةِ: فِي الثَّلاَثِينَ وَالأَرْبَعِينَ

(6/8)


فَلَوْ قُبِلَ مُرْسَلُ أَحَدٍ لَكَانَ الزُّهْرِيُّ أَحَقَّ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِالْحَدِيثِ، وَلاَِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَلَمْ يَحْكِ الْقَوْلَ فِي الثَّلاَثِينَ بِالتَّبِيعِ، وَفِي الأَرْبَعِينَ بِالْمُسِنَّةِ إلاَّ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ، لاَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَوَافَقَ الزُّهْرِيَّ عَلَى ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ الْقَوْلَ بِهَذَا أَوْ إفْسَادَ أُصُولِهِمْ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَوْ صَحَّ وَأُسْنِدَ مَا خَالَفْنَاهُ أَصْلاً.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ مَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، وَلاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا وَقَوْلَهُمْ: إنَّ هَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ بَقَرٍ: فَإِنَّ هَذَا لاَزِمٌ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, الْمُحْتَجِّينَ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآيَةُ وَالْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ وَسَائِرِ مَا احْتَجُّوا فِيهِ بِمِثْلِ هَذَا, لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ أَصْلاً.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عَلَيْنَا بِهَذَا، لاَِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لاَ يَحِلُّ عِنْدَنَا مُفَارِقَةُ الْعُمُومِ إلاَّ لِنَصٍّ آخَرَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ شَرْعُ شَرِيعَةٍ إلاَّ بِنَصٍّ صَحِيحٍ, وَنَحْنُ نُقِرُّ وَنَشْهَدُ أَنَّ فِي الْبَقَرِ زَكَاةً مَفْرُوضَةً يُعَذِّبُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ, مَا لَمْ يَغْفِرْ لَهُ بِرُجُوحِ حَسَنَاتِهِ أَوْ مُسَاوَاتِهَا لِسَيِّئَاتِهِ, إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانُ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ مِنْهَا, وَلاَ بَيَانَ الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهَا, وَلاَ مَتَى تُؤَدَّى; وَلَيْسَ الْبَيَانُ لِلدِّيَانَةِ مَوْكُولاً إلَى الآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ، بَلْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَالَ لَهُ رَبُّهُ وَبَاعِثُهُ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}.
وَلَمْ يَصِحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَوْجَبُوهُ فِي الْخَمْسِ فَصَاعِدًا مِنْ الْبَقَرِ، وَقَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْ الْبَقَرِ زَكَاةٌ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ، عَنْ إيجَابِ فَرْضِ ذَلِكَ فِي عَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ بِغَيْرِ نَصٍّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْعُمُومِ هَاهُنَا, وَلَوْ كَانَ عُمُومًا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ لَمَا خَالَفْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ مَنْ زَكَّى الْبَقَرَ كَمَا قَالُوا فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يُزَكِّهَا كَمَا قَالُوا فَلَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ، وَأَنَّ مَا صَحَّ بِيَقِينٍ وُجُوبُهُ لَمْ يَسْقُطْ إلاَّ بِيَقِينٍ آخَرَ: فَهَذَا لاَزِمٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ تَدَلَّكَ فِي الْغُسْلِ فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ; وَالْغُسْلُ وَاجِبٌ بِيَقِينٍ، فَلاَ يَسْقُطُ إلاَّ بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَلِمَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ نَفْسِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا.

(6/9)


وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّ هَذَا لاَ يَلْزَمُ عِنْدَنَا; لإِنَّ الْفَرَائِضَ لاَ تَجِبُ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ فِي الاِسْتِدْلاَلِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ إيجَابَ الْفَرَائِضِ وَشَرْعِ الشَّرَائِعِ بِاخْتِلاَفٍ; لاَ نَصَّ فِيهِ, وَهَذَا بَاطِلٌ; وَلَمْ يَتَّفِقْ قَطُّ عَلَى وُجُوبِ إيعَابِ جَمِيعِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ، وَلاَ عَلَى التَّدَلُّكِ فِي الْغُسْلِ; ، وَلاَ عَلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي خَمْسِ مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا إلَى الْخَمْسِينَ.
وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ اسْتِدْلاَلُهُمْ هَذَا صَحِيحًا لَوْ وَافَقْنَاهُمْ عَلَى وُجُوبِ كُلِّ ذَلِكَ ثُمَّ أَسْقَطْنَا وُجُوبَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ، وَنَحْنُ لَنْ نُوَافِقَهُمْ قَطُّ عَلَى وُجُوبِ غُسْلٍ فِيهِ تَدَلُّكٌ، وَلاَ عَلَى إيجَابِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ, وَلاَ عَلَى إيجَابِ زَكَاةٍ فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا، وَإِنَّمَا وَافَقْنَاهُمْ عَلَى إيجَابِ الْغُسْلِ دُون تَدَلُّكٍ, وَعَلَى إيجَابِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ لاَ كُلِّهِ; وَعَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عَدَدٍ مَا مِنْ الْبَقَرِ لاَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْهَا، فَزَادُوا هُمْ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ إيجَابَ التَّدَلُّكِ, وَمَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ, وَالزَّكَاةَ فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا; وَهَذَا شَرْعٌ بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، فَهَذَا يَلْزَمُ ضَبْطُهُ، لِئَلاَّ يُمَوِّهَ فِيهِ أَهْلُ التَّمْوِيهِ بِالْبَاطِلِ, فَيَدَّعُوا إجْمَاعًا حَيْثُ لاَ إجْمَاعَ, وَيُشَرِّعُوا الشَّرَائِعَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ, وَيُخَالِفُوا الإِجْمَاعَ الْمُتَيَقَّنَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقِيَاسِ الْبَقَرِ عَلَى الإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ فَلاَزِمٌ لاَِصْحَابِ الْقِيَاسِ لُزُومًا لاَ انْفِكَاكَ لَهُ، فَلَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْ الْقِيَاسِ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ صَحِيحًا1 وَمَا نَعْلَمُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ فَرْقًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ يَقِيسُ مَا يَسْتَحِلُّ بِهِ فَرْجَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي النِّكَاحِ مِنْ الصَّدَاقِ عَلَى مَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ, وَمَنْ يَقِيسُ حَدَّ الشَّارِبِ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ, وَمَنْ يَقِيسُ السَّقَمُونْيَا عَلَى الْقَمْحِ وَالتَّمْرِ, وَيَقِيسُ الْحَدِيدَ, وَالرَّصَاصَ وَالصُّفْرَ عَلَى الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ; وَيَقِيسُ الْجِصَّ عَلَى الْبُرِّ وَالتَّمْرِ, فِي الرِّبَا, وَيَقِيسُ الْجَوْزَ عَلَى الْقَمْحِ فِي الرِّبَا; وَسَائِرِ تِلْكَ الْمَقَايِيسِ السَّخِيفَةِ وَتِلْكَ الْعِلَلِ الْمُفْتَرَاةِ الْغَثَّةِ: أَنْ يَقِيسَ الْبَقَرَ عَلَى الإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ، وَإِلاَّ فَقَدْ تَحَكَّمُوا بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا نَحْنُ فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ مَا يَكُونُ وَقْصُهُ ثَلاَثِينَ, فَإِنَّهُ عِنْدَنَا تَخْلِيطٌ وَهَوَسٌ لَكِنَّهُ لاَزِمٌ أَصَحُّ لُزُومٍ لِمَنْ قَالَ مُحْتَجًّا لِبَاطِلٍ قَوْلَهُ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ مَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ وَالسِّتِّينَ مِنْ الْبَقَرِ: إنَّنَا لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ مَا يَكُونُ وَقْصُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ, وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَحَكِّمُونَ.
ـــــــ
1 هنا بحاشية النسخة رقم "14" بخط غير جيد – وهو غير خط كاتبها – ما نصه "هذه وقاحة! هيهات الابل من البقر.

(6/10)


فَسَقَطَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَنَّا, وَظَهَرَ لُزُومُهُ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ, لاَ سِيَّمَا لِمَنْ قَالَ: بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ, الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ فِيهِ بِشَيْءٍ أَصْلاً.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِي الثَّلاَثِينَ تَبِيعًا, وَفِي الأَرْبَعِينَ مُسِنَّةً, وَلَمْ يُوجِبْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَلاَ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ شَيْئًا: فَوَجَدْنَا الآثَارَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، عَنْ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ مُرْسَلَةً كُلَّهَا, إلاَّ حَدِيثَ بَقِيَّةَ; لإِنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا; وَبَقِيَّةَ ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ بِنَقْلِهِ, أَسْقَطَهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ, وَالْحُجَّةُ لاَ تَجِبُ إلاَّ بِالْمُسْنَدِ مِنْ نَقْلِ الثِّقَاتِ.
فإن قيل: إنَّ مَسْرُوقًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا فَقَدْ كَانَ بِالْيَمَنِ رَجُلاً أَيَّامَ كَوْنِ مُعَاذٍ هُنَالِكَ; وَشَاهَدَ أَحْكَامَهُ, فَهَذَا عِنْدَهُ، عَنْ مُعَاذٍ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ.
قلنا: لَوْ أَنَّ مَسْرُوقًا ذَكَرَ أَنَّ الْكَافَّةَ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، عَنْ مُعَاذٍ لَقَامَتْ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ; فَمَسْرُوقٌ هُوَ الثِّقَةُ الإِمَامُ غَيْرُ الْمُتَّهَمِ: لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ قَطُّ هَذَا.وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُقَوَّلَ مَسْرُوقٌ رحمه الله مَا لَمْ يَقُلْ فَيُكْذَبُ عَلَيْهِ; وَلَكِنْ لَمَّا أَمْكَنَ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ مَسْرُوقٍ هَذَا الْخَبَرُ، عَنْ تَوَاتُرٍ, أَوْ عَنْ ثِقَةٍ، أَوْ عَمَّنْ لاَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ: لَمْ يَجُزْ الْقَطْعُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ, وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَوْ كَانَ عِنْدَ مَسْرُوقٍ، عَنْ ثِقَةٍ لَمَا كَتَمَهُ, وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا طَمَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَكَفِّلُ بِحِفْظِ الذِّكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ عليه السلام الْمُتِمِّ لِدِينِهِ: لَنَا هَذَا الطَّمْسُ حَتَّى لاَ يَأْتِيَ إلاَّ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَيْضًا: فَإِنْ زَمُّوا أَيْدِيَهُمْ وَقَالُوا: هُوَ حُجَّةٌ, وَالْمُرْسَلُ هَاهُنَا وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ.
قلنا لَهُمْ: فَلاَ عَلَيْكُمْ خُذُوا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ بِعَيْنِهَا مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِشْوَرُ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيِّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ هُوَ أَبُو وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(6/11)


مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيِّ".
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَسُورُ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ، حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُعَاذٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ: "أَنَّ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ غِيلاً الْعُشْرُ, وَفِيمَا سُقِيَ بِالْغَرْبِ نِصْفُ الْعُشْرِ, وَفِي الْحَالِمِ وَالْحَالِمَةِ دِينَارٌ أَوْ عِدْلُهُ مِنْ الْمُعَافِرِ".
وَبِهِ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: "أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ فَإِنَّهُ لاَ يُفْتَنُ عَنْهَا; وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ, عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِدْلُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ, فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى رُسُلِي فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ".
فَهَذِهِ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ, وَهُوَ حَدِيثُ زَكَاةِ الْبَقَرِ بِعَيْنِهِ, وَمُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ, وَآخَرُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، فَإِنْ كَانَتْ مُرْسَلاَتُهُمْ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ صَحِيحَةٌ وَاجِبًا أَخْذُهَا فَمُرْسَلاَتُهُمْ هَذِهِ صَحِيحَةٌ وَاجِبٌ أَخْذُهَا, وَإِنْ كَانَتْ مُرْسَلاَتُهُمْ هَذِهِ لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فَمُرْسَلاَتُهُمْ تِلْكَ لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ.
فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْمُرْسَلاَتِ، وَلاَ تَقُولُونَ: بِتِلْكَ, فَكَيْف هَذَا.
قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: مَا قلنا بِهَذِهِ، وَلاَ بِتِلْكَ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ نَقُولَ بِمُرْسَلٍ لَكِنَّا أَوْجَبْنَا الْجِزْيَةَ عَلَى كُلِّ كِتَابِيٍّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلَمْ نَخُصَّ مِنْهُ امْرَأَةً، وَلاَ عَبْدًا, وَأَمَّا بِهَذِهِ الآثَارِ فَلاَ.
قال أبو محمد: لاَ سِيَّمَا الْحَنَفِيِّينَ فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا مُرْسَلاَتِ مُعَاذٍ تِلْكَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ، عَنِ الأَوْقَاصِ وَالْعَسَلِ: كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُوس: "أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ وَالْعَسَلِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَقَالَ: كِلاَهُمَا لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ", فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ مُعَاذٍ حُجَّةً إذَا وَافَقَ هَوَى الْحَنَفِيِّينَ وَرَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ يَكُونُ حُجَّةً

(6/12)


إذَا لَمْ يُوَافِقْهُمَا, مَا نَدْرِي أَيُّ دِينٍ يَبْقَى مَعَ هَذَا الْعَمَلِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ وَالضَّلاَلِ وَمِنْ أَنْ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِصَحِيفَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قلنا: هِيَ مُنْقَطِعَةٌ أَيْضًا لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ, وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْجَزَرِيُّ الَّذِي رَوَاهَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِهِ وَأَنَّهُ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ. فَإِنْ أَبَيْتُمْ وَلَجَجْتُمْ وَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ شَدَدْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ فَدُونَكُمُوهَا.
كَمَا حَدَّثْنَهَا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حدثنا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْجَزَرِيِّ، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ, وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ" فَذَكَرَ الْكِتَابَ. وَفِيهِ: "وَفِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ, جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ, وَفِيهِ أَيْضًا وَفِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقِيَّ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ".
حدثنا حمام قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَابُلِيِّ بِبَغْدَادَ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ, وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ جَدِّهِمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ أَمَّرَهُ عَلَى الْيَمَنِ وَفِيهِ الزَّكَاةُ: "لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ الذَّهَبَ قِيمَةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِي قِيمَةِ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا فَفِيهَا دِينَارٌ". قَالَ أَبُو أُوَيْسٍ: وَهَذَا، عَنْ ابْنَيْ حَزْمٍ أَيْضًا: "فَرَائِضُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلاَثِينَ صَدَقَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ الثَّلاَثِينَ فَفِيهَا فَحْلٌ جَذَعٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتِّينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ"

(6/13)


قال أبو محمد: أَبُو أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ وَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ مَعَ ذَلِكَ وَوَاللَّهِ لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مَا تَرَدَّدْنَا فِي الأَخْذِ بِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَرَى الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ, وَالْحَنَفِيِّينَ إلاَّ قَدْ انْحَلَّتْ عَزَائِمُهُمْ فِي الأَخْذِ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورِ وَبِصَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ, وَلاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ; أَوْ الأَخْذِ بِأَنْ لاَ صَدَقَةَ فِي ذَهَبٍ لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا إلاَّ بِالْقِيمَةِ بِالْفِضَّةِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِمْ, وَأَنْ يَأْخُذَ الْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ بِوُجُوبِ الأَوْقَاصِ فِي الدَّرَاهِمِ وَبِإِيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, أَوْ التَّحَكُّمِ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ فَيَأْخُذُوا مَا اشْتَهَوْا وَيَتْرُكُوا مَا اشْتَهَوْا; وَهَذِهِ وَاَللَّهِ أَخْزَى فِي الْعَاجِلَةِ وَالآجِلَةِ وَأَلْزَمُ وَأَنْدَمُ!!
وَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّاوِيَ إذَا تَرَكَ مَا رَوَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ رِوَايَتِهِ, وَالزُّهْرِيُّ هُوَ رَوَى صَحِيفَةَ ابْنِ حَزْمٍ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ وَتَرَكَهَا فَهَلاَّ تَرَكُوهَا وَقَالُوا: لَمْ يَتْرُكْهَا لاَ لِفَضْلِ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَكَانَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ الأَخْبَارِ بِأَنَّ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ كَزَكَاةِ الإِبِلِ مِثْلُهَا فِي الإِسْنَادِ وَوَارِدَةٌ بِحُكْمٍ زَائِدٍ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ, وَكَانَ الآخِذُ بِتِلْكَ آخِذًا بِهَذِهِ, وَكَانَ الآخِذُ بِهَذِهِ, دُونَ تِلْكَ عَاصِيًا لِتِلْكَ.
فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ طَرِيقِ الآثَارِ جُمْلَةً.
فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِعَلِيٍّ, وَمُعَاذٍ, وَأَبِي سَعِيدٍ، رضي الله عنهم. قلنا لَهُمْ: الْخَبَرُ، عَنْ مُعَاذٍ مُنْقَطِعٌ, وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ لَمْ يَرْوِهِ إلاَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مُحَمَّدٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ و أَمَّا، عَنْ عَلِيٍّ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، سِوَاهُ وَقَدْ رُوِّينَا قَبْلُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ صَاحِبٍ إذَا خَالَفَهُ صَاحِبٌ آخَرُ.
ثُمَّ إنْ لَجَجْتُمْ فِي التَّعَلُّقِ بِعَلِيٍّ هَاهُنَا فَاسْمَعُوا قَوْلَ عَلِيٍّ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ نَفْسِهَا.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ

(6/14)


أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ, وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ أَوْ قَالَ: الْجَمَلُ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا جَذَعَةٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ حَوْلِيِّ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ.
قال أبو محمد: مَا نَرَى الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ إلاَّ قَدْ بَرُدَ نَشَاطُهُمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ, وَلاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْ الأَخْذِ بِكُلِّ مَا رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ, مِمَّا خَالَفُوهُ وَأَخَذَ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنْ السَّلَفِ, أَوْ تَرْكِ الاِحْتِجَاجَ بِمَا لَمْ يَصِحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ التَّلاَعُبِ بِالسُّنَنِ وَالْهَزْلِ فِي الدِّينِ أَنْ يَأْخُذُوا مَا أَحَبُّوا وَيَتْرُكُوا مَا أَحَبُّوا لاَ سِيَّمَا وَبَعْضُهُمْ هَوَّلَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا بِأَنَّهُ مُسْنَدٌ فَلْيَهِنْهُمْ خِلاَفُهُ إنْ كَانَ مُسْنَدًا, وَلَوْ كَانَ مُسْنَدًا مَا اسْتَحْلَلْنَا خِلاَفَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْ قَالَ بِالتَّبِيعِ وَالْمُسِنَّةِ فَقَطْ فِي الْبَقَرِ حُجَّةٌ أَصْلاً, وَلاَ قِيَاسَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ جُمْلَةً بِلاَ شَكٍّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وأُمًّا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لاَ قُرْآنٌ يُعَضِّدُهُ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ تَنْصُرُهُ, وَلاَ رِوَايَةٌ فَاسِدَةٌ تُؤَيِّدُهُ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ يَشُدُّهُ, وَلاَ قِيَاسٌ يُمَوِّهُهُ, وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ يُسَدِّدُهُ.
إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَقْصًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ.
فَقِيلَ لَهُمْ: وَلاَ وَجَدْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ زَكَاةِ الْمَوَاشِي جُزْءًا مِنْ رَأْسٍ وَاحِدٍ.
فَإِنْ قَالُوا: أَوْجَبَهُ الدَّلِيلُ.

(6/15)


قِيلَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ مَا أَوْجَبَهُ دَلِيلٌ قَطُّ, وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَأْيَ النَّخَعِيِّ وَحْدَهُ دَلِيلاً فِي دِينِهِ: وَقَدْ وَجَدْنَا الأَوْقَاصَ تَخْتَلِفُ, فَمَرَّةً هُوَ فِي الإِبِلِ أَرْبَعٌ, وَمَرَّةً عَشْرَةٌ, وَمَرَّةً تِسْعَةٌ, وَمَرَّةً أَرْبَعَةَ عَشَرَ, وَمَرَّةً أَحَدَ عَشَرَ, وَمَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ, وَمَرَّةً هُوَ فِي الْغَنَمِ ثَمَانُونَ, وَمَرَّةً تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ, وَمَرَّةً مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ, وَمَرَّةً تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَأَيُّ نَكِرَةٍ فِي أَنْ تَكُونَ تِسْعَةَ عَشَرَ إذَا صَحَّ بِذَلِكَ دَلِيلٌ لَوْلاَ الْهَوَى وَالْجَهْلُ!
فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ عَمَلِ عُمَّالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ, وَعَمَلِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، وَ، هُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, وَمِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ جِدًّا بِالْمَدِينَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا لاَ يَصِحُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا مِنْ طَرِيقِ إسْنَادِ الآحَادِ، وَلاَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ شَيْءٌ كَمَا قَدَّمْنَا, وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يُعَارِضُهُ غَيْرُهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ تُؤْخَذَ شَرِيعَةٌ إلاَّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا مِنْ الْقُرْآنِ, وَأَمَّا مِنْ نَقْلٍ ثَابِتٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ الآحَادِ وَالتَّوَاتُرِ بَيَانُ زَكَاةِ الْبَقَرِ, وَوَجَدْنَا الإِجْمَاعَ الْمُتَيَقَّنَ الْمَقْطُوعَ بِهِ, الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَالَ بِهِ, وَحَكَمَ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمِنْ دُونِهِمْ قَدْ صَحَّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً: بَقَرَةٌ; فَكَانَ هَذَا حَقًّا مَقْطُوعًا بِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ, وَكَانَ مَا دُونَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا فِيهِ, وَلاَ نَصَّ فِي إيجَابِهِ; فَلَمْ يَجُزْ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلَمْ يَحِلَّ, أَخْذُ مَالِ مُسْلِمٍ, وَلاَ إيجَابُ شَرِيعَةٍ بِزَكَاةٍ مَفْرُوضَةٍ بِغَيْرِ يَقِينٍ, مِنْ نَصٍّ صَحِيحٍ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَلاَ يَغْتَرَّنَّ مُغْتَرٌّ بِدَعْوَاهُمْ: أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِمْ كَانَ مَشْهُورًا فَهَذَا بَاطِلٌ, وَمَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ إلاَّ خَامِلاً فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَلاَ يُؤْخَذُ إلاَّ عَنْ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ, بِاخْتِلاَفٍ مِنْهُمْ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ اسْتَدْرَكْنَا فَوَجَدْنَا حَدِيثَ مَسْرُوقٍ إنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ فِعْلَ مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ; وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ قَدْ أَدْرَكَ مُعَاذًا وَشَهِدَ حُكْمَهُ وَعَمَلَهُ الْمَشْهُورَ الْمُنْتَشِرَ, فَصَارَ نَقْلُهُ لِذَلِكَ, وَلاَِنَّهُ، عَنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَقْلاً، عَنِ الْكَافَّةِ، عَنْ مُعَاذٍ بِلاَ شَكٍّ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.

(6/16)


زكاة الإبل
البخت و الأعرابية و النجب و المهارى و غيرها من أصناف الإبل كلها إبل يضم بعضها إلى بعض
...
بَسْمَ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
زَكَاةُ الإِبِلِ
674 - مَسْأَلَةٌ: الْبُخْتُ, وَالأَعْرَابِيَّةُ, وَالنُّجُبُ, وَالْمَهَارِيُّ وَغَيْرُهَا مِنْ أَصْنَافِ الإِبِلِ: كُلُّهَا إبِلٌ, يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ,
وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَلاَ زَكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الإِبِلِ, ذُكُورٍ أَوْ إنَاثٍ. أَوْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ, فَإِذَا أَتَمَّتْ كَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ حَوْلاً عَرَبِيًّا مُتَّصِلاً كَمَا قَدَّمْنَا فَالْوَاجِبُ فِي زَكَاتِهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ ضَانِيَّةٌ أَوْ مَاعِزَةٌ, وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ, إلَى أَنْ تُتِمَّ عَشَرَةً كَمَا قَدَّمْنَا, فَإِذَا بَلَغَتْهَا وَأَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ حَوْلاً كَمَا قَدَّمْنَا فَفِيهَا شَاتَانِ كَمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً عَرَبِيًّا فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ عِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ, حَوْلاً كَمَا ذُكِرَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ إلَى أَنْ تُتِمَّ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً قَمَرِيًّا بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَابْنُ لَبُوَنٍ ذَكَرٌ مِنْ الإِبِلِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ. فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً قَمَرِيًّا فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ سَنَةً قَمَرِيَّةً فَفِيهَا حِقَّةٌ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ. ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ فَإِذَا أَتَمَّتْ إحْدَى وَسِتِّينَ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ سَنَةً قَمَرِيَّةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ سِتَّةً وَسَبْعِينَ فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ, ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا حِقَّتَانِ. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ عَلَيْهَا وَلَوْ بَعْضَ نَاقَةٍ أَوْ جَمَلٍ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ, ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تُتِمَّ

(6/17)


مِائَةً وَثَلاَثِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا أَوْ زَادَتْ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي كُلِّ ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ, وَفِي أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ ثَلاَثُ حِقَاقٍ, وَفِي سِتِّينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ, وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِيمَا زَادَ.
فَإِنْ وَجَبَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ جَذَعَةٌ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ حِقَّةٌ, أَوْ لَزِمَتْهُ حِقَّةٌ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ, أَوْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يَقْبَلُ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ مَعَهَا غَرَامَةُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ صَاحِبُ الْمَالِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُصَدِّقِ قَبُولُهُ، وَلاَ بُدَّ.
وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، وَلاَ كَانَ عِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ, أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ: فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَرُدُّ الْمُصَدِّقُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, أَيَّ ذَلِكَ أَعْطَاهُ الْمُصَدِّقُ فَوَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ قَبُولُهُ، وَلاَ بُدَّ.
وَهَكَذَا لَوْ وَجَبَتْ اثْنَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الأَسْنَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَلَمْ يَجِدْهَا أَوْ وَجَدَ بَعْضَهَا وَلَمْ يَجِدْ تَمَامَهَا, فَإِنَّهُ يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مِنْ الأَسْنَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ الْمُصَدِّقُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا, وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى مِنْ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَعْطَى مَعَهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
فَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ ابْنَ لَبُونٍ، وَلاَ بِنْتَ لَبُونٍ، لَكِنْ وَجَدَ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً، أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، وَلاَ كَانَ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلاَ حِقَّةٌ, وَكَانَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ, وَكُلِّفَ إحْضَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ, أَوْ إحْضَارَ السِّنِّ الَّتِي تَلِيهَا، وَلاَ بُدَّ مَعَ رَدِّ الدَّرَاهِمِ أَوْ الْغَنَمِ.
وَإِنْ لَزِمَتْهُ جَذَعَةٌ فَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ حِقَّةً, وَوَجَدَ بِنْتَ لَبُونٍ أَوْ بِنْتَ مَخَاضٍ: لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ أَصْلاً إلاَّ الْجَذَعَةُ أَوْ حِقَّةٌ مَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا.
وَإِنْ لَزِمَتْهُ حِقَّةٌ وَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ جَذَعَةً، وَلاَ ابْنَةَ لَبُونٍ, وَوَجَدَ بِنْتَ مَخَاضٍ: لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ, وَأُجْبِرَ عَلَى إحْضَارِ الْحِقَّةِ أَوْ بِنْتِ لَبُونٍ وَيَرُدُّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا
وَلاَ تُجْزِئُ قِيمَةٌ، وَلاَ بَدَلٌ أَصْلاً, وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا أَصْلاً.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا

(6/18)


الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حدثنا أَبِي، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ: "بسم الله الرحمن الرحيم: هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا, وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ. فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ; فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلاَّ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ وَمَنْ1 بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا, وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلاَّ ابْنَةُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا, وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ ابْنَةَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ ابْنَةَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ ابْنَةَ مَخَاضٍ لَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ; فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ ابْنِهِ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَهَذَا حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ أَيْضًا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ حَيْرُونٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، حدثنا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ, وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: حدثنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ:
ـــــــ
1 في النسخة رقك "14" "من" بدون الواو.

(6/19)


حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثُمَّ اتَّفَقَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ: "إنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ, الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم" ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ نَصًّا, لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا الْمُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ: "إنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ, الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ", ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ أَنَا أَبُو قِلاَبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، حدثنا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: "بسم الله الرحمن الرحيم هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم", ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ نَصُّ مَا قلنا حُكْمًا حُكْمًا وَحَرْفًا حَرْفًا. وَلاَ يَصِحُّ فِي الصَّدَقَاتِ فِي الْمَاشِيَةِ غَيْرُهُ, إلاَّ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فَقَطْ, وَلَيْسَ بِتَمَامِ هَذَا, وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي نِهَايَةِ الصِّحَّةِ, وَعَمِلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ, لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ أَصْلاً, وَبِأَقَلَّ مِنْ هَذَا يَدَّعِي مُخَالِفُونَا الإِجْمَاعَ, وَيُشَنِّعُونَ خِلاَفَهُ, رَوَاهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَسٌ وَهُوَ صَاحِبٌ وَرَوَاهُ،عَنْ أَنَسٍ ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ ثِقَةٌ سَمِعَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ، عَنْ ثُمَامَةَ حَمَّاد بْن سَلَمَة, وَعَبْد اللَّه بْن الْمُثَنَّى, وَكِلاَهُمَا ثِقَةٌ وَإِمَامٌ, وَرَوَاهُ، عَنِ ابْنِ الْمُثَنَّى ابْنُهُ الْقَاضِي مُحَمَّدٌ, وَهُوَ مَشْهُورٌ ثِقَةٌ وَلِي قَضَاءَ الْبَصْرَةِ, وَرَوَاهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ جَامِعُ الصَّحِيحِ, وَأَبُو قِلاَبَةَ, وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي, وَالنَّاسُ, وَرَوَاهُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ

(6/20)


يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَشُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ, وَمُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ, وَأَبُو كَامِلٍ الْمُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ, وَغَيْرُهُمْ, وَكُلُّ هَؤُلاَءِ إمَامٌ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَرِضُ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِتَضْعِيفِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ لِحَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ هَذَا وَلَيْسَ فِي كُلِّ مَنْ رَوَاهُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَحَدٌ إلاَّ وَهُوَ أَجَلُّ وَأَوْثَقُ مِنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ كَلاَمُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ إذَا ضَعَّفُوا غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ وَأَمَّا دَعْوَى ابْنِ مَعِينٍ أَوْ غَيْرِهِ ضَعْفَ حَدِيثٍ رَوَاهُ الثِّقَاتُ, أَوْ ادَّعَوْا فِيهِ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهِ تَدْلِيسًا فَكَلاَمُهُمْ مَطْرُوحٌ مَرْدُودٌ; لاَِنَّهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وَلاَ مَغْمَزَ لاَِحَدٍ فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ; فَمَنْ عَانَدَهُ فَقَدْ عَانَدَ الْحَقَّ, وَأَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى, وَأَمْرَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لاَ سِيَّمَا مَنْ يُحْتَجُّ فِي دِينِهِ بِالْمُرْسَلاَتِ, وَبِرِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ الْكَذَّابِ الْمُتَّهَمِ فِي دِينِهِ "لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا" وَرِوَايَةِ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ الَّذِي لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي إسْقَاطِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ بَعْدَ طُهْرِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَرِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حَدِيثٍ فِي إبَاحَةِ الْوُضُوءِ لِلصَّلاَةِ بِالْخَمْرِ وَبِكُلِّ نَطِيحَةٍ, أَوْ مُتَرَدِّيَةٍ, وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: فِي مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ, ثُمَّ يَتَعَلَّلُ فِي السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَمْ يَأْتِ مَا يُعَارِضُهَا; بَلْ عَمِلَ بِهَا الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم، وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَأْخُذُ: الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابُهُمَا.
وَقَدْ خَالَفَهُ قَوْمٌ فِي مَوَاضِعَ.
فَمِنْهَا: إذَا بَلَغَتْ الإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ; فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ
وَهَكَذَا أَيْضًا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ أَسْنَدَهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
قال أبو محمد: الْحَارِثُ كَذَّابٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(6/21)


وقال الشافعي وَأَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَتْ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ ضِعَافٌ لاَ تُسَاوِي شَاةً أَعْطَى بَعِيرًا مِنْهَا وَأَجْزَأَهُ قَالُوا: لإِنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا هِيَ فِيمَا أُبْقِي مِنْ الْمَالِ فَضْلاً, لاَ فِيمَا أَجَاحَ الْمَالَ وَقَدْ نُهِيَ، عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْمَالِ فَكَيْفَ، عَنْ اجْتِيَاحِهِ.
قال أبو محمد: وقال مالك, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَغَيْرُهُمَا: لاَ يُجْزِئُهُ إلاَّ شَاةٌ.
قال أبو محمد: هَذَا هُوَ الْحَقُّ, وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ بَاطِلٌ وَلَيْسَتْ الزَّكَاةُ كَمَا ادَّعَوْا مِنْ حِيَاطَةِ الأَمْوَالِ.
وَهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ، وَلاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الزَّكَاةَ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِي سَنَةِ مَجَاعَةٍ وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ، وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الزَّكَاةَ وَرَأَوْا فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ, وَالْوِطَاءِ, وَالْغِطَاءِ, وَالدُّورِ, وَالرَّقِيقِ وَالْبَسَاتِينِ بِقِيمَةِ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ, أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ وَقَالُوا فِيمَنْ لَهُ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ أَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْهَا كَمَا يُؤَدِّي مَنْ لَهُ ثَلَثُمِائَةِ شَاةٍ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ شَاةً.
فَإِنَّمَا نَقِفُ فِي النَّهْيِ وَالأَمْرِ عِنْدَمَا صَحَّ بِهِ نَصٌّ فَقَطْ.
وَهُمْ يَقُولُونَ فِي عَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ لِيَتِيمٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ سَرَقَ دِينَارًا، أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ فَتَتْلَفُ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قِيمَةٍ يَسِيرَةٍ وَيُجَاحُ الْيَتِيمُ الْفَقِيرُ فِيمَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغَنِيِّ.
وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ إلاَّ رِوَايَةً خَامِلَةً، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي قِيمَتَهَا, وَلاَ يُؤَدِّي ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: يُؤَدِّي ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا.
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُهُمْ: إنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخْذِ ابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ الْمَخَاضِ إنَّمَا أَرَادَ بِالْقِيمَةِ، فَيَا لِسُهُولَةِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا عَلاَنِيَةً فَرَيْبُ الْفَضِيحَةِ عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ وَمَا فَهِمَ قَطُّ مَنْ يَدْرِي الْعَرَبِيَّةَ أَنْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ" يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بِالْقِيمَةِ وَهَذَا أَمْرٌ مُخْجِلٌ جِدًّا, وَبُعْدٌ، عَنِ الْحَيَاءِ وَالدِّينِ!!

(6/22)


وَأَمَّا خِلاَفُهُمْ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ: فَإِنَّ حُمَامَ بْنَ أَحْمَدَ، حدثنا قَالَ، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَاصِمٍ, وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ قَالَ: فِي الإِبِلِ فِي خَمْسٍ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، عَنْ عَلِيٍّ.
فَخَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعَلِيًّا, وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ, وَابْنَ عُمَرَ. وَكُلَّ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ, وَخَالَفُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا.
وَبِقَوْلِنَا فِي هَذَا يَقُولُ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَمَالِكٌ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَاللَّيْثُ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَجُمْهُورُ النَّاسِ, إلاَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ قَلَّدَ دِينَهُ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي هَذَا سَلَفًا أَصْلاً.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَعْوِيضِ سِنٍّ مِنْ سِنٍّ دُونِهَا أَوْ فَوْقَهَا عِنْدَ عَدَمِ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ وَرَدِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابُهُ: لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ بِالْقِيمَةِ, وَأَجَازَ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ مِنْ الْعُرُوضِ وَغَيْرِهَا بَدَلَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ, وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهِ فِيهَا مُمْكِنًا.
وقال مالك: لاَ يُعْطِي إلاَّ مَا عَلَيْهِ. وَلَمْ يَجُزْ إعْطَاءَ سِنٍّ مَكَانَ سِنٍّ بِرَدِّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
وقال الشافعي بِمَا جَاءَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ نَصًّا, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ عُدِمَتْ السِّنُّ الْوَاجِبَةُ, وَاَلَّتِي تَحْتَهَا, وَاَلَّتِي فَوْقَهَا, وَوُجِدَتْ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ، فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا وَيَرُدُّ إلَيْهِ السَّاعِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا, أَوْ أَرْبَعَ شِيَاهٍ,وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ الَّتِي تَحْتَهَا بِدَرَجَةٍ فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا وَيُعْطِي مَعَهَا أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَ شِيَاهٍ، فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَمْ يَجِدْ إلاَّ جَذَعَةً فَإِنَّهُ يُعْطِيهَا وَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّاعِي سِتِّينَ دِرْهَمًا أَوْ سِتَّ شِيَاهٍ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ فَلَمْ يَجِدْ إلاَّ بِنْتَ مَخَاضٍ أَعْطَاهَا وَأَعْطَى مَعَهَا سِتِّينَ دِرْهَمًا أَوْ سِتَّ شِيَاهٍ.
وَأَجَازُوا كُلُّهُمْ إعْطَاءَ أَفْضَلَ مِمَّا لَزِمَهُ مِنْ الأَسْنَانِ, إذَا تَطَوَّعَ بِذَلِكَ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ كَمَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ, وَعُمَرَ, فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ فِي مِثْلِ هَذَا إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ

(6/23)


بِالرَّأْيِ: أَنْ يَقُولُوا بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنَّهُ قَاسَ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَيْسَ فِيهِ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ, وَكَانَ يَلْزَمُهُ عَلَى قِيَاسِهِ هَذَا إذَا رَأَى فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ, وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةَ, وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةَ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فِي إتْلاَفِ النَّفْسِ دِيَاتٌ كُلُّ مَا فِي الْجِسْمِ مِنْ الأَعْضَاءِ, لاَِنَّهَا بَطَلَتْ بِبُطْلاَنِ النَّفْسِ, وَكَانَ يَلْزَمُهُ إذْ رَأَى فِي السَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ أَنْ يَرَى فِي سَهْوَيْنِ فِي الصَّلاَةِ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَفِي ثَلاَثَةِ أَسْهَاءٍ سِتَّ سَجَدَاتٍ وَأَقْرَبُ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ, إذَا عَدِمَ التَّبِيعَ وَجَدَ الْمُسِنَّةَ أَنْ يُقَدِّرَ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا، وَلَكِنَّهُ لاَ يَقُولُ بِهَذَا, فَقَدْ نَاقَضَ قِيَاسَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, فَخِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلصَّحَابَةِ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً, إلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا بَيْعٌ مَا لَمْ يُقْبَضْ.
قال أبو محمد: وَهَذَا كَذِبٌ مِمَّنْ قَالَهُ وَخَطَأٌ لِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا أَصْلاً وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَعْوِيضِ سِنٍّ, مَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا مِنْ سِنٍّ أُخْرَى; كَمَا عَوَّضَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكَيْنَا مِنْ رَقَبَةٍ تُعْتَقُ فِي الظِّهَارِ, وَكَفَّارَةِ الْوَاطِئِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَلْيَقُولُوا هَاهُنَا: إنَّ هَذَا بَيْعٌ لِلرَّقَبَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَيْثُ لاَ يَحِلُّ وَهُوَ تَجْوِيزُ أَبِي حَنِيفَةَ أَخْذَ الْقِيمَةِ، عَنِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ, فَلَمْ يُنْكِرْ أَصْحَابُهُ الْبَاطِلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَنْكَرُوا الْحَقَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ، عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ إلاَّ فِي الطَّعَامِ, لاَ فِيمَا سِوَاهُ وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ السُّنَنَ وَالصَّحَابَةَ، رضي الله عنهم.
فأما الصَّحَابَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا تَعْوِيضٌ, وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ السِّنُّ الَّتِي دُونَهَا أُخِذَتْ الَّتِي فَوْقَهَا, وَرَدَّ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَ دَرَاهِمَ. وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ; وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ.
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلَيْهِمَا، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا وَجَدَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا دُونَ سِنٍّ أَوْ فَوْقَ سِنٍّ كَانَ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا عِشْرِينَ

(6/24)


دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ فِي الإِبِلِ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إنْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ أَخَذَ سِنًّا دُونَ سِنٍّ أَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
قال أبو محمد: وَأَمَّا إجَازَتُهُمْ الْقِيمَةَ أَوْ أَخْذَ سِنٍّ أَفْضَلَ مِمَّا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ طَاوُوس: أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لاَِهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لاَِهْلِ الْمَدِينَةِ.
قال علي: وهذا لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, لإِنَّ طَاوُوسًا لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا، وَلاَ وُلِدَ إلاَّ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاذٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِيمَا جَاءَ عَنْهُ عليه السلام.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ; فَالْكَذِبُ لاَ يَجُوزُ, وَقَدْ يُمْكِنُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ لاَِهْلِ الْجِزْيَةِ, وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ: الذُّرَةَ, وَالشَّعِيرَ, وَالْعَرْضَ: مَكَانَ الْجِزْيَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى بُطْلاَنِ هَذَا الْخَبَرِ مَا فِيهِ مِنْ قَوْلِ مُعَاذٍ "خَيْرٌ لاَِهْلِ الْمَدِينَةِ" وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَقُولَ مُعَاذٌ هَذَا, فَيَجْعَلُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا مِمَّا أَوْجَبَهُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ: أُخْبِرْت، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجِدْ فِي إبِلِهِ السِّنَّ الَّتِي عَلَيْهِ إلاَّ تِلْكَ السِّنَّ مِنْ شَرْوَى إبِلِهِ, أَوْ قِيمَةِ عِدْلٍ.
قال أبو محمد: هَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ, لإِنَّ ابْنَ جُرَيْحٍ لَمْ يُسَمِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَنْصَارِيَّ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ لاَِنَّهُ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ

(6/25)


فِيمَا جَاءَ عَمَّنْ دُونَهُ, وَقَدْ أَتَيْنَاهُمْ، عَنْ عُمَرَ بِمِثْلِ هَذَا فِي أَخْذِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ, فَلْيَقُولُوا بِهِ إنْ كَانَ قَوْلُ عُمَرَ حُجَّةً وَإِلاَّ فَالتَّحَكُّمُ لاَ يَجُوزُ.
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ لَوْ صَحَّ عَنْهُ "أَوْ قِيمَةَ عَدْلٍ" هُوَ مَا بَيْنَهُ فِي مَكَان آخَرَ مِنْ تَعْوِيضِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الدَّرَاهِمَ, فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لاَ عَلَى التَّضَادِّ وَذَكَرُوا حَدِيثًا مُنْقَطِعًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خُذْ النَّابَ, وَالشَّارِفَ وَالْعَوَارِيَّ".
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي آخِرِهِ "وَلاَ أَعْلَمُهُ إلاَّ كَانَتْ الْفَرَائِضُ بَعْدُ" فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَنْسُوخًا بِنَقْلِ رِوَايَةٍ فِيهِ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ, عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقًا, فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ فَجَمَعَ لِي مَالَهُ, فَقُلْت لَهُ: أَدِّ ابْنَةَ مَخَاضٍ, فَإِنَّهَا صَدَقَتُكَ, قَالَ: ذَلِكَ مَا لاَ لَبَنَ فِيهِ، وَلاَ ظَهْرَ, وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَمِينَةٌ, فَخُذْهَا, فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِآخِذٍ مَا لَمْ أُؤْمَرْ بِهِ, وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرِيبٌ مِنْكَ, فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: عَرَضْتُ عَلَى مُصَدِّقِكَ نَاقَةً فَتِيَّةً عَظِيمَةً يَأْخُذُهَا, فَأَبَى عَلَيَّ, وَهَا هِيَ ذِهِ, قَدْ جِئْتُكَ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ الَّذِي عَلَيْكَ, فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ أَجَرَكَ اللَّهُ وَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ, وَأَمَرَ عليه السلام بِقَبْضِهَا, وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ".
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ: لإِنَّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ, وَعُمَارَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ; وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ أَخُو عَمْرٍو رضي الله عنهما.

(6/26)


وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ, لإِنَّ فِيهِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ لَمْ يَسْتَجِزْ أَخْذَ نَاقَةٍ فَتِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ, وَرَأَى ذَلِكَ خِلاَفًا لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَ مَا يَرَاهُ هَؤُلاَءِ مِنْ التَّعَقُّبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِآرَائِهِمْ وَنَظَرِهِمْ, وَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. فَصَحَّ أَنَّهُ الْحَقُّ, وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ أَخْذُ نَاقَةٍ عَظِيمَةٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ فَقَطْ, وَأَمَّا إجَازَةُ الْقِيمَةِ فَلاَ أَصْلاً.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ. وَالآخَرُ: مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِلْمُصَدِّقِ: "أَعْلِمْهُ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ; فَإِنْ تَطَوَّعَ بِشَيْءٍ فَاقْبَلْهُ مِنْهُ".
وَهَذَانِ مُرْسَلاَنِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ بِأَخْذِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَلاَ يَأْخُذُ قِيمَةً, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ أَنْ يُعْطِيَ أَفْضَلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ العرزمي، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ عَلِيًّا سَاعِيًا قَالُوا: لاَ نُخْرِجُ لِلَّهِ إلاَّ خَيْرَ أَمْوَالِنَا, فَقَالَ: مَا أَنَا بِعَادِي عَلَيْكُمْ السُّنَّةَ. وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَبَيِّنِ لَهُمْ مَا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ, فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِفَضْلٍ فَخُذْهُ مِنْهُ" قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ, ثُمَّ إنَّ رَاوِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيِّ, وَهُوَ مَتْرُوكٌ ثُمَّ إنَّ فِيهِ أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ سَاعِيًا وَهَذَا بَاطِلٌ, مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَاعِيًا, وَقَدْ طَلَبَ ذَلِكَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ فَمَنَعَهُ.
وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً; لإِنَّ فِيهِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا إعْطَاءَ أَفْضَلَ أَمْوَالِهِمْ مُخْتَارِينَ, وَهَذَا لاَ لِمَنْعِهِ إذَا طَابَتْ نَفْسُ الْمُزَكِّي بِإِعْطَاءِ أَكْرَمَ شَاةٍ عِنْدَهُ وَأَفْضَلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ تِلْكَ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ; وَلَيْسَ فِيهِ إعْطَاءُ سِنٍّ مَكَانَ غَيْرِهَا أَصْلاً, وَلاَ دَلِيلَ عَلَى قِيمَةٍ أَلْبَتَّةَ.

(6/27)


وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي الَّذِي أَعْطَى فِي صَدَقَةِ مَالِهِ فَصِيلاً مَخْلُولاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ وَلاَ فِي إبِلِهِ ", فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ, فَجَاءَ بِنَاقَةٍ فَذَكَرٍ مِنْ جَمَالِهَا وَحُسْنِهَا, وَقَالَ: أَتُوبُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي إبِلِهِ".
وَقَالَ أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لإِنَّ الْفَصِيلَ لاَ يُجْزِئُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَنَاقَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ قَدْ تَكُونُ جَذَعَةً وَقَدْ تَكُونُ حِقَّةً; فَأَعْطَى مَا عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ مَا قُدِّرَ; وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى إعْطَاءِ غَيْرِ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى الْقِيمَةِ أَصْلاً.
وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكْرًا فَجَاءَتْهُ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ, فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَقُلْتُ: لَمْ أَجِدْ فِي الإِبِلِ إلاَّ جَمَلاً خِيَارًا رَبَاعِيًا, فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطِهِ إيَّاهُ, فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً".
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَمَلَ أُخِذَ فِي زَكَاةٍ وَاجِبَةٍ بِعَيْنِهِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَبْتَاعَهُ الْمُصَدِّقُ بِبَعْضِ مَا أَخَذَ فِي الصَّدَقَةِ, فَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا أَثَرٌ يَحْتَجُّونَ بِدُونِهِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا نُورِدُهُ مُحْتَجِّينَ بِهِ, لَكِنْ تَذْكِيرًا لَهُمْ.
وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الصُّنَابِحِ الأَحْمَسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ نَاقَةً فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ, فَقَالَ: "مَا هَذِهِ" فَقَالَ صَاحِبُ الصَّدَقَة: إنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ حَوَاشِي الإِبِلِ; فَقَالَ: "فَنَعَمْ إذَنْ".

(6/28)


وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الإِبِلُ مِنْ صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ, فَلِمَا أَمْكَنَ كُلُّ ذَلِكَ وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ جَمَلٌ رَبَاعٍ أَصْلاً لَمْ يَحِلَّ تَرْكَ الْيَقِينِ لِلظُّنُونِ, وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ فِي كِتَابِ "الإِيصَالِ "; ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الْبَكْرَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِيه مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ, وَالصَّدَقَةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ خِلاَفَ, صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: "الصَّدَقَةُ لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ", فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَسْلَفَهُ لِغَيْرِهِ, لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ, فَصَارَ الَّذِي أَخَذَ الْبَكْرَ مِنْ الْغَارِمِينَ, لإِنَّ السَّلَفَ فِي ذِمَّتِهِ, وَهُوَ أَخَذَهُ, فَإِذْ هُوَ مِنْ الْغَارِمِينَ فَقَدْ صَارَ حَظُّهُ فِي الصَّدَقَةِ; فَقُضِيَ عَنْهُ مِنْهَا, لاَ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لاَ نَشُكُّ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ الْبَكْرَ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَصْنَافِ الصَّدَقَةِ, وَلَوْلاَ ذَلِكَ مَا أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَقِّ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَضْلاً عَلَى حَقِّهِ.
قال أبو محمد: وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَمَا اسْتَقْرَضَ عليه السلام عَلَى الصَّدَقَةِ وَانْتَظَرَ حَتَّى يَحِينَ وَقْتُهَا; بَلْ كَانَ يَسْتَعْجِلُ صَدَقَةً مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ; فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عليه السلام صَحَّ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَدَاءُ صَدَقَةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
فَبَطَل كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, وَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ لَيْسَ فِيهِ إجَازَةُ إعْطَاءِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، وَلاَ غَيْرِ الصِّفَةِ الْمَحْدُودَةِ فِيهَا. وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلاَ دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى جَوَازِهَا أَصْلاً, بَلْ الْبُرْهَانُ ثَابِتٌ بِتَحْرِيمِ أَخْذِهَا, لاَِنَّهَا غَيْرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. وَقَالَ تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.
فَإِنْ قَالُوا: إنْ كَانَ نَظَرًا لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ فَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ.
قلنا: النَّظَرُ كُلُّهُ لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ أَنْ لاَ يُعْطُوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ, إذْ يَقُولُ تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ مَالِ أَحَدٍ إلاَّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ, أَوْ أَوْجَبَهُ فِيهِ فَقَطْ, وَمَا أَبَاحَ تَعَالَى قَطُّ أَخْذَ قِيمَةٍ، عَنْ زَكَاةٍ افْتَرَضَهَا بِعَيْنِهَا وَصِفَتِهَا وَمَا نَدْرِي فِي أَيِّ نَظَرٍ مَعْهُودٍ بَيْنَنَا وَجَدُوا أَنْ تُؤْخَذَ الزَّكَاةُ مِنْ صَاحِبِ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ لاَ تَقُومُ بِهِ, وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِمَّنْ لاَ يَمْلِكُ إلاَّ وَرْدَةً وَاحِدَة أَخْرَجَتْهَا قِطْعَةُ أَرْضٍ لَهُ: وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ صَاحِبِ جَوَاهِرَ وَرَقِيقٍ وَدُورٍ بِقِيمَةِ مِائَةِ أَلْفٍ، وَلاَ مِنْ صَاحِبِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ بَقَرَةً, وَتِسْعٍ وَثَلاَثِينَ شَاةً, وَخَمْسِ أَوَاقٍ غَيْرِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفِضَّةِ

(6/29)


فَهَلْ فِي هَذَا كُلِّهِ إلاَّ اتِّبَاعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ
وَقَدْ جَاءَ قَوْلُنَا، عَنِ السَّلَفِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قال: "سِرْت أَوْ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَارَ مَعَ مُصَدِّقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمَدَ رَجُلٌ إلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا; فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْخُذَ خَيْرَ إبِلِي فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَخَطَمَ لَهُ أُخْرَى دُونَهَا فَقَبِلَهَا, وَقَالَ: إنِّي لاَخُذُهَا وَأَخَافُ أَنْ يَجِدَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: عَمَدْت إلَى رَجُلٍ فَتَخَيَّرْت عَلَيْهِ إبِلَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس: أُخْبِرْت أَنَّك تَقُولُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَانِ يَعْنِي أَبَاهُ إذَا لَمْ تَجِدُوا السِّنَّ فَقِيمَتُهَا قَالَ: مَا قُلْته قَطُّ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي عَطَاءٌ: لاَ يَخْرُجُ فِي الصَّدَقَةِ صَغِيرٌ، وَلاَ ذَكَرٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ، وَلاَ هَرِمَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْد، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ ذَكَرٌ مَكَانَ أُنْثَى إلاَّ ابْنُ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمَنْ ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصَّدَقَةِ ثُمَّ أَعْطَاهُ مُذَكًّى لَمْ يَجُزْ عَنْهُ; لإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إعْطَاؤُهُ حَيًّا، وَلاَ يَقَعُ عَلَى الْمُذْكِي اسْمُ شَاةٍ مُطْلَقَةٍ، وَلاَ اسْمُ بَقَرَةٍ مُطْلَقَةٍ, وَلاَ اسْمُ بِنْتِ مَخَاضٍ مُطْلَقَةٍ, وَقَدْ وَجَبَ لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ حَيًّا, وَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُ مَا وَجَبَ لِغَيْرِهِ فَإِذَا قَبَضَهُ أَهْلُهُ أَوْ الْمُصَدِّقُ فَقَدْ أَجْزَأَ, وَجَازَ لِلْمُصَدِّقِ حِينَئِذٍ بَيْعُهُ, إنْ رَأَى ذَلِكَ حَظًّا لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ; لاَِنَّهُ نَاظِرٌ لَهُمْ وَلَيْسُوا قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ, فَيَجُوزُ حُكْمُهُمْ فِيهِ, أَوْ إبْرَاؤُهُمْ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِمْ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حِقَّتَانِ إلَى أَنْ تَصِيرَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ثَلاَثٌ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَلاَ بُدَّ إلَى أَنْ تَصِيرَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَيَجِبُ فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ ثُمَّ كُلَّمَا زَادَتْ عَشَرَةً كَانَ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَيَّ الصِّفَتَيْنِ أَدَّى أَجْزَأَهُ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلاَثِينَ, فَيَجِبُ

(6/30)


فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ, وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَتْ عَشْرًا فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ
وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: لَيْسَ فِيمَا بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلاَّ حِقَّتَانِ فَقَطْ; حَتَّى تُتِمَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَيَجِبُ فِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاةٌ إلَى ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ, إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ, فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَثَلاَثُ شِيَاهٍ; إلَى أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ, فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ; إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ, إلَى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ, وَهَكَذَا أَبَدًا, إذَا زَادَتْ عَلَى الْخَمْسِينَ وَمِائَةٍ خَمْسًا فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَشَاةٍ, ثُمَّ كَمَا ذَكَرْنَا; فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ مَعَ الثَّلاَثِ حِقَاقٍ, إلَى أَنْ تَصِيرَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً, فَيَجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَثَلاَثُ حِقَاقٍ; إلَى سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا كَانَتْ فِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ, إلَى سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ, وَكَذَلِكَ إلَى أَنْ تَكُونَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسًا; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ وَشَاةٌ; وَهَكَذَا أَبَدًا كُلَّمَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ خَمْسِينَ زَادَ حِقَّةً, ثُمَّ اسْتَأْنَفَ تَزْكِيَتَهَا بِالْغَنَمِ, ثُمَّ بِبِنْتِ الْمَخَاضِ ثُمَّ بِبِنْتِ اللَّبُونِ ثُمَّ الْحِقَّةِ.
قال أبو محمد: فأما مَنْ رَأَى الْحِقَّتَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ إلَى أَنْ تَصِيرَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ: "إنَّ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي كِتَابِ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ: أَنَّ الإِبِلَ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْعَشْرِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً".
قال علي: وهذا مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ مَجْهُولٌ.
وَنَحْنُ نَأْتِيهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا, كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ هُوَ أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حدثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ. هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, قَالَ: أَقْرَأَنِي إيَّاهَا سَالِمُ بْنُ

(6/31)


عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا, وَهِيَ الَّتِي انْتَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمُ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: "فِي الإِبِلِ إذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إلَى ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ", وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ. وَهَذَا خَيْرٌ مِمَّا أَتَوْنَا بِهِ, وَهَذَا هُوَ كِتَابُ عُمَرَ حَقًّا; لاَ تِلْكَ الْمَكْذُوبَةُ.
وَحدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا سَحْنُونٌ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَتَبَ فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا وَهِيَ الَّتِي نَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ سَالِمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ أُمِّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ, وَأَمَرَ عُمَّالَهُ بِالْعَمَلِ بِهَا, ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي أَوْرَدْنَا.
وَقَالُوا أَيْضًا: قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ "فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ".
قلنا: نَعَمْ, وَهِيَ أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ, وَقَدْ أَوْرَدْنَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ".
وَكَذَلِكَ صَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ, كَمَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى أَبِي دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ النُّفَيْلِيُّ، حدثنا عُبَادٍ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ, فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ, وَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ, فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ, ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى قُبِضَ, فَكَانَ فِيهِ: "فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: "فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ كَانَتْ الإِبِلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ".
وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَصِحُّ غَيْرُهُ, وَلَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الأَخْبَارُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا إلاَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ لَكَانَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ الصَّحِيحَانِ زَائِدَيْنِ عَلَيْهَا حُكْمًا فِي أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ; فَتِلْكَ غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ, وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ زَائِدَانِ عَلَى تِلْكَ; فَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُمَا, وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لِمَا وَجَبَ فِي الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ حِقَّتَانِ, ثُمَّ وَجَدْنَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا لاَ حُكْمَ لَهَا فِي نَفْسِهَا, إذْ كُلُّ أَرْبَعِينَ قَبْلهَا فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ عَلَى قَوْلِكُمْ; إذْ تَجْعَلُونَ فِيمَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ: فَإِذَا لاَ حُكْمَ لَهَا فِي نَفْسِهَا فَأَحْرَى أَنْ

(6/32)


لاَ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ فِي غَيْرِهَا, فَكُلُّ زِيَادَةٍ قَبْلَهَا تَنْقُلُ الْفَرْضَ فَلَهَا حِصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَهَذِهِ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا بِكَلاَمِ الْمَمْرُورِينَ, أَوْ بِكَلاَمِ الْمُسْتَخِفِّينَ بِالدِّينِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِكَلاَمِ مَنْ يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ لاَِنَّهُ كَلاَمٌ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ فَاسِدَةٌ, وَلاَ أَثَرٌ، عَنْ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ, وَلاَ قِيَاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهُ يُفْهَمُ.
ثُمَّ يُقَالُ: قَدْ كَذَبْتَ فِي وَسْوَاسِك هَذَا أَيْضًا; لإِنَّ كُلَّ أَرْبَعِينَ فِي الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لاَ تَجِبُ فِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أَصْلاً, وَلاَ تَجِبُ فِيهَا مُجْتَمِعَةً ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ, وَإِنَّمَا فِيهَا حِقَّتَانِ فَقَطْ, حَتَّى إذَا زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَاحِدَةً فَصَاعِدًا إلَى أَنْ تُتِمَّ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَحِينَئِذٍ وَجَبَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فِي الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ مَعَ الزِّيَادَةِ الَّتِي زَادَتْ ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيَّرَتْ فَرْضَ مَا قَبْلَهَا, وَصَارَ لَهَا أَيْضًا فِي نَفْسِهَا حِصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ, وَهَذَا ظَاهِرٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ عليه السلام: "فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ", فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَوَجَبَ فِي الْمِائَةِ حِينَئِذٍ حِقَّتَانِ وَلَمْ يَجُزْ تَعْطِيلُ النَّيِّفِ وَالْعِشْرِينَ الزَّائِدَةِ فَلاَ تُزَكَّى, وَحُكْمُهَا فِي الزَّكَاةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ, وَمُمْكِنٌ إخْرَاجُهَا فِيهِ, فَوَجَبَتْ الثَّلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ, وَبَطَلَ مَا مَوَّهُوا بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ إخْرَاجِ حِقَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثِ بَنَاتِ, لَبُونٍ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلنَّيِّفِ وَالْعِشْرِينَ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ; فَلاَ تَخْرُجُ زَكَاتُهَا وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَجَعَلَ فِيهَا حِقَّتَيْنِ. بِنَصِّ كَلاَمِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا فِي زَكَاةِ الإِبِلِ وَبَيْنَ حُكْمِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَ مَالِكٍ قَالَ بِهَذَا التَّخْيِيرِ.
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَآلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَغَيْرِهِمْ, وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنَّهُ احْتَجَّ أَصْحَابُهُ لَهُ بِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا

(6/33)


حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ كِتَابًا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لِجَدِّهِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ذِكْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَرَائِضِ الإِبِلِ: "إذَا كَانَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةً وَثَلاَثِينَ, فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ, فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهَا حِقَّةٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتِّينَ; فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْهَا فَفِيهَا جَذَعَةٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ, فَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ تِسْعِينَ; فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَعُدَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ; فَمَا فَضَلَ فَإِنَّهُ يُعَادُ إلَى أَوَّلِ فَرِيضَةِ الإِبِلِ وَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ لَيْسَ فِيهَا ذَكَرٌ، وَلاَ هَرِمَةٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ مِنْ الْغَنَمِ", ثُمَّ خَرَجَ إلَى ذِكْرِ زَكَاةِ الْغَنَمِ.
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا فِيهِ: "وَفِي الإِبِلِ إذَا كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فِي الإِبِلِ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ" إلَى أَنْ ذَكَرَ التِّسْعِينَ "فَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ, فَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَاعْدُدْ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً, وَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ".
وَذَكَرُوا مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الإِبِلِ قَالَ: فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَبِحِسَابِ الأَوَّلِ, وَتُسْتَأْنَفُ لَهَا الْفَرَائِضُ.
قال أبو محمد: وَبِقَوْلِهِمْ يَقُولُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
قَالُوا: وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا مُسْنَدٌ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو يَعْلَى هُوَ مُنْذِرٌ

(6/34)


الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى أَبِي فَشَكَوْا: سُعَاةَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ; فَقَالَ أَبِي: أَيْ بُنَيَّ خُذْ هَذَا الْكِتَابَ فَاذْهَبْ بِهِ إلَى عُثْمَانَ وَقُلْ لَهُ: إنَّ نَاسًا مِنْ النَّاسِ شَكَوْا سُعَاتَك, وَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفَرَائِضِ: فَأْمُرْهُمْ فَلْيَأْخُذُوا بِهِ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ بِالْكِتَابِ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه فَقُلْت: إنَّ أَبِي أَرْسَلَنِي إلَيْك, وَذَكَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ النَّاسِ شَكَوْا سُعَاتَك, وَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفَرَائِضِ, فَمُرْهُمْ فَلْيَأْخُذُوا بِهِ فَقَالَ: لاَ حَاجَةَ لَنَا فِي كِتَابِك; فَرَجَعْتُ إلَى أَبِي فَأَخْبَرْته فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ, لاَ عَلَيْك, أُرْدِدْ الْكِتَابَ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ, قَالَ: فَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا عُثْمَانَ بِشَيْءٍ لَذَكَرَهُ بِسُوءٍ; وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْكِتَابِ مَا كَانَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ.
قَالُوا: فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُظَنَّ بِعَلِيٍّ رضي الله عنه أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِغَيْرِ مَا فِي كِتَابِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَادَّعَوْا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ; وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُمَوِّهَ بِهِ مَنْ لاَ عِلْمَ لَهُ, أَوْ مَنْ لاَ تَقْوَى لَهُ, وَأَمَّا الْهَذَرُ وَالتَّخْلِيطُ فَلاَ نِهَايَةَ لَهُ فِي الْقُوَّةِ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً.
أَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ, وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: فَمُرْسَلاَنِ لاَ تَقُومُ بِهِمَا حُجَّةٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا مُتَعَلَّقٌ أَصْلاً.
أَمَّا طَرِيقُ مَعْمَرٍ فَإِنَّ الَّذِي فِي آخِرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: "وَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ" فَإِنَّمَا هُوَ حُكْمُ ابْتِدَاءِ فَرَائِضِ الإِبِلِ.
وَلَمْ يَسْتَحْيِ عَمِيدٌ مِنْ عُمُدِهِمْ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ جِهَارًا: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ فِي أَوَّلِهِ ذِكْرُ تَزْكِيَةِ الإِبِلِ بِالْغَنَمِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ كَرَّرَهُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ كَذَبَ فِي هَذَا عَلاَنِيَةً وَأَعْمَاهُ الْهَوَى وَأَصَمَّهُ وَلَمْ يَسْتَحِي وَمَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ فِي أَوَّلِ كَلاَمِهِ فِي فَرَائِضِ الإِبِلِ إلاَّ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ فَصَاعِدًا وَذَكَرَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ حُكْمَ تَزْكِيَتِهَا بِالْغَنَمِ إذْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَوَّلاً.
وَالْمَوْضُوعُ الثَّانِي أَنَّهُ جَاهَرَ بِالْكَذِبِ, فَقَالَ: "مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ" وَهَذَا كَذِبٌ, مَا رَوَاهُ ذَلِكَ مَعْمَرٌ إلاَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَطْ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُ هَذَا لَمَا أَخْرُجهُ، عَنِ الإِرْسَالِ; لإِنَّ مُحَمَّدَ

(6/35)


ابْنَ عَمْرٍو لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ عَجَبٌ آخَرُ وَهُوَ احْتِجَاجُهُ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِمَا مِنْهُ شَيْءٌ, وَهُوَ يُخَالِفُهُمَا فِيمَا فِيهِمَا مِنْ أَنَّهُ إنْ لَمْ تُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ أَفَلاَ يَعُوقُ الْمَرْءَ مُسَكَةٌ مِنْ الْحَيَاءِ، عَنْ مِثْلِ هَذَا.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ زَادُوا كَذِبًا وَجُرْأَةً وَفُحْشًا فَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: "إنْ لَمْ تُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ", إنَّمَا أَرَادَ بِقِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَهَذَا كَذِبٌ بَارِدٌ سَمْجٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: مَا أَرَادَ إلاَّ ابْنَ لَبُونٍ أَصْهَبَ, أَوْ فِي أَرْضِ نَجْدٍ خَاصَّةً وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَصْلاً أَنْ يُرِيدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَوِّضَ مِمَّا عُدِمَ بِالْقِيمَةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ ابْنِ لَبُونٍ ذَكَرٌ أَيْضًا خَاصَّةً.
وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فِي تَقْوِيلِهِمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ وَإِحَالَةِ كَلاَمِهِ إلَى الْهَوَسِ وَالْغَثَاثَةِ وَالتَّلْبِيسِ، وَلاَ يَسْتَجِيزُونَ إحَالَةَ لَفْظَةٍ مِنْ كَلاَمِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ مُقْتَضَاهَا وَاَللَّهُ لاَ فَعَلَ هَذَا مَوْثُوقٌ بِعَقْدِهِ وَلَقَدْ صَدَقَ الأَئِمَّةُ الْقَائِلُونَ: إنَّهُمْ يَكِيدُونَ الإِسْلاَمَ.
وَيُقَالُ لَهُمْ: هَلاَّ حَمَلْتُمْ مَا أَخَذْتُمْ بِهِ مِمَّا لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِهِ مِمَّا رُوِيَ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ جُعْلَ الآبِقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ قِيمَةَ تَعَبِ ذَلِكَ الَّذِي رَدَّ ذَلِكَ الآبِقَ فَقَطْ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ أَوْلَى وَأَصَحَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى إيجَابِ شَرِيعَةٍ لَمْ يُوجِبْهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
كَمَا لَمْ يَتَعَدَّوْا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ أَنَّ الْبَيْتَ خَمْسُونَ دِينَارًا وَالْعَبْدَ أَرْبَعُونَ دِينَارًا; فَتَوَقَّوْا مُخَالَفَةَ خَطَأِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّقْوِيمِ, وَلَمْ يُبَالُوا بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَحَمَلَهُمْ حَدُّهُ عَلَى التَّقْوِيمِ!!

(6/36)


وَأَيْضًا فَإِنَّنَا قَدْ أَوْجَدْنَاهُمْ مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَابُلِيُّ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حدثنا أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ ابْنَيْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ جَدِّهِمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ أَمَّرَهُ الْيَمَنَ, وَفِيهِ الزَّكَاةُ, فَذَكَرُهُ, وَفِيهِ: "فَإِذَا بَلَغَتْ الذَّهَبَ قِيمَةَ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَفِي قِيمَةِ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ حِينَ تَبْلُغُ أَرْبَعِينَ دِينَارًا".
فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَكُونَ صَحِيفَةُ ابْنِ حَزْمٍ بَعْضُهَا حُجَّةٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ, وَهَذِهِ صِفَةُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}.
وَأَمَّا طَرِيقُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَمُرْسَلَةٌ أَيْضًا, وَالْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي طَرِيقِ مَعْمَرٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّا جَمِيعًا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا مَا قَالُوا بِهِ أَصْلاً, لإِنَّ نَصَّ رِوَايَةِ حَمَّادٍ "إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ; فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَعُدَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً, فَمَا فَضَلَ فَإِنَّهُ يُعَادُ إلَى أَوَّلِ فَرِيضَةِ الإِبِلِ" هَذَا عَلَى أَنْ تُعَادَ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْغَنَمِ كَمَا ادَّعَوْا وَيَحْتَمِلُ هَذَا اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ الْحُكْمَ إلَى أَوَّلِ فَرِيضَةِ الإِبِلِ فِي أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, لإِنَّ فِي أَوَّلِ فَرِيضَةِ الإِبِلِ أَنَّ فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي ثَمَانِينَ بِنْتَيْ لَبُونٍ; فَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِهِمْ الْكَاذِبِ الْفَاسِدِ الْمُسْتَحِيلِ.
وَأَمَّا حَمْلُهُمْ مَا رُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُسْنَدُ احْتِجَاجِهِمْ فِي ذَلِكَ بِوُجُوبِ حُسْنِ الظَّنِّ بِعَلِيٍّ رضي الله عنه وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ يُحَدِّثُ بِغَيْرِ مَا عِنْدَهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقَوْلُ لَعَمْرِي صَحِيحٌ إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلِيٌّ بِأَوْلَى بِحُسْنِ الظَّنِّ مِنَّا مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنهما مَعًا, وَالْفَرْضُ عَلَيْنَا حُسْنُ الظَّنِّ بِهِمَا, وَإِلاَّ فَقَدْ سَلَكُوا سَبِيلَ إخْوَانِهِمْ مِنْ الرَّوَافِضِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسَاءَ الظَّنُّ بِعَلِيٍّ رضي الله عنه فِي أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ يُحَدِّثُ بِغَيْرِ مَا عِنْدَهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ يَتَعَمَّدُ خِلاَفَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ عليه السلام: فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسَاءَ الظَّنُّ بِعُثْمَانَ رضي الله عنه; فَيُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: لاَ حَاجَةَ لَنَا بِهِ; لَوْلاَ أَنَّ عُثْمَانَ عَلِمَ أَنَّ مَا فِي كِتَابِ عَلِيٍّ مَنْسُوخٌ مَا رَدَّهُ, وَلاَ أَعْرَضَ عَنْهُ, لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ عِنْدَ عَلِيٍّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِنَسْخِهِ وَكَانَ عِنْدَ عُثْمَانَ نَسْخُهُ.
فَنُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِمَا جَمِيعًا كَمَا يَلْزَمُنَا, وَلَيْسَ إحْسَانُ الظَّنِّ بِعَلِيٍّ وَإِسَاءَتُهُ بِعُثْمَانَ بِأَبْعَدَ

(6/37)


مِنْ الضَّلاَلِ مِنْ إحْسَانِ الظَّنِّ بِعُثْمَانَ وَإِسَاءَتِهِ بِعَلِيٍّ. فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا رَدَّهُ عُثْمَانُ, وَلاَ إحْدَى السَّيِّئَتَيْنِ بِأَسْهَلَ مِنْ الآُخْرَى وَأَمَّا نَحْنُ فَنُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِمَا رضي الله عنهما, وَلاَ نَسْتَسْهِلُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ نَنْسُبَ إلَيْهِ الْقَوْلَ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ فَنَتَبَوَّأَ مَقَاعِدَنَا مِنْ النَّارِ كَمَا تَبَوَّأَهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ; بَلْ نُقِرُّ قَوْلَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَقَرَّهُمَا; فَلَيْسَا حُجَّةً دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُمَا إمَامَانِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, مَغْفُورٌ لَهُمَا, غَيْرُ مُبْعَدِينَ مِنْ الْوَهْمِ, وَنَرْجِعُ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَأْخُذُ بِالثَّابِتِ عَنْهُ وَنَطْرَحُ مَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ.
ثم نقول لَهُمْ: هَبْكُمْ أَنَّ كِتَابَ عَلِيٍّ مُسْنَدٌ, وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا تَقُولُونَ; بَلْ تُمَوِّهُونَ: وَإِنَّمَا فِيهِ: "فِي الإِبِلِ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَبِحِسَابِ الأَوَّلِ وَتُسْتَأْنَفُ لَهَا الْفَرَائِضُ" وَلَيْسَ فِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ زَكَاةَ الْغَنَمِ تَعُودُ فِيهَا, وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ هَذَا أَنْ تَعُودَ إلَى حِسَابِهَا الأَوَّلِ وَتُسْتَأْنَفَ لَهَا الْفَرَائِضُ; فَتَرْجِعَ إلَى أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, كَمَا فِي أَوَّلِهَا: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ. وَفِي ثَمَانِينَ بِنْتَا لَبُونٍ, فَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِكُمْ الْكَاذِبِ.
ثم نقول: هَبْكُمْ أَنَّهُ مُسْنَدٌ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ فِيهِ نَصَّ مَا قُلْتُمْ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَاسْمَعُوهُ بِكَمَالِهِ.
حدثنا حمام، حدثنا مُفَرِّجٌ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ, وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ أَوْ قَالَ: الْجَمَلِ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ, فَإِذَا زَادَتْ, وَاحِدَةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي الْوَرِقِ إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ شَيْءٌ, فَإِنْ زَادَتْ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ; وَقَدْ عَفَوْت، عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ.

(6/38)


َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: وَإِذَا زَادَتْ الإِبِلُ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ, إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ بِنْتَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ لَبُونٍ رَدَّ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ, فَإِذَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَفِي كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ, فَمَا زَادَ فَبِالْحِسَابِ; فِي أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ, فَمَا نَقَصَ فَبِالْحِسَابِ; فَإِذَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسٌ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ, ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ; إنْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ, أَوْ أَخَذَ سِنًّا دُونَ سِنٍّ أَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: مَعْمَرٌ, وَسُفْيَانُ, وَشُعْبَةُ: مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ, رَوَاهُ، عَنْ سُفْيَان: وَكِيعٌ, وَرَوَاهُ، عَنْ شُعْبَةَ: عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ, وَرَوَاهُ، عَنْ مَعْمَرٍ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَاَلَّذِي مَوَّهُوا بِطَرْفٍ, مِمَّا فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ خَاصَّةً: لَيْسَ أَيْضًا مُوَافِقًا لِقَوْلِهِمْ كَمَا أَوْرَدْنَا, فَادَّعَوْا فِي خَبَرِ عَلِيٍّ مَا لَيْسَ فِيهِ عَنْهُ أَثَرٌ, وَلاَ جَاءَ قَطُّ عَنْهُ وَخَالَفُوا ذَلِكَ الْخَبَرَ نَفْسَهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا مِمَّا فِيهِ نَصًّا, وَهِيَ.
قَوْلُهُ: "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ خَمْسُ شِيَاه"ٍ.
وَقَوْلُهُ: بِتَعْوِيضِ ابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ فَقَطْ.
وَقَوْلُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ: "فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونِ.
وَإِسْقَاطُهُ ذِكْرَ عَوْدَةِ فَرَائِضِ الْغَنَمِ, فَلَمْ يَذْكُرْهُ.
وَقَوْلُهُ فِيمَنْ أَخَذَ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ شَاتَيْنِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَخَذَ بِنْتَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ إنْ لَمْ يُوجَدْ ابْنُ لَبُونٍ.

(6/39)


وَقَوْلُهُ فِيمَنْ أَخَذَ سِنًّا دُونَ سِنٍّ: "أَخَذَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ".
وَقَوْلُهُ: "لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ", وَلَمْ يَخُصَّ; كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَوْلُهُ: "فِي مِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا زَادَ فَبِالْحِسَابِ" وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ وَقْصًا, كَمَا يَزْعُمُونَ بِرَأْيِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ زَكَاةٌ" وَهُمْ يُزَكُّونَ مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ إذَا كَانَ مَعَ مَالِكِهَا ذَهَبٌ إذَا جَمَعَ إلَى الْوَرِقِ سَاوَيَا جَمِيعًا مِائَتِي دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا. وَمِنْهَا عَفُوُّهُ، عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ.
وَمِنْهَا عَفُوُّهُ، عَنْ صَدَقَةِ الرَّقِيقِ, وَلَمْ يَسْتَثْنِ لِتِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: "فِي أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ, فَمَا نَقَصَ فَبِالْحِسَابِ", وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ وَقْصًا أَفَيَكُونُ أَعْجَبَ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِرِوَايَةٍ، عَنْ عَلِيٍّ لاَ بَيَانَ فِيهَا لِقَوْلِهِمْ, لَكِنْ بِظَنٍّ كَاذِبٍ, وَيَتَحَيَّلُونَ1 فِي أَنَّهَا مُسْنَدَةٌ بِالْقَطْعِ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ الْمُفْتَرَى: وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا تِلْكَ الرِّوَايَةَ نَفْسَهَا بِتِلْكَ الطَّرِيقِ, وَمَعَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا فِي اثْنَيْ عَشْرَ مَوْضِعًا مِنْهَا, كُلُّهَا نُصُوصٌ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ هَذَا أَمْرٌ مَا نَدْرِي فِي أَيِّ دِينٍ أَمْ فِي أَيِّ عَقْلٍ وَجَدُوا مَا يُسَهِّلُهُ عَلَيْهِمْ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِصَحِيفَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ, وَبِصَحِيفَةِ حَمَّادٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ, وَهُمَا مُرْسَلَتَانِ, وَحَدِيثٍ مَوْقُوفٍ عَلَى عَلِيٍّ وَلَيْسَ فِي كُلِّ ذَلِكَ نَصٌّ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ, وَلاَ دَلِيلَ ظَاهِرٌ: ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ أَنْ يَعِيبُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا بِالإِرْسَالِ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ الْمُسْنَدَيْنِ.
مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى كِلَيْهِمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى, سَمِعَاهُ مِنْهُ, عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ, سَمِعَهُ مِنْهُ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, سَمِعَهُ مِنْهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَمِعَهُ مِنْهُ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى هَكَذَا نَصًّا!!
وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا ابْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ النُّفَيْلِيِّ، حدثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ, فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ, فَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ, فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ, ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى قُبِضَ, فَكَانَ فِيهِ: "فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ابْنَةُ مَخَاضٍ, إلَى خَمْسٍ
ـــــــ
1 هو بالحاء المهملة ومعناه ظاهر.

(6/40)


وَثَلاَثِينَ فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً, فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ: إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ. فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ, إلَى سِتِّينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ, إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ, إلَى تِسْعِينَ: فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِنْ كَانَتْ الإِبِلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ", فَقَالُوا: إنَّ أَصْلَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الإِرْسَالُ, وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ ثُمَّ لاَ يُبَالُونَ بِأَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَيُصَحِّحُونَهُمَا, إذَا وَجَدُوا فِيهِمَا مَا يُوَافِقُ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ, فَيُحِلُّونَهُ طَوْرًا وَيُحَرِّمُونَهُ طَوْرًا!
وَاعْتَرَضُوا فِيهِمَا بِأَنَّ ابْنَ مَعِينٍ ضَعَّفَهُمَا.
وَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ فِي صَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ, وَحَدِيثِ عَلِيٍّ مَا نَرَاهُ اسْتَجَازَ الْكَلاَمَ بِذِكْرِهِمَا, فَضْلاً، عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ بِتَضْعِيفِهِمَا.
وأعجب مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ بَعْضَ مُقَدِّمِيهِمْ الْمُتَأَخِّرِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ حَقًّا لاََخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عُمَّالِهِ!
قال أبو محمد: هَذَا قَوْلُ الرَّوَافِضِ فِي الطَّعْنِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ: نَعَمْ, وَعَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ نُسِبَتْ إلَيْهِ كُتُبُ الْبَاطِلِ وَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ ثُمَّ كَتَمَهُ, وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ; فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ وَقَدْ خَالَفُوا فِي هَذَا الْمَكَانِ النُّصُوصَ وَالْقِيَاسَ.
فَهَلْ وَجَدُوا فَرِيضَةً تَعُودُ بَعْدَ سُقُوطِهَا وَهَلْ وَجَدُوا فِي أَوْقَاصِ الإِبِلِ وَقْصًا مِنْ ثَلاَثَةٍ وَثَلاَثِينَ مِنْ الإِبِلِ إذْ لَمْ يَجْعَلُوا بَعْدَ الإِحْدَى وَالتِّسْعِينَ حُكْمًا زَائِدًا إلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَهَلْ وَجَدُوا فِي شَيْءٍ مِنْ الإِبِلِ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي إبِلٍ وَاحِدَةٍ, بَعْضُهَا يُزَكَّى بِالإِبِلِ وَبَعْضُهَا يُزَكَّى بِالْغَنَمِ.
وَهُمْ يُنْكِرُونَ أَخْذَ زَكَاةٍ عَمَّا أُصِيبَ فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ, وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا حِقَّيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَالٍ وَاحِدٍ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا هَاهُنَا: بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ حِقَّيْنِ: أَحَدُهُمَا إبِلٌ،وَالثَّانِي غَنَمٌ.
وَهَلاَّ إذْ رَدُّوا الْغَنَمَ وَبِنْتَ الْمَخَاضِ بَعْدَ إسْقَاطِهِمَا رَدُّوا أَيْضًا فِي سِتٍّ وَثَلاَثِينَ زَائِدَةً عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ بِنْتَ اللَّبُونِ!
فَإِنْ قَالُوا: مَنَعَنَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام: "فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ".

(6/41)


قِيلَ لَهُمْ: فَهَلاَّ مَنَعَكُمْ مِنْ رَدِّ الْغَنَمِ قَوْلُهُ عليه السلام: "وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ" فَظَهَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا بِشَيْءٍ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ.
وَقَالُوا فِي الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ: "لَيْسَ فِيمَا بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ شَيْءٌ إلَى ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ", إنَّهُ يُعَارِضُ سَائِرَ الأَخْبَارِ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ هَذَا فَأَوَّلُ مَا يُعَارَضُ فَصَحِيفَةُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, وَحَدِيثُ عَلِيٍّ فِيمَا يَظُنُّهُ فِيهِمَا; فَسَقَطَ تَمْوِيهُهُمْ كُلُّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَعَلِيٍّ; وَابْنِ مَسْعُودٍ; فَقَدْ كَذَبُوا جِهَارًا.
فأما عَلِيٌّ فَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ, وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ دَلِيلٌ، وَلاَ نَصٌّ بِمَا ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ بِالتَّمْوِيهِ الْكَاذِبِ.
وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلاَ يَجِدُونَهُ عَنْهُ أَصْلاً, إمَّا ثَابِتٌ فَنَقْطَعُ بِذَلِكَ قَطْعًا; وَأَمَّا رِوَايَةٌ سَاقِطَةٌ فَبَعِيدٌ عَلَيْهِمْ وُجُودُهَا أَيْضًا, وَأَمَّا مَوْضُوعَةٌ مِنْ عَمَلِ الْوَقْتِ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ إلاَّ أَنَّهَا لاَ تُنْفَقُ فِي سُوقِ الْعِلْمِ.
وَأَمَّا عُمَرُ رضي الله عنه فَالثَّابِتُ عَنْهُ كَالشَّمْسِ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ, وَمُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا, وَلاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِ خِلاَفِ ذَلِكَ عَنْهُ, إلاَّ إنْ صَاغُوهُ لِلْوَقْتِ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: فِي الإِبِلِ فِي خَمْسٍ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ; فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ, إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ, إلَى سِتِّينَ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ; فَإِنْ زَادَتْ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ هُوَ أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ

(6/42)


ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا, وَهِيَ الَّتِي انْتَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمُ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "إذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً, فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَلاَثِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَابْنَةُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ خَمْسِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَخَمْسِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ سِتِّينَ وَمِائَةً فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا كَانَتْ سَبْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ ثَمَانِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ, أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ; أَيُّ السِّنِينَ وُجِدَتْ أُخِذَتْ وَفِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ" فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ.
قال أبو محمد: فَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ, هُوَ قَوْلُنَا نَفْسُهُ, مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ تَعَلُّلُهُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا.
ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ تَصْحِيحِهِ وَالاِحْتِجَاجِ بِهِ مُوهِمِينَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرَأْيِهِمْ فِي أَنْ لاَ زَكَاةَ إلاَّ فِي السَّائِمَةِ.
فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ, وَخِلاَفِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى, وَلِلسُّنَنِ الثَّابِتَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَِبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعَلِيٍّ, وَأَنَسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، دُونَ أَنْ يَتَعَلَّقُوا بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ, إلاَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/43)


675 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَيُعْطِي الْمُصَدِّقُ, الشَّاتَيْنِ أَوْ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِمَّا أَخَذَ مِنْ صَدَقَةِ الْغَنَمِ, أَوْ يَبِيعَ مِنْ الإِبِلِ,
لاَِنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ يَأْخُذُ ذَلِكَ; فَمِنْ مَالِهِمْ يُؤَدِّيه.
وَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّقَاصُّ, وَهُوَ: أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِنْتَا لَبُونٍ فَلاَ يَجِدُهُمَا عِنْدَهُ, وَيَجِدُ عِنْدَهُ حِقَّةً وَبِنْتَ مَخَاضٍ, فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُمَا وَيُعْطِيه شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَيَأْخُذ مِنْهُ شَاتَيْنِ

(6/43)


أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلاَ بُدَّ, وَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ ثُمَّ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ, أَوْ يُعْطِيَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ لاَِنَّهُ قَدْ أَوْفَى وَاسْتَوْفَى وَأَمَّا التَّقَاصُّ بِأَنْ يَتْرُكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ تَرْكٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ وَجَبَ لَمْ يُقْبَضْ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ, وَلاَ يَجُوزُ إبْرَاءُ الْمُصَدِّقِ مِنْ حَقِّ أَهْلِ الصَّدَقَةِ; لاَِنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/44)


الزكاة تتكرر في كل سنة في الإبل و البقر و الغنم و الذهب و الفضة بخلاف البر و الشعير و التمر
...
676 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ تَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ, فِي الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ, وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ, بِخِلاَفِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ,
فَإِنَّ هَذِهِ الأَصْنَافَ إذَا زُكِّيَتْ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا, وَإِنَّمَا تُزَكَّى عِنْدَ تَصْفِيَتِهَا, وَكَيْلِهَا, وَيُبْسِ التَّمْرِ, وَكَيْلِهِ, وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ, إلاَّ فِي الْحُلِيِّ وَالْعَوَامِلِ, وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ الْمُصَدِّقِينَ كُلَّ سَنَةٍ.

(6/44)


الزكاة واجبة في الإبل و البقر و الغنم بانقضاء الحول و لا حكم في ذلك لمجيء الساعي
...
677 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ, فِي الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ, وَلاَ حُكْمَ فِي ذَلِكَ لِمَجِيءِ السَّاعِي
وَهُوَ الْمُصَدِّقُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَصْحَابِنَا.
وقال مالك, وَأَبُو ثَوْرٍ: لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ إلاَّ بِمَجِيءِ الْمُصَدِّقِ.
ثُمَّ تَنَاقَضُوا فَقَالُوا: إنْ أَبْطَأَ الْمُصَدِّقُ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ بِذَلِكَ; وَوَجَبَ أَخْذُهَا لِكُلِّ عَامٍ خَلاَ.
وَهَذَا إبْطَالُ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ إلاَّ بِمَجِيءِ السَّاعِي, وَإِنَّمَا السَّاعِي وَكِيلٌ مَأْمُورٌ بِقَبْضِ مَا وَجَبَ; لاَ يَقْبِضُ مَا لَمْ يَجِبْ, وَلاَ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ وَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ فِي أَنَّ الْمُصَدِّقَ لَوْ جَاءَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَمَا جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا شَيْئًا, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِمَجِيءِ السَّاعِي.
وَلاَ يَخْلُو السَّاعِي مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعَثَهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ, أَوْ أَمِيرُهُ, أَوْ بَعَثَهُ مَنْ لاَ تَجِبُ طَاعَتُهُ, فَإِنْ بَعَثَهُ مَنْ لاَ تَجِبُ طَاعَتُهُ فَلَيْسَ هُوَ الْمَأْمُورُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ عليه السلام بِقَبْضِ الزَّكَاةِ, فَإِذْ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ فَلاَ يُجْزِئُ مَا قَبَضَ, وَالزَّكَاةُ بَاقِيَةٌ وَعَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَدَاؤُهَا، وَلاَ بُدَّ; لإِنَّ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ مَظْلِمَةٌ لاَ صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ. وَإِنْ كَانَ بَعَثَهُ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ, فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاعِثُهُ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا, أَوْ لاَ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا, فَإِنْ كَانَ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلاَّ إلَيْهِ; لاَِنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِقَبْضِهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ فَقَدْ تَعَدَّى, وَالتَّعَدِّي

(6/44)


زكاة السائمة و غير السائمة من الماشية
تزكى السوائم و المعلوفة و المتخذة للركوب و للحرث و غير ذلك من الإبل و البقر و الغنم
...
زكاة السائمة وغير السائمة من الماشية
678 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ مَالِكٌ, وَاللَّيْثُ, وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا: تُزَكَّى السَّوَائِمُ, وَالْمَعْلُوفَةُ, وَالْمُتَّخَذَةُ لِلرُّكُوبِ, وَلِلْحَرْثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَمَّا الإِبِلُ فَنَعَمْ, وَأَمَّا الْغَنَمُ وَالْبَقَرُ فَلاَ زَكَاةَ إلاَّ فِي سَائِمَتِهَا.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُغَلِّسِ.
وقال بعضهم: أَمَّا الإِبِلُ, وَالْغَنَمُ فَتُزَكَّى سَائِمَتُهَا وَغَيْرُ سَائِمَتِهَا, وَأَمَّا الْبَقَرُ فَلاَ تُزَكَّى إلاَّ سَائِمَتُهَا.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد رحمه الله.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ سَائِمَةَ الإِبِلِ وَغَيْرَ السَّائِمَةِ مِنْهَا تُزَكَّى سَوَاءٌ سَوَاءٌ. وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ: لاَ زَكَاةَ إلاَّ فِي السَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
وقال بعضهم: تُزَكَّى غَيْرُ السَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الدَّهْرِ, ثُمَّ لاَ تَعُودُ الزَّكَاةُ فِيهَا.
فَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, بِأَنْ قَالُوا: قَوْلُنَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَغَيْرِهِمْ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيق سُفْيَان, وَمَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: لَيْسَ عَلَى عَوَامِلِ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا قَوْلَ عُمَرَ رضي الله عنه: فِي أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةُ شَاةٍ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَعَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: لَيْسَ عَلَى عَوَامِلِ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: لاَ صَدَقَةَ فِي الْمُثِيرَةِ.
وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، خِلاَفٌ فِي ذَلِكَ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: لاَ صَدَقَةَ فِي الْحُمُولَةِ, وَالْمُثِيرَةِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَعَبْدِ الْكَرِيمِ.
وَالْحُمُولَةُ: هِيَ الإِبِلُ الْحَمَّالَةُ, وَالْمُثِيرَةُ بَقَرُ الْحَرْثِ, قَالَ تعالى: {لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ}.

(6/45)


وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَيْسَ عَلَى ثَوْرٍ عَامِلٍ، وَلاَ عَلَى جَمَلِ ظَعِينَةٍ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: لَيْسَ فِي عَوَامِلِ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فِي مِصْرٍ يَحْلِبُهَا فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا, وَلاَ صَدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: لَيْسَ فِي السَّوَانِي مِنْ الْبَقَرِ, وَبَقَرِ الْحَرْثِ صَدَقَةٌ, وَفِيمَا عَدَاهُمَا مِنْ الْبَقَرِ الصَّدَقَةُ كَصَدَقَةِ الإِبِلِ, وَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي عَوَامِلِ الإِبِلِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَيْسَ فِي الإِبِلِ وَالْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ وَالإِبِلِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْحَرْثِ صَدَقَةٌ.
وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ. لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ طَاوُوس: لَيْسَ فِي عَوَامِلِ الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ صَدَقَةٌ, إلاَّ فِي السَّوَائِمِ خَاصَّةً.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَالضَّحَّاكِ.
وَعَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: لَيْسَ فِي الإِبِلِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: لاَ زَكَاةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ, وَأَوْجَبَهَا فِي الإِبِلِ الْعَوَامِلِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: لاَ زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مِنْ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ, وَلاَ زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ الْمُتَّخَذَةِ لِلذَّبْحِ وَذُكِرَ لَهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ, فَعَجِبَ, وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ, وَغَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَقَتَادَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي الإِبِلِ الْعَوَامِلِ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ غَنَمٍ, وَبَقَرٍ, وَإِبِلٍ, سَائِمَةٍ.
أَوْ غَيْرِ سَائِمَةٍ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ" قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ عليه السلام كَلاَمًا لاَ فَائِدَة فِيهِ; فَدَلَّ أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ بِخِلاَفِ السَّائِمَةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الآثَارِ: "فِي سَائِمَةِ الإِبِلِ" قَالُوا: فَقِسْنَا سَائِمَةَ الْبَقَرِ عَلَى ذَلِكَ.

(6/46)


وَقَالُوا: إنَّمَا جُعِلَتْ الزَّكَاةُ فِيمَا فِيهِ النَّمَاءُ, وَأَمَّا فِيمَا فِيهِ الْكُلْفَةُ فَلاَ, مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا شَغَبُوا بِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي تَخْصِيصِ عَوَامِلِ الْبَقَرِ خَاصَّةً بِأَنَّ الأَخْبَارَ فِي الْبَقَرِ لَمْ تَصِحَّ; فَالْوَاجِبُ أَنْ لاَ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا إلاَّ حَيْثُ اُجْتُمِعَ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا; لَمْ يُجْمَعْ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ بِأَنْ قَالَ: قَدْ صَحَّتْ الزَّكَاةُ فِيهَا بِالنَّصِّ الْمُجْمَلِ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنْ تُكَرَّرَ الزَّكَاةُ فِيهَا فِي كُلِّ عَامٍ, فَوَجَبَ تَكَرُّرُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ; وَلَمْ يَجِبْ التَّكْرَارُ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِإِجْمَاعٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا حُجَّةُ مَنْ احْتَجَّ بِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ; وَبِأَنَّهُ قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يُعْرَفُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ: فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ثم نقول لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ نَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ, إذْ قَالُوا بِزَكَاةِ خَمْسِينَ بَقَرَةً بِبَقَرَةٍ وَرُبُعٍ, وَلاَ يُعْرَفُ ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ مِنْ غَيْرِهِمْ إلاَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ, وَتَقْسِيمِهِمْ فِي الْمَيْتَاتِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ فَتَمُوتُ فِيهِ, فَلاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَسَّمَهُ قَبْلَهُمْ, وَتَقْدِيرِهِمْ الْمَسْحَ فِي الرَّأْسِ بِثَلاَثِ أَصَابِعَ مَرَّةً وَبِرُبُعِ الرَّأْسِ مَرَّةَ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا الْهَوَسُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ, وَلَوَدِدْنَا أَنْ نَعْرِفَ بِأَيِّ الأَصَابِعِ هِيَ أَمْ بِأَيِّ خَيْطٍ يُقَدَّرُ رُبُعُ الرَّأْسِ وَإِجَازَتِهِمْ الاِسْتِنْجَاءَ بِالرَّوْثِ; ، وَلاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا أَجَازَهُ قَبْلَهُمْ, وَتَقْسِيمِهِمْ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْجَوْفِ، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ, وَقَوْلِهِمْ فِي صِفَةِ صَدَقَةِ الْخَيْلِ, وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ, وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا; وَخِلاَفِهِمْ لِكُلِّ رِوَايَةٍ جَاءَتْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَخِلاَفِهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, وَأَبُو حَثْمَةَ, وَابْنَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ فِي تَرْكِ مَا يَأْكُلُهُ الْمَخْرُوصُ عَلَيْهِ مِنْ التَّمْرِ, وَمَعَهُمْ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِيَقِينٍ, لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا.
وَكَذَلِكَ نَسِيَ الشَّافِعِيُّونَ1 أَنْفُسَهُمْ فِي تَقْسِيمِهِمْ مَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الأَرْضِ2، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ, وَتَحْدِيدِهِمْ مَا يَنْجَسُ مِنْ الْمَاءِ مِمَّا لاَ يَنْجَسُ بِخَمْسِمِائَةِ رِطْلٍ بَغْدَادِيَّةٍ وَمَا يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ, وَخِلاَفُهُمْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ وَبِالْعَيْنِ أَنَّهُ يُزَكَّى عَلَى الأَغْلَبِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا لَهُمْ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ مِنْ ذِكْرِ السَّائِمَةِ, فَنَعَمْ, صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً فَلَوْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُ هَذَا الْخَبَرِ لَوَجَبَ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "الشافعيين" وهو لحن.
2 في النسخة رقم "16" ومما يخرج من ثمر الأرض.

(6/47)


أَنْ لاَ يُزَكَّى غَيْرُ السَّائِمَةِ; لَكِنْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلَ إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ جُمْلَةً, فَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ, وَالزِّيَادَةُ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي سَائِمَةِ الإِبِلِ فَلاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلاَّ فِي خَبَرِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ فَقَطْ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عُمَرَ زِيَادَةَ حُكْمٍ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةُ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} مَعَ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} فَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَى مَا فِي تِلْكَ الآيَةِ. قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاَقٍ} مَعَ قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَى مَا فِي تِلْكَ الآيَةِ.
وَهَلاَّ اسْتَعْمَلَ الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ هَذَا الْعَمَلَ حَيْثُ كَانَ يَلْزَمُهُمْ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَقَالُوا: وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَهُ مُخْطِئًا وَلَعَمْرِي إنَّ قِيَاسَ غَيْرِ السَّائِمَةِ عَلَى السَّائِمَةِ لاََشْبَهَ مِنْ قِيَاسِ قَاتِلِ الْخَطَأِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ وَحَيْثُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فَقَالُوا: نَعَمْ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حُجُورِنَا.
وَمِثْل هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا, لاَ يَتَثَقَّفُونَ فِيهِ إلَى أَصْلٍ فَمَرَّةٌ يَمْنَعُونَ مَنْ تَعَدَّى مَا فِي النَّصِّ حَيْثُ جَاءَ نَصٌّ آخَرُ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ, وَمَرَّةٌ يَتَعَدَّوْنَ النَّصَّ حَيْثُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ آخَرُ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَهُمْ أَبَدًا يَعْكِسُونَ الْحَقَائِقَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِجَمِيعِ النُّصُوصِ, وَلَمْ يَتْرُكُوا بَعْضَهَا لِبَعْضِ, وَلَمْ يَتَعَدَّوْهَا إلَى مَا لاَ نَصَّ فِيهِ: لَكَانَ أَسْلَمَ لَهُمْ مِنْ النَّارِ وَالْعَارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُم: إنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا جُعِلَتْ عَلَى مَا فِيهِ النَّمَاءُ; فَبَاطِلٌ, وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ, وَلاَ تَنْمِي أَصْلاً, وَلَيْسَتْ فِي الْحَمِيرِ, وَهِيَ تَنْمِي, وَلاَ فِي الْخَضَرِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ, وَهِيَ تَنْمِي.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَوَامِلَ مِنْ الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ تَنْمِي أَعْمَالُهَا وَكِرَاؤُهَا, وَتَنْمِي بِالْوِلاَدَةِ أَيْضًا.
فَإِنْ قَالُوا: لَهَا مُؤْنَةٌ فِي الْعَلَفِ.
قلنا: وَلِلسَّائِمَةِ مُؤْنَةُ الرَّاعِي وَأَنْتُمْ لاَ تَلْتَفِتُونَ إلَى عَظِيمِ الْمُؤْنَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْحَرْثِ, وَإِنْ اسْتَوْعَبَتْهُ كُلَّهُ; بَلْ تَرَوْنَ الزَّكَاةَ فِيهِ, وَلاَ تُرَاعُونَ الْخَسَارَةَ فِي التِّجَارَةِ, بَلْ تَرَوْنَ

(6/48)


الزَّكَاةَ فِيهَا فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ خَصَّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَقَرَ بِأَنْ لاَ تُزَكَّى إلاَّ سَائِمَتُهَا فَقَطْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَكَاةُ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ عُمُومًا, وَحَدُّ زَكَاتِهَا, وَمِنْ كَمْ تُؤْخَذْ الزَّكَاةُ مِنْهَا: فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بِرَأْيٍ، وَلاَ بِقِيَاسٍ. وَأَمَّا الْبَقَرُ فَلَمْ يَصِحَّ فِي صِفَةِ زَكَاتِهَا, فَوَجَبَ أَنْ لاَ تَجِبَ الزَّكَاةُ إلاَّ فِي بَقَرٍ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا, وَلاَ إجْمَاعَ إلاَّ فِي السَّائِمَةِ; فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا, دُونَ غَيْرِهَا الَّتِي لاَ إجْمَاعَ فِيهَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ; بَلْ قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ, بِقَوْلِهِ عليه السلام الَّذِي قَدْ أَوْرَدْنَاهُ قَبْلُ بِإِسْنَادِهِ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ، وَلاَ بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ فُعِلَ بِهِ كَذَا." فَصَحَّ بِالنَّصِّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ جُمْلَةً; إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصُّ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهَا, وَلاَ كَمْ يُؤْخَذُ مِنْهَا, فَفِي هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ يُرَاعَى الإِجْمَاعُ, وَأَمَّا تَخْصِيصُ بَقَرٍ دُونَ بَقَرٍ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلثَّابِتِ عَنْهُ عليه السلام مِنْ إيجَابِهِ الزَّكَاةَ فِي الْبَقَرِ بِغَيْرِ نَصٍّ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ، عَنْ غَيْرِ السَّائِمَةِ بِهَذَا الدَّلِيلِ وَبَيْنَ مَنْ أَسْقَطَهَا، عَنِ الذُّكُورِ بِهَذَا الدَّلِيلِ نَفْسِهِ, فَقَدْ صَحَّ الْخِلاَفُ فِي زَكَاتِهَا.
كَمَا حَدَّثَنَا حمام قَالَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّوَائِمِ صَدَقَةٌ إلاَّ إنَاثَ الإِبِلِ, وَإِنَاثَ الْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ.
قال أبو محمد: وَلاَ يَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا, وَلاَ الْحَنَفِيُّونَ, وَلاَ الْمَالِكِيُّونَ, وَلاَ الشَّافِعِيُّونَ, وَلاَ الْحَنْبَلِيُّونَ، وَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ أَصْلاً; لاَِنَّهُ تَحَكُّمٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.
فَوَجَبَتْ بِالنَّصِّ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ بَقَرٍ, أَيْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَقَرِ كَانَتْ, سَائِمَةً أَوْ غَيْرَ سَائِمَةٍ, إلاَّ بَقَرًا خَصَّهَا نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الْعَدَدُ, وَالْوَقْتُ, وَمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ إلاَّ بِإِجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ أَوْ بِنَصٍّ صَحِيحٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي السَّائِمَةِ بِعَوْدَةِ الزَّكَاةِ فِيهَا كُلَّ عَامٍ, وَرَأَى الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ: فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِأَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْبَقَرِ بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَا; وَلَمْ يَأْتِ بِتَكْرَارِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ عَامٍ نَصٌّ; فَلاَ تَجُوزُ عَوْدَةُ الزَّكَاةِ فِي مَالٍ قَدْ زُكِّيَ, إلاَّ بِالإِجْمَاعِ; وَقَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ بِعَوْدَةِ

(6/49)


الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ, وَالْغَنَمِ السَّائِمَةِ1 كُلَّ عَامٍ, فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ, وَلاَ نَصَّ، وَلاَ إجْمَاعَ فِي عَوْدَتِهَا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مِنْهَا كُلِّهَا; فَلاَ يَجِبُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: كَانَ هَذَا قَوْلاً صَحِيحًا لَوْلاَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ فِي كُلِّ عَامٍ لِزَكَاةِ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ هَذَا أَمْرٌ مَنْقُولٌ نَقْلَ الْكَافَّةِ; وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اُرْضُوَا مُصَدِّقِيكُمْ" فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا بِيَقِينٍ; فَخُرُوجُ الْمُصَدِّقِينَ فِي كُلِّ عَامٍ مُوجِبٌ أَخْذَ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ عَامٍ بِيَقِينٍ; فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ, فَتَخْصِيصُ بَعْضِ مَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ عَامًا بِأَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْهُ الْمُصَدِّقُ الزَّكَاةَ عَامًا ثَانِيًا تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ. وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ; وَإِنَّمَا يُرَاعَى مِثْلُ هَذَا فِيمَا لاَ نَصَّ فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ـــــــ
1 في النسخى رقم "14" و"السائنة" وزيادة الواو خطأ مفسد المعنى.

(6/50)


فرض على كل ذي إبل و بقر و غنم أن يحلبها يوم وردها على الماء و يتصدق من لبنها بما طابت به نفسه
...
679 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ ذِي إبِلٍ, وَبَقَرٍ, وَغَنَمٍ أَنْ يَحْلِبَهَا يَوْمَ وِرْدِهَا عَلَى الْمَاءِ, وَيَتَصَدَّقُ مِنْ لَبَنِهَا بِمَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ هُوَ أَبُو الْيَمَانِ، حدثنا شُعَيْبٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، حدثنا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ هُرْمُزٍ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَأْتِي الإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ, إذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا, تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا, وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ, إذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا, تَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا, قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ"1.
قال أبو محمد: وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لاَ حَقَّ فِي الْمَالِ غَيْرُ الزَّكَاةِ فَقَدْ قَالَ: الْبَاطِلَ, وَلاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ, لاَ مِنْ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَمْوَالِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ هَذَا: هَلْ تَجِبُ فِي الأَمْوَالِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالأَيْمَانِ وَدُيُونِ النَّاسِ أَمْ لاَ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا إعَارَةُ الدَّلْوِ وَإِطْرَاقُ الْفَحْلِ فَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
ـــــــ
1 هو في البخاري "ج 2 ص 217".

(6/50)


الأسنان المذكورات في للإبل
...
680 - مَسْأَلَةٌ: الأَسْنَانُ الْمَذْكُورَاتُ فِي الإِبِلِ.
بِنْتُ الْمَخَاضِ: هِيَ الَّتِي أَتَمَّتْ سَنَةً وَدَخَلَتْ فِي سَنَتَيْنِ, سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لإِنَّ أُمَّهَا مَاخِضٌ; أَيْ قَدْ حَمَلَتْ فَإِذَا أَتَمَّتْ سَنَتَيْنِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ فَهِيَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَابْنُ لَبُونٍ, لإِنَّ أُمَّهَا قَدْ وَضَعَتْ فَلَهَا لَبَنٌ, فَإِذَا أَتَمَّتْ ثَلاَثَ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ فَهِيَ حِقَّةٌ, لاَِنَّهَا قَدْ اسْتَحَقَّتْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا الْفَحْلُ, وَالْحَمْلُ; فَإِذَا أَتَمَّتْ أَرْبَعَ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ فَهِيَ جَذَعَةٌ; فَإِذَا أَتَمَّتْ

(6/50)


681 - مَسْأَلَةٌ: وَالْخُلْطَةُ فِي الْمَاشِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا لاَ تُحِيلُ حُكْمَ الزَّكَاةِ,
وَلِكُلِّ أَحَدٍ حُكْمُهُ فِي مَالِهِ, خَالَطَ أَوْ لَمْ يُخَالِطْ لاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ أَنَا سُرَيْجٌ بْنُ النُّعْمَانِ ثني حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ: "أَنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ, وَفِي آخِرِهِ: "وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ, وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ".
قال أبو محمد: فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْخَبَرِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا تَخَالَطَ اثْنَانِ فَأَكْثَرَ فِي إبِلٍ, أَوْ فِي بَقَرٍ, أَوْ فِي غَنَمٍ, فَإِنَّهُمْ تُؤْخَذُ مِنْ مَاشِيَتِهِمْ, الزَّكَاةُ كَمَا كَانَتْ تُؤْخَذُ لَوْ كَانَتْ لِوَاحِدٍ, وَالْخُلْطَةُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَجْتَمِعَ الْمَاشِيَةُ فِي الرَّاعِي, وَالْمَرَاحِ, وَالْمَسْرَحِ, وَالْمَسْقَى, وَمَوَاضِعِ الْحَلْبِ: عَامًا كَامِلاً مُتَّصِلاً وَإِلاَّ فَلَيْسَتْ خُلْطَةً, وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَاشِيَتُهُمْ مُشَاعَةً لاَ تَتَمَيَّزُ, أَوْ مُتَمَيِّزَةً, وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الدَّلْوُ, وَالْفَحْلُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا الْقَوْلُ مَمْلُوءٌ مِنْ الْخَطَأِ.
أَوَّلَ ذَلِكَ: أَنَّ ذِكْرَهُمْ الرَّاعِي كَانَ يُغْنِي، عَنْ ذِكْرِ الْمَسْرَحِ, وَالْمَسْقَى; لاَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكُونَ الرَّاعِي وَاحِدًا وَتَخْتَلِفُ مَسَارِحُهَا وَمَسَاقِيهَا; فَصَارَ ذِكْرُ الْمَسْرَحِ وَالْمَسْقَى فُضُولاً

(6/51)


وَأَيْضًا فَإِنَّ ذِكْرَ الْفَحْلِ خَطَأٌ, لاَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لاِِنْسَانٍ وَاحِدٍ فَحْلاَنِ وَأَكْثَرُ; لِكَثْرَةِ مَاشِيَتِهِ, وَرَاعِيَانِ وَأَكْثَرُ لِكَثْرَةِ مَاشِيَتِهِ; فَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِهِمْ إذَا أَوْجَبَ اخْتِلاَطُهُمَا فِي الرَّاعِي, وَالْعَمَلِ: أَنْ يُزَكِّيَهَا, زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ, وَأَنْ لاَ تُجْمَعُ مَاشِيَةُ إنْسَانٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ لَهُ فِيهَا رَاعِيَانِ فَحْلاَنِ, وَهَذَا لاَ تَخَلُّصَ مِنْهُ.
وَنَسْأَلُهُمْ إذَا اخْتَلَطَا فِي بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَلَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ أَمْ لاَ فَأَيُّ ذَلِكَ قَالُوا فَلاَ سَبِيلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ إلاَّ تَحَكُّمًا فَاسِدًا بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ زَادُوا فِي التَّحَكُّمِ فَرَأَوْا فِي جَمَاعَةٍ لَهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ الإِبِلِ, أَوْ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ, أَوْ ثَلاَثُونَ مِنْ الْبَقَرِ بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ: أَنَّ الزَّكَاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهَا, وَأَنَّ ثَلاَثَةً لَوْ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَهُمْ خُلَطَاءُ فِيهَا: فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إلاَّ شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ, كَمَا لَوْ كَانَتْ لِوَاحِدٍ, وَقَالُوا: إنَّ خَمْسَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ الإِبِلِ تَخَالَطُوا بِهَا عَامًا فَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ بِنْتُ مَخَاضٍ وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي.
وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد فِيمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا.
حَتَّى أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَأَى حُكْمَ الْخُلْطَةِ جَارِيًا كَذَلِكَ فِي الثِّمَارِ, وَالزَّرْعِ, وَالدَّرَاهِمِ, وَالدَّنَانِيرِ فَرَأَى فِي جَمَاعَةٍ بَيْنَهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَقَطْ أَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا, وَأَنَّ جَمَاعَةً يَمْلِكُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقَطْ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَقَطْ وَهُمْ خُلَطَاءُ فِيهَا أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذَلِكَ, وَلَوْ أَنَّهُمْ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ كَانَ يَقَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخُلَطَاءِ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّوْا حِينَئِذٍ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ, وَإِنْ كَانَ لاَ يَقَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِمْ, وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقَعُ لَهُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ, وَمَنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْهُمْ لاَ يَقَعُ لَهُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ. فَرَأْيُ هَؤُلاَءِ فِي اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا يَمْلِكَانِ أَرْبَعِينَ شَاةً, أَوْ سِتِّينَ أَوْ مَا دُونَ الثَّمَانِينَ, أَوْ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ أَوْ مَا دُونَ السِّتِّينَ, وَكَذَلِكَ فِي الإِبِلِ: فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِمْ; فَإِنْ كَانَ ثَلاَثَةٌ يَمْلِكُونَ مِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً, لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهَا, فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إلاَّ شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ, وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاشِي.
وَلَمْ يَرَ هَؤُلاَءِ حُكْمَ الْخُلْطَةِ إلاَّ فِي الْمَوَاشِي فَقَطْ.
وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَمَالِكٍ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَبِي عُبَيْدٍ, وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُغَلِّسِ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ تُحِيلُ الْخُلْطَةُ حُكْمَ الزَّكَاةِ أَصْلاً, لاَ فِي الْمَاشِيَةِ, وَلاَ فِي غَيْرِهَا; وَكُلُّ خَلِيطٍ

(6/52)


لِيُزَكِّيَ مَا مَعَهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا, وَلاَ فَرْقَ, فَإِنْ كَانَ ثَلاَثَةُ خُلَطَاءَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَلَيْهِمْ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةٌ, وَإِنْ كَانَ خَمْسَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ وَهُمْ خُلَطَاءُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ, وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَشَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
قال أبو محمد: لَمْ نَجِدْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَةً لاَِحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَوَجَدْنَا أَقْوَالاً، عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ, وَابْنِ هُرْمُزٍ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ, وَالزُّهْرِيِّ, فَقَطْ.
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا كَانَ الْخَلِيطَانِ يَعْلَمَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلاَ تُجْمَعُ أَمْوَالُهُمَا فِي الصَّدَقَةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَذَكَرْتُ هَذَا لِعَطَاءٍ مِنْ قَوْلِ طَاوُوسٍ فَقَالَ: مَا أَرَاهُ إلاَّ حَقًّا.
َرُوِّينَا، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إذَا كَانَ رَاعِيهِمَا وَاحِدًا, وَكَانَتْ تَرِدُ جَمِيعًا وَتَرُوحُ جَمِيعًا صُدِّقَتْ جَمِيعًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الإِبِلَ إذَا جَمَعَهَا الرَّاعِي وَالْفَحْلُ وَالْحَوْضُ تُصَدَّقُ جَمِيعًا ثُمَّ يَتَحَاصُّ أَصْحَابُهَا عَلَى عِدَّةِ الإِبِلِ فِي قِيمَةِ الْفَرِيضَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ الإِبِلِ, فَإِنْ كَانَ اسْتَوْدَعَهُ إيَّاهَا لاَ يُرِيدُ مُخَالَطَتَهُ، وَلاَ وَضْعَهَا عِنْدَهُ يُرِيدُ نِتَاجَهَا فَإِنَّ تِلْكَ تُصَدَّقُ وَحْدَهَا.
وَعَنِ ابْنِ هُرْمُزَ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: احْتَجَّتْ كُلُّ طَائِفَةٍ لِقَوْلِهَا بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ.
فَقَالَ مَنْ رَأَى أَنَّ الْخُلْطَةَ تُحِيلُ الصَّدَقَةَ وَتَجْعَلُ مَالَ الاِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا بِمَنْزِلَةِ كَمَا1 لَوْ أَنَّهُ لِوَاحِدٍ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: "لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ" أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِثَلاَثَةٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً, لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهَا: وَهُمْ خُلَطَاءُ; فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إلاَّ شَاةٌ وَاحِدَةٌ, فَنَهَى الْمُصَدِّقَ أَنْ يُفَرِّقَهَا لِيَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةً فَيَأْخُذُ ثَلاَثَ شِيَاهٍ, وَالرَّجُلاَنِ يَكُونُ لَهُمَا مِائَتَا شَاةٍ وَشَاتَانِ, لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهَا, فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ فَيُفَرِّقَانِهَا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ; فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةً, فَلاَ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ إلاَّ شَاتَيْنِ.
وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: "كُلُّ خَلِيطَيْنِ يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ", هُوَ أَنْ يَعْرِفَا أَخْذَ السَّاعِي فَيَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتُهُ عَلَى حَسْبِ عَدَدِ مَاشِيَتِهِ كَاثْنَيْنِ لاَِحَدِهِمَا أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِلآخِرِ ثَمَانُونَ وَهُمَا خَلِيطَانِ, فَعَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ, عَلَى صَاحِبِ الثَّمَانِينَ ثُلُثَاهَا وَعَلَى صَاحِبِ الأَرْبَعِينَ ثُلُثُهَا.
ـــــــ
1 كلمة "كما" سقطت من النسخة رقم "14".

(6/53)


وَقَالَ مَنْ رَأَى أَنَّ الْخُلْطَةَ لاَ تُحِيلُ حُكْمَ الصَّدَقَةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ" هُوَ أَنْ يَكُونَ لِثَلاَثَةٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً, لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهَا, فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ, فَنُهُوا، عَنْ جَمْعِهَا وَهِيَ مُتَفَرِّقَةٌ فِي مِلْكِهِمْ تَلْبِيسًا عَلَى السَّاعِي أَنَّهَا لِوَاحِدٍ فَلاَ يَأْخُذُ إلاَّ وَاحِدَةً, وَالْمُسْلِمُ يَكُونُ لَهُ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاتَانِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, فَيُفَرِّقُهَا قِسْمَيْنِ وَيُلْبِسُ عَلَى السَّاعِي أَنَّهَا لاِثْنَيْنِ, لِئَلاَّ يُعْطِيَ مِنْهَا إلاَّ شَاتَيْنِ, وَكَذَلِكَ نَهَى الْمُصَدِّقَ أَيْضًا، عَنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى الاِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَا لَهُمْ لِيُكْثِرَ مَا يَأْخُذُ, وَعَنْ أَنْ يُفَرِّقَ مَالَ الْوَاحِدِ فِي الصَّدَقَةِ, وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ لِيُكْثِرَ مَا يَأْخُذُ.
وَقَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: "كُلُّ خَلِيطَيْنِ يَتَرَادَّانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ", هُوَ أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا عليه السلام هُمَا مَا اخْتَلَطَ مَعَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْخَلِيطَانِ مِنْ النَّبِيذِ بِهَذَا الاِسْمِ, وَأَمَّا مَا لَمْ يَخْتَلِطْ غَيْرُهُ فَلَيْسَا خَلِيطَيْنِ, هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ, قَالُوا: فَلَيْسَ الْخَلِيطَانِ فِي الْمَالِ إلاَّ الشِّرْكَيْنِ فِيهِ اللَّذَيْنِ لاَ يَتَمَيَّزُ مَالُ أَحَدِهِمَا مِنْ الآخَرِ, فَإِنْ تَمَيَّزَ فَلَيْسَا خَلِيطَيْنِ, قَالُوا: فَإِذَا كَانَ خَلِيطَانِ كَمَا ذَكَرْنَا وَجَاءَ الْمُصَدِّقُ فَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِهِ, وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ قِسْمَتَهَا لِمَالِهِمَا, وَلَعَلَّهُمَا لاَ يُرِيدَانِ الْقِسْمَةَ, وَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُمَا عَلَى الْقِسْمَةِ, فَإِذَا أَخَذَ زَكَاتَيْهِمَا فَإِنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ; كَائِنَيْنِ لاَِحَدِهِمَا ثَمَانُونَ شَاةً وَلِلآخَرِ أَرْبَعُونَ, وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي جَمِيعِهَا, فَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ شَاتَيْنِ; وَقَدْ كَانَ لاَِحَدِهِمَا ثُلُثَا كُلِّ شَاةٍ مِنْهُمَا وَلِلآخَرِ ثُلُثُهَا, فَيَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ فَيَبْقَى لِصَاحِبِ الأَرْبَعِينَ تِسْعٌ وَثَلاَثُونَ, وَلِصَاحِبِ الثَّمَانِينَ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ.
قال أبو محمد: فَاسْتَوَتْ دَعْوَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْخَبَرِ, وَلَمْ تَكُنْ لاِِحْدَاهُمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الآُخْرَى فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا تَأْوِيلَ الطَّائِفَةِ الَّتِي رَأَتْ أَنَّ الْخُلْطَةَ لاَ تُحِيلُ حُكْمَ الزَّكَاةِ أَصَحَّ; لإِنَّ كَثِيرًا مِنْ تَفْسِيرِهِمْ الْمَذْكُورِ مُتَّفَقٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ تَفْسِيرِ الطَّائِفَةِ الآُخْرَى مُجْمَعًا عَلَيْهِ; فَبَطَلَ تَأْوِيلُهُمْ لِتَعَرِّيهِ مِنْ الْبُرْهَانِ; وَصَحَّ تَأْوِيلُ الآُخْرَى لاَِنَّهُ لاَ شَكَّ فِي صِحَّةِ مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قول لاَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ; فَهَذِهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ.
وَوَجَدْنَا أَيْضًا الثَّابِتَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قوله: "وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ" ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلاَّ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ فَلاَ صَدَقَةَ عَلَيْهِ: "وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعِينَ شَاةً شَيْءٌ".

(6/54)


وَسَائِرُ مَا نَصَّهُ عليه السلام فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ, وَالإِبِلِ, مِنْ أَنَّ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ, وَغَيْرُ ذَلِكَ, وَوَجَدْنَا مَنْ لَمْ يُحِلْ بِالْخُلْطَةِ حُكْمَ الزَّكَاةِ قَدْ أَخَذَ بِجَمِيعِ هَذِهِ النُّصُوصِ وَلَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْهَا, وَوَجَدْنَا مَنْ أَحَالَ بِالْخُلْطَةِ حُكْمَ الزَّكَاةِ يَرَى هَذِهِ النُّصُوصَ وَلَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْهَا وَوَجَدْنَا مَنْ أَحَالَ بِالْخُلْطَةِ حُكْمَ الزَّكَاةِ يَرَى فِي خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خُمُسُ بِنْتِ مَخَاضٍ, وَأَنَّ ثَلاَثَةً لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً عَلَى السَّوَاءِ بَيْنَهُمْ أَنَّ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ شَاةٍ, وَأَنَّ عَشْرَةَ رِجَالٍ لَهُمْ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ بَيْنَهُمْ, فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرَ شَاةٍ وَهَذِهِ زَكَاةٌ مَا أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ; وَخِلاَفٌ لِحُكْمِهِ تَعَالَى وَحُكْمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَسَأَلْنَاهُمْ، عَنْ إنْسَانٍ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ, خَالَطَ بِهَا صَاحِبَ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ فِي بَلَدٍ, وَلَهُ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ خَالَطَ بِهَا صَاحِبَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فِي بَلَدٍ آخَرَ, وَلَهُ ثَلاَثٌ مِنْ الإِبِلِ, خَالَطَ بِهَا صَاحِبَ خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فِي بَلَدٍ ثَالِثٍ فَمَا عَلِمْنَاهُمْ أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ يُعْقَلُ أَوْ يُفْهَمُ وَسُؤَالُنَا إيَّاهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ يَتَّسِعُ جِدًّا; فَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى جَوَابٍ يَفْهَمُهُ أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ, فَنَبَّهْنَا بِهَذَا السُّؤَالِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وَمَنْ رَأَى حُكْمَ الْخُلْطَةِ يُحِيلُ الزَّكَاةَ فَقَدْ جَعَلَ زَيْدًا كَاسِبًا عَلَى عَمْرٍو, وَجَعَلَ لِمَالِ أَحَدِهِمَا حُكْمًا فِي مَالِ الآخَرِ; وَهَذَا بَاطِلٌ وَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ.
وَمَا عَجَزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ وَهُوَ الْمُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ لَنَا، عَنْ أَنْ يَقُولَ: الْمُخْتَلِطَانِ فِي وَجْهِ كَذَا وَوَجْهِ كَذَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ, فَإِذْ لَمْ يَقُلْهُ فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُمْ بِهَذَا الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا اخْتَلَطَ فِي الدَّلْوِ, وَالرَّاعِي, وَالْمَرَاحِ, وَالْمُحْتَلَبِ: تَحَكُّمٌ بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً, لاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ وَجْهٍ يُعْقَلُ, وَبَعْضُهُمْ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ بِلاَ دَلِيلٍ وَلَيْتَ شِعْرِي: أَمِنْ قَوْلِهِ عليه السلام مَقْصُورًا عَلَى الْخُلْطَةِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ دُونَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْخُلْطَةَ فِي الْمَنْزِلِ, أَوْ فِي الصِّنَاعَةِ, أَوْ فِي الشَّرِكَةِ فِي الْغَنَمِ كَمَا قَالَ طَاوُوس وَعَطَاءٌ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا أَبُو الأَسْوَدِ هُوَ النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ مِصْرِيٌّ، حدثنا

(6/55)


ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ سَمِعَ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: إنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يُحَدِّثُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "الْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَ عَلَى الْفَحْلِ, وَالْمَرْعَى, وَالْحَوْضِ".
قلنا: هَذَا لاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَمَا خَالَفْنَاكُمْ فِي أَنَّ مَا اجْتَمَعَ عَلَى فَحْلٍ, وَمَرْعًى, وَحَوْضٍ أَنَّهُمَا خَلِيطَانِ فِي ذَلِكَ; وَهَذَا حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهِ; وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ إحَالَةُ حُكْمِ الزَّكَاةِ الْمُفْتَرَضَةِ بِذَلِكَ وَلَوْ وَجَبَ بِالاِخْتِلاَطِ فِي الْمَرْعَى إحَالَةُ حُكْمِ الزَّكَاةِ لَوَجَبَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَاشِيَةٍ فِي الأَرْضِ, لإِنَّ الْمَرَاعِيَ مُتَّصِلَةٌ فِي أَكْثَرِ الدُّنْيَا, إلاَّ أَنْ يَقْطَعَ بَيْنَهُمَا بَحْرٌ, أَوْ نَهْرٌ, أَوْ عِمَارَةٌ.
وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرٌ لِتَخَالُطِهِمَا بِالرَّاعِي, وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ; وَإِلاَّ فَقَدْ يَخْتَلِطُ فِي الْمَسْقَى, وَالْمَرْعَى, وَالْفَحْلِ: أَهْلُ الْحِلَّةِ كُلُّهُمْ, وَهُمَا لاَ يَرَيَانِ ذَلِكَ خُلْطَةً تُحِيلُ حُكْمَ الصَّدَقَةِ.
وَزَادَ ابْنُ حَنْبَلٍ: وَالْمُحْتَلَبِ.
وقال بعضهم: إنْ اخْتَلَطَا أَكْثَرَ الْحَوْلِ كَانَ لَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ.
وَهَذَا تَحَكُّمٌ بَارِدٌ وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ خَالَطَ آخَرَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَجَابُوا فَقَدْ زَادُوا فِي التَّحَكُّمِ بِلاَ دَلِيلٍ وَلَمْ يَكُونُوا بِأَحَقَّ بِالدَّعْوَى مِنْ غَيْرِهِمْ!!
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْحَوَالَةِ جِدًّا; لاَِنَّهُ خَصَّ بِالْخُلْطَةِ الْمَوَاشِيَ, فَقَطْ, دُونَ الْخُلْطَةِ فِي الثِّمَارِ, وَالزَّرْعِ وَالنَّاضِّ, وَلَيْسَ هَذَا التَّخْصِيصُ مَوْجُودًا فِي الْخَبَرِ.
فَإِنْ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِعَقِبِ ذِكْرِهِ حُكْمَ الْمَاشِيَةِ.
قلنا: فَكَانَ مَاذَا فَإِنْ كَانَ هَذَا حُجَّةً لَكُمْ فَاقْتَصِرُوا بِحُكْمِ الْخُلْطَةِ عَلَى الْغَنَمِ فَقَطْ لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إلاَّ بِعَقِبِ ذِكْرِ زَكَاةِ الْغَنَمِ; وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا الإِبِلَ, وَالْبَقَرَ, عَلَى الْغَنَمِ قِيلَ لَهُمْ: فَهَلاَّ قِسْتُمْ الْخُلْطَةَ فِي الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ عَلَى الْخُلْطَةِ فِي الْغَنَمِ؟!
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَالِكًا اسْتَعْمَلَ إحَالَةَ الزَّكَاةِ بِالْخُلْطَةِ فِي النِّصَابِ فَزَائِدًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ فِي عُمُومِ الْخُلْطَةِ كَمَا فَعَلَ الشَّافِعِيُّ, وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَدَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ; وَإِنْ كَانَ فَرَّ، عَنْ إحَالَةِ النَّصِّ فِي

(6/56)


أَنْ لاَ زَكَاةَ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ: فَقَدْ وَقَعَ فِيهِ فِيمَا فَوْقَ النِّصَابِ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الإِحَالَتَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّهُمْ يُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الْجُمْهُورِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ; وَهُمْ هُنَا قَدْ خَالَفُوا خَمْسَةً مِنْ التَّابِعِينَ, لاَ يُعْلَمُ لَهُمْ مِنْ طَبَقَتِهِمْ، وَلاَ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ مُخَالِفٌ وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مُنْكَرٍ; لَكِنْ أَوْرَدْنَاهُ لِنُرِيَهُمْ تَنَاقُضَهُمْ, وَاحْتِجَاجَهُمْ بِشَيْءٍ لاَ يَرَوْنَهُ حُجَّةً إذَا خَالَفَ أَهْوَاءَهُمْ!
مَوَّهُوا أَيْضًا بِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ، حدثنا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ حَكِيمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فِي كُلِّ إبِلٍ سَائِمَةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ, لاَ تُفَرَّقُ إبِلٌ، عَنْ حِسَابِهَا, مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا, عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا; لاَ يَحِلُّ لاِلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ, وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ إبِلِهِ".
قَالُوا: فَمَنْ أَخَذَ الْغَنَمَ مِنْ أَرْبَعِينَ نَاقَةً لِثَمَانِيَةِ شُرَكَاءَ; لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسٌ, فَقَدْ فَرَّقَهَا، عَنْ حِسَابِهَا, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مِلْكَ وَاحِدٍ مِنْ مِلْكِ جَمَاعَةٍ.
قال أبو محمد: فَنَقُولُ لَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ: إنَّ كُلَّ هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَكُمْ حُجَّةٌ فَخُذُوا بِمَا فِيهِ, مِنْ أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَشَطْرُ إبِلِهِ زِيَادَةٌ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا مَنْسُوخٌ.
قلنا لَكُمْ: هَذِهِ دَعْوَى بِلاَ حُجَّةٍ, لاَ يَعْجِزُ، عَنْ مِثْلِهَا خُصُومُكُمْ, فَيَقُولُوا لَكُمْ وَاَلَّذِي تَعَلَّقْتُمْ بِهِ مِنْهُ مَنْسُوخٌ.
وَإِنْ كَانَ الْمِشْغَبُ بِهِ مَالِكِيًّا قلنا لَهُمْ: فَإِنْ كَانَ شَرِيكُهُ مُكَاتِبًا أَوْ نَصْرَانِيًّا.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا قَدْ خَصَّتْهُ أَخْبَارٌ أُخَرُ.
قلنا: وَهَذَا نَصٌّ قَدْ خَصَّتْهُ أَخْبَارٌ أُخَرُ, وَهِيَ أَنْ لاَ زَكَاةَ فِي أَرْبَعٍ مِنْ الإِبِلِ فَأَقَلَّ، وَأَنَّ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةً إلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
ثم نقول; هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ. لإِنَّ بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ غَيْرُ مَشْهُورِ الْعَدَالَةِ, وَوَالِدُهُ حَكِيمٌ كَذَلِكَ.

(6/57)


فَكَيْفَ وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْمُخْتَلِطَيْنِ حُكْمُ الْوَاحِدِ; ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ مَالُ إنْسَانٍ إلَى مَالِ غَيْرِهِ فِي الزَّكَاةِ, وَلاَ أَنْ يُزَكَّى مَالُ زَيْدٍ بِحُكْمِ مَالِ عَمْرٍو; لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ بِلاَ شَكٍّ فِيمَا جَاوَزَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الإِبِلِ; لِمُخَالَفَةِ جَمِيعِ الأَخْبَارِ أَوَّلِهَا، عَنْ آخِرِهَا; لِمَا خَالَفَ هَذَا الْعَمَلَ لاِِجْمَاعِهِمْ وَإِجْمَاعِ الأَخْبَارِ عَلَى أَنَّ فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ مِنْ الإِبِلِ حِقَّةً لاَ بِنْتَ لَبُونٍ; وَلِسَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَأَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إلاَّ الإِبِلُ فَقَطْ; نَقَلَهُمْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ إلَى الْغَنَمِ, وَالْبَقَرِ: قِيَاسٌ, وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ نَقْلُ هَذَا الْحُكْمِ، عَنِ الإِبِلِ إلَى الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِأَوْلَى مِنْ نَقْلِهِ إلَى الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَالْعَيْنِ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَعْوَى فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَِبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا تَنَاقُضٌ طَرِيفٌ; وَهُوَ، أَنَّهُ قَالَ فِي شَرِيكَيْنِ فِي ثَمَانِينَ شَاةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا: إنَّ عَلَيْهِمَا شَاتَيْنِ بَيْنَهُمَا; وَأَصَابَ فِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ فِي ثَمَانِينَ شَاةً لِرَجُلٍ وَاحِدٍ نِصْفُهَا وَنِصْفُهَا الثَّانِي لاَِرْبَعَيْنِ رَجُلاً: إنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهَا أَصْلاً, لاَ عَلَى الَّذِي يَمْلِكُ نِصْفَهَا, وَلاَ عَلَى الآخَرِينَ; وَاحْتَجَّ فِي إسْقَاطِهِ الزَّكَاةَ، عَنْ صَاحِبِ الأَرْبَعِينَ بِأَنَّ تِلْكَ الَّتِي بَيْنَ اثْنَيْنِ يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا وَهَذِهِ لاَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا.
فَجَمَعَ كَلاَمُهُ هَذَا: أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ مِنْ فَاحِشِ الْخَطَأِ!
أَحَدُهَا إسْقَاطُهُ الزَّكَاةَ، عَنْ مَالِكِ أَرْبَعِينَ شَاةً هَاهُنَا.
وَالثَّانِي إيجَابُهُ الزَّكَاةَ عَلَى مَالِكِ أَرْبَعِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ الآُخْرَى; فَفَرَّقَ بِلاَ دَلِيلٍ.
وَالثَّالِثُ احْتِجَاجُهُ فِي إسْقَاطِهِ الزَّكَاةَ هُنَا بِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُمْكِنُ هُنَالِكَ: وَلاَ تُمْكِنُ هَاهُنَا; فَكَانَ هَذَا عَجَبًا وَمَا نَدْرِي لِلْقِسْمَةِ وَإِمْكَانِهَا. أَوْ تَعَذُّرِ إمْكَانِهَا مَدْخَلاً فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الزَّكَاةِ؟!!
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ الْبَاطِلَ; بَلْ إنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ هُنَالِكَ مُمْكِنَةً فَهِيَ هَاهُنَا مُمْكِنَةٌ, وَإِنْ كَانَتْ هَاهُنَا مُتَعَذِّرَةً فَهِيَ هُنَالِكَ مُتَعَذِّرَةٌ; فَاعْجَبُوا لِقَوْمٍ هَذَا مِقْدَارُ فَهْمِهِمْ.
قال أبو محمد: فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ الزَّكَاةَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي الْمَاشِيَةِ إذَا مَلَكَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فِي حِصَّتِهِ, وَتُوجِبُونَهَا عَلَى الشَّرِيكَيْنِ فِي الرَّقِيقِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ, وَتَقُولُونَ فِيمَنْ لَهُ نِصْفُ عَبْدٍ مَعَ آخَرَ وَنِصْفُ عَبْدٍ آخَرَ مَعَ آخَرَ, فَأَعْتَقَ النِّصْفَيْنِ: إنَّهُ لاَ يُجْزِئَانِهِ، عَنْ

(6/58)


رَقَبَةٍ وَاجِبَةٍ; وَمَنْ لَهُ نِصْفُ شَاةٍ مَعَ إنْسَانٍ, وَنِصْفُ شَاةٍ أُخْرَى مَعَ آخَرَ فَذَبَحَهُمَا: إنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، عَنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ فَكَيْفَ هَذَا.
قلنا: نَعَمْ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَعَبْدِهِ صَدَقَةٌ إلاَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ". فَقُلْنَا بِعُمُومِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ. وَقَالَ عليه السلام: "كُلُّ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ". فَقُلْنَا بِذَلِكَ, وَأَوْجَبَ رَقَبَةً وَهَدْيَ شَاةٍ، وَلاَ يُسَمَّى نِصْفَا عَبْدَيْنِ: رَقَبَةً; ، وَلاَ نِصْفَا شَاةٍ: شَاةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/59)


زكاة الفضة
لا زكاة في الفضة مضروبة كانت أو مصوغة أو نقارا أو غير ذلك حتى تبلغ خمسة أواقي فضة محضة
...
زَكَاةُ الْفِضَّةِ
682 - مَسْأَلَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِي الْفِضَّةِ مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَوْ مَصُوغَةً أَوْ نِقَارًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقِيَ فِضَّةٍ مَحْضَةٍ;
لاَ يُعَدُّ فِي هَذَا الْوَزْنِ شَيْءٌ يُخَالِطُهَا مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا أَتَمَّتْ كَذَلِكَ سَنَةً قَمَرِيَّةً مُتَّصِلَةً فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ مَكَّةَ, وَالْخَمْسُ أَوَاقِي هِيَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ مَكَّةَ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ زَكَاةِ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ, فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَأَتَمَّتْ بِزِيَادَتِهَا سَنَةً قَمَرِيَّةً فَفِيمَا زَادَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ رُبْعُ عُشْرِهَا, وَهَكَذَا كُلُّ سَنَةٍ, فَإِنْ نَقَصَ مِنْ وَزْنِ الأَوَاقِي الْمَذْكُورَةِ وَلَوْ فَلْسٌ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا.
وَإِنْ كَانَ فِيهَا خَلْطٌ; فَإِنْ غَيَّرَ الْخَلْطُ شَيْئًا مِنْ لَوْنِ الْفِضَّةِ أَوْ مَحَكِّهَا أَوْ رَزَانَتِهَا أُسْقِطَ ذَلِكَ الْخَلْطُ فَلَمْ يُعَدَّ; فَإِنْ بَقِيَ فِي الْفِضَّةِ الْمَحْضَةِ خَمْسُ أَوَاقِيَ زُكِّيَتْ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنْ كَانَ الْخَلْطُ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْفِضَّةِ زُكِّيَتْ بِوَزْنِهَا.
وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إلاَّ ثَلاَثَةَ مَوَاضِعَ; نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ مَالِكٌ: إنْ نَقَصَتْ الْمِائَتَا دِرْهَمٍ نُقْصَانًا تَجُوزُ بِهِ جَوَازَ الْوَزْنَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: إنْ نَقَصَتْ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, وَإِنْ نَقَصَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ.
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَالشَّافِعِيِّ.

(6/59)


وقال أبو حنيفة فِي نُقْصَانِ الْوَزْنِ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا, وَاضْطَرَبَ فِي الْخَلْطِ يَكُونُ فِيهَا.
وقال مالك: إنْ كَانَ فِي الدَّرَاهِمِ خَلْطٌ زُكِّيَتْ بِوَزْنِهَا كُلِّهَا.
وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, كَمَا قلنا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُسَدَّدُ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا مَالِكٌ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ", وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ، وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيٌّ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَيْءٌ".
قال أبو محمد: فَمَنَعَ عليه السلام مِنْ أَنْ يَجِبَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ, فَإِذَا نَقَصَتْ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ فِيهَا, وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا خَلْطٌ يَبْلُغُ أَزْيَدَ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ, وَسَقَطَ كُلُّ قَوْلٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ. وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُغَيِّرْ الْخَلْطُ شَيْئًا مِنْ حُدُودِ الْفِضَّةِ وَصِفَاتِهَا فَهُوَ فِضَّةٌ, كَالْخَلْطِ يَكُونُ فِي الْمَاءِ لاَ يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُغَيِّرْ مَا صَارَ فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ.
فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَاصِمِ الأَحْوَلِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى: فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ, وَمَكْحُولٍ, وَعَطَاءٍ, وَطَاوُوسٍ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالأَوْزَاعِيُّ.

(6/60)


وَحدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ; فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ.
وَبِهِ إلَى مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِالْحِسَابِ.
وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ, وَوَكِيعٍ. وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي لَيْلَى, وَمَالِكٍ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِحَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ الْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ كَذَّابٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ نَجِيحٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا, إذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ, وَلاَ يَأْخُذُ مِمَّا زَادَ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا".
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْجَزَرِيِّ وَهُوَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ بِإِجْمَاعٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ".
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَهُوَ سَاقِطٌ مَطْرُوحٌ بِإِجْمَاعٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لَهُ: "يَا عَلِيُّ, أَمَا عَلِمْتَ أَنِّي عَفَوْتُ، عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ, وَالرَّقِيقِ, فأما الْبَقَرُ وَالإِبِلُ وَالشَّاءُ فَلاَ, وَلَكِنْ هَاتُوا رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ; وَلَيْسَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَيْءٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ, فَإِذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ".
وَبِمَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامُ قَالَ: حدثنا عَبَّاسٌ، حدثنا ابْنُ أَيْمَنَ أَنَا مُطَّلِبُ بْنُ شُعَيْبٍ الْمِصْرِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي الصَّدَقَةِ نُسْخَةَ كِتَابِ

(6/61)


رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا فَذَكَرَ صَدَقَةَ الإِبِلِ, فَقَالَ: "فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً", ثُمَّ قَالَ: "لَيْسَ فِي الْوَرِقِ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, ثُمَّ فِي أَرْبَعِينَ زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ دِرْهَمٌ".
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حدثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ سَمِعْت الزُّهْرِيَّ قَالَ: هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا, وَهِيَ الَّتِي نَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ أُمِّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ, فَأَمَرَ عُمَّالَهُ بِالْعَمَلِ بِهَا, فَذَكَرَ فِيهَا صَدَقَةَ الإِبِلِ, وَفِيهَا: "فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ, حَتَّى تَبْلُغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَلاَثِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً, فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَابْنَةُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ خَمْسِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَخَمْسِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ وَمِائَةً فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسِتِّينَ وَمِائَةً, فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ وَثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَابْنَتَا لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَابْنَةُ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَمِائَةً; فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ, أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ: أَيُّ السِّنِينَ وُجِدَتْ فِيهَا أُخِذَتْ", وَذَكَرَ صَدَقَةَ الْغَنَمِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: "وَلَيْسَ فِي الرِّقَةِ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ". ثُمَّ قَالَ: "فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ دِرْهَمٌ; وَلَيْسَ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ; فَإِذَا بَلَغَ صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, ثُمَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا يَبْلُغُ صَرْفُهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا فَفِيهَا دِينَارٌ, ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ فَفِي كُلِّ صَرْفِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ

(6/62)


أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ عَفَوْتُ، عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ, فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَّةِ, مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ".
هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ, قَدْ تَقَصَّيْنَاهُ1 لَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَقَصَّوْنَهُ لاَِنْفُسِهِمْ وَاحْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّتْ الزَّكَاةُ فِي الأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ بِإِجْمَاعٍ; وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَبَيْنَ الأَرْبَعِينَ, فَلاَ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ بِاخْتِلاَفٍ.
وَقَالُوا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ: لَمَّا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ لَهَا نِصَابٌ لاَ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ أَقَلَّ مِنْهُ, وَكَانَتْ الزَّكَاةُ تَتَكَرَّرُ فِيهَا كُلَّ عَامٍ: أَشْبَهَتْ الْمَوَاشِيَ; فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَوْقَاصٌ كَمَا فِي الْمَوَاشِي وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَاسَ عَلَى الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ; لإِنَّ الزَّكَاةَ هُنَالِكَ مَرَّةٌ فِي الدَّهْرِ لاَ تَتَكَرَّرُ, بِخِلاَفِ الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ.
هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ نَظَرٍ وَقِيَاسٍ.
وَكُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ; بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ, عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَسَاقِطٌ مُطْرَحٌ; لاَِنَّهُ، عَنْ كَذَّابٍ وَاضِعٍ لِلأَحَادِيثِ, عَنْ مَجْهُولٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ حَزْمٍ فَصَحِيفَةٌ مُرْسَلَةٌ; ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ; وَأَيْضًا فَإِنَّهَا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْجَزَرِيِّ, وَهُوَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ كَانَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ" زَائِدًا عَلَى هَذَا الْخَبَرِ, وَالزِّيَادَةُ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إلاَّ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا فَقَطْ; وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ زَكَاةَ فِيمَا بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَبَيْنَ الأَرْبَعِينَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَسَاقِطٌ, لِلاِتِّفَاقِ عَلَى سُقُوطِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ.
وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا قَدْ خَالَفُوهُ; فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ, وَفِي الْخَيْلِ, وَالرَّقِيقِ الْمُتَّخَذِينَ لِلتِّجَارَةِ, وَفِي هَذَا الْخَبَرِ سُقُوطُ الزَّكَاةِ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ جُمْلَةً, فَمَنْ أَقْبَحُ سِيرَةً مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَا يَدَّعِي; وَهُوَ يُخَالِفُهُ فِي نَصِّ مَا فِيهِ؟!
وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ قَوْلُهُ عليه السلام: "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ", زَائِدًا, وَالزِّيَادَةُ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ فَمُرْسَلٌ أَيْضًا, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ; وَاَلَّذِي فِيهِ مِنْ حُكْمِ زَكَاةِ الْوَرِقِ, وَالذَّهَبِ2 فَإِنَّمَا هُوَ كَلاَمُ الزُّهْرِيِّ, كَمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "14" تقصيناها.
2 في النسخة رقم "14" "من حكم الزكاة الورق والذهب".

(6/63)


وَالْعَجَبُ كُلَّ الْعَجَبِ تَرْكُهُمْ مَا فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي رَوَاهَا الزُّهْرِيُّ نَصًّا مِنْ صِفَةِ زَكَاةِ الإِبِلِ. وَاحْتِجَاجُهُمْ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا وَخَالَفُوا الزُّهْرِيَّ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ زَكَاةِ الذَّهَبِ بِالْقِيمَةِ وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّيَانَةِ وَبِالْحَقَائِقِ وَبِالْعُقُولِ!
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ الَّذِي خَتَمْنَا بِهِ فَصَحِيحٌ مُسْنَدٌ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ, لإِنَّ فِيهِ: "قَدْ عَفَوْتُ، عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ", وَهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ, وَاَلَّتِي لِلتِّجَارَةِ, وَفِي الرَّقِيقِ الَّذِي لِلتِّجَارَةِ. وَمِنْ الشَّنَاعَةِ احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثٍ هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فِي نَصِّ مَا فِيهِ.
وَلاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى مَا يَقُولُونَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصَّهُ: "هَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ". وَنَعَمْ, هَكَذَا هُوَ; لإِنَّ فِي الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعِينَ مُكَرَّرَةً خَمْسَ مَرَّاتٍ, فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ أَنَّ فِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا زَائِدًا دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ، عَنْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ زَائِدَةً عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ.
وَأَيْضًا فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا ثُمَّ خَالَفَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ. كَمَا ادَّعَوْا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالزَّكَاةُ فِيهِ بِحِسَابِ الْمِائَتَيْنِ, فَلَوْ كَانَ فِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَمَّا بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَالأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ لَكَانَ قَوْلُ عَلِيٍّ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمَا مُسْقِطًا لِمَا رَوَى مِنْ ذَلِكَ وَالْقَوْمُ مُتَلاَعِبُونَ!
قال أبو محمد: فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ, وَعَادَتْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قَدْ صَحَّتْ الزَّكَاةُ فِي الأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ بِإِجْمَاعٍ, وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ الأَرْبَعِينَ, فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا بِاخْتِلاَفٍ: فَإِنَّ هَذَا كَانَ يَكُونُ احْتِجَاجًا صَحِيحًا لَوْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ, وَلَكِنَّ هَذَا الاِسْتِدْلاَلَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ فِي زَكَاةِ الْخَيْلِ وَزَكَاةِ الْبَقَرِ وَمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ وَالْحُلِيُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ, وَيَهْدِمُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مَذَاهِبِهِمْ.

(6/64)


وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ زَكَاةَ الْعَيْنِ عَلَى زَكَاةِ الْمَوَاشِي بِعِلَّةِ تَكَرُّرِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ كُلَّ عَامٍ بِخِلاَفِ زَكَاةِ الزَّرْعِ: فَقِيَاسٌ فَاسِدٌ; بَلْ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ قِيَاسُ الْعَيْنِ عَلَى الزَّرْعِ أَوْلَى لإِنَّ الْمَوَاشِيَ حَيَوَانٌ, وَالْعَيْنُ, وَالزَّرْعُ, وَالتَّمْرُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيَوَانًا, فَقِيَاسُ زَكَاةِ مَا لَيْسَ حَيًّا عَلَى زَكَاةِ مَا لَيْسَ حَيًّا أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ مَا لَيْسَ حَيًّا عَلَى حُكْمِ الْحَيِّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الزَّرْعَ, وَالتَّمْرَ, وَالْعَيْنَ كُلَّهَا خَارِجٌ مِنْ الأَرْضِ, وَلَيْسَ الْمَاشِيَةُ كَذَلِكَ, فَقِيَاسُ مَا خَرَجَ مِنْ الأَرْضِ عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ الأَرْضِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الأَرْضِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا وَقْصَ الْوَرِقِ تِسْعَةً وَثَلاَثِينَ دِرْهَمًا, وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَقْصٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ; فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ.
ُثمَّ وَجَدْنَا الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ لاَ تَصِحُّ, لاَِنَّهَا، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُمَرَ, وَالْحَسَنُ لَمْ يُولَدْ إلاَّ لِسَنَتَيْنِ بَاقِيَتَيْنِ مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ; فَبَقِيَتْ الرِّوَايَةُ، عَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِمِثْلِ قَوْلِنَا, وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، خِلاَفٌ لِذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَإِذْ لَمْ يَبْقَ لاَِهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلِّقٌ نَظَرْنَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي.
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: "بسم الله الرحمن الرحيم, هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ عُشْرِهَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ, إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا".
فَأَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّدَقَةَ فِي الرَّقَبَةِ, وَهِيَ الْوَرِقُ, رُبْعُ الْعُشْرِ عُمُومًا لَمْ يَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلاَّ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ; فَبَقِيَ مَا زَادَ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ; فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهُ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/65)


زكاة الذهب
لا زكاة في أقل من أربعين مثقالا من الذهب
...
زَكَاةُ الذَّهَبِ
683 - مَسْأَلَةٌ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً
مِنْ الذَّهَبِ الصِّرْفِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُ شَيْءٌ بِوَزْنِ مَكَّةَ, سَوَاءٌ: مَسْكُوكُهُ, وَحُلِيُّهُ, وَنِقَارُهُ وَمَصُوغُهُ, فَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً كَمَا ذَكَرْنَا وَأَتَمَّ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ عَامًا قَمَرِيًّا مُتَّصِلاً فَفِيهِ رُبْعُ عُشْرِهِ, وَهُوَ مِثْقَالٌ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ عَامٍ, وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَتَمَّ أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً أُخْرَى وَبَقِيَتْ عَامًا كَامِلاً دِينَارٌ آخَرُ, وَهَكَذَا أَبَدًا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا زَائِدَةً دِينَارٌ, وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ زَائِدٌ حَتَّى تَتِمَّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا.
فَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ خُلِطَ لَمْ يُغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ رَزَانَتُهُ أَوْ حَدُّهُ سَقَطَ حُكْمُ الْخَلْطِ; فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَقِيَ الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ زُكِّيَ. وَإِلاَّ فَلاَ. فَإِنْ نَقَصَ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ, وَفِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا اخْتِلاَفٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ جُمْهُورُ النَّاسِ: بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا لاَ أَقَلَّ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِمَّا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: كَتَبَ إلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اُنْظُرْ مَنْ مَرَّ بِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَخُذْ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِمَّا يُدِيرُونَ فِي التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا, وَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ, حَتَّى تَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا; فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا.
قال أبو محمد: فَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرَى فِي الذَّهَبِ أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ وَإِنْ نَقَصَتْ; فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَلاَ صَدَقَةَ فِيهَا.
وقال مالك: إنْ نَقَصَتْ نُقْصَانًا تَجُوزُ بِهِ جَوَازَ الْمُوَازَنَةِ زُكِّيَتْ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَقَالَ: إنْ كَانَ فِي الدَّنَانِيرِ الذَّهَبِ وَحُلِيِّ الذَّهَبِ خَلْطٌ زَكَّى الدَّنَانِيرَ بِوَزْنِهَا

(6/66)


وقال الشافعي: لاَ يُزَكَّى إلاَّ مَا فَضَلَ، عَنِ الْخَلْطِ مِنْ الذَّهَبِ الْمَحْضِ, وَلاَ يُزَكَّى مَا نَقَصَ، عَنْ عِشْرِينَ دِينَارًا; ، وَلاَ بِمَا كَثُرَ.
وقال أبو حنيفة, وَغَيْرُهُ: الزَّكَاةُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ, فَإِنْ زَادَتْ فَلاَ صَدَقَةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ الزِّيَادَةُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ, فَإِذَا زَادَتْ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَفِيهَا رُبْعُ عُشْرِهَا, وَهَكَذَا أَبَدًا.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ: مَا زَادَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَفِيهِ رُبْعُ عُشْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تَبْلُغَ الزِّيَادَةُ عِشْرِينَ دِينَارًا وَهَكَذَا أَبَدًا.
وَرُوِّينَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الذَّهَبِ بِالْقِيمَةِ, كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حدثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ قَالَ: سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, فَإِذَا بَلَغَ صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, ثُمَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا يَبْلُغُ صَرْفُهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا, فَفِيهَا دِينَارٌ, ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ فَفِي صَرْفِ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ, وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: لاَ يَكُونُ فِي مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا; فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ, ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ يَزِيدُهَا الْمَالُ دِرْهَمٌ, حَتَّى يَبْلُغَ الْمَالُ أَرْبَعِينَ دِينَارًا, فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا وَالصَّرْفُ اثْنَا عَشَرَ أَوْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ بِدِينَارٍ, فِيهَا صَدَقَةٌ. قَالَ: نَعَمْ, إذَا كَانَتْ لَوْ صُرِفَتْ بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ; إنَّمَا كَانَتْ إذْ ذَلِكَ الْوَرِقَ وَلَمْ يَكُنْ ذَهَبٌ.
وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنْ لاَ زَكَاةَ فِي الذَّهَبِ إلاَّ بِقِيمَةِ مَا يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا مِنْ الْوَرِقِ: سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ الْوَاشِحِيُّ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ ذَهَبٌ: فَخَطَأٌ, كَيْفَ هَذَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وَالأَخْبَارُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَوْنِ الذَّهَبِ عِنْدَهُمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا, كَقَوْلِهِ عليه السلام:

(6/67)


"الذَّهَبُ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلاَلٌ لاِِنَاثِهَا" وَاتِّخَاذُهُ عليه السلام خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ رَمَى بِهِ, وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ بِقِيمَةِ الْفِضَّةِ قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ، وَلاَ نَظَرٍ; فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرْنَا هَلْ صَحَّ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ أَمْ لاَ؟
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامُ قَالَ: حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ; وَفِيهِ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ لَمْ يُؤَدِّ مَا فِيهَا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَوُضِعَتْ عَلَى جَنْبِهِ وَظَهْرِهِ وَجَبْهَتِهِ, حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ, ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ".
فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ, فَوَجَبَ طَلَبُ الْوَاجِبِ فِي الذَّهَبِ الَّذِي مَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ عُذِّبَ هَذَا الْعَذَابَ الْفَظِيعَ, نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ, بَعْدَ الإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ الْمَقْطُوعِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُرِدْ كُلَّ عَدَدٍ مِنْ الذَّهَبِ, وَلاَ كُلَّ وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ, وَأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي عَدَدٍ مَعْدُودٍ, وَفِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ, فَوَجَبَ فَرْضًا طَلَبُ ذَلِكَ الْعَدَدِ وَذَلِكَ الْوَقْتِ.
فَوَجَدْنَا مَنْ حَدَّ فِي ذَلِكَ عِشْرِينَ دِينَارًا احْتَجَّ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَآخَرُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ, وَالْحَارِثِ الأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ كَلاَمًا, وَفِيهِ: "وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ- يَعْنِي فِي الذَّهَبِ- لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا فَإِذَا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ, فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ". قَالَ: لاَ أَدْرِي, أَعَلِيٌّ يَقُولُ "بِحِسَابِ ذَلِك" أَوْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ".

(6/68)


وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنْ الذَّهَبِ، وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هُرْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي كِتَابِ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ: "أَنَّ الذَّهَبَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا, فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِيهِ نِصْفُ دِينَارٍ".
وَذُكِرَ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا الزَّكَاةَ".
قال علي: هذا كُلُّ مَا ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا عَمَّنْ دُونَهُ عليه السلام فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: وَلاَّنِي عُمَرُ الصَّدَقَاتِ, فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ, فَمَا زَادَ فَبَلَغَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَفِيهِ دِرْهَمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ: حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا شَيْءٌ, وَفِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ, وَفِي أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانَ لاِمْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ طَوْقٌ فِيهِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً فَأَمَرَهَا أَنْ تُخْرِجَ عَنْهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: فِي عِشْرِينَ مِثْقَالاً نِصْفُ مِثْقَالٍ; وَفِي أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً مِثْقَالٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ: حدثنا هُشَيْمٌ, وَالْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ هُشَيْمٌ: أَنَا مَنْصُورٌ, وَمُغِيرَةُ, قَالَ مَنْصُورٌ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَقَالَ مُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ: عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ, ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ, وَابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ; قَالُوا

(6/69)


كُلُّهُمْ: فِي عِشْرِينَ دِينَارًا, وَفِي أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَكَمِ، هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي عِشْرِينَ دِينَارًا زَكَاةً حَتَّى تَكُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالاً, فَيَكُونُ فِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، عَنْ عَطَاءٍ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَذَكَرْنَا رُجُوعَ عَطَاءٍ، عَنْ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
فأما كُلُّ مَا ذَكَرُوا فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ صَحَّ لَمَا اسْتَحْلَلْنَا خِلاَفَهُ; وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ فَإِنَّ ابْنَ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَرَنَ فِيهِ بَيْنَ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَبَيْنَ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ, وَالْحَارِثُ كَذَّابٌ, وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا, وَهُوَ أَنَّ الْحَارِثَ أَسْنَدَهُ وَعَاصِمٌ لَمْ يُسْنِدْهُ, فَجَمَعَهُمَا جَرِيرٌ, وَأَدْخَلَ حَدِيثَ أَحَدِهِمَا فِي الآخَرِ. وَقَدْ رَوَاهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيٍّ: شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ, وَمَعْمَرُ, فَأَوْقَفُوهُ عَلَى عَلِيٍّ, وَهَكَذَا كُلُّ ثِقَةٍ رَوَاهُ، عَنْ عَاصِمٍ.
وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ الْحَارِثِ, وَعَاصِمٍ: زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَشَكَّ فِيهِ. كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، حدثنا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ, وَعَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ. قَالَ زُهَيْرٌ: أَحْسَبُهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ صَدَقَةَ الْوَرِقِ: "إذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ", فَمَا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ". وَقَالَ فِي الْبَقَرِ: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ, وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ". وَقَالَ فِي الإِبِلِ: "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسٌ مِنْ الْغَنَمِ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ". قَالَ زُهَيْرٌ: وَفِي حَدِيثِ عَاصِمٍ: "إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلاَ ابْنُ لَبُونٍ فَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَانِ".
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَدِيثُ مَالِكٍ; وَلَوْ أَنَّ جَرِيرًا أَسْنَدَهُ، عَنْ عَاصِمٍ وَحْدَهُ لاََخَذْنَا بِهِ; لَكِنْ لَمْ يُسْنِدْهُ إلاَّ عَنِ الْحَارِثِ مَعَهُ, وَلَمْ يَصِحَّ لَنَا إسْنَادُهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ, ثُمَّ لَمَّا شَكَّ

(6/70)


زُهَيْرٌ فِيهِ بَطَلَ إسْنَادُهُ.
ثُمَّ يَلْزَمُ مَنْ صَحَّحَهُ أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا فِيهِ, وَلَيْسَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لَنَا طَائِفَةٌ إلاَّ وَهِيَ تُخَالِفُ مَا فِيهِ, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا فِي الْخَبَرِ حُجَّةً وَبَعْضُهُ غَيْرَ حُجَّةٍ; فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
أَمَّا خَبَرُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَالْحَسَنُ مُطْرَحٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ فَصَحِيفَةٌ مُرْسَلَةٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ.
فَإِنْ لَجُّوا عَلَى عَادَاتِهِمْ وَصَحَّحُوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ إذَا وَافَقَهُمْ فَلْيَسْتَمِعُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجُوزُ لاِمْرَأَةٍ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ1 الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجُوزُ لاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام: "أَنَّهُ قَضَى فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا بِثُلُثِ الدِّيَةِ".
وَعَنْ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "كانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ ثَمَانِيَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ, وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ, وَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى اُسْتُحْلِفَ عُمَرُ, فَقَامَ خَطِيبًا فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ, وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ, وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ, وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ, وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ, وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنْ الدِّيَةِ".
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ خَطَأً فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ, ثَلاَثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ, وَثَلاَثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرٍ, وَعِشْرُونَ حِقَّةً, وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ يَعْنِي فِي الدِّيَةِ وَمَنْ كَانَتْ دِيَتُهُ فِي الشَّاءِ فَأَلْفَا شَاةٍ".
وَكُلُّ هَذَا فَجَمِيعُ الْحَنَفِيَّةِ, وَالْمَالِكِيَّةِ, وَالشَّافِعِيَّةِ: مُخَالِفُونَ لاَِكْثَرِهِ, وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَزِيدَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ لاََمْكَنَ ذَلِكَ, وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "حسن" وهو خطأ.

(6/71)


وَلاَ أَرَقُّ دِينًا مِمَّنْ يُوَثِّقُ رِوَايَةً إذَا وَافَقَتْ هَوَاهُ, وَيُوهِنُهَا إذَا خَالَفَتْ هَوَاهُ فَمَا يَتَمَسَّكُ فَاعِلُ هَذَا مِنْ الدِّينِ إلاَّ بِالتَّلاَعُبِ وَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ مُرْسَلٌ وَعَنْ مَجْهُولٍ أَيْضًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ مَجْهُولٌ.
فَسَقَطَ كُلُّ مَا فِي هَذَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَلاَ يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ, لإِنَّ رَاوِيَهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ, وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ هَذَا; وَكُلُّهُمْ يُخَالِفُونَهُ.
كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَمَعْمَرٍ قَالَ هِشَامٌ: عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ, وَقَالَ سُفْيَانُ, وَمَعْمَرُ: عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ, ثُمَّ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: بَعَثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الأَبِلَةِ فَأَخْرَجَ إلَيَّ كِتَابًا مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ "خُذْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَمِمَّنْ لاَ ذِمَّةَ لَهُ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ دِرْهَمًا".
فَهَذَا أَنَسٌ, وَعُمَرُ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ يُمْكِنُ; فَإِنْ تَأَوَّلُوا فِيهِ تَأْوِيلاً يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ فَمَا هُمْ بِأَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيمَا يَحْتَجُّونَ بِهِ, وَمَا يَعْجِزُ أَحَدٌ، عَنْ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ فِي الْعِشْرِينَ دِينَارًا بِنِصْفِ دِينَارٍ كَمَا أَمَرَ فِي الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ: إذَا طَابَتْ نَفْسُ مَالِكِ كُلِّ ذَلِكَ بِهِ, وَإِلاَّ فَلاَ!!
وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمُرْسَلٌ; ، وَلاَ يَأْخُذُ بِهِ الْمَالِكِيُّونَ, وَلاَ الشَّافِعِيُّونَ, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ حُجَّةً فِي بَعْضِ حُكْمِهِ ذَلِكَ، وَلاَ يَكُونُ حُجَّةً فِي بَعْضِهِ, وَالْمُسَامَحَةُ فِي الدِّينِ هَلاَكٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ فَهُوَ صَحِيحٌ, وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ نَفْسِهَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً قَدْ ذَكَرْنَاهَا: مِنْهَا: فِي كُلِّ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ خَمْسًا مِنْ الْغَنَمِ, وَكُلُّهُمْ مُخَالِفٌ لِهَذَا. وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عَلِيٍّ حُجَّةً فِي مَكَان غَيْرَ حُجَّةٍ فِي آخَرَ.
فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.

(6/72)


ثُمَّ حَتَّى لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الآثَارُ كُلُّهَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهَا; لإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ: إنْ كَانَتْ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ فَفِيهَا الصَّدَقَةُ, وَكُلُّ هَذِهِ الآثَارِ تُبْطِلُ الزَّكَاةَ، عَنْ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا; وَهُمْ يُوجِبُونَهَا فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا; فَصَارَتْ كُلُّهَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ, وَعَادَ مَا صَحَّحُوا مِنْ ذَلِكَ قَاطِعًا بِهِمْ أَقْبَحَ قَطْعٍ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَالْمَالِكِيُّونَ: يُوجِبُونَهَا فِي عِشْرِينَ دِينَارًا نَاقِصَةً إذَا جَازَتْ جَوَازَ الْمُوَازَنَةِ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا كَمَا ذَكَرْنَا, وَصَحَّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَعَطَاءٍ أَنَّهُ لاَ يُزَكَّى مِنْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إلاَّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا, لاَ أَقَلَّ; ثُمَّ كَذَلِكَ إذَا زَادَتْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا, وَرَأَوْا الزَّكَاةَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ وَمَا بَيْنَ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ بَعْدَهَا الْقِيمَةُ; وَكَانَتْ الْقِيمَةُ قَوْلاً لاَ يُوجِبُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ دَلِيلٌ أَصْلاً; فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَقَدْ حدثنا حمام، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحُمْرَانِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا شَيْءٌ.
قال أبو محمد: فَصَحَّتْ الزَّكَاةُ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ الذَّهَبِ ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ زَائِدَةً: بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ فِيمَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الشَّرَائِعُ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ إلاَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَيْسَ إلاَّ هَذَا الْقَوْلُ, أَوْ قَوْلُ مَنْ قَالَ: قَدْ صَحَّ أَنَّ فِي الذَّهَبِ زَكَاةً بِالنَّصِّ الثَّابِتِ; فَالْوَاجِبُ أَنْ يُزَكَّى كُلُّ ذَهَبٍ, إلاَّ ذَهَبًا صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى إسْقَاطِ زَكَاتِهَا فَمَنْ قَالَ هَذَا: فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ كُلَّ مَا دُونَ الْعِشْرِينَ بِالْقِيمَةِ, وَأَنْ يُزَكِّيَ حُلِيَّ الذَّهَبِ, وَأَنْ يُزَكِّيَ كُلَّ ذَهَبٍ حِينَ يَمْلِكُهُ مَالِكُهُ فَكُلُّ هَذَا قَدْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَجَلُّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: وَلَمْ نَقُلْ بِهَذَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُنْسَبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ إلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قول إلاَّ بِيَقِينِ نَقْلٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ الإِثْبَاتِ أَوْ بِنَقْلِ تَوَاتُرٍ أَوْ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَحْوَالِ مَوْجُودًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ وَقَدْ قلنا: إنَّ الإِجْمَاعَ قَدْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْ الذَّهَبِ, وَلاَ فِي كُلِّ

(6/73)


وَقْتٍ مِنْ الدَّهْرِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَمَا تَعَلَّقَ بِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،; لإِنَّ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنَّهُ يُزَكَّى بِالدَّرَاهِمِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تَزْكِيَةُ الذَّهَبِ بِالدَّرَاهِمِ, وَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ, وَعَطَاءٍ, وَمَا وَجَدْنَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّ الْوَقْصَ فِي الذَّهَبِ يُزَكَّى بِالذَّهَبِ فَخَرَجَ قَوْلُهُ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَلَفٌ.
وَنَسْأَلُهُمْ أَيْضًا: مِنْ أَيْنَ جَعَلْتُمْ الْوَقْصَ فِي الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَلَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ الَّتِي احْتَجَجْتُمْ بِهَا; بَلْ الأَثَرُ الَّذِي رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بأن مَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنَّهُ يُزَكَّى بِالْحِسَابِ; وَإِنَّمَا جَاءَ، عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ لاَ يَصِحُّ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفْتُمُوهُ, وَرَأَيْتُمْ تَزْكِيَتَهُ بِالذَّهَبِ وَرَآهُ هُوَ بِالْوَرِقِ بِالْقِيمَةِ, وَقَدْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ, وَابْنُ عُمَرَ بِرِوَايَةٍ أَصَحَّ مِنْ الرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ.
فَلاَ مَلْجَأَ لَهُمْ إلاَّ أَنْ يَقُولُوا: قِسْنَاهُ عَلَى الْفِضَّةِ.
قَوْلُ عَلِيٍّ: وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ قِيَاسًا لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ وَعَلَى أَصْلٍ غَيْرِ صَحِيحٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ مِنْ أَنَّ كُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِإِزَاءِ دِينَارٍ, وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ قَالُوهُ فِي الزَّكَاةِ, وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَالدِّيَةِ, وَالصَّدَاقِ, وَكُلُّ ذَلِكَ خَطَأٌ مِنْهُمْ, لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ صَحِيحًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; إذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ لاَ يُزَكَّى الذَّهَبُ إلاَّ حَتَّى يُتِمَّ عِنْدَ مَالِكِهِ حَوْلاً كَمَا قَدَّمْنَا.
ثُمَّ اسْتَدْرَكْنَا فَرَأَيْنَا أَنَّ حَدِيثَ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ، وَأَنَّ الاِعْتِلاَلَ فِيهِ بِأَنَّ عَاصِمَ بْنَ ضَمْرَةَ, أَوْ أَبَا إِسْحَاقَ, أَوْ جَرِيرًا خَلَطَ إسْنَادَ الْحَارِثِ بِإِرْسَالِ عَاصِمٍ: هُوَ الظَّنُّ الْبَاطِلُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ, وَمَا عَلَيْنَا مِنْ مُشَارَكَةِ الْحَارِثِ لِعَاصِمٍ, وَلاَ لاِِرْسَالِ مَنْ أَرْسَلَهُ; ، وَلاَ لِشَكِّ زُهَيْرٍ فِيهِ شَيْءٌ وَجَرِيرٌ ثِقَةٌ; فَالأَخْذُ بِمَا أَسْنَدَهُ لاَزِمٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/74)


الزكاة واجبة في حلي الفضة و الذهب إذا بلغ كل واحد منهما المقدار الذي ذكرنا و أتم عند مالكه عاما قمريا
...
684 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي حُلِيِّ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ إذَا بَلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِقْدَارَ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَتَمَّ عِنْدَ مَالِكِهِ عَامًا قَمَرِيًّا.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ، وَلاَ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا، عَنِ الآخَرِ، وَلاَ قِيمَتُهُمَا فِي عَرْضٍ أَصْلاً, وَسَوَاءٌ كَانَ حُلِيَّ امْرَأَةٍ أَوْ حُلِيَّ رَجُلٍ, وَكَذَلِكَ حِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَالْخَاتَمِ وَكُلِّ مَصُوغِ مِنْهُمَا حَلَّ اتِّخَاذُهُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ.
وقال أبو حنيفة: بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وقال مالك: إنْ كَانَ الْحُلِيُّ لاِمْرَأَةٍ تَلْبَسُهُ أَوْ تُكْرِيهِ أَوْ كَانَ لِرَجُلٍ يَعُدُّهُ لِنِسَائِهِ فَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ, فَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ يَعُدُّهُ لِنَفْسِهِ عِدَّةً فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى الرَّجُلِ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ, وَالْمِنْطَقَةِ, الْمُصْحَفِ, وَالْخَاتَمِ.
وقال الشافعي: لاَ زَكَاةَ فِي حُلِيِّ ذَهَبٍ, أَوْ فِضَّةٍ.
وَجَاءَ فِي ذَلِكَ، عَنِ السَّلَفِ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ إيجَابِهِ الزَّكَاةَ فِي حُلِيِّ امْرَأَتِهِ. وَهُوَ عَنْهُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِي، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لِي حُلِيٌّ فَقَالَ لَهَا: إذَا بَلَغَ مِائَتَيْنِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى: مُرْ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَأْمُرُ بِالزَّكَاةِ فِي حُلِيِّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ كُلَّ عَامٍ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لاَ بَأْسَ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ إذَا أُعْطِيت زَكَاتُهُ

(6/75)


وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ, وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَذَرٍّ الْهَمْدَانِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ, وَاسْتَحَبَّهُ الْحَسَنُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةَ.
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا كَانَ مِنْ حُلِيٍّ يُلْبَسُ وَيُعَارُ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ, وَمَا كَانَ مِنْ حُلِيٍّ اُتُّخِذَ لِيُحْرَزَ مِنْ الزَّكَاةِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنُ عُمَرَ: لاَ زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ.
وَهُوَ قَوْلُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ; وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ, وَهُوَ عَنْهُمَا صَحِيحٌ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ, وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ; وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ طَاوُوس, وَالْحَسَنِ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, فَمَرَّةً رَأَى فِيهِ الزَّكَاةَ, وَمَرَّةً لَمْ يَرَهَا.
قال أبو محمد: وَهُنَا قَوْلُ أَنَسٍ: إنَّ الزَّكَاةَ فِيهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ, ثُمَّ لاَ تَعُودُ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: أَنَّ حِلْيَةَ السَّيْفِ مِنْ الْكُنُوزِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ: لاَ زَكَاةَ فِي قَدَحٍ مُفَضَّضٍ، وَلاَ فِي مِنْطَقَةٍ مُحَلاَّةٍ، وَلاَ فِي سَيْفٍ مُحَلًّى.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمٌ غَيْرُ صَحِيحٍ, وَمَا عِلْمنَا ذَلِكَ التَّقْسِيمَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ تَقُومُ عَلَى صِحَّتِهِ حُجَّةٌ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا سَقَطَتْ، عَنِ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِلنِّسَاءِ لاَِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ, وَكَذَلِكَ، عَنِ الْمِنْطَقَةِ, وَالسَّيْفِ, وَحِلْيَةِ الْمُصْحَفِ, وَالْخَاتَمِ لِلرِّجَالِ.
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا الاِحْتِجَاجُ عَجَبًا وَلَقَدْ عَلِمَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ وَنِقَارَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: مُبَاحٌ اتِّخَاذُ كُلِّ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ تَسْقُطَ الزَّكَاةُ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ, إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً وَيَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ مَنْ

(6/76)


اتَّخَذَ مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ مِمَّا لَمْ يُبَحْ لَهُ اتِّخَاذُهُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الزَّكَاةُ عُقُوبَةً لَهُ, كَمَا أَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا اُتُّخِذَ مِنْهُ حُلِيٌّ مُبَاحٌ اتِّخَاذُهُ!!
فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ يُشْبِهُ مَتَاعَ الْبَيْتِ الَّذِي لاَ زَكَاةَ فِيهِ مِنْ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا.
قلنا لَهُمْ: فَأَسْقِطُوا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا إنْ صَحَّحْتُمُوهَا الزَّكَاةَ، عَنِ الإِبِلِ الْمُتَّخَذَةِ لِلرُّكُوبِ وَالسَّنِيِّ وَالْحَمْلِ وَالطَّحْنِ, وَعَنِ الْبَقَرِ الْمُتَّخَذَةِ لِلْحَرْثِ.
وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدُ, فَمَعَ فَسَادِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَتَنَاقُضِهَا, مِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ بِهَا وَمِنْ أَيْنَ صَحَّ لَكُمْ أَنَّ مَا أُبِيحَ اتِّخَاذُهُ مِنْ الْحُلِيِّ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ وَمَا هُوَ إلاَّ قَوْلُكُمْ جَعَلْتُمُوهُ حُجَّةً لِقَوْلِكُمْ، وَلاَ مَزِيدَ!
ثُمَّ أَيْنَ وَجَدْتُمْ إبَاحَةَ اتِّخَاذِ الْمِنْطَقَةِ الْمُحَلاَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْمُصْحَفِ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ دُونَ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ, وَالْمَهَامِيزِ الْمُحَلاَّةِ بِالْفِضَّةِ.
فَإِنْ ادَّعَوْا فِي ذَلِكَ رِوَايَةً، عَنِ السَّلَفِ ادَّعَوْا مَا لاَ يَجِدُونَهُ.
وَأَوْجَدْنَاهُمْ، عَنِ السَّلَفِ بِأَصَحِّ طَرِيقٍ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ, وَصُهَيْبٍ خَوَاتِيمَ ذَهَبٍ.
وَصَحَّ أَيْضًا، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. فَأَسْقِطُوا لِهَذَا الزَّكَاةَ، عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ; أَوْ قِيسُوا حِلْيَةَ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ عَلَى الْمِنْطَقَةِ وَالسَّيْفِ; وَإِلاَّ فَلاَ النُّصُوصَ اتَّبَعْتُمْ, وَلاَ الْقِيَاسَ اسْتَعْمَلْتُمْ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ فَفَاسِدٌ أَيْضًا, لاَِنَّهُ لاَ يَخْلُو حُلِيُّ النِّسَاءِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ لاَ تَكُونَ فِيهِ الزَّكَاةُ, فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَفِي كُلِّ حَالٍّ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ لاَ زَكَاةَ فِيهِ فَمَا عَلِمْنَا عَلَى مَنْ اتَّخَذَ مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ لِيُحْرِزَهُ مِنْ الزَّكَاةِ زَكَاةً وَلَوْ كَانَ هَذَا لَوَجَبَ عَلَى مَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمِهِ دَارًا أَوْ ضَيْعَةً لِيُحْرِزَهَا مِنْ الزَّكَاةِ أَنْ يُزَكِّيَهَا, وَهُوَ لاَ يَقُولُ بِهَذَا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالنَّمَاءِ. فَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ، عَنِ الْحُلِيِّ وَعَنِ الإِبِلِ; وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ غَيْرِ السَّوَائِمِ

(6/77)


قال أبو محمد: وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ نَظَرٌ صَحِيحٌ; وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الثِّمَارَ وَالْخُضَرَ تَنْمِي, وَهُوَ لاَ يَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا وَكِرَاءُ الإِبِلِ, وَعَمَلُ الْبَقَرِ يَنْمِي, وَهُوَ لاَ يَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا وَالدَّرَاهِمُ لاَ تَنْمِي إذَا بَقِيَتْ عِنْدَ مَالِكِهَا, وَهُوَ يَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا, وَالْحُلِيُّ يَنْمِي كِرَاؤُهُ وَقِيمَتُهُ, وَهُوَ لاَ يَرَى الزَّكَاةَ فِيهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ, وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ، عَنِ الْمُسْتَعْمَلَةِ مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ; وَهَذَا تَنَاقُضٌ.
وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنَّ الذَّهَبَ, وَالْفِضَّةَ قَبْلَ أَنْ يُتَّخَذَ حُلِيًّا كَانَتْ فِيهِمَا الزَّكَاةُ, ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا حَقُّ الزَّكَاةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَسْقُطْ, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَسْقُطَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِاخْتِلاَفٍ.
فَقُلْنَا: هَذِهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ; إلاَّ أَنَّهَا لاَزِمَةٌ لَكُمْ فِي غَيْرِ السَّوَائِمِ; لاِتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تُعْلَفَ, فَلَمَّا عُلِفَتْ اخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ أَوْ تَمَادِيهَا, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَسْقُطَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِاخْتِلاَفٍ.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: وَجَدْنَا الْمَعْلُوفَةَ نُنْفِقُ عَلَيْهَا وَنَأْخُذُ مِنْهَا, وَوَجَدْنَا السَّوَائِمَ نَأْخُذُ مِنْهَا، وَلاَ نُنْفِقُ عَلَيْهَا; وَالْحُلِيُّ يُؤْخَذُ كِرَاؤُهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ، وَلاَ يُنْفَقُ عَلَيْهِ, فَكَانَ أَشْبَهَ بِالسَّوَائِمِ مِنْهُ بِالْمَعْلُوفَةِ.
فَقِيلَ لَهُ: وَالسَّائِمَةُ أَيْضًا يُنْفَقُ عَلَيْهَا أَجْرُ الرَّاعِي. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَهْوَاسٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ بِالضَّلاَلِ!!
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ بِآثَارٍ وَاهِيَةٍ, لاَ وَجْهَ لِلاِشْتِغَالِ بِهَا, إلاَّ أَنَّنَا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا تَبْكِيتًا لِلْمَالِكِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِمِثْلِهَا وَبِمَا هُوَ دُونَهَا إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ وَهِيَ.
خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا: "أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟" قَالَتْ: لاَ, قَالَ: "أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟", فَأَلْقَتْهُمَا, وَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.

(6/78)


وَالْمَالِكِيُّونَ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ, وَلَمْ يَرْوِهِ هَاهُنَا حُجَّةً.
وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ عَتَّابٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا لِي مِنْ ذَهَبٍ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ قَالَ: "مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ".
وَعَتَّابٌ مَجْهُولٌ, إلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ, وَسَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ, وَهَذَا خَيْرٌ مِنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو، هُوَ ابْنُ عَطَاءٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدِي سِخَابًا مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ: "أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُ؟", قُلْت: لاَ, أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, فَقَالَ: "هُوَ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ".
قال أبو محمد: يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ضَعِيفٌ, وَالْمَالِكِيُّونَ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَتِهِ, إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ. وَنَقُولُ لِلْحَنَفِيِّينَ: أَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمْ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقٍ لاَ خَيْرَ فِيهَا أَنَّهُ خَالَفَ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ لاَ حُجَّةَ لَكُمْ فِي تَرْكِ ذَلِكَ الْخَبَرِ الثَّابِتِ إلاَّ بِهَذَا, ثُمَّ أَخَذْتُمْ بِرَاوِيَةِ عَائِشَةَ هَذِهِ الَّتِي لاَ تَصِحُّ; وَهِيَ قَدْ خَالَفَتْهُ مِنْ أَصَحِّ طَرِيقٍ, فَمَا هَذَا التَّلاَعُبُ بِالدِّينِ!
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رُوِيَ عَنْهَا الأَخْذُ بِمَا رَوَتْ مِنْ هَذَا.
قلنا لَهُمْ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الأَخْذُ بِمَا رَوَى فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رَوَى زَكَاةَ الْحُلِيِّ كَمَا أَوْرَدْتُمْ غَيْرُ عَائِشَةَ, وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو.

(6/79)


قلنا لَهُمْ: وَقَدْ رَوَى غَسْلَ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ; وَهَذَا مَا لاَ انْفِكَاكَ لَهُمْ مِنْهُ.
قال أبو محمد: لَوْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ هَذِهِ الآثَارُ لَمَا قلنا1 بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ; وَلَكِنْ لِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ", "وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ2 مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ فَإِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ", وَكَانَ الْحُلِيُّ وَرِقًا وَجَبَ3 فِيهِ حَقُّ الزَّكَاةِ, لِعُمُومِ هَذَيْنِ الأَثَرَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَأَمَّا الذَّهَبُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ لاَ يُؤَدِّي مَا فِيهَا إلاَّ جُعِلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا". فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ ذَهَبٍ بِهَذَا النَّصِّ, وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ مِنْ الذَّهَبِ عَمَّنْ لاَ بَيَانَ فِي هَذَا النَّصِّ بِإِيجَابِهَا فِيهِ; وَهُوَ الْعَدَدُ وَالْوَقْتُ, لاِِجْمَاعِ الآُمَّةِ كُلِّهَا بِلاَ خِلاَفٍ مِنْهَا أَصْلاً عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْ الذَّهَبِ, وَلاَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ, فَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ فِي الْعَدَدِ وَالْوَقْتِ وَجَبَ أَنْ لاَ يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ مَا صَحَّ عَنْهُ بِنَقْلِ آحَادٍ أَوْ بِنَقْلِ إجْمَاعٍ; وَلَمْ يَأْتِ إجْمَاعٌ قَطُّ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُرِدْ إلاَّ بَعْضَ أَحْوَالِ الذَّهَبِ وَصِفَاتِهِ, فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
فإن قيل: فَهَلاَّ أَخَذْتُمْ بِقَوْلِ أَنَسٍ فِي الْحُلِيِّ بِهَذَا الدَّلِيلِ نَفْسِهِ, فَلَمْ تُوجِبُوا فِيهِ الزَّكَاةَ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الدَّهْرِ.
قلنا لَهُمْ: لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ عُمُومًا, وَلَمْ يَخُصَّ الْحُلِيَّ مِنْهُ بِسُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِإِجْمَاعٍ, فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ بِالنَّصِّ فِي كُلِّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ, وَخَصَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ بَعْضَ الأَعْدَادِ مِنْهُمَا وَبَعْضَ الأَزْمَانِ, فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا إلاَّ فِي عَدَدٍ أَوْجَبَهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ وَفِي زَمَانٍ أَوْجَبَهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ, وَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهُمَا; إذْ قَدْ عَمَّهُمَا النَّصُّ; فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْوَالِ الذَّهَبِ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَصَحَّ يَقِينًا بِلاَ خِلاَفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كُلَّ عَامٍ, وَالْحُلِيِّ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ "إلاَّ الْحُلِيَّ" بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ، وَلاَ إجْمَاعٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّ مَالِكًا, وَأَبَا يُوسُفَ, وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ, قَالُوا: مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مَا إذَا حَسِبَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ دِينَارٍ بِإِزَاءِ عَشَرَةِ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "14" "ما قلنا".
2 في النسخة رقم "14" "أواق".
3 في النسخة رقم "14" "فأوجب".

(6/80)


دَرَاهِمَ فَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ زَكَّى الْجَمِيعَ زَكَاةً وَاحِدَةً, مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دِينَارٌ وَمِائَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا, أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَلَى هَذَا الْحُكْمِ أَبَدًا. فَإِنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى غَلاَءِ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ, أَوْ الدَّرَاهِمِ أَوْ رُخْصِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
الأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ, فَإِذَا بَلَغَ قِيمَةُ مَا عِنْدَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ, فَيَرَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَاحِدٌ يُسَاوِي لِغَلاَءِ الذَّهَبِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ وَعِنْدَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَرَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ لاَ تُسَاوِي دِينَارًا زَكَاةً.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى; وَشَرِيكٌ; وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يُضَمُّ ذَهَبٌ إلَى وَرِقٍ أَصْلاً; لاَ بِقِيمَةٍ، وَلاَ عَلَى الأَجْزَاءِ, فَمَنْ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَيْرُ حَبَّةٍ وَعِشْرُونَ دِينَارًا غَيْرُ حَبَّةٍ: فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِمَا, فَإِنْ كَمُلَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا زَكَّاهُ وَلَمْ يُزَكِّ الآخَرَ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا أَثْمَانُ الأَشْيَاءِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَيُقَالُ لَهُ: وَالْفُلُوسُ قَدْ تَكُونُ أَثْمَانًا أَيْضًا, فَزَكِّهَا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ الْفَاسِدِ. وَالأَشْيَاءُ كُلُّهَا قَدْ يُبَاعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ, فَتَكُونُ أَثْمَانًا, فَزَكِّ الْعُرُوضَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
وَأَيْضًا: فَمَنْ لَكُمْ بِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَثْمَانًا لِلأَشْيَاءِ وَجَبَ ضَمُّهُمَا فِي الزَّكَاةِ فَهَذِهِ عِلَّةٌ لَمْ يُصَحِّحْهَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ فَاسِدَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ يُعْقَلُ, وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ وَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَى فِي غَايَةِ الْفَسَادِ.
وَأَيْضًا: فَإِذْ صَحَّحْتُمُوهَا فَاجْمَعُوا بَيْنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي الزَّكَاةِ, لاَِنَّهُمَا يُؤْكَلاَنِ وَتُشْرَبُ أَلْبَانُهُمَا, وَيُجْزِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، عَنْ سَبْعَةٍ فِي الْهَدْيِ نَعَمْ, وَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْغَنَمِ فِي الزَّكَاةِ, لاَِنَّهَا كُلَّهَا تَجُوزُ فِي الأَضَاحِيّ وَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ!
فإن قيل: النَّصُّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قلنا: وَالنَّصُّ فَرَّقَ بَيْنَ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ, لاَ يَخْلُو الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ, فَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فَحَرَّمُوا بَيْعَ أَحَدِهِمَا بِالآخَرِ

(6/81)


مُتَفَاضِلاً, وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ لاَ يَجُوزُ, إلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُمْ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّمْرِ, وَالزَّبِيبِ فِي الزَّكَاةِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا, لاَِنَّهُمَا قُوتَانِ حُلْوَانِ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ بِيَقِينٍ.
وَأَيْضًا: فَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ أَنْ يُزَكِّيَ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَقَدْ شَاهَدْنَا الدِّينَارَ يَبْلُغُ بِالأَنْدَلُسِ أَزْيَدَ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَهَذَا بَاطِلٌ شَنِيعٌ جِدًّا!
وَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِتَكَامُلِ الأَجْزَاءِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الذَّهَبُ رَخِيصًا أَوْ غَالِيًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الذَّهَبَ، عَنِ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةَ بِالْقِيمَةِ. أَوْ تُخْرَجُ الْفِضَّةُ، عَنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْقِيمَةِ وَهَذَا ضِدُّ مَا جَمَعَ بِهِ بَيْنَهُمَا, فَمَرَّةً رَاعَى الْقِيمَةَ لاَ الأَجْزَاءَ, وَمَرَّةً رَاعَى الأَجْزَاءَ لاَ الْقِيمَةَ, فِي زَكَاةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ بِيَقِينٍ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: بَلْ أَجْمَعُ الذَّهَبَ مَعَ الْفِضَّةِ بِالْقِيمَةِ وَأُخْرِجُ عَنْهُمَا أَحَدَهُمَا بِمُرَاعَاةِ الأَجْزَاءِ; وَكِلاَهُمَا تَحَكُّمٌ بِالْبَاطِلِ.
وَأَيْضًا: فَيَلْزَمُهُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ تَجِبُ فِيهِمَا عِنْدَهُ الزَّكَاةُ وَكَانَ الدِّينَارُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ إنْ أَخْرَجَ ذَهَبًا، عَنْ كِلَيْهِمَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ رُبْعَ دِينَارٍ وَأَقَلَّ، عَنْ زَكَاةِ عِشْرِينَ دِينَارًا, وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَهُمْ, وَإِنْ أَخْرَجَ دَرَاهِمَ، عَنْ كِلَيْهِمَا وَكَانَ الدِّينَارُ لاَ يُسَاوِي إلاَّ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَجَبَ أَنْ يُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ، عَنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّكُمْ تَجْمَعُونَ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ فِي الزَّكَاةِ, وَهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ.
قلنا نَعَمْ, لإِنَّ الزَّكَاةَ جَاءَتْ فِيهِمَا بِاسْمٍ يَجْمَعُهُمَا, وَهُوَ لَفْظُ "الْغَنَمِ" "وَالشَّاءِ" وَلَمْ تَأْتِ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ بِلَفْظٍ يَجْمَعُهُمَا وَلَوْ لَمْ تَأْتِ الزَّكَاةُ فِي الضَّأْنِ إلاَّ بِاسْمِ "الضَّأْنِ "، وَلاَ فِي الْمَاعِزِ إلاَّ بِاسْمِ "الْمَاعِزِ" لَمَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا, كَمَا لَمْ نَجْمَعْ بَيْنَ الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ وَلَوْ جَاءَتْ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ بِلَفْظٍ وَاسْمٍ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا.
قال أبو محمد: وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ غَيْرُ الْفِضَّةِ, وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ مِنْ أَحَدِهِمَا بِمِائَةٍ مِنْ الآخَرِ, وَأَنَّ أَحَدَهُمَا حَلاَلٌ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ, وَالآخَرَ حَلاَلٌ لِلنِّسَاءِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ, وَهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَلاَ

(6/82)


فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا ثُمَّ يُوجِبُونَهَا فِي عَشْرَةِ دَنَانِيرَ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهَذَا تَنَاقُضٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ.
قال أبو محمد: وَحُجَّتُنَا فِي أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الزَّكَاةِ هُوَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ" فَكَانَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ قَدْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ; وَهُمْ يُصَحِّحُونَ الْخَبَرَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا ثُمَّ يُوجِبُونَهَا فِي أَقَلَّ. وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا! وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ, وَعُمَرَ, وَابْنِ عُمَرَ: إسْقَاطُ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا إخْرَاجُ الذَّهَبِ، عَنِ الْوَرِقِ, وَالْوَرِقِ، عَنِ الذَّهَبِ, فَإِنَّ مَالِكًا, وَأَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَاهُ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ, وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ", فَمَنْ أَخْرَجَ غَيْرَ مَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ. وَمَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ فَلَمْ يُزَكِّ.
وَأَمَّا الذَّهَبُ فَالآُمَّةُ كُلُّهَا مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ فِي زَكَاتِهَا الذَّهَبَ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ, وَوَافَقَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ فِضَّةً، عَنْ ذَهَبٍ, أَوْ عَرْضًا، عَنْ أَحَدِهِمَا, أَوْ غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا عَدَاهُمَا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمًا بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/83)


المال المستفاد
أقوال علماء الصحابة في زكاة المال المستفاد
...
الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ
685 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مَالٍ يُزَكَّى حِينَ يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ.
وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يُتِمَّ حَوْلاً.

(6/83)


وقال أبو حنيفة: لاَ يُزَكَّى الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ إلاَّ حَتَّى يُتِمَّ حَوْلاً إلاَّ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ يَجِبُ فِي عَدَدِ مَا عِنْدَهُ مِنْهُ الزَّكَاةُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ: فَإِنَّهُ إنْ اكْتَسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ لَوْ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ: فَإِنَّهُ يُزَكِّي الْمُكْتَسَبَ مَعَ الأَصْلِ, سَوَاءٌ عِنْدَهُ الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ, وَالْمَاشِيَةُ, وَالأَوْلاَدُ, وَغَيْرُهَا.
وقال مالك: لاَ يُزَكَّى الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ إلاَّ حَتَّى يُتِمَّ حَوْلاً, وَسَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ, إلاَّ الْمَاشِيَةَ; فَإِنَّ مَنْ اسْتَفَادَ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ وِلاَدَةٍ مِنْهَا, فَإِنْ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا نِصَابًا: زَكَّى الْجَمِيعَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنْ كَانَتْ مِنْ وِلاَدَةٍ زَكَّى الْجَمِيعَ بِحَوْلِ الآُمَّهَاتِ1 سَوَاءٌ كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا أَوْ لَمْ تَكُنْ.
وقال الشافعي: لاَ يُزَكَّى مَالٌ مُسْتَفَادٌ مَعَ نِصَابٍ كَانَ عِنْدَ الَّذِي اسْتَفَادَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَلْبَتَّةَ, إلاَّ أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ مَعَ أُمَّهَاتِهَا فَقَطْ إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا وَإِلاَّ فَلاَ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ فَسَادِ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا; وَيَكْفِي مِنْ فَسَادِهَا أَنَّهَا كُلَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَكُلُّهَا دَعَاوٍ مُجَرَّدَةٌ, وَتَقَاسِيمُ فَاسِدَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا. لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.
وقال أبو حنيفة: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ تَلِفَتْ كُلُّهَا أَوْ أَنْفَقَهَا إلاَّ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ بَقِيَ عِنْدَهُ; فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ اكْتَسَبَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا: فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي الْجَمِيعِ2 لِحَوْلِ الَّتِي تَلِفَتْ, فَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا، وَلاَ دِرْهَمٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا اكْتَسَبَ وَلَوْ أَنَّهَا مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى يَتِمَّ لَهَا حَوْلٌ.
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا شَأْنُ هَذَا الدِّرْهَمِ وَمَا قَوْلُهُ لَوْ لَمْ3 يَبْقَ مِنْهَا إلاَّ فَلْسٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ ذَهَبٍ, أَوْ مِنْ بَقَرٍ, أَوْ مِنْ إبِلٍ, أَوْ مِنْ غَنَمٍ; ثُمَّ تَلِفَتْ كُلُّهَا إلاَّ وَاحِدَةً; ثُمَّ اكْتَسَبَ مِنْ جِنْسِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ مَا يُتِمُّ بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُ النِّصَابَ وَهَذَا قَوْلٌ يُغْنِي ذِكْرُهُ، عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ.
وَلَئِنْ كَانَتْ الزَّكَاةُ بَاقِيَةً فِي الدِّرْهَمِ الْبَاقِي فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكْتَسِبْ غَيْرَهُ; نَعَمْ, وَفِيمَا اكْتَسَبَ إلَيْهِ وَلَوْ أَنَّهُ دِرْهَمٌ آخَرُ وَلَئِنْ كَانَتْ الزَّكَاةُ غَيْرَ بَاقِيَةٍ فِيهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الْحَوْلِ بِمَا اكْتَسَبَ مَعَهُ.
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ مِنْ الْفَائِدَةِ: ابْنُ مَسْعُودٍ, وَمُعَاوِيَةُ, وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "14" "لحلول الأمهات".
2 في النسخة رقم "14" "للجميع".
3 في النسخة رقم "16" "ولم" وهو هطأ.

(6/84)


وَالْحَسَنُ, وَالزُّهْرِيُّ.
وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ حَوْلٌ: عَلِيٌّ, وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ, وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنُ عُمَرَ, وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي بَابٍ ذِكْرِنَا أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ.
وَأَمَّا تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ فَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، نَعَمْ, وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ.
قال أبو محمد: كُلُّ فَائِدَةٍ فَإِنَّمَا تُزَكَّى لِحَوْلِهَا, لاَ لِحَوْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ جِنْسِهَا وَإِنْ اخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الأَحْوَالُ.
تَفْسِيرُ ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ امْرَأً مَلَكَ نِصَابًا وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِنْ الْوَرِقِ أَوْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا مِنْ الذَّهَبِ, أَوْ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ, أَوْ خَمْسِينَ مِنْ الْبَقَرِ ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ, إلاَّ أَنَّهَا قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ أَقَلَّ مِمَّا ذَكَرْنَا, أَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً ثُمَّ مَلَكَ فِي الْحَوْلِ تَمَامَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ: فَإِنْ كَانَ مَا اكْتَسَبَ لاَ يُغَيِّرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَضُمُّ الَّتِي مَلَكَ إلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ; لاَِنَّهَا لاَ تُغَيِّرُ حُكْمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ, فَيُزَكَّى ذَلِكَ لِحَوْلِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْجَمِيعَ حَوْلاً, فَإِنْ اسْتَفَادَ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ مَا يُغَيِّرُ الْفَرِيضَةَ فِيمَا عِنْدَهُ, إلاَّ أَنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ لَوْ انْفَرَدَتْ لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ فِي الْوَرِقِ خَاصَّةً عَلَى كُلِّ حَالٍ, وَفِي سَائِرِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ: فَإِنَّهُ يُزَكِّي الَّذِي عِنْدَهُ وَحْدَهُ لِتَمَامِ حَوْلِهِ, وَضَمَّ حِينَئِذٍ الَّذِي اسْتَفَادَ إلَيْهِ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ وَاسْتَأْنَفَ بِالْجَمِيعِ حَوْلاً.
مِثْلُ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَةُ شَاةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً ثُمَّ اسْتَفَادَ شَاةً فَأَكْثَرَ, أَوْ كَانَ عِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بَقَرَةً فَأَفَادَ بَقَرَةً فَأَكْثَرَ, أَوْ كَانَ عِنْدَهُ تِسْعٌ مِنْ الإِبِلِ فَأَفَادَ وَاحِدَةً فَأَكْثَرَ أَوْ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا فَأَفَادَ دِينَارًا فَأَكْثَرَ, لإِنَّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الَّذِي زَكَّى لاَ زَكَاةَ فِيهِ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَكَّى مَالٌ مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ.
فَلَوْ مَلَكَ نِصَابًا كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ مَلَكَ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ نِصَابًا أَيْضًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ أَوْ الْمَاشِيَةِ فَإِنَّهُ يُزَكِّي كُلَّ مَالٍ لِحَوْلِهِ; فَإِنْ رَجَعَ الأَوَّلُ مِنْهُمَا إلاَّ مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُ الْفَائِدَةِ زَكَّاهَا ثُمَّ ضَمَّ الأَوَّلَ حِينَئِذٍ إلَى الآخَرِ, لإِنَّ الأَوَّلَ قَدْ صَارَ لاَ زَكَاةَ فِيهِ

(6/85)


وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَهُ مَعَ مَا قَدْ زَكَّاهُ مِنْ الْمَالِ الثَّانِي, فَيَكُونُ يُزَكِّي الثَّانِي مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ; وَيَسْتَأْنِفُ بِالْجَمِيعِ حَوْلاً.
فَإِنْ رَجَعَ الْمَالُ الثَّانِي إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ وَبَقِيَ الأَوَّلُ نِصَابًا فَإِنَّهُ يُزَكِّيهِ إذَا حَالَ حَوْلُهُ, ثُمَّ يَضُمُّ الثَّانِي إلَى الأَوَّلِ حِينَئِذٍ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا فَيَسْتَأْنِفُ بِهِمَا حَوْلاً.
فَلَوْ خَلَطَهُمَا فَلَمْ يَتَمَيَّزَا فَإِنَّهُ يُزَكِّي كُلَّ عَدَدٍ مِنْهُمَا لِحَوْلِهِ, وَيَجْعَلُ مَا أَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ نُقْصَانًا مِنْ الْمَالِ الثَّانِي; لاَِنَّهُ لاَ يُوقِنُ بِالنَّقْصِ إلاَّ بَعْدَ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الثَّانِي, وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلاَ يَقِينَ عِنْدَهُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَقَصَ; فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَرْجِعَ كِلاَهُمَا إلَى مَا يُوقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ نَقَصَ، وَلاَ بُدَّ عَمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَذَلِكَ مِثْلُ: أَنْ يُرْجِعَ الْغَنَمَانِ إلَى أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ; لاَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَ، عَنْ هَذَا الْعَدَدِ بِشَاتَيْنِ, أَوْ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ الْبَقَرَانِ إلَى أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ, وَالذَّهَبَانِ إلَى أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ دِينَارًا, وَالإِبِلاَنِ إلَى أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ, وَالْفِضَّتَانِ إلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
فَإِذَا رَجَعَ الْمَالاَنِ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَقَدْ يُمْكِنُ أَنَّ النَّقْصَ دَخَلَ فِي كِلَيْهِمَا, وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي أَحَدِهِمَا, إلاَّ أَنَّهُ بِلاَ شَكٍّ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ; فَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالشَّكِّ فَإِذَا كَانَ هَذَا: ضَمَّ الْمَالَ الثَّانِي إلَى الأَوَّلِ فَزُكِّيَ الْجَمِيعُ لِحَوْلِ الأَوَّلِ أَبَدًا, حَتَّى يَرْجِعَ الْكُلُّ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ.
فَلَوْ اقْتَنَى خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ أَوْ أَكْثَرَ إلاَّ أَنَّهُ عَدَدٌ يُزَكَّى بِالْغَنَمِ ثُمَّ اقْتَنَى فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ عَدَدًا يُزَكَّى وَحْدَهُ لَوْ انْفَرَدَ إمَّا بِالْغَنَمِ, وَأَمَّا بِالإِبِلِ فَإِنَّهُ يُزَكِّي مَا كَانَ عِنْدَهُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ بِالْغَنَمِ; ثُمَّ ضَمَّهُ إثْرَ ذَلِكَ إلَى مَا اسْتَفَادَ; إذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُ إبِلٌ لَهُ قَدْ تَمَّ لِجَمِيعِهَا حَوْلٌ فَيُزَكِّي بَعْضَهَا بِالْغَنَمِ وَبَعْضَهَا بِالإِبِلِ; لاَِنَّهُ خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زَكَاةِ الإِبِلِ.
فَلَوْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ ثُمَّ مَلَكَ فِي الْحَوْلِ إحْدَى عَشْرَةَ زَكَّى الأَوَّلَ لِحَوْلِهَا بِنْتَ مَخَاضٍ; ثُمَّ ضَمَّهَا إلَى الْفَائِدَةِ مِنْ حِينَئِذٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَزُكِّيَ الْجَمِيعُ لِحَوْلٍ مِنْ حِينَئِذٍ مُسْتَأْنَفٍ بِبِنْتِ لَبُونٍ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لاَ تَخْتَلِفُ زَكَاةُ إبِلٍ وَاحِدَةٍ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ. وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ.
فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تُؤَخِّرُونَ زَكَاةَ بَعْضِهَا، عَنْ بَعْضٍ، عَنْ حَوْلِهِ شُهُورًا.
قلنا: نَعَمْ: لاَِنَّنَا لاَ نَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ, إلاَّ بِإِحْدَاثِ زَكَاتَيْنِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ, وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ; وَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّعْجِيلُ مُبَاحٌ لاَ حَرَجَ فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/86)


من اجتمع في ماله زكاتان فصاعدا و هو حي
...
686 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ اجْتَمَعَ فِي مَالِهِ زَكَاتَانِ فَصَاعِدًا هُوَ حَيٌّ.
قال أبو محمد: تُؤَدَّى كُلُّهَا لِكُلِّ سَنَةٍ عَلَى عَدَدِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ; وَسَوَاءٌ كُلُّ ذَلِكَ لِهُرُوبِهِ بِمَالِهِ; أَوْ لِتَأْخِيرِ السَّاعِي; أَوْ لِجَهْلِهِ, أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ; وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَيْنُ, وَالْحَرْثُ, وَالْمَاشِيَةُ, وَسَوَاءٌ أَتَتْ الزَّكَاةُ عَلَى جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ لَمْ تَأْتِ, وَسَوَاءٌ رَجَعَ مَالُهُ بَعْدَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ, وَلاَ يَأْخُذُ الْغُرَمَاءُ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الزَّكَاةُ.
وقال مالك: إنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْنًا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ زَكَاةُ كُلِّ سَنَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْوَزْنُ إلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَالذَّهَبُ إلَى عِشْرِينَ دِينَارًا, فَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ السِّنِينَ.
وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ زَرْعٍ فَرَّطَ فِيهَا سِنِينَ أُخِذَتْ كُلُّهَا وَإِنْ اصْطَلَمَتْ جَمِيعَ مَالِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً. فَإِنْ كَانَ هُوَ هَرَبَ أَمَامَ السَّاعِي فَإِنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى حَسْبِ مَا كَانَ عِنْدَهُ فِي كُلِّ عَامٍ; فَإِذَا رَجَعَ مَالُهُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ إلاَّ مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ لِسَائِرِ مَا بَقِيَ مِنْ الأَعْوَامِ, وَإِنْ كَانَ السَّاعِي هُوَ الَّذِي تَأَخَّرَ عَنْهُ فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ زَكَاةُ مَا وُجِدَ بِيَدِهِ لِكُلِّ عَامٍ خَلاَ سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِهِ فِيمَا خَلاَ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ; فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وقال أبو حنيفة فِيمَنْ كَانَ لَهُ عَشْرٌ مِنْ الإِبِلِ عَامَيْنِ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا: إنَّهُ يُزَكِّي لِلْعَامِ الأَوَّلِ شَاتَيْنِ. وَلِلْعَامِ الثَّانِي شَاةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ هُوَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لاَ مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَلَمْ يُزَكِّهَا سَنَتَيْنِ فَصَاعِدًا: إنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ; لإِنَّ الزَّكَاةَ صَارَتْ عَلَيْهِ دَيْنًا فِيهَا هَذَا نَصُّ كَلاَمِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ زَكَاتُهَا لِعَامٍ وَاحِدٍ فَقَطْ.
وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ زَكَاتُهَا لِكُلِّ عَامٍ أَبَدًا. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابُنَا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ التَّنَاقُضِ, وَتَقْسِيمٌ فَاسِدٌ, لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ; لاَِنَّهُ دَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ. وَمَا الْعَجَبُ إلاَّ مِنْ رِفْقِهِمْ بِالْهَارِبِ أَمَامَ الْمُصَدِّقِ وَتَحَرِّيهِمْ الْعَدْلَ فِيهِ وَشِدَّةِ حَمْلِهِمْ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ السَّاعِي, فَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ زَكَاةً أَلْفَ

(6/87)


نَاقَةٍ لِعَشْرِ سِنِينَ; وَلَمْ يَمْلِكْهَا إلاَّ سَنَةً وَاحِدَةً, وَإِنَّمَا مَلَكَ فِي سَائِرِ الأَعْوَامِ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَقَطْ. وَاحْتَجُّوا فِي هَذَا بِأَنَّ هَكَذَا زَكَّى النَّاسُ إذْ أَجْمَعُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ.
قال أبو محمد: وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا مُعَاوِيَةَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الأَعْطِيَةِ وَمَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ; وَقَلَّدُوا هَاهُنَا سُعَاةَ مَنْ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ, كَمَرْوَانَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ, وَمَا هُنَالِكَ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ تُؤْخَذَ الزَّكَاةُ مِنْ إبِلٍ لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُسْلِمُ وَتُعَطَّلَ زَكَاةً قَدْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَالِ نَفْسِهِ, وَلاَ فِي الذِّمَّةِ, وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ قَبْلُ; وَأَوْضَحْنَا أَنَّهَا فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي الْعَيْنِ, وَلَوْ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ لَمَا أَجْزَأَهُ أَنْ يُعْطِيَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَالِ نَفْسِهِ; وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَى خِلاَفِهِ; وَعَلَى أَنَّهُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ حَيْثُ شَاءَ; فَإِذَا صَحَّ أَنَّهَا فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يُسْقِطُهَا عَنْهُ ذَهَابُ مَالِهِ, وَلاَ رُجُوعُهُ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ امْرَأً لَوْ بَاعَ مَاشِيَتَهُ بَعْدَ حُلُولِ الزَّكَاةِ فِيهَا أَنَّ لِلسَّاعِي أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ تِلْكَ الْمَاشِيَةِ الْمَبِيعَةِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ; وَمَا لَهُ ذَلِكَ; لاَِنَّهَا قَدْ صَارَتْ مَالاً مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي.
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاةٌ مِنْ عُمَرَ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى زَيْدٍ; وَلَكِنْ يَتْبَعُ الْبَائِعُ بِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/88)


لو مات الذي وجبت عليه الزكاة سنة أو سنتين فإنها من رأس المال
...
687 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ مَاتَ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ فَإِنَّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ,
أَقَرَّ بِهَا أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ, وَرِثَهُ وَلَدُهُ أَوْ كَلَالَةً, لَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا لِلْوَصِيَّةِ وَلَا لِلْوَرَثَةِ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ كُلُّهَا; سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَيْنُ وَالْمَاشِيَةُ وَالزَّرْعُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي ذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ, لَا تُؤْخَذُ أَصْلًا, سَوَاءٌ مَاتَ إثْرَ الْحَوْلِ بِيَسِيرٍ أَوْ كَثِيرٍ, أَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لِسِنِينَ. وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَاشِيَةِ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا الْمُصَدَّقُ مِنْهَا, وَإِنْ وَجَدَهَا بِأَيْدِي وَرَثَتِهِ.
وَرَوَى عَنْهُ أَبُو يُوسُفَ: أَنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ,
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ: فَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ, وَرَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا تُؤْخَذُ بَعْدِ مَوْتِهِ,

(6/88)


وَيَرَى أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ فِي الْمَاشِيَةِ, وَالزَّرْعِ إنَّمَا هُوَ فِي زَكَاةِ تِلْكَ السَّنَةِ فَقَطْ; فَأَمَّا زَكَاةٌ فَرَّطَ فِيهَا حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: بِأَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ أَيِّ مَالٍ كَانَ حَاشَا الْمَوَاشِيَ -: فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ, فَإِنْ كَانَ فَرَّطَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ فَلَا تَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهَا, فَتَكُونُ مِنْ ثُلُثِهِ مُبْدَاةً عَلَى سَائِرِ وَصَايَاهُ كُلِّهَا, حَاشَا التَّدْبِيرِ فِي الصِّحَّةِ, وَهِيَ مُبْدَاةٌ عَلَى التَّدْبِيرِ فِي الْمَرَضِ.
قَالَ: وَأَمَّا الْمَوَاشِي فَإِنَّهُ إنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي ثُمَّ جَاءَ السَّاعِي فَلَا سَبِيلَ لِلسَّاعِي عَلَيْهَا, وَقَدْ بَطَلَتْ, إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهَا, فَتَكُونُ فِي الثُّلُثِ غَيْرُ مُبْدَاةٍ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الأَُوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ: فَمَرَّةٌ رَآهَا مِنْ الثُّلُثِ, وَمَرَّةً رَآهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ; فَفِي غَايَةِ الْخَطَأِ; لِأَنَّهُمَا أَسْقَطَا بِمَوْتِ الْمَرْءِ دَيْنًا لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ, بِلَا بُرْهَانٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا شَاءَ إنْسَانٌ أَنْ لَا يُوَرِّثَ وَرَثَتَهُ شَيْئًا إلَّا أَمْكَنَهُ.
فَقُلْنَا: فَمَا تَقُولُونَ فِي إنْسَانٍ أَكْثَرَ مِنْ إتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَلَا يَرِثُ وَرَثَتُهُ شَيْئًا, وَلَوْ أَنَّهَا دُيُونُ يَهُودِيٍّ, أَوْ نَصْرَانِيٍّ لَا فِي خُمُورٍ أَهْرَقَهَا لَهُمْ؟!
فَمِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهَا كُلَّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ, سَوَاءٌ وَرِثَ وَرَثَتُهُ أَوْ لَمْ يَرِثُوا, فَنَقَضُوا عِلَّتَهُمْ بِأَوْحَشِ نَقْضٍ وَأَسْقَطُوا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى- الَّذِي جَعَلَهُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, وَالْغَارِمِينَ مِنْهُمْ, وَفِي الرِّقَابِ مِنْهُمْ, وَفِي سَبِيلِهِ تَعَالَى, وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى-: وَأَوْجَبُوا دُيُونَ الآدَمِيِّينَ وَأَطْعَمُوا الْوَرَثَةَ الْحَرَامَ!
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ مِنْ إيجَابِهِمْ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا عَلَى الْعَامِدِ لِتَرْكِهَا, وَإِسْقَاطِهِمْ الزَّكَاةَ وَوَقْتُهَا قَائِمٌ عَنِ الْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا.
ثُمَّ تَقْسِيمُ مَالِكٍ بَيْنَ الْمَوَاشِي وَغَيْرِ الْمَوَاشِي, وَبَيْنَ زَكَاةِ عَامِهِ ذَلِكَ وَسَائِرِ الأَُعْوَامِ, فَرَأَى زَكَاةَ عَامِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ, وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ يَعِيشُونَ مِنْهُ, وَلَمْ يَرَ زَكَاةَ سَائِرِ الأَُعْوَامِ إلَّا سَاقِطَةً!
ثُمَّ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ زَكَاةِ النَّاضِّ يُوصِي بِهَا فَتَكُونُ فِي الثُّلُثِ وَتُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا إلَّا عَلَى التَّدْبِيرِ فِي الصِّحَّةِ وَتُبَدَّى عَلَى التَّدْبِيرِ فِي الْمَرَضِ-: وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ يُوصِي بِهَا

(6/89)


فَتَكُونُ فِي الثُّلُثِ وَلَا تُبَدَّى الْوَصَايَا, وَهَذِهِ أَشْيَاءُ غَلِطَ فِيهَا مَنْ غَلِطَ وَقَصَدَ الْخَيْرَ, وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ انْشَرَحَ صَدْرُهُ لِتَقْلِيدِ قَائِلِهَا. ثُمَّ اسْتَعْمَلَ نَفْسَهُ فِي إبْطَالِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ نَصْرًا لَهَا!!
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَبَيْنَ صِحَّةِ قَوْلِنَا وَبُطْلَانِ قَوْلِ الْمُخَالِفِينَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَوَارِيثِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَعَمَّ عَزَّ وَجَلَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا, وَالزَّكَاةُ دَيْنٌ قَائِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمَسَاكِينِ, وَالْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ وَسَائِرِ مَنْ فَرَضَهَا تَعَالَى لَهُمْ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الأَُشَجُّ. قَالَ الْوَكِيعِيُّ:، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ; وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَُحْمَرُ ثُمَّ اتَّفَقَ زَائِدَةُ, وَأَبُو خَالِدٍ الأَُحْمَرُ كِلَاهُمَا عَنِ الأَُعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ الْبُطَيْنِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ, قَالَ مُسْلِمُ الْبُطَيْنُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَالَ الْحَكَمُ, وَسَلَمَةُ: سَمِعْنَا مُجَاهِدًا ثُمَّ اتَّفَقَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَمُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا ؟ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ عَنْهَا" ؟ قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى". قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الأَُعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ الْبُطَيْنِ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَذَكَرَ زَائِدَةُ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ الأَُعْمَشَ سَمِعَهُ مِنْ الْحَكَمِ, وَسَلَمَةَ وَمُسْلِمٍ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ, وَفِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "فَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ".
فَهَؤُلَاءِ: عَطَاءٌ, وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ, وَمُجَاهِدٌ يَرْوُونَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, فَقَالَ: هَؤُلَاءِ بِآرَائِهِمْ, بَلْ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى سَاقِطٌ وَدَيْنُ النَّاسِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَالنَّاسُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَيَسْأَلُونَ عَنِ الزَّكَاةِ أَفِي الذِّمَّةِ هِيَ أَمْ فِي عَيْنِ الْمَالِ؟ وَلَا سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ.
فَإِنْ قَالُوا: فِي عَيْنِ الْمَالِ, فَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ, فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ حَقُّهُمْ وَتَبْقَى دَيْنُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ وَإِنْ قَالُوا: فِي الذِّمَّةِ فَمِنْ أَيْنَ أَسْقَطُوهَا بِمَوْتِهِ ؟ وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ إقْرَارَ الصَّحِيحِ لَازِمٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَمِنْ

(6/90)


أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ إبْطَالُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ؟
فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ, كَذَبُوا وَتَنَاقَضُوا لِأَنَّ الإِقْرَارَ إنْ كَانَ وَصِيَّةً فَهُوَ مِنْ الصَّحِيحِ أَيْضًا فِي الثُّلُثِ, وَإِلَّا فَهَاتُوا فَرْقًا بَيْنَ الْمَرِيضِ, وَالصَّحِيحِ!
وَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّنَا نَتَّهِمُهُ. قُلْنَا: فَهَلَّا اتَّهَمْتُمْ الصَّحِيحَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتُّهْمَةِ ؟ لَا سِيَّمَا الْمَالِكِيِّينَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ قَوْلَ الْمَرِيضِ فِي دَعْوَاهُ: إنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ, وَيُبْطِلُونَ إقْرَارَهُ فِي مَالِهِ, وَهَذِهِ أُمُورٌ كَمَا تَرَى وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ: أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا تُؤْخَذُ وَعَلَيْهِ مَا تَحَمَّلَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ:، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنِ الْحَسَنِ, وطَاوُوس أَنَّهُمَا قَالَا فِي حَجَّةِ الإِسْلَامِ, وَالزَّكَاةِ: هُمَا بِمَنْزِلَةِ الدَّيْن.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَتَحَاصُّ مَعَ دُيُونِ النَّاسِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذَا خَطَأٌ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
قَالَ عَلِيٌّ: هَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الثَّابِتَةَ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا وَالْقِيَاسَ, وَلَمْ يَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ صَاحِبٍ نَعْلَمُهُ.

(6/91)


688 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إذَا أَخْرَجَهَا الْمُسْلِمُ، عَنْ نَفْسِهِ أَوْ وَكِيلُهُ بِأَمْرِهِ إلاَّ بِنِيَّةِ أَنَّهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ,
فَإِنْ أَخَذَهَا الإِمَامُ, أَوْ سَاعِيهِ, أَوْ أَمِيرُهُ, أَوْ سَاعِيهِ فَبِنِيَّةِ كَذَلِكَ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".
فَلَوْ أَنَّ امْرَءاً أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالٍ لَهُ غَائِبٍ فَقَالَ: هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي إنْ كَانَ سَالِمًا, وَإِلاَّ فَهِيَ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ: لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ، عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ إنْ كَانَ سَالِمًا, وَلَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا لاَِنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِلزَّكَاةِ مَحْضَةٍ كَمَا أُمِرَ, وَإِنَّمَا يُجْزِئُهُ إنْ أَخْرَجَهَا عَلَى أَنَّهَا زَكَاةُ مَالِهِ فَقَطْ; فَإِنْ كَانَ الْمَالُ سَالِمًا أَجْزَأَهُ, لاَِنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا أُمِرَ مُخْلِصًا لَهَا, وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَدْ تَلِفَ, فَإِنْ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا أَعْطَى, وَإِنْ فَاتَتْ أَدَّى الإِمَامُ إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ, لأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا وَلَيْسَ لَهُمْ أَخْذُهَا, فَهُمْ غَارِمُونَ بِذَلِكَ, وَهَذَا كَمَنْ شَكَّ: عَلَيْهِ

(6/91)


يَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ أَمْ لاَ وَهَلْ عَلَيْهِ صَلاَةُ فَرْضٍ أَمْ لاَ فَصَلَّى عَدَدَ رَكَعَاتِ تِلْكَ الصَّلاَةِ وَقَالَ: إنْ كُنْتَ أُنْسِيتُهَا فَهِيَ هَذِهِ, وَإِلاَّ فَهِيَ تَطَوُّعٌ; وَصَامَ يَوْمًا فَقَالَ: إنْ كَانَ عَلَيَّ يَوْمٌ فَهُوَ هَذَا; وَإِلاَّ فَهُوَ تَطَوُّعٌ; فَإِنَّ هَذَا لاَ يُخْرِجُهُ، عَنْ تِلْكَ الصَّلاَةِ، وَلاَ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إنْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمَا عَلَيْهِ.

(6/92)


من خرج المال عن ملكه في داخل الحول قبل تمامه ثم رجع إليه فإنه يستأنف به الحول من حين رجوعه لا من حين الحول الأول
...
689 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ خَرَجَ الْمَالُ، عَنْ مِلْكِهِ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ قَبْلَ تَمَامِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ بِأَيِّ وَجْهٍ رَجَعَ إلَيْهِ, وَلَوْ إثْرَ خُرُوجِهِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ أَوْ أَكْثَرَ: فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِهِ الْحَوْلَ مِنْ حِينِ رُجُوعِهِ,
لاَ مِنْ حِينِ الْحَوْلِ الأَوَّلِ, لإِنَّ ذَلِكَ الْحَوْلَ قَدْ بَطَلَ بِبُطْلاَنِ الْمِلْكِ, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُعَدَّ عَلَيْهِ وَقْتٌ كَانَ فِيهِ الْمَالُ لِغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ إبِلاً بِإِبِلٍ, أَوْ بَقَرًا بِبَقَرٍ, أَوْ غَنَمًا بِغَنَمٍ, أَوْ فِضَّةً بِفِضَّةٍ, أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ: فَإِنَّ حَوْلَ الَّذِي خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ, مِنْ ذَلِكَ قَدْ بَطَلَ, وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ الَّذِي صَارَ فِي مِلْكِهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ لِغَيْرِ فِرَارٍ, فَهُوَ عَاصٍ بِنِيَّتِهِ السُّوءَ فِي فِرَارِهِ مِنْ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ, ثُمَّ نَاقَضَ مَنْ قَرَّبَ فَقَالَ: مَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمِهِ أَوْ بِدَنَانِيرِهِ عَقَارًا أَوْ مَتَاعًا فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا اشْتَرَى.
قال أبو محمد: وَمِنْ الْمُحَالِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَنْ يُزَكِّيَ الإِنْسَانُ مَالاً هُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَحُلْ حَوْلُهُ عِنْدَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةً وِزْرَ أُخْرَى}.
وقولنا في هذا كُلِّهِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال مالك: إنْ بَادَلَ إبِلاً بِبَقَرٍ أَوْ بِغَنَمٍ أَوْ بَقَرًا بِغَنَمٍ فَكَذَلِكَ سَوَاءٌ فَعَلَهُ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ لِغيْرِ فِرَارٍ, وَإِنْ بَادَلَ إبِلاً بِإِبِلٍ, أَوْ بَقَرًا بِبَقَرٍ, أَوْ غَنَمًا بِغَنَمٍ, أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ, أَوْ فِضَّةً بِفِضَّةٍ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ الَّذِي خَرَجَ، عَنْ يَدِهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ, وَدَعْوَى لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ

(6/92)


صَحِيحَةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ, وَلاَ رَأْيٍ يَصِحُّ وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِهَذَا: أَهَذِهِ الَّتِي صَارَتْ إلَيْهِ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ عَنْهُ أَمْ هِيَ غَيْرُهَا فَإِنْ قَالَ: هِيَ غَيْرُهَا قِيلَ: فَكَيْفَ يُزَكِّي، عَنْ مَالٍ لاَ يَمْلِكُهُ وَلَعَلَّهَا أَمْوَاتٌ, أَوْ عِنْدَ كَافِرٍ.
وَإِنْ: قَالَ بَلْ هِيَ تِلْكَ, كَابِرُ الْعِيَانِ, وَصَارَ فِي مِسْلاَخِ مَنْ يَسْتَسْهِلُ الْكَذِبَ جِهَارًا.
فَإِنْ قَالَ: لَيْسَتْ هِيَ, وَلَكِنَّهَا مِنْ نَوْعِهَا قلنا نَعَمْ, فَكَانَ مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ زَكَاةُ غَيْرِ الْمَالِ الَّذِي ابْتَدَأَ الْحَوْلُ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ مِنْ نَوْعِهِ.
ثُمَّ يُسْأَلُونَ إنْ كَانَتْ الأَعْدَادُ مُخْتَلِفَةً: أَيُّ الْعَدَدَيْنِ يُزَكِّي الْعَدَدَ الَّذِي خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ أَمْ الْعَدَدُ الَّذِي اكْتَسَبَ وَلَعَلَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ نِصَابًا.
وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَيُّ شَيْءٍ قَالُوا فِي ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا وَبَاطِلاً بِلاَ بُرْهَانٍ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَالِكًا لِمِائَةِ شَاةٍ أَوْ لِعَشْرٍ مِنْ الإِبِلِ أَوْ لِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَوْلاً كَامِلاً مُتَّصِلاً.
قلنا: إنَّمَا الزَّكَاةُ تَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ، عَنْ مَالِ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ حَوْلاً كَامِلاً مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بِلاَ خِلاَفٍ; فَعَلَيْكُمْ الْبُرْهَانُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، عَنْ عَدَدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَكِنْ فِي أَعْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ, وَهَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِ, إلاَّ بِالدَّعْوَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
زَكَاة الْمَغْصُوبِ

(6/93)


من تلف ماله أو غصبه غاصب أو حيل بينه و بينه فلا زكاة عليه فيه
...
690 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَلِفَ مَالُهُ أَوْ غُصِبَهُ أَوْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ
أَيُّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ, فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ يَوْمًا مَا اسْتَأْنَفَ بِهِ حَوْلاً مِنْ حِينَئِذٍ, وَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا خَلاَ; فَلَوْ زَكَّاهُ الْغَاصِبُ ضَمِنَهُ كُلَّهُ, وَضَمِنَ مَا أَخْرَجَ مِنْهُ فِي الزَّكَاةِ.
لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الآُمَّةِ كُلِّهَا فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ إنْ أَحَبَّ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ لاَ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ, وَلَمْ يُكَلَّفْ الزَّكَاةَ مَنْ سِوَاهُ مَا لَمْ يَبِعْهُ هُوَ أَوْ يُخْرِجْهُ، عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ, فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُكَلَّفُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ, فَسَقَطَ بِهَذَا الإِجْمَاعِ تَكْلِيفُهُ أَدَاءَ زَكَاةٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ; ثُمَّ لَمَّا صَحَّ ذَلِكَ, وَكَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ, أَوْ الْمُتْلَفِ, أَوْ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ.

(6/93)


سَقَطَ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ, بِخِلاَفِ مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إحْضَارِهِ وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنْ مَدْفَنِهِ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ, وَمَا سَقَطَ بِبُرْهَانٍ لَمْ يَعُدْ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.
وَقَدْ كَانَتْ الْكُفَّارُ يُغِيرُونَ عَلَى سَرْحِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم; فَمَا كَلَّفَ قَطُّ أَحَدًا زَكَاةَ مَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ مَالِهِ.
وَقَدْ يُسْرَقُ الْمَالُ وَيُغْصَبُ فَيُفَرَّقُ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَكَانَهُ, فَكَانَ تَكْلِيفُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ مِنْ الْحَرَجِ الَّذِي قَدْ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى, إذْ يَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَكَذَلِكَ تَغَلُّبُ الْكُفَّارِ عَلَى بَلَدِ نَخْلٍ فَمِنْ الْمُحَالِ تَكْلِيفُ رَبِّهَا أَدَاءَ زَكَاةِ مَا أَخْرَجَتْ.
وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ, يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَإِعْطَاؤُهُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ تَعَدٍّ مِنْهُ, فَهُوَ ضَامِنٌ لَمَا تَعَدَّى فِيهِ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
وقال أبو حنيفة: بِمِثْلِ هَذَا كُلِّهِ, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَالُ الْمَدْفُونُ بِتَلَفِ مَكَانِهِ فِي مَنْزِلِهِ أَدَّى زَكَاتَهُ; وَإِنْ كَانَ خَارِجَ مَنْزِلِهِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ.
وقال مالك: لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ, فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ زَكَّاهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ وَإِنْ غَابَ عَنْهُ سِنِينَ.
وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْخَطَأِ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً إلاَّ أَنَّهُمْ قَلَّدُوا فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَوْلٍ لَهُ رَجَعَ إلَيْهِ, وَكَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْهُ لِكُلِّ سَنَةٍ خَلَتْ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ قَلَّدُوا عُمَرَ هَاهُنَا, وَلَمْ يُقَلِّدُوهُ فِي رُجُوعِهِ إلَى الْقَوْلِ بِالزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ; وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَلَّدُوهُ فِيهِ لاَِنَّهُ كَانَ يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ حِينَ يُفَادُ فَخَالَفُوهُ هَاهُنَا وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ!
وَقَالَ سُفْيَانُ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَبُو سُلَيْمَانَ: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِكُلِّ سَنَةٍ خَلَتْ.
وَقَدْ جَاءَ، عَنْ عُثْمَانَ, وَابْنِ عُمَرَ: إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا لاَ يَرَيَانِ الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ, وَاللَّيْثِ وَأَحَدِ قَوْلَيْ سُفْيَانَ,وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ

(6/94)


كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، حدثنا أَبُو عُثْمَانَ عَامِلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كَتَبَ إلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَالٍ رَدَّهُ عَلَى رَجُلٍ كَانَ ظُلِمَهُ: أَنْ خُذْ مِنْهُ الزَّكَاةَ لِمَا أَتَتْ عَلَيْهِ, ثُمَّ صَبَّحَنِي بَرِيدُ عُمَرَ: لاَ تَأْخُذْ مِنْهُ زَكَاةً, فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا أَوْ غَوْرًا.

(6/95)


من رهن ماشية أو ذهبا أو فضة أو أرضا فزرعها أو نخلا فأثمرت و حال الحول على الماشية و العين فالزكاة في كل ذلك
...
691 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَهَنَ مَاشِيَةً, أَوْ ذَهَبًا, أَوْ فِضَّةً, أَوْ أَرْضًا فَزَرَعَهَا, أَوْ نَخْلاً فَأَثْمَرَتْ, وَحَال الْحَوْلُ عَلَى الْمَاشِيَةِ, وَالْعَيْنِ: فَالزَّكَاةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ،
وَلاَ يُكَلَّفُ الرَّاهِنُ عِوَضًا عَمَّا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فِي زَكَاتِهِ,
أَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ; فَلاَِنَّهُ مَالٌ مِنْ مَالِهِ, عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ; وَلَمْ يَنْتَقِلْ مِلْكُهُ عَنْهُ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ بِتَكْلِيفِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ بُدَّ.
وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَكْلِيفِهِ الْعِوَضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَا أَخْرَجَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ وَعِدْوَانٍ, فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِرَدِّهِ وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ بِحَقٍّ مُفْتَرَضٍ إخْرَاجُهُ; فَتَكْلِيفُهُ حُكْمًا فِي مَالِهِ بَاطِلٌ, وَلاَ يَجُوزُ إلاَّ بِنَصٍّ, أَوْ إجْمَاعٍ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ".

(6/95)


692 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إيصَالُهَا إلَى السُّلْطَانِ
لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ مَالَهُ لِلْمُصَدَّقِ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ الْحَقَّ, ثُمَّ مُؤْنَةُ نَقْلِ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الزَّكَاةِ وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ وَهُمْ السُّعَاةُ فَيَقْبِضُونَ الْوَاجِبَ وَيَبْرَأُ أَصْحَابُ الأَمْوَالِ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقٌ فَعَلَى مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إيصَالُهَا إلَى مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَلاَ مَزِيدَ; لإِنَّ تَكْلِيفَ النَّقْلِ مُؤْنَةٌ وَغَرَامَةٌ لَمْ يَأْتِ بِهَا نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ; ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ كَلَّفَهُ ذَلِكَ مَيْلاً أَوْ مَنْ كَلَّفَهُ إلَى خُرَاسَانَ أَوْ أَبْعَدَ.

(6/95)


693 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ،
وَلاَ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ, وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا, وَيَرُدُّ إلَيْهِ مَا أَخْرَجَ قَبْلَ وَقْتِهِ; لاَِنَّهُ أَعْطَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَصَحَّ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَطَاءٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَالضَّحَّاكِ, وَالْحَكَمِ, وَالزُّهْرِيِّ.
وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ لِثَلاَثِ سِنِينَ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ: لاَ أَدْرِي مَا هَذَا!!
وقال أبو حنيفة: وَأَصْحَابُهُ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا.
ثُمَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ تَخْلِيطٌ كَثِيرٌ.
مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَالٍ عِنْدَهُ, وَلاَ فِي زَرْعٍ قَدْ زَرَعَهُ, وَلاَ فِي نَخْلٍ قَدْ أَطْلَعَتْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ اطِّلاَعِ النَّخْلِ وَقَبْلَ زَرْعِ الأَرْضِ, وَلَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ ثَلاَثِ سِنِينَ أَجْزَأَهُ.
وَأَكْثَرُ مِنْ هَذَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ تَخَالِيطِ أَقْوَالِهِمْ فِي كِتَابِ "الأَعْرَابِ"و اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، عَنْ مَالٍ عِنْدَهُ, لاَ، عَنْ مَالٍ لَمْ يَكْتَسِبْهُ بَعْدُ وَقَالَ: إنْ اسْتَغْنَى الْمِسْكِينُ مِمَّا أَخَذَ مِمَّا عَجَّلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَجْزَأَ صَاحِبَ الْمَالِ; فَإِنْ اسْتَغْنَى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْ، عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ.
وقال مالك: يُجْزِئُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بِشَهْرَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ, لاَ أَكْثَرَ, فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ فَكَمَا قلنا نَحْنُ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا تَقَاسِيمُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ يَصِحُّ, وَلاَ قِيَاسٍ. وَقَوْلُ اللَّيْثِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ: كَقَوْلِنَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ تَعْجِيلَهَا بِحُجَجٍ.
مِنْهَا: الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي, فِي هَلْ تُجْزِئُ قِيمَةٌ أَمْ لاَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ بَكْرًا فَقَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ جَمَلاً رَبَاعِيًا.
وَهَذَا لاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ, لاَِنَّهُ اسْتِسْلاَفٌ كَمَا تَرَى, لاَ اسْتِعْجَالَ صَدَقَةٍ; بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعْجِيلَهَا لاَ يَجُوزُ, إذْ لَوْ جَازَ لَمَا احْتَاجَ عليه الصلاة والسلام إلَى الاِسْتِقْرَاضِ; بَلْ كَانَ يَسْتَعْجِلُ زَكَاةً لِحَاجَتِهِ إلَى الْبِكْرِ.

(6/96)


وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُجِّيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَأَذِنَ لَهُ".
قَالَ أَبُو دَاوُد رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنِ الْحَكَمِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عُمَرَ مُصَدِّقًا وَقَالَ لَهُ، عَنِ الْعَبَّاسِ: إنَّا قَدْ اسْتَسْلَفْنَا زَكَاتَهُ لِعَامِ عَامِ الأَوَّلِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي يَزِيدُ أَبُو خَالِدٍ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ لِلْعَبَّاسِ: أَدِّ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَدْ أَدَّيْتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ, فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ".
هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ.
وَقَالُوا: حُقُوقُ الأَمْوَالِ كُلُّهَا جَائِزٌ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ أَجَلِهَا, قِيَاسًا عَلَى دُيُونِ النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةِ وَحُقُوقِهِمْ, كَالنَّفَقَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالُوا: إنَّمَا أُخِّرَتْ الزَّكَاةُ إلَى الْحَوْلِ فُسْحَةً عَلَى النَّاسِ فَقَطْ.
وَهَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ.
وَهَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
أَمَّا حَدِيثُ حُجِّيَّةَ: فَحُجِّيَّةُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالْعَدَالَةِ, وَلاَ تَقُومُ الْحُجَّةُ إلاَّ بِرِوَايَةِ الْعُدُولِ الْمَعْرُوفِينَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ هُشَيْمٍ فَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هُشَيْمٍ, وَلَوْ كَانَ فِيهِ لَبَنَّدَ بِهِ

(6/97)


فَصَارَ مُنْقَطِعًا, ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ أَيْضًا لَفْظَ أَنَسٍ، وَلاَ كَيْفَ رَوَاهُ, فَلَمْ يُجِزْ الْقَطْعَ بِهِ عَلَى الْجَهَالَةِ.
وَأَمَّا سَائِرُ الأَخْبَارِ فَمُرْسَلَةٌ.
وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ الْمُرْسَلَ, وَهُمْ يَقُولُونَ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ: إنَّهُ كَالْمُسْنَدِ, وَرَدُّوا فِيهِ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ, وَهُمْ يَأْخُذُونَ بِهَا إذَا وَافَقَتْهُمْ فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ الزَّكَاةَ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةِ: فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لإِنَّ تَعْجِيلَ دُيُونِ النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةِ قَدْ وَجَبَ بَعْدُ, ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى تَأْجِيلِهَا وَالزَّكَاةُ لَمْ تَجِبْ بَعْدُ, فَقِيَاسُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى مَا قَدْ وَجَبَ فِي الأَدَاءِ بَاطِلٌ.
وَأَيْضًا: فَتَعْجِيلُ دُيُونِ النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةِ لاَ يَجُوزُ إلاَّ بِرِضًا مِنْ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ, وَلَيْسَتْ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ; لاَِنَّهَا لَيْسَتْ لاِِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ, وَلاَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ, فَيَجُوزُ الرِّضَا مِنْهُمْ بِالتَّعْجِيلِ, وَإِنَّمَا هِيَ لاَِهْلِ صِفَاتٍ تَحْدُثُ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا, وَتَبْطُلُ عَمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْقَابِضِينَ لَهَا الآنَ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ تَعْجِيلَهَا لَوْ أَبْرَءُوا مِنْهَا دُونَ قَبْضٍ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ, وَلاَ بَرِئَ مِنْهَا مِنْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِإِبْرَائِهِمْ بِخِلاَفِ إبْرَاءِ مَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهَا إلَى السَّاعِي, فَقَدْ يَأْتِي وَقْتُ الزَّكَاةِ وَالسَّاعِي مَيِّتٌ أَوْ مَعْزُولٌ, وَاَلَّذِي بَعَثَهُ كَذَلِكَ, فَبَطَلَ قِيَاسُهُمْ ذَلِكَ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ.
وَكَذَلِكَ قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ, وَلَوْ أَنَّ امْرَأً عَجَّلَ نَفَقَةً لاِمْرَأَتِهِ أَوْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ, ثُمَّ جَاءَ الْوَقْتُ الْوَاجِبَةُ فِيهِ النَّفَقَةَ, وَاَلَّذِي تَجِبُ لَهُ مُضْطَرٌّ: لَمْ يُجْزِئْهُ تَعْجِيلُ مَا عَجَّلَ, وَأُلْزِمَ الآنَ النَّفَقَةَ, وَأُمِرَ بِاتِّبَاعِهِ بِمَا عَجَّلَ لَهُ دَيْنًا, لاِسْتِهْلاَكِهِ مَا لَمْ يَجِبْ لَهُ بَعْدُ.
بَلْ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ قِيَاسُ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا عَلَى تَعْجِيلِ الصَّلاَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَالصَّوْمُ قَبْلَ وَقْتِهِ أَصَحُّ, لاَِنَّهَا كُلَّهَا عِبَادَاتٌ مَحْدُودَةٌ بِأَوْقَاتٍ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهَا وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ.
فَإِنْ ادَّعُوا إجْمَاعًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعْجِيلِ الصَّلاَةِ أَكْذَبَهُمْ الأَثَرُ الصَّحِيحُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ, وَهْبَكَ لَوْ صَحَّ لَهُمْ الإِجْمَاعُ لَكَانَ هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ, لإِنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ

(6/98)


قِيَاسَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ قَبْلُ, ثُمَّ فُسِحَ لِلنَّاسِ فِي تَأْخِيرِهَا: فَكَذِبٌ وَبَاطِلٌ وَدَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ قَطُّ إلاَّ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ, لِصِحَّةِ النَّصِّ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُصَدِّقِينَ عِنْدَ الْحَوْلِ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ, وَمَا كَانَ عليه السلام لَيُضَيِّعَ قَبْضَ حَقٍّ قَدْ وَجَبَ وَلاِِجْمَاعِ الآُمَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا عِنْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى وُجُوبِهَا قَبْلَهُ, وَلاَ تَجِبُ الْفَرَائِضُ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.
فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَثَرٍ وَنَظَرٍ.
ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ: أَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَمْ لَمْ تَجِبْ فَإِنْ قَالُوا: لَمْ تَجِبْ قلنا: فَكَيْفَ تُجِيزُونَ أَدَاءَ مَا لَمْ يَجِبْ وَمَا لَمْ يَجِبْ فِعْلُهُ تَطَوُّعٌ, وَمَنْ تَطَوَّعَ فَلَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ وَإِنْ قَالُوا: قَدْ وَجَبَتْ قلنا: فَالْوَاجِبُ إجْبَارُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ عَلَى أَدَائِهِ, وَهَذَا بُرْهَانٌ لاَ مَحِيدَ عَنْهُ أَصْلاً.
وَنَسْأَلُهُمْ: كَيْفَ الْحَالُ إنْ مَاتَ الَّذِي عَجَّلَ الصَّدَقَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَ الَّذِينَ أَعْطُوهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ خَرَجُوا، عَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا تُسْتَحَقُّ الزَّكَوَاتُ فَصَحَّ أَنَّ تَعْجِيلَهَا بَاطِلٌ, وَإِعْطَاءٌ لِمَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا, وَمَنْعٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا, وَإِبْطَالُ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ; وَكُلُّ هَذَا لاَ يَجُوزُ.
وَالْعَجَبُ مِنْ إجَازَةِ الْحَنَفِيِّينَ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَكِلاَهُمَا مَالٌ مُعَجَّلٌ, إلاَّ أَنَّ النَّصَّ قَدْ يَصِحُّ بِتَعْجِيلِ مَا مَنَعُوا تَعْجِيلَهُ, وَلَمْ يَأْتِ بِتَعْجِيلِ مَا أَبَاحُوا تَعْجِيلَهُ, فَتَنَاقَضُوا فِي الْقِيَاسِ, وَصَحَّحُوا الآثَارَ الْفَاسِدَةَ, وَأَبْطَلُوا الأَثَرَ الصَّحِيحَ!
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنَّهُمْ مَعَ مَا تَنَاقَضُوا خَالَفُوا فِي هَذِهِ الْجُمْهُورَ مِنْ الْعُلَمَاءِ, وَهُمَا يُعَظِّمُونَ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ, وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّونَ فِيهِ الْقِيَاسَ, وَقَبِلُوا الْمُرْسَلَ الَّذِي يَرُدُّونَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/99)


694 - مَسْأَلَةٌ:وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ مَاشِيَةٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ
لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ لَمْ يَتْلَفْ وَأَتَمَّ عِنْدَهُ حَوْلاً مِنْهُ مَا فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ: زَكَّاهُ, وَإِلاَّ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ أَصْلاً, وَلَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ سِنِينَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يُزَكِّيهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إذَا حَلَّتْ يَعْنِي الزَّكَاةَ فَاحْسِبْ دَيْنَكَ وَمَا عِنْدَكَ وَاجْمَعْ ذَلِكَ جَمِيعًا ثُمَّ زَكِّهِ.
وَبِهِ إلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ هُوَ جَدُّ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ: يَجِيءُ إبَّانَ صَدَقَتِي فَأُبَادِرُ الصَّدَقَةَ فَأُنْفِقُ عَلَى أَهْلِي وَأَقْضِي, دَيْنِي قَالَ عُمَرُ: لاَ تُبَادِرْ بِهَا, وَاحْسِبْ دَيْنَك وَمَا عَلَيْكَ, وَزَكِّ ذَلِكَ أَجْمَعَ
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيِّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي الدَّيْنِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ فَيَمْطُلُهُ قَالَ: زَكَاتُهُ عَلَى الَّذِي يَأْكُلُ مَهْنَأَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ نَحْوَهُ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ، عَنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْهُ: ابْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالاَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ وُلِّيَ مَالَ يَتِيمٍ فَكَانَ يَسْتَسْلِفُ مِنْهُ, يَرَى أَنَّ ذَلِكَ أُحْرِزَ لَهُ: وَيُؤَدِّي زَكَاتَهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيم.
فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لاَ يُزَكِّيهِ، عَنْ نَفْسِهِ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ: إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَالزَّكَاةُ عَلَى الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ.
وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: إذَا كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ; إنَّمَا زَكَاتُهُ عَلَى الَّذِي هُوَ لَهُ.

(6/100)


وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: زَكِّ مَا فِي يَدَيْكَ مِنْ مَالِكَ, وَمَا لَكَ عَلَى الْمَلِيءِ، وَلاَ تُزَكِّ مَا لِلنَّاسِ عَلَيْكَ.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ: وَمَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابِهِ, وَوَكِيعٍ.
قال أبو محمد: إنَّمَا وَافَقْنَا قَوْلَ هَؤُلاَءِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ، عَنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَقَطْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: خَالَفَنِي إبْرَاهِيمُ فِي الدَّيْنِ, كُنْتُ أَقُولُ: لاَ يُزَكِّي, ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِي.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ لَهُ، وَلاَ عَلَى الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: السَّلَفُ يُسْلِفُهُ الرَّجُلُ. قَالَ: لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْمَالِ، وَلاَ عَلَى الَّذِي اسْتَسْلَفَهُ زَكَاةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: لاَ يُزَكِّي الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ الدِّينَ, وَلاَ يُزَكِّيهِ الَّذِي هُوَ لَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
قال أبو محمد: إذَا خَرَجَ الدَّيْنُ، عَنْ مِلْكِ الَّذِي اسْتَقْرَضَهُ فَهُوَ مَعْدُومٌ عِنْدَهُ, وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ يُزَكِّيَ، عَنْ لاَ شَيْءَ, وَعَمَّا لاَ يَمْلِكُ, وَعَنْ شَيْءٍ لَوْ سَرَقَهُ قُطِعَتْ يَدُهُ; لاَِنَّهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.

(6/101)


من عليه دين و عنده مال تجب في مثله الزكاة
...
695 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ مَالٌ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ
سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ, مِنْ جِنْسِهِ كَانَ
أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ: فَإِنَّهُ يُزَكِّي مَا عِنْدَهُ, وَلاَ يَسْقُطُ مِنْ أَجْلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ زَكَاةِ مَا بِيَدِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا.
وقال مالك: يُجْعَلُ الدَّيْنُ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي عِنْدَهُ الَّتِي لاَ زَكَاةَ فِيهَا, وَيُزَكِّي مَا عِنْدَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عُرُوضٌ جَعَلَ دَيْنَهُ فِيمَا بِيَدِهِ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ, وَأَسْقَطَ بِذَلِكَ الزَّكَاةَ, فَإِنْ فَضَلَ، عَنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ يَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنَّمَا هَذَا عِنْدَهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَطْ. وَأَمَّا الْمَوَاشِي وَالزَّرْعُ وَالثِّمَارُ فَلاَ; وَلَكِنْ يُزَكِّي كُلَّ ذَلِكَ, سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلَ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْقِطُ الدَّيْنُ زَكَاةَ الْعَيْنِ وَالْمَوَاشِي, وَلاَ يُسْقِطُ زَكَاةَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ, وَمُحَمَّدٌ: يُجْعَلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فِي مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ, سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ, وَالْمَوَاشِي, وَالْحَرْثُ, وَالثِّمَارُ, وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ, وَيَسْقُطُ بِهِ زَكَاةُ كُلِّ ذَلِكَ. وَلاَ يُجْعَلُ دَيْنُهُ فِي عُرُوضِ الْقِنْيَةِ مَا دَامَ عِنْدَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ, أَوْ مَا دَامَ عِنْدَهُ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ; وَهُوَ قَوْل اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ زُفَرُ: لاَ يُجْعَلُ دَيْنُ الزَّرْعِ إلاَّ فِي الزَّرْعِ, وَلاَ يُجْعَلُ دَيْنُ الْمَاشِيَةِ إلاَّ فِي الْمَاشِيَةِ, وَلاَ يُجْعَلُ دَيْنُ الْعَيْنِ إلاَّ فِي الْعَيْنِ, فَيَسْقُطُ بِذَلِكَ مَا عِنْدَهُ مِمَّا عَلَيْهِ دَيْنُ مِثْلِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: حَرْثٌ لِرَجُلٍ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ, أَيُؤَدِّي حَقَّهُ قَالَ: مَا نَرَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةً, لاَ فِي مَاشِيَةٍ، وَلاَ فِي أَصْلٍ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ أَبَا الزُّبَيْرِ, سَمِعْت طَاوُوسًا يَقُولُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ.
قال أبو محمد: إسْقَاطُ الدَّيْنِ زَكَاةُ مَا بِيَدِ الْمَدِينِ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ; بَلْ قَدْ جَاءَتْ السُّنَنُ الصِّحَاحُ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَوَاشِي, وَالْحَبِّ, وَالتَّمْرِ, وَالذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ, بِغَيْرِ تَخْصِيصِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِمَّنْ لاَ دَيْنَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّ مَا بِيَدِهِ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَبْتَاعَ مِنْهُ جَارِيَةً يَطَؤُهَا وَيَأْكُلَ مِنْهُ وَيُنْفِقَ مِنْهُ; وَلَوْ لَمْ يَكْفِي لَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا; فَإِذَا هُوَ لَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، عَنْ مِلْكِهِ وَيَدِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَزَكَاةُ مَالِهِ عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ.
وَأَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ: فَفِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ, وَمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
وَالْمَالِكِيُّونَ: يُنْكِرُونَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي إيجَابِهِ لِلزَّكَاةِ فِي زَرْعِ الْيَتِيمِ وَثِمَارِهِ دُونَ مَاشِيَتِهِ وَذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنْ قَبْضَ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالزَّرْعِ إلَى الْمُصَدِّقِ.
قِيلَ: فَكَانَ مَاذَا وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَبْضُ زَكَاةِ الْعَيْنِ إلَى السُّلْطَانِ إذَا طَلَبَهَا، وَلاَ فَرْقَ.

(6/102)


من كان له على غيره دين لا زكاة فيه على صاحبه
...
696 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَيْنٌ فَسَوَاءٌ كَانَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً عِنْدَ مَلِيءٍ مُقِرٍّ يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ أَوْ مُنْكِرٍ, أَوْ عِنْدَ عَدِيمٍ مُقِرٍّ أَوْ مُنْكِرٍ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَلاَ زَكَاةَ فِيهِ عَلَى صَاحِبِهِ,
وَلَوْ أَقَامَ عَنْهُ سِنِينَ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَإِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلاً كَسَائِرِ الْفَوَائِدِ، وَلاَ فَرْقَ. فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ مَا لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ, لاَ حِينَئِذٍ، وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَاشِيَةُ, وَالذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا النَّخْلُ, وَالزَّرْعُ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ أَصْلاً; لاَِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ مِنْ زَرْعِهِ، وَلاَ مِنْ ثِمَارِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُزَكِّيهِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ، عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ عَلَى آخَرَ فَقَالَ: يُزَكِّيهِ صَاحِبُ الْمَالِ, فَإِنْ خَشِيَ أَنْ لاَ يَقْضِيَهُ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ, فَإِذَا خَرَجَ الدَّيْنُ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا هِشَامُ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ: سُئِلَ عَلِيٌّ، عَنِ الدَّيْنِ الظَّنُونِ: أَيُزَكِّيهِ قَالَ: إنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُزَكِّهِ لِمَا مَضَى وَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَالظَّنُونُ: هُوَ الَّذِي لاَ يُرْجَى.
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس: إذَا كَانَتْ لَك دَيْنٌ فَزَكِّهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: يُزَكِّيهِ يَعْنِي: مَالَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ احْسَبْ دَيْنَكَ وَمَا عَلَيْكَ وَزَكِّ ذَلِكَ أَجْمَعَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مَلِيءٍ فَعَلَى صَاحِبِهِ أَدَاءُ زَكَاتِهِ, فَإِنْ كَانَ عَلَى مُعْدِمٍ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ; فَيَكُونُ عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الَّتِي مَضَتْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلُ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إذَا كَانَ لَكَ الدَّيْنُ فَعَلَيْكَ زَكَاتُهُ; وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْكَ فِيهِ.

(6/103)


وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ, فَإِذَا قَبَضَهُ أَوْ قَبَضَ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ, وَإِنْ بَقِيَ سِنِينَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ كَانَ عَلَى ثِقَةٍ زَكَّاهُ; وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: زَكُّوا أَمْوَالَكُمْ مِنْ حَوْلٍ إلَى حَوْلٍ, فَمَا كَانَ فِي دَيْنٍ فِي ثِقَةٍ فَاجْعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ فِي أَيْدِيكُمْ, وَمَا كَانَ مِنْ دَيْنٍ ظَنُونٍ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ صَاحِبُهُ.
وَعَنْ طَاوُوس مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ: إذَا كَانَ لَك دَيْنٌ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَخْرُجُ فَزَكِّهِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ: زَكِّ مَا فِي يَدَيْكَ وَمَالَكَ عَلَى الْمَلِيءِ, وَلاَ تُزَكِّ مَا لِلنَّاسِ عَلَيْكَ. ثُمَّ رَجَعَ، عَنْ هَذَا.
وَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ: مَا كَانَ مِنْ دَيْنٍ فِي مَلِيءٍ تَرْجُوهُ فَاحْسُبْهُ, ثُمَّ أَخْرِجْ مَا عَلَيْك وَزَكِّ مَا بَقِيَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ فَزَكِّهِ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ حَتَّى يَقْبِضَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فَقَدْ رُوِّينَا قَبْلُ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَهُ, وَعَنْ عَطَاءٍ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ; لاَِنَّهُ جَعَلَ زَكَاةَ الدَّيْنِ عَلَى الَّذِي هُوَ لَهُ, وَعَلَى الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ. فَأَوْجَبَ زَكَاتَيْنِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ, فَحَصَلَ فِي الْعَيْنِ نِصْفُ الْعُشْرِ, وَفِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاتَانِ, وَكَذَلِكَ مَا زَادَ.
وَأَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ فَمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ إلاَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُ ذَلِكَ وَمِثْلُ قَوْلِنَا.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَسَّمَ ذَلِكَ تَقَاسِيمَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, وَهِيَ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ دَيْنٍ لَيْسَ، عَنْ بَدَلٍ, أَوْ كَانَ، عَنْ بَدَلِ مَا لاَ يَمْلِكُ, كَالْمِيرَاثِ, وَالْمَهْرِ, وَالْجُعْلِ, وَدِيَةِ الْخَطَأِ, وَالْعَمْدِ إذَا صَالَحَ عَلَيْهَا, وَالْخُلْعِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَى مَالِكِهِ أَصْلاً حَتَّى يَقْبِضَهُ, فَإِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ بِهِ حَوْلاً, وَجَعَلَ كُلَّ دَيْنٍ يَكُونُ، عَنْ بَدَلٍ لَوْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ لَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ

(6/104)


كَقَرْضِ الدَّرَاهِمِ وَفِيمَا وَجَبَ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ وَالْمُتَعَدِّي, وَثَمَنِ عَبْدِ التِّجَارَةِ: فَإِنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ كَانَ عَلَى ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِ ثِقَةٍ حَتَّى يَقْبِضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا قَبَضَهَا زَكَّاهَا لِعَامٍ خَالٍ, ثُمَّ يُزَكِّي كُلَّ أَرْبَعِينَ يَقْبِضُ, وَجَعَلَ كُلَّ دَيْنٍ يَكُونُ، عَنْ بَدَلٍ لَوْ بَقِيَ فِي يَدِهِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْعُرُوضِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ يَبِيعُهَا: قِسْمًا آخَرَ, فَاضْطَرَبَ فِيهِ قَوْلُهُ, فَمَرَّةً جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمِيرَاثِ, وَالْمَهْرِ, وَمَرَّةً قَالَ: لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْبِضَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, فَإِذَا قَبَضَهَا زَكَّاهَا لِعَامٍ خَالٍ, وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ مَا كَانَ عِنْدَ عَدِيمٍ أَوْ مَلِيءٍ إذَا كَانَا مُقِرَّيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَتَخْلِيطٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ.
قال أبو محمد: إنَّمَا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عِنْدَ غَرِيمِهِ عَدَدٌ فِي الذِّمَّةِ وَصِفَةٌ فَقَطْ, وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ عَيْنُ مَالٍ أَصْلاً, وَلَعَلَّ الْفِضَّةَ أَوْ الذَّهَبَ اللَّذَيْنِ لَهُ عِنْدَهُ فِي الْمَعْدِنِ بَعْدُ, وَالْفِضَّةُ تُرَابٌ بَعْدُ, وَلَعَلَّ الْمَوَاشِيَ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ, فَكَيْفَ تَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْسِيمَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ: لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمَا, لإِنَّ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إنَّمَا هِيَ فِي الْغَصْبِ لاَ فِي الدَّيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/105)


المهر و الخلع و الديات بمنزلة ما قلنا ما لم يتعين المهر
...
697 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُهُورُ وَالْخُلْعُ, وَالدِّيَاتُ, فَبِمَنْزِلَةِ مَا قلنا; مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمَهْرُ;
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَيْنٌ, فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ فِضَّةً مُعَيَّنَةً دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ ذَهَبًا بِعَيْنِهِ دَنَانِيرَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ مَاشِيَةً بِعَيْنِهَا, أَوْ نَخْلاً بِعَيْنِهَا, أَوْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ مِيرَاثًا: فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ; لاَِنَّهَا أَمْوَالٌ صَحِيحَةٌ ظَاهِرَةٌ مَوْجُودَةٌ, فَالزَّكَاةُ فِيهَا, وَلاَ مَعْنَى لِلْقَبْضِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ صَاحِبَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ, فَإِنْ مَنَعَ صَارَ مَغْصُوبًا وَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/105)


من كان له دين على بعض أهل الصدقات فتصدق عليه بدينه قبله و نوى بذلك أنه من زكاته أجزأه
...
698 - مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ بُرًّا, أَوْ شَعِيرًا, أَوْ ذَهَبًا, أَوْ فِضَّةً, أَوْ مَاشِيَةً فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ قِبَلَهُ, وَنَوَى بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ زَكَاتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ,
وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ الدَّيْنِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ عِنْدَهُ وَنَوَى بِذَلِكَ الزَّكَاةَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ, وَبِأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْهَا, فَإِذَا كَانَ إبْرَاؤُهُ مِنْ الدَّيْنِ يُسَمَّى صَدَقَةً فَقَدْ أَجْزَأَهُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أصِيبَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَ هُوَ قَوْلُ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ.

(6/106)


من أعطى زكاة ماله من وجبت له من أهلها ...الخ
...
699 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ مِنْ أَهْلِهَا, أَوْ دَفَعَهَا إلَى الْمُصَدِّقِ الْمَأْمُورِ بِقَبْضِهَا فَبَاعَهَا مَنْ قَبَضَ حَقَّهُ فِيهَا أَوْ مَنْ لَهُ قَبْضُهَا نَظَرًا لاَِنَّهَا لاَِهْلِهَا:
فَجَائِزٌ لِلَّذِي أَعْطَاهَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا, وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَتْ إلَيْهِ بِهِبَةٍ, أَوْ هَدِيَّةٍ, أَوْ مِيرَاثٍ, أَوْ صَدَاقٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ سَائِرِ الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ, وَلاَ يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهَا; لاَِنَّهُ ابْتَاعَ شَيْئًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ; وَهَذَا لاَ يَجُوزُ; لاَِنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا الَّذِي ابْتَاعَ, وَلَمْ يُعْطِ الزَّكَاةَ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى أَهْلِهَا, وَبِهَذَا نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَ مَا لَزِمَهُ الْقِيمَةُ, وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَهُوَ قَدْ أَدَّى صَدَقَةَ مَالِهِ كَمَا أُمِرَ, وَبَاعَهَا الآخِذُ كَمَا أُبِيحَ لَهُ.
وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ; وَكَرِهَهُ مَالِكٌ; وَأَجَازَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ.
وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ, وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَشْتَرِهِ, وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ الأَحْوَلِ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ "أَنَّ الزُّبَيْرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, فَوَجَدَ فَرَسًا مِنْ ضِئْضِئِهَا يَعْنِي مِنْ نَسْلِهَا فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ, فَنُهِيَ" وَنَحْوَ هَذَا أَيْضًا، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ, وَلاَ يَصِحُّ.
قال أبو محمد وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ فَرَسَ عُمَرَ كَانَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ حَمَلَ

(6/106)


عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فَصَارَ حَبْسًا فِي هَذَا الْوَجْهِ, فَبَيْعُهُ إخْرَاجٌ لَهُ عَمَّا سُبِّلَ فِيهِ, وَلاَ يَحِلُّ هَذَا أَصْلاً; فَابْتِيَاعُهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْخَبَرَيْنِ الآخَرَيْنِ, لَوْ صَحَّا, لاَ سِيَّمَا, وَفِي حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ نَهَى نِتَاجَهَا, وَهَذِهِ صِفَةُ الْحَبْسِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهُ وَكَانَ صَدَقَةً مُطْلَقَةً يَمْلِكُهَا الْمُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْهِ وَيَبِيعُهَا إنْ شَاءَ فَلَيْسَ ابْتِيَاعُ الْمُتَصَدِّقِ بِهَا عَوْدًا فِي صَدَقَتِهِ, لاَ فِي اللُّغَةِ, وَلاَ فِي الدِّيَانَةِ; لإِنَّ الْعَوْدَ فِي الصَّدَقَةِ هُوَ انْتِزَاعُهَا وَرَدُّهَا إلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَإِبْطَالُ صَدَقَتِهِ بِهَا فَقَطْ, وَالْحَاضِرُونَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ يُجِيزُونَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُتَصَدِّقُ بِهَا بِالْمِيرَاثِ, وَقَدْ عَادَتْ إلَى مِلْكِهِ كَمَا عَادَتْ بِالشِّرَاءِ، وَلاَ فَرْقَ; فَصَحَّ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا فَقَطْ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا آدَم، حدثنا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: ُأتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ, فَقُلْتُ: هَذَا مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ. فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ".
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حدثنا الْحُمَيْدِيُّ، حدثنا سُفْيَانُ، حدثنا الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ السَّبَّاقَ أَنَّهُ سَمِعَ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "هَلْ مِنْ طَعَامٍ" فَقُلْتُ: لاَ, إلاَّ عَظْمًا أُعْطِيَتْهُ مَوْلاَةٌ لَنَا مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: "قَرِّبِيهِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا".
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ اسْتَبَاحَهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا مَحِلَّهَا, إذْ رَجَعَتْ إلَيْهِ بِالْهَدِيَّةِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلاَّ لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا, أَوْ لِغَارِمٍ, أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ, أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ, فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ".

(6/107)


فَهَذَا نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَوَازِ ابْتِيَاعِ الصَّدَقَةِ, وَلَمْ يَخُصَّ الْمُتَصَدِّقَ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لاَ تَشْتَرِ الصَّدَقَةَ حَتَّى تَعْقِلَ: يَعْنِي حَتَّى تُؤَدِّيَهَا: وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّدَقَةِ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتهَا أَوْ رُدَّتْ عَلَيْك, أَوْ وَرِثْتهَا حَلَّتْ لَك.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَلاَ يَبْتَاعَهَا حَتَّى تَصِيرَ إلَى غَيْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ.
قال أبو محمد: فَهَذَا عُمَرُ يُجِيزُ لِلْمُتَصَدِّقِ بِالصَّدَقَةِ ابْتِيَاعَهَا إذَا انْتَقَلَتْ، عَنِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ; ، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الأَمْرَيْنِ.
وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ, وَمَكْحُولٍ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ, وَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ, وَأَجَازَ رُجُوعَهَا إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ فَرَجَعَ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ تَصَدَّقَ بِهِ, وَيُفْتِي بِذَلِكَ.
فَخَرَجَ قَوْلُ مَالِكٍ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم مُوَافِقٌ.

(6/108)


لا شيء في المعادن كلها لا خمس و لا زكاة معجلة إلا إذا كان ذهبا أو فضة
...
700 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَلاَ شَيْءَ فِي الْمَعَادِنِ, وَهِيَ فَائِدَةٌ, لاَ خُمْسَ فِيهَا، وَلاَ زَكَاةً مُعَجَّلَةً,
فَإِنْ بَقِيَ الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ عِنْدَ مُسْتَخْرِجِهَا حَوْلاً قَمَرِيًّا, وَكَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ: زَكَّاهُ, وَإِلاَّ فَلاَ.
وقال أبو حنيفة: عَلَيْهِ فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ, وَالنُّحَاسِ, وَالرَّصَاصِ, وَالْقَزْدِيرِ, وَالْحَدِيدِ: الْخُمْسُ, سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضِ عُشْرٍ أَوْ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ, سَوَاءٌ أَصَابَهُ مُسْلِمٌ, أَوْ كَافِرٌ, عَبْدٌ, أَوْ حُرٌّ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ فِي دَارِهِ فَلاَ خُمْسَ فِيهِ, وَلاَ زَكَاةَ, وَلاَ شَيْءَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمَعَادِنِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الزِّئْبَقِ, فَمَرَّةً رَأَى فِيهِ الْخُمْسَ, وَمَرَّةً لَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا.
وقال مالك: فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ: الزَّكَاةُ مُعَجَّلَةٌ فِي الْوَقْتِ إنْ كَانَ مِقْدَارُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ شَيْءَ فِي غَيْرِهَا, وَلاَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ دَيْنٌ يَكُونُ عَلَيْهِ; فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ فِي مَعْدِنِ الذَّهَبِ, أَوْ الْفِضَّةِ نُدْرَةً بِغَيْرِ كَبِيرِ عَمَلٍ فَفِي ذَلِكَ الْخُمْسُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى فِيهِ الْخُمْسَ بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ: "وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ"

(6/108)


وَذَكَرُوا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنِ الرِّكَازِ. فَقَالَ: "هُوَ الذَّهَبُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ".
قال أبو محمد: هَذَا حَدِيثٌ سَاقِطٌ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ مُتَّفَقٌ عَلَى إطْرَاحِ رِوَايَتِهِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ فِي الذَّهَبِ خَاصَّةً.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا سَائِرَ الْمَعَادِنِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الذَّهَبِ.
قلنا لَهُمْ: فَقِيسُوا عَلَيْهِ أَيْضًا مَعَادِنَ الْكِبْرِيتِ, وَالْكُحْلِ, وَالزِّرْنِيخِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ حِجَارَةٌ.
قلنا: فَكَانَ مَاذَا وَمَعْدِنُ الْفِضَّةِ, وَالنُّحَاسِ أَيْضًا حِجَارَةٌ، وَلاَ فَرْقَ.
وَأَمَّا الرِّكَازُ فَهُوَ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَطْ; لاَ الْمَعَادِنُ, لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ احْتِجَاجُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فِي اللُّقَطَةِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الْخَرَابِ وَالأَرْضِ الْمِيْتَاءِ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ" وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا, وَهَذَا كَمَا تَرَى!!
وَلَوْ كَانَ الْمَعْدِنُ رِكَازًا لَكَانَ الْخُمْسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْمَعَادِنِ, كَمَا أَنَّ الْخُمْسَ فِي كُلِّ دَفْنٍ لِلْجَاهِلِيَّةِ, أَيُّ شَيْءٍ كَانَ; فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَتَنَاقُضُهُمْ.
لاَ سِيَّمَا فِي إسْقَاطِهِمْ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِالْخَرَاجِ, وَلَمْ يُسْقِطُوا الْخُمْسَ فِي الْمَعَادِنِ بِالْخَرَاجِ وَأَوْجَبُوا فِيهَا خُمْسًا فِي أَرْضِ الْعُشْرِ, وَعَلَى الْكَافِرِ, وَالْعَبْدِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمَعْدِنِ فِي الدَّارِ وَبَيْنَهُ خَارِجَ الدَّارِ, وَلاَ يُعْرَفُ كُلُّ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: بِرَدِّ الأَخْبَارِ الصِّحَاحِ إذَا خَالَفَتْ الآُصُولَ وَحُكْمُهُمْ هَاهُنَا مُخَالِفٌ لِلآُصُولِ.

(6/109)


فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ فِيهِ الْخُمْسَ.
قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْحُكْمِ إنْ كَانَ حُجَّةً; لإِنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي رَجُلٍ اسْتَخْرَجَ مَعْدِنًا فَبَاعَهُ بِمِائَةِ شَاةٍ, وَأَخْرَجَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ثَمَنَ أَلْفِ شَاةٍ فَرَأَى عَلِيٌّ الْخُمْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي; لاَ عَلَى الْمُسْتَخْرِجِ لَهُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى فِيهِ الزَّكَاةَ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ لِبِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ وَهِيَ فِي نَاحِيَةِ الْفُرْعِ". قَالَ: فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا إلاَّ الزَّكَاةَ إلَى الْيَوْمِ.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ, وَلَيْسَ فِيهِ مَعَ إرْسَالِهِ إلاَّ إقْطَاعُهُ عليه السلام تِلْكَ الْمَعَادِنَ فَقَطْ, وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمَالِكِيُّونَ أَوَّلَ مُخَالِفٍ لَهُ; لأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي النُّدْرَةِ تُصَابُ فِيهِ بِغَيْرِ كَبِيرِ عَمَلٍ: الْخُمْسَ; وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ.
وَيُسْأَلُونَ أَيْضًا، عَنْ مِقْدَارِ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْكَبِيرِ وَحَدِّ النُّدْرَةِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ إلاَّ بِدَعْوَى لاَ يَجُوزُ الاِشْتِغَالُ بِهَا فَظَهَرَ أَيْضًا فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ وَتَنَاقُضُهُ.
وَقَالُوا أَيْضًا: الْمَعْدِنُ كَالزَّرْعِ يَخْرُجُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: قِيَاسُ الْمَعْدِنِ عَلَى الزَّرْعِ كَقِيَاسِهِ عَلَى الزَّكَاةِ, وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَتَعَارَضَ هَذَانِ الْقِيَاسَانِ; وَكِلاَهُمَا فَاسِدٌ, أَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الرِّكَازِ فَيَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَعْدِنٍ; وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا, وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الزَّرْعِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يُرَاعُوا فِيهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا, وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يَقِيسُوا كُلَّ مَعْدِنٍ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ عَلَى الزَّرْعِ.
وَاحْتَجَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ; ، حدثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أُبَيٍّ نَعَمْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تَحْصُلْ مِنْ تُرَابِهَا

(6/110)


فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ, وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ, وَزَيْدِ الْخَيْرِ, وَذَكَرَ رَابِعًا, وَهُوَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ". فَقَالَ مَنْ رَأَى فِي الْمَعْدِنِ الزَّكَاةَ: هَؤُلاَءِ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ, وَحَقُّهُمْ فِي الزَّكَاةِ لاَ فِي الْخُمْسِ; وَقَالَ الآخَرُونَ: عَلِيٌّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ, وَلاَ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ فِي الصَّدَقَةِ, وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الأَخْمَاسِ.
قَالَ عَلِيٌّ: كِلاَ الْقَوْلَيْنِ دَعْوًى فَاسِدَةٌ, وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّهَبُ مِنْ خُمْسٍ وَاجِبٍ, أَوْ مِنْ زَكَاةٍ لَمَا جَازَ أَلْبَتَّةَ أَخْذُهَا إلاَّ بِوَزْنٍ وَتَحْقِيقٍ, لاَ يُظْلَمُ مَعَهُ الْمُعْطِي، وَلاَ أَهْلُ الأَرْبَعَةِ الأَخْمَاسِ; فَلَمَّا كَانَتْ لَمْ تَحْصُلْ مِنْ تُرَابِهَا صَحَّ يَقِينًا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَإِنَّمَا كَانَتْ هَدِيَّةً مِنْ الَّذِي أَصَابَهَا, أَوْ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ, فَأَعْطَاهَا عليه السلام مَنْ شَاءَ, وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ غَيْرِ الزَّرْعِ إلاَّ بَعْدَ الْحَوْلِ, وَالْمَعْدِنِ مِنْ جُمْلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ; فَلاَ شَيْءَ فِيهَا إلاَّ بَعْدَ الْحَوْلِ.
وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَأَحَدِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ, وَقَوْلِ أَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَنْ ظَهَرَ فِي أَرْضِهِ مَعْدِنٌ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ, وَيَصِيرُ لِلسُّلْطَانِ, وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ; بِلاَ بُرْهَانٍ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ; ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.
وَعَلَى هَذَا إنْ ظَهَرَ فِي مَسْجِدٍ أَنْ يَصِيرَ مِلْكُهُ لِلسُّلْطَانِ وَيَبْطُلُ حُكْمُهُ وَلَوْ أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". فَصَحَّ أَنَّ مَنْ ظَهَرَ فِي أَرْضِهِ مَعْدِنٌ فَهُوَ لَهُ, يُورَثُ عَنْهُ وَيَعْمَلُ فِيهِ مَا شَاءَ.

(6/111)


701 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تُؤْخَذُ زَكَاةٌ مِنْ كَافِرٍ
لاَ مُضَاعَفَةً، وَلاَ غَيْرَ مُضَاعَفَةٍ, لاَ مِنْ بَنِي تَغْلِبٍ، وَلاَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِك.
وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, كَذَلِكَ إلاَّ فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً; فَإِنَّهُمْ قَالُوا: تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الزَّكَاةُ مُضَاعَفَةً.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ وَاهٍ مُضْطَرِبٍ فِي غَايَةِ الاِضْطِرَابِ, رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ مَطَرٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ التَّغْلِبِيِّ قَالَ: صَالَحْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، عَنْ بَنِي تَغْلِبَ بَعْد أَنْ قَطَعُوا الْفُرَاتَ وَأَرَادُوا اللُّحُوقَ بِالرُّومِ عَلَى أَنْ

(6/111)


لاَ يَصْبُغُوا صَبِيًّا، وَلاَ يُكْرَهُوا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ الْعُشْرَ مُضَاعَفًا فِي كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ قَالَ دَاوُد بْنُ كُرْدُوسٍ: لَيْسَ لِبَنِي تَغْلِبَ ذِمَّةٌ, قَدْ صَبَغُوا فِي دِينِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ زُرْعَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَوْ النُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ أَنَّهُ كَلَّمَ عُمَرَ فِي بَنِي تَغْلِبَ وَقَالَ لَهُ: إنَّهُمْ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ, فَلاَ تُعِنْ عَدُوَّكَ بِهِمْ; فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ عَلَى أَنْ أُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ, فَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ: أَنْ لاَ يَنْصُرُوا أَوْلاَدَهُمْ. قَالَ مُغِيرَةُ فَحُدِّثْتُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَئِنْ تَفَرَّغْتُ لِبَنِي تَغْلِبَ لاَُقَتِّلَنَّ مُقَاتِلَتَهُمْ وَلاََسْبِيَنَّ ذَرَارِيَّهُمْ; فَقَدْ نَقَضُوا, وَبَرِئَتْ مِنْهُمْ الذِّمَّةُ حِينَ نَصَرُوا أَوْلاَدَهُمْ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ حَرْبٍ فَقَالَ: فِيهِ عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ النُّعْمَانِ, وَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءٌ سَوَاءٌ, وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لاَ ذِمَّةَ لَهُمْ الْيَوْمَ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: لاَ نَعْلَمُ فِي مَوَاشِي أَهْلِ الْكِتَابِ صَدَقَةً إلاَّ الْجِزْيَةَ غَيْرَ أَنَّ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ الَّذِينَ جُلُّ أَمْوَالِهِمْ الْمَوَاشِي تُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَيْ الصَّدَقَةِ.
هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, وَلَوْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَا حَلَّ الأَخْذُ بِهِ لاِنْقِطَاعِهِ وَضَعْفِ رُوَاتِهِ, فَكَيْفَ وَلَيْسَ هُوَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم!

(6/112)


فَكَيْفَ وَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ وَهَدَمُوا بِهِ أَكْثَرَ أُصُولِهِمْ لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لاَ يُقْبَلُ خَبَرُ الآحَادِ الثِّقَاتِ الَّتِي لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا فِيمَا إذَا كَثُرَتْ بِهِ الْبَلْوَى, وَهَذَا أَمْرٌ تَكْثُرُ بِهِ الْبَلْوَى, وَلاَ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ, فَقَبِلُوا فِيهِ خَبَرًا لاَ خَيْرَ فِيهِ.
وَهُمْ قَدْ رَدُّوا بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا خَبَرَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ, وَيَقُولُونَ: لاَ يُقْبَلُ خَبَرُ الآحَادِ الثِّقَاتِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ, وَرَدُّوا بِهَذَا حَدِيثَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ, وَكَذَّبُوا مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ.
وَلاَ خِلاَفَ لِلْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَقَالُوا هُمْ: إلاَّ بَنِي تَغْلِبَ فَلاَ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ، وَلاَ صَغَارَ عَلَيْهِمْ; بَلْ يُؤَدُّونَ الصَّدَقَةَ مُضَاعَفَةً; فَخَالَفُوا الْقُرْآنَ, وَالسُّنَنَ الْمَنْقُولَةَ نَقْلَ الْكَافَّةِ بِخَبَرٍ لاَ خَيْرَ فِيهِ!
وَقَالُوا: لاَ يُقْبَلُ خَبَرُ الآحَادِ الثِّقَاتِ إذَا خَالَفَ الآُصُولَ, وَرَدُّوا بِذَلِكَ خَبَرَ الْقُرْعَةِ فِي الأَعْبُدِ السِّتَّةِ, وَخَبَرَ الْمُصَرَّاةِ, وَكَذَّبُوا مَا هُمَا مُخَالِفَيْنِ لِلآُصُولِ بَلْ هُمَا أَصْلاَنِ مِنْ كِبَارِ الآُصُولِ,
وَخَالَفُوا هَاهُنَا جَمِيعَ الآُصُولِ فِي الصَّدَقَاتِ, وَفِي الْجِزْيَةِ بِخَبَرٍ لاَ يُسَاوِي بَعْرَةً, وَتَعَلَّلُوا بِالاِضْطِرَابِ فِي أَخْبَارِ الثِّقَاتِ, وَرَدُّوا خَبَرَ: "لاَ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ، وَلاَ الرَّضْعَتَانِ", وَخَبَرَ: "لاَ قَطْعَ إلاَّ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا", وَأَخَذُوا هَاهُنَا بِأَسْقَطِ خَبَرٍ وَأَشَدِّهِ اضْطِرَابًا, لاَِنَّهُ يَقُولُ رِوَايَةً مَرَّةً: عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ مَطَرٍ, وَمَرَّةً: عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ الْمُثَنَّى, وَمَرَّةً، عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ أَنَّهُ صَالَحَ عُمَرَ، عَنْ بَنِي تَغْلِبَ وَمَرَّةً: عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ, أَوْ زُرْعَةَ بْنِ النُّعْمَانِ, أَوْ النُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ أَنَّهُ صَالَحَ عُمَرَ.
وَمَعَ شِدَّةِ هَذَا الاِضْطِرَابِ الْمُفْرِطِ فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلاَءِ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَنْ هُمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَمْ مِنْ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ, كَكَلاَمِهِ مَعَ عُثْمَانَ فِي الْخُطْبَةِ, وَنَفْيِهِ فِي الزِّنَى وَإِغْرَامِهِ فِي السَّرِقَةِ قَبْلَ الْقَطْعِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ.

(6/113)


وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بِأَصَحِّ طَرِيقٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ آخُذَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ الْعُشْرَ, وَمِنْ نَصَارَى أَهْلِ الْكِتَابِ نِصْفَ الْعُشْرِ.
قال أبو محمد: فَكَمَا لَمْ يُسْقِطْ أَخْذُ نِصْفِ الْعُشْرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ أَخْذُ الْعُشْرِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَيْضًا الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ, وَهَذَا أَصَحُّ قِيَاسٍ, لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْقِيَاسِ صَحِيحًا, فَقَدْ خَالَفُوا الْقِيَاسَ أَيْضًا.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ وَثَبَتَ لَكَانُوا قَدْ خَالَفُوهُ; لإِنَّ جَمِيعَ مَنْ رَوَوْهُ عَنْهُ أَوَّلُهُمْ، عَنْ آخِرِهِمْ يَقُولُونَ كُلُّهُمْ: إنَّ بَنِي تَغْلِبَ قَدْ نَقَضُوا تِلْكَ الذِّمَّةَ; فَبَطَلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ.
وَرَوَوْا ذَلِكَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ, فَخَالَفُوا: عُمَرَ وَعَلِيًّا, وَالْخَبَرَ الَّذِي بِهِ احْتَجُّوا وَالْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كِتَابِيٍّ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا, كَهَجَرَ, وَالْيَمَنِ, وَغَيْرِهِمَا وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَالْقِيَاسَ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.

(6/114)


لا يجوز أخذ زكاة و لا تعشير مما يتجر به تجار المسلمين
...
702 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ زَكَاةٍ، وَلاَ تَعْشِيرَ مِمَّا يَتَّجِرُ بِهِ تُجَّارُ الْمُسْلِمِينَ,
وَلاَ مِنْ كَافِرٍ أَصْلاً تَجَرَ فِي بِلاَدِهِ أَوْ فِي غَيْرِ بِلاَدِهِ إلاَّ أَنْ يَكُونُوا صُولِحُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْجِزْيَةِ فِي أَصْلِ عَقْدِهِمْ, فَتُؤْخَذُ حِينَئِذٍ مِنْهُمْ وَإِلاَّ فَلاَ.
أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِمْ فِي الْعُرُوضِ لِتِجَارَةٍ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فَقَطْ; فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صُلْحًا مَعَ الْجِزْيَةِ فَهُوَ حَقٌّ وَعَهْدٌ صَحِيحٌ, وَإِلاَّ فَلاَ يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ صِحَّةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ وَالصِّغَارِ, مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقال أبو حنيفة: يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا سَافَرُوا نِصْفُ الْعُشْرِ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً فَقَطْ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَإِلاَّ فَلاَ; إلاَّ إنْ كَانُوا لاَ يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا شَيْئًا فَلاَ نَأْخُذُ مِنْ تُجَّارِهِمْ شَيْئًا.
قَالَ مَالِكٌ: يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعُشْرُ إذَا تَجَرُوا إلَى غَيْرِ بِلاَدِهِمْ مِمَّا قَلَّ أَوْ كَثُرَ إذَا بَاعُوا, وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سُفْرَةٍ كَذَلِكَ, وَلَوْ مِرَرًا فِي السَّنَةِ, فَإِنْ تَجَرُوا فِي بِلاَدِهِمْ

(6/114)


لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ, وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ كَذَلِكَ إلاَّ فِيمَا حَمَلُوا إلَى الْمَدِينَةِ خَاصَّةً مِنْ الْحِنْطَةِ, وَالزَّبِيبِ خَاصَّةً, فَإِنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إلاَّ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ.
قال أبو محمد: احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: كُنْتُ أَعْشُرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْصَافَ عُشْرِ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا تَجَرُوا بِهِ.
وَبِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: خُذْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا, وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا, وَمِمَّنْ لاَ ذِمَّةَ لَهُ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمِ دِرْهَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ: أَمَرَنِي عُمَرُ بِأَنْ آخُذَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ الْعُشْرَ, وَمِنْ نَصَارَى أَهْلِ الْكِتَابِ نِصْفَ الْعُشْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ غُلاَمًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ الْعُشْرَ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لاَِنَّهُ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَيْضًا فَرُبَّ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا آنِفًا, وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ حُكْمِ عُمَرُ حُجَّةً وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الآثَارَ مُخْتَلِفَةٌ، عَنْ عُمَرَ, فِي بَعْضِهَا الْعُشْرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, وَفِي بَعْضِهَا نِصْفُ الْعُشْرِ, فَمَا الَّذِي جَعَلَ بَعْضَهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ؟!
وَقَدْ خَالَفَ الْمَالِكِيُّونَ هَذِهِ الآثَارَ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ تِجَارَتِهِمْ فِي أَقْطَارِ بِلاَدِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا.
وَخَالَفَهَا الْحَنَفِيُّونَ فِي وَضْعِهِمْ ذَلِكَ مَرَّةً فِي الْعَامِ فَقَطْ, وَذَلِكَ فِي هَذِهِ الآثَارِ, وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ خَبَرًا فَاسِدًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مِهْرَانَ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَيُّوبَ بْنِ شُرَحْبِيلَ: خُذْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا, وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا, إذَا كَانُوا يُدِيرُونَهَا, ثُمَّ لاَ تَأْخُذُ مِنْهُمْ شَيْئًا حَتَّى رَأْسَ الْحَوْلِ, فَإِنِّي سَمِعْتُ ذَلِكَ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: وَهَذَا، عَنْ مَجْهُولِينَ, وَلَيْسَ أَيْضًا فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ سُمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(6/115)


قال أبو محمد: فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ, كَمَا حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا الأَنْصَارِيُّ هُوَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ: عَمَّارًا, وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ إلَى الْكُوفَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ مَسَحَ الأَرْضَ فَوَضَعَ عَلَيْهَا كَذَا وَكَذَا, وَجَعَلَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ بِهَا مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَجَعَلَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَعَطَّلَ مِنْ ذَلِكَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ: أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَأَجَازَهُ.
فَصَحَّ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَصْلِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ وَذِمَّتِهِمْ.
وَبِهِ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ: حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الْعَبْسِيِّ قَالَ: سَأَلْت زِيَادَ بْنَ حُدَيْرٍ: مَنْ كُنْتُمْ تُعْشِرُونَ قَالَ مَا كُنَّا نُعْشِرُ مُسْلِمًا، وَلاَ مُعَاهِدًا, كُنَّا نُعْشِرُ تُجَّارَ أَهْلِ الْحَرْبِ كَمَا يُعَشِّرُونَنَا إذَا أَتَيْنَاهُمْ.
فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يُعَاقَدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَبِهِ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ: حدثنا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَخْوَفُ عِنْدِي أَنْ يُدْخِلُنِي النَّارَ مِنْ عَمَلِكُمْ هَذَا, وَمَا بِي أَنْ أَكُونَ ظَلَمْتُ فِيهِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا, وَلَكِنْ لاَ أَدْرِي مَا هَذَا الْحَبَلُ الَّذِي لَمْ يَسُنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ أَبُو بَكْرٍ, وَلاَ عُمَرُ قَالُوا: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ دَخَلْتَ فِيهِ قَالَ: لَمْ يَدَعْنِي زِيَادٌ, وَلاَ شُرَيْحٌ, وَلاَ الشَّيْطَانُ, حَتَّى دَخَلْتُ فِيهِ. قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّهُ عَمَلٌ مُحْدَثٌ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِعُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ تَعَدَّى مَا كَانَ فِي عَقْدِهِمْ; كَمَا لاَ يُظَنُّ بِهِ فِي أَمْرِهِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ أَنَّهُ فِيمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/116)


ليس في شيء مما أصيب من العنبر و الجواهر و الياقوت و الزمرد شيء أصلا
...
703 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أُصِيبَ مِنْ الْعَنْبَرِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ بِحَرِيِّهِ وَبَرِّيِّهِ: شَيْءٌ أَصْلاً,
وَهُوَ كُلُّهُ لِمَنْ وَجَدَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ فِي الْعَنْبَرِ, وَفِي كُلِّ مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ حِلْيَةِ الْبَحْرِ: الْخُمْسُ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ.
قال أبو محمد: الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ مُطْرَحٌ.
وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَنْبَرِ: إنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَفِيهِ الْخُمْسُ, مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ شَيْءَ فِيهِ.
قال أبو محمد: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ إغْرَامُ مُسْلِمٍ شَيْئًا بِغَيْرِ نَصٍّ صَحِيحٍ, وَكَانَ بِلاَ خِلاَفٍ كُلُّ مَا لاَ رَبَّ لَهُ فَهُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/117)


زكاة الفطر
زكاة الفطر من رمضان فرض واجب على كل مسلم
...
زَكَاةُ الْفِطْرِ
704 - مَسْأَلَةٌ: زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ,
كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ, ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ, وَإِنْ كَانَ مَنْ ذَكَرْنَا جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ قَبْلُ, وَلاَ يُجْزِئُ شَيْءٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا, لاَ قَمْحَ, وَلاَ دَقِيقَ قَمْحٍ أَوْ شَعِيرٍ, وَلاَ خُبْزَ، وَلاَ قِيمَةَ; ، وَلاَ شَيْءَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ, رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حدثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ".
وقال مالك: لَيْسَتْ فَرْضًا, وَاحْتَجَّ لَهُ مَنْ قَلَّدَهُ بِأَنْ قَالَ: مَعْنَى "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" أَيُّ قَدَّرَ مِقْدَارَهَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ, لاَِنَّهُ دَعْوًى بِلاَ بُرْهَانٍ وَإِحَالَةُ اللَّفْظِ، عَنْ مَوْضُوعِهِ بِلاَ دَلِيلٍ. وَقَدْ أَوْرَدَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا وَأَمْرُهُ فَرْضٌ, قَالَ تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ، عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وَذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ, فَلَمَّا نَزَلَتْ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا, وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ".
وَعَنْهُ أَيْضًا: "كُنَّا نَصُومُ عَاشُورَاءَ وَنُعْطِي الْفِطْرَ مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْنَا صَوْمُ رَمَضَانَ

(6/118)


وَالزَّكَاةُ, فَلَمَّا نَزَلاَ لَمْ نُؤْمَرْ وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ, وَنَحْنُ نَفْعَلُه"ُ.
وَقَالَ أبو محمد وَهَذَا الْخَبَرُ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ لإِنَّ فِيهِ أَمْرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ, فَصَارَ أَمْرًا مُفْتَرَضًا ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَبَقِيَ فَرْضًا كَمَا كَانَ, وَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَلَوْلاَ أَنَّهُ عليه السلام صَحَّ، أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ", لَكَانَ فَرْضُهُ بَاقِيًا, وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ; فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَقَدْ قَالَ تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ: زَكَاةً, فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا, وَالدَّلاَئِلُ عَلَى هَذَا تَكْثُرُ جِدًّا.
وَرُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, وَأَبِي قِلاَبَةَ قَالاَ جَمِيعًا: زَكَاةُ الْفِطْرِ فَرِيضَةٌ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمَا. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَشْيَاءَ غَيْرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ قَوْمٌ: يُجْزِئُ فِيهَا الْقَمْحُ وَقَالَ آخَرُونَ: وَالزَّبِيبُ, وَالأَقِطُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا يُخْرِجُ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا يَأْكُلُ وَمِنْ قُوتِ أَهْلِ بَلَدِهِ. فَقُلْنَا: هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلٍ بِلاَ بُرْهَانٍ, ثُمَّ قَدْ نَقَضْتُمُوهَا لاَِنَّهُ إنَّمَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ لاَ الْحَبَّ: فَأَوْجَبُوا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا لاَِنَّهُ هُوَ أَكَلَهُ, وَهُوَ قُوتُ أَهْلِ بَلَدِهِ, فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ. قلنا: صَدَقْتُمْ, وَكَذَلِكَ مَا عَدَا التَّمْرَ, وَالشَّعِيرَ.
وَقَالُوا: إنَّمَا خَصَّ عليه السلام بِالذَّكَرِ التَّمْرَ, وَالشَّعِيرَ; لاَِنَّهُمَا كَانَا قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ جِدًّا; أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكْشُوفٌ, لإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ قَوَّلَهُ عليه السلام مَا لَمْ يَقُلْ; وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.

(6/119)


وَيُقَالُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْقَمْحَ, وَالزَّبِيبَ; فَسَكَتَ عَنْهُمَا وَقَصَدَ إلَى التَّمْرِ, وَالشَّعِيرِ; أَنَّهُمَا قُوتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَهَذَا لاَ يَعْلَمْنَهُ إلاَّ مَنْ أَخْبَرَهُ عليه السلام بِذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ, أَوْ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَحَيٌّ بِذَلِكَ.
وَأَيْضًا: فَلَوْ صَحَّ لَهُمْ ذَلِكَ لَكَانَ الْفَرْضُ فِي ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَقَطْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ وَأَنْذَرَ بِذَلِكَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَفْتَحُ لَهُمْ الشَّامَ, وَالْعِرَاقَ, وَمِصْرَ, وَمَا وَرَاءَ الْبِحَارِ, فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَلْبِسَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلاَدِ دِينَهُمْ فَيُرِيدُ مِنْهُمْ أَمْرًا، وَلاَ يَذْكُرُهُ لَهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ بِكَلاَمِهِ مَا لاَ يَلْزَمُهُمْ مِنْ التَّمْرِ, وَالشَّعِيرِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَطِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارٍ فَاسِدَةٍ لاَ تَصِحُّ.
مِنْهَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ: صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ".
وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ إلاَّ الأَقِطُ لاَ سَائِرَ مَا يُجِيزُونَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ "صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ".
وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَاقِطٌ, لاَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلاَّ الأَقِطُ, وَالزَّبِيبُ.

(6/120)


وَمِنْ طَرِيقِ نَصْرِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ: "صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ مِنْ قَمْحٍ, وَيَقُولُ أَغْنُوهُمْ، عَنْ تَطْوَافِ هَذَا الْيَوْمِ".
وَأَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ هَذَا نَجِيحٌ مُطَّرَحٌ يُحَدِّثُ بِالْمَوْضُوعَاتِ، عَنْ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَعْلَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَشَادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "صَاعًا مِنْ بُرٍّ، عَنْ كُلِّ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ, غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ, حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ".
وَالنُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الْغَلَطِ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ خَالَفَهُ; لاَِنَّهُ لاَ يُوجِبُ إلاَّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى: حدثنا بَكْرُ بْنُ وَائِلِ بْنِ دَاوُد، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ, أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَمَرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعَ تَمْرٍ, أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ, أَوْ صَاعَ قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ".
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَانِ مُرْسَلاَنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: "صَاعٌ مِنْ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ".
وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْعَتَكِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ, أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: "صَاعٌ مِنْ بُرٍّ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ".
فَحَصَل هَذَا الْحَدِيثُ رَاجِعًا إلَى رَجُلٍ مَجْهُولِ الْحَالِ, مُضْطَرِبٍ عَنْهُ, مُخْتَلَفٍ فِي اسْمِهِ, مَرَّةً: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ, وَمَرَّةً: ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَلْقَ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ, وَلَيْسَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ صُحْبَةٌ.

(6/121)


وَأَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَدَّثَنَاهُ هَمَّامُ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ, أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ, صَاعَ تَمْرٍ, أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ", وَلَمْ يَذْكُرْ: "الْبُرَّ "، وَلاَ شَيْئًا غَيْرَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ: وَلَكِنَّا لاَ نَحْتَجُّ بِهِ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ مَجْهُولٌ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُظَاهِرٍ شَعِيرًا وَقَالَ: "أَطْعِمْ هَذَا, فَإِنَّ مُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ يَقْضِيَانِ مُدًّا مِنْ قَمْحٍ" وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَجَّ بَعَثَ صَارِخًا فِي بَطْنِ مَكَّةَ: "أَلاَ إنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّانِ مِنْ حِنْطَةٍ, أَوْ صَاعٌ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ".
وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: "كَانُوا يُخْرِجُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ".
وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ, وَعُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ, وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ, وَعُقَيْلٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَقَالَ عَمْرٌو: عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ ثُمَّ اتَّفَقَ يَزِيدُ, وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ: مُدَّيْنِ حِنْطَةً".

(6/122)


وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِثْلُهُ أَيْضًا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, كُلِّهِمْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مَرَاسِيلُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَهَا يَعْنِي زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ"، وَلاَ يَصِحُّ لِلْحَسَنِ سَمَاعٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَوْسِ بْنِ الْحَارِثِ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ, وَلاَ يَشْتَغِلُ بِهِ, وَلاَ يَعْمَلُ بِهِ إلاَّ جَاهِلٌ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا نَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِيهِ أَصْلَهَا.
فأما الشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: بِأَنَّ مُرْسَلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ حُجَّةٌ, وَقَدْ تَرَكُوا هَاهُنَا مُرْسَلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وقال الشافعي: فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ لاَ تُجْزِئُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ مِنْ حَبٍّ تَخْرُجُ مِنْهُ الزَّكَاةُ, وَتُوقَفُ فِي الأَقِطِ, وَأَجَازَهُ مَرَّةً أُخْرَى.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ, فَأَجَازُوا الْمُرْسَلَ وَجَعَلُوهُ كَالْمُسْنَدِ, وَخَالَفُوا هَاهُنَا مِنْ الْمَرَاسِيلِ مَا لَوْ جَازَ قَبُولُ شَيْءٍ مِنْهَا لَجَازَ هَاهُنَا, لِكَثْرَتِهَا وَشُهْرَتِهَا وَمَجِيئِهَا مِنْ طَرِيقِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ فِي أَشْهَرِ رِوَايَاتِهِمْ عَنْهُ جَعَلَ الزَّبِيبَ كَالْبُرِّ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ, وَلَمْ يُجِزْ الأَقِطَ إلاَّ بِالْقِيمَةِ, وَلاَ أَجَازَ غَيْرَ الْبُرِّ, وَالشَّعِيرِ وَدَقِيقِهِمَا وَسَوِيقِهِمَا, وَالتَّمْرِ, وَالزَّبِيبِ فَقَطْ إلاَّ بِالْقِيمَةِ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِبَعْضِ هَذِهِ الآثَارِ وَخِلاَفٌ لِجَمِيعِهَا فِي إجَازَةِ الْقِيمَةِ, وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ إطْبَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ رَاوِيَ الْخَبَرِ إذَا تَرَكَهُ

(6/123)


كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى سُقُوطِ الْخَبَرِ, كَمَا فَعَلُوا فِي خَبَرِ غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا.
وَقَدْ حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرُّقِيُّ، عَنْ مَخْلَدٍ، هُوَ ابْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذَكَرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ : "صَاعٌ مِنْ بُرٍّ, أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ سُلْتٍ".
فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَ مَا رُوِيَ بِأَصَحَّ إسْنَادٍ يَكُونُ عَنْهُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ رَدُّ تِلْكَ الرِّوَايَةِ, وَإِلاَّ فَقَدْ نَقَضُوا أَصْلَهُمْ.
وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا صَحِيحًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ, صَاعًا مِنْ طَعَامٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ; أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا غَيْرُ مُسْنَدٍ, وَهُوَ أَيْضًا مُضْطَرِبٌ فِيهِ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ.
فَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، عَنْ زَيْدٍ، هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ, وَكَانَ طَعَامُنَا: الشَّعِيرَ, وَالزَّبِيبَ, وَالأَقِطَ وَالتَّمْرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ, حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ: مِنْ ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فأما أَنَا فَلاَ أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَذَلِكَ".
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: حدثنا ابْنُ عَجْلاَنَ سَمِعْتُ عِيَاضَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُخْبِرُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "لَمْ نُخْرِجْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ", ثُمَّ شَكَّ سُفْيَانُ

(6/124)


فَقَالَ: دَقِيقٌ أَوْ سُلْتٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ عِيَاضَ بْنَ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, لاَ نُخْرِجُ غَيْرَهُ", يَعْنِي فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ.
قال أبو محمد: فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الأَخْبَارِ إبْطَالُ إخْرَاجِ "الْبُرِّ" جُمْلَةً, وَفِي بَعْضِهَا إثْبَاتُ الزَّبِيبِ, وَفِي بَعْضِهَا نَفْيُهُ, وَإِثْبَاتُ الأَقِطِ جُمْلَةً, وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ, وَهُمْ يَعِيبُونَ الأَخْبَارَ الْمُسْنَدَةَ الَّتِي لاَ مَغْمَزَ فِيهَا بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا الاِضْطِرَابِ, كَحَدِيثِ إبْطَالِ تَحْرِيم الرَّضْعَةِ وَالرَّضْعَتَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ, وَلاَ عَجَبَ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَقُولُ فِي خَبَرِ جَابِرٍ الثَّابِتِ: "كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم", وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الثَّابِتُ: "ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ" أَنَّ هَذَانِ لَيْسَا مُسْنَدَيْنِ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ, ثُمَّ يَجْعَلُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا مُسْنَدًا عَلَى اضْطِرَابِهِ وَتَعَارُضِ رُوَاتِهِ فِيهِ!!
فَلْيَقُلْ كُلُّ ذِي عَقْلٍ: أَيُّمَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعُ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أُمَّ وَلَدِهِ, أَوْ ذَبْحُ فَرَسٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَوْ بَيْتِ الزُّبَيْرِ, وَبَيْتَاهُمَا مُطْنِبَانِ بِبَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَابْنَتُهُ عِنْدَهُ, عَلَى عِزَّةِ الْخَيْلِ عِنْدَهُمْ وَقِلَّتِهَا وَحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا, أَمْ صَدَقَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي بَنِي خُدْرَةَ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ بِصَاعِ أَقِطٍ, أَوْ صَاعِ زَبِيبٍ

(6/125)


وَلَوْ ذُبِحَ فَرَسٌ لِلأَكْلِ فِي جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ بَغْدَادَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى فِي الْجَانِبِ الآخَرِ, وَلَوْ تَصَدَّقَتْ امْرَأَةُ أَحَدِنَا أَوْ جَارُهُ الْمُلاَصِقُ بِصَاعِ أَقِطٍ; أَوْ صَاعِ زَبِيبٍ وَصَاعِ قَمْحٍ, مَا كَادَ هُوَ يَعْلَمُهُ فِي الأَغْلَبِ; فَاعْجَبُوا لِعَكْسِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الْحَقَائِقَ, ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الطَّوَائِفَ الثَّلاَثَةَ مُخَالِفَةٌ لِمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ.
أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَشْهَرُ أَقْوَالِهِ أَنَّ نِصْفَ صَاعِ زَبِيبٍ يُجْزِئُ، وَأَنَّ الأَقِطَ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بِالْقِيمَةِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَأَشْهَرُ أَقْوَالِهِ أَنَّ الأَقِطَ لاَ يُجْزِئُ, وَأَجَازَ إخْرَاجَ مَا مَنَعَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ مِنْ إخْرَاجِهِ, مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مِنْ الذُّرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ فَخَالَفُوهَا جُمْلَةً; لأَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ إخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذَا الْخَبَرِ إلاَّ لِمَنْ كَانَتْ قُوتَهُ, وَخَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ لاَ يُخْتَلَفُ فِيهِ أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ, وَكُلُّهُمْ يُجِيزُ إخْرَاجَ مَا مَنَعَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ مِنْ إخْرَاجِهِ.
فَمَنْ أَضَلَّ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِمَا هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ مَا هَذَا مِنْ التَّقْوَى, وَلاَ مِنْ الْبِرِّ, وَلاَ مِنْ النُّصْحِ لِمَنْ أَغْتَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَوَاَللَّهِ لَوْ انْسَنَدَ صَحِيحًا شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الأَخْبَارِ لَبَادَرَنَا إلَى الأَخْذِ بِهِ, وَمَا تَوَقَّفْنَا عِنْدَ ذَلِكَ, لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا مُسْنَدٌ صَحِيحٌ، وَلاَ وَاحِدٌ, فَلاَ يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
وقال بعضهم: إنَّمَا قلنا بِجَوَازِ الْقَمْحِ لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ, وَجَمَحَ فَرَسُ بَعْضِهِمْ فَادَّعَى الإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ جُرْأَةً وَجَهْلاً!
فَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ, وَالآُنْثَى, وَالْحُرِّ, وَالْعَبْدِ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَعَدَلَهُ النَّاسُ بَعْدُ: مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ".

(6/126)


وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَعَدَلَ النَّاسُ بَعْدُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي التَّمْرَ, فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ التَّمْرَ عَامًا فَأَعْطَى الشَّعِيرَ".
قال أبو محمد: لَوْ كَانَ فِعْلُ النَّاسِ حُجَّةً عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ مَا اسْتَجَازَ خِلاَفَهُ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}. وَلاَ حُجَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ, لَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى الْجِنِّ مَعَهُمْ, وَنَحْنُ نَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلاَفِ النَّاسِ الَّذِينَ تَقَرَّبَ ابْنُ عُمَرَ إلَيْهِ بِخِلاَفِهِمْ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ، عَنْ زَائِدَةَ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ, أَوْ زَبِيبٍ, أَوْ سُلْتٍ".
قال أبو محمد: هَذَا لاَ يَنْسَنِدُ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ ذَلِكَ وَأَقَرَّهُ, ثُمَّ خِلاَفُهُمْ لَهُ لَوْ أُسْنِدَ وَصَحَّ كَخِلاَفِهِمْ لِسَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَإِبْطَالُ تَهْوِيلِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ" بِخِلاَفِ ابْنِ عُمَرَ الْمُخْبِرِ عَنْهُمْ كَمَا فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ رَاوِيَ هَذَا الْخَبَرِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَادٍ, وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ قُلْت لاِبْنِ عُمَرَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ, وَالْبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْلُكَهُ.
قال أبو محمد: فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ لاَ يُخْرِجُ إلاَّ التَّمْرَ, أَوْ الشَّعِيرَ, وَلاَ يُخْرِجُ الْبُرَّ, وَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ, فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي عَمَلِهِ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ أَصْحَابِهِ; فَهَؤُلاَءِ هُمْ النَّاسُ الَّذِينَ يُسْتَوْحَشُ مِنْ خِلاَفِهِمْ وَهُمْ الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم،, بِأَصَحِّ طَرِيقٍ,

(6/127)


وَإِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ الإِجْمَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا إذَا وَجَدُوهُ.
وَعَنْ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ: كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ يُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ أَرْسَلَ صَدَقَةَ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ قَالَ: كَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لاَ يُخْرِجُ إلاَّ تَمْرًا "يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
فَهَؤُلاَءِ: ابْنُ عُمَرَ, وَالْقَاسِمُ, وَسَالِمٌ, وَعُرْوَةُ: لاَ يُخْرِجُونَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلاَّ التَّمْرَ, وَهُمْ يَقْتَاتُونَ الْبُرَّ بِلاَ خِلاَفٍ, وَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ لَتَسَعُ إلَى إخْرَاجِ صَاعِ دَرَاهِمَ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ, وَلاَ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ.، رضي الله عنهم.
فإن قيل: هُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قلنا: مَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُكْمِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الصِّينِ, وَلاَ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ إجَازَةِ مَالِكٍ إخْرَاجَ الذُّرَةِ, وَالدَّخَنِ, وَالآُرْزِ لِمَنْ كَانَ ذَلِكَ قُوتَهُ, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ أَصْلاً, وَمَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الدَّقِيقِ لاَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الأَخْبَارِ; وَمَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الْقَطَانِيِّ وَإِنْ كَانَتْ قُوتَ الْمُخْرِجِ, وَمَنَعَ مِنْ التِّينِ, وَالزَّيْتُونِ, وَإِنْ كَانَا قُوتَ الْمُخْرِجِ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ, وَخِلاَفٌ لِلأَخْبَارِ, وَتَخَاذُلٌ فِي الْقِيَاسِ, وَإِبْطَالُهُمْ لِتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّ الْبُرَّ أَفْضَلُ مِنْ الشَّعِيرِ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ مِنْ الْبُرِّ وَالسُّكَّرُ أَفْضَلُ مِنْ الْبُرِّ وَأَقَلُّ مُؤْنَةٍ وَأَعْجَلُ نَفْعًا, فَمَرَّةً يُجِيزُونَ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ, وَمَرَّةً يَمْنَعُونَ مِمَّا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشَّافِعِيِّينَ، وَلاَ فَرْقَ.
قال أبو محمد: وَشَغِبَ الْحَنَفِيُّونَ بِأَخْبَارٍ نَذْكُرُ مِنْهَا طَرَفًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مِنْهَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ, وَشُعْبَةَ, كِلاَهُمَا، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ سَمِعَ أَبَا قِلاَبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَدَّى إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نِصْفَ صَاعٍ بُرٍّ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَادٍ، عَنْ

(6/128)


نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ, أَوْ سُلْتٍ, أَوْ زَبِيبٍ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَكَثُرَتْ الْحِنْطَةُ جَعَلَ عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ مَكَانَ صَاعٍ مِنْ تِلْكَ الأَشْيَاءِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ خَالِدِ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثَ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه وَهُوَ يَخْطُبُ, فَقَالَ: فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ النَّاسُ يُعْطُونَ زَكَاةَ رَمَضَانَ نِصْفَ صَاعٍ. فأما إذْ أَوْسَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ: كَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ تُعْطِي زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمَوَّنَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ, أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ وَغَنِيٍّ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: زَكَاةُ الْفِطْرِ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: وَبَلَغَنِي هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِنْ طَرِيق عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ. وَالأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

(6/129)


ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ, أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ شَعِيرٍ يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبَ، حدثنا دَاوُد يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُ ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا; فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءَ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فأما أَنَا فَلاَ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ مَرْوَانَ بَعَثَ إلَى أَبِي سَعِيدٍ: أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِزَكَاةِ رَقِيقِكَ, فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إنَّ مَرْوَانَ لاَ يَعْلَمُ, إنَّمَا عَلَيْنَا أَنَّ نُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ صَاعَ تَمْرٍ, أَوْ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ذَكَرْتُ لاَِبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَقَالَ: "لاَ أُخْرِجُ إلاَّ مَا كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعَ زَبِيبٍ أَوْ صَاعَ أَقِطٍ", فَقِيلَ لَهُ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ؟ فَقَالَ: "لاَ, تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ, لاَ أَقْبَلُهَا, وَلاَ أَعْمَلُ بِهَا".
فَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ يَمْنَعُ مِنْ "الْبُرِّ" جُمْلَةً; وَمِمَّا عَدَا مَا ذُكِرَ.
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إيجَابُ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَلَى الإِنْسَانِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ, أَوْ قِيمَتِهِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ نِصْفُ دِرْهَمٍ.
مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَيْنَا بِذَلِكَ, وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ طَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي سَلَمَةَ

(6/130)


ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ. وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
قال أبو محمد: تَنَاقَضَ هَاهُنَا الْمَالِكِيُّونَ الْمُهَوِّلُونَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَخَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعُثْمَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, وَعَائِشَةَ, وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ, وَأَبَا هُرَيْرَةَ, وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَابْنَ الزُّبَيْرِ, وَأَبَا سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ, وَهُوَ عَنْهُمْ كُلُّهُمْ صَحِيحٌ إلاَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, إلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يَحْتَجُّونَ بِأَضْعَفَ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ إذَا وَافَقَتْهُمْ. ثُمَّ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ: ابْنَ الْمُسَيِّبِ, وَعُرْوَةَ, وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ وَغَيْرَهُمْ أَفَلاَ يَتَّقِي اللَّهَ مَنْ يَزِيدُ فِي الشَّرَائِعِ مَا لَمْ يَصِحَّ قَطُّ, مِنْ جَلْدِ الشَّارِبِ لِلْخَمْرِ ثَمَانِينَ, بِرِوَايَةٍ لَمْ تَصِحَّ قَطُّ، عَنْ عُمَرَ, ثُمَّ قَدْ صَحَّ خِلاَفُهَا عَنْهُ, وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَهُ, وَعَنْ عُثْمَانَ, وَعَلِيٍّ بَعْدَهُ, وَالْحَسَنِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يُخَالِفُهُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ, وَمَعَهُمْ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ: ثُمَّ لاَ يَلْتَفِتُ هَاهُنَا إلَى هَؤُلاَءِ كُلِّهِمْ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ الْمُتَزَيِّنُونَ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِاتِّبَاعِهِمْ فَقَدْ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ; وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ, وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ, وَأُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ, وَخَالَفُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, وَأَبَا مَسْعُودٍ, وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ, وَبِلاَلاً وَأَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَابْنَ عُمَرَ, وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ كُلِّ مَنْ يُجِيزُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ, وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ, وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِيمَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ لَيْسَ عَلَى الأَعْرَابِ, أَهْلِ الْبَادِيَةِ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهَا عَلَيْهِمْ, وَأَنَّهُمْ يُخْرِجُونَ فِي ذَلِكَ اللَّبَنِ.
قال أبو محمد: لَمْ يَخُصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيًّا، وَلاَ بَدَوِيًّا مِنْ غَيْرِهِمْ, فَلَمْ يُجِزْ تَخْصِيصَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يُجْزِئُ لَبَنٌ، وَلاَ غَيْرُهُ, إلاَّ الشَّعِيرَ, أَوْ التَّمْرَ فَقَطْ.

(6/131)


وَأَمَّا الْحَمْلُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَهَا عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ, وَالْجَنِينُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ: صَغِيرٍ, فَإِذَا أَكْمَلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَبْلَ انْصِدَاعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَجَبَ أَنْ تُؤَدَّى عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ, قَالَ حَفْصُ: حدثنا شُعْبَةُ, وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, ثُمَّ اتَّفَقَ سُفْيَانُ, وَشُعْبَةُ كِلاَهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ: حدثنا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ، حدثنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا, ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ, رِزْقُهُ, وَعَمَلُهُ, وَأَجَلُهُ, ثُمَّ يُكْتَبُ: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ, ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ".
قال أبو محمد: هُوَ قَبْلَ مَا ذَكَرْنَا مَوَاتَ, فَلاَ حُكْمَ عَلَى مَيِّتٍ, فأما إذَا كَانَ حَيًّا كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكُلُّ حُكْمٍ وَجَبَ عَلَى الصَّغِيرِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا أَبِي، حدثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَقَتَادَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَنِ الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْحَمْلِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, حَتَّى، عَنِ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, وَأَبُو قِلاَبَةَ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ وَصَحِبَهُمْ وَرَوَى عَنْهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْحَمْلِ أَيُزَكَّى عَنْهُ قَالَ: نَعَمْ.
وَلاَ يُعْرَفُ لِعُثْمَانَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ بِمِثْلِ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ.

(6/132)


يؤدي المسلم زكاة الفطر عن رقيقه مؤمنا كان أو كافرا
...
705 - مَسْأَلَةٌ: وَيُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُ، عَنْ رَقِيقِهِ, مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ,
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِتِجَارَةٍ أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي الْكُفَّارِ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ تُؤَدَّى إلاَّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ

(6/132)


وقال أبو حنيفة: لاَ تُؤَدَّى زَكَاةُ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِ التِّجَارَةِ.
وقال مالك وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: تُؤَدَّى عَنْهُمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
وَقَالُوا كُلُّهُمْ حَاشَا أَبَا سُلَيْمَانَ: يُخْرِجُهَا السَّيِّدُ عَنْهُمْ, وَبِهِ نَقُولُ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانُ: يُخْرِجُهَا الرَّقِيقُ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ إخْرَاجَهَا، عَنِ الرَّقِيقِ الْكُفَّارِ بِمَا رُوِيَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
قال أبو محمد: وَهَذَا صَحِيحٌ, وَبِهِ نَأْخُذُ, إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُهَا، عَنِ الْمُسْلِمِ فِي الْكُفَّارِ مِنْ رَقِيقِهِ، وَلاَ إيجَابُهَا, فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ هَذَا الْخَبَرُ وَحْدَهُ لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْنَا زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَقِيقِنَا فَقَطْ.
وَلَكِنْ وَجَدْنَا حَدَّثَنَاهُ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ قَالَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ الْقَاضِي، حدثنا يَحْيَى بْنُ مَالِكِ بْنِ عَائِذٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي الشَّرِيفِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ الْخَوْلاَنِيِّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْغَافِقِيُّ قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَعَبْدِهِ صَدَقَةٌ, إلاَّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ" وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ.
قال أبو محمد: فَأَوْجَبَ عليه الصلاة والسلام صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي رَقِيقِهِ عُمُومًا, فَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَكَانَ بَاقِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَعْضَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ, لاَ مُعَارِضًا لَهُ أَصْلاً, فَلَمْ يَجُزْ خِلاَفُ هَذَا الْخَبَرِ.
وَبِهَذَا الْخَبَرِ تَأْدِيَةُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى السَّيِّدِ، عَنْ رَقِيقِهِ. لاَ عَلَى الرَّقِيقِ

(6/133)


وَبِهِ أَيْضًا يَسْقُطُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ, لاَِنَّهُ عليه السلام أَبْطَلَ كُلَّ زَكَاةٍ فِي الرَّقِيقِ إلاَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ أَتَوْا إلَى زَكَاتَيْنِ مَفْرُوضَتَيْنِ, إحْدَاهُمَا فِي الْمَوَاشِي, وَالآُخْرَى زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ: فَأَسْقَطُوا بِإِحْدَاهُمَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الْمَوَاشِي الْمُتَّخَذَةِ لِلتِّجَارَةِ, وَأَسْقَطُوا الآُخْرَى بِزَكَاةِ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ وَحَسْبُكَ بِهَذَا تَلاَعُبًا!
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ غَلَّبُوا مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ: "فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ", وَلَمْ يُغَلِّبُوا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ فِي أَنَّ: "صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ", عَلَى مَا جَاءَ فِي سَائِرِ الأَخْبَارِ: "إلاَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ", وَهَذَا تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ وَتَنَاقُضٌ، وَلاَ بُدَّ مِنْ تَغْلِيبِ الأَعَمِّ عَلَى الأَخَصِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بَيَانُ نَصٍّ فِي الأَخَصِّ بِنَفْيِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الأَعَمِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/134)


إن كان العبد بين الاثنين فصاعدا فعلى سيديه إخراج زكاة الفطر
...
706 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَعَلَى سَيِّدَيْهِمَا إخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ,
يُخْرِجُ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَالِكَيْهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ, وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الرَّقِيقُ كَثِيرًا بَيْنَ سَيِّدَيْنِ فَصَاعِدًا.
وقال أبو حنيفة, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ عَلَى سَيِّدَيْهِ، وَلاَ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ الْفِطْرِ, وَكَذَلِكَ لَوْ كَثُرَ الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ: يُخْرِجُ عَنْهُ سَيِّدَاهُ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا, وَكَذَلِكَ لَوْ كَثُرَ الرَّقِيقُ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ أُسْقِطَ عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَعَنْ سَيِّدِهِ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ سَيِّدَيْهِ يَمْلِكُ عَبْدًا, وَلاَ أَمَةً وقال بعضهم: مَنْ مَلَكَ بَعْضَ الصَّاعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ, فَكَذَلِكَ مَنْ مَلَكَ بَعْضَ عَبْدٍ, أَوْ بَعْضَ كُلِّ عَبْدٍ, أَوْ أَمَةٍ مِنْ رَقِيقٍ كَثِيرٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ يَمْلِكُ عَبْدًا, وَلاَ أَمَةً فَصَدَقُوا, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ: يُخْرِجُهَا كُلُّ أَحَدٍ، عَنْ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ, وَإِنَّمَا قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ، وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إلاَّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ" فَهَؤُلاَءِ رَقِيقٌ, وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ رَقِيقٌ, فَالصَّدَقَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ بِنَصِّ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ, وَهَذَا اسْمٌ يَعُمُّ النَّوْعَ كُلَّهُ وَبَعْضَهُ, وَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ, وَبِهَذَا النَّصِّ لَمْ يَجُزْ فِي الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ نِصْفَا رَقَبَتَيْنِ, لاَِنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ "رَقَبَةٌ" وَالنَّصُّ جَاءَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ.

(6/134)


وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: مَنْ أَعْطَى نِصْفَيْ شَاتَيْنِ فِي الزَّكَاةِ أَجْزَأَتْهُ, وَلَوْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ رَقَبَتَيْنِ فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَنْ كَانَ مِنْ مَمْلُوكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَعَلَى سَادَاتِهِ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ; فَإِنْ كَانَ عَبْدَانِ فَصَاعِدًا، عَنْ اثْنَيْنِ فَلاَ صَدَقَةَ فِطْرٍ عَلَى الرَّقِيقِ، وَلاَ عَلَى مَنْ يَمْلِكُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ بَعْضَ الصَّاعِ فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لاَِنَّهُ قِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ, بَلْ مَنْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ صَاعٍ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ, عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَيْسَ زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ عَنْ مَمْلُوكٍ تَمْلِكُهُ, قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي فِي الْمَمْلُوكِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إيجَابِهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ, وَعَبْدٍ, صَغِيرٍ, وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, وَخَالَفُوا فِيهِ الْقِيَاسَ; لأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي الْغَنَمِ الْمُشْتَرَكَةِ وَأَسْقَطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ.

(6/135)


707 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ فَهُوَ عَبْدٌ, يُؤَدِّي سَيِّدُهُ عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ.
فَإِنْ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ, أَوْ كَانَ عَبْدٌ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ, أَوْ أَمَةٌ كَذَلِكَ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِيمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ عَلَى مَالِكِ بَعْضِهِ إخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْهُ بِمِقْدَارِ مَا يَمْلِكُ مِنْهُ; وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ، عَنْ نَفْسِهِ بِمِقْدَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ, وَلَمْ يَرِدْ عَلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ مُكَاتَبِهِ.
وقال مالك: يُؤَدِّي السَّيِّدُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ مُكَاتَبِهِ وَعَنْ مِقْدَارِ مَا يَمْلِكُ، عَنِ الَّذِي بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ وَلَيْسَ عَلَى الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ أَنْ يُخْرِجَ بَاقِيَ الصَّاعِ، عَنْ بَعْضِهِ الْحُرِّ.
وقال أبو حنيفة: لاَ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, لاَ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ عَلَى السَّيِّدِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ، عَنْ مُكَاتَبِهِ بِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِهِ وَرَقِيقِ امْرَأَتِهِ, وَكَانَ لَهُ مُكَاتَبٌ فَكَانَ لاَ يُؤَدِّي عَنْهُ, وَكَانَ لاَ يَرَى عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةً. قَالُوا: وَهَذَا صَاحِبٌ لاَ مُخَالِفَ لَهُ

(6/135)


يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا الأَثَرِ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى الْمَرْءِ إخْرَاجَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِ امْرَأَتِهِ وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ بَعْضُهُ حُجَّةً وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
فَإِنْ قَالُوا: لَعَلَّهُ كَانَ يَتَطَوَّعُ بِإِخْرَاجِهَا، عَنْ رَقِيقِ الْمَرْأَةِ.
قِيلَ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْمُكَاتَبَ كَلَّفَهُ إخْرَاجَهَا مِنْ كَسْبِهِ, كَمَا لِلْمَرْءِ أَنْ يُكَلِّفَ ذَلِكَ عَبْدَهُ, كَمَا يُكَلِّفُهُ الضَّرِيبَةَ; وَلَعَلَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يُخْرِجَهَا الْمُكَاتَبُ، عَنْ نَفْسِهِ; وَلَعَلَّهُ قَدْ رَجَعَ، عَنْ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ, فَكُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ "لَعَلَّ ".
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ; لاَِنَّهُ جَعَلَ زَكَاةَ الْفِطْرِ نِصْفَ صَاعٍ; أَوْ عُشْرَ صَاعٍ, أَوْ تِسْعَةَ أَعْشَارٍ صَاعٍ فَقَطْ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا, وَأَوْجَبَهَا عَلَى بَعْضِ إنْسَانٍ دُونَ سَائِرِهِ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْفِطْرِ فِيمَنْ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ رَقِيقٍ مِمَّنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ, وَهَذَا مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
قال أبو محمد: وَالْحَقُّ مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَهَا عَلَى الْحُرِّ, وَالْعَبْدِ, وَالذَّكَرِ, وَالآُنْثَى, وَالصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, فَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ فَلَيْسَ حُرًّا, وَلاَ هُوَ أَيْضًا عَبْدٌ, وَلاَ هُوَ رَقِيقٌ, فَسَقَطَ بِذَلِكَ، عَنْ أَنْ يَجِبَ عَلَى مَالِكِ بَعْضِهِ عَنْهُ شَيْءٌ, وَلَكِنَّهُ ذَكَرٌ, أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٌ, أَوْ كَبِيرٌ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ بُدَّ بِهَذَا النَّصِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فِي الْمُكَاتَبِ يُؤَدِّي بَعْضَ كِتَابَتِهِ إنَّهُ يُؤَدِّيهَا، عَنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ لإِنَّ بَعْضَهُ حُرٌّ وَبَعْضَهُ مَمْلُوكٌ كَمَا ذَكَرْنَا; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا، عَنْ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الدِّمَشْقِيُّ، حدثنا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ هَارُونَ أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَقَتَادَةَ, قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ خِلاَسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيٌّ, وَابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "الْمُكَاتَبُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَا أَدَّى وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمِقْدَارِ مَا عَتَقَ مِنْهُ". وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ عَلَى الْمُكَاتَبِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ.
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ, وَعَطَاءٍ: يُؤَدِّيهَا عَنْهُ سَيِّدُهُ.

(6/136)


لا يجزئ إخراج بعض الصاع شعيرا أو بعضه تمرا و لا تجزئ قيمة أصلا
...
708 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إخْرَاجُ بَعْضِ الصَّاعِ شَعِيرًا وَبَعْضِهِ تَمْرًا, وَلاَ تُجْزِئُ قِيمَةٌ أَصْلاً;
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقِيمَةُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ لاَ تَجُوزُ إلاَّ بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا, وَلَيْسَ لِلزَّكَاةِ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ فَيَجُوزُ رِضَاهُ, أَوْ إبْرَاؤُهُ.

(6/137)


و ليس على الإنسان أن يخرجها عن أبيه و لا عن أمه و لا عن زوجته و لا عن ولده لا تلزمه إلا عن نفسه
...
709 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُخْرِجَهَا، عَنْ أَبِيهِ, وَلاَ عَنْ أُمِّهِ, وَلاَ عَنْ زَوْجَتِهِ, وَلاَ عَنْ وَلَدِهِ, وَلاَ أَحَدٍ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ, وَلاَ تَلْزَمُهُ إلاَّ عَنْ نَفْسِهِ,
وَرَقِيقِهِ فَقَطْ. وَيَدْخُلُ فِي: الرَّقِيقِ أُمَّهَاتُ الأَوْلاَدِ, وَالْمُدَبَّرُونَ, غَائِبُهُمْ وَحَاضِرُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَغَيْرِهِمْ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ: يُخْرِجُهَا، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَنْ خَادِمِهَا الَّتِي لاَ بُدَّ لَهَا مِنْهَا، وَلاَ يُخْرِجُهَا، عَنْ أَجِيرِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: يُخْرِجُهَا، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَنْ أَجِيرِهِ الَّذِي لَيْسَتْ أُجْرَتُهُ مَعْلُومَةً, فَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ مَعْلُومَةً فَلاَ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا عَنْهُ, وَلاَ عَنْ رَقِيقِ امْرَأَتِهِ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَوْجَبَهَا عَلَى الزَّوْجِ، عَنْ زَوْجَتِهِ وَخَادِمِهَا إلاَّ خَبَرًا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ, ذَكَرٍ, أَوْ أُنْثَى, مِمَّنْ تَمُونُونَ".
قال أبو محمد: وَفِي هَذَا الْمَكَانِ عَجَبٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لاَ يَقُولُ بِالْمُرْسَلِ, ثُمَّ أَخَذَ هَاهُنَا بِأَنْتَنِ مُرْسَلٍ فِي الْعَالِمِ, مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ, وَيَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ كُلِّ كَذَّابٍ, وَسَاقِطٍ; ثُمَّ تَرَكُوا هَذَا الْخَبَرَ وَعَابُوهُ بِالإِرْسَالِ وَبِضَعْفِ رَاوِيهِ وَتَنَاقَضُوا فَقَالُوا: لاَ يُزَكِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَلَيْهِ فُرِضَ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهَا فَحَسْبُكُمْ بِهَذَا تَخْلِيطًا!!
وَأَمَّا تَقْسِيمُ اللَّيْثِ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْخَبَرِ ثُمَّ خَالَفُوهُ; فَلَمْ يَرَوْا أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ

(6/137)


الأَجِيرِ, وَهُوَ مِمَّنْ يُمَوَّنُ.
قال أبو محمد: إيجَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْحُرِّ, وَالْعَبْدِ, وَالذَّكَرِ, وَالآُنْثَى: هُوَ إيجَابٌ لَهَا عَلَيْهِمْ, فَلاَ تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ فِيهِ إلاَّ مَنْ أَوْجَبَهُ النَّصُّ, وَهُوَ الرَّقِيقُ فَقَطْ, قَالَ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
قال أبو محمد: وَوَاجِبٌ عَلَى ذَاتِ الزَّوْجِ إخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ رَقِيقِهَا, بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/138)


710 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ مِنْ الْعَبِيدِ لَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا عَنْهُمْ لاَ عَلَى سَيِّدِهِ,
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ, وَلاَ عَبْدِهِ صَدَقَةٌ إلاَّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ". فَالْعَبْدُ مُسْلِمٌ وَهُوَ رَقِيقٌ لِغَيْرِهِ, وَلَهُ رَقِيقٌ, فَعَلَى مَنْ هُوَ لَهُ رَقِيقٌ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُ; وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا، عَنْ رَقِيقِهِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: كَيْفَ لاَ يَلْزَمُهُ، عَنْ نَفْسِهِ وَتَلْزَمُهُ، عَنْ غَيْرِهِ.
قلنا: كَمَا حَكَمَ فِي ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
ثم نقول لِلْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِهَذَا حَيْثُ تُخْطِئُونَ, فَتَقُولُونَ: إنَّ الزَّوْجَةَ لاَ تُخْرِجُهَا، عَنْ نَفْسِهَا, وَعَلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَهَا، عَنْ رَقِيقِهَا حَاشَا مَنْ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْهُ لِخِدْمَتِهَا.
وَلَوَدِدْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا يَقُولُ الْحَنَفِيُّونَ فِي نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ عَبْدُهُ فَحُبِسَ لِيُبَاعَ فَجَاءَ الْفِطْرُ, عَلَى مَنْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمَا وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ لاَ تَقَعَانِ فِي قَوْلِنَا أَبَدًا; لاَِنَّهُ سَاعَةَ تَسَلُّمِ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ عَبْدِهِ: عَتَقَا فِي الْوَقْتِ.

(6/138)


من كان له عبدان فأكثر فله أن يخرج عن أحدهما تمرا و عن الآخر شعيرا صاعا صاعا
...
711 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَهُ عَبْدَانِ فَأَكْثَرُ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ، عَنْ أَحَدِهِمَا تَمْرًا وَعَنِ الآخَرِ شَعِيرًا, صَاعًا صَاعًا.
وَإِنْ شَاءَ التَّمْرَ، عَنِ الْجَمِيعِ, وَإِنْ شَاءَ الشَّعِيرَ، عَنِ الْجَمِيعِ; لاَِنَّهُ نَصُّ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ.

(6/138)


أما الصغار فعليهم أن يخرجها الأب و الولي عنهم
...
712 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الصِّغَارُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجَهَا الأَبُ, وَالْوَلِيُّ عَنْهُمْ
مِنْ مَالٍ إنْ كَانَ لَهُمْ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ فَلاَ زَكَاةَ فِطْرٍ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ, وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ.وقال أبو حنيفة: يُؤَدِّيهَا الأَبُ، عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لاَ مَالَ لَهُمْ; فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ, فَإِنْ أَدَّاهَا مِنْ مَالِهِمْ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ قَالَ: وَيُؤَدِّيهَا، عَنِ الْيَتِيمِ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ, وَعَنْ رَقِيقِ الْيَتِيمِ أَيْضًا.
وَقَالَ زُفَرُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَيْسَ عَلَى الْيَتِيمِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, كَانَ لَهُ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ; فَإِنْ أَدَّاهَا وَصِيُّهُ ضَمِنَهَا.
وقال مالك عَلَى الأَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ, فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ فَهِيَ فِي أَمْوَالِهِمْ; وَهِيَ عَلَى الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الأَبَ لاَ يُؤَدِّيهَا، عَنْ وَلَدِهِ الْكِبَارِ, كَانَ لَهُمْ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ الدَّعْوَى: فِي أَنَّ الْقَصْدَ بِذِكْرِ الصِّغَارِ إنَّمَا هُوَ إلَى آبَائِهِمْ لاَ إلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ دَعْوَى فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لاَِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِالْخِطَابِ إلَيْهِمْ فِي إيجَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ, وَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى غَيْرِهِمْ: فَمَنْ جَعَلَ الآبَاءَ مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الأَوْلِيَاءِ, وَالأَقَارِبِ, وَالْجِيرَانِ, وَالسُّلْطَانِ!
فَإِنْ قَالُوا: لإِنَّ الأَبَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ رَجَعَ الْحَنِيفِيُّونَ إلَى مَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ.
وَيَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ فِي هَذَا أَنْ يُؤَدِّيَهَا الأَبُ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ عَنْهُمْ, كَانَ لَهُمْ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ; لاَِنَّهُ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ دُونَهُمْ. فَوَضَحَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ بِيَقِينٍ.
وَالْحَقُّ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى: الْكَبِيرِ, وَالصَّغِيرِ, فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ, وَادَّعَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ, وَلاَ دَلَّ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". فَوَجَدْنَا مَنْ لاَ مَالَ لَهُ مِنْ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَدَاءُ زَكَاةِ الْفِطْرِ; فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْهَا قَطُّ, وَلَمَّا كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُهَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهَا, بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه الصلاة والسلام وَهِيَ لاَزِمَةٌ لِلْيَتِيمِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ, وَإِنَّمَا قلنا: إنَّهَا لاَ تَلْزَمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مَحْدُودَةٌ بِوَقْتٍ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ, بِخِلاَفِ سَائِرِ الزَّكَوَاتِ, فَلَمَّا خَرَجَ وَقْتُهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَجِبَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا وَفِي غَيْرِ وَقْتِهَا; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِإِيجَابِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/139)


و الذي لا يجد من أين يؤدي زكاة الفطر فليست عليه
...
713 - مَسْأَلَةٌ: وَاَلَّذِي لاَ يَجِدُ مِنْ أَيْنَ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ فَلَيْسَتْ عَلَيْهِ،
لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ, وَلاَ تَلْزَمُهُ وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ; لِمَا ذُكِرَ أَيْضًا.فَمَنْ قَدَرَ عَلَى التَّمْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الشَّعِيرِ لِغَلاَئِهِ, أَوْ قَدَرَ عَلَى الشَّعِيرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّمْرِ لِغَلاَئِهِ: أَخْرَجَ صَاعًا، وَلاَ بُدَّ مِنْ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ, لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا.
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلاَّ عَلَى بَعْضِ صَاعٍ أَدَّاهُ، وَلاَ بُدَّ, لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَهُوَ وَاسِعٌ لِبَعْضِ الصَّاعِ, فَهُوَ مُكَلَّفٌ إيَّاهُ, وَلَيْسَ وَاسِعًا لِبَعْضِهِ, فَلَمْ يُكَلَّفْهُ.
وَهَذَا مِثْلُ الصَّلاَةِ, يَعْجِزُ، عَنْ بَعْضِهَا وَيَقْدِرُ عَلَى بَعْضِهَا, وَمِثْلُ الدِّينِ, يَقْدِرُ عَلَى بَعْضِهِ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى سَائِرِهِ.
وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ الصَّوْمِ, يَعْجِزُ فِيهِ عَنْ تَمَامِ الْيَوْمِ, أَوْ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ;، وَلاَ مِثْلُ الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ, وَالإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَاتِ, وَالْهَدْيِ الْوَاجِبِ, يَقْدِرُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى سَائِرِهِ; فَلاَ يُجْزِئُهُ شَيْءٌ مِنْهُ.
لإِنَّ مَنْ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَهُ ثُمَّ بَعْضَهُ ثُمَّ بَعْضَهُ.
وَلاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُ الْيَوْمِ, وَلاَ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يُتِمَّ صَوْمَ الْيَوْمِ صَائِمَ يَوْمٍ, إلاَّ حَيْثُ جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَيُجْزِئُهُ حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا بَعْضُ الرَّقَبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ بِتَعْوِيضِ الصِّيَامِ مِنْ الرَّقَبَةِ إذَا لَمْ تُوجَدْ فَلَمْ يَجُزْ تَعَدِّي النَّصِّ, وَكَانَ مُعْتِقُ بَعْضِ رَقَبَةٍ مُخَالِفًا لِمَا أُمِرَ بِهِ وَافْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ الرَّقَبَةِ التَّامَّةِ, أَوْ مِنْ الإِطْعَامِ الْمُعَوِّضِ مِنْهَا, أَوْ الصِّيَامِ الْمُعَوِّضِ مِنْهَا.
وَأَمَّا بَعْضُ الشَّهْرَيْنِ فَمِنْ بَعْضِهَا, أَوْ فَرَّقَهُمَا فَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ مُتَتَابِعًا, فَهُوَ عَلَيْهِ أَوْ عَوَّضَهُ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِالتَّعْوِيضِ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّ بَعْضَ الْهَدْيِ مَعَ بَعْضِ هَدْيٍ آخَرَ لاَ يُسَمَّى هَدْيًا, فَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ; فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِ
وَأَمَّا الإِطْعَامُ فَيُجْزِئُهُ مَا وَجَدَ مِنْهُ حَتَّى يَجِدَ بَاقِيَهُ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ مَحْدُودِ الآخِرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/140)


تجب زكاة الفطر على السيد عن عبده المرهون و الآبق و الغائب و المغصوب
...
714 - مَسْأَلَةٌ: وَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى السَّيِّدِ، عَنْ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ, وَالآبِقِ, وَالْغَائِبِ, وَالْمَغْصُوبِ,
لأَنَّهُمْ رَقِيقُهُ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَخْصِيصِ هَؤُلاَءِ.
وَلِلسَّيِّدِ إنْ كَانَ لِلْعَبْدِ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ أَنْ يُكَلِّفَهُ إخْرَاجَ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ مَالِهِ, لإِنَّ لَهُ انْتِزَاعَ مَالٍ مَتَى شَاءَ, وَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْخَرَاجَ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ, فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَصْرِفَ مَا كُلِّفَهُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا شَاءَ.

(6/140)


زكاة الفطر واجبة على المجنون إن كان له مال
...
715 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ لِلْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَجْنُونِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ;
لاَِنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى, حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ, صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ.

(6/141)


من كان فقيرا فأخذ من زكاة الفطر مقدار ما يقوم بقوت يومه و فضل له منه ما يعطى في زكاة الفطر لزمه أن يعطيه
...
716 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَخَذَ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَوْ غَيْرِهَا مِقْدَارَ مَا يَقُومُ بِقُوتِ يَوْمِهِ وَفَضَلَ لَهُ مِنْهُ مَا يُعْطِي فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ: لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَالشَّافِعِيِّ.
وقال أبو حنيفة: مَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَلَهُ أَخْذُهَا, وَمَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ: مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ غَنِيٌّ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ فَقِيرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ غَنِيٌّ, فَإِنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ فَهُوَ فَقِيرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ.
قال أبو محمد: سَنَتَكَلَّمُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ, وَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْفَقِيرِ بِإِسْقَاطِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْهُ إذَا كَانَ وَاجِدًا لِمِقْدَارِهَا أَوْ لِبَعْضِهِ قَوْلٌ لاَ يَجُوزُ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ, نَعْنِي بِإِسْقَاطِهَا، عَنِ الْفَقِيرِ, وَإِنَّمَا جَاءَ النَّصُّ بِإِسْقَاطِ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَقَطْ; فَإِذَا كَانَتْ فِي وُسْعِ الْفَقِيرِ فَهُوَ مُكَلَّفٌ إيَّاهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ, ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ".
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي الْفَقِيرِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ وَيُعْطِيهَا.

(6/141)


من أراد إخراج زكاة الفطر عن ولده الصغار أو الكبار لم يجز له ذلك إلا بأن يهبها لهم
...
717 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَرَادَ إخْرَاجَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ أَوْ الْكِبَارِ أَوْ، عَنْ غَيْرِهِمْ: لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلاَّ بِأَنْ يَهَبَهَا لَهُمْ,
ثُمَّ يُخْرِجَهَا، عَنِ الصَّغِيرِ, وَالْمَجْنُونِ, وَلاَ يُخْرِجَهَا عَمَّنْ يَعْقِلُ مِنْ الْبَالِغِينَ إلاَّ بِتَوْكِيلٍ مِنْهُمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا فَرَضَهَا عَلَيْهِ فِيمَا يَجِدُ مِمَّا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إخْرَاجِهَا مِنْهُ, أَوْ يَكُونُ وَلِيُّهُ قَادِرًا عَلَى إخْرَاجِهَا مِنْهُ, وَلاَ يَكُونُ مَالُ غَيْرِهِ مَكَانًا لاَِدَاءِ الْفَرْضِ عَنْهُ; إذْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ; فَإِذَا وَهَبَهَا لَهُ فَقَدْ صَارَ مَالِكًا لِمِقْدَارِهَا, فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا, فأما مَنْ لَمْ يَبْلُغْ; ، وَلاَ يَعْقِلُ; فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. وَأَمَّا الْبَالِغُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/141)


وقت زكاة الفطر هو أثر طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر
...
718 - مَسْأَلَةٌ: وَوَقْتُ زَكَاةِ الْفِطْرِ الَّذِي لاَ تَجِبُ قَبْلَهُ, إنَّمَا تَجِبُ بِدُخُولِهِ, ثُمَّ لاَ تَجِبُ بِخُرُوجِهِ: فَهُوَ إثْرَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ,
مُمْتَدًّا إلَى أَنْ تَبْيَضَّ الشَّمْسُ وَتَحِلَّ الصَّلاَةُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ نَفْسِهِ; فَمَنْ مَاتَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَمَنْ وُلِدَ حِينَ ابْيِضَاضِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ, أَوْ أَسْلَمَ كَذَلِكَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَمَنْ مَاتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ أَوْ وُلِدَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ تَمَادَتْ حَيَاتُهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ: فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا وَلَهُ مِنْ ابْنٍ يُؤَدِّيهَا فَهِيَ دَيْنٌ عَلَيْهِ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا مَتَى أَدَّاهَا.
وقال الشافعي: وَقْتُهَا مَغِيبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ, فَمَنْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ أَوْ أَسْلَمَ فَلاَ زَكَاةَ فِطْرٍ عَلَيْهِ, وَمَنْ مَاتَ فِيهَا فَهِيَ عَلَيْهِ.
وقال أبو حنيفة: وَقْتُهَا انْشِقَاقُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ, فَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ, أَوْ وُلِدَ بَعْدَ ذَلِكَ, أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ فِطْرٍ عَلَيْهِ.
وقال مالك مَرَّةً كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ, وَمَرَّةً قَالَ: إنَّ مَنْ وُلِدَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
قال أبو محمد أَمَّا مَنْ رَأَى وَقْتَهَا غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَذَلِكَ هُوَ الْفِطْرُ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْخُرُوجُ عَنْهُ جُمْلَةً.
وَقَالَ الآخَرُونَ الَّذِينَ رَأَوْا وَقْتَهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ: إنَّ هَذَا هُوَ وَقْتُ الْفِطْرِ, لاَ مَا قَبْلَهُ; لاَِنَّهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ كَانَ يُفْطِرُ كَذَلِكَ ثُمَّ يُصْبِحُ صَائِمًا فَإِنَّمَا أَفْطَرَ مِنْ صَوْمِهِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْفِطْرِ, لاَ قَبْلَهُ, وَحِينَئِذٍ دَخَلَ وَقْتُهَا بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الْمُصَلَّى".

(6/142)


قال أبو محمد: فَهَذَا وَقْتُ أَدَائِهَا بِالنَّصِّ, وَخُرُوجُهُمْ إلَيْهَا إنَّمَا هُوَ لاِِدْرَاكِهَا, وَوَقْتُ صَلاَةِ الْفِطْرِ هُوَ جَوَازُ الصَّلاَةِ بِابْيِضَاضِ الشَّمْسِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَمَّ الْخُرُوجُ إلَى صَلاَةِ الْفِطْرِ بِدُخُولِهِمْ فِي الصَّلاَةِ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا.
وَبَقِيَ الْقَوْلُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. فَوَجَدْنَا الْفِطْرَ الْمُتَيَقَّنَ إنَّمَا هُوَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ; وَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ وَقْتَهَا غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةِ الْفِطْرِ; لاَِنَّهُ خِلاَفُ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ عليه السلام بِأَدَائِهَا فِيهِ.
قال أبو محمد: فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا فَقَدْ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ وَمَالِهِ لِمَنْ هِيَ لَهُ, فَهِيَ دَيْنٌ لَهُمْ, وَحَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ, وَقَدْ وَجَبَ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالٍ وَحَرُمَ عَلَيْهِ إمْسَاكُهَا فِي مَالِهِ, فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا أَبَدًا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ, وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّهُمْ, وَيَبْقَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَضْيِيعِهِ الْوَقْتَ, لاَ يَقْدِرُ عَلَى جَبْرِهِ إلاَّ بِالاِسْتِغْفَارِ وَالنَّدَامَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا أَصْلاً.
فَإِنْ ذَكَرُوا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ: "إذْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَبِيتِ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ لَيْلَةً, وَثَانِيَةً, وَثَالِثَةً" : فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لاَِنَّهُ لاَ تَخْلُو تِلْكَ اللَّيَالِي أَنْ تَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مِنْ شَوَّالٍ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ, لاَِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ, وَلاَ يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَبَسَ صَدَقَةً وَجَبَ أَدَاؤُهَا، عَنْ أَهْلِهَا, وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شَوَّالٍ فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ; إذْ لَمْ يُكْمِلْ وَحَبَسَ وُجُودَ أَهْلِهَا; وَفِي تَأْخِيرِهِ عليه الصلاة والسلام إعْطَاءَهَا بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ إخْرَاجِهَا لَمْ يَحِنْ بَعْدُ, فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَلَمْ يُخْرِجْهَا عليه السلام. فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَلاَ يُجْزِئُ; وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَيَالِي شَوَّالٍ فَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ أَهْلَهَا لَمْ يُوجَدُوا, فَتَرَبَّصَ عليه الصلاة والسلام وُجُودَهُمْ. فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.

(6/143)


قسم الصدقة
من تولى تفريق زكاة ماله أو زكاة فطره أو تولاها الإمام أو أميره
...
قَسْمُ الصَّدَقَةِ
719 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَوَلَّى تَفْرِيقَ زَكَاةِ مَالِهِ أَوْ زَكَاةِ فِطْرِهِ أَوْ تَوَلاَّهَا الإِمَامُ أَوْ أَمِيرُهُ:
فَإِنَّ الإِمَامَ, أَوْ أَمِيرَهُ: يُفَرِّقَانِهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مُسْتَوِيَةٍ: لِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ,
وَلِلْفُقَرَاءِ سَهْمٌ, وَفِي الْمُكَاتَبِينَ وَفِي عِتْقِ الرِّقَابِ سَهْمٌ, وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى سَهْمٌ, وَلاَِبْنَاءِ السَّبِيلِ سَهْمٌ, وَلِلْعُمَّالِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا سَهْمٌ, وَلِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ سَهْمٌ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ زَكَاةَ مَالِهِ فَفِي سِتَّةِ أَسْهُمٍ كَمَا ذَكَرْنَا, وَيَسْقُطُ: سَهْمُ الْعُمَّالِ, وَسَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَهْلِ سَهْمٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَنْفُسٍ, إلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ, فَيُعْطِي مَنْ وَجَدَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ أَهْلِ السِّهَامِ دُونَ بَعْضٍ, إلاَّ أَنْ يَجِدَ, فَيُعْطِيَ مَنْ وَجَدَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهَا كَافِرًا, وَلاَ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ, وَالْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ, وَلاَ أَحَدًا مِنْ مَوَالِيهِمْ.
فَإِنْ أَعْطَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً لَمْ يُجْزِهِ, وَلاَ جَازَ لِلآخِذِ, وَعَلَى الآخِذِ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَ, وَعَلَى الْمُعْطِي أَنْ يُوفِيَ ذَلِكَ الَّذِي أَعْطَى فِي أَهْلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وقال بعضهم: يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْءُ صَدَقَتَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى عُمُومِ جَمِيعِ الْفُقَرَاءِ وَجَمِيعِ الْمَسَاكِينِ. فَصَحَّ أَنَّهَا فِي الْبَعْضِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. فَصَحَّ أَنَّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرْءُ فَهُوَ سَاقِطٌ عَنْهُ, وَبَقِيَ عَلَيْهِ مَا اسْتَطَاعَ, لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ إيفَائِهِ; فَسَقَطَ عُمُومُ كُلِّ فَقِيرٍ وَكُلِّ مِسْكِينٍ, وَبَقِيَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الأَصْنَافِ, فَإِنْ عَجَزَ، عَنْ بَعْضِهَا سَقَطَ عَنْهُ أَيْضًا; وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُسْقِطَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرُوا حَدِيثَ الذُّهَيْبَةِ الَّتِي قَسَمَهَا عليه الصلاة والسلام بَيْنَ الأَرْبَعَةِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْخَبَرَ, وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الذُّهَيْبَةُ مِنْ الصَّدَقَةِ أَصْلاً; لاَِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ أَصْلاً; ، وَلاَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْطَى عليه الصلاة والسلام الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَيْرِ الصَّدَقَةِ, بَلْ قَدْ أَعْطَاهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ.
وَذَكَرُوا حَدِيثَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(6/144)


أَعْطَاهُ صَدَقَةَ بَنِي زُرَيْقٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا مُرْسَلٌ, وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ سَائِرَ الأَصْنَافِ مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ.
وَادَّعَى قَوْمٌ: أَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَدْ سَقَطَ
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ, بَلْ هُمْ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مَا كَانُوا, وَإِنَّمَا يَسْقُطُونَ هُمْ وَالْعَامِلُونَ إذَا تَوَلَّى الْمَرْءُ قِسْمَةَ صَدَقَةِ نَفْسِهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ عَامِلُونَ عَلَيْهَا, وَأَمْرُ الْمُؤَلَّفَةِ إلَى الإِمَامِ لاَ إلَى غَيْرِهِ.
قال أبو محمد: لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ مَنْ أَمَرَ لِقَوْمٍ بِمَالٍ وَسَمَّاهُمْ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ, فَمِنْ الْمُصِيبَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ أَمْرَ النَّاسِ أَوْكَدُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى!
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا رِفَاعَةُ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ بَعْضَ الآُمَرَاءِ اسْتَعْمَلَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَلَى صَدَقَةِ الْمَاشِيَةِ, فَأَتَاهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَافِعٌ: "إنَّ عَهْدِي بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ وَإِنِّي جَزَيْتُهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَقَسَّمْتُهَا, وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ".
وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّكَاةِ: ضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ فِي نَصِيبِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ رَدُّهُ عَلَى الآخَرِينَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ضَعْهَا حَيْثُ أَمَرَك اللَّهُ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ, وَرَافِعٍ, كَمَا أَوْرَدْنَا, وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الثَّانِي، عَنْ حُذَيْفَةَ; وَعَطَاءٍ, وَغَيْرِهِمَا.

(6/145)


وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ: فَلاَِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ: لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا, وَلاَ يَقَعُ عَلَى وَاحِدٍ, وَلِلتَّثْنِيَةِ بِنِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ, تَقُولُ: مِسْكِينٌ لِلْوَاحِدِ, وَمِسْكِينَانِ لِلاِثْنَيْنِ, وَمَسَاكِينُ لِلثَّلاَثَةِ, فَصَاعِدًا, وَكَذَلِكَ اسْمُ الْفُقَرَاءِ وَسَائِرُ الأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الآيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا أَنْ لاَ يُعْطِيَ كَافِرًا فَلِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِي، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ فِي حَدِيثِ: "فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ".
فَإِنَّمَا جَعَلَهَا عليه الصلاة والسلام لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَطْ.
وَأَمَّا بَنُو هَاشِمٍ, وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَلِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: "إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ الْقَوْمِ, وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ".
قال أبو محمد: فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي: مَنْ هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ.
فَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَطْ, لاَِنَّهُ لاَ عَقِبَ لِهَاشِمٍ مِنْ غَيْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ بِيَقِينٍ, لاَِنَّهُ لاَ عَقِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ وَالِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عليه الصلاة والسلام أَهْلٌ إلاَّ وَلَدُ الْعَبَّاسِ, وَأَبِي طَالِبٍ, وَالْحَارِثِ; وَأَبِي لَهَبٍ: بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَطْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ, وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَطْ وَمَوَالِيهِمْ.

(6/146)


وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمَالِكِيُّ: آلُ مُحَمَّدٍ: جَمِيعُ قُرَيْشٍ, وَلَيْسَ الْمَوَالِي مِنْهُمْ.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ.
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا يَحْيَى، وَ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا الْحَكَمُ، هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ, فَأَرَادَ أَبُو رَافِعٍ أَنْ يَتْبَعَهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لَنَا, وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ".
فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ أَخْرَجَ الْمَوَالِيَ مِنْ حُكْمِهِمْ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ.
وَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَاءَ هُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكَلِّمَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَسَمَ مِنْ الْخُمْسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ, وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَسَمْتَ لاِِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا, وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ مِنْكَ وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ, وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ".
فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي شَيْءٍ أَصْلاً; لأَنَّهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه الصلاة والسلام; فَصَحَّ أَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ, وَإِذْ هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ; فَيَخْرُجُ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ, وَبَنُو نَوْفَلٍ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ, وَسَائِرُ قُرَيْشٍ، عَنْ هَذَيْنِ: الْبَطْنَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ يَحِلُّ لِهَذَيْنِ الْبَطْنَيْنِ صَدَقَةُ فَرْضٍ، وَلاَ تَطَوُّعٍ أَصْلاً, لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ" فَسَوَّى بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَهُمْ.
وَأَمَّا مَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَدَقَةٍ مُطْلَقَةٍ فَهُوَ حَلاَلٌ لَهُمْ, كَالْهِبَةِ, وَالْعَطِيَّةِ, وَالْهَدِيَّةِ, وَالنُّحْلِ, وَالْحَبْسِ, وَالصِّلَةِ, وَالْبِرِّ, وَغَيْرِ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ تُجْزِئُ إنْ وُضِعَتْ فِي يَدِ مَنْ لاَ تَجُوزُ لَهُ فَلاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا لِقَوْمٍ خَصَّهُمْ بِهَا; فَصَارَ حَقُّهُمْ فِيهَا; فَمَنْ أَعْطَى مِنْهَا غَيْرَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ

(6/147)


تَعَالَى بِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" فَوَجَبَ عَلَى الْمُعْطِي إيصَالُ مَا عَلَيْهِ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ, وَوَجَبَ عَلَى الآخِذِ رَدُّ مَا أَخَذَ بِغَيْرِ حَقٍّ. قَالَ تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.

(6/148)


الفقراء هم الذين لا شيء لهم أصلا و المساكين هم الذين لهم شيء لا يقوم بهم
...
720 - مَسْأَلَةٌ: الْفُقَرَاءُ هُمْ الَّذِينَ لاَ شَيْءَ لَهُمْ أَصْلاً. وَالْمَسَاكِينُ: هُمْ الَّذِينَ لَهُمْ شَيْءٌ لاَ يَقُومُ بِهِمْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ إلاَّ مُوسِرٌ, أَوْ غَنِيٌّ, أَوْ فَقِيرٌ, أَوْ مِسْكِينٌ, فِي الأَسْمَاءِ. وَمَنْ لَهُ فَضْلٌ، عَنْ قُوتِهِ. وَمَنْ لاَ يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ شَيْءٌ. وَمَنْ لَهُ مَا لاَ يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْهُ. وَمَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ أَرْبَعٌ مَعْلُومَةٌ بِالْحِسِّ. فَالْمُوسِرُ بِلاَ خِلاَفٍ: هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ مَالُهُ، عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ عَلَى السَّعَةِ. وَالْغَنِيُّ: هُوَ الَّذِي لاَ يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ لاَ يَفْضُلُ عَنْهُ شَيْءٌ; لاَِنَّهُ فِي غِنًى، عَنْ غَيْرِهِ. وَكُلُّ مُوسِرٍ غَنِيٌّ, وَلَيْسَ كُلُّ غَنِيٍّ مُوسِرًا.
فإن قيل: لِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمِسْكِينِ, وَالْفَقِيرِ.
قلنا: لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْئَيْنِ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا: إنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ, إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةِ حِسٍّ; فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَسَاكِينَ وَلَهُمْ سَفِينَةٌ; وَلَوْ كَانَتْ تَقُومُ بِهِمْ لَكَانُوا أَغْنِيَاءَ بِلاَ خِلاَفٍ. فَصَحَّ اسْمُ الْمِسْكِينِ بِالنَّصِّ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَبَقِيَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ أَصْلاً; وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ الأَسْمَاءِ إلاَّ الْفَقِيرُ, فَوَجَبَ ضَرُورَةً أَنَّهُ ذَاكَ.
وَرُوِّينَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حدثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأَكْلَةُ وَالأَكْلَتَانِ, وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ", قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى, وَلاَ يَفْطِنُ لِحَاجَتِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ".
قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى إلاَّ أَنَّ لَهُ شَيْئًا لاَ يَقُومُ لَهُ, فَهُوَ يَصْبِرُ وَيَنْطَوِي, وَهُوَ مُحْتَاجٌ، وَلاَ يَسْأَلُ.
وَقَالَ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فَصَحَّ أَنَّ

(6/148)


الْفَقِيرَ الَّذِي لاَ مَالَ لَهُ أَصْلاً; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ.
فإن قيل: قَالَ اللَّهُ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ}.
قلنا: صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يَلْبَسُ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الْبِلاَدِ إزَارًا وَرِدَاءً خَلِقَيْنِ غَسِيلَيْنِ لاَ يُسَاوِيَانِ دِرْهَمًا, فَمَنْ رَآهُ كَذَلِكَ ظَنَّهُ غَنِيًّا, وَلاَ يُعَدُّ مَالاً مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ مِمَّا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ, إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ وَذَكَرُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ
وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدُ
وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ; لإِنَّ مَنْ كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ, وَإِنَّمَا صَارَ فَقِيرًا إذَا لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدٌ.
وَهُوَ قَوْلُنَا وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا: هُمْ الْعُمَّالُ الْخَارِجُونَ مِنْ عِنْدِ الإِمَامِ الْوَاجِبَةِ طَاعَتُهُ, وَهُمْ الْمُصَدِّقُونَ, السُّعَاةُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ اتَّفَقَتْ الآُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ: أَنَا عَامِلٌ عَامِلاً, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَلِّيَهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ فَلَيْسَ مِنْ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا; ، وَلاَ يُجْزِئُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ, وَهِيَ مَظْلِمَةٌ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا, فَتُجْزِئُ حِينَئِذٍ; لاَِنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ إلَى أَهْلِهَا.
وَأَمَّا عَامِلُ الإِمَامِ الْوَاجِبَةِ طَاعَتُهُ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ; وَلَيْسَ عَلَيْنَا مَا يَفْعَلُ فِيهَا; لاَِنَّهُ وَكِيلٌ, كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَلاَ فَرْقَ, وَكَوَكِيلِ الْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: هُمْ قَوْمٌ لَهُمْ قُوَّةٌ لاَ يُوثَقُ بِنَصِيحَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَلَّفُونَ بِأَنْ يُعْطَوْا مِنْ الصَّدَقَاتِ, وَمِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ.
وَالرِّقَابُ: هُمْ الْمُكَاتَبُونَ, وَالْعُتَقَاءُ; فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ الزَّكَاةِ.
وقال مالك: لاَ يُعْطَى مِنْهَا الْمُكَاتَبُ.
وَقَوْلُ غَيْرِهِ: يُعْطَى مِنْهَا مَا يُتِمُّ بِهِ كِتَابَتَهُ.

(6/149)


وَقَالَ أبو محمد: وَهَذَانِ قَوْلاَنِ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِمَا.
وَبِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ.
وَجَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا مُكَاتَبُ الْهَاشِمِيِّ, وَالْمُطَّلِبِيِّ; لاَِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمَا, وَلاَ مَوْلًى لَهُمَا مَا لَمْ يُعْتَقْ كُلُّهُ.
وَإِنْ أَعْتَقَ الإِمَامُ مِنْ الزَّكَاةِ رِقَابًا فَوَلاَؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ لاَِنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلاَ مِنْ مَالٍ بَاقٍ فِي مِلْكِ الْمُعْطِي الزَّكَاةَ.
فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَرْءُ مِنْ زَكَاةِ نَفْسِهِ فَوَلاَؤُهَا لَهُ; لاَِنَّهُ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ, وَعَبْدِ نَفْسِهِ; وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "إنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِك.
فإن قيل: إنَّهُ إنْ مَاتَ رَجَعَ مِيرَاثُهُ إلَى سَيِّدِهِ.
قلنا: نَعَمْ هَذَا حَسَنٌ, إذَا بَلَغَتْ الزَّكَاةُ مَحَلَّهَا فَرُجُوعُهَا بِالْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ حَسَنٌ, وَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ تَصَدَّقَ مِنْ زَكَاتِهِ عَلَى قَرِيبٍ لَهُ ثُمَّ مَاتَ فَوَجَبَ مِيرَاثُهُ لِلْمُعْطِي: إنَّهُ لَهُ حَلاَلٌ, وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَيْنُ زَكَاتِهِ.
وَالْغَارِمُونَ: هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لاَ تَفِي أَمْوَالُهُمْ بِهَا, أَوْ مَنْ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ وَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِهَا. فأما مَنْ لَهُ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَلاَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ غَارِمًا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوَرٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هَارُونِ بْنِ رِئَابٍ حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ قَالَ: تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: "أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرُ لَكَ بِهَا يَا قَبِيصَةُ إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ إلاَّ لاَِحَدِ ثَلاَثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ", أَوْ قَالَ: "سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

(6/150)


وَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ فَهُوَ الْجِهَادُ بِحَقٍّ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابْنُ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا, أَوْ لِغَارِمٍ, أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ, أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ".
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ، عَنْ غَيْرِ مَعْمَرٍ فَأَوْقَفَهُ بَعْضُهُمْ, وَنَقَصَ بَعْضُهُمْ مِمَّا ذَكَرَ فِيهِ مَعْمَرٌ, وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا فِي الْحَجِّ.
قلنا: نَعَمْ, وَكُلُّ فِعْلِ خَيْرٍ فَهُوَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, إلاَّ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ كُلَّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ إلاَّ حَيْثُ بَيَّنَ النَّصُّ, وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَابْنُ السَّبِيلِ: هُوَ مَنْ خَرَجَ فِي غير مَعْصِيَةٍ فَاحْتَاجَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَسَّانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ فِي الْحَجِّ وَأَنْ يُعْتِقَ مِنْهَا النَّسَمَةَ وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ, وَالْحَنَفِيُّونَ: صَاحِبًا, لاَ يُعْرَفُ مِنْهُمْ لَهُ مُخَالِفٌ.

(6/151)


جائز أن يعطي المرء منها مكاتبه و مكاتب غيره
...
721 - مَسْأَلَةٌ: وَجَازَ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْءُ مِنْهَا مُكَاتَبَهُ وَمُكَاتَبَ غَيْرِهِ,
لاَِنَّهُمَا مِنْ الْبِرِّ, وَالْعَبْدُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي يَظْلِمُهُ سَيِّدُهُ، وَلاَ يُعْطِيهِ حَقَّهُ; لاَِنَّهُ مِسْكِينٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ أَنَّهُ: أَجَازَ ذَلِكَ.
وَمَنْ كَانَ أَبُوهُ; أَوْ أُمُّهُ; أَوْ ابْنُهُ, أَوْ إخْوَتُهُ, أَوْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْغَارِمِينَ, أَوْ غَزَوْا فِي سَبِيلِ اللَّهِ; أَوْ كَانُوا مُكَاتَبِينَ: جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ صَدَقَتِهِ الْفَرْضَ; لاَِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَدَاءُ دُيُونِهِمْ، وَلاَ عَوْنُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ وَالْغَزْوِ وَكَمَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِالْمَنْعِ مِمَّا ذَكَرْنَا.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَوْصَى عُمَرَ فَقَالَ: مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ زَكَاةٌ, وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالدُّنْيَا جَمِيعِهَا.
وَعَنِ الْحَسَنِ: لاَ تُجْزِئُ حَتَّى يَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/151)


722 - مَسْأَلَةٌ: وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْ زَكَاتِهَا; إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ,
صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَفْتَى زَيْنَبَ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ إذْ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَسَأَلَتْهُ: أَيَسَعُهَا أَنْ تَضَعَ صَدَقَتَهَا فِي زَوْجِهَا, وَفِي بَنِي أَخٍ لَهَا يَتَامَى فَأَخْبَرَهَا عليه الصلاة والسلام "أَنَّ لَهَا أَجْرَيْنِ: أَجْرَ الصَّدَقَةِ وَأَجْرَ الْقَرَابَةِ".

(6/152)


من كان له مال مما تجب فيه الصدقة و هو لا يقوم ما معه بعولته فهو مسكين
...
723 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ,
كَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً أَوْ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ أَوْ أَرْبَعِينَ شَاةً أَوْ خَمْسِينَ بَقَرَةً, أَوْ أَصَابَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ بُرٍّ, أَوْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ وَهُوَ لاَ يَقُومُ مَا مَعَهُ بِعَوْلَتِهِ لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ أَوْ لِغَلاَءِ السِّعْرِ: فَهُوَ مِسْكِينٌ, يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ, وَتُؤْخَذُ مِنْهُ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ مِنْ مَالِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَقْوَالَ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِقُوتِ الْيَوْمِ, أَوْ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا, أَوْ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا, أَوْ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْغِنَى بِقُوتِ الْيَوْمِ بِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ النَّارِ", فَقِيلَ: وَمَا حَدُّ الْغِنَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ".
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: "إنْ يَكُنْ عِنْدَ أَهْلِكَ مَا يُغَدِّيهِمْ أَوْ مَا يُعَشِّيهِمْ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي كُلَيْبٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلاَّمٍ الْحَبَشِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً يَتَكَثَّرُ بِهَا، عَنْ غِنًى فَقَدْ اسْتَكْثَرَ مِنْ النَّارِ", فَقِيلَ: مَا الْغِنَى قَالَ: "غَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ".
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ, لإِنَّ أَبَا كَبْشَةَ السَّلُولِيَّ مَجْهُولٌ وَابْنَ لَهِيعَةَ سَاقِطٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ

(6/152)


عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا".
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ". قَالَ: "وَكَانَتْ الآُوقِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا".
وَمِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهَا: إنْ كَانَتْ لَكِ أُوقِيَّةٌ فَلاَ تَحِلُّ لَكِ الصَّدَقَةُ, قَالَ مَيْمُونُ: وَالآُوقِيَّةُ حِينَئِذٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قال أبو محمد: الأَوَّلُ عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ, وَلاَ يُدْرَى صِحَّةُ صُحْبَتِهِ, وَالثَّانِي، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ الْمُقَلَّدِينَ عُمَرَ رضي الله عنه فِي تَحْرِيمِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ عَلَى ذَلِكَ النَّاكِحِ فِي الأَبَدِ, وَقَدْ رَجَعَ عُمَرُ، عَنْ ذَلِكَ, وَفِي سَائِرِ مَا يَدَّعُونَ أَنَّ خِلاَفَهُ فِيهِ لاَ يَحِلُّ كَحَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ, وَتَأْجِيلِ الْعِنِّينِ سَنَةً: أَنْ يُقَلِّدُوهُ هَاهُنَا, وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيُّونَ, وَلَكِنْ لاَ يُبَالُونَ بِالتَّنَاقُضِ!
وَاحْتَجَّ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ", وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا يُغْنِيهِ. قَالَ: "خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ" قَالَ سُفْيَانُ: وَسَمِعْتُ زُبَيْدًا يُحَدِّثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ, وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ, وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, قَالَ مَنْ حَدَّثَهُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ

(6/153)


ابْنُ عَطِيَّةَ: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَقَالَ الْحَكِيمُ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, قَالُوا كُلُّهُمْ; لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا, قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَوْ عِدْلُهَا مِنْ الذَّهَبِ.
وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ.
قال أبو محمد: حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ سَاقِطٌ, وَلَمْ يُسْنِدْهُ زُبَيْدٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ وَالْمُعَظِّمِينَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ, وَالْمُحْتَجِّينَ بِشَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ فِي رَدِّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا: أَنْ لاَ يَخْرُجُوا، عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ; لاَِنَّهُ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ خِلاَفٌ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَسَعْدٍ, وَعَلِيٍّ، رضي الله عنهم،, مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمُرْسَلِ.
وَأَمَّا مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَهُوَ أَسْقَطُ الأَقْوَالِ كُلِّهَا لاَِنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ إلاَّ أَنْ قَالُوا: إنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ, فَهَذَا غَنِيٌّ: فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالزَّكَاةِ عَلَى مَنْ أَصَابَ سُنْبُلَةً فَمَا فَوْقَهَا, أَوْ مَنْ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ; أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا حَدَّ الْغِنَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, دُونَ السُّنْبُلَةِ; أَوْ دُونَ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ, أَوْ دُونَ أَرْبَعِينَ شَاةً, وَكُلُّ ذَلِكَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَهَذَا هَوَسٌ مُفْرِطٌ.
وَهَكَذَا رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ تَبْلُغُ فِيهِ الزَّكَاةُ

(6/154)


أَخَذَ مِنْ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ لَهُ الدُّورُ الْعَظِيمَةُ, وَالْجَوْهَرُ، وَلاَ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" دَلِيلٌ، وَلاَ نَصٌّ بِأَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تُؤْخَذُ إلاَّ مِنْ غَنِيٍّ، وَلاَ تُرَدُّ إلاَّ عَلَى فَقِيرٍ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَقَطْ, وَهَذَا حَقٌّ, وَتُؤْخَذُ أَيْضًا بِنُصُوصٍ أُخَرَ مِنْ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَيْسُوا أَغْنِيَاءَ, وَتُرَدُّ بِتِلْكَ النُّصُوصِ عَلَى أَغْنِيَاءَ كَثِيرٍ, كَالْعَامِلِينَ; وَالْغَارِمِينَ; وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ, وَابْنِ السَّبِيلِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ. فَهَذِهِ خَمْسُ طَبَقَاتٍ أَغْنِيَاءَ, لَهُمْ حَقٌّ فِي الصَّدَقَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمْ إذْ يَقُولُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} إلَى آخِرِ الآيَةِ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ فَقِيرًا, وَلاَ مِسْكِينًا.
وَتُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ إلاَّ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ, وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ, وَلَيْسَ لَهُ إلاَّ مِائَتَا دِرْهَمٍ, وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ, وَمِمَّنْ لَمْ يُصِبْ إلاَّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَعَلَّهَا لاَ تُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ فِي عَامٍ سُنَّةً.
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ, وَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي لاَ يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قَالَهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصٍ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إذَا أَعْطَيْتُمْ فَأَغْنُوا يَعْنِي مِنْ الصَّدَقَةِ, وَلاَ نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ خِلاَفًا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ مَنْ لَهُ الدَّارُ, وَالْخَادِمُ, إذَا كَانَ مُحْتَاجًا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يُعْطَى مِنْهَا مَنْ لَهُ الْفَرَسُ, وَالدَّارُ; وَالْخَادِمُ.
وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ: يُعْطَى مَنْ لَهُ الْعَطَاءُ مِنْ الدِّيوَانِ وَلَهُ فَرَسٌ.
قال أبو محمد: وَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ الْكَثِيرُ جِدًّا وَالْقَلِيلُ, لاَ حَدَّ فِي ذَلِكَ, إذْ لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ.

(6/155)


إظهار الصدقة من غير أن ينوي بذلك رياء حسن و إخفاء كل ذلك أفضل
...
724 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: إظْهَارُ الصَّدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ بِذَلِكَ رِيَاءً: حَسَنٌ, وَإِخْفَاءُ كُلِّ ذَلِكَ أَفْضَلُ,
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وقال مالك: إعْلاَنُ الْفَرْضِ أَفْضَلُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا فَرْقٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
فَإِنْ قَالُوا: نَقِيسُ ذَلِكَ عَلَى صَلاَةِ الْفَرْضِ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ حَقٌّ, فَأَذِّنُوا لِلزَّكَاةِ كَمَا يُؤَذَّنُ لِلصَّلاَةِ وَمِنْ الصَّلاَةِ غَيْرِ الْفَرْضِ مَا يُعْلَنُ بِهَا كَالْعِيدَيْنِ, وَالْكُسُوفِ, وَرَكْعَتَيْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ, فَقِيسُوا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى ذَلِكَ.

(6/156)


فرض على الأغنياء من أهل كل بلدان يقوموا بفقرائهم
...
725 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَفُرِضَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَقُومُوا بِفُقَرَائِهِمْ,
وَيُجْبِرُهُمْ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ, إنْ لَمْ تَقُمْ الزَّكَوَاتُ بِهِمْ, وَلاَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ, فَيُقَامُ لَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ مِنْ الْقُوتِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ, وَمِنْ اللِّبَاسِ لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ بِمِثْلِ ذَلِكَ, وَبِمَسْكَنٍ يَكُنُّهُمْ مِنْ الْمَطَرِ, وَالصَّيْفِ وَالشَّمْسِ, وَعُيُونِ الْمَارَّةِ.
وَبُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}. وَقَالَ تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
فَأَوْجَبَ تَعَالَى حَقَّ الْمَسَاكِينِ, وَابْنِ السَّبِيلِ, وَمَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ مَعَ حَقِّ ذِي الْقُرْبَى وَافْتَرَضَ الإِحْسَانَ إلَى الأَبَوَيْنِ, وَذِي الْقُرْبَى, وَالْمَسَاكِينِ, وَالْجَارِ, وَمَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ, وَالإِحْسَانُ يَقْتَضِي كُلَّ مَا ذَكَرْنَا, وَمَنْعُهُ إسَاءَةٌ بِلاَ شَكٍّ.

(6/156)


وَقَالَ تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}.
فَقَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى إطْعَامَ الْمِسْكِينِ بِوُجُوبِ الصَّلاَةِ.
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ لاَ يَرْحَمْ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ".
قال أبو محمد: وَمَنْ كَانَ عَلَى فَضْلَةٍ وَرَأَى الْمُسْلِمَ أَخَاهُ جَائِعًا عُرْيَانَ ضَائِعًا فَلَمْ يُغِثْهُ: فَمَا رَحِمَهُ بِلاَ شَكٍّ.
وَهَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ, وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ, وَأَبِي ظَبْيَانَ وَزَيْدِ بْنِ وَهْبٍ, وَكُلُّهُمْ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى أَيْضًا مَعْنَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ هُوَ التَّبُوذَكِيُّ، حدثنا الْمُعْتَمِرُ، هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، حدثنا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةَ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ, وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ" أَوْ كَمَا قَالَ.
فَهَذَا هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ".
قال أبو محمد: مَنْ تَرَكَهُ يَجُوعُ وَيَعْرَى وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إطْعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ فَقَدْ أَسْلَمَهُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حدثنا أَبُو الأَشْهَبِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ

(6/157)


بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ, وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ, قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ, حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لاَِحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، يُخْبِرُ بِذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ, وَبِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ نَقُولُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ".
وَالنُّصُوصُ مِنْ الْقُرْآنِ, وَالأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ فِي هَذَا تَكْثُرُ جِدًّا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لاََخَذْت فُضُولَ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ فَقَسَّمْتُهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.
هَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْجَلاَلَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِي فُقَرَاءَهُمْ, فَإِنْ جَاعُوا أَوْ عَرُوا وَجَهَدُوا فَمَنَعَ الأَغْنِيَاءُ, وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: فِي مَالِكَ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا كُلُّهُمْ لِمَنْ سَأَلَهُمْ: إنْ كُنْت تَسْأَلُ فِي دَمٍ مُوجِعٍ, أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ فَقَدْ وَجَبَ حَقُّكَ.
وَصَحَّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَثَلاَثِمِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَنَّ زَادَهُمْ فَنِيَ فَأَمَرَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ فَجَمَعُوا أَزْوَادَهُمْ فِي مِزْوَدَيْنِ, وَجَعَلَ يَقُوتُهُمْ إيَّاهَا عَلَى السَّوَاءِ.
فَهَذَا إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ.
وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وطَاوُوس, وَغَيْرِهِمْ, كُلُّهُمْ يَقُولُ: فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ.
قال أبو محمد: وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلاَفَ هَذَا, إلاَّ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ, فَإِنَّهُ قَالَ: نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ حَقٍّ فِي الْمَالِ.

(6/158)


قال أبو محمد: وَمَا رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ حُجَّةٌ فَكَيْفَ رَأْيُهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَذَا أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فَيَرَى فِي الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ, مِنْهَا النَّفَقَاتُ عَلَى الأَبَوَيْنِ الْمُحْتَاجَيْنِ, وَعَلَى الزَّوْجَةِ, وَعَلَى الرَّقِيقِ, وَعَلَى الْحَيَوَانِ, وَالدُّيُونِ, وَالآُرُوشِ, فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ!!
فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَتَصَدَّقَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نَسَخَتْهَا: الْعُشْرُ. وَنِصْفُ الْعُشْرِ.
فَإِنَّ رِوَايَةَ مِقْسَمٍ سَاقِطَةٌ لِضَعْفِهِ; وَلَيْسَ فِيهَا وَلَوْ صَحَّتْ خِلاَفٌ لِقَوْلِنَا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ فَإِنَّمَا هِيَ أَنْ لاَ يَتَصَدَّقَ تَطَوُّعًا.
وَهَذَا صَحِيحٌ
وَأَمَّا الْقِيَامُ بِالْمَجْهُودِ فَفَرْضٌ وَدَيْنٌ, وَلَيْسَ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ.
وَيَقُولُونَ: مَنْ عَطِشَ فَخَافَ الْمَوْتَ فَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ حَيْثُ وَجَدَهُ وَأَنْ يُقَاتِلَ عَلَيْهِ.
قال أبو محمد: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا أَبَاحُوا لَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى مَا يَدْفَعُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ الْمَوْتَ مِنْ الْعَطَشِ, وَبَيْنَ مَا مَنَعُوهُ مِنْ الْقِتَالِ، عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْهَا الْمَوْتَ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ. وَهَذَا خِلاَفٌ لِلإِجْمَاعِ, وَلِلْقُرْآنِ, وَلِلسُّنَنِ, وَلِلْقِيَاسِ.
قال أبو محمد: وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اُضْطُرَّ أَنْ يَأْكُلَ مَيْتَةً, أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ وَهُوَ يَجِدُ طَعَامًا فِيهِ فَضْلٌ، عَنْ صَاحِبِهِ, لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ; لإِنَّ فَرْضًا عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ إطْعَامُ الْجَائِعِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُضْطَرٍّ إلَى الْمَيْتَةِ، وَلاَ إلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ، عَنْ ذَلِكَ, فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقَوَدُ, وَإِنْ قَتَلَ الْمَانِعَ فَإِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ; لاَِنَّهُ مَنَعَ حَقًّا, وَهُوَ طَائِفَةٌ بَاغِيَةٌ, قَالَ تعالى: {فإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الآُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَمَانِعُ الْحَقِّ بَاغٍ عَلَى أَخِيهِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ; وَبِهَذَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه مَانِعَ الزَّكَاةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّ كِتَابُ الزَّكَاةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ عَوْنِهِ.

(6/159)


كتاب الصيام
أحكام النية في الصوم
الصيام قسمان فرض و تطوع
...
بَسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ الصِّيَامِ
726 - مَسْأَلَةٌ: الصِّيَامُ قِسْمَانِ فَرْضٌ, وَتَطَوُّعٌ,
وَهَذَا إجْمَاعُ حَقٍّ مُتَيَقَّنٍ, وَلاَ سَبِيلَ فِي بِنْيَةِ الْعَقْلِ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ.

(6/160)


من الفروض صيام شهر رمضان
...
727 - مَسْأَلَةٌ: فَمِنْ الْفَرْضِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ,
الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ, وَشَوَّالٍ, فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ صَحِيحٍ مُقِيمٍ, حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا, ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى, إلاَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ, فَلاَ يَصُومَانِ أَيَّامَ حَيْضِهِمَا أَلْبَتَّةَ, وَلاَ أَيَّامَ نَفَسِهِمَا, وَيَقْضِيَانِ صِيَامَ تِلْكَ الأَيَّامِ وَهَذَا كُلُّهُ فَرْضٌ مُتَيَقَّنٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ.

(6/160)


لا يجزئ الصيام إلا بالنية
...
728 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ صِيَامٌ أَصْلاً رَمَضَانَ كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إلاَّ بِنِيَّةٍ
مُجَدَّدَةٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِصَوْمِ الْيَوْمِ الْمُقْبِلِ, فَمَنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ النِّيَّةِ بَطَلَ صَوْمُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَصَحَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ فِي الدِّينِ إلاَّ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالإِخْلاَصِ لَهُ فِيهَا بِأَنَّهَا دِينُهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ عَمَلَ إلاَّ بِنِيَّةٍ لَهُ, وَأَنَّهُ لَيْسَ لاَِحَدٍ إلاَّ مَا نَوَى. فَصَحَّ أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فَلَهُ صَوْمٌ, وَمَنْ لَمْ يَنْوِهِ فَلَيْسَ لَهُ صَوْمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ: أَنَّ الصَّوْمَ إمْسَاكٌ، عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ; وَتَعَمُّدِ الْقَيْءِ, وَعَنِ الْجِمَاعِ, وَعَنِ الْمَعَاصِي, فَكُلُّ مَنْ أَمْسَكَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَوْ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ بِلاَ نِيَّةٍ لِلصَّوْمِ لَكَانَ فِي كُلِّ وَقْتٍ صَائِمًا, وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُ أَحَدٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ الإِجْمَاعِ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ وَنَوَاهُ مِنْ اللَّيْلِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ, وَلاَ نَصَّ، وَلاَ إجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُ مَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنْ اللَّيْلِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.

(6/160)


من نسي أن ينوي من الليل في رمضان فينوي حين ذكر
...
729 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَسِيَ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ
فَأَيُّ وَقْتٍ ذَكَرَ مِنْ النَّهَارِ التَّالِي لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ سَوَاءٌ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَطِئَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْوِي الصَّوْمَ مِنْ وَقْتِهِ إذَا ذَكَرَ, وَيُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ, وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ ذَلِكَ تَامًّا, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ النَّهَارِ, إلاَّ مِقْدَارُ النِّيَّةِ فَقَطْ, فَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَذَلِكَ فَلاَ صَوْمَ لَهُ, وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَعَمِّدٌ لاِِبْطَالِ صَوْمِهِ, وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ هِلاَلَ رَمَضَانَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ فَسَوَاءٌ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَطِئَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ جَاءَ الْخَبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَوْ فِي آخِرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ سَاعَةً صَحَّ الْخَبَرُ عِنْدَهُ, وَيُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ, وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَوْمُهُ بَاطِلٌ, كَمَا قلنا فِي الَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا: مَنْ عَلَيْهِ صَوْمُ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَنَسِيَ النِّيَّةَ وَذَكَرَ بِالنَّهَارِ فَكَمَا قلنا، وَلاَ فَرْقَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ بِالنَّهَارِ، وَلاَ فَرْقَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي رَمَضَانَ, أَوْ فِي الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ, أَوْ فِي نَذْرٍ

(6/164)


مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَنْتَبِهْ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَلَوْ فِي آخِرِهِ كَمَا قلنا فَكَمَا قلنا أَيْضًا آنِفًا سَوَاءٌ سَوَاءٌ, وَلاَ فَرْقَ فِي شَيْءٍ أَصْلاً.
فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَلاَ اسْتَيْقَظَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ: فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا نَاسٍ, أَوْ مُخْطِئٌ غَيْرُ عَامِدٍ, فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حدثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حدثنا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: "أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ, وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ, فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ فَلْيَصُمْ, وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إلَى الليل".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا الْمَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ: إنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ, فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ مُسْنَدًا.
قال أبو محمد: وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ هُوَ كَانَ الْفَرْضُ حِينَئِذٍ صِيَامَهُ.
كَمَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا أَبُو مَعْمَرٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حدثنا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ

(6/165)


ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَفِيهِ- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ, فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ, وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ, وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ كُلُّهُمْ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ, حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ". قَالَ عِرَاكٌ: فَقَالَ عليه السلام: "مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ".
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا حُكْمَ صَوْمِ الْفَرْضِ, وَمَا نُبَالِي بِنَسْخِ فَرْضِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ, فَقَدْ أُحِيلَ صِيَامُ رَمَضَانَ أَحْوَالاً, فَقَدْ كَانَ مَرَّةً: مَنْ شَاءَ صَامَهُ, وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ وَأَطْعَمَ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, إلاَّ أَنَّ حُكْمَ مَا كَانَ فَرْضًا حُكْمٌ وَاحِدٌ; وَإِنَّمَا نَزَلَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ; وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ نَاسٍ, أَوْ جَاهِلٍ, أَوْ نَائِمٍ فَلَمْ يَعْلَمُوا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ, فَحُكْمُهُمْ كُلِّهِمْ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ اسْتِدْرَاكِ النِّيَّةِ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ مَتَى مَا عَلِمُوا بِوُجُوبِ صَوْمِهِ عَلَيْهِمْ, وَسُمِّيَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ صَائِمًا, وَجَعَلَ فِعْلَهُ صَوْمًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ: أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا عَلَى الْهِلاَلِ بَعْدَمَا أَصْبَحُوا, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ، عَنِ الطَّعَامِ, وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: إذَا أَصْبَحَ رَجُلٌ مُفْطِرًا وَلَمْ يَذُقْ شَيْئًا ثُمَّ عَلِمَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَوَّلَ النَّهَارِ أَوْ آخِرَهُ فَلْيَصُمْ مَا بَقِيَ، وَلاَ يُبَدِّلْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: مَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ, وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ.

(6/166)


وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ عَلَى أَقْوَالٍ.
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْوِي صَوْمَ يَوْمِهِ وَيُجْزِئُهُ, وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ نَأْخُذُ, وَبِهِ جَاءَ النَّصُّ الَّذِي قَدَّمْنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لاَ يَصُومُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ, وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ قَضَاءً, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَبِهِ يَقُولُ دَاوُد وَأَصْحَابُنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَأْكُلُ بَقِيَّتَهُ وَيَقْضِيهِ, وَهُوَ قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ عَطَاءٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُمْسِكُ فِيهِ عَمَّا يُمْسِكُ الصَّائِمُ, وَلاَ يُجْزِئُهُ, وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَكَلَ خَاصَّةً, دُونَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ; وَفِيمَنْ عَلِمَ الْخَبَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَطْ, أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ.
وَهَذَا أَسْقَطُ الأَقْوَالِ; لاَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ, وَلاَ قِيَاسَ, وَلاَ نَعْلَمُهُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ يَخْلُو هَذَا الإِمْسَاكُ الَّذِي أَمَرُوهُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا يُجْزِئُهُ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا, أَوْ لاَ يَكُونُ صَوْمًا، وَلاَ يُجْزِئُهُ, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يَأْمُرُوهُ بِعَمَلٍ يَتْعَبُ فِيهِ وَيَتَكَلَّفُهُ، وَلاَ يُجْزِئُهُ!
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا أَوْ صَائِمًا; فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلِمَ يَقْضِيهِ إذَنْ فَيَصُومُ يَوْمَيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلِمَ أَمَرُوهُ بِعَمَلِ الصَّوْمِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا, وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَصْحِيحِ تَخْلِيطِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ بِخَبَرِ الرُّبَيِّعِ, وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ خَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ, فَقَالُوا: مَنْ أَكَلَ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ بَاقِي يَوْمِهِ, وَفِي تَخْصِيصِهِمْ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْخَبَرِ, ثُمَّ احْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِنْ عَادَتِهِمْ هَذَا الْخُلُقُ الذَّمِيمُ, وَهَذَا قَبِيحٌ جِدًّا, وَتَمْوِيهٌ لاَ يَسْتَجِيزُهُ مُحَقِّقٌ نَاصِحٌ لِنَفْسِهِ!

(6/167)


وقال بعضهم: قَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟" قَالُوا: لاَ, قَالَ: "فَأَتِمُّوا يَوْمَكُمْ هَذَا وَاقْضُوا".
قال أبو محمد: لَفْظَةُ "وَاقْضُوا" مَوْضُوعَةٌ بِلاَ شَكٍّ, وَعَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ مَوْلَى بَنِي أَبِي الشَّوَارِبِ يُكَنَّى أَبَا الْحُسَيْنِ, مَاتَ سَنَةَ 51 هـ إحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلاَثِمِائَةٍ, وَقَدْ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ, وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ, وَتَرَكَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ جُمْلَةً وَأَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ مَجْهُولٌ.

(6/168)


وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ, وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ, وَلَيْسَتْ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ.
كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْمِنْهَالِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لاَِسْلَمَ: "صُومُوا الْيَوْمَ" قَالُوا: إنَّا قَدْ أَكَلْنَا, قَالَ: "صُومُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ يَعْنِي عَاشُورَاءَ".
حدثنا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْقُرَشِيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ هُوَ الْبُرْسَانِيُّ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ عَاشُورَاءَ; فَقَالَ لَنَا: "أَصْبَحْتُمْ صِيَامًا؟" قلنا: قَدْ تَغَدَّيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَصُومُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ".
قال أبو محمد: وَمِنْ الْغَرَائِبِ تَمْوِيهُ الْحَنَفِيِّينَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ قَانِعٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَاقْضُوا ثُمَّ خَالَفُوهَا فَلَمْ يَرَوْا الْقَضَاءَ إلاَّ عَلَى مَنْ أَكَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ, وَعَلَى مَنْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ. وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ الْكِذْبَةِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى, فَحَيْثُمَا تَوَجَّهُوا عَثَرُوا, وَبِكُلِّ مَا احْتَجُّوا فَقَدْ خَالَفُوهُ, وَهَكَذَا فَلْيَكُنْ الْخِذْلاَنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَيْهِ إلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ كَمَا أُمِرَ; وَلاَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ صَوْمًا, وَلَمْ يَتَعَمَّدْ تَرْكَ النِّيَّةِ, فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَتَعَمَّدْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ يَجِبُ فِي الدِّينِ حُكْمٌ إلاَّ بِأَحَدِهِمَا; وَإِنَّمَا أُمِرَ بِصِيَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ, لاَ بِصَوْمِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ, فَلاَ يُجْزِئُ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ مَكَانَ مَا أُمِرَ بِهِ.

(6/169)


730 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ إلاَّ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ,
وَلاَ صَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ, أَوْ الْكَفَّارَاتِ إلاَّ كَذَلِكَ, لإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِأَنْ لاَ صَوْمَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا قَدَّمْنَا, وَلَمْ يَخُصَّ النَّصُّ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ مَا كَانَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ, وَبَقِيَ سَائِرُ ذَلِكَ عَلَى النَّصِّ الْعَامِّ.
وَقَوْلُنَا بِهَذَا فِي التَّطَوُّعِ, وَقَضَاءِ رَمَضَانَ, وَالْكَفَّارَاتِ: هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا.
فإن قال قائل: فَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ خِلاَفَ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ" وَقَالَ مَرَّةً: مِنْ غَدَاءٍ قلنا: لاَ قَالَ: فَإِنِّي إذَنْ صَائِمٌ. وَقَالَ لَهَا مَرَّةً أُخْرَى: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ" قلنا: نَعَمْ, أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ, قَالَ: "أَمَا إنِّي أَصْبَحْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ فَأَكَلَ".
وَقَالَ بِهَذَا جُمْهُورُ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ, قَالَ ثَابِتٌ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: إنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ مِنْ الضُّحَى, فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ فَإِنْ قَالُوا: لاَ, قَالَ: فَأَنَا صَائِمٌ, وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ بِمِثْلِ فِعْلِ أَبِي طَلْحَةَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ شَبِيبٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: إنِّي لاَُصْبِحُ يَوْمَ طُهْرِي حَائِضًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ, فَأَسْتَبِينُ طُهْرِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ فَأَغْتَسِلُ ثُمَّ أَصُومُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ, قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ; وَقَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ, وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ, وَأَبُو إدْرِيسَ, وَأَبُو قِلاَبَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ, أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْغَدَاءَ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ; قَالَ: إنَّا صَائِمُونَ. وَقَالَ

(6/170)


عَطَاءٌ فِي حَدِيثِهِ: إنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ حِينَ يَنْتَصِفُ النَّهَارُ, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ غِذَاءٍ فَيَجِدُهُ, أَوْ لاَ يَجِدُهُ, فَيَقُولُ: لاَُتِمَّنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ عَطَاءٌ: وَأَنَا أَفْعَلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يَسْأَلُ الْغَدَاءَ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ صَامَ يَوْمَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُصْبِحُ مُفْطِرًا, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ فَيَجِدُهُ, أَوْ لاَ يَجِدُهُ; فَيُتِمُّ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَصْبَحْتَ وَأَنْتَ تُرِيدُ الصَّوْمَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ: إنْ شِئْتَ صُمْتَ وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ; إلاَّ أَنْ تَفْرِضَ عَلَى نَفْسِكَ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, فَقَالَ: أَصْبَحْتُ، وَلاَ أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ, فَإِنْ انْتَصَفَ النَّهَارُ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُفْطِرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَمِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ1، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالاَ جَمِيعًا: الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ; قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا لَمْ يُطْعِمْ, فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطْعِمَ طَعِمَ, وَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ صَوْمًا كَانَ صَوْمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالصِّيَامِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ, حَتَّى يَمْتَدَّ النَّهَارُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ قَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ أَحَدَكُمْ بِأَحَدِ2 النَّظَرَيْنِ مَا لَمْ يَأْكُلْ أَوْ يَشْرَبْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ هُوَ السُّلَمِيُّ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ بَدَا لَهُ فِي الصَّوْمِ بَعْدَ أَنْ زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَامَ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَيْضًا، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَدَا لَهُ فِي الصِّيَامِ3 بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ فَلْيَصُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: كُنْتُ فِي سَفَرٍ وَكَانَ يَوْمَ فِطْرٍ; فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ قُلْتُ: لاََصُومَنَّ هَذَا الْيَوْمَ; فَصُمْتُ, فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, فَقَالَ: أَصَبْتَ, قَالَ عَطَاءٌ: وَكُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عِنْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ:
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "سعد بن عباد" وهو خطأ.
2 في النسخة رقم "16" "بآخر" وهو خطأ.
3 في النسخة رقم "16" "من بداله الصيام".

(6/171)


إنِّي لَمْ آكُلْ الْيَوْمَ شَيْئًا أَفَأَصُومُ. قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: فَإِنَّ عَلَيَّ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ, أَفَأَجْعَلُهُ مَكَانَهُ قَالَ نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ الضُّحَى فَلَهُ النَّهَارُ أَجْمَعُ; فَإِنْ عَزَمَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ فَلَهُ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ; وَإِنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَعْزِمْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً، عَنْ رَجُلٍ كَانَ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ, فَأَصْبَحَ وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَصُومَ, ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ. فَقَالَ عَطَاءٌ: لَهُ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ, فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا لَهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: مَنْ أَرَادَ الصَّوْمَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا تَسَحَّرَ الرَّجُلُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ, فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ, وَإِنْ هَمَّ بِالصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ, إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ; فَإِنْ سَأَلَهُ إنْسَانٌ فَقَالَ: أَصَائِمٌ أَنْتَ فَقَالَ: نَعَمْ, فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ إلاَّ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ, فَإِنْ قَالَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ; إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ: عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَأَنَسٌ, وَأَبُو طَلْحَةَ, وَأَبُو أَيُّوبَ, وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ, وَأَبُو الدَّرْدَاءِ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: ابْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ, وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ, وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَالْحَسَنُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ أَصْبَحَ وَهُوَ يَنْوِي الْفِطْرَ إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ شَرِبَ، وَلاَ وَطِئَ: فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ مَا لَمْ تَغِبْ الشَّمْسُ, وَيَصِحُّ صَوْمُهُ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَنَقُولُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نُخَالِفَ شَيْئًا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَنْ نَصْرِفَهُ، عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ آخَرَ, وَهَذَا الْخَبَرُ صَحِيحٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ نَوَى الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ, وَلاَ أَنَّهُ عليه السلام أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَ ذَلِكَ, وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ لَقُلْنَا بِهِ, لَكِنْ فِيهِ

(6/172)


أَنَّهُ عليه السلام, كَانَ يُصْبِحُ مُتَطَوِّعًا صَائِمًا ثُمَّ يُفْطِرُ, وَهَذَا مُبَاحٌ عِنْدَنَا لاَ نَكْرَهُهُ, كَمَا فِي الْخَبَرِ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَا, وَكَانَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام: "لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ", لَمْ يَجُزْ أَنْ نَتْرُكَ هَذَا الْيَقِينَ لِظَنٍّ كَاذِبٍ. وَلَوْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ نَوَى الصَّوْمَ نَهَارًا لَبَيَّنَهُ, كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي صِيَامِ عَاشُورَاءَ إذْ كَانَ فَرْضًا, وَالتَّسَمُّحُ فِي الدِّينِ لاَ يَحِلُّ.
فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجِيءُ فَيَدْعُو بِالطَّعَامِ فَلاَ يَجِدُهُ فَيَفْرِضُ الصَّوْمَ".
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ قَانِعٍ رَاوِي كُلِّ بَلِيَّةٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ الْبَلْخِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ وَلَمْ يَجْمَعْ الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ".
قلنا: لَيْثٌ ضَعِيفٌ, وَيَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ: هَالِكٌ, وَمِنْ دُونِهِ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ, وَاَللَّهِ لَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الْجُمْهُورِ, وَخَالَفُوا هَاهُنَا الْجُمْهُورَ بِلاَ رِقْبَةٍ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ أَجَازَ أَنْ يُصْبِحَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا لاِِرَادَةِ الْفِطْرِ, ثُمَّ يَبْقَى كَذَلِكَ إلَى قَبْلِ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَنْوِي الصِّيَامَ حِينَئِذٍ وَيُجْزِئُهُ, وَادَّعَوْا الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ النِّيَّةُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فِي ذَلِكَ قَدْ كَذَبُوا, وَلاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَذِبِ!!
وَقَدْ صَحَّ هَذَا، عَنْ حُذَيْفَةَ نَصًّا, وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِطْلاَقٍ, وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَصًّا, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَصًّا, وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ كَذَلِكَ, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/173)


من مزج نية صوم فرض بفرض آخر أو تطوع أو فعل ذلك في غيره من العبادات
...
731 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَزَجَ نِيَّةَ صَوْمٍ فُرِضَ بِفَرْضٍ آخَرَ أَوْ بِتَطَوُّعٍ,
أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلاَةٍ أَوْ زَكَاةٍ, أَوْ حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ عِتْقٍ: لَمْ يُجْزِهِ لِشَيْءٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ وَبَطَلَ ذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ, صَوْمًا كَانَ أَوْ صَلاَةً, أَوْ زَكَاةً, أَوْ حَجًّا, أَوْ عُمْرَةً أَوْ عِتْقًا, إلاَّ مَزْجُ الْعُمْرَةِ بِالْحَجِّ لِمَنْ أَحْرَمَ وَمَعَهُ الْهَدْيُ فَقَطْ, فَهُوَ حُكْمُهُ اللاَّزِمُ لَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَالإِخْلاَصُ هُوَ أَنْ يَخْلُصَ الْعَمَلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ فَقَطْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" فَمَنْ مَزَجَ عَمَلاً بِآخَرَ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ أَمْرُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ صَلَّى, وَهُوَ مُسَافِرٌ رَكْعَتَيْنِ نَوَى بِهِمَا الظُّهْرَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا أَوْ صَامَ يَوْمًا مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ يَنْوِي بِهِ قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا وَأَعْطَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ مَالِهِ وَنَوَى بِهِ الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا, أَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ وَنَوَى بِهَا الْفَرِيضَةَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا: فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَصَوْمِ الْفَرْضِ, وَزَكَاةِ الْفَرْضِ, وَحَجَّةِ الْفَرْضِ, وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَمَّا الصَّلاَةُ فَتَبْطُلُ، وَلاَ تُجْزِئُهُ, لاَ، عَنْ فَرْضٍ، وَلاَ عَنْ تَطَوُّعٍ وَأَمَّا الزَّكَاةُ, وَالصَّوْمُ فَيَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ تَطَوُّعًا فِيهِمَا جَمِيعًا, وَيَبْطُلُ الْفَرْضُ وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُجْزِئُهُ، عَنِ الْفَرْضِ وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ.
فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْقَطَ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ وَمَا نَدْرِي مِمَّنْ الْعَجَبُ أَمِمَّنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ بِمِثْلِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ بِالإِهْذَارِ وَيَخُصُّ مَا يَشَاءُ, وَيُبْطِلُ بِالتَّخَالِيطِ, أَوْ مِمَّنْ قَلَّدَ قَائِلَهَا, وَأَفْنَى عُمُرَهُ فِي دَرْسِهَا وَنَصْرِهَا مُتَدَيِّنًا بِهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ; وَنَسْأَلُهُ إدَامَةَ السَّلاَمَةِ وَالْعِصْمَةِ, وَنَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ بِذَلِكَ عَلَيْنَا كَثِيرًا.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ: إنْ شَاءَ صَامَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ, وَأَجْزَأَ عَنْهُ يَعْنِي مَنْ فَرَضَهُ وَنَذَرَهُ; قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَصَامَ تَطَوُّعًا فَهُوَ قَضَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ.

(6/174)


مبطلات الصوم
من نوى و هو صائم إبطال صومه بطل
...
732 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَوَى وَهُوَ صَائِمٌ إبْطَالَ صَوْمِهِ بَطَلَ,
إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَذَاكِرًا لاَِنَّهُ فِي صَوْمٍ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ شَرِبَ، وَلاَ وَطِئَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ مَنْ نَوَى إبْطَالَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الصَّوْمِ فَلَهُ مَا نَوَى بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام الَّذِي لاَ تَحِلُّ مُعَارَضَتُهُ, وَهُوَ قَدْ نَوَى بُطْلاَنَ الصَّوْمِ, فَلَهُ بُطْلاَنُهُ, فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لاَِنَّهُ فِي صَوْمٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا, لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ نَوَى إبْطَالَ صَلاَةٍ هُوَ فِيهَا, أَوْ حَجٍّ هُوَ فِيهِ, وَسَائِرُ الأَعْمَالِ كُلِّهَا كَذَلِكَ, فَلَوْ نَوَى ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ صَوْمِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ آثِمًا, وَلَمْ يُبْطِلْ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْهَا; لاَِنَّهَا كُلَّهَا قَدْ صَحَّتْ وَتَمَّتْ كَمَا أُمِرَ, وَمَا صَحَّ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي بُطْلاَنِهِ, وَالْمَسْأَلَةُ الآُولَى لَمْ يُتِمَّ عَمَلَهُ فِيهَا كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/175)


يبطل الصوم تعمد الأكل أو الشرب أو الوطء في الفرج أو القيء
...
733 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ: تَعَمُّدُ الأَكْلِ, أَوْ تَعَمُّدُ الشُّرْبِ, أَوْ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ; أَوْ تَعَمُّدُ الْقَيْءِ;
وَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ, وَسَوَاءٌ قَلَّ مَا أَكَلَ أَوْ كَثُرَ, أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ خَارِجِ فَمِهِ فَأَكَلَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا, إلاَّ فِيمَا نَذْكُرُهُ, مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ}.
وَمَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا حَبِيبُ بْنُ خَلَفٍ الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو ثَوْرٍ إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُعَلَّى، حدثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حدثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ, وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ".

(6/175)


وَرُوِّينَا هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَلِيٍّ وَعَلْقَمَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: عِيسَى بْنُ يُونُسَ: ثِقَةٌ.
وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ مَنْ تَعَمَّدَ أَنْ يَتَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ لَمْ يَبْطُلْ بِذَلِكَ صَوْمُهُ, فَإِنْ كَانَ مِلْءَ فِيهِ فَأَكْثَرَ, بَطَلَ صَوْمُهُ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ سَخَافَةِ التَّحْدِيدِ!
وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ: مَنْ خَرَجَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ بَقِيَّةِ سَحُورِهِ كَالْجَذِيذَةِ وَشَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَبَلَعَهُ عَامِدًا لِبَلْعِهِ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ, وَمَا نَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ لاَِحَدٍ قَبْلَهُمَا!
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ أُكِلَ بَعْدُ, وَإِنَّمَا حَرُمَ مَا لَمْ يُؤْكَلْ!!
فَكَانَ الاِحْتِجَاجُ أَسْقَطَ وَأَوْحَشَ مِنْ الْقَوْلِ الْمُحْتَجِّ لَهُ وَمَا عَلِمْنَا شَيْئًا أُكِلَ فَيُمْكِنُ وُجُودُهُ بَعْدَ الأَكْلِ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَيْئًا أَوْ عَذِرَةً وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ.
وَحَدَّ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ الْمِقْدَارَ الَّذِي لاَ يَضُرُّ تَعَمُّدُ أَكْلِهِ فِي الصَّوْمِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دُونَ مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ.
فَكَانَ هَذَا التَّحْدِيدُ طَرِيفًا جِدًّا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ, فَأَيُّ الْحِمَّصِ هُوَ الإِمْلِيسِيُّ الْفَاخِرُ, أَمْ الصَّغِيرُ!
فَإِنْ قَالُوا قِسْنَاهُ عَلَى الرِّيقِ.
قلنا لَهُمْ: فَمِنْ أَيْنَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ بِخِلاَفِ الرِّيقِ؟!
وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ لَهُ مِطْحَنَةٌ كَبِيرَةٌ مَثْقُوبَةٌ فَدَخَلَتْ فِيهَا مِنْ سَحُورِهِ زَبِيبَةٌ, أَوْ بَاقِلاَءُ فَأَخْرَجَهَا يَوْمًا آخَرَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ صَائِمٌ: أَلَهُ تَعَمُّدُ بَلْعِهَا أَمْ لاَ فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ تَنَاقَضُوا, وَإِنْ أَبَاحُوا سَأَلْنَاهُمْ، عَنْ جَمِيعِ طَوَاحِينِهِ وَهِيَ ثِنْتَا عَشْرَةَ مِطْحَنَةً مَثْقُوبَةٌ كُلُّهَا فَامْتَلاََتْ سِمْسِمًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ قُنَّبًا أَوْ حِمَّصًا أَوْ بَاقِلاً أَوْ خُبْزًا أَوْ زَرِيعَةَ كَتَّانٍ فَإِنْ أَبَاحُوا تَعَمُّدَ أَكْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ حَصَّلُوا أُعْجُوبَةً وَإِنْ مَنَعُوا مِنْهُ تَنَاقَضُوا وَتَحَكَّمُوا فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ.

(6/176)


وَإِنَّمَا الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَإِنَّ كُلَّ مَا سُمِّيَ أَكْلاً أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فَتَعَمُّدُهُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ, وَأَمَّا الرِّيقُ فَقَلَّ أَوْ كَثُرَ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنْ تَعَمَّدَ ابْتِلاَعَهُ لاَ يَنْقُضُ الصَّوْمَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ قَلَّدَ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا فِي هَذَا, وَلَمْ يُقَلِّدْ مِنْ سَاعَةٍ مَنْ سَاعَاتِهِ خَيْرٌ مِنْ دَهْرِهِمَا كُلِّهِ وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ, الَّذِي رُوِّينَا بِأَصَحِّ طَرِيقٍ، عَنْ شُعْبَةَ, وَعِمْرَانَ الْقَطَّانِ كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْكُلُ الْبَرْدَ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ عِمْرَانُ فِي حَدِيثِهِ: وَيَقُولُ: لَيْسَ طَعَامًا، وَلاَ شَرَابًا وَقَدْ سَمِعَهُ شُعْبَةُ مِنْ قَتَادَةَ, وَسَمِعَهُ قَتَادَةُ مِنْ أَنَسٍ; وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يُحَصِّلُونَ!!

=======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المعجب في اخبار المغرب

    كتاب المعجب في اخبار المغرب  1 . المعجب في تلخيص أخبار المغرب تأليف : عبد الواحد بن علي المراكشي دراسة وتحقيق : الدكتور صلاح الدين ا...