[ نيل الأوطار - الشوكاني ]1 مجلد 1.
الكتاب : نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار محمد بن علي بن محمد الشوكاني
الناشر : إدارة الطباعة المنيرية
عدد الأجزاء : 9
مع الكتاب : تعليقات يسيرة لمحمد منير الدمشقي
(الصفحات من بعد المجلد الرابع مرقمة آليا)
[ مقدمة المؤلف ]
بسم
الله الرحمن الرحيم
[ ص 2 ] - أحمدك يا من شرح صدورنا بنيل الأوطار من علوم السنة . وأفاض على قلوبنا
من أنوار معارفها ما أزاح عنا من ظلم الجهالات كل دجنة ( 1 ) . وحماها بحماة صفدوا
بسلاسل أسانيدهم الصادقة أعناق الكاذبين . وكفاها بكفاة كفوا عنها أكف غير
المتأهلين من المنتابين المرتابين . فغدا معينها الصافي غير مقذر بالأكدار . وزلال
عذبها الشافي غير مكدر بالأقذار
والصلاة والسلام على المنتقى من عالم الكون والفساد . المصطفى لحمل أعباء أسرار
الرسالة الإلهية من بين العباد . المخصوص بالشفاعة العظمى في يوم يقول فيه كل رسول
نفسي نفسي ويقول أنا لها أنا لها . القائل بعثت إلى الأحمر والأسود أكرم بها مقالة
ما قالها نبي قبله ولا نالها . وعلى آله المطهرين من جميع الأدناس والأرجاس .
الحافظين لمعالم الدين عن الاندراس والانطماس . وعلى أصحابه الجالين بأشعة بريق
صوارمهم دياجر ( 2 ) الكفران . الخائضين بخيلهم ورجلهم لنصرة دين الله بين يدي
رسول الله كل معركة تتقاعس عنها الشجعان
( وبعد ) ( 3 ) فإنه لما كان الكتاب الموسوم بالمنتقى من الأخبار في الأحكام . مما
لم ينسج على بديع منواله . ولا حرر على شكله ومثاله أحد من الأئمة الأعلام . قد
جمع من السنة المطهرة ما لم يجتمع في غيره من الأسفار . وبلغ إلى غاية في الإحاطة
بأحاديث الأحكام تتقاصر عنها الدفاتر الكبار . وشمل من دلائل المسائل جملة نافعة
تفنى دون الظفر ببعضها طوال الأعمار . وصار مرجعا لجلة العلماء عند الحاجة إلى طلب
الدليل لا سيما في هذه الديار وهذه الأعصار . فإنها تزاحمت علي مورده العذب أنظار
المجتهدين . وتسابقت على الدخول في أبوابه أقدام الباحثين من المحققين . وغدا ملجأ
[ ص 3 ] للنظار يأوون إليه . ومفزعا للهاربين من رق التقليد يعولون عليه . وكان
كثيرا ما يتردد الناظرون في صحة بعض دلائله . ويتشكك الباحثون في الراجح والمرجوح
عند تعارض بعض مستندات مسائله . حمل حسن الظن بي جماعة من حملة العلم بعضهم من
مشايخي على أن التمسوا مني القيام بشرح هذا الكتاب . وحسنوا لي السلوك في هذه
المسالك الضيقة التي يتلون الخريت ( 4 ) في موعرات شعابها والهضاب . فأخذت في
إلقاء المعاذير . وأبنت تعسر هذا المقصد على جميع التقادير . وقلت : القيام بهذا
الشأن يحتاج إلى جملة من الكتب يعز وجودها في هذه الديار . والموجود منها محجوب
بأيدي جماعة عن الأبصار بالاحتكار والادخار كما تحجب الأبكار . ومع هذا فأوقاتي
مستغرقة بوظائف الدرس والتدريس . والنفس مؤثرة لمطارحة مهرة المتدربين في المعارف
على كل نفيس . وملكتي قاصرة عن القدر المعتبر في هذا العلم الذي قد درس رسمه .
وذهب أهله منذ أزمان قد تصرمت فلم يبق بأيدي المتأخرين إلا اسمه . لا سيما وثوب
الشباب قشيب . وردن الحداثة بمائها خصيب . ولا ريب أن لعلو السن وطول الممارسة في
هذا الشأن أوفر نصيب
فلما لم ينفعني الإكثار من هذه الأعذار . ولا خلصني من ذلك المطلب ما قدمته من
الموانع الكبار . صممت على الشروع في هذا المقصد المحمود . وطمعت أن يكون قد أتيح
لي أني من خدم السنة المطهرة معدود . وربما أدرك الطالع شأو الضليع وعد في جملة
العقلاء المتعاقل الرقيع . وقد سلكت في هذا الشرح لطول المشروح مسلك الاختصار .
وجردته عن كثير من التفريعات والمباحثات التي تقضي إلى الإكثار . لا سيما في
المقامات التي يقل فيها الاختلاف . ويكثر بين أئمة المسلمين في مثلها الائتلاف .
وأما في مواطن الجدال والخصام فقد أخذت فيها بنصيب من إطالة ذيول الكلام لأنها
معارك تتبين عندها مقادير الفحول . ومفاوز لا يقطع شعابها وعقابها إلا نحارير
الأصول . ومقامات تتكسر فيها النصال على النصال . ومواطن تلجم عندها أفواه الأبطال
بأحجار الجدال . ومواكب تعرق فيها جباه رجال حل الإشكال والإعضال
وقد قمت ولله الحمد في هذه المقامات مقاما لا يعرفه إلا المتأهلون . ولا يقف على
مقدار كنهه من حملة العلم إلا المبرزون . فدونك يا من لم تذهب ببصر بصيرته أقوال [
ص 4 ] الرجال . ولا تدنست فطرة عرفانه بالقيل والقال . شرحا يشرح الصدور ويمشي على
سنن الدليل وإن خالف الجمهور . وإني معترف بأن الخطأ والزلل هما الغالبان على من
خلقه الله من عجل . ولكني قد نصرت ما أظنه الحق بمقدار ما بلغت إليه الملكة
ورضت النفس حتى صفت عن قذر التعصب الذي هو بلا ريب الهلكة . وقد اقتصرت فيما عدا
هذه المقامات الموصوفات على بيان حال الحديث وتفسير غريبه وما يستفاد منه بكل
الدلالات وضممت إلى ذلك في غالب الحالات الإشارة إلى بقية الأحاديث الواردة في
الباب مما لم يذكر في الكتاب . لعلمي بأن هذا من أعظم الفوائد التي يرغب في مثلها
أرباب الألباب من الطلاب . ولم أطول ذيل هذا الشرح بذكر تراجم رواة الأخبار . لأن
ذلك مع كونه علما آخر يمكن الوقوف عليه في مختصر من كتب الفن من المختصرات الصغار
. وقد أشير في النادر إلى ضبط اسم راو أو بيان حاله على طريق التنبيه . لا سيما في
المواطن التي هي مظنة تحريف أو تصحيف لا ينجو منه غير النبيه . وجعلت ما كان
للمصنف من الكلام على فقه الأحاديث وما يستطرده من الأدلة في غضونه من جملة الشرح
في الغالب ونسبت ذلك إليه . وتعقبت ما ينبغي تعقبه عليه وتكلمت على ما لا يحسن
السكوت عليه مما لا يستغني عنه الطالب . كل ذلك لمحبة رعاية الاختصار وكراهة
الإملال بالتطويل والإكثار . وتقاعد الرغبات وقصور الهمم عن المطولات
وسميت هذا الشرح لرعاية التفاؤل الذي كان يعجب المختار نيل الأوطار من أسرار منتقى
الأخبار والله المسؤول أن ينفعني به ومن رام الانتفاع من إخواني . وأن يجعله من
الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني . وقبل الشروع في شرح كلام
المصنف نذكر ترجمته على سبيل الاختصار فنقول :
هو الشيخ الإمام علامة عصره المجتهد المطلق أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين
عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن محمد بن الخضر بن محمد بن علي بن عبد
الله الحراني المعروف بابن تيمية . قال الذهبي في النبلاء : ولد سنة تسعين
وخمسمائة تقريبا . وتفقه على عمه الخطيب . وقدم بغداد وهو مراهق مع السيف ابن عمه
. وسمع من أحمد بن سكينة وابن طبر زد ويوسف بن كامل وعدة . وسمع بحران من حنبل
وعبد القادر الحافظ . وتلا بالعشر على الشيخ عبد الواحد بن سلطان . حدث عنه ولده
شهاب الدين والدمياطي وأمين الدين بن شقير . وعبد الغني بن منصور . ومحمد بن
البزار . والواعظ محمد بن عبد المحسن وغيرهم . وتفقه وبرع واشتغل وصنف التصانيف .
وانتهت إليه الإمامة في الفقه . ودرس القراآت وصنف فيها أرجوزة . تلا [ ص 5 ] عليه
الشيخ القيرواني . وحج في سنة إحدى وخمسين على درب العراق . وابتهر علماء بغداد
لذكائه وفضائله . والتمس منه أستاذ دار الخلافة محي الدين بن الجوزي الإقامة عندهم
فتعلل بالأهل والوطن . قال الذهبي : سمعت الشيخ تقي الدين أبا العباس يقول كان
الشيخ ابن مالك يقول ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد
قال الشيخ : وكانت في جدنا حدة اجتمع ببعض الشيوخ وأورد عليه مسألة فقال الجواب
عنها من ستين وجها الأول كذا والثاني كذا وسردها إلى آخرها وقد رضينا عنك بإعادة
أجوبة الجميع فخضع له وابتهر . قال العلامة ابن حمدان : كنت أطالع على درس الشيخ
وما أبقى ممكنا فإذا أصبحت وحضرت ينقل أشياء غريبة لم أعرفها . قال الشيخ تقي
الدين وجدناه عجيبا في سرد المتون وحفظ المذاهب بلا كلفة . وسافر مع ابن عمه إلى
العراق ليخدمه وله ثلاث عشرة سنة . فكان يبيت عنده ويسمعه يكرر مسائل الخلاف فيحفظ
المسألة . وأبو البقاء شيخه في النحو والفرائض . وأبو بكر بن غنيمة شيخه في الفقه
. وأقام ببغداد ستة أعوام مكبا على الاشتغال ثم ارتحل إلى بغداد قبل العشرين
وستمائة فتزيد من العلم وصنف التصانيف مع الدين والتقوى وحسن الإتباع . وتوفي
بحران يوم الفطر سنة اثنتين وخمسين وستمائة . وإنما قيل لجده تيمية لأنه حج على
درب تيماء فرأى هناك طفلة فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتا فقال يا تيمية يا
تيمية فلقب بذلك . وقيل أن أم جده كانت تسمى تيمية وكانت واعظة وقد يلتبس على من
لا معرفة له بأحوال الناس صاحب الترجمة هذا بحفيده شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن
عبد الحليم شيخ ابن القيم الذي له المقالات التي طال بينه وبين أهل عصره فيها
الخصام وأخرج من مصر بسببها وليس الأمر كذلك . قال في تذكرة الحفاظ في ترجمة شيخ
الإسلام : هو أحمد ابن المفتي عبد الحليم ابن الشيخ الإمام المجتهد عبد السلام بن
عبد الله بن أبي القاسم الحراني وعم المصنف الذي أشار الذهبي في أول الترجمة أنه
تفقه عليه ترجم له ابن خلكان في تاريخه فقال : هو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم
بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله المعروف بابن تيمية الحراني الملقب فخر الدين
الخطيب الواعظ الفقيه الحنبلي كان فاضلا تفرد في بلده بالعلم . ثم قال : وكانت
إليه الخطابة بحران ولم يزل أمره جاريا على سداد ومولده في أواخر شعبان سنة اثنتين
وأربعين وخمسمائة بمدينة حران وتوفي بها في حادي عشر صفر سنة إحدى وعشرين وستمائة
. ثم قال : وكان أبوه أحد الأبدال والزهاد . قال المصنف قدس الله روحه ونور ضريحه
:
[ ص 6 ] ( الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره
تقديرا ) افتتح الكتاب بحمد الله سبحانه وتعالى أداء لحق شيء مما يجب عليه من شكر
النعمة التي من آثارها تأليف هذا الكتاب . وعملا بالأحاديث الواردة في الابتداء به
كحديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه وأبي عوانة والدارقطني وابن حبان
والبيهقي عنه صلى الله عليه و سلم ( كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم ) واختلف
في وصله وإرساله فرجح النسائي والدارقطني الإرسال . وأخرج الطبراني في الكبير
والرهاوي عن كعب بن مالك عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " كل أمر ذي بال
لا يبدأ فيه بالحمد أقطع " . وأخرج أيضا ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ :
( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ) . وأخرجه أيضا أبو داود عنه
والنسائي وابن ماجه وفي رواية ( أبتر ) بدل ( أقطع ) وله ألفاظ أخر أوردها الحافظ
عبد القادر الرهاوي في الأربعين له . وسيذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة هذا
في باب اشتمال الخطبة على حمد الله من أبواب الجمعة . والحمد في الأصل مصدر منصوب
بفعل مقدر حذف حذفا قياسيا كما صرح بذلك الرضي ورجحه أو سماعيا كما ذهب إليه غيره
. وعدل به إلى الرفع للدلالة على الدوام المستفاد من الجملة الاسمية ولو بمعونة
المقام لا من مجرد العدول . إذ لا مدخلية له في ذلك . وحلي باللام ليفيد الاختصاص
الثبوتي . وهو مستلزم للقصر . فيكون الحمد مقصورا عليه تعالى . إما باعتبار أن كل
حمد لغيره آيل إليه . أو منزل منزلة العدم مبالغة وادعاء . أو لكون الحمد له جل
جلاله هو الفرد الكامل . والحمد هو الوصف بالجميل على الجميل الاختياري للتعظيم .
وإطلاق الجميل الأول لإدخال وصفه تعالى بصفاته الذاتية . فإنه حمد له وتقييد
الثاني بالاختياري لإخراج المدح . فيكون على هذا أعم من الحمد مطلقا . وقيل هما
أخوان
وذكر قيد التعظيم لإخراج ما يؤتى به من المشعرات بالتعظيم على سبيل الاستهزاء
والسخرية ولكنه يستلزم اعتبار فعل الجنان وفعل الأركان في الحمد لأن التعظيم لا
يحصل بدونهما . وأجيب بأنهما فيه شرطان لا جزءان ولا جزئيان . ومن ههنا يلوح صحة
ما قاله الجمهور من أن الحمد أعم من الشكر متعلقا وأخص موردا لا كما زعمه البعض من
أن الحمد أعم مطلقا لمساواته الشكر في المورد وزيادته عليه بكونه أعم متعلقا .
ومما ينبغي أن يعلم ههنا أن الحمد يقتضي متعلقين هما المحمود به والمحمود عليه .
فالأول ما حصل به الحمد والثاني الحامل عليه كحمدك لزيد بالكرم في مقابلة الإنعام
. وقد يكون التغاير اعتباريا مع [ ص 7 ] الاتحاد ذاتا كالحمد منك لمنعم بإنعامه
عليك في مقابلة ذلك الإنعام . فإن الإنعام من حيث الصدور من المنعم محمود به . ومن
حيث الوصول إليك محمود عليه . وتقديم الحمد الذي هو المبتدأ على لله الذي هو الخبر
لا بد له من نكتة وإن كان أصل المبتدأ التقديم وهي ترجيح مطابقة مقتضى المقام فإنه
مقام الحمد والاسم الشريف وإن كان مستحقا للتقديم من جهة ذاته فرعاية ما يقتضيه
المقام ألصق بالبلاغة من رعاية ما تقتضيه الذات . لا يقال الحمد الذي هو إثبات
الصفة الجميلة للذات لا يتم إلا بمجموع الموضوع والمحمول لأنا نقول لفظ الحمد هو
الدال على مفهومه فقدم من هذه الحيثية وإن كان لا يتم ذلك الإثبات إلا بالمجموع .
واللام الداخلة على اسمه تعالى تفيد الاختصاص الإثباتي وهو لا يستلزم القصر كما
يستلزمه الثبوتي . والله اسم للذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد . ولذلك
آثره على غيره من أسمائه جل جلاله وإنما كان هذا الاسم هو المستجمع لجميع الصفات
دون غيره من الأسماء لأن الذات المخصوصة هي المشهورة بالاتصاف بصفات الكمال فما
يكون علما لها دالا عليها بخصوصها يدل على هذه الصفات لا ما يكون موضوعا لمفهوم
كلي وإن اختص في الاستعمال بها كالرحمن وهذا إنما يتم على القول بأن لفظ الله علم
للذات كما هو الحق وعليه الجمهور لا للمفهوم كما زعمه البعض ( 5 ) . وأصله الاله
حذفت الهمزة وعوضت منها لام التعريف تخفيفا ولذلك لزمت . ووصفه بنفي الولد والشريك
لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة . ويستحق جنس الحمد . ولك أن تجعل
نفي هذه الصفة التي يكون إثباتها ذريعة من ذرائع منع المعروف لكون الولد مبخلة
والشريك مانعا من التصرف رديفا لإثبات ضدها على سبيل الكناية . وإنما افتتح المصنف
رحمه الله تعالى كتابه بهذه الآية مع إمكان تأدية الحمد الذي يشرع في الافتتاح
بغيرها لما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا أفصح الغلام من بني عبد
المطلب علمه هذه الآية أخرجه عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة في مصنفه وابن
السني في عمل اليوم والليلة من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم . فذكره . ثم عطف على تلك الصفة النفيية صفة إثباتية
مشتملة على أنه جل جلاله خالق الأشياء بأسرها ومقدرها دقها وجلها . ولا شك أن نعمة
[ ص 8 ] خلق الخلق وتقديره من أعظم البواعث على الحمد . وتكريره لكون ذلك أول نعمة
أنعم الله بها على الحامد
( وصلى الله على محمد النبي الأمي المرسل كافة للناس بشيرا ونذيرا . وعلى آله
وصحبه وسلم تسليما كثيرا ) أردف الحمد لله بالصلاة على رسوله صلى الله عليه و سلم
لكونه الواسطة في وصول الكمالات العلمية والعملية إلينا من الرفيع عز سلطانه
وتعالى شأنه . وذلك لأن الله تعالى لما كان في نهاية الكمال ونحن في نهاية النقصان
لم يكن لنا استعداد لقبول الفيض الإلهي لتعلقنا بالعلائق البشرية والعوائق البدنية
وتدنسنا بأدناس اللذات الحسية والشهوات الجسمية . وكونه تعالى في غاية التجرد
ونهاية التقدس فاحتجنا في قبول الفيض منه جل وعلا إلى واسطة له وجه تجرد ونوع تعلق
. فبوجه التجرد يستفيض من الحق وبوجه التعلق يفيض علينا . وهذه الواسطة هم
الأنبياء وأعظمهم رتبة وأرفعهم منزلة نبينا صلى الله عليه و سلم فذكر عقب ذكره جل
جلاله تشريفا لشأنه من الامتثال لأمر الله سبحانه . ولحديث أبي هريرة عند الرهاوي
بلفظ : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أقطع ) وكذلك
التوسل بالصلاة على الآل والأصحاب لكونهم متوسطين بيننا وبين نبينا صلى الله عليه
و سلم فإن ملاءمة الآل والأصحاب لجنابه أكثر من ملاءمتنا له . والصلاة في الأصل
الدعاء ( 6 ) وهي من الله الرحمة . هكذا في كتب اللغة . وقال القشيري : هي من الله
لنبيه تشريف وزيادة تكرمة ولسائر عباده رحمة . قال في شرح المنهاج : إن معنى قولنا
اللهم صل على محمد عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته وفي
الآخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته . وههنا أمر يشكل في الظاهر هو أن
الله أمرنا بأن نصلي على نبيه صلى الله عليه و سلم ونحن أحلنا الصلاة عليه في
قولنا اللهم صل على محمد . وكان حق الامتثال أن نقول صلينا على النبي وسلمنا فما
النكتة في ذلك . قال في شرح المنهاج : فيه نكتة شريفة كأننا نقول يا ربنا أمرتنا بالصلاة
عليه وليس في وسعنا أن نصلي صلاة تليق بجنابه لأنا لا نقدر قدر ما أنت عالم بقدره
صلى الله عليه و سلم فأنت تقدر أن تصلي عليه صلاة تليق بجنابه انتهى
ومحمد علم لذاته الشريفة ومعناه الوصفي كثير المحامد . ولا مانع من ملاحظته مع [ ص
9 ] العلمية كما تقرر في مواطنه . وآثر لفظ النبي لما فيه من الدلالة على الشرف
والرفعة على ما قيل إنه من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض . قال في الصحاح : إن
جعلت لفظ النبي مأخوذا من ذلك فمعناه أنه شرف على سائر الخلق وأصله غير الهمز وهو
فعيل بمعنى مفعول
والنبي في لسان الشرع من بعث إليه بشرع فإن أمر بتبليغه فرسول وقيل هو المبعوث إلى
الخلق بالوحي لتبليغ ما أوحاه . والرسول قد يكون مرادفا له وقد يختص بمن هو صاحب
كتاب . وقيل هو المبعوث لتجديد شرع أو تقريره والرسول هو المبعوث للتجديد فقط
وعلى الأقوال النبي أعم من الرسول . والأمي من لا يكتب وهو في حقه صلى الله عليه و
سلم وصف مادح لما فيه من الدلالة على صحة المعجزة وقوتها باعتبار صدورها ممن هو
كذلك
وذكر المرسل بعد ذكر النبي لبيان أنه مأمور بالتبليغ أو صاحب كتاب أو مجدد شرع
بطريق أدل على هذه الأمور من الطريق الأولى وإن اشتركا في أصل الدلالة على ذلك
وإيثار هذه الصفة أعني إرساله إلى الناس كافة لكونه لا يشاركه فيها غيره من
الأنبياء . وكافة منصوب على الحال وصاحبها الضمير الذي في المرسل والهاء فيه
للمبالغة وليس بحال من الناس لأن الحال لا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح
وعند أبي علي وابن كيسان وغيرهما من النحويين أنه يجوز تقدم الحال على الصاحب
المجرور . وقيل إنه منصوب على صيغة المصدرية والتقدير المرسل رسالة كافة ورد بأن
كافة لا تستعمل إلا حالا
والبشير النذير المبشر المنذر وإنما عدل بهما إلى صيغة فعيل لقصد المبالغة . والآل
أصله أهل بدليل تصغيره على أهيل ولو كان أصله غيره لسمع تصغيره عليه . ولا يستعمل
إلا فيما له شرف في الغالب واختصاصه بذلك لا يستلزم عدم تصغيره . إذ يجوز تحقير من
له خطر أو تقليله على أن الخطر في نفسه لا ينافي التصغير بالنسبة إلى من له خطر
أعظم من ذلك . وأيضا لا ملازمة بين التصغير وبين التحقير أو التقليل لأنه يأتي
للتعظيم كقوله :
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل ( 7 )
وللتلطف كقوله : يا ما أميلح غزلانا شدن لنا . وقد اختلف في تفسير الآل على أقوال
يأتي ذكرها في باب ما يستدل به على تفسير آله المصلى عليهم من أبواب صفة [ ص 10 ]
الصلاة . والصحب بفتح الصاد وإسكان الحاء المهملتين اسم جمع لصاحب كركب لراكب .
وقد اختلف في تفسير معنى الصحابي على أقوال : منها أنه من رأى النبي مسلما وإن لم
يرو عنه ولا جالسه . ومنهم من اعتبر طول المجالسة . ومنهم من اعتبر الرواية عنه .
ومنهم من اعتبر أن يموت على دينه . وبيان حجج هذه الأقوال وراجحها من مرجوحها
مبسوط في الأصول وعلم الاصطلاح فلا نطول بذكره . وذكر السلام بعد الصلاة امتثالا
لقوله تعالى { صلوا عليه وسلموا } وفي معناه أقوال الأول أنه الأمان أي التسليم من
النار . وقيل هو اسم من أسمائه تعالى والمراد السلام على حفظك ورعايتك متول لهما
وكفيل بهما . وقيل هو المسالمة والانقياد
( هذا كتاب يشتمل على جملة من الأحاديث النبوية التي يرجع أصول الأحكام إليها
ويعتمد علماء أهل الإسلام عليها )
الإشارة بقوله هذا إلى المرتب الحاضر في الذهن من المعاني المخصوصة أو ألفاظها أو
نقوش ألفاظها أو المعاني مع الألفاظ أو مع النقوش أو الألفاظ والنقوش أو مجموع
الثلاثة وسواء كان وضع الديباجة قبل التصنيف أو بعده إذ لا وجود لواحد منها في
الخارج . وقد يقال إن نفي وجود النقوش في الخارج خلاف المحسوس فكيف يصح جعل
الإشارة إلى ما في الذهن على جميع التقادير ويجاب بأن الموجود من النقوش في الخارج
لا يكون إلا شخصا ومن المعلوم أن نقوش كتاب المصنف الموجود حال الإشارة مثلا ليست
المقصودة بالتسمية بل المقصود وصف النوع وتسميته وهو الدال على تلك الألفاظ
المخصوصة أعم من أن يكون ذلك الشخص أو غيره مما يشاركه في ذلك المفهوم . ولا شك
أنه لا حصول لهذا الكلي فالإشارة على جميع التقادير إلى الحاضر في الذهن فيكون
استعمال اسم الإشارة ههنا مجازا تنزيلا للمعقول منزلة المحسوس للترغيب والتنشيط .
قال الدواني : ومن ههنا علمت أن أسامي الكتب من أعلام الأجناس عند التحقيق
( انتقيتها من صحيحي البخاري ومسلم . ومسند الإمام أحمد بن حنبل . وجامع أبي عيسى
الترمذي . وكتاب السنن لأبي عبد الرحمن النسائي . وكتاب السنن لأبي داود السجستاني
. وكتاب السنن لابن ماجه القزويني . واستغنيت بالعزو إلى هذه المسانيد عن الإطالة
بذكر الأسانيد )
قوله ( انتقيتها ) الانتقاء الاختيار . والمنتقى المختار . ولنتبرك بذكر بعض أحوال
هؤلاء الأئمة على أبلغ وجه في الاختصار فنقول :
أما البخاري فهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي
البخاري حافظ الإسلام وإمام أئمته الأعلام . ولد ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت
من شوال سنة أربع وتسعين ومائة وتوفي ليلة الفطر سنة ست [ ص 11 ] وخمسين ومائتين
وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما . ولم يعقب ولدا ذكرا . رحل في طلب
العلم إلى جميع محدثي الأمصار . وكتب بخراسان والجبال والعراق والحجاز والشام ومصر
. وأخذ الحديث عن جماعة من الحفاظ منهم مكي بن إبراهيم البلخي . وعبدان بن عثمان
المروزي . وعبد الله بن موسى العبسي . وأبو عاصم الشيباني . ومحمد بن عبد الله
الأنصاري . ومحمد بن يوسف الفرياني . وأبو نعيم الفضل بن دكين . وعلي بن المديني .
وأحمد بن حنبل . ويحيى بن معين . وإسماعيل بن أبي أويس المدني . وغير هؤلاء من
الأئمة . وأخذ الحديث عنه خلق كثير قال الفربري : سمع كتاب البخاري تسعون ألف رجل
فما بقي أحد يروي عنه غيري . قال البخاري : خرجت كتاب الصحيح من زهاء ستمائة ألف
حديث وما وضعت فيه حديثا إلا وصليت ركعتين . وله وقائع وامتحانات ومجريات مبسوطة
في المطولات من تراجمه
وأما مسلم فهو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري أحد الأئمة
الحفاظ ولد سنة أربع ومائتين كذا قاله ابن الأثير . وقال الذهبي في النبلاء : سنة
ست وتوفي عشية يوم الأحد لست أو لخمس أو لأربع بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين
وهو ابن خمس وخمسين سنة . رحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر . وأخذ الحديث عن
يحيى بن يحيى النيسابوري . وقتيبة بن سعيد . وإسحاق بن راهويه . وعلي بن الجعد .
وأحمد بن حنبل . وعبد الله القواريري . وشريح بن يونس . وعبد الله بن مسلمة
القعنبي . وحرملة بن يحيى . وخلف بن هشام . وغير هؤلاء من أئمة الحديث . وروى عنه
الحديث خلق كثير منهم إبراهيم بن محمد بن سفيان . وأبو زرعة . وأبو حاتم . قال
الحسن بن محمد الماسرجسي : سمعت أبي يقول سمعت مسلما يقول صنفت المسند الصحيح من ثلاثمائة
ألف حديث مسموعة قال محمد بن يعقوب الأخرم : قلما يفوت البخاري ومسلما مما ثبت في
الحديث حديث . وقال الخطيب أبو بكر البغدادي : إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في
علمه وحذا حذوه
وأما أحمد بن حنبل فهو الإمام الكبير المجمع على إمامته وجلالته أحمد بن محمد بن
حنبل بن هلال الشيباني . رحل إلى الشام والحجاز واليمن وغيرها . وسمع من سفيان بن
عيينة وطبقته وروى عنه جماعة من شيوخه وخلائق آخرون لا يحصون منهم البخاري ومسلم .
قال أبو زرعة : كانت كتب أحمد بن حنبل اثني عشر حملا وكان يحفظها على ظهر قلبه
وكان يحفظ ألف ألف حديث . ولد في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة وتوفي سنة
إحدى وأربعين ومائتين على الأصح . وله [ ص 12 ] كرامات جليلة وامتحن المحنة
المشهورة . وقد طول المؤرخون ترجمته وذكروا فيها عجائب وغرائب . وترجمه الذهبي في
النبلاء في مقدار خمسين ورقة . وأفردت ترجمته بمصنفات مستقلة . وله رحمه الله
المسند الكبير انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث ولم يدخل فيه
إلا ما يحتج به . وبالغ بعضهم فأطلق على جميع ما فيه أنه صحيح . وأما ابن الجوزي
فأدخل كثيرا منه في موضوعاته . وتعقبه بعضهم في بعضها . وقد حقق الحافظ نفي الوضع
عن جميع أحاديثه وأنه أحسن انتقاء وتحريرا من الكتب التي لم يلتزم مصنفوها الصحة
في جميعها كالموطأ والسنن الأربع وليست الأحاديث الزائدة فيه على الصحيحين بأكثر
ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي . وقد ذكر العراقي أن فيه تسعة
أحاديث موضوعة وأضاف إليها خمسة عشر حديثا أوردها ابن الجوزي في الموضوعات وهي فيه
وأجاب عنها حديثا حديثا . قال الأسيوطي : وقد فاته أحاديث أخر أوردها ابن الجوزي
وهي فيه . وقد جمعها السيوطي في جزء سماه الذيل الممهد وذب عنها وعدتها أربعة عشر
حديثا . قال الحافظ ابن حجر في كتابه تعجيل المنفعة في رجال الأربعة : ليس في
المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة منها حديث عبد الرحمن بن عوف أنه
يدخل الجنة زحفا قال : والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهوا قال
الهيثمي في زوائد المسند : إن مسند أحمد أصح صحيحا من غيره لا يوازي مسند أحمد
كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته . قال السيوطي في خطبة كتابه الجامع الكبير ما
لفظه : وكل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول . فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن
انتهى
وأما الترمذي فهو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سوره بفتح السين المهملة وسكون الواو
وبفتح الراء المهملة مخففة ابن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي بتثليث الفوقية وكسر
الميم أو ضمها بعدها ذال معجمة ولد في ذي الحجة سنة مائتين وتوفي بترمذ ليلة
الاثنين الثالث عشر من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين هكذا في جامع الأصول وتذكرة
الحفاظ وهو أحد الأعلام الحفاظ . أخذ الحديث عن جماعة مثل قتيبة بن سعيد وإسحاق بن
موسى ومحمود بن غيلان وسعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن بشار وعلي بن حجر وأحمد بن
منيع ومحمد بن المثنى وسفيان بن وكيع ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهم . وأخذ عنه
خلق كثير منهم محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي وغيره . وله تصانيف في علم الحديث
وكتابه الجامع أحسن الكتب وأكثرها فائدة وأحكمها ترتيبا وأقلها تكرارا وفيه ما ليس
في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال والإشارة إلى ما في الباب من الأحاديث
وتبيين [ ص 13 ] أنواع الحديث من الصحة والحسن والغرابة والضعف وفيه جرح وتعديل
وفي آخره كتاب العلل قد جمع فيه فوائد حسنة . قال النووي في التقريب : وتختلف
النسخ من سنن الترمذي في قوله حسن أو حسن صحيح ونحوه فينبغي أن تعتني بمقابلة أصلك
بأصول معتمدة وتعتمد ما اتفقت عليه انتهى . قال الترمذي : صنفت كتابي هذا فعرضته
على علماء الحجاز فرضوا به وعرضته على علماء العراق فرضوا به وعرضته على علماء
خراسان فرضوا به ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم
وأما النسائي فهو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان النسائي أحد
الأئمة الحفاظ والمهرة الكبار ولد سنة أربع عشرة ومائتين ومات بمكة سنة ثلاث
وثلاثمائة وهو مدفون بها روى الحديث عن قتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم وحميد بن
مسعدة وعلي بن خشرم ومحمد بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين وهناد بن السري ومحمد بن
بشار ومحمود بن غيلان وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني وغير هؤلاء . وأخذ عنه
الحديث خلق منهم أبو بشر الدولابي وأبو القاسم الطبري وأبو جعفر الطحاوي ومحمد بن
هارون بن شعيب وأبو الميمون بن راشد وإبراهيم بن محمد بن صالح بن سنان وأبو بكر
أحمد بن إسحاق السني الحافظ . وله مصنفات كثيرة في الحديث والعلل . منها السنن وهي
أقل السنن الأربع بعد الصحيح حديثا ضعيفا قال الذهبي والتاج السبكي : إن النسائي
أحفظ من مسلم صاحب الصحيح
وأما أبو داود فهو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران
الأزدي السجستاني بفتح السين وكسر الجيم والكسر أكثر أحد من رحل وطوف البلاد وجمع
وصنف وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين ولد سنة ثنتين
ومائتين وتوفي بالبصرة لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين وأخذ
الحديث عن مسلم بن إبراهيم . وسليمان بن حرب . وعثمان بن أبي شيبة . وأبي الوليد
الطيالسي . وعبد الله بن مسلمة القعنبي . ومسدد بن مسرهد . ويحيى بن معين . وأحمد
بن حنبل . وقتيبة بن سعيد . وأحمد بن يونس وغيرهم ممن لا يحصى كثرة . وأخذ عنه
الحديث ابنه عبد الله وأبو عبد الرحمن النسائي وأحمد بن محمد الخلال وأبو علي محمد
بن أحمد اللؤلؤي . قال أبو بكر بن داسة : قال أبو داود : كتبت عن رسول الله صلى
الله عليه و سلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني كتاب
السنن جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه .
قال الخطابي : كتاب السنن [ ص 14 ] لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب
مثله . وقد رزق القبول من كافة الناس على اختلاف مذاهبهم . فصار حكما بين العلماء
وطبقات المحدثين ولكل واحد فيه ورد ومنه شرب وعليه معول أهل العراق ومصر وبلاد
المغرب وكثير من مدن أقطار الأرض . قال : قال أبو داود : ما ذكرت في كتابي حديثا
أجمع الناس على تركه . قال الخطابي : أيضا هو أحسن وضعا وأكثر فقها من الصحيحين
وأما ابن ماجه فهو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجه القزويني مولى
ربيعة بن عبد الله . ولد سنة تسع ومائتين ومات يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان
سنة ثلاث أو خمس وسبعين ومائتين وهو أحد الأعلام المشاهير ألف سننه المشهورة وهي
إحدى السنن الأربع وإحدى الأمهات الست . وأول من عدها من الأمهات ابن طاهر في
الأطراف ثم الحافظ عبد الغني . قال ابن كثير : إنه كتاب مفيد قوي التبويب في الفقه
. رحل ابن ماجه وطوف الأقطار وسمع من جماعة منهم أصحاب مالك والليث وروى عنه جماعة
منهم أبو الحسن القطان
( والعلامة لما رواه البخاري ومسلم أخرجاه . ولبقيتهم رواه الخمسة . ولهم سبعتهم
رواه الجماعة . ولأحمد مع البخاري ومسلم متفق عليه . وفيما سوى ذلك أسمي من رواه
منهم . ولم أخرج فيما عزوته عن كتبهم إلا في مواضع يسيرة وذكرت في ضمن ذلك شيئا
يسيرا من آثار الصحابة رضي الله عنهم ورتبت الأحاديث في هذا الكتاب على ترتيب
فقهاء أهل زماننا لتسهل على مبتغيها وترجمت لها أبوابا ببعض ما دلت عليه من
الفوائد ونسأل الله أن يوفقنا للصواب ويعصمنا من كل خطأ وزلل إنه جواد كريم )
قوله ( ولأحمد مع البخاري الخ ) المشهور عند الجمهور أن المتفق عليه هو ما اتفق
عليه الشيخان من دون اعتبار أن يكون معهما غيرهما والمصنف رحمه الله قد جعل المتفق
عليه ما اتفقا عليه وأحمد ولا مشاححة في الاصطلاح
قوله ( ولم أخرج ) هو من الخروج لا من التخريج أي أنه اقتصر في كتابه هذا على
العزو إلى الأئمة المذكورين وقد يخرج عن ذلك في مواضع يسيرة فيروي عن غيرهم
كالدارقطني والبيهقي وسعيد بن منصور والأثرم . واعلم أن ما كان من الأحاديث في
الصحيحين أو في أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لأنهما التزما الصحة وتلقت ما
فيهما الأمة بالقبول قال ابن الصلاح : إن العلم اليقيني النظري واقع بما أسنداه
لأن ظن المعصوم لا يخطئ وقد سبقه إلى مثل ذلك محمد بن طاهر المقدسي وأبو نصر عبد
الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف واختاره ابن كثير وحكاه ابن تيمية عن أهل الحديث وعن
السلف وعن جماعات كثيرة من الشافعية والحنابلة والأشاعرة والحنفية وغيرهم قال
النووي : [ ص 15 ] وخالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون فقالوا يفيد الظن ما لم
يتواتر ونحو ذلك حكى زين الدين عن المحققين قال : وقد استثنى ابن الصلاح أحرفا
يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد كالدارقطني وغيره وهي معروفة عند أهل هذا الشأن
وهكذا يجوز الاحتجاج بما صححه أحد الأئمة المعتبرين مما كان خارجا عن الصحيحين
وكذا يجوز الاحتجاج بما كان في المصنفات المختصة بجمع الصحيح كصحيح ابن خزيمة وابن
حبان ومستدرك الحاكم والمستخرجات على الصحيحين لأن المصنفين لها قد حكموا بصحة كل ما
فيها حكما عاما . وهكذا يجوز الاحتجاج بما صرح أحد الأئمة المعتبرين بحسنه لأن
الحسن يجوز العمل به عند الجمهور ولم يخالف في الجواز إلا البخاري وابن العربي
والحق ما قاله الجمهور لأن أدلة وجوب العمل بالآحاد وقبولها شاملة له . ومن هذا
القبيل ما سكت عنه أبو داود وذلك لما رواه ابن الصلاح عن أبي داود أنه قال : ما
كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح
وبعضها أصح من بعض . قال : وروينا عنه أنه قال ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما
يقاربه . قال الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير أنه أجاز ابن الصلاح والنووي
وغيرهما من الحفاظ العمل بما سكت عنه أبو داود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله
مما روي عنه . قال النووي : إلا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة والحسن وجب
ترك ذلك . قال ابن الصلاح : وعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا ولم نعلم
صحته عرفنا أنه من الحسن عند أبي داود لأن ما سكت عنه يحتمل عند أبي داود الصحة
والحسن انتهى
وقد اعتنى المنذري رحمه الله في نقد الأحاديث المذكورة في سنن أبي داود وبين ضعف
كثير مما سكت عنه فيكون ذاك خارجا عما يجوز العمل به وما سكتا عليه جميعا فلا شك
أنه صالح للاحتجاج إلا في مواضع يسيرة قد نبهت على بعضها في هذا الشرح . وكذا قيل
إن ما سكت عنه الإمام أحمد من الأحاديث مسنده صالح للاحتجاج لما قدمنا في ترجمته
وأما بقية السنن والمسانيد التي لم يلتزم مصنفوها الصحة فما وقع التصريح بصحته أو
حسنه منهم أو من غيرهم جاز العمل به وما وقع التصريح كذلك بضعفه لم يجز العمل به
وما أطلقوه ولم يتكلموا عليه ولا تكلم عليه غيرهم لم يجز العمل به إلا بعد البحث
عن حاله إن كان الباحث أهلا لذلك وقد بحثنا عن الأحاديث الخارجة عن الصحيحين في
هذا الكتاب وتكلمنا عليها بما أمكن الوقوف عليه من كلام الحفاظ وما بلغت إليه
القدرة . ومن عرف طول ذيل هذا الكتاب الذي تصدينا لشرحه وكثرة [ ص 16 ] ما اشتمل
عليه من أحاديث الأحكام علم أن الكلام على بعض أحاديثه على الحد المعتبر متعسر لا
سيما ما كان منها في مسند الإمام أحمد . وقد ذكر جماعة من أئمة فن الحديث أن هذا
الكتاب من أحسن الكتب المصنفة في الفن لولا عدم تعرض مؤلفه رحمه الله للكلام على
التصحيح والتحسين والتضعيف في الغالب . قال في البدر المنير ما لفظه : وأحكام
الحافظ مجد الدين عبد السلام ابن تيمية المسمى بالمنتقى هو كاسمه وما أحسنه لولا
إطلاقه في كثير من الأحاديث العزو إلى الأئمة دون التحسين والتضعيف فيقول مثلا
رواه أحمد رواه الدارقطني رواه أبو داود ويكون الحديث ضعيفا . وأشد من ذلك كون
الحديث في جامع الترمذي مبينا ضعفه فيعزوه إليه من دون بيان ضعفه . وينبغي للحافظ
جمع هذه المواضع وكتبها على حواشي هذا الكتاب أو جمعها في مصنف يستكمل فائدة
الكتاب المذكور انتهى . وقد أعان الله وله الحمد على القيام بما أرشد إليه هذا
الحافظ مع زيادات إليها تشد رحال الطلاب . وتنقيحات تنقطع بتحقيقها علائق الشك
والارتياب . والمسؤول من الله جل جلاله الإعانة على التمام . وتبليغنا بما لاقيناه
في تحريره وتقريره إلى دار السلام
_________
( 1 ) الدجنة : بضم الدال المهملة والجيم المعجمة وتشديد النون الظلمة وجمعها
الأجنات : والدياجي الليالي المظلمة
( 2 ) الدياجر : جمع ديجور الظلام
( 3 ) الذي ورد في كلام النبوة وخطب الصحابة وما ثبت عن العرب الإتيان بأما بعد
إذا أرادوا الانتقال في كلامهم وخطبهم وأما إبدالها واوا فطريقة المتأخرين ولا
داعي لهذا كما يدعون فالأولى محاكاة ما كان عليه سلفنا والله أعلم
( 4 ) الخريت : بكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء المهملة الماهر الذي يهتدي لإخرات
المفازة وهي طرقها الخفية ومضايقها
( 5 ) ونقل عن الخطابي بعدما نقل الخلاف في لفظ الجلالة أنه قال : وأحب هذه
الأقاويل إلي قول من ذهب إلى أنه اسم علم وليس بمشتق كسائر الأسماء المشتقة والألف
واللام من بقية هذا الاسم لدخول حرف النداء عليه
( 6 ) أصل الصلاة في اللغة الدعاء هو قول جمهور العلماء من أهل اللغة وغيرهم .
وقال الزجاج : أصلها اللزوم قال الأزهري وآخرون : الصلاة من الله تعالى الرحمة ومن
الملائكة الاستغفار ومن الآدمي تضرع ودعاء . قاله النووي في شرح المهذب . وظاهر
قول الشارح هكذا في كتب اللغة أنه بلا خلاف وليس كذلك كما قدمته تنبه
( 7 ) ودويهية تصغير داهية وليس تصغيرها للتحقير بدليل قوله تصفر منها الأنامل ورد
بأن تصغيرها على حسب اعتقاد الناس لها وتهاونهم بها إذ المراد بها الموت أي يجيئهم
ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفسه تصفر منه الأنامل . والله أعلم
كتاب الطهارة
أبواب المياه
-
الكتاب مصدر يقال كتب كتابا وكتابة وقد استعملوه فيما يجمع شيئا من الأبواب
والفصول وهو يدل على معنى الجمع والضم ومنه الكتيبة ويطلق على مكتوب القلم حقيقة
لانضمام بعض الحروف والكلمات المكتوبة إلى بعض وعلى المعاني مجازا
وجمعه كتب بضمتين وبضم فسكون . وقد اشتهر في لسان الفقهاء اشتقاق الكتابة من الكتب
واعترضه أبو حيان بما حاصله أن المصدر لا يشتق من المصدر . والطهارة يجوز أن تكون
مصدر طهر اللازم فتكون للوصف القائم بالفاعل وأن تكون مصدر طهر المتعدي فتكون
للأثر القائم بالمفعول وأن تكون اسم مصدر طهر تطهيرا ككلم تكليما . وأما الطهور
فقال جمهور أهل اللغة : إنه بالضم للفعل الذي هو المصدر وبالفتح للماء الذي يتطهر
به هكذا نقله ابن الأنباري وجماعات من أهل اللغة عن الجمهور . وذهب الخليل
والأصمعي وأبو حاتم السجستاني والأزهري وجماعة إلى أنه بالفتح فيهما . قال صاحب [
ص 17 ] المطالع : وحكي فيهما الضم ( 1 )
والطهارة في اللغة النظافة والتنزه عن الأقذار . وفي الشرع صفة حكمية تثبت
لموصوفها جواز الصلاة به أو فيه أوله ( 2 ) ولما كانت مفتاح الصلاة التي هي عماد
الدين افتتح المؤلفون بها مؤلفاتهم . والأبواب جمع باب وهو حقيقة لما كان حسيا
يدخل منه إلى غيره ومجاز لعنوان جملة من المسائل المتناسبة . والمياه جمع الماء
وجمعه مع كونه جنسا للدلالة على اختلاف الأنواع
_________
( 1 ) قال النووي في شرح المهذب بعد ما نقل كلام صاحب المطالع : وهو غريب شاذ ضعيف
( 2 ) وهذا التعريف يذكره المالكية في كتبهم وينسبه المتأخرون إلى ابن عرفة وهو مع
صعوبة فهمه مشتمل على ضمائر لا يهتدي إليها إلا المغرمون بتأويل كلام المؤلفين فإن
المراد بضمير به الثوب وضمير فيه المكان وضمير له الشخص ولا يخفى ما فيه من التكلف
وكان ينبغي للشارح أن يأتي بتعريف غير هذا كما صنعت في تعليقي على شرح عمدة
الأحكام فانظره
باب طهورية ماء البحر وغيره
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( سأل رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال :
يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا
أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو الطهور ماؤه الحل
ميتته )
- رواه الخمسة وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
-
الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وابن الجارود في المنتقى
والحاكم في المستدرك والدارقطني والبيهقي في سننهما وابن أبي شيبة . وحكى الترمذي
عن البخاري تصحيحه وتعقبه ابن عبد البر بأنه لو كان صحيحا عنده لأخرجه في صحيحه
ورده الحافظ وابن دقيق العيد بأنه لم يلتزم الاستيعاب ثم حكم ابن عبد البر مع ذلك
بصحته لتلقي العلماء له بالقبول فرده من حيث الإسناد وقبله من حيث المعنى وقد حكم
بصحة جملة من الأحاديث لا تبلغ درجة هذا ولا تقاربه
وصححه أيضا ابن المنذر وابن منده والبغوي وقال : هذا الحديث صحيح متفق على صحته
وقال ابن الأثير في شرح المسند : هذا حديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة في كتبهم
واحتجوا به ورجاله ثقات . وقال ابن الملقن في البدر المنير : هذا الحديث صحيح جليل
مروي من طرق الذي حضرنا منها تسع ثم ذكرها جميعا وأطال الكلام عليها وسيأتي
تلخيصها . وقد ذكر ابن دقيق العيد في شرح [ ص 18 ] الإمام ( 1 ) جميع وجوه التعليل
التي يعلل بها الحديث قال ابن الملقن في البدر المنير : قلت وحاصلها كما قال فيه
إنه يعلل بأربعة أوجه ثم سردها وطول الكلام فيها
وملخصها أن الوجه الأول الجهالة في سعيد بن سلمة والمغيرة بن أبي بردة المذكورين
في إسناده لأنه لم يرو عن الأول إلا صفوان بن سليم ولم يرو عن الثاني إلا سعيد بن
سلمة وأجاب بأنه قد رواه عن سعيد الجلاح بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره مهملة وهو
ابن كثير رواه من طريقه أحمد والحاكم والبيهقي . وأما المغيرة فقد روى عنه يحيى بن
سعيد ويزيد القرشي وحماد كما ذكره الحاكم في المستدرك
الوجه الثاني من التعليل الاختلاف في اسم سعيد بن سلمة وأجاب بترجيح رواية مالك
أنه سعيد بن سلمة من بني الأزرق ثم قال فقد زالت عنه الجهالة عينا وحالا
الوجه الثالث التعليل بالإرسال لأن يحيى بن سعيد أرسله وأجاب بأنه قد أسنده سعيد
بن سلمة وهو وإن كان دون يحيى بن سعيد فالرفع زيادة مقبولة عند أهل الأصول وبعض
أهل الحديث
الوجه الرابع التعليل بالاضطراب وأجاب بترجيح رواية مالك كما جزم به الدارقطني
وغيره . وقد لخص الحافظ ابن حجر في التلخيص ما ذكره ابن الملقن في البدر المنير
فقال ما حاصله : ومداره على صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة
عن أبي هريرة قال الشافعي : في إسناد هذا الحديث من لا أعرفه قال البيهقي : يحتمل
أنه يريد سعيد بن سلمة أو المغيرة أو كليهما ولم يتفرد به سعيد عن المغيرة فقد
رواه عنه يحيى بن سعيد الأنصاري إلا أنه اختلف عليه فيه فروى عنه عن المغيرة بن
عبد الله بن أبي بردة أن ناسا من بني مدلج أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فذكره
وروي عنه عن المغيرة عن رجل من بني مدلج وروي عنه عن المغيرة عن أبيه وروي عنه عن
المغيرة بن عبد الله أو عبد الله بن المغيرة وروي عنه عن عبد الله بن المغيرة عن
أبيه عن رجل من بني مدلج اسمه عبد الله وروي عنه عن عبد الله بن المغيرة عن أبي
بردة مرفوعا وروي عنه عن المغيرة عن عبد الله المدلجي هكذا قال الدارقطني وقال :
أشبهها بالصواب عن المغيرة عن أبي هريرة . وكذا قال ابن حبان والمغيرة معروف كما
قال أبو داود وقد [ ص 19 ] وثقه النسائي . وقال ابن عبد الحكم : اجتمع عليه أهل
إفريقية بعد قتل يزيد بن أبي مسلم فأبي قال الحافظ فعلم من هذا غلط من زعم أنه
مجهول لا يعرف
وأما سعيد بن سلمة فقد تابع صفوان بن سليم في روايته له عنه الجلاح بن كثير رواه
جماعة . منهم الليث بن سعد وعمرو بن الحارث . ومن طريق الليث رواه أحمد والحاكم
والبيهقي ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن حماد بن خالد عن مالك بسنده عن
أبي هريرة
وفي الباب عن جابر عند أحمد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم بنحو حديث أبي
هريرة وله طريق أخرى عنه عند الطبراني في الكبير والدارقطني والحاكم
قال الحافظ : وإسناده حسن ليس فيه إلا ما يخشى من التدليس انتهى وذلك لأن في
إسناده ابن جريج وأبا الزبير وهما مدلسان قال ابن السكن : حديث جابر أصح ما روي في
هذا الباب وعن ابن عباس عند الدارقطني والحاكم بلفظ : ماء البحر طهور قال في
التلخيص : ورواته ثقات . ولكن صحح الدارقطني وقفه وعن ابن الفراسي عند ابن ماجه
بنحو حديث أبي هريرة وقد أعله البخاري بالإرسال لأن ابن الفراسي لم يدرك النبي صلى
الله عليه و سلم
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني والحاكم بنحو حديث أبي هريرة وفي
إسناده المثنى الراوي له عن عمرو وهو ضعيف
قال الحافظ : ووقع في رواية الحاكم الأوزاعي بدل المثنى وهو غير محفوظ وعن علي بن
أبي طالب عند الدارقطني والحاكم بإسناد فيه من لا يعرف
وعن ابن عمر عند الدارقطني بنحو حديث أبي هريرة وعن أبي بكر الصديق عند الدارقطني
وفي إسناده عبد العزيز بن أبي ثابت وهو كما قال الحافظ ضعيف وصحح الدارقطني وقفه
وابن حبان في الضعفاء
وعن أنس عند الدارقطني وفي إسناده أبان بن أبي ثوبان قال وهو متروك
قوله ( سأل رجل ) وقع في بعض الطرق التي تقدمت أن اسمه عبد الله وكذا ساقه ابن
بشكوال بإسناده وأورده الطبراني فيمن اسمه عبد وتبعه أبو موسى الحافظ الأصبهاني في
كتاب معرفة الصحابة فقال عبد أبو زمعة البلوي الذي سأل النبي صلى الله عليه و سلم
عن ماء البحر قال ابن منيع : بلغني أن اسمه عبد وقيل اسمه عبيد بالتصغير . وقال
السمعاني في الأنساب : اسمه العركي وغلط في ذلك وإنما العركي وصف له وهو ملاح
السفينة
قوله ( هو الطهور ) قد تقدم في أول الكتاب ضبطه وتفسيره وهو عند الشافعية المطهر
وبه قال أحمد . وحكى بعض أصحاب أبي حنيفة عن مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة أن الطهور
هو [ ص 20 ] الطاهر ( 2 ) واحتج الأولون بأن هذه اللفظة جاءت في لسان الشرع للمطهر
كقوله تعالى { ماء طهورا } وأيضا السائل إنما سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن
التطهر بماء البحر لا عن طهارته ويدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه و سلم في
بئر بضاعة ( إن الماء طهور ) لأنهم إنما سألوه عن الوضوء به
قال في الإمام شرح الإلمام : فإن قيل لم لم يجبهم بنعم حين قالوا " أفنتوضأ
به " قلنا لأنه يصير مقيدا بحال الضرورة وليس كذلك . وأيضا فإنه يفهم من
الاقتصار على الجواب بنعم أنه إنما يتوضأ به فقط ولا يتطهر به لبقية الأحداث
والأنجاس ( فإن قيل ) كيف شكوا في جواز الوضوء بماء البحر قلنا يحتمل أنهم لما
سمعوا قوله صلى الله عليه و سلم : ( لا تركب البحر إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا في
سبيل الله فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا ) أخرجه أبو داود وسعيد بن منصور في
سننه عن ابن عمر مرفوعا ظنوا أنه لا يجزئ التطهر به . وقد روي موقوفا على ابن عمر
بلفظ : ( ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة أن تحت البحر نارا ثم ماء ثم نارا
حتى عد سبعة أبحر وسبع أنيار ) ( 3 )
وروي أيضا عن ابن عمر بن العاص أنه لا يجزئ التطهر به ولا حجة في أقوال الصحابة لا
سيما إذا عارضت المرفوع والإجماع
وحديث ابن عمر المرفوع قال داود : رواته مجهولون . وقال الخطابي : ضعفوا إسناده .
وقال البخاري : ليس هذا الحديث بصحيح . وله طريق أخرى عند البزار وفيها ليث بن أبي
سليم وهو ضعيف . قال في البدر المنير : في الحديث جواز الطهارة بماء البحر وبه قال
جميع العلماء إلا ابن عبد البر وابن عمر وسعيد بن المسيب . وروي مثل ذلك عن أبي
هريرة وروايته ترده وكذا رواية عبد الله بن عمر
وتعريف الطهور باللام الجنسية المفيدة للحسر لا ينفي طهورية غيره من المياه لوقوع
ذلك جوابا لسؤال من شك في طهورية ماء البحر من غير قصد للحصر وعلى تسليم أنه لا
تخصيص بالسبب ولا يقصر الخطاب العام عليه فمفهوم الحصر المفيد لنفي الطهورية عن
غير مائه عموم مخصص بالمنطوقات الصحيحة الصريحة القاضية باتصاف غيره بها
قوله ( الحل ميتته ) فيه دليل على حل جميع حيوانات البحر حتى كلبه وخنزيره وثعبانه
وهو المصحح عند الشافعية وفيه خلاف سيأتي في [ ص 21 ] موضعه . ومن فوائد الحديث
مشروعية الزيادة في الجواب على سؤال السائل لقصد الفائدة وعدم لزوم الاقتصار وقد
عقد البخاري لذلك بابا فقال باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله وذكر حديث ابن عمر
" أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم ما يلبس المحرم فقال لا يلبس القميص
ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران فإن لم يجد
النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين " فكأنه سأله عن حالة
الاختيار فأجابه عنها وزاد حالة الاضطرار وليست أجنبية عن السؤال لأن حالة السفر
تقتضي ذلك . قال الخطابي : وفي حديث الباب دليل على أن المفتي إذا سئل عن شيء وعلم
أن للسائل حاجة إلى ذكر ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه ولم يكن ذلك تكلفا لما
لا يعينه لأنه ذكر الطعام وهم سألوه عن الماء لعلمه أنهم قد يعوزهم الزاد في البحر
انتهى . وأما ما وقع في كلام كثير من الأصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقا
للسؤال فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة بل المراد أن الجواب يكون مفيدا للحكم
المسؤول عنه . وللحديث فوائد غير ما تقدم قال ابن الملقن : إنه حديث عظيم أصل من
أصول الطهارة مشتمل على أحكام كثيرة وقواعد مهمة . قال الماوردي في الحاوي : قال
الحميدي : ( 4 ) قال الشافعي : هذا الحديث نصف علم الطهارة
_________
( 1 ) الإمام هو كتاب جليل جمع فيه متون الأحاديث المتعلقة بالأحكام مجردة عن
الأسانيد ثم شرحه مؤلفه العلامة ابن دقيق العيد وبرع فيه وسماه الإلمام . قيل إنه
لم يؤلف في هذا النوع أعظم منه لما فيه من الاستنباطات والفوائد لكنه لم يكمله .
وذكر البقاعي في حاشية الألفية أنه أكمله ثم لم يوجد بعد موته منه إلا القليل
فيقال إن بعض الحسدة أعدمه لأنه كتاب جليل القدر لو بقي لأغنى الناس عن تطلب كثير
من الشروح اه . ويوجد منه قطع في بعض المكاتب اطلعت عليها
( 2 ) وحكي أيضا عن الحسن البصري وسفيان وأبي بكر الأصم وابن داود وعن بعض أهل
اللغة واحتج بقوله تعالى { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } ومعلوم أن أهل الجنة لا
يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس فعلم أن المراد بالطهور الطاهر . وأجيب بأن
الله تعالى وصفه بأعلى الصفات وهي التطهير
( 3 ) هو جمع نار فتذكر وتؤنث ولها جموع كثيرة
( 4 ) الحميدي هذا هو شيخ البخاري وصاحب الإمام الشافعي رحمهم الله ورضي عنهم
2 -
وعن أنس بن مالك قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وحانت صلاة العصر
فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوا فأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بوضوء فوضع
رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضئوا منه فرأيت
الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضؤا من عند آخرهم )
- متفق عليه ومتفق على مثل معناه من حديث جابر بن عبد الله
-
لفظ حديث جابر " وضع يده صلى الله عليه و سلم في الركوة فجعل الماء يثور ( 1
) بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قلت : كم كنتم قال : لو كنا مائة ألف
لكفانا قال : كنا خمس عشرة مائة "
قوله ( وحانت ) ( 2 ) الواو للحال بتقدير قد
قوله ( الوضوء ) بفتح الواو أي الماء الذي يتوضأ به
قوله ( فأتي ) بضم الهمزة على البناء للمفعول وقد [ ص 22 ] بين البخاري في رواية
أن ذلك كان بالزوراء وهي سوق المدينة
وقوله ( بوضوء ) بفتح الواو أيضا أي بإناء فيه ماء ليتوضأ به . ووقع في رواية
للبخاري فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير فصغر أن يبسط فيه صلى الله عليه و سلم كفه فضم
أصابعه
قوله ( ينبع ) بفتح أوله وضم الموحدة ويجوز كسرها وفتحها قاله في الفتح
قوله ( حتى توضئوا من عند آخرهم ) قال الكرماني : حتى للتدريج ومن للبيان أي توضأ
الناس حتى توضأ الذين عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم . وعند بمعنى في لأن عند وإن
كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية فكأنه قال الذين هم
في آخرهم . وقال التيمي : المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر وقال
النووي : من هنا بمعنى إلى وهي لغة وتعقبه الكرماني بأنها شاذة ثم إن إلى لا يجوز
أن تدخل على عند ولا يلزم مثله في من إذا وقعت بمعنى إلى . قال في الفتح : وعلى
توجيه النووي يمكن أن يقال عند زائدة . والحديث يدل على مشروعية المواساة بالماء
عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه وعلى أن اغتراف المتوضئ من الماء القليل
لا يصير الماء مستعملا . واستدل به الشافعي على أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها
الإناء ندب لا حتم وسيأتي تحقيق ذلك . قال ابن بطال : هذا الحديث شهده جمع من
الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس وذلك لطول عمره ولطلب الناس علو السند
وناقضه القاضي عياض فقال : هذه القصة رواها العدد الكثير من الثقات عن الجم الغفير
عن الكافة متصلا عن جملة من الصحابة بل لم يؤثر عن أحد منهم إنكار ذلك فهو ملتحق
بالقطعي . قال الحافظ : فانظر كم بين الكلامين من التفاوت انتهى
ومن فوائد الحديث أن الماء الشريف يجوز رفع الحدث به . ولهذا قال المصنف رحمه الله
: وفيه تنبيه أنه لا بأس برفع الحدث من ماء زمزم لأن قصاراه أنه ماء شريف متبرك به
والماء الذي وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده فيه بهذه المثابة . وقد جاء عن
علي كرم الله وجهه في حديث له قال فيه : ( ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه و سلم
فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ ) رواه أحمد انتهى
وهذا الحديث هو في أول مسند علي من مسند أحمد بن حنبل ولفظه حدثنا عبد الله يعني
ابن أحمد بن حنبل حدثني أحمد بن عبدة البصري حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن بن
الحارث عن أبيه عن زيد بن علي بن حسين بن علي عن أبيه علي بن حسين عن عبيد الله بن
أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه و سلم وقف بعرفة فذكر [ ص 23 ] حديثا طويلا وفيه ( ثم أفاض
فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ ثم قال انزعوا فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت
) الحديث
وهذا إسناد مستقيم لأن عبد الله بن أحمد ثقة إمام وأحمد بن عبدة الضبي البصري وثقه
أبو حاتم والنسائي والمغيرة بن عبد الرحمن قال في التقريب : ثقة جواد من الخامسة
وأبوه عبد الرحمن قال في التقريب : من كبار ثقات التابعين وعبيد الله بن أبي رافع
كان كاتب علي وهو ثقة من الثالثة كما في التقريب وقال ابن معين : لا بأس به وقال
أبو حاتم : لا يحتج بحديثه . وأما الإمامان زيد بن علي ووالده زيد العابدين فهما
أشهر من نار على علم وقد أخرج هذا الحديث أهل السنن وصححه الترمذي وغيره وشربه صلى
الله عليه و سلم من زمزم عند الإفاضة ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من
حديث جابر الطويل بلفظ : ( فأتى يعني النبي صلى الله عليه و سلم بني عبد المطلب
وهم يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم
لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه ) وهو في المتفق عليه من حديث ابن عباس بلفظ : (
سقيت النبي صلى الله عليه و سلم من زمزم فشرب وهو قائم ) وفي رواية ( استسقى عند
البيت فأتيته بدلو ) والسجل بسين مهملة مفتوحة فجيم ساكنة الدلو المملوء فإن تعطل
فليس بسجل . ويأتي تمام الكلام عليه في باب تطهير الأرض . ولحديث الباب فوائد
كثيرة خارجة عن مقصود ما نحن بصدده فلنقتصر على هذا المقدار
_________
( 1 ) أي ينبع بقوة وشدة
( 2 ) أي دخل وقتها
باب طهارة الماء المتوضأ به
1 -
عن جابر بن عبد الله قال : ( جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم يعودني وأنا مريض
لا أعقل فتوضأ وصب وضوءه علي )
- متفق عليه
2 -
وفي حديث صلح الحديبية من رواية المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم : ( ما تنخم رسول
الله صلى الله عليه و سلم نخامة إلا وقعت في كف رجل فدلك بها وجهه وجلده وإذا توضأ
كادوا يقتتلون على وضوئه )
- وهو بكماله لأحمد والبخاري
-
قوله ( يعودني ) زاد البخاري في الطب ( ماشيا ) قوله ( لا أعقل ) أي لا أفهم وحذف
مفعوله إشارة إلى عظم الحال أو لغرض التعميم أي لا أعقل شيئا من الأمور وصرح
البخاري بقوله شيئا في التفسير من صحيحه وله في الطب ( فوجدني قد أغمي علي )
قوله ( وضوءه ) يحتمل أن يكون المراد صب على بعض الماء الذي توضأ به [ ص 24 ] ويدل
على ذلك ما في رواية للبخاري بلفظ : ( من وضوئه ) ويحتمل أنه صب عليه ما بقي
والأول أظهر لقوله في حديث الباب ( فتوضأ وصب وضوءه علي ) ولأبي داود ( فتوضأ وصبه
علي ) فإنه ظاهر في أن المصبوب هو الماء الذي وقع به الوضوء
قوله ( ما تنخم ) التنخم دفع الشيء من الصدر أو الأنف . وقد استدل الجمهور بصبه
صلى الله عليه و سلم لوضوئه على جابر وتقريره للصحابة على التبرك بوضوئه وعلى
طهارة الماء المستعمل للوضوء وذهب بعض الحنفية وأبو العباس إلى أنه نجس واستدلوا
على ذلك بأدلة : منها حديث أبي هريرة بلفظ : ( لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم
وهو جنب ) وفي رواية ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه ) وسيأتي
قالوا والبول ينجس الماء فكذا الاغتسال لأنه صلى الله عليه و سلم قد نهى عنهما
جميعا . ومنها الإجماع على إضاعته وعدم الانتفاع به . ومنها أنه ماء أزيل به مانع
من الصلاة فانتقل المنع إليه كغسالة النجس المتغيرة ويجاب عن الأول بأنه أخذ
بدلالة الاقتران وهي ضعيفة وبقول أبي هريرة يتناوله تناولا كما سيأتي فإنه يدل على
أن النهي إنما هو عن الانغماس لا عن الاستعمال وإلا لما كان بين الانغماس والتناول
فرق . وعن الثاني بأن الإضاعة لا غناء غيره عنه لا لنجاسته . وعن الثالث بالفرق
بين مانع هو النجاسة ومانع هو غيرها وبالمنع من أن كل مانع يصير له بعد انتقاله
الحكم الذي كان له قبل الانتقال وأيضا هو تمسك بالقياس في مقابلة النص وهو فاسد
الاعتبار ويلزمهم أيضا تحريم شربه وهم لا يقولون به . ومن الأحاديث الدالة على ما
ذهب إليه الجمهور حديث أبي جحيفة عند البخاري قال : " خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه و سلم بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه
فيتمسحون به " وحديث أبي موسى عنده أيضا قال : ( دعا النبي صلى الله عليه و
سلم بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال لهما يعني أبا موسى وبلالا
اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما ) وعن السائب بن يزيد عنده أيضا قال : (
ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن ابن أختي
وقع أي مريض فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره )
الحديث . فإن قال الذاهب إلى نجاسة المستعمل للوضوء أن هذه الأحاديث غاية ما فيها
الدلالة على طهارة ما توضأ به صلى الله عليه و سلم ولعل ذلك من خصائصه . قلنا هذه
دعوى غير نافقة فإن الأصل أن حكمه وحكم أمته واحد إلا [ ص 25 ] أن يقوم دليل يقضي
بالاختصاص ولا دليل . وأيضا الحكم بكون الشيء نجسا حكم شرعي يحتاج إلى دليل يلتزمه
الخصم فما هو
3 -
وعن حذيفة بن اليمان : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لقيه وهو جنب فحاد عنه
فاغتسل ثم جاء فقال : كنت جنبا فقال : إن المسلم لا ينجس )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي . وروى الجماعة كلهم نحوه من حديث أبي هريرة
-
حديث أبي هريرة المشار إليه له ألفاظ منها : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم لقيه
في بعض طرق المدينة وهو جنب فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال له : أين كنت يا
أبا هريرة فقال : كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة فقال : سبحان الله
إن المؤمن لا ينجس )
قوله ( وهو جنب ) يعني نفسه . وفي رواية أبي داود ( وأنا جنب ) وهذه اللفظة تقع
على الواحد المذكر والمؤنث والاثنين والجمع بلفظ واحد . قال الله تعالى في الجمع {
وإن كنتم جنبا فاطهروا } . وقال بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم إني كنت جنبا
. وقد يقال جنبان وجنبون وأجناب
قوله ( فحاد عنه ) أي مال وعدل
قوله ( لا ينجس ) فيه لغتان ضم الجيم وفتحها وفي ماضيه أيضا لغتان نجس ونجس بكسر
الجيم وضمها فمن كسرها في الماضي فتحها في المضارع ومن ضمها في الماضي ضمها في
المضارع أيضا قال النووي : وهذا قياس مطرد ومعروف عند أهل العربية إلا أحرفا
مستثناة من الكسر
قوله ( إن المسلم ) تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر وحكاه في البحر عن الهادي والقاسم
والناصر ومالك فقالوا إن الكافر نجس عين وقووا ذلك بقوله تعالى { إنما المشركون
نجس } . وأجاب عن ذلك الجمهور بأن المراد منه أن المسلم طاهر الأعضاء لاعتياده
مجانبة النجاسة بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة وعن الآية بأن المراد إنهم نجس
في الاعتقاد والاستقذار وحجتهم على صحة هذا التأويل أن الله أباح نساء أهل الكتاب
ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلا مثل
ما يجب عليهم من غسل المسلمة . ومن جملة ما استدل به القائلون بنجاسة الكافر حديث
إنزاله صلى الله عليه و سلم وفد ثقيف المسجد وتقريره لقول الصحابة قوم أنجاس لما
رأوه أنزلهم المسجد
وقوله لأبي ثعلبة لما قال له : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إنا بأرض قوم أهل
الكتاب أفنأكل في آنيتهم قال : ( إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا
فاغسلوها وكلوا فيها ) وسيأتي في باب آنية الكفار
وأجاب الجمهور عن [ ص 26 ] حديث إنزال وفد ثقيف بأنه حجة عليهم لا لهم لأن قوله
ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاس القوم على أنفسهم بعد قول الصحابة
قوم أنجاس صريح في نفي النجاسة الحسية التي هي محل النزاع ودليل على أن المراد
نجاسة الاعتقاد والاستقذار . وعن حديث أبي ثعلبة بأن الأمر بغسل الآنية ليس
لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيها يدل على ذلك ما عند أحمد
وأبي داود من حديث أبي ثعلبة أيضا بلفظ : ( إن أرضنا أرض أهل كتاب وإنهم يأكلون
لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم ) وسيأتي
ومن أجوبة الجمهور عن الآية ومفهوم حديث الباب بأن ذلك تنفير عن الكفار وإهانة لهم
وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه و سلم توضأ
من مزادة مشركة وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد . وأكل من
الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر . وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى كما
أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر . وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إلى
ذلك يهودي وسيأتي في باب آنية الكفار وما سلف من مباشرة الكتابيات والإجماع على
جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها وتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة وهي
آخر ما نزل وإطعامه صلى الله عليه و سلم وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل
للآنية ولا أمر به ولم ينقل توقي رطوبات الكفار عن السلف الصالح ولو توقوها لشاع .
قال ابن عبد السلام : ليس من التقشف أن يقول أشتري من سمن المسلم لا من سمن الكافر
لأن الصحابة لم يلتفتوا إلى ذلك
وقد زعم المقبلي في المنار أن الاستدلال في الآية المذكورة على نجاسة الكافر وهم
لأنه حمل لكلام الله ورسوله على اصطلاح حادث وبين النجس في اللغة وبين النجس في
عرف المتشرعة عموم وخصوص من وجه فالأعمال السيئة نجسة لغة لا عرفا والخمر نجس عرفا
وهو أحد الأطيبين عند أهل اللغة والعذرة نجس في العرفين فلا دليل في الآية انتهى
ولا يخفاك أن مجرد تخالف اللغة والاصطلاح في هذه الأفراد لا يستلزم عدم صحة
الاستدلال بالآية على المطلوب والذي في كتب اللغة أن النجس ضد الطاهر قال في
القاموس : النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر انتهى . فالذي
ينبغي التعويل عليه في عدم صحة الاحتجاج بها هو ما عرفناك وحديث الباب أصل في
طهارة المسلم حيا وميتا أما الحي فإجماع وأما الميت [ ص 27 ] ففيه خلاف
فذهب أبو حنيفة ومالك ومن أهل البيت الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب إلى
نجاسته وذهب غيرهم إلى طهارته واستدل صاحب البحر للأولين على النجاسة بنزح زمزم من
الحبشي وهذا مع كونه من فعل ابن عباس كما أخرجه الدارقطني عنه وقول الصحابي وفعله
لا ينتهض للاحتجاج به على الخصم محتمل أن يكون للاستقذار لا للنجاسة ومعارض بحديث
الباب وبحديث ابن عباس نفسه عند الشافعي والبخاري تعليقا بلفظ : ( المؤمن لا ينجس
حيا ولا ميتا ) وبحديث أبي هريرة المتقدم . وبحديث ابن عباس أيضا عند البيهقي ( إن
ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم ) وترجيح رأي الصحابي على روايته عن
النبي صلى الله عليه و سلم ورواية غيره من الغرائب التي لا يدرى ما الحامل عليها
وفي الحديث من الفوائد مشروعية الطهارة عند ملابسة الأمور العظيمة واحترام أهل
الفضل وتوقيرهم ومصاحبتهم على أكمل الهيئات وإنما حاد حذيفة عن النبي صلى الله
عليه و سلم وانخنس أبو هريرة لأنه صلى الله عليه و سلم كان يعتاد مماسحة أصحابه
إذا لقيهم والدعاء لهم هكذا رواه النسائي وابن حبان من حديث حذيفة فلما ظنا أن
الجنب يتنجس بالحدث خشيا أن يماسحهما كعادته فبادرا إلى الاغتسال وإنما ذكر المصنف
رحمه الله هذا الحديث في باب طهارة الماء المتوضأ به لقصد تكميل الاستدلال على عدم
نجاسة الماء المتوضأ به لأنه إذا ثبت أن المسلم لا ينجس فلا وجه لجعل الماء نجسا
بمجرد مماسته له وسيأتي في هذا الكتاب باب معقود لعدم نجاسة المسلم بالموت وسيشير
المصنف إلى هذا الحديث هنالك
باب بيان زوال تطهيره
1 -
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( لا يغتسلن أحدكم في الماء
الدائم وهو جنب فقالوا يا أبا هريرة كيف يفعل قال يتناوله تناولا )
- رواه مسلم وابن ماجه . ولأحمد وأبي داود : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا
يغتسل فيه من جنابة )
-
قوله ( في الماء الدائم ) هو الساكن قال في الفتح : يقال دوم الطائر تدويما إذا صف
جناحيه في الهواء فلم يحركهما . والرواية الأولى من حديث الباب تدل على المنع من
الاغتسال في الماء الدائم للجنابة وإن لم يبل فيه . والرواية الثانية تدل على
المنع من كل [ ص 28 ] واحد من البول والاغتسال فيه على انفراده وسيأتي في باب حكم
الماء إذا لاقته نجاسة حديث أبي هريرة بلفظ ثم يغتسل فيه ويأتي البحث عن حكم البول
في الماء الدائم والاغتسال فيه هنالك
وقد استدل بالنهي عن الاغتسال في الماء الدائم على أن الماء المستعمل يخرج عن كونه
أهلا للتطهير لأن النهي ههنا عن مجرد الغسل فدل على وقوع المفسدة بمجرده وحكم
الوضوء حكم الغسل في هذا الحكم لأن المقصود التنزه عن التقرب إلى الله تعالى
بالمستقذرات والوضوء يقذر الماء كما يقذره الغسل . وقد ذهب إلى أن الماء المستعمل
غير مطهر أكثر العترة وأحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك في إحدى
الروايتين عنهما وأبو حنيفة في رواية عنه واحتجوا بهذا الحديث وبحديث النهي عن
التوضؤ بفضل وضوء المرأة واحتج لهم في البحر بما روي عن السلف من تكميل الطهارة
بالتيمم عند قلة الماء لا بما تساقط منه
وأجيب عن الاستدلال بحديث الباب بأن علة النهي ليست كونه يصير مستعملا بل مصيره
مستخبثا بتوارد الاستعمال فيبطل نفعه ويوضح ذلك قول أبي هريرة يتناوله تناولا
وباضطراب متنه وبأن الدليل أخص من الدعوى لأن غاية ما فيه خروج المستعمل للجنابة
والمدعى خروج كل مستعمل عن الطهورية وعن حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة
بمنع كون الفضل مستعملا ولو سلم فالدليل أخص من الدعوى لأن المدعى خروج كل مستعمل
عن الطهورية لا خصوص هذا المستعمل وبالمعارضة بما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ابن عباس
" أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يغتسل بفضل ميمونة " وأخرجه
أحمد أيضا وابن ماجه بنحوه من حديثه وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي
وصححه من حديثه بلفظ : ( اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في جفنة فجاء
النبي صلى الله عليه و سلم ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له يا رسول الله إني كنت
جنبا فقال إن الماء لا يجنب )
وأيضا حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة فيه مقال سيأتي بيانه في بابه وعن
الاحتجاج بتكميل السلف للطهارة بالتيمم لا بما تساقط بأنه لا يكون حجة إلا بعد
تصحيح النقل عن جميعهم ولا سبيل إلى ذلك لأن القائلين بطهورية المستعمل منهم
كالحسن البصري والزهري والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة في إحدى الروايات عن
الثلاثة المتأخرين ونسبه ابن حزم إلى عطاء وسفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل
الظاهر وبأن المتساقط قد فني لأنهم لم يكونوا يتوضئون إلى إناء والملتصق بالأعضاء
حقير لا يكفي بعض عضو من أعضاء الوضوء وبأن سبب الترك بعد [ ص 29 ] تسليم صحته عن
السلف وإمكان الانتفاع بالبقية هو الاستقذار وبهذا يتضح عدم خروج المستعمل عن
الطهورية وتحتم البقاء على البراءة الأصلية لا سيما بعد اعتضادها بكليات وجزئيات من
الأدلة كحديث ( خلق الماء طهورا ) وحديث مسحه صلى الله عليه و سلم رأسه بفضل ماء
كان بيده وسيأتي وغيرهما
وقد استدل المصنف رحمه الله بحديث الباب على عدم صلاحية المستعمل للطهورية فقال
وهذا النهي عن الغسل فيه يدل على أنه لا يصح ولا يجزئ وما ذاك إلا لصيرورته مستعملا
بأول جزء يلاقيه من المغتسل فيه وهذا محمول على الذي لا يحمل النجاسة فأما ما
يحملها فالغسل فيه مجزئ فالحدث لا يتعدى إليه حكمه من طريق الأولى انتهى
2 -
وعن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل حدثتني الربيع بنت معوذ بن عفراء
فذكر حديث وضوء النبي صلى الله عليه و سلم وفيه : ( ومسح صلى الله عليه و سلم رأسه
بما بقي من وضوئه في يده مرتين بدأ بمؤخره ثم رده إلى ناصيته وغسل رجليه ثلاثا
ثلاثا )
- رواه أحمد وأبو داود مختصرا ولفظه : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مسح
رأسه من فضل ماء كان بيديه ) قال الترمذي : عبد الله بن محمد بن عقيل صدوق ولكن
تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه . وقال البخاري : كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون
بحديثه
-
الخلاف بين الأئمة في الاحتجاج بحديث ابن عقيل مشهور وهو أبو محمد عبد الله بن
محمد بن عقيل بن أبي طالب . والكلام على أطراف هذا الحديث محله الوضوء . ومحل
الحجة منه مسح الرأس بما بقي من وضوء في يده فإنه مما استدل به على أن المستعمل
قبل انفصاله عن البدن يجوز التطهر به . قيل : وقد عارضه مع ما فيه من المقال أن
النبي صلى الله عليه و سلم مسح رأسه بماء غير فضل يديه كحديث مسلم ( أن النبي صلى
الله عليه و سلم مسح برأسه بماء غير فضل يديه ) وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن
زيد ( أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم توضأ وأنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه )
وأخرج أيضا من حديثه ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ لرأسه ماء جديدا ) وأخرج
ابن حبان في صحيحه من حديثه أيضا نحوه
وأنت خبير بأن كونه صلى الله عليه و سلم أخذ لرأسه ماء جديدا كما وقع في هذه
الروايات لا ينافي ما في حديث الباب من أنه صلى الله عليه و سلم مسح رأسه بما بقي
من وضوئه في يديه لأن التنصيص على شيء بصيغة لا تدل إلا على مجرد الوقوع ولم يتعرض
فيها لحصر على المنصوص عليه ولا نفى لما [ ص 30 ] عداه لا يستلزم عدم وقوع غيره .
والأولى الاحتجاج بما أخرجه الترمذي والطبراني من رواية ابن جارية بلفظ : ( خذ
للرأس ماء جديدا ) فإن صح هذا دل على أنه يجب أن يؤخذ للرأس ماء جديد ولا يجزئ
مسحه بفضل ماء اليدين ويكون المسح ببقية ماء اليدين إن صح حديث الباب مختصا به صلى
الله عليه و سلم لما تقرر في الأصول من أن فعله صلى الله عليه و سلم لا يعارض
القول الخاص بالأمة بل يكون مختصا به وذلك لأن أمره صلى الله عليه و سلم للأمة
أمرا خاصا بهم أخص من أدلة التأسي القاضية بإتباعه في أقواله وأفعاله فيبنى العام
على الخاص ولا يجب التأسي به في هذا الفعل الذي ورد أمر الأمة بخلافه وما نحن فيه
من هذا القبيل وإن كان خطابا لواحد لأنه يلحق به غيره إما بالقياس أو بحديث "
حكمي على واحد كحكمي على الجماعة " وهو إن لم يكن حديثا معتبرا عند أئمة
الحديث فقد شهد لمعناه حديث : " إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة "
ونحوه . قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث ما لفظه : وعلى تقدير أن يثبت أن
النبي صلى الله عليه و سلم مسح رأسه بما بقي من بلل يديه فليس يدل على طهورية
الماء المستعمل لأن الماء كلما تنقل في محال التطهير من غير مفارقة إلى غيرها
فعمله وتطهيره باق ولهذا لا يقطع عمله في هذه الحال تغيره بالنجاسات والطهارات
انتهى . وقد قدمنا ما هو الحق في الماء المستعمل
باب الرد على من جعل ما يغترف منه المتوضئ بعد غسل وجهه مستعملا
1 -
عن عبد الله بن زيد بن عاصم . أنه قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه و
سلم فدعا بإناء فأكفأ منه على يديه فغسلهما ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض
واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا ثم
أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح
برأسه فأقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول الله
صلى الله عليه و سلم
- متفق عليه ولفظه لأحمد
-
قوله ( فأكفأ منه ) أي أمال وصب وفي رواية لمسلم أكفأ منها أي المطهرة أو الأدواة
قوله ( ثم أدخل يده ) هكذا وقع في صحيح مسلم أدخل يده بلفظ الإفراد وكذا في أكثر
روايات البخاري وفي رواية له ( ثم أدخل يديه فاغترف بهما ) وفي أخرى له [ ص 31 ]
من حديث ابن عباس ( ثم أخذ غرفة فعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه
ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوضأ ) وفي سنن أبي داود
والبيهقي من رواية علي عليه السلام في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه و سلم (
ثم أدخل يديه في الإناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه ) فهذه
الروايات في بعضها يديه وفي بعضها يده فقط وفي بعضها يده وضم الأخرى إليها فهي دالة
على جواز الأمور الثلاثة وأنها سنة
قال النووي : ويجمع بين ذلك بأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك في مرات وهي
ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي ولكن الصحيح منها والمشهور الذي قطع به الجمهور ونص
عليه الشافعي في البويطي والمزني أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعا لكونه
أسهل وأقرب إلى الإسباغ
والكلام على أطراف الحديث يأتي في الوضوء إن شاء الله وإنما ساقه المصنف ههنا للرد
على من زعم أن الماء المغترف منه بعد غسل الوجه يصير مستعملا لا يصلح للطهورية وهي
مقالة باطلة يردها هذا الحديث وغيره . وقد زعم بعض القائلين بخروج المستعمل عن
الطهورية أن إدخال اليد في الإناء للغرفة التي يغسلها بها يصيره مستعملا وللحنفية
والشافعية وغيرهم مقالات في المستعمل ليس عليها أثارة من علم وتفصيلات وتفريعات عن
الشريعة السمحة السهلة بمعزل . وقد عرفت بما سلف أن هذه المسألة أعني خروج المستعمل
عن الطهورية مبنية على شفا جرف هار . ومن فوائد هذا الحديث جواز المخالفة بين غسل
أعضاء الوضوء لأنه اقتصر في غسل اليدين على مرتين بعد تثليث غيرهما
قوله ( فمسح برأسه ) لم يذكر فيه عددا كسائر الأعضاء وهكذا أطلق في حديث عثمان
المتفق عليه وصرح بواحدة في حديث على عليه السلام عند الترمذي وصححه . وفي حديث
ابن عباس عند أحمد وأبي داود وقد ورد التثليث في حديث علي عليه السلام من طريق
خالفت الحفاظ وكذلك في حديث عثمان من طريق فيها عبد الرحمن بن وردان وسيأتي بسط
الكلام على ذلك في الوضوء إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في فضل طهور المرأة
1 -
عن الحكم بن عمرو الغفاري : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يتوضأ
الرجل بفضل وضوء المرأة )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه والنسائي قالا ( وضوء المرأة ) وقال الترمذي : هذا
حديث حسن وقال ابن ماجه : وقد روي بعده حديثا آخر الصحيح الأول يعني حديث الحكم
-
الحديث صححه ابن حبان أيضا وقال البيهقي في سننه الكبرى : قال البخاري : حديث [ ص
32 ] الحكم ليس بصحيح . وقال النووي : اتفق الحفاظ على تضعيفه قال ابن حجر في
الفتح : وقد أغرب النووي بذلك وله شاهد عند أبي داود والنسائي من حديث رجل صحب
النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تغتسل
المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعا ) قال الحافظ في الفتح :
رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل
مردودة لأن إبهام الصحابي لا يضر وقد صرح التابعي بأنه لقيه . ودعوى ابن حزم أن
داود الذي رواه عن حميد بن عبد الرحمن الحميري هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف مردودة
فإنه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره وصرح الحافظ
أيضا في بلوغ المرام بأن إسناده صحيح
والحديث يدل على أنه لا يجوز للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة وقد ذهب إلى ذلك عبد
الله بن سرجس الصحابي ونسبه ابن حزم إلى الحكم بن عمرو راوي الحديث وجويرية أم
المؤمنين وأم سلمة وعمر بن الخطاب وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وهو أيضا
قول أحمد وإسحاق لكن قيداه بما إذا خلت به . وروي عن ابن عمر والشعبي والأوزاعي
المنع لكن مقيدا بما إذا كانت المرأة حائضا . ونقل الميموني عن أحمد أن الأحاديث
الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة وفي جوازه مضطربة لكن قال صح عن عدة من
الصحابة المنع فيما إذا خلت به وعورض بأن الجواز أيضا نقل عن عدة من الصحابة منهم
ابن عباس واستدلوا بما سيأتي من الأدلة . وقد جمع بين الأحاديث بحمل أحاديث النهي
على ما تساقط من الأعضاء لكونه قد صار مستعملا والجواز على ما بقي من الماء وبذلك
جمع الخطابي وأحسن منه ما جمع به الحافظ في الفتح من حمل النهي على التنزيه بقرينة
أحاديث الجواز الآتية
2 -
وعن ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يغتسل بفضل ميمونة )
- رواه أحمد ومسلم
3 -
وعن ابن عباس عن ميمونة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ بفضل غسلها من
الجنابة )
- رواه أحمد وابن ماجه
4 -
وعن ابن عباس قال : ( اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في جفنة فجاء
النبي صلى الله عليه و سلم ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له : يا رسول الله إني كنت
جنبا فقال : إن الماء لا يجنب )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال : حديث حسن صحيح
-
حديثه الأول من كونه في صحيح مسلم قد أعله قوم بتردد وقع في رواية عمرو بن دينار
حيث قال : وعلمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني فذكر الحديث . وقد [ ص
33 ] ورد من طريق أخرى بلا تردد . وأعل أيضا بعدم ضبط الراوي ومخالفته والمحفوظ ما
أخرجه الشيخان بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم وميمونة كانا يغتسلان من
إناء واحد ) . وحديثه الآخر أخرجه أيضا الدارقطني وصححه ابن خزيمة وغيره كذا قال
الحافظ في الفتح . وقال الدارقطني قد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة لأنه
كان يقبل التلقين لكن قد رواه شعبة وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم
قوله ( لا يجنب ) في نسخة بفتح الياء التحتية وفي أخرى بضمها فالأولى من جنب بضم
النون وفتحها والثانية من أجنب : قال في القاموس : وقد أجنب وجنب وجنب واستجنب وهو
جنب يستوي للواحد والجمع اه
وظاهر حديثي ابن عباس وميمونة معارض لحديث الحكم السابق وحديث الرجل الذي من
الصحابة فيتعين الجمع بما سلف ( لا يقال ) إن فعل النبي صلى الله عليه و سلم لا
يعارض قوله الخاص بالأمة لأنا نقول إن تعليله الجواز بأن الماء لا يجنب مشعر بعدم
اختصاص ذلك به . وأيضا النهي غير مختص بالأمة لأن صيغة الرجل تشمله صلى الله عليه
و سلم بطريق الظهور وقد تقرر دخول المخاطب في خطاب نفسه نعم لو لم يرد ذلك التعليل
كان فعله صلى الله عليه و سلم مخصصا له من عموم الحديثين السابقين
وقد نقل النووي الاتفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس وتعقبه الحافظ
بأن الطحاوي قد أثبت فيه الخلاف . قال المصنف رحمه الله تعالى : قلت وأكثر أهل
العلم على الرخصة للرجل من فضل طهور المرأة والإخبار بذلك أصح وكرهه أحمد وإسحاق
إذا خلت به وهو قول عبد الله بن سرجس وحملوا حديث ميمونة على أنها لم تخل به جمعا
بينه وبين حديث الحكم . فأما غسل الرجل والمرأة ووضوءهما جميعا فلا اختلاف فيه .
قالت أم سلمة : ( كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم من إناء واحد من
الجنابة ) متفق عليه . وعن عائشة قالت : ( كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه
و سلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة ) متفق عليه . وفي لفظ للبخاري :
( من إناء واحد نغترف منه جميعا ) . ولمسلم : ( من إناء بيني وبينه واحد فيبادرني
حتى أقول دع لي دع لي ) وفي لفظ النسائي : ( من إناء واحد يبادرني وأبادره حتى
يقول دعي لي وأنا أقول دع لي ) اه
وقد وافق المصنف في نقل الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الإناء الواحد
جميعا الطحاوي والقرطبي والنووي وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه
كان ينهى عنه وحكاه ابن عبد البر عن قوم
ومن جملة ما يدل على جواز الاغتسال [ ص 34 ] والوضوء للرجل والمرأة من الإناء
الواحد جميعا ما أخرج أبو داود من حديث أم صبية الجهنية قالت : ( اختلفت يدي ويد
رسول الله صلى الله عليه و سلم في الوضوء من إناء واحد ) ومن حديث ابن عمر قال : (
كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال مسدد من
الإناء الواحد جميعا ) قال في الفتح : ظاهره أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة
. وحكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضئون جميعا في موضع
واحد هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة والزيادة المتقدمة في قوله من إناء واحد ترد
عليه . وكأن هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب
وقد أجاب ابن التين عنه بما حكاه سحنون أن معناه كان الرجال يتوضئون ويذهبون ثم
يأتي النساء وهو خلاف الظاهر لأن قوله جميعا معناه ضد المفترق كما قال أهل اللغة .
وقد وقع مصرحا بوحدة الإناء في صحيح ابن خزيمة في هذا الحديث من طريق معتمر عن
عبيد الله عن نافع عن ابن عمر : ( أنه أبصر النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه
يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهرون منه ) . والأولى في الجواب أن
يقال لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب وأما بعده فيختص بالمحارم والزوجات
باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة
1 -
عن أبي سعيد الخدري قال : ( قيل يا رسول الله أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى
فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الماء طهور لا
ينجسه شيء )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : حديث حسن . وقال أحمد بن حنبل : حديث بئر
بضاعة صحيح . وفي رواية لأحمد وأبي داود : ( أنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر
تطرح فيها محايض النساء ولحم الكلاب وعذر الناس فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) . قال أبو داود : سمعت قتيبة بن سعيد قال : سألت
قيم بئر بضاعة عن عمقها قلت أكثر ما يكون فيها الماء قال : إلى العانة قلت : فإذا
نقص قال : دون العورة . قال أبو داود : قدرت بئر بضاعة بردائي فمددته عليها ثم
ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه هل غير
بناؤها عما كان عليه فقال : لا ورأيت فيها ماء متغير اللون . [ ص 35 ]
-
الحديث أخرجه أيضا الشافعي في الأم والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم
والبيهقي . وقد صححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم والحاكم وجوده أبو أسامة ونقل ابن
الجوزي أن الدارقطني قال : إنه ليس بثابت
قال في التلخيص ولم نر ذلك في العلل له ولا في السنن وأعله ابن القطان بجهالة
راويه عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه قال ابن القطان : وله طريق
أحسن من هذه ثم ساقها عن أبي سعيد وقال ابن منده في حديث أبي سعيد هذا إسناده
مشهور . وفي الباب عن جابر عند ابن ماجه بلفظ : ( إن الماء لا ينجسه شيء ) وفي
إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف متروك . وعن ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة
وابن حبان بنحوه . وعن سهل بن سعد عند الدارقطني . وعن عائشة عند الطبراني في
الأوسط وأبي يعلى والبزار وابن السكن في صحاحهم ورواه أحمد من طريق أخرى صحيحة
لكنه موقوف . وأخرجه أيضا بزيادة الاستثناء الدارقطني من حديث ثوبان ولفظه : (
الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه ) . وفي إسناده رشدين ابن
سعد وهو متروك . وعن أبي أمامة مثله عند ابن ماجه والطبراني وفيه أيضا رشدين ورواه
البيهقي بلفظ : ( إن الماء طهور إلا أن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه
) من طريق عطية بن بقية عن أبيه عن ثور عن راشد بن سعد عن أبي أمامة وفيه تعقب على
من زعم أن رشدين بن سعد تفرد بوصله . ورواه الطحاوي والدارقطني من طريق راشد بن
سعد مرسلا . وصحح أبو حاتم إرساله . وقال الشافعي لا يثبت أهل الحديث مثله وقال
الدارقطني لا يثبت هذا الحديث . وقال النووي : اتفق المحدثون على تضعيفه قال في
البدر المنير : فتلخص أن الاستثناء المذكور ضعيف فتعين الاحتجاج بالإجماع كما قال
الشافعي والبيهقي وغيرهما يعني الإجماع على أن المتغير بالنجاسة ريحا أو لونا أو
طعما نجس . وكذا نقل الإجماع ابن المنذر فقال : أجمع العلماء على أن الماء القليل
والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس انتهى . وكذا
نقل الإجماع المهدي في البحر
قوله ( أتتوضأ بتاءين مثناتين من فوق خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم كذا قال في
التلخيص
قوله ( النتن ) بنون مفتوحة وتاء مثناة من فوق ساكنة ثم نون قال ابن رسلان :
وينبغي أن يضبط بفتح النون وكسر التاء وهو الشيء الذي له رائحة كريهة من قولهم نتن
الشيء بكسر التاء ينتن بفتحها فهو نتن
قوله ( بئر بضاعة ) أهل اللغة يضمون الباء ويكسرونها والمحفوظ في الحديث الضم
قوله ( والحيض ) بكسر الحاء جمع حيضة بكسر الحاء أيضا مثل سدر وسدرة والمراد بها
خرقة الحيض التي تمسحه المرأة بها وقيل [ ص 36 ] الحيضة الخرقة التي تستثفر المرأة
بها
قوله ( وعذر الناس ) بفتح العين المهملة وكسر الذال المعجمة جمع عذرة ككلمة وكلم
وهي الخرء وأصلها اسم لفناء الدار ثم سمي بها الخارج من باب تسمية المظروف باسم
الظرف
قوله ( إلى العانة ) قال الأزهري وجماعة : هي موضع منبت الشعر فوق قبل الرجل
والمرأة
قوله ( دون العورة ) قال ابن رسلان : يشبه أن يكون المراد به عورة الرجل أي دون
الركبة لقوله صلى الله عليه و سلم ( عورة الرجل ما بين سرته وركبته )
قوله ( ماء متغير اللون ) قال النووي : يعني بطول المكث وأصل المنبع لا بوقوع شيء
أجنبي فيه . والحديث يدل على أن الماء لا يتنجس بوقوع شيء فيه سواء كان قليلا أو
كثيرا ولو تغيرت أوصافه أو بعضها لكنه قام الإجماع على أن الماء إذا تغير أحد
أوصافه بالنجاسة خرج عن الطهورية فكان الاحتجاج به لا بتلك الزيادة كما سلف فلا
ينجس الماء بما لاقاه ولو كان قليلا إلا إذا تغير . وقد ذهب إلى ذلك ابن عباس وأبو
هريرة والحسن البصري وابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى والثوري وداود الظاهري
والنخعي وجابر بن زيد ومالك والغزالي . ومن أهل البيت القاسم والإمام يحيى وذهب
ابن عمر ومجاهد والشافعية والحنفية وأحمد بن حنبل وإسحاق . ومن أهل البيت الهادي
والمؤيد بالله وأبو طالب والناصر إلى أنه ينجس القليل بما لاقاه من النجاسة وإن لم
تتغير أوصافه إذ تستعمل النجاسة باستعماله . وقد قال تعالى { والرجز فاهجر } ولخبر
الاستيقاظ وخبر الولوغ ولحديث " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ) وحديث
القلتين ولترجيح الحظر . ولحديث " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " عند
أحمد وأبي يعلى والطبراني وأبي نعيم مرفوعا . وحديث " دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك " أخرجه النسائي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم والترمذي من حديث الحسن
بن علي
قالوا : فحديث ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) مخصص بهذه الأدلة واختلفوا في حد
القليل الذي يجب اجتنابه عند وقوع النجاسة فيه فقيل ما ظن استعمالها باستعماله
وإليه ذهب أبو حنيفة والمؤيد بالله وأبو طالب وقيل دون القلتين على اختلاف في
قدرهما وإليه ذهب الشافعي وأصحابه والناصر والمنصور بالله وأجاب القائلون بأن
القليل لا ينجس بالملاقاة للنجاسة إلا أن يتغير باستلزام الأحاديث الواردة في
اعتبار الظن للدور لأنه لا يعرف القليل إلا بظن الاستعمال ولا يظن إلا إذا كان قليلا
وأيضا الظن لا ينضبط بل يختلف باختلاف الأشخاص وأيضا جعل ظن الاستعمال مناطا
يستلزم استواء القليل والكثير . وعن حديث القلتين بأنه مضطرب الإسناد والمتن كما
سيأتي
والحاصل أنه لا معارضة بين حديث القلتين وحديث الماء طهور [ ص 37 ] لا ينجسه شيء
فما بلغ مقدار القلتين فصاعدا فلا يحمل الخبث ولا ينجس بملاقاة النجاسة إلا أن
يتغير أحد أوصافه فنجس بالإجماع فيخص به حديث القلتين وحديث لا ينجسه شيء . وأما
ما دون القلتين فإن تغير خرج عن الطهارة بالإجماع وبمفهوم حديث القلتين فيخص بذلك
عموم حديث لا ينجسه شيء وإن لم يتغير بأن وقعت فيه نجاسة لم تغيره فحديث لا ينجسه
شيء يدل بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاة النجاسة وحديث القلتين يدل
بمفهومه على خروجه عن الطهورية بملاقاتها فمن أجاز التخصيص بمثل هذا المفهوم قال
به في هذا المقام ومن منع منه منعه فيه . ويؤيد جواز التخصيص بهذا المفهوم لذلك
العموم بقية الأدلة التي استدل بها القائلون بأن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة
فيه وإن لم تغيره كما تقدم وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو الصواب
فيها إلا الأفراد . وقد حققت المقام بما هو أطول من هذا وأوضح في طيب النشر على المسائل
العشر . وللناس في تقدير القليل والكثير أقوال ليس عليها أثارة من علم فلم نشتغل
بذكرها
2 -
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو
يسئل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال إذا كان
الماء قلتين لم يحمل الخبث )
- رواه الخمسة . وفي لفظ ابن ماجه ورواية لأحمد ( لم ينجسه شيء )
-
الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وقال
الحاكم : صحيح على شرطهما . وقد احتجا بجميع رواته واللفظ الآخر من حديث الباب
أخرجه أيضا الحاكم وأخرجه أبو داود بلفظ : ( لا ينجس ) وكذا أخرجه ابن حبان وقال
ابن منده : إسناد حديث القلتين على شرط مسلم انتهى
ومداره على الوليد بن كثير فقيل عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير وقيل عنه عن محمد
بن عباد بن جعفر وقيل عنه عن عبيد الله بن عمر وقيل عنه عن عبيد الله بن عبد الله
بن عمر . وهذا اضطراب في الإسناد وقد روي أيضا بلفظ : ( إذا كان الماء قدر قلتين
أو ثلاث لم ينجس ) كما في رواية لأحمد والدارقطني وبلفظ : ( إذا بلغ الماء قلة
فإنه لا يحمل الخبث ) كما في رواية للدارقطني وابن عدي والعقيلي وبلفظ ( أربعين
قلة ) عند الدارقطني وهذا اضطراب في المتن وقد أجيب عن دعوى الاضطراب في الإسناد
بأنه على تقدير أن يكون محفوظا من جميع تلك الطرق لا يعد اضطرابا لأنه انتقال من
ثقة إلى ثقة قال الحافظ : وعند [ ص 38 ] التحقيق إنه عن الوليد بن كثير عن محمد بن
عباد بن جعفر عن عبد الله بن عمر المكبر وعن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله
بن عبد الله بن عمر المصغر . ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم . وله طريق ثالثة
عند الحاكم جود إسنادها ابن معين
وعن دعوى الاضطراب في المتن بأن رواية أو ثلاث شاذة ورواية أربعين قلة مضطربة وقيل
أنهما موضوعتان ذكر معناه في البدر المنير . ورواية أربعين ضعفها الدارقطني
بالقاسم بن عبد الله العمري قال ابن عبد البر في التمهيد : ما ذهب إليه الشافعي من
حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر لأنه حديث تكلم فيه
جماعة من أهل العلم ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع
. وقال في الاستذكار : حديث معلول رده إسماعيل القاضي وتكلم فيه وقال الطحاوي :
إنما لم نقل به لأن مقدار القلتين لم يثبت . وقال ابن دقيق العيد : هذا الحديث قد
صححه بعضهم وهو صحيح على طريقة الفقهاء ثم أجاب عن الاضطراب
وأما التقييد بقلال هجر فلم يثبت مرفوعا إلا من رواية المغيرة بن صقلاب عند ابن
عدي وهو منكر الحديث قال النفيلي : لم يكن مؤتمنا على الحديث وقال ابن عدي : لا
يتابع على عامة حديثه ولكن أصحاب الشافعي قووا كون المراد قلال هجر بكثرة استعمال
العرب لها في أشعارهم كما قال أبو عبيد في كتاب الطهور . وكذلك ورد التقيد بها في
الحديث الصحيح قال البيهقي : قلال هجر كانت مشهورة عندهم ولهذا شبه رسول الله صلى
الله عليه و سلم ما رأى ليلة المعراج من نبق سدرة المنتهى بقلال هجر . قال الخطابي
: قلال هجر مشهورة الصنعة معلومة المقدار . والقلة لفظ مشترك وبعد صرفها إلى أحد
معلوماتها وهي الأواني تبقى مترددة بين الكبار والصغار والدليل على أنها من الكبار
جعل الشارع الحد مقدرا بعدد فدل على أنه أشار إلى أكبرها لأنه لا فائدة في تقديره
بقلتين صغيرتين مع القدرة على التقدير بواحدة كبيرة ولا يخفى ما في هذا الكلام من
التكلف والتعسف
قوله ( ما ينوبه ) هو بالنون أي يرد عليه نوبة بعد أخرى . وحكى الدارقطني أن ابن
المبارك صحفه فقال يثوبه بالثاء المثلثة
قوله ( لم يحمل الخبث ) هو بفتحتين النجس كما وقع تفسير ذلك بالنجس في الروايات
المتقدمة والتقدير لم يقبل النجاسة بل يدفعها عن نفسه ولو كان المعنى أنه يضعف عن
حملها ( 1 ) لم يكن للتقييد بالقلتين معنى فإن ما دونهما أولى بذلك وقيل [ ص 39 ]
معناه لا يقبل حكم النجاسة . وللخبث معان أخرى ذكرها في النهاية والمراد ههنا ما
ذكرنا
والحديث يدل على أن قدر القلتين لا ينجس بملاقاة النجاسة وكذا ما هو أكثر من ذلك
بالأولى ولكنه مخصص أو مقيد بحديث إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه وهو وإن كان
ضعيفا فقد وقع الإجماع على معناه وقد تقدم تحقيق الكلام والجمع بين الأحاديث
_________
( 1 ) بين النووي في شرح المهذب معنى الحمل وأنه على ضربين قال : إن الحمل ضربان
حمل جسم وحمل معنى فإذا قيل في حمل الجسم فلان لا يحمل الخشبة مثلا فمعناه لا يطيق
ذلك لثقله . وإذا قيل في حمل المعنى فلان لا يحمل الضيم فمعناه لا يقبله ولا
يلتزمه ولا يصبر عليه قال تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } معناه
لم يقبلوا أحكامها ولم يلتزموها . والماء من هذا الضرب لا يتشكك في هذا من له أدنى
فهم ومعرفة . والله أعلم
3 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يبولن أحدكم في الماء
الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه )
- رواه الجماعة وهذا لفظ البخاري ولفظ الترمذي ( ثم يتوضأ منه ) ولفظ الباقين ( ثم
يغتسل منه )
-
قوله ( الدائم ) تقدم تفسيره . قوله ( الذي لا يجري ) قيل هو تفسير للدائم وإيضاح
لمعناه وقد احترز به عن راكد يجري بعضه كالبرك . وقيل احترز به عن الماء الراكد
لأنه جار من حيث الصورة ساكن من حيث المعنى ولهذا لم يذكر البخاري هذا القيد حيث
جاء بلفظ الراكد بدل الدائم . وكذلك مسلم في حديث جابر وقال ابن الأنباري : الدائم
من حروف الأضداد يقال للساكن والدائر . وعلى هذا يكون قوله لا يجري صفة مخصصة لا
حد معنى المشترك . وقيل الدائم والراكد مقابلان للجاري لكن الدائم الذي له نبع
والراكد الذي لا نبع له
قوله ( ثم يغتسل فيه ) ضبطه النووي في شرح مسلم بضم اللام قال في الفتح : وهو
المشهور قال النووي أيضا : وذكر شيخنا أبو عبد الله ابن مالك أنه يجوز أيضا جزمه
عطفا على موضع يبولن ثم نصبه بإضمار أن وإعطاء ثم حكم واو الجمع فأما الجزم فلا
مخالفة بينه وبين الأحاديث الدالة على أنه يحرم البول في الماء الدائم على انفراده
والغسل على انفراده كما تقدم في باب بيان زوال تطهيره لدلالته على تساوي الأمرين
في النهي عنهما . وأما النصب فقال النووي : لا يجوز لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع
بينهما دون إفراد أحدهما وهذا لم يقله أحد بل البول فيه منهي عنه سواء أراد
الاغتسال فيه أم لا وضعفه ابن دقيق العيد بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام
المتعددة لفظ واحد فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب
ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر وتعقبه ابن هشام في المغني فقال إنه وهم وإنما
أراد ابن مالك إعطاءها حكمها في النصب لا في المعية . قال : وأيضا ما أورده إنما
جاء من قبيل المفهوم لا المنطوق وقد قام دليل [ ص 40 ] آخر على عدم إرادته ونظيره
إجازة الزجاج والزمخشري في قوله تعالى { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق }
كون تكتموا مجزوما وكونه منصوبا مع أن النصب معناه النهي اه . وقد اعترض الجزم
القرطبي بما حاصله أنه لو أراد النهي عنه لقال ثم يغتسلن بالتأكيد وتعقب بأنه لا
يلزم من تأكيد النهي أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكد لاحتمال أن يكون للتأكيد
معنى في أحدهما ليس في الآخر اه
والحاصل أنه قد ورد النهي عن مجرد الغسل من دون ذكر للبول كحديث أبي هريرة المتقدم
في باب بيان زوال تطهير الماء وورد النهي عن مجرد البول من دون ذكر للغسل كما في
صحيح مسلم أنه صلى الله عليه و سلم نهى عن البول في الماء الراكد والنهي عن كل
واحد منهما على انفراده يستلزم النهي عن فعلهما جميعا بالأولى
وقد ورد النهي عن الجمع بينهما في حديث الباب إن صحت رواية النصب والنهي عن كل
واحد منهما في حديث عند أبي داود ويدل عليه حديث الباب على رواية الجزم وأما على
رواية الرفع فقال القرطبي : إنه نبه بذلك على مآل الحال ومثله بقوله صلى الله عليه
و سلم " لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها " أي ثم هو يضاجعها
والمراد النهي عن الضرب لأن الزوج يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها فتمتنع لإساءته
إليها فيكون المراد ههنا النهي عن البول في الماء لأن البائل يحتاج في مآل حاله
إلى التطهر به فيمتنع ذلك للنجاسة . قال النووي : وهذا النهي في بعض المياه
للتحريم وفي بعضها للكراهة فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه ولكن
الأولى اجتنابه وإن كان قليلا جاريا فقد قال جماعة من أصحاب الشافعي يكره والمختار
أنه يحرم لأنه يقذره وينجسه ولأن النهي يقتضي التحريم عند المحققين والأكثرين من
أهل الأصول وهكذا إذا كان كثيرا راكدا أو قليلا لذلك قال : وقال العلماء من
أصحابنا وغيرهم يكره الاغتسال في الماء الراكد قليلا كان أو كثيرا وكذا يكره
الاغتسال في العين الجارية قال : وهذا كله على كراهة التنزيه لا التحريم انتهى
وينظر ما القرينة الصارفة للنهي عن التحريم ولا فرق في تحريم البول في الماء بين
أن يقع البول فيه أو في إناء ثم يصب إليه خلافا للظاهرية والتغوط كالبول وأقبح ولم
يخالف في ذلك أحد إلا ما حكى عن داود الظاهري . قال النووي : وهو خلاف الإجماع وهو
أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر . وقد نصر قول داود ابن حزم في المحلى وأورد
للفقهاء الأربعة من هذا الجنس الذي أنكره أتباعهم على داود شيئا واسعا . واعلم أنه
لا بد من إخراج هذا الحديث عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد لأن الاتفاق واقع على أن
[ ص 41 ] الماء المستبحر الكثير جدا لا تؤثر فيه النجاسة وحملته الشافعية على ما
دون القلتين لأنهم يقولون إن قدر القلتين فما فوقهما لا ينجس إلا بالتغير . وقيل
حديث القلتين عام في الأنجاس فيخص ببول الآدمي ورد بأن المعنى المقتضي للنهي هو
عدم التقرب إلى الله بالمتنجس وهذا المعنى يستوي فيه سائر النجاسات ولا يتجه تخصيص
بول الآدمي منها بالنسبة إلى هذا المعنى
قوله ( ثم يتوضأ منه ) فيه دليل على أن النهي لا يختص بالغسل بل الوضوء في معناه
ولو لم يرد هذا لكان معلوما لاستواء الوضوء والغسل في المعنى المقتضي للنهي كما
تقدم
قوله ( ثم يغتسل منه ) هذا اللفظ ثابت أيضا في البخاري من طريق أبي الزناد
وللبخاري ومسلم من طريق أخرى ( ثم يغتسل فيه ) قال ابن دقيق العيد : وكل واحد من
اللفظين يفيد حكما بالنص وحكما بالاستنباط انتهى وذلك لأن الرواية بلفظ فيه تدل
على منع الانغماس بالنص وعلى منع التناول بالاستنباط والرواية بلفظ منه بعكس ذلك .
وقد استدل بهذا الحديث أيضا على نجاسة المستعمل وعلى أنه طاهر مسلوب الطهورية وقد
تقدم الكلام على البحثين . قال المصنف رحمه الله تعالى : ومن ذهب إلى خبر القلتين
حمل هذا الخبر على ما دونهما وخبر بئر بضاعة على ما بلغهما جمعا بين الكل انتهى
وقد تقدم تحقيق ذلك
( باب أسآر البهائم ) ( 1 )
_________
( 1 ) الأسآر جمع سؤر مهموز وهو ما بقي في الإناء بعد شرب الحيوان أو أكله . قال
النووي في شرح المهذب : ومراد الفقهاء بقولهم سؤر الحيوان طاهر أو نجس لعابه
ورطوبة فمه
_________
حديث ابن عمر في القلتين يدل على نجاستهما وإلا يكون التحديد بالقلتين في جواب
السؤال عن ورودها عن الماء عبثا :
1 -
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( إذا ولغ الكلب في إناء
أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات )
- رواه مسلم والنسائي
-
الحديث له ألفاظ هذا أحدها . وفي الباب أحاديث منها عن عبد الله بن مغفل وسيأتي في
باب اعتبار العدد في الولوغ . وحديث ابن عمر الذي أشار إليه المصنف في القلتين
تقدم . وقد استدل به على نجاسة أسآر البهائم لما ذكره
قوله ( إذا ولغ ) قال في الفتح : يقال ولغ يلغ بالفتح فيهما إذا شرب بطرف لسانه
فيه فحركه قال ثعلب : [ ص 42 ] هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه
زاد ابن درستويه شرب أو لم يشرب قال مكي : فإن كان غير مائع يقال لعقه
قوله ( في إناء أحدكم ) ظاهره العموم في الآنية وهو يخرج ما كان من المياه في غير
الآنية وقيل أصل الغسل معقول المعنى وهو النجاسة فلا فرق بين الإناء وغيره . وقال
العراقي : ذكر الإناء خرج مخرج الأغلب لا للتقييد
قوله ( فليرقه ) قال النسائي : لم يذكر فليرقه غير علي بن مسهر . وقال ابن منده :
تفرد بذكر الإراقة فيه علي بن مسهر ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه و سلم بوجه من
الوجوه . قال الحافظ : ورد الأمر بالإراقة عند مسلم من طريق الأعمش عن أبي صالح في
صحيحه ورواه مسلم بزيادة : ( أولاهن بالتراب ) كما سيأتي . والحديث يدل على وجوب
الغسلات السبع من ولوغ الكلب وإليه ذهب ابن عباس وعروة بن الزبير ومحمد بن سيرين
وطاوس وعمرو بن دينار والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور
وأبو عبيد وداود
وذهبت العترة والحنفية إلى عدم الفرق بين لعاب الكلب وغيره من النجاسات وحملوا
حديث السبع على الندب واحتجوا بما رواه الطحاوي والدارقطني موقوفا على أبي هريرة
أنه يغسل من ولوغه ثلاث مرات وهو الراوي للغسل سبعا فثبت بذلك نسخ السبع وهو مناسب
لأصل بعض الحنفية من وجوب العمل بتأويل الراوي وتخصيصه ونسخه وغير مناسب لأصول
الجمهور من عدم العمل به . ويحتمل أن أبا هريرة أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا
وجوبها أو أنه نسي ما رواه . وأيضا قد ثبت عنه أنه أفتى بالغسل سبعا ورواية من روى
عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن
حيث النظر أما من حيث الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن
سرين عنه وهذا من أصح الأسانيد والمخالفة من رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن
عطاء عنه وهو دون الأول في القوة بكثير قاله الحافظ في الفتح . وأما من حيث النظر
فظاهر . وأيضا قد روى التسبيع غير أبي هريرة فلا يكون مخالفة فتياه قادحة في مروي
غيره وعلى كل حال فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم
ومن جملة أعذراهم عن العمل بالحديث أن العذرة أشد نجاسة من سؤر الكلب ولم تقيد
بالسبع فيكون الولوغ كذلك من باب الأولى ورد بأنه لا يلزم من كونها أشد في
الاستقذار أن لا يكون الولوغ أشد منها في تغليظ الحكم وبأنه قياس في مقابلة النص الصريح
وهو فاسد الاعتبار . ومنها أيضا أن الأمر [ ص 43 ] بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب
فلما نهى عن قتلها نسخ الأمر بالغسل وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة
والأمر بالغسل متأخر جدا لأنه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وكان إسلامهما
سنة سبع وسياق حديث ابن مغفل الآتي ظاهر في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل
الكلاب . وقد اختلف أيضا في وجوب التتريب للإناء الذي ولغ فيه الكلب وسيأتي بيان
ذلك في باب اعتبار العدد
واستدل بهذا الحديث أيضا على نجاسة الكلب لأنه إذا كان لعابه نجسا وهو عرق فمه
ففمه نجس ويستلزم نجاسة سائر بدنه وذلك لأن لعابه جزء من فمه وفمه أشرف ما فيه
فبقية بدنه أولى وقد ذهب إلى هذا الجمهور . وقال عكرمة ومالك في رواية عنه أنه
طاهر . ودليلهم قول الله تعالى { فكلوا مما أمسكن عليكم } ولا يخلو الصيد من
التلوث بريق الكلاب ولم نؤمر بالغسل وأجيب عن ذلك بأن إباحة الأكل مما أمسكن لا
تنافي وجوب تطهير ما تنجس من الصيد وعدم الأمر للاكتفاء بما في أدلة تطهير النجس
من العموم ولو سلم فغايته الترخيص أو في الصيد بخصوصه . واستدلوا أيضا بما ثبت عن
أبي داود من حديث ابن عمر بلفظ : ( كانت الكلاب تقبل وتدبر في زمان رسول الله صلى
الله عليه و سلم في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ) وهو في البخاري .
وأخرجه الترمذي بزيادة وتبول ورد بأن البول مجمع على نجاسته فلا يصلح حديث بول
الكلاب في المسجد حجة يعارض بها الإجماع . وأما مجرد الإقبال والإدبار فلا يدلان
على الطهارة وأيضا يحتمل أن يكون ترك الغسل لعدم تعيين موضع النجاسة أو لطهارة
الأرض بالجفاف . قال المنذري : إنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل
وتدبر في المسجد . قال الحافظ : والأقرب أن يقال أن ذلك كان في ابتداء الحال على
أصل الإباحة ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها
واستدلوا على الطهارة أيضا بما سيأتي من الترخيص في كلب الصيد والماشية والزرع
وأجيب بأنه لا منافاة بين الترخيص وبين الحكم بالنجاسة غاية الأمر أنه تكليف شاق
وهو لا ينافي التعبد به
باب سؤر الهر
1 -
عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة : ( أن أبا قتادة دخل عليها
فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت منه قالت كبشة فرآني
أنظر فقال : أتعجبين يا ابنة أخي فقلت : نعم فقال : إن رسول الله صلى الله [ ص 44
] عليه وسلم قال : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات )
- رواه الخمسة وقال الترمذي : حديث حسن صحيح
2 -
وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم : ( أنه كان يصغي إلى الهرة الإناء حتى
تشرب ثم يتوضأ بفضلها )
- رواه الدارقطني
-
الحديث الأول أخرجه أيضا البيهقي وصححه البخاري والعقيلي وابن خزيمة وابن حبان
والحاكم والدارقطني وأعله ابن منده بأن حميدة الراوية له عن كبشة مجهولة وكذلك
كبشة قال : ولم يعرف لهما إلا هذا الحديث وتعقبه الحافظ بأن لحميدة حديثا آخر في
تشميت العاطس رواه أبو داود ولها ثالث رواه أبو نعيم في المعرفة . وقد روي عنها مع
إسحاق ابنه يحيى وهو ثقة عند ابن معين فارتفعت جهالتها . وأما كبشة فقيل إنها
صحابية فإن ثبت فلا يضر الجهل بحالها على ما هو الحق من قبول مجاهيل الصحابة وقد
حققنا ذلك في القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول
وفي الباب عن جابر عند ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ مثله
-
والحديث الثاني الذي رواه الدارقطني عن عائشة قد اختلفت فيه على عبد ربه وهو عبد
الله بن سعيد المقبري ورواه الدارقطني من وجه آخر من عائشة وفيه الواقدي وروي من
طرق أخر كلها واهية
والحديثان يدلان على طهارة فم الهرة وطهارة سؤرها وإليه ذهب الشافعي ( 1 ) والهادي
وقال أبو حنيفة : بل نجس كالسبع لكن خفف فيه فكره سؤره واستدل بما ورد عنه صلى
الله عليه و سلم من أن الهرة سبع في حديث أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي
من حديث أبي هريرة بلفظ : ( السنور سبع ) وبما تقدم من قوله صلى الله عليه و سلم
عند سؤاله عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال ( إذا كان الماء قلتين لم
ينجسه شيء ) وأجيب بأن حديث الباب مصرح بأنها ليست بنجس فيخصص به عموم حديث السباع
بعد تسليم ورود ما يقضي بنجاسة السباع . وأما مجرد الحكم عليها بالسبعية فلا
يستلزم أنها نجس إذ لا ملازمة بين النجاسة والسبعية على أنه قد أخرج الدارقطني من
حديث أبي هريرة قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الحياض التي تكون [
ص 45 ] بين مكة والمدينة فقيل إن الكلاب والسباع ترد عليها فقال لها ما أخذت في
بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور ) وأخرج الشافعي والدارقطني والبيهقي في المعرفة
وقال : له أسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض كانت قوية بلفظ : ( أنتوضأ بما أفضلت الحمر
قال : نعم وبما أفضلت السباع كلها ) . وأخرج الدارقطني وغيره عن ابن عمر قال : (
خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره فسار ليلا فمروا على رجل جالس عند
مقراة له وهو الحوض الذي يجتمع فيه الماء فقال عمر : أولغت السباع عليك الليلة في
مقراتك فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف
لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور ) وهذه الأحاديث مصرحة بطهارة ما
أفضلت السباع
وحديث عائشة المذكور في الباب نص في محل النزاع وأيضا حديث أبي هريرة الذي استدل
به أبو حنيفة فيه مقال . ويمكن حمل حديث القلتين المتقدم على أنه إنما كان كذلك
لأن ورودها على الماء مظنة لإلقائها الأبوال والأزبال عليه
قوله ( فأصغى لها الإناء ) هو بالصاد المهملة بعدها غين معجمة ذكره في الأساس .
وقال أصغى الإناء للهرة أماله . وفي القاموس وأصغى استمع وإليه مال بسمعه والإناء
أماله
قوله ( إنها من الطوافين ) الخ تشبيه للهرة بخدم البيت الذين يطوفون للخدمة
_________
( 1 ) مذهب الشافعي في سؤر الهرة طاهر غير مكروه وكذا سؤر جميع الحيوانات من الخيل
والبغال والحمير والسباع والحيات وسائر الحيوانات المأكول وغير المأكول إلا الكلب
والخنزير وفرع أحدهما . وحكى الماوردي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي وأبي هريرة
والحسن البصري وعطاء والقاسم بن محمد . وأما أبو حنيفة فقد كره سؤر الهر وابن أبي
ليلى وكذا كرهه ابن عمر . وقال ابن المسيب وابن سيرين : يغسل الإناء من ولوغه مرة
. وعن طاوس قال : يغسل سبعا . وذهب جمهور العلماء إلى عدم الكراهة
أبواب تطهير النجاسة وذكر ما نص عليه منها
باب اعتبار العدد في الولوغ
1 -
عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا شرب الكلب في إناء
أحدكم فليغسله سبعا )
- متفق عليه . ولأحمد ومسلم : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع
مرات أولاهن بالتراب )
2 -
وعن عبد الله بن مغفل قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتل الكلاب ثم
قال : ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم وقال إذا ولغ الكلب في
الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب )
- رواه الجماعة إلا الترمذي والبخاري . وفي رواية لمسلم : ( ورخص في كلب الغنم
والصيد والزرع )
-
الحديثان يدلان على أنه يغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات وقد تقدم ذكر
الخلاف في ذلك وبيان ما هو الحق في باب أسآر البهائم
قوله ( أولاهن بالتراب ) [ ص 46 ] لفظ الترمذي والبزار أولاهن أو أخراهن ولأبي
داود السابعة بالتراب وفي رواية صحيحة للشافعي أولاهن أو أخراهن بالتراب . وفي
رواية لأبي عبيد القاسم بن سلام في كتاب الطهور له إذا ولغ الكلب في الإناء غسل
سبع مرات أولاهن أو إحداهن بالتراب وعند الدارقطني بلفظ : إحداهن أيضا وإسناده
ضعيف فيه الجارود بن يزيد وهو متروك والذي في حديث عبد الله بن مغفل المذكور في
الباب بلفظ : ( وعفروه الثامنة بالتراب ) أصح من رواية إحداهن
قال في البدر المنير : بإجماعهم وقال ابن منده : إسناده مجمع على صحته وهي زيادة
ثقة فتعين المصير إليها وقد ألزم الطحاوي الشافعية بذلك واعتذار الشافعي بأنه لم
يقف على صحة هذا الحديث لا ينفع الشافعية فقد وقف على صحته غيره لا سيما مع وصيته
بأن الحديث إذا صح مذهبه فتعين حمل المطلق على المقيد
وأما قول ابن عبد البر لا أعلم أحدا أفتى بأن غسلة التراب غير الغسلات السبع
بالماء غير الحسن فلا يقدح ذلك في صحة الحديث وتحتم العمل به وأيضا قد أفتى بذلك
أحمد بن حنبل وغيره وروى عن مالك أيضا ذكر ذلك الحافظ ابن حجر . وجواب البيهقي عن
ذلك بأن أبا هريرة أحفظ من غيره فروايته أرجح وليس فيها هذه الزيادة مردود بأن في
حديث عبد الله بن مغفل زيادة وهو مجمع على صحته وزيادة الثقة يتعين المصير إليها
إذا لم تقع منافية
وقد خالفت الحنفية والعترة في وجوب التتريب كما خالفوا في التسبيع ووافقهم ههنا
المالكية مع إيجابهم التسبيع على المشهور عندهم . قالوا : لأن التتريب لم يقع في
رواية مالك قال القرافي منهم : قد صحت فيه الأحاديث فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها
وقد اعتذر القائلون بأن التتريب غير واجب بأن رواية التتريب مضطربة لأنها ذكرت بلفظ
أولاهن وبلفظ أخراهن وبلفظ إحداهن وفي رواية السابعة وفي رواية الثامنة والاضطراب
يوجب الاطراح . وأجيب بأن المقصود حصول التتريب في مرة من المرات وبأن إحداهن
مبهمة وأولاهن معينة وكذلك أخراهن والسابعة والثامنة ومقتضى حمل المطلق على المقيد
أن تحمل المبهمة على إحدى المرات المعينة ورواية أولاهن أرجح من حيث الأكثرية
والأحفظية ومن حيث المعنى أيضا لأن تتريب الآخرة يقتضي الاحتياج إلى غسله أخرى
لتنظيفه وقد نص الشافعي على أن الأولى أولى كذا في الفتح
وقد وقع الخلاف هل يكون التتريب في الغسلات السبع أو خارجا عنها . وظاهر حديث عبد
الله بن مغفل أنه خارج عنها وهو أرجح من غيره لما عرفت فيما تقدم
قوله ( ما بالهم وبال الكلاب ) فيه دليل على تحريم قتل الكلاب وقد اشتهر في السنة
إذنه صلى الله عليه و سلم بقتل الكلاب . وسبب ذلك كما في صحيح مسلم أنه وعده جبريل
[ ص 47 ] عليه السلام أن يأتيه فلم يأته فقال النبي صلى الله عليه و سلم أم والله
ما أخلفني فظل رسول الله صلى الله عليه و سلم يومه ذلك ثم وقع في نفسه جرو وكلب
تحت فسطاط فأمر به فأخرج فأتاه جبريل فقال له : قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة
فقال : أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب فأصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر
بقتل الكلاب ثم ثبت عنه صلى الله عليه و سلم النهي عن قتلها ونسخه وقد عقد الحازمي
في الاعتبار لذلك بابا وثبت عنه صلى الله عليه و سلم الترخيص في كلب الصيد والزرع
والماشية والمنع من اقتناء غير ذلك وقال : ( من اقتنى كلبا ليس كلب صيد ولا ماشية
نقص من عمله كل يوم قيراط ) . وثبت عنه الأمر بقتل الكلب الأسود البهيم ذي
النقطتين وقال إنه شيطان . وللبحث في هذا موطن آخر ليس هذا محله فلنقتصر على هذا
المقدار وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في أبواب الصيد
باب الحت والقرص والعفو عن الأثر بعدهما
1 -
عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت
إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع فقال تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم
تصلي فيه )
- متفق عليه
-
قوله جاءت امرأة في رواية للشافعي أنها أسماء قال في الفتح : وأغرب النووي فضعف
هذه الرواية بلا دليل وهي صحيحة الإسناد لا علة لها . ولا بعد في أن يبهم الراوي
اسم نفسه
قوله ( من دم الحيضة ) بفتح الحاء أي الحيض قاله النووي
قوله ( تحته ) بفتح الفوقانية وضم المهملة وتشديد المثناة الفوقانية أي تحكه .
وكذا رواه ابن خزيمة والمراد بذلك إزالة عينه
قوله ( ثم تقرصه ) بفتح أوله وإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين وحكى القاضي
عياض وغيره فيه ضم المثناة من فوق وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة أي تدلك موضع
الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما يشربه الثوب منه ومنه تقريص العجين قاله
أبو عبيدة . وسئل الأخفش عنه فضم إصبعيه الإبهام والسبابة وأخذ شيئا من ثوبه بهما
وقال : هكذا تفعل بالماء في موضع الدم وورد في رواية ذكر الغسل مكان القرص . روى
ذلك الشيخ تقي الدين من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء
قالت : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وسألته امرأة عن دم الحيض يصيب ثوبها
فقال اغسليه ) . وأخرجه الشافعي من حديث سفيان عن هشام عن فاطمة عن أسماء قالت : (
سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن دم الحيضة يصيب [ ص 48 ] الثوب فقال حتيه
ثم اقرصيه بالماء ورشيه وصلي فيه ) ورواه عن مالك عن هشام بلفظ : ( أن امرأة سألت
) ورواه ابن ماجه بلفظ : ( اقرصيه واغسليه وصلي فيه ) وابن أبي شيبة بلفظ : (
اقرصيه بالماء واغسليه وصلي فيه ) وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن
خزيمة وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن : ( أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و
سلم عن دم الحيضة يصيب الثوب فقال حكيه بصلع واغسليه بماء وسدر ) . قال ابن القطان
: إسناده في غاية الصحة ولا أعلم له علة والصلع بفتح الصاد المهملة وإسكان اللام
ثم عين هو الحجر ذكره الحافظ في التلخيص عن ابن دقيق العيد قال : وقال ووقع في بعض
المواضع بكسر الضاد المعجمة ولعله تصحيف لأنه لا معنى يقتضي تخصيص الصلع بذلك لكن
قال الصنعاني في العباب في مادة ضلع بالمعجمة وفي الحديث حتيه بصلع قال ابن
الأعرابي الضلع ههنا العود الذي فيه الاعوجاج وكذا ذكره الأزهري في مادة الضاد
المعجمة
قوله ( ثم تنضحه ) بفتح الضاد المعجمة أي تغسله قاله الخطابي وقال القرطبي :
المراد به الرش لأن غسل الدم استفيد من قوله تقرصه وأما النضح فهو لما شكت فيه من
الثوب قال في الفتح : وعلى هذا فالضمير في تنضحه يعود على الثوب بخلاف حتيه فإنه
يعود على الدم فيلزم منه اختلاف الضمائر وهو على خلاف الأصل ثم إن الرش على
المشكوك فيه لا يفيد شيئا لأنه إن كان طاهرا فلا حاجة إليه وإن كان متنجسا لم
يتطهر بذلك فالأحسن ما قاله الخطابي الحديث فيه دليل على أن النجاسات إنما تزال
بالماء دون غيره من المائعات قاله الخطابي والنووي قال في الفتح لأن جميع النجاسات
بمثابة الدم ولا فرق بينه وبينها إجماعا قال وهو قول الجمهور أي تعين الماء لإزالة
النجاسة . وعن أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر وهو مذهب
الداعي من أهل البيت واحتجوا بقول عائشة ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه
فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت بريقها فمصعته بظفرها
وأجيب بأنها ربما فعلت ذلك تحليلا لأثره ثم غسلته بعد ذلك والحق أن الماء أصل في
التطهير لوصفه بذلك كتابا وسنة وصفا مطلقا غير مقيد لكن القول بتعينه وعدم إجزاء
غيره يرده حديث مسح النعل وفرك المني وحته وإماطته بأذخرة وأمثال ذلك كثير ولم يأت
دليل يقضي بحصر التطهير في الماء ومجرد الأمر به في بعض النجاسات لا يستلزم الأمر
به مطلقا وغايته تعينه في ذلك المنصوص بخصوصه إن سلم . فالإنصاف أن يقال أنه يطهر
كل فرد من أفراد النجاسة المنصوص على تطهيرها بما اشتمل عليه النص إن كان فيه إحالة
على فرد من أفراد المطهرات لكنه إن كان ذلك [ ص 49 ] الفرد المحال عليه هو الماء
فلا يجوز العدول إلى غيره للمزية التي اختص بها وعدم مساواة غيره له فيها وإن كان
ذلك الفرد غير الماء جاز العدول عنه إلى الماء لذلك وإن وجد فرد من أفراد النجاسة
لم يقع من الشارع الإحالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهرات بل مجرد الأمر
بمطلق التطهير فالاقتصار على الماء هو اللازم لحصول الامتثال به بالقطع وغيره
مشكوك فيه وهذه طريقة متوسطة بين القولين لا محيص عن سلوكها
( فإن قلت ) مجرد وصف الماء بمطلق الطهورية لا يوجب له المزية فإن التراب يشاركه
في ذلك قلت وصف التراب بالطهورية مقيد بعدم وجدان الماء بنص القرآن فلا مشاركة
بذلك الاعتبار ( واعلم ) أن دم الحيض نجس بإجماع المسلمين كما قال النووي .
وللحديث فوائد منها ما يأتي بيانه في باب الحيض ومنها ما ذكره المصنف ههنا فقال :
وفيه دليل على أن دم الحيض لا يعفى عن يسيره وإن قل لعمومه وأن طهارة السترة شرط
للصلاة وأن هذه النجاسة وأمثالها لا يعتبر فيها تراب ولا عدد وأن الماء متعين
لإزالة النجاسة اه . وقد عرفت ما سلف
2 -
وعن أبي هريرة : ( أن خولة بنت يسار قالت : يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد وأنا
أحيض فيه قال : فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه قالت : يا رسول الله إن لم
يخرج أثره قال : يكفيك الماء ولا يضرك أثره )
- رواه أحمد وأبو داود
3 -
وعن معاذة قالت : ( سألت عائشة عن الحائض يصيب ثوبها الدم فقالت : تغسله فإن لم
يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة قالت : ولقد كنت أحيض عند رسول الله صلى الله عليه
و سلم ثلاث حيض جميعا لا أغسل لي ثوبا )
- رواه أبو داود
-
الحديث الأول أخرجه الترمذي أيضا وأخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي من طريقين عن
خولة بنت يسار وفيه ابن لهيعة
قال إبراهيم الحربي لم يسمع بخولة بنت يسار إلا في هذا الحديث قال ابن حجر :
وإسناده ضعيف . ورواه الطبراني في الكبير من حديث خولة بنت حكيم الأنصارية . قال
ابن حجر أيضا وإسناده أضعف من الأول
-
والحديث الثاني أخرجه أيضا الدارمي
قوله ( ولا يضرك أثره ) استدل به على عدم وجوب استعمال الحواد وهو مذهب الناصر
والمنصور بالله وكثير من أصحاب الشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة . وذهب الشافعي
ورواه الإمام يحيى عن العترة إلى أنه يجب استعمال الحاد المعتاد لما أخرجه أحمد
وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن
مرفوعا بلفظ : ( حكيه بضلع [ ص 50 ] واغسليه بماء وسدر ) . قال ابن القطان :
إسناده في غاية الصحة . وأجيب بأنه لا يفيد المطلوب لأن الحك إنما هو الفرك
بالأصابع والنزاع في غيره ويرد بأن آخر الحديث وهو قوله ( واغسليه بماء وسدر ) يدل
على وجوب استعمال الحاد
وكذلك قوله في حديث عائشة المذكور ( فلتغيره بشيء من صفرة ) وأجيب بأن التغيير ليس
بإزالة ويؤيده ما في آخر الحديث من قولها ( ولقد كنت أحيض عند رسول الله صلى الله
عليه و سلم ثلاث حيض لا أغسل ) ويرد بأن مجرد استعمال الصفرة يفيد المطلوب
كاستعمال السدر . وقيل يكون استعمال الحواد مندوبا جمعا بين الأدلة . ويستفاد من
قوله لا يضرك أثره إن بقاء أثر النجاسة الذي عسرت إزالته لا يضر لكن بعد التغيير
بزعفران أو صفرة أو غيرهما حتى يذهب لون الدم لأنه مستقذر وربما نسبها من رآه إلى
التقصير في إزالته
قوله ( لا أغسل لي ثوبا ) فيه دليل على أن ما كان الأصل فيه الطهارة فهو باق على
طهارته حتى تظهر فيه نجاسة فيجب غسلها
باب تعين الماء لإزالة النجاسة
1 -
عن عبد الله بن عمر : ( أن أبا ثعلبة قال يا رسول الله أفتنا في آنية المجوس إذا
اضطررنا إليها قال إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء واطبخوا فيها )
- رواه أحمد
2 -
وعن أبي ثعلبة الخشني : ( أنه قال يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل الكتاب فنطبخ في
قدورهم ونشرب في آنيتهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لم تجدوا غيرها
فأرحضوها بالماء )
- رواه الترمذي وقال : حسن صحيح . والرحض الغسل
-
الحديث الثاني يشهد لصحة الحديث الأول وهو متفق عليه من حديث أبي ثعلبة بلفظ : (
قال قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم قال إن وجدتم غيرها
فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها ) وفي رواية لأحمد وأبي داود :
( إن أرضنا أرض أهل الكتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع
بآنيتهم وقدورهم قال إن لم تجدوا غيرها فأرحضوها بالماء واطبخوا فيها واشربوا )
وفي لفظ للترمذي : ( فقال أنقوها غسلا واطبخوا فيها )
وقد استدل المصنف رحمه الله بما ذكره في الباب على أنه يتعين الماء لإزالة النجاسة
وكذلك فعل غيره ولا يخفاك أن مجرد الأمر به لإزالة خصوص هذه النجاسة لا يستلزم أنه
يتعين لكل نجاسة فالتنصيص عليه في هذه النجاسة الخاصة لا ينفي إجزاء ما عداه من [
ص 51 ] المطهرات فيما عداها فلا حصر على الماء ولا عموم باعتبار المغسول فأين دليل
التعين المدعى . وقد تقدم في باب الحت والقرص ما هو الحق
وقد استدل بالحديث أيضا على نجاسة الكفار وقد تقدم في باب طهارة الماء المتوضأ به
ما فيه كفاية . وسيأتي لذلك مزيد تحقيق إن شاء الله في باب آنية الكفار
باب تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة
1 -
عن أبي هريرة قال : ( قام أعرابي فبال في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به فقال
النبي صلى الله عليه و سلم دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء
فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )
- رواه الجماعة إلا مسلما
-
قوله ( قام أعرابي ) قال الحافظ في الفتح : زاد ابن عيينة عند الترمذي وغيره في
أوله ( أنه صلى ثم قال اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فقال النبي صلى
الله عليه و سلم لقد تحجرت واسعا فلم يلبث أن بال في المسجد ) وقد أخرج هذه
الزيادة البخاري في الأدب من صحيحه . وروى ابن ماجه الحديث تاما من حديث أبي هريرة
وحديث واثلة بن الأسقع . وأخرجه أبو موسى المديني أيضا من رواية سليمان بن يسار
والأعرابي المذكور قيل هو ذو الخويصرة اليماني ذكره أبو موسى المديني . وقيل هو
الأقرع بن حابس التميمي حكاه التاريخي عن عبد الله بن نافع المدني . وقيل هو عيينة
بن حصن قاله أبو الحسين بن فارس
قوله ( ليقعوا به ) في رواية عند البخاري فزجره الناس . وفي أخرى له فثار إليه
الناس . وفي أخرى له أيضا فتناوله الناس . وله أيضا من حديث أنس فقال الصحابة مه
مه وسيأتي . وللبيهقي فصاح به الناس وكذا النسائي
قوله ( سجلا ) بفتح المهملة وسكون الجيم . قال أبو حاتم السجستاني : هو الدلو ملأى
ولا يقال لها ذلك وهي فارغة . وقال ابن دريد : السجل دلو واسعة وفي الصحاح : الدلو
الضخمة وقد تقدم إشارة إلى بعض هذا في أول الكتاب
قوله ( ذنوبا ) قال الخليل : هو الدلو الملأى . وقال ابن فارس : الدلو العظيمة .
وقال ابن السكيت : فيها ماء قريب من الملء . ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب فتكون أو
للشك من الراوي أو للتخيير والمراد بقوله من ماء مع أن الذنوب من شأنها ذلك رفع
الاشتباه لأن الذنوب مشترك بينه وبين الفرس الطويل وغيرهما
قوله ( فإنما بعثتم ) إسناد البعث إليهم على طريق المجاز لأنه هو المبعوث صلى الله
عليه و سلم بما ذكر لكنهم لما كانوا [ ص 52 ] في مقام التبليغ عنه في حضوره وغيبته
أطلق عليهم ذلك . أو هم مبعوثون من قبله بذلك أي مأمورون وكان ذلك شأنه صلى الله
عليه و سلم في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات يقول ( يسروا ولا تعسروا )
وفي الحديث دليل على أن الصب مطهر للأرض ولا يجب الحفر خلافا للحنفية روى ذلك عنهم
النووي . والمذكور في كتبهم أن ذلك مختص بالأرض الصلبة دون الرخوة واستدلوا بما
أخرجه الدارقطني من حديث أنس بلفظ : ( احفروا مكانه ثم صبوا عليه ) وأعله بتفرد
عبد الجبار به دون أصحاب ابن عيينة الحفاظ . وكذا رواه سعيد بن منصور من حديث عبد
الله بن معقل بن مقرن المزني وهو تابعي مرفوعا بلفظ : ( خذوا ما بال عليه من
التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء ) قال أبو داود : روي مرفوعا يعني موصولا
ولا يصح . وكذا رواه الطحاوي مرسلا وفيه ( واحفروا مكانه ) قال الحافظ في التلخيص
: إن الطريق المرسلة مع صحة إسنادها إذا ضمت إلى أحاديث الباب أوجدت قوة ولها
إسنادان موصولان أحدهما عن أبي مسعود رواه الدارمي والدارقطني ولفظه : ( فأمر
بمكانه فاحتفر وصب عليه دلو من ماء ) وفيه سمعان بن مالك وليس بالقوي قاله أبو
زرعة . وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة : هو حديث منكر وكذا قال أحمد .
وقال أبو حاتم : لا أصل له . وثانيهما عن واثلة بن الأسقع رواه أحمد والطبراني
وفيه عبيد الله بن أبي حميد الهذلي وهو منكر الحديث قاله البخاري وأبو حاتم
واستدل بحديث الباب أيضا على نجاسة بول الآدمي وهو مجمع عليه . وعلى أن تطهير
الأرض المتنجسة يكون بالماء لا بالجفاف بالريح أو الشمس لأنه لو كفى ذلك لما حصل
التكليف بطلب الماء وهو مذهب العترة والشافعي ومالك وزفر . وقال أبو حنيفة وأبو
يوسف : هما مطهران لأنهما يحيلان الشيء وكذا قال الخراسانيون من الشافعية في الظل
واستدلوا بحديث ( زكاة الأرض يبسها ) ولا أصل له في المرفوع . وقد رواه ابن أبي
شيبة من قول محمد بن علي الباقر ورواه عبد الرزاق من قول أبي قلابة بلفظ : ( جفاف
الأرض طهورها )
وفي الحديث أيضا دليل على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص إذ لم ينكر صلى
الله عليه و سلم على الصحابة ما فعلوه مع الأعرابي بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة
الراجحة
وفيه أيضا دليل على ما أشار إليه المصنف رحمه الله من أن الأرض تطهر بالمكاثرة .
وعلى الرفق بالجاهل في التعليم . وعلى الترغيب في التيسير والتنفير عن [ ص 53 ]
التعسير . وعلى احترام المساجد وتنزيهها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قررهم على
الإنكار وإنما أمرهم بالرفق
2 -
وعن أنس بن مالك قال : ( بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ
جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : مه مه
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزرموه دعوه . فتركوه حتى بال ثم
إن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعاه ثم قال : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من
هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز و جل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه
)
- متفق عليه لكن ليس للبخاري فيه إن هذه المساجد إلى تمام الأمر بتنزيهها . وقوله
لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله
-
قوله ( أعرابي ) هو الذي يسكن البادية وقد سبق الخلاف في اسمه
قوله ( مه مه ) اسم فعل مبني على السكون معناه اكفف . قال صاحب المطالع : هي كلمة
زجر أصلها ما هذا ثم حذف تخفيفا وتقال مكررة ومفردة . ومثله به بالباء الموحدة
وقال يعقوب : هي لتعظيم الأمر كبخ بخ وقد تنون مع الكسر وينون الأول ويكسر الثاني
بغير تنوين وكذا ذكر غير صاحب المطالع
قوله ( لا تزرموه ) بضم التاء الفوقية وإسكان الزاي بعدها راء أي لا تقطعوه .
والإزرام القطع . قوله ( إن هذه المساجد ) الخ مفهوم الحصر مشعر بعدم جواز ما عدا
هذه المذكورة من الأقذار والقذى والبصاق ورفع الصوت والخصومات والبيع والشراء
وسائر العقود وإنشاد الضالة والكلام الذي ليس بذكر وجميع الأمور التي لا طاعة فيها
وأما التي فيها طاعة كالجلوس في المسجد للاعتكاف والقراءة للعلم وسماع الموعظة
وانتظار الصلاة ونحو ذلك فهذه الأمور وإن لم تدخل في المحصور فيه لكنه أجمع
المسلمون على جوازها كما حكاه النووي فيخصص مفهوم الحصر بالأمور التي فيها طاعة
لائقة بالمسجد لهذا الإجماع وتبقى الأمور التي لا طاعة فيها داخلة تحت المنع .
وحكى الحافظ في الفتح الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به قال : ولا ريب
أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الأولى
قوله ( فجاء بدلو فشنه عليه ) يروى بالشين المعجمة والسين المهملة . قال النووي :
وهو في أكثر الأصول والروايات بالمعجمة ومعناه صبه . وفرق بعض العلماء بينهما فقال
هو بالمهملة الصب بسهولة وبالمعجمة التفريق في صبه وقد تقدم الكلام على فقه الحديث
قال المصنف رحمه الله : [ ص 54 ] وفيه دليل على أن النجاسة على الأرض إذا استهلكت
بالماء فالأرض والماء طاهران ولا يكون ذلك أمرا بتكثير النجاسة في المسجد . انتهى
باب ما جاء في أسفل النعل تصيبه النجاسة
1 -
عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا وطئ أحدكم بنعله
الأذى فإن التراب له طهور ) وفي لفظ ( إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب )
- رواهما أبو داود
2 -
وعن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب
نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما )
- رواه أحمد وأبو داود
-
الحديث الأول أخرجه أيضا ابن السكن والحاكم والبيهقي واختلف فيه على الأوزاعي
ورواه ابن ماجه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ : ( الطريق يطهر بعضها بعضا )
وإسناده ضعيف والرواية الأولى المذكورة في حديث الباب في إسنادها مجهول لأن أبا
داود رواها بسنده إلى الأوزاعي قال : أنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن
أبيه عن أبي هريرة ولم يسم الأوزاعي شيخه . والرواية الثانية منه فيها محمد بن
عجلان وقد أخرج له البخاري في الشواهد ومسلم في المتابعات ولم يحتجا به وقد وثقه
غير واحد وتكلم فيه غير واحد ولعله الرجل الذي أبهمه الأوزاعي في الرواية الأولى
لأن أبا داود قال حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن كثير يعني الصنعاني عن
الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة
وحديث أبي سعيد أخرجه الحاكم وابن حبان واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في
العلل الموصول
وفي الباب عن أم سلمة عند الأربعة بلفظ : ( يطهره ما بعده ) وعن أنس عند البيهقي
بسند ضعيف . وعن امرأة من بني عبد الأشهل عند البيهقي كلها هذه الأحاديث في معنى
حديث أبي هريرة
وورد في معنى حديث أبي سعيد أحاديث منها عند الحاكم من حديث أنس وعنده أيضا من
حديث ابن مسعود . وعند الدارقطني من حديث ابن عباس وإسناده ضعيف . وعند الدارقطني
أيضا من حديث عبد الله بن الشخير وإسناده ضعيف أيضا . وعند البزار من حديث أبي
هريرة وإسناده ضعيف معلول وهذه الروايات يقوي بعضها بعضا فتنتهض للاحتجاج بها على
أن النعل يطهر بدلكه في الأرض رطبا أو يابسا
وقد ذهب إلى ذلك الأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف والظاهرية وأبو ثور وإسحاق [ ص 55
] وأحمد في رواية وهي إحدى الروايتين عن الشافعي . وذهبت العترة والشافعي ومحمد
إلى أنه لا يطهر بالدلك لا رطبا ولا يابسا . وذهب الأكثر إلى أنه يطهر بالدلك
يابسا لا رطبا
وقد احتج للآخرين في البحر بحجة واهية جدا فقال بعد ذكر الحديثين السابقين قلنا
محتملان للرطبة والجافة فتعين الموافق للقياس وهي الجافة والثاني لا يسلم كالثوب .
قال صاحب المنار حاصل كلام المصنف إلغاء الحديث انتهى
والظاهر أنه لا فرق بين أنواع النجاسات بل كل ما علق بالنعل مما يطلق عليه اسم
الأذى فطهوره مسحه بالتراب . قال ابن رسلان في شرح السنن : الأذى في اللغة هو
المستقذر طاهرا كان أو نجسا انتهى
ويدل على التعميم ما في الرواية الأخرى حيث قال : فإن رأى خبثا فإنه لكل مستخبث
ولا فرق بين النعل والخف للتنصيص على كل واحد منهما في حديثي الباب ويلحق بهما كل
ما يقوم مقامهما لعدم الفارق
قوله ( ثم ليصل فيهما ) سيأتي الكلام على الصلاة في النعلين في باب مستقل من كتاب
الصلاة إن شاء الله
باب نضح بول الغلام إذا لم يطعم
1 -
عن أم قيس بنت محصن : ( أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى
الله عليه و سلم فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله )
- رواه الجماعة
2 -
وعن علي بن أبي طالب عليه السلام : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بول
الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل ) . قال قتادة : وهذا ما لم يطعما فإذا طعما
غسلا جميعا
- رواه أحمد والترمذي وقال : حديث حسن
3 -
وعن عائشة قالت : ( أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بصبي يحنكه فبال عليه
فأتبعه الماء )
- رواه البخاري وكذلك أحمد وابن ماجه وزاد ( ولم يغسله ) ولمسلم ( كان يؤتى
بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتى بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم
يغسله )
4 -
وعن أبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( قال النبي صلى الله
عليه و سلم يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام )
- رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه
5 -
وعن أم كرز الخزاعية قالت : ( أتي النبي صلى الله عليه و سلم بغلام فبال عليه فأمر
به فنضح وأتي بجارية فبالت عليه فأمر به فغسل )
- رواه أحمد
6 -
وعن أم كرز : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال بول الغلام ينضح وبول الجارية
يغسل )
- رواه ابن ماجه
7 -
وعن أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت : ( بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله
عليه [ ص 56 ] وسلم فقلت : يا رسول الله أعطني ثوبك والبس ثوبا غيره حتى أغسله
فقال : إنما ينضح من بول الذكر ويغسل من بول الأنثى )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
-
حديث علي أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح لأنه من طريق هشام عن قتادة
عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عنه . وأخرجه أيضا أبو داود موقوفا من حديث مسدد
عن يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة بالإسناد السابق إلى علي موقوفا بلفظ : ( يغسل
من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم ) وأخرجه أيضا مرفوعا من حديثه بدون
ما لم يطعم وجعله من قول قتادة . وكذلك أخرج عن أم سلمة أنها كانت تصب على بول
الغلام ما لم يطعم فإذا طعم غسلته وكانت تغسل بول الجارية
وحديث أبي السمح أخرجه أيضا البزار وابن خزيمة من حديثه بلفظ : ( كنت أخدم رسول
الله صلى الله عليه و سلم فأتي بحسن أو بحسين فبال على صدره فجئت أغسله فقال يغسل
) الحديث . وصححه الحاكم قال أبو زرعة والبزار : ليس لأبي السمح غير هذا الحديث
ولا يعرف اسمه . وقال البخاري : حديث حسن
وحديث أم كرز الأول والثاني في إسنادهما انقطاع لأنهما من طريق عمرو بن شعيب عنها
ولم يدركها وقد اختلف فيه على عمرو بن شعيب فقيل عنه عن أبيه عن جده كما رواه
الطبراني وحديث أم الفضل أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والطبراني
قوله ( لم يأكل الطعام ) المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرضعه والتمر الذي يحنك
به والعسل الذي يلعقه للمداواة وغير ذلك . وقيل المراد بالطعام ما عدا اللبن فقط .
ذكر الأول النووي في شرح مسلم وشرح المهذب وأطلق في الروضة تبعا لأصلها الثاني .
وقال في نكت التنبيه : إن لم يأكل غير اللبن وغير ما يحنك به وما أشبهه وقيل لم
يأكل أي لم يستقل بجعل الطعام في فيه ذكره الموفق الحموي في شرح التنبيه . قال
الحافظ ابن حجر : والأول أظهر وبه جزم الموفق ابن قدامة وغيره قال ابن التين :
يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوت بالطعام ولم يستغن به عن الرضاع ويحتمل أنها إنما
جاءت به عند ولادته ليحنكه صلى الله عليه و سلم فيحمل النفي على عمومه
قوله ( على ثوبه ) أي ثوب النبي صلى الله عليه و سلم وأغرب ابن شعبان من المالكية
فقال : المراد به ثوب الصبي
قوله ( فنضحه ) في صحيح مسلم من طريق الليث عن ابن شهاب فلم يزد على أن نضح بالماء
. وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب فرشه زاد أبو عوانة في صحيحه عليه . قال
الحافظ : ولا تخالف بين الروايتين أي بين نضح ورش لأن المراد به أن الابتداء كان
بالرش وهو تنفيض الماء فانتهى إلى النضح وهو صب الماء . ويؤيده رواية مسلم في حديث
عائشة من [ ص 57 ] طريق جرير عن هشام ( فدعا بماء فصبه عليه ) ولأبي عوانة ( فصبه
على البول يتبعه إياه ) انتهى . والذي في النهاية والكشف والقاموس أن النضح الرش
قوله ( ولم يغسله ) ادعى الأصيلي أن هذه الجملة من كلام ابن شهاب راوي الحديث وأن
المرفوع انتهى عند فنضحه قال : وكذلك روى معمر عن ابن شهاب وكذا أخرجه ابن أبي
شيبة قال فرشه لم يزد . قال الحافظ في الفتح : وليس في سياق معمر ما يدل على ما
ادعاه من الإدراج وقد أخرجه عبد الرزاق بنحو سياق مالك لكنه لم يقل ولم يغسله وقد
قالها مع ذلك الليث وعمرو بن الحارث ويونس بن يزيد كلهم عن ابن شهاب أخرجه ابن
خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب عنهم وهو لمسلم عن يونس وحده . نعم زاد
معمر في روايته قال ابن شهاب فمضت السنة أن يرش بول الصبي ويغسل بول الجارية فلو
كانت هذه الزيادة هي التي زادها مالك ومن تبعه لأمكن دعوى الإدراج لكنها غيرها فلا
إدراج . وأما ما ذكره عن ابن أبي شيبة فلا اختصاص له بذلك فإن ذلك لفظ رواية ابن
عيينة عن ابن شهاب وقد ذكرناها عن مسلم وغيره وبينا أنها غير مخالفة لرواية مالك
قوله ( بول الغلام الرضيع ) هذا تقييد للفظ الغلام بكونه رضيعا وهكذا يكون تقييد
اللفظ الصبي والصغير والذكر الواردة في بقية الأحاديث . وأما لفظ ما لم يطعم فقد
عرفت عدم صلاحيته لذلك لأنه ليس من قوله صلى الله عليه و سلم
وقد شذ ابن حزم فقال إنه يرش من بول الذكر أي ذكر كان وهو إهمال للقيد الذي يجب
حمل المطلق عليه كما تقرر في الأصول ورواية الذكر مطلقة وكذلك رواية الغلام فإنه
كما قال في القاموس لمن طر شاربه أو من حين يولد إلى أن يشب وقد ثبت إطلاقه على من
دخل في سن الشيخوخة . ومنه قول علي عليه السلام في يوم النهروان :
أنا الغلام القرشي المؤتمن ... أبو حسين فاعلمن والحسن
وهو إذ ذاك في نحو ستين سنة
ومنه أيضا قول ليلى الأخيلية في مدح الحجاج أيام إمارته على العراق
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
ولكنه مجاز قال الزمخشري في أساس البلاغة : إن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء
فإن قيل له بعد ذلك غلام فهو مجاز
قوله ( بصبي ) قال الحافظ : يظهر لي أنه ابن أم قيس ويحتمل أن يكون الحسن بن علي
أو الحسين . فقد روى الطبراني في الأوسط من حديث أم سلمة بإسناد حسن قالت : ( بال
الحسن أو الحسين على بطن رسول الله صلى الله عليه و سلم فتركه حتى قضى بوله ثم دعا
بماء فصبه عليه ) . ولأحمد عن أبي ليلى نحوه . ورواه الطحاوي [ ص 58 ] من طريقه
قال : فجيء بالحسن ولم يتردد . وكذا للطبراني عن أبي أمامة ورجح الحافظ أنه غيره
قوله ( فأتبعه ) بإسكان المثناة من فوق أي أتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم
البول الذي على الثوب الماء
قوله ( يحنكه ) قال أهل اللغة : التحنيك أي تمضغ التمر أو نحوه ثم تدلك به حنك
الصغير
قوله ( فيبرك عليهم ) أي يدعو لهم أو يمسح عليهم . وأصل البركة ثبوت الخير وكثرته
وقد استدل بأحاديث الباب على أن بول الصبي يخالف بول الصبية في كيفية استعمال
الماء وأن مجرد النضح يكفي في تطهير بول الغلام وقد اختلف الناس في ذلك على ثلاثة
مذاهب :
الأول الاكتفاء بالنضح في بول الصبي لا الجارية وهو قول علي عليه السلام وعطاء والحسن
والزهري وأحمد وإسحاق وابن وهب وغيرهم وروي عن مالك وقال أصحابه هي رواية شاذة
ورواه ابن حزم أيضا عن أم سلمة والثوري والأوزاعي والنخعي وداود وابن وهب
والثاني يكفي النضح فيهما وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي
والثالث هما سواء في وجوب الغسل وهو مذهب العترة والحنفية وسائر الكوفيين
والمالكية
وأحاديث الباب ترد المذهب الثاني والثالث وقد استدل في البحر لأهل المذهب الثالث
بحديث عمار المشهور وفيه ( إنما تغسل ثوبك من البول ) الخ وهو مع اتفاق الحفاظ على
ضعفه لا يعارض أحاديث الباب لأنها خاصة وهو عام وبناء العام على الخاص واجب ولكن
جماعة من أهل الأصول منهم مؤلف البحر لا يبنون العام على الخاص إلا مع المقارنة أو
تأخر الخاص وأما مع الالتباس كمثل ما نحن بصدده فقد حكى بعض أئمة الأصول أنه يبنى
العام على الخاص اتفاقا وصرح صاحب البحر أن الواجب الترجيح مع الالتباس ولا يشك من
له أدنى إلمام بعلم الحديث أن أحاديث الباب أرجح وأصح من حديث عمار وترجيحه لحديث
عمار بالظهور غير ظاهر وقد جزم صاحب البحر في المعيار وشرحه بأن الواجب مع
الالتباس الإطراح فتخالف كلامه . وجزم صاحب المنار بأن العام متقدم والخاص متأخر
ولم يذكر لذلك دليلا يشفي
وأما الحنفية والمالكية فاستدلوا لما ذهبوا إليه بالقياس فقالوا المراد بقوله ولم
يغسله أي غسلا مبالغا فيه وهو خلاف الظاهر ويبعده ما ورد في الأحاديث من التفرقة
بين بول الغلام والجارية فإنهم لا يفرقون بينهما
والحاصل أنه لم يعارض أحاديث الباب شيء يوجب الاشتغال به
باب الرخصة في بول ما يؤكل لحمه . [ ص 59 ]
1 -
عن أنس بن مالك : ( أن رهطا من عكل أو قال عرينة قدموا فاجتووا المدينة فأمر لهم
رسول الله صلى الله عليه و سلم بلقاح وأمرهم أن يخرجوا فيشربوا من أبوالها
وألبانها )
- متفق عليه . اجتووها أي استوخموها . وقد ثبت عنه أنه قال ( صلوا في مرابض الغنم
)
-
قوله ( من عكل ) بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم
قوله ( أو عرينة ) بالعين والراء المهملتين مصغرا حي من قضاعة وحي من بجيلة
والمراد هذا الثاني كذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي والشك من حماد
ورواه البخاري في المحاربين عن حماد أن رهطا من عكل أو قال من عرينة قال ولا أعلمه
إلا قال من عكل
ورواه في الجهاد عن وهيب عن أيوب أن رهطا من عكل ولم يشك
وفي الزكاة رواه من طريق شعبة عن قتادة أن ناسا من عرينة ولم يشك أيضا . وكذا
لمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس
ورواه أيضا البخاري في المغازي عن قتادة من عكل وعرينة بالواو العاطفة قال الحافظ
: وهو الصواب ويؤيده ما رواه أبو عوانة والطبراني من طريق سعيد بن بشير عن قتادة
عن أنس قال : كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل
وزعم ابن التين تبعا للداودي أن عرينة هم عكل وهو غلط بل هما قبيلتان متغايرتان
فعكل من عدنان وعرينة من قحطان
قوله ( فاجتووا ) قال ابن فارس : اجتويت المدينة إذا كرهت المقام فيها وإن كنت في
نعمة . وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة وهو المناسب لهذه القصة . وقيل
الاجتواء عدم الموافقة في الطعام ذكره القزاز وقيل داء من الوباء ذكره ابن العربي
. وقيل داء يصيب الجوف والاجتواء بالجيم
قوله ( فأمر لهم بلقاح ) بلام مكسورة فقاف فحاء مهملة النوق ذوات اللبن واحدتها
لقحة بكسر اللام وإسكان القاف قال أبو عمرو يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر ثم هي
لبون واللقاح المذكورة ظاهر الروايات إنها للنبي صلى الله عليه و سلم
وثبت في رواية للبخاري في الزكاة من طريق شعبة عن قتادة بلفظ : ( فأمرهم أن يأتوا
إبل الصدقة ) قال الحافظ : والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة
وصادف بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر
الخروج
قوله ( أن يخرجوا فيشربوا ) في رواية للبخاري وأن يشربوا أي وأمرهم أن يشربوا .
وفي أخرى له ( فاخرجوا فاشربوا ) وفي أخرى له أيضا ( فرخص لهم أن يأتوا فيشربوا )
قوله ( وقد ثبت الخ ) هو ثابت من حديث جابر بن سمرة عند [ ص 60 ] مسلم . ومن حديث
البراء عند أبي داود والترمذي وابن ماجه . قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم :
قد صح في هذا الباب حديث البراء بن عازب وجابر بن سمرة
وقد استدل بهذا الحديث من قال بطهارة بول ما يؤكل لحمه وهو مذهب العترة والنخعي
والأوزاعي والزهري ومالك وأحمد ومحمد وزفر وطائفة من السلف ووافقهم من الشافعية
ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والاصطخري والروياني . أما في الإبل فبالنص وأما
في غيرها مما يؤكل لحمه فبالقياس
قال ابن المنذر ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام فلم يصب إذ الخصائص لا تثبت إلا
بدليل ويؤيد ذلك تقرير أهل العلم لمن يبيع أبعار الغنم في أسواقهم واستعمال أبوال
الإبل في أدويتهم
ويؤيده أيضا أن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة وأجيب عن التأييد الأول بأن
المختلف فيه لا يجب إنكاره وعن الاحتجاج بالحديث بأنها حالة ضرورية وما أبيح
للضرورة لا يسمى حراما وقت تناوله لقوله تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما
اضطررتم إليه } ومن أدلة القائلين بالطهارة حديث الإذن بالصلاة في مرابض الغنم
السابق . وأجيب عنه بأنه معلل بأنها لا تؤذي كالإبل ولا دلالة فيه على جواز
المباشرة والإلزام نجاسة أبوال الإبل وبعرها للنهي عن الصلاة في مباركها
ويرد هذا الجواب بأن الصلاة في مرابض الغنم تستلزم المباشرة لآثار الخارج منها
والتعليل بكونها لا تؤذي أمر وراء ذلك والتعليل للنهي عن الصلاة في معاطن الإبل
بأنها تؤذي المصلي يدل على أن ذلك هو المانع لا ما كان في المعاطن من الأبوال
والبعر
واستدل أيضا بحديث لا بأس ببول ما أكل لحمه عند الدارقطني من حديث جابر والبراء
مرفوعا . وأجيب بأن في إسناده عمرو بن الحصين العقيلي وهو واه جدا قال أبو حاتم :
ذاهب الحديث ليس بشيء . وقال أبو زرعة : واهي الحديث . وقال الأزدي : ضعيف جدا .
وقال ابن عدي : حدث عن الثقات بغير حديث منكر وهو متروك
وفي إسناده أيضا يحيى بن العلاء أبو عمر البجلي الرازي قد ضعفوه جدا قاله
الدارقطني وكان وكيع شديد الحمل عليه . وقال أحمد : كذاب . وقال يحيى : ليس بثقة .
وقال النسائي والأزدي : متروك . واحتجوا أيضا بحديث ( إن الله لم يجعل شفاءكم فيما
حرم عليكم ) عند مسلم والترمذي وأبي داود من حديث وائل بن حجر وابن حبان والبيهقي
من حديث أم سلمة وعند الترمذي وأبي داود من حديث أبي هريرة بلفظ : ( نهى رسول الله
صلى الله عليه و سلم عن كل دواء خبيث ) والتحريم يستلزم النجاسة والتحليل يستلزم
الطهارة فتحليل التداوي بها دليل على طهارتها فأبوال الإبل وما يلحق بها طاهرة .
وأجيب عنه بأنه محمول على [ ص 61 ] حالة الاختيار وأما في الضرورة فلا يكون حراما
كالميتة للمضطر فالنهي عن التداوي بالحرام باعتبار الحالة التي لا ضرورة فيها
والإذن بالتداوي بأبوال الإبل باعتبار حالة الضرورة وإن كان خبيثا حراما ولو سلم
فالتداوي إنما وقع بأبوال الإبل فيكون خاصا بها ولا يجوز إلحاق غيره به لما ثبت من
حديث ابن عباس مرفوعا : ( إن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم ) . ذكره في الفتح
والذرب فساد المعدة فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه على أن
حديث تحريم التداوي بالحرام وقع في جواب من سأل عن التداوي بالخمر كما في صحيح
مسلم وغيره ولا يجوز إلحاق غير المسكر به من سائر النجاسات لأن شرب المسكر يجر إلى
مفاسد كثيرة ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء فجاء الشرع بخلاف
ذلك ويجاب بأنه قصر للعام على السبب بدون موجب والمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب
واحتج القائلون بنجاسة جميع الأبوال والأزبال وهم الشافعية والحنفية ونسبه في
الفتح إلى الجمهور . ورواه ابن حزم في المحلى عن جماعة من السلف بالحديث المتفق
عليه أنه صلى الله عليه و سلم ( مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير
أما أحدهما فكان لا يستتر عن البول ) الحديث . قالوا : فعم جنس البول ولم يخصه
ببول الإنسان ولا أخرج عنه بول المأكول وهذا الحديث غاية ما تمسكوا به
وأجيب عنه بأن المراد به بول الإنسان لما في صحيح البخاري بلفظ : ( كان لا يستتر
من بوله ) قال البخاري : ولم يذكر سوى بول الناس فالتعريف في البول للعهد قال ابن
بطال : أراد البخاري أن المراد بقوله كان لا يستتر من البول بول الإنسان لا بول
سائر الحيوان فلا يكون فيه حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان وكأنه
أراد الرد على الخطابي حيث قال : فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها قال في الفتح :
ومحصل الرد أن العموم في رواية من البول أريد به الخصوص لقوله من بوله أو الألف
واللام بدل من الضمير انتهى
والظاهر طهارة الأبوال والأزبال من كل حيوان يؤكل لحمه تمسكا بالأصل واستصحابا
للبراءة الأصلية والنجاسة حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة فلا
يقبل قول مدعيها إلا بدليل يصلح للنقل عنهما ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلا كذلك
وغاية ما جاؤوا به من حديث صاحب القبر وهو مع كونه مرادا به الخصوص كما سلف عموم
ظني الدلالة لا ينتهض على معارضة تلك الأدلة المعتضدة بما سلف
وقد طول ابن حزم الظاهري في المحلى الكلام على هذه المسألة بما لم نجده لغيره لكنه
لم يدر بحثه على غير حديث صاحب القبر ( فإن قلت ) إذا كان الحكم بطهارة بول ما
يؤكل لحمه وزبله لما تقدم حتى يرد [ ص 62 ] دليل فما الدليل على نجاسة بول غير
المأكول وزبله على العموم
قلت قد تمسكوا بحديث ( إنها ركس ) قاله صلى الله عليه و سلم في الروثة أخرجه
البخاري والترمذي والنسائي وبما تقدم في بول الآدمي وألحقوا سائر الحيوانات التي
لا تؤكل به بجامع عدم الأكل وهو لا يتم إلا بعد تسليم أن علة النجاسة عدم الأكل
وهو منتقض بالقول بنجاسة زبل الجلالة والدفع بأن العلة في زبل الجلالة هو
الاستقذار منقوض باستلزامه لنجاسة كل مستقذر كالطاهر إذا صار منتنا إلا أن يقال إن
زبل الجلالة هو محكوم بنجاسته لا للاستقذار بل لكونه عين النجاسة الأصلية التي
جلتها الدابة لعدم الاستحالة التامة
وأما الاستدلال بمفهوم حديث ( لا بأس ببول ما يؤكل لحمه ) المتقدم فغير صالح لما
تقدم من ضعفه الذي لا يصلح معه للاستدلال به حتى قال ابن حزم : إنه خبر باطل موضوع
قال : لأن في رجاله سوار بن مصعب وهو متروك عند جميع أهل النقل متفق على ترك
الراوية عنه يروي الموضوعات فالذي يتحتم القول به في الأبوال والأزبال هو الاقتصار
على نجاسة بول الآدمي وزبله والروثة . وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من
الخيل والبغال والحمير ولكنه زاد ابن خزيمة في روايته إنها ركس إنها روثة حمار
وأما سائر الحيوانات التي لا يؤكل لحمها فإن وجدت في بول بعضها أو زبله ما يقتضي
إلحاقه بالمنصوص عليه طهارة أو نجاسة ألحقته وإن لم تجد فالمتوجه البقاء على الأصل
والبراءة كما عرفت
قال المصنف رحمه الله في الكلام على حديث الباب ما لفظه : فإن أطلق الإذن في ذلك
ولم يشترط حائلا بقي من الأبوال وأطلق الإذن في الشرب لقوم حديثي العهد بالإسلام
جاهلين بأحكامه ولم يأمرهم بغسل أفواههم وما يصيبهم منها لأجل صلاة ولا غيرها مع
اعتيادهم شربها دل ذلك على مذهب القائلين بالطهارة انتهى
باب ما جاء في المذي
1 -
عن سهل بن حنيف قال : ( كنت ألقى من المذي شدة وعناء وكنت أكثر منه الاغتسال فذكرت
ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إنما يجزيك من ذلك الوضوء فقلت : يا
رسول الله كيف بما يصيب ثوبي منه قال : يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به ثوبك
حيث ترى أنه قد أصاب منه )
- رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال : حديث حسن صحيح . ورواه الأثرم ولفظه :
قال : ( كنت ألقى من المذي عناء فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له
فقال : يجزيك أن تأخذ حفنة من ماء [ ص 63 ] فترش عليه )
2 -
وعن علي بن أبي طالب قال : ( كنت رجلا مذاء فاستحيت أن أسأل رسول الله صلى الله
عليه و سلم فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال : فيه الوضوء )
- أخرجاه ولمسلم ( يغسل ذكره ويتوضأ ) ولأحمد وأبي داود ( يغسل ذكره وأنثييه
ويتوضأ )
3 -
وعن عبد الله بن سعد قال : ( سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الماء يكون
بعد الماء فقال : ذلك المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك
للصلاة )
- رواه أبو داود
-
الحديث الأول في إسناده محمد بن إسحاق وهو ضعيف إذا عنعن لكونه مدلسا ولكنه ههنا
صرح بالتحديث . وحديث عبد الله بن سعد أخرجه الترمذي وحسنه . وقال الحافظ في
التلخيص : في إسناده ضعف
وفي الباب عن المقداد ( أن عليا أمره أن يسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم )
أخرجه أبو داود من طريق سليمان بن يسار عنه . وفي رواية لأحمد والنسائي وابن حبان
أنه أمر عمار بن ياسر . وفي رواية لابن خزيمة أن عليا سأل بنفسه . وجمع بينها ابن
حبان بتعدد الأسئلة . ورواه أبو داود من طريق عروة عن علي وفيه يغسل أنثييه وذكره
وعروة لم يسمع من علي لكن رواه أبو عوانة في صحيحه من طريق عبيدة عن علي بالزيادة
وإسناده لا مطعن فيه
قوله ( ألقى من المذي شدة ) في المذي لغات فتح الميم وإسكان الذال المعجمة وفتح
الميم مع كسر الذال وتشديد الباء وبكسر الذال مع تخفيف الياء فالأوليان مشهورتان
أولاهما أفصح وأشهر والثالثة حكاها أبو عمر الزاهد عن ابن الأعرابي . والمذي ماء
رقيق أبيض لزج يخرج عند الشهوة بلا شهوة ولا دفق ولا يعقبه فتور وربما لا يحس
بخروجه . ذكره النووي ومثله في الفتح
قوله ( فتنضح به ثوبك ) قد سبق الكلام على معنى النضح في باب نضح بول الغلام وهكذا
ورد الأمر بالنضح في الفرج عند مسلم وغيره
قال النووي : معناه الغسل فإن النضح يكون غسلا ويكون رشا . وقد جاء في الرواية
الأخرى ( فاغسل ) وفي الرواية المذكورة في الباب ( يغسل ذكره ) وفي التي بعدها
كذلك
وفي الأخرى ( فتغسل من ذلك فرجك ) فتعين حمله عليه ولكنه ثبت في الرواية المذكورة
في الباب من رواية الأثرم بلفظ : ( فترش عليه ) وليس المصير إلى الأشد بمتعين بل
ملاحظة التخفيف من مقاصد الشريعة المألوفة فيكون الرش مجزئا كالغسل
قوله ( مذاء ) صيغة مبالغة من المذي يقال مذى يمذي كمضى يمضي ثلاثيا ويقال أمذى
يمذي كأعطى يعطي ومذى يمذي كغطى يغطى
[ ص 64 ] قوله ( وأنثييه ) أي خصيتيه
قوله ( عن الماء يكون بعد الماء ) المراد به خروج المذي عقيب البول متصلا به
قوله ( وكل فحل يمذي ) الفحل الذكر من الحيوان ويمذي بفتح الياء وضمها يقال مذى
الرجل وأمذى كما تقدم
وقد استدل بأحاديث الباب على أن الغسل لا يجب لخروج المذي قال في الفتح : وهو
إجماع وعلى أن الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول وعلى أنه يتعين الماء في
تطهيره لقوله ( كفا من ماء وحفنة من ماء ) واتفق العلماء على أن المذي نجس ولم
يخالف في ذلك إلا بعض الإمامية محتجين بأن النضح لا يزيله ولو كان نجسا لوجبت
الإزالة ويلزمهم القول بطهارة العذرة لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بمسح
النعل منها بالأرض والصلاة فيها والمسح لا يزيلها وهو باطل بالاتفاق وقد اختلف أهل
العلم في المذي إذا أصاب الثوب فقال الشافعي وإسحاق وغيرهما : لا يجزيه إلا الغسل
أخذا برواية الغسل وفيه ما سلف على أن رواية الغسل إنما هي في الفرج لا في الثوب
الذي هو محل النزاع فإنه لم يعارض رواية النضح المذكورة في الباب معارض فالاكتفاء
به صحيح مجزء
واستدل أيضا بما في الباب على وجوب غسل الذكر والإنثيين على المذي وإن كان محل
المذي بعضا منهما وإليه ذهب الأوزاعي وبعض الحنابلة وبعض المالكية وذهبت العترة
والفريقان وهو قول الجمهور إلى أن الواجب غسل المحل الذي أصابه المذي من البدن ولا
يجب تعميم الذكر والإنثيين . ويؤيد ذلك ما عند الإسماعيلي في رواية بلفظ : ( توضأ
واغسله ) فأعاد الضمير على المذي
ومن العجيب أن ابن حزم مع ظاهريته ذهب إلى ما ذهب إليه الجمهور وقال : إيجاب غسل
كله شرع لا دليل عليه وهذا بعد أن روى حديث ( فليغسل ذكره ) وحديث ( واغسل ذكرك )
ولم يقدح في صحتهما وغاب عنه أن الذكر حقيقة لجميعه ومجازا لبعضه وكذلك الإنثيان
حقيقة لجميعهما فكان اللائق بظاهريته الذهاب إلى ما ذهب إليه الأولون
واختلف الفقهاء هل المعنى معقول أو هو حكم تعبدي وعلى الثاني تجب النية وقيل الأمر
بغسل ذلك ليتقلص الذكر قاله الطحاوي
باب ما جاء في المني
1 -
عن عائشة قالت : ( كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يذهب
فيصلي فيه )
- رواه الجماعة إلا البخاري ولأحمد : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسلت
المني من ثوبه بعرق الأذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا [ ص 65 ] ثم يصلي فيه
) . وفي لفظ متفق عليه : ( كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم
يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء ) وللدارقطني عنها : ( كنت أفرك
المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا )
قلت : فقد بان من مجموع النصوص جواز الأمرين
2 -
وعن إسحاق بن يوسف قال حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس قال
: ( سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن المني يصيب الثوب فقال : إنما هو بمنزلة
المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بأذخرة )
- رواه الدارقطني وقال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك . قلت : وهذا لا يضر
لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين فيقبل رفعه وزيادته
-
حديث عائشة لم يسنده البخاري وإنما ذكره في ترجمة باب
ولفظ أبي داود : ( ثم يصلي فيه ) ولفظ الترمذي : ( ربما فركته من ثوب رسول الله
صلى الله عليه و سلم بأصابعي ) وفي رواية ( وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله
عليه و سلم يابسا بظفري ) وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي والدارقطني عن عائشة
: ( أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي )
وأخرج أبو عوانة في صحيحه وأبو بكر البزار من حديث عائشة : ( كنت أفرك المني من
ثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا ) كحديث
الباب وأعله البزار بالإرسال
قال الحافظ : وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحة رواها ابن الجارود في المنتقى عن
محمد بن يحيى عن أبي حذيفة عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام عن ابن الحارث
قال : ( كان عند عائشة ضيف فأجنب فجعل يغسل ما أصابه فقالت عائشة : كان رسول الله
صلى الله عليه و سلم يأمرنا بحته ) قال : وأما الأمر بغسله فلا أصل له
وحديث ابن عباس أخرجه أيضا البيهقي والطحاوي مرفوعا وأخرجه أيضا البيهقي موقوفا
على ابن عباس وقال : الموقوف هو الصحيح
قوله ( أفرك ) أي أدلك
قوله ( بعرق الأذخر ) هو حشيش طيب الريح
قوله ( كنت أغسله ) أي أثر الجنابة أو المني
قوله ( بقع الماء ) هو بدل من أثر الغسل
وقد استدل بما في الباب على أنه يكتفى في إزالة المني من الثوب بالغسل أو الفرك أو
الحث
وقد اختلف أهل العلم في المني فذهبت العترة وأبو حنيفة ومالك إلى نجاسته إلا أن
أبا حنيفة قال : يكفي في تطهيره [ ص 66 ] فركه إذا كان يابسا وهو رواية عن أحمد .
وقالت العترة ومالك : لا بد من غسله رطبا ويابسا . وقال الليث : هو نجس ولا تعاد
منه الصلاة . وقال الحسن بن صالح : لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كان
كثيرا وتعاد منه إن كان في الجسد وإن قل
قال ابن حزم في المحلى وروينا غسله عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأنس وسعيد بن
المسيب وقال الشافعي وداود وهو أصح الروايتين عن أحمد بطهارته . ونسبه النووي إلى
الكثيرين من أهل الحديث قال : وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن
عمر وعائشة قال : وقد غلط من أوهم أن الشافعي منفرد بطهارته
احتج القائلون بنجاسته بما روي في غسله والغسل لا يكون إلا لشيء نجس . وأجيب بأنه
لم يثبت الأمر بغسله من قوله صلى الله عليه و سلم في شيء من أحاديث الباب وإنما
كانت تفعله عائشة ولا حجة في فعلها إلا إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
علم بفعلها وأقرها على أن علمه بفعلها وتقريره لها لا يدل على المطلوب لأن غاية ما
هناك أنه يجوز غسل المني من الثوب وهذا مما لا خلاف فيه بل يجوز غسل ما كان متفقا
على طهارته كالطيب والتراب فكيف بما كان مستقذرا
وأما الاحتجاج بحديث عمار مرفوعا بلفظ : ( إنما تغسل الثوب من الغائط والبول
والمذي والمني والدم والقيء ) أخرجه البزار وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما وابن
عدي في الكامل والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء وأبو نعيم في المعرفة
فأجيب عنه بأن الجماعة المذكورين كلهم ضعفوه إلا أبا يعلى لأن في إسناده ثابت بن
حماد اتهمه بعضهم بالوضع
وقال اللالكائي : أجمعوا على ترك حديثه وقال البزار : ولا يعلم لثابت إلا هذا
الحديث . وقال الطبراني : انفرد به ثابت بن حماد ولا يروى عن عمار إلا بهذا
الإسناد . وقال البيهقي : هذا حديث باطل إنما رواه ثابت بن حماد وهو متهم . قال
الحافظ : قلت ورواه البزار والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا عن حماد بن سلمة عن
علي بن زيد لكن إبراهيم ضعيف وقد غلط فيه إنما يرويه ثابت بن حماد انتهى . فهذا
مما لا يجوز الاحتجاج بمثله
واحتج القائلون بالطهارة برواية الفرك ويجاب عنه بمثل ما سلف من أنه من فعل عائشة
إلا أنه إذا فرض إطلاع النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك أفاد المطلوب وهو
الاكتفاء في إزالة المني بالفرك لأن الثوب ثوب النبي صلى الله عليه و سلم وهو يصلي
فيه بعد ذلك كما ثبت في الرواية المذكورة في الباب ولو كان الفرك غير مطهر لما
اكتفى به ولا صلى فيه ولو فرض عدم إطلاع النبي صلى الله عليه و سلم على [ ص 67 ]
الفرك فصلاته في ذلك الثوب كافيه لأنه لو كان نجسا لنبه عليه حال الصلاة بالوحي
كما نبه بالقذر الذي في النعل
وأيضا ثبت السلت للرطب والحك لليابس من فعله صلى الله عليه و سلم كما في حديث
الباب وثبت أمره بالحت وقال : ( إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو أذخرة ) وأجيب بأن
ذلك لا يدل على الطهارة وإنما يدل على كيفية التطهير فغاية الأمر أنه نجس خفف في
تطهيره بما هو أخف من الماء والماء لا يتعين لإزالة جميع النجاسات كما حررناه في
هذا الشرح سابقا وإلا لزم طهارة العذرة التي في النعل لأن النبي صلى الله عليه و
سلم أمر بمسحها في التراب ورتب على ذلك الصلاة فيها قالوا : قال صلى الله عليه و
سلم ( إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق والبصاق ) كما في الحديث السابق وأجيب بأنه
موقوف كما قال البيهقي . قالوا : الأصل الطهارة فلا ننتقل عنها إلا بدليل
وأجيب بأن التعبد بالإزالة غسلا أو مسحا أو فركا أو حتا أو سلتا أو حكا ثابت ولا
معنى لكون الشيء نجسا إلا أنه مأمور بإزالته بما أحال عليه الشارع . فالصواب أن
المني نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة وهذا خلاصة ما في المسألة من الأدلة من
جانب الجميع
وفي المقام مطاولات ومقاولات والمسألة حقيقة بذاك ولكنه أفضى الأمر إلى تلفيق حجج
واهية كالاحتجاج بتكرمة بني آدم وبكون الآدمي طاهرا من جانب القائل بالطهارة
وكالاحتجاج بأنه فضلة مستحيلة إلى مستقذر وبأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة
والمني منها وبكونه جاريا مجرى البول من جانب القائل بالنجاسة وهذا الكلام في مني
الآدمي وأما مني غير الآدمي ففيه وجوه وتفصيلات مذكورة في الفروع فلا نطول بذكرها
( فائدة ) صرح الحافظ في الفتح بأنه لا معارضة بين حديث الغسل والفرك لأن الجمع
بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على
الوجوب قال : وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث . وكذا الجمع ممكن على القول
بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبا والفرك على ما كان يابسا وهذه طريقة
الحنفية قال والطريقة الأولى أرجح لأن فيها العمل بالخبر والقياس معا ولأنه لو كان
نجسا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره فيما لا يعفى عنه من
الدم بالفرك ويرد الطريقة الثانية أيضا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن
عائشة : ( كان يسلت المني من ثوبه بعرق الأذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا ثم
يصلي فيه ) فإنه تضمن ترك الغسل في [ ص 68 ] الحالتين انتهى كلامه والحق ما عرفته
باب أن ما لا نفس له سائلة لم ينجس بالموت
1 -
عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا وقع الذباب في شراب
أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء )
- رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه . ولأحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد
نحوه
-
حديث أبي سعيد لفظه : ( في أحد جناحي الذباب سم وفي الآخر شفاء فإذا وقع في الطعام
فامقلوه فيه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء ) وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان
والبيهقي
وفي الباب من حديث أنس نحوه عند ابن أبي خيثمة في تاريخه الكبير قال الحافظ :
وإسناده صحيح
قوله ( فليغمسه ) هذا لفظ البخاري وعند أبي داود وابن خزيمة وابن حبان ( وإنه يتقى
بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله ثم لينزعه ) ورواه أيضا الدارمي وابن ماجه ولفظ
ابن السكن : ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله أي يغمسه فإن في أحد جناحيه
دواء وفي الآخر داء أو قال سما )
واستدل بالحديث على أن الماء القليل لا ينجس بموت ما لا نفس له سائلة فيه إذ لم
يفصل بين الموت والحياة وقد صرح بذلك في حديث الذباب والخنفساء اللذين وجدهما صلى
الله عليه و سلم ميتين في الطعام فأمر بإلقائهما والتسمية عليه والأكل منه
ويدل على جواز قتل الذباب بالغمس لصيرورته بذلك عقورا وعلى تحريم أكل المستخبث
للأمر بطرحه . ورواية إناء أحدكم تشمل إناء الطعام والشراب وغيرهما فهي أعم من
رواية شراب أحدكم
والفائدة في الأمر بغمسه جميعا هي أن يتصل ما فيه من الدواء بالطعام أو الشراب كما
اتصل به الداء فيتعادل الضار والنافع فيندفع الضرر
باب في أن الآدمي المسلم لا ينجس بالموت ولا شعره وأجزاؤه بالانفصال
1 -
قد أسلفنا قوله صلى الله عليه و سلم ( المسلم لا ينجس ) وهو عام في الحي والميت
قال البخاري وقال ابن عباس المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا
وعن أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم لما رمى الجمرة ونحر نسكه وحلق
ناول [ ص 69 ] الحلاق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ثم
ناوله الشق الأيسر فقال : احلقه فحلقه فأعطاه أبا طلحة وقال : اقسمه بين الناس )
- متفق عليه
2 -
وعن أنس قال : ( لما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحلق الحجام رأسه أخذ
أبو طلحة بشعر أحد شقي رأسه بيده فأخذ شعره فجاء به إلى أم سليم قال : وكانت أم
سليم تدوفه في طيبها )
- رواه أحمد
3 -
وعن أنس بن مالك : ( أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه و سلم نطعا يقيل
عندها على ذلك النطع فإذا قام أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جعلته في سك
قال : فلما حضرت أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه )
- أخرجه البخاري
4 -
وفي حديث صلح الحديبية من رواية مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن عروة بن مسعود :
( قام من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه ولا يبصق
بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه )
- رواه أحمد
5 -
وعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : ( أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت
بجلجل من فضة فيه شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان إذا أصاب الإنسان
عين أو شيء بعث إليها بإناء فخضخضت له فشرب منه فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمرا
)
- رواه البخاري
6 -
وعن عبد الله بن زيد وهو صاحب الأذان : ( أنه شهد النبي صلى الله عليه و سلم عند
المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحي فلم يصبه شيء ولا صاحبه فحلق رسول الله صلى
الله عليه و سلم رأسه في ثوبه فأعطاه منه وقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطى
صاحبه قال وإن شعره عندنا لمخضوب بالحناء والكتم )
- رواه أحمد
-
أحاديث الباب يشهد بعضها لبعض وقد أخرج أحمد كل حديث منها من طرق
قوله في ترجمة الباب ( قد أسلفنا قوله صلى الله عليه و سلم ( المسلم لا ينجس ) الخ
) قد تقدم الحديث في باب طهارة الماء المتوضأ به وتقدم شرحه هنالك
قوله ( وعن أنس ) سيأتي هذا الحديث بنحو ما هنا في الحج في باب النحر والحلاق وقد
روي بألفاظ منها ما ذكره المصنف هنا ومنها ما أخرجه أبو عوانة في صحيحه بلفظ : (
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى أبي طلحة الشق
الأيمن ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس ) . ولمسلم في رواية ( أنه قسم
الأيمن فيمن يليه ) . [ ص 70 ]
وفي لفظ : ( فوزعه بين الناس الشعرة والشعرتين وأعطى الأيسر أم سليم ) وفي لفظ : (
فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره صلى الله عليه و سلم وأما الأيسر فأعطاه لأم
سليم زوجته بأمره صلى الله عليه و سلم لتجعله في طيبها ) . قال النووي : فيه
استحباب البداءة بالشق الأيمن من رأس المحلوق وهو قول الجمهور خلافا لأبي حنيفة .
وفيه طهارة شعر الآدمي وبه قال الجمهور . وفيه التبرك بشعره صلى الله عليه و سلم .
وفيه المواساة بين الأصحاب بالعطية والهدية . قال الحافظ : وفيه أن المواساة لا
تستلزم المساواة . وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره واختلفوا في اسم الحالق
فالصحيح أنه معمر بن عبد الله كما ذكره البخاري وقيل أبو خراش بن أمية والصحيح أنه
كان الحالق بالحديبية
وذهب جماعة من الشافعية إلى أن الشعر نجس وهي طريقة العراقيين وأحاديث الباب ترد
عليهم واعتذارهم عنها بأن النبي صلى الله عليه و سلم مكرم لا يقاس عليه غيره
اعتذار فاسد لأن الخصوصيات لا تثبت إلا بدليل
قال الحافظ : فلا يلتفت إلى ما وقع في كثير من كتب الشافعية مما يخالف القول
بالطهارة فقد استقر القول من أئمتهم على الطهارة هذا كله في شعر الآدمي . وأما شعر
غيره من غير المأكول ففيه خلاف مبني على أن الشعر هل تحله الحياة فينجس بالموت أو
لا فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا ينجس بالموت وذهبت الشافعية إلى أنه ينجس بالموت
واستدل للطهارة بما ذكره ابن المنذر من أنهم أجمعوا على طهارة ما يجز من الشاة وهي
حية وعلى نجاسة ما يقطع من أعضائها وهي حية فدل ذلك على التفرقة بين الشعر وغيره
من أجزائها وعلى التسوية بين حالتي الموت والحياة
قوله ( تدوفه ) الدوف الخلط والبل بماء ونحوه ودفت المسك فهو مدوف ومدووف أي مبلول
أو مسحوق ولا نظير له سوى مصوون كذا في القاموس ومثله في النهاية
قوله ( نطعا ) بكسر النون وفتحها مع سكون الطاء وتحريكها بساط من الإدم الجمع
أنطاع ونطوع
قوله ( في سك ) بمهملة مضمومة فكاف مشددة وهو طيب يتخذ من الرامك مدقوقا منخولا
معجونا بالماء ويعرك شديدا ويمسح بدهن الخيري لئلا يلصق بالإناء ويترك ليلة ثم
يسحق المسك ويعرك شديدا ويترك يومين ثم يثقب بمسلة وينظم في خيط قنب ويترك سنة
وكلما عتق طابت رائحته . قاله في القاموس والرامك بالراء كصاحب شيء أسود يخلط
بالمسك . والقنب نوع من الكتان . وفيه دليل على طهارة العرق لأنه وقع منه صلى الله
عليه و سلم التقرير لأم سليم وهو مجمع على طهارته من الآدمي
قوله [ ص 71 ] ( بجلجل ) بجيمين مضمومتين بينهما لام الجرس . قال الكرماني : ويحمل
على أنه كان مموها بفضة لا أنه كان كله فضة . قال الحافظ : وهذا ينبني على أن أم
سلمة كانت لا تجيز استعمال آنية الفضة في غير الأكل والشرب ومن أين له ذلك فقد
أجاز ذلك جماعة من العلماء : قلت : والحق الجواز إلا في الأكل والشرب لأن الأدلة
لم تدل على غيرها بين ( 1 ) الحالتين
قوله ( فخضخضت ) بخاءين وضادين معجمات والخضخضة تحريك الماء
قوله ( والكتم ) هو نبت يخلط بالحناء وسيأتي ضبطه وتفسيره
_________
( 1 ) هكذا الأصل وهو غير ظاهر ولعل في الكلام حذفا تقديره : وبين الحالتين فرق
( تنبيه ) وقع في صحيفة 71 سطر 4 . غيرها بين ( 1 ) الحالتين وهو موافق لأصله وعلق
عليه : وصوابه : غير هاتين الحالتين فيصلح
باب النهي عن الانتفاع بجلد ما لا يؤكل لحمه
1 -
عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن جلود
السباع )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وزاد ( أن يفترش )
2 -
وعن معاوية بن أبي سفيان أنه قال لنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : (
أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن جلود النمور أن يركب عليها قالوا
: اللهم نعم )
- رواه أحمد وأبو داود . ولأحمد ( أنشدكم الله أنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم
عن ركوب صفف النمور قالوا : نعم قال : وأنا أشهد )
3 -
وعن المقدام بن معدي كرب أنه قال لمعاوية : ( أنشدك الله هل تعلم أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها قال : نعم )
- رواه أبو داود والنسائي
4 -
وعن المقدام بن معدي كرب قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الحرير
والذهب ومياثر النمور )
- رواه أحمد والنسائي
5 -
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( لا تصحب الملائكة رفقة فيها
جلد نمر )
- رواه أبو داود
-
حديث أبي المليح قال الترمذي : لا نعلم قال عن أبي المليح عن أبيه غير سعيد بن أبي
عروبة وأخرجه عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا قال : وهذا أصح .
وحديث معاوية أخرجه أيضا ابن ماجه
وحديث المقدام الأول رواه أبو داود عن عمرو بن عثمان بن سعيد الحمصي حدثنا بقية عن
بجير عن خالد قال : وفد المقدام وذكر فيه قصة طويلة . وبقية بن الوليد فيه مقال
مشهور . وحديثه الثاني إسناده صالح
وحديث أبي هريرة في إسناده أبو العوام عمران القطان وثقه عفان بن مسلم واستشهد به
البخاري وتكلم فيه غير واحد
قوله ( النمور ) في رواية النمار وكلاهما جمع نمر [ ص 72 ] بفتح النون وكسر الميم
ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم وهو سبع أجرأ وأخبث من الأسد وهو منقط الجلد
نقط سود وبيض وفيه شبه من الأسد إلا أنه أصغر منه ورائحة فمه طيبة بخلاف الأسد
وبينه وبين الأسد عداوة وهو بعيد الوثبة فربما وثب أربعين ذراعا . وإنما نهى عن
استعمال جلده لما فيه من الزينة والخيلاء ولأنه زي العجم
قوله ( صفف ) بالصاد المهملة كصرد جمع صفة وهي ما يجعل على السرج
قوله ( ومياثر النمور ) المياثر جمع ميثرة والميثرة بكسر الميم وسكون التحتية وفتح
المثلثة بعدها راء ثم هاء ولا همزة فيها وأصلها من الوثارة
وقد روى البخاري عن بعض الرواة أنه فسرها بجلود السباع . قال النووي هو تفسير باطل
لما أطبق عليه أهل الحديث قال الحافظ : ليس بباطل بل يمكن توجيهه وهو ما إذا كانت
الميثرة وطاء وصنعت من جلد ثم حشيت والنهي حينئذ عنها إما لأنها من زي الكفار وإما
لأنها لا تذكى غالبا . وقيل إن المياثر مراكب تتخذ من الحرير والديباج وسيأتي
الكلام على الحرير في كتاب اللباس
قوله ( لا تصحب الملائكة رفقة ) الخ فيه أنه يكره اتخاذ جلود النمور واستصحابها في
السفر وإدخالها البيوت لأن مفارقة الملائكة للرفقة التي فيها جلد نمر تدل على أنها
لا تجامع جماعة أو منزلا وجد فيه ذلك ولا يكون إلا لعدم جواز استعمالها كما ورد (
أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير ) وجعل ذلك من أدلة تحريم التصاوير وجعلها في
البيوت
وهذا الحديث والذي قبله يدلان على قوة تفسير الميثرة بجلود السباع
وأحاديث الباب استدل بها المصنف رحمه الله على أن جلود السباع لا يجوز الانتفاع
بها
وقد اختلفت في حكمة النهي فقال البيهقي : يحتمل أن النهي وقع لما يبقى عليها من
الشعر لأن الدباغ لا يؤثر فيه وقال غيره : يحتمل أن النهي عما لم يدبغ منها لأجل
النجاسة أو أن النهي لأجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء . وأما الاستدلال بأحاديث
الباب على أن الدباغ لا يطهر جلود السباع بناء على أنها مخصصة للأحاديث القاضية
بأن الدباغ مطهر على العموم فغير ظاهر لأن غاية ما فيها مجرد النهي عن الركوب
عليها وافتراشها ولا ملازمة بين ذلك وبين النجاسة كما لا ملازمة بين النهي عن الذهب
والحرير ونجاستهما فلا معارضة بل يحكم بالطهارة بالدباغ مع منع الركوب عليها ونحوه
مع أنه يمكن أن يقال إن أحاديث هذا الباب أعم من أحاديث الباب الذي بعده من وجه
لشمولها لما كان مدبوغا من جلود السباع وما كان غير مدبوغ
قال المصنف رحمه الله : وهذه النصوص تمنع استعمال جلد ما لا يؤكل لحمه [ ص 73 ] في
اليابسات وتمنع بعمومها طهارته بذكاة أو دباغ انتهى
باب ما جاء في تطهير الدباغ
1 -
عن ابن عباس قال : ( تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى
الله عليه و سلم فقال : هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا : إنها ميتة
فقال : إنما حرم أكلها )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه قال فيه ( من ميمونة ) جعله من مسندها وليس فيه
للبخاري والنسائي ذكر الدباغ . وفي لفظ لأحمد : ( أن داجنا لميمونة ماتت فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم ألا انتفعتم بإهابها ألا دبغتموه فإنه ذكاته ) وهذا
تنبيه على أن الدباغ إنما يعمل فيما تعمل فيه الذكاة . وفي رواية لأحمد والدارقطني
( يطهرها الماء والقرظ ) رواه الدارقطني مع غيره وقال : هذه أسانيد صحاح
-
وفي الباب عن أم سلمة عند الطبراني في الأوسط والدارقطني وفي إسناده فرج بن فضالة
وهو ضعيف . وعن ميمونة عند مالك وأبي داود والنسائي وابن حبان والدارقطني بلفظ : (
أنه مر برسول الله صلى الله عليه و سلم رجال يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال : لو
أخذتم إهابها فقالوا : إنها ميتة فقال : يطهرها الماء والقرظ ) . وصححه ابن السكن
والحاكم
قوله ( أخذتم إهابها ) الإهاب ككتاب الجلد أو ما لم يدبغ قاله في القاموس . قال
أبو داود في سننه : قال النضر بن شميل : إنما يسمى إهابا ما لم يدبغ فإذا دبغ لا
يقال له إهاب إنما يسمى شنا وقربة وسيذكره المصنف فيما بعد . وفي الصحاح : والإهاب
الجلد ما لم يدبغ وبقية الكلام على الإهاب تأتي في حديث عبد الله بن عكيم
قوله ( إن داجنا ) الداجن المقيم في المكان ومنه الشاة إذا ألفت البيت
قوله ( فإنه ذكاته ) أراد أن الدباغ في التطهير بمنزلة الذكاة في إحلال الشاة وهو
تشبيه بليغ . وأخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي وابن حبان من حديث الجون بن قتادة
عن سلمة بن المحبق بلفظ : ( دباغ الأديم ذكاته ) قال الحافظ : وإسناده صحيح . قال
أحمد : الجون لا أعرفه وبهذا أعله الأثرم قال الحافظ : وقد عرفه غيره علي بن
المديني وروى عنه يعني الجون الحسن وقتادة وصحح ابن سعد وابن حزم وغير واحد أن له
صحبة وتعقب أبو بكر بن مفوز ذلك على ابن حزم
وفي الباب أيضا عن ابن عباس عند الدارقطني وابن شاهين من طريق فليح عن زيد بن أسلم
عن أبي وعلة عنه بلفظ : ( دباغ كل إهاب طهوره ) وأصله في مسلم من حديث أبي الخير
عن أبي وعلة بلفظ : ( دباغه [ ص 74 ] طهوره ) ورواه الدولابي في الكنى من حديث ابن
عباس بلفظ : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ذكاة كل مسك دباغه ) ورواه
البزار والطبراني والبيهقي عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في شاة ميمونة :
( ألا استمتعتم بإهابها فإن دباغ الأديم طهوره ) وفي إسناده يعقوب بن عطاء ضعفه
يحيى بن معين وأبو زرعة . وأخرج أحمد وابن خزيمة والحاكم والبيهقي من حديثه أيضا :
( إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد أن يتوضأ من سقاء فقيل له إنه ميتة فقال
: دباغه يزيل خبثه أو نجسه أو رجسه ) وصححه الحاكم والبيهقي . وعن عائشة عند
النسائي وابن حبان والطبراني والدارقطني والبيهقي بلفظ : ( دباغ جلود الميتة
طهورها )
وعن المغيرة بن شعبة عند الطبراني وعن زيد بن ثابت عند الطبراني أيضا وعند الحاكم
أبي أحمد في الكنى وفي تاريخ نيسابور . وعن أبي أمامة عنده أيضا وعن ابن عمر عنده
أيضا . وعند ابن شاهين وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم عند البيهقي وأيضا
عن أنس عند ابن منده . وعن جابر عنده أيضا وعن ابن مسعود عنده أيضا
الحديث المذكور في الباب يدل على طهارة أديم الميتة بالدباغ نص في الشاة المعينة
التي هي السبب أو نوعه على الخلاف وظاهر فيما عداه لأن قوله إنما حرم من الميتة
أكلها بعد قولهم إنها ميتة يعم كل ميتة والأحاديث المذكورة في هذا الباب تدل على
عدم اختصاص هذا الحكم بنوع من أنواع الميتة
وقد اختلف أرباب العلم في ذلك على أقوال سبعة ذكرها النووي في شرح مسلم وسنذكرها
ههنا غير مقتصرين على المقدار الذي ذكره بل نضم إليه حجج الأقوال مع نسبة بعض
المذاهب إلى جماعات من العلماء لم يذكرهم فنقول :
المذهب الأول : إنه يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والمتولد من
أحدهما ويطهر بالدباغ ظاهر الجلد وباطنه ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة
والمائعة ولا فرق بين مأكول اللحم وغيره وإلى هذا ذهب الشافعي واستدل على استثناء
الخنزير بقوله ( فإنه رجس ) وجعل الضمير عائدا إلى المضاف إليه وقاس الكلب عليه
بجامع النجاسة قال لأنه لا جلد له . قال النووي : وروي هذا المذهب عن علي بن أبي
طالب وابن مسعود
المذهب الثاني : إنه لا يطهر شيء من الجلود بالدباغ قال النووي : وروي هذا القول
عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة وهو أشهر الروايتين عن أحمد وإحدى
الروايتين عن مالك ونسبه في البحر إلى أكثر العترة واستدلوا بحديث عبد الله بن
عكيم الآتي بلفظ : ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) وكان ذلك قبل موته صلى
الله عليه و سلم [ ص 75 ] بشهر فكان ناسخا لسائر الأحاديث وأجيب بأنه قد أعل
بالاضطراب والإرسال كما سيأتي فلا ينتهض لنسخ الأحاديث الصحيحة وأيضا التاريخ بشهر
أو شهرين كما سيأتي معل لأنه من رواية خالد الحذاء وقد خالفه شعبة وهو أحفظ منه
وشيخهما واحد ومع إعلال التاريخ يكون معارضا للأحاديث الصحيحة وهي أرجح منه بكل
حال فإنه قد روي في ذلك أعني تطهير الدباغ للأديم خمسة عشر حديثا عن ابن عباس
حديثان . وعن أم سلمة ثلاثة . وعن أنس حديثان . وعن سلمة ابن المحبق وعائشة
والمغيرة وأبي أمامة وابن مسعود وشيبان وثابت وجابر . وأثران عن سودة وابن مسعود
على أنه لا حاجة إلى الترجيح بهذا لأن حديث ابن عكيم عام وأحاديث التطهير خاصة
فيبنى العام على الخاص أما على مذهب من يبني العام على الخاص مطلقا كما هو قول
المحققين من أئمة الأصول فظاهر وأما على مذهب من يجعل العام المتأخر ناسخا فمع
كونه مذهبا مرجوحا لا نسلم تأخر العام هنا لما ثبت في أصول الأحكام والتجريد من
كتب أهل البيت أن عليا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( لا تنتفع من
الميتة بإهاب ولا عصب فلما كان من الغد خرجت فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق
فقال : ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها فقلت : يا رسول الله أين قولك
بالأمس فقال : ينتفع منها بالشيء ) . ولو سلمنا تأخر حديث ابن عكيم لكان ما أسلفنا
عن النضر بن شميل من تفسير الإهاب بالجلد الذي لم يدبغ وما صرح به صاحب الصحاح
ورواه صاحب القاموس كما قدمنا موجبا لعدم التعارض إذ لا نزاع في نجاسة إهاب الميتة
قبل دباغه
فالحق أن الدباغ مطهر ولم يعارض أحاديثه معارض من غير فرق بين ما يؤكل لحمه وما لا
يؤكل وهو مذهب الجمهور قال الحازمي : وممن قال بذلك يعني جواز الانتفاع بجلود
الميتة ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعطاء ابن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن والشعبي
وسالم يعني بن عبد الله وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير ويحيى بن
سعيد الأنصاري ومالك والليث والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن المبارك
والشافعي وأصحابه وإسحاق الحنظلي وهذا هو مذهب الظاهرية كما سيأتي
المذهب الثالث : إنه يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم ولا يطهر غيره . قال النووي :
وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثور وإسحاق بن راهويه واحتجوا بما في
الأحاديث من جعل الدباغ في الأهب كالذكاة وقد تقدم بعض ذلك [ ص 76 ] ويأتي بعض .
قالوا : والذكاة المشبه بها لا يحل بها غير المأكول فكذلك المشبه لا يطهر جلد غير
المأكول وهذا إن سلم لا ينفي ما استفيد من الأحاديث العامة للمأكول وغيره وقد تقرر
في الأصول أن العام لا يقصر على سببه فلا يصح تمسكهم بكون السبب شاة ميمونة
المذهب الرابع : يطهر جلود جميع الميتات إلا الخنزير قال النووي : وهو مذهب أبي
حنيفة واحتج بما تقدم في المذهب الأول
المذهب الخامس : يطهر الجميع إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فلا ينتفع به في
المائعات قال النووي : وهو مذهب مالك المشهور في حكاية أصحابنا عنه انتهى . وهو
تفصيل لا دليل عليه
المذهب السادس : يطهر الجميع والكلب والخنزير ظاهرا وباطنا قال النووي : وهو مذهب
داود وأهل الظاهر وحكي عن أبي يوسف وهو الراجح كما تقدم لأن الأحاديث الواردة في
هذا الباب لم يفرق فيها بين الكلب والخنزير وما عداهما . واحتجاج الشافعي بالآية
على إخراج الخنزير وقياس الكلب عليه لا يتم إلا بعد تسليم أن الضمير يعود إلى
المضاف إليه دون المضاف وأنه محل نزاع ولا أقل من الاحتمال إن لم يكن رجوعه إلى
المضاف راجحا والمحتمل لا يكون حجة على الخصم . وأيضا لا يمتنع أن يقال رجسية
الخنزير على تسليم شمولها لجميعه لحما وشعرا وجلدا وعظما مخصصة بأحاديث الدباغ
المذهب السابع : إنه ينتفع بجلود الميتة وإن لم تدبغ ويجوز استعمالها في المائعات
واليابسات قال النووي : وهو مذهب الزهري وهو وجه شاذ لبعض أصحابنا لا تعريج عليه
ولا التفات إليه انتهى . واستدل لذلك بحديث الشاة باعتبار الرواية التي لم يذكر
فيها الدباغ ولعله لم يبلغ الزهري بقية الروايات وسائر الأحاديث وقد رده في البحر
بمخالفة الإجماع
2 -
وعن ابن عباس قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أيما إهاب دبغ
فقد طهر )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وقال : قال إسحاق عن النضر بن شميل إنما
يقال الإهاب لجلد ما يؤكل لحمه
3 - وعن ابن عباس عن سودة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : ( ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا )
4 - رواه أحمد والنسائي والبخاري وقال : إن سودة مكان عن
5 -
وعن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت )
- رواه الخمسة إلا الترمذي . وللنسائي : ( سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن جلود
الميتة فقال : دباغها ذكاتها ) . وللدارقطني عنها : ( عن النبي صلى الله عليه و
سلم [ ص 77 ] قال : طهور كل أديم دباغه ) . قال الدارقطني : إسناده كلهم ثقات
-
الحديث الأول قال الترمذي : حسن صحيح ورواه الشافعي وابن حبان والدارقطني بإسناد
على شرط الصحة وقال : إنه حسن ورواه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث جابر
والحديث الثالث أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني والبيهقي
قوله ( لجلد ما يؤكل لحمه ) هذا يخالف ما قدمنا عن أبي داود أن النضر بن شميل فسر
الإهاب بالجلد قبل أن يدبغ ولم يخصه بجلد المأكول ورواية أبي داود عنه أرجح
لموافقتها ما ذكره أهل اللغة كصاحب الصحاح والقاموس والنهاية وغيرها . والمبحث
لغوي فيرجح ما وافق اللغة ولم نجد في شيء من كتب اللغة ما يدل على تخصيص الإهاب بإهاب
مأكول اللحم كما رواه الترمذي عنه
قوله ( مسكها ) بفتح الميم وإسكان السين المهملة هو الجلد
قوله ( شنا ) بفتح الشين المعجمة بعدها نون أي قربة خلقة
قوله ( دباغها ذكاتها ) استدل بهذا من قال إنه يطهر بالدبغ جلد ميتة المأكول فقط
وقد تقدم الجواب عليه
قوله ( طهور كل أديم ) وكذا قوله ( أيما إهاب دبغ ) يشملان جلود ما لا يؤكل لحمه
كالكلب والخنزير وغيرهما شمولا ظاهرا وقد تقدم البحث في ذلك
؟ ؟ ؟ ... 4 ... باب تحريم أكل جلد الميتة وإن دبغ
1 -
عن ابن عباس قال : ( ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت : يا رسول الله ماتت فلانة
تعني الشاة فقال : فلولا أخذتم مسكها قالوا : أنأخذ مسك شاة قد ماتت فقال لها رسول
الله صلى الله عليه و سلم : إنما قال الله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما
على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وأنتم لا تطعمونه
أن تدبغوه فتنتفعوا به فأرسلت إليهم فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت
عندها )
- رواه أحمد بإسناد صحيح
-
الحديث يدل على تحريم أكل جلود الميتة وأن الدباغ وإن أوجب طهارتها لا يحلل أكلها
ومما يدل على تحريم الأكل أيضا قوله صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عباس المتقدم
( إنما حرم من الميتة أكلها ) وهذا مما لا أعلم فيه خلافا ويدل أيضا على طهارة
جلود الميتة بالدبغ وقد تقدم الكلام عليه
باب ما جاء في نسخ تطهير الدباغ . [ ص 78 ]
1 -
عن عبد الله بن عكيم قال : ( كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل وفاته
بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )
- رواه الخمسة ولم يذكر منهم المدة غير أحمد وأبي داود . قال الترمذي : هذا حديث
حسن
وللدارقطني : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى جهينة أني كنت رخصت لكم
في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )
وللبخاري في تاريخه عن عبد الله بن عكيم قال : حدثنا مشيخة لنا من جهينة ( أن
النبي صلى الله عليه و سلم كتب إليهم أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء )
-
وأخرجه أيضا الشافعي والبيهقي وابن حبان وقال عبد الله بن عكيم شهد كتاب رسول الله
صلى الله عليه و سلم حيث قرئ عليهم في جهينة وسمع مشايخ جهينة يقولون ذلك
وقال البيهقي والخطابي : هذا الخبر مرسل . وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه :
ليست لعبد الله بن عكيم صحبة وإنما روايته كتابة وخالفه الحاكم فأثبت لعبد الله
صحبة . قال الحافظ : وأغرب الماوردي فزعم أنه نقل عن علي بن المديني أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم مات ولعبد الله بن عكيم سنة
وقال صاحب الإمام : تضعيف من ضعفه ليس من قبيل الرجال فإنهم كلهم ثقات وإنما ينبغي
أن يحمل الضعف على الاضطراب كما نقل عن أحمد . ومن الاضطراب فيه ما رواه ابن عدي
والطبراني من حديث شبيب بن سعيد عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه ولفظه : (
جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن بأرض جهينة أني كنت رخصت لكم في
إهاب الميتة وعصبها فلا تنتفعوا بإهاب ولا عصب ) قال الحافظ : إسناده ثقات وتابعه
فضالة بن المفضل عند الطبراني في الأوسط . ورواه أبو داود من حديث خالد عن الحكم
عن عبد الرحمن أنه انطلق هو وأناس معه إلى عبد الله بن عكيم فدخلوا وقعدت على
الباب فخرجوا إلي وأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم الحديث فهذا يدل على أن عبد
الرحمن ما سمعه من ابن عكيم لكن إن وجد التصريح بسماعه منه حمل على أنه سمعه منه
بعد ذلك
وفي الباب عن ابن عمر رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ وفيه عدي بن الفضل وهو
ضعيف . وعن جابر رواه ابن وهب وفيه زمعة وهو ضعيف . ورواه أبو بكر الشافعي في
فوائده من طريق أخرى قال الشيخ الموفق : إسناده حسن . قال [ ص 79 ] الحازمي في
الناسخ والمنسوخ : في إسناد حديث ابن عكيم اختلاف رواه الحكم مرة عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى عن ابن عكيم ورواه عنه القاسم ابن مخيمرة عن خالد عن الحكم وقال : إنه لم
يسمعه من ابن عكيم ولكن من أناس دخلوا عليه ثم خرجوا وأخبروه ولولا هذه العلل لكان
أولى الحديثين أن يؤخذ به حديث ابن عكيم ثم قال : وطريق الإنصاف فيه أن يقال إن
حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ لو صح ولكنه كثير الاضطراب لا يقاوم حديث
ميمونة في الصحة ثم قال : فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيح ويحمل
حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ وحينئذ يسمى إهابا وبعد الدباغ يسمى
جلد أو لا يسمى إهابا هذا معروف عند أهل اللغة وليكون جمعا بين الحكمين وهذا هو
الطريق في نفي التضاد انتهى
ومحصل الأجوبة على هذا الحديث الإرسال لعدم سماع عبد الله بن عكيم من النبي صلى
الله عليه و سلم ثم الانقطاع لعدم سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عبد الله بن
عكيم ثم الاضطراب في سنده فإنه تارة قال عن كتاب النبي صلى الله عليه و سلم وتارة
عن مشيخة من جهينة وتارة عمن قرأ الكتاب ثم الاضطراب في متنه فرواه الأكثر من غير
تقييد ومنهم من رواه بتقييد شهر أو شهرين أو أربعين يوما أو ثلاثة أيام ثم الترجيح
بالمعارضة بأن أحاديث الدباغ أصح ثم القول بموجبه بأن الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ
لا بعده حمله على ذلك ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما ثم الجمع بين هذا الحديث
والأحاديث السابقة بأن هذا عام وتلك خاصة وقد سبق الكلام على ذلك في باب ما جاء في
تطهير الدباغ مستكملا
قال المصنف رحمه الله : وأكثر أهل العلم على أن الدباغ يطهر في الجملة لصحة النصوص
به وخبر ابن عكيم لا يقاربها في الصحة والقوة لينسخها قال الترمذي : سمعت أحمد بن
الحسن يقول : كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل وفاته بشهرين
وكان يقول : هذا آخر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ترك أحمد هذا الحديث
لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم فقال عن عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهينة
اه . قال الخلال لما رأى أبو عبد الله تزلزل الرواية فيه توقف
باب نجاسة لحم الحيوان الذي لا يؤكل إذا ذبح
1 - عن سلمة بن الأكوع قال : ( لما أمسى اليوم الذي فتحت عليهم فيه خيبر أوقدوا نيرانا كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما هذه النار على أي شيء [ ص 80 ] توقدون قالوا : على لحم قال : على أي لحم قالوا : على لحم الحمر الأنسية فقال : أهريقوها واكسروها فقال رجل : يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها فقال : أو ذاك ) وفي لفظ : ( فقال : اغسلوا )
2 -
وعن أنس ( قال : أصبنا من لحم الحمر يعني يوم خيبر فنادى منادي رسول الله صلى الله
عليه و سلم أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس أو نجس )
- متفق عليهما
-
وأخرجاه أيضا من حديث علي بلفظ : ( نهي عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر
الأهلية ) وهو متفق عليه أيضا من حديث جابر وابن عمر وابن عباس والبراء وأبي ثعلبة
وعبد الله بن أبي أوفى
وأخرجه البخاري من حديث زاهر الأسلمي والترمذي عن أبي هريرة والعرباض بن سارية
وأبو داود والنسائي عن خالد بن الوليد وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن أبو داود
والبيهقي من حديث المقدام بن معد يكرب
ورواه الدارمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية )
وفي الصحيحين من رواية الشعبي ( لا أدري أنهي عنها من أجل أنها كانت حمولة الناس
أو حرمت )
وفي البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن زيد : يزعمون أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية قال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو
والغفاري عندنا بالبصرة ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس
والحديثان استدل بهما على تحريم الحمر الأهلية وهو مذهب الجماهير من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم . وقال ابن عباس : ليست بحرام . وعن مالك ثلاث روايات وسيأتي
تفصيل ذلك وبسط الحجج في باب النهي عن الحمر الإنسية من كتاب الأطعمة إن شاء الله
تعالى . وقد أوردهما المصنف هنا للاستدلال بهما على نجاسة لحم الحيوان الذي لا
يؤكل لأن الأمر بكسر الآنية أولا ثم الغسل ثانيا ثم قوله فإنها رجس أو نجس ثالثا
يدل على النجاسة ولكنه نص في الحمر الإنسية وقياس في غيرها مما لا يؤكل بجامع عدم
الأكل ولا يجب التسبيع إذ أطلق الغسل ولم يقيده بمثل ما قيده في ولوغ الكلب . وقال
أحمد في أشهر الروايتين عنه : إنه يجب التسبيع ولا أدري ما دليله فإن كان القياس
على لعاب الكلب فلا يخفى ما فيه وإن كان غيره فما هو
وقوله ( الإنسية ) بكسر الهمزة وفتحها مع سكون النون والإنسي الإنس من كل شيء
أبواب الأواني . [ ص 81 ]
باب ما جاء في آنية الذهب والفضة
1 -
عن حذيفة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تلبسوا الحرير ولا
الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في
الدنيا ولكم في الآخرة )
- متفق عليه وهو لبقية الجماعة إلا حكم الأكل منه خاصة
قال ابن منده : مجمع على صحته
قوله ( في صحافها ) الصحاف جمع صحفة وهي دون القصعة . قال الجوهري : قال الكسائي
أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المثكلة
تشبع الرجلين والثلاثة
والحديث يدل على [ ص 82 ] تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة أما الشرب
فبالإجماع وأما الأكل فأجازه داود والحديث يرد عليه ولعله لم يبلغه . قال النووي :
قال أصحابنا انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمالات في إناء ذهب
أو فضة إلا رواية عن داود في تحريم الشرب فقط ولعله لم يبلغه حديث تحريم الأكل
وقول قديم للشافعي والعراقيين فقال بالكراهة دون التحريم وقد رجع عنه . وتأوله
أيضا صاحب التقريب ولم يحمله على ظاهره فثبتت صحة دعوى الإجماع على ذلك وقد نقل
الإجماع أيضا ابن المنذر على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن
قرة وقد أجيب من جهة القائلين بالكراهة عن الحديث بأنه للتزهيد بدليل ( إنها لهم
في الدنيا ولكم في الآخرة ) ورد بحديث ( فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وهو وعيد
شديد ولا يكون إلا على محرم ولا شك أن أحاديث الباب تدل على تحريم الأكل والشرب
وأما سائر الاستعمالات فلا والقياس على الأكل والشرب قياس مع فارق فإن علة النهي
عن الأكل والشرب هي التشبه بأهل الجنة حيث يطاف عليهم بآنية من فضة وذلك مناط
معتبر للشارع كما ثبت عنه لما رأى رجلا متختما بخاتم من ذهب فقال : ( ما لي أرى عليك
حلية أهل الجنة ) أخرجه الثلاثة من حديث بريدة وكذلك في الحرير وغيره وإلا لزم
تحريم التحلي بالحلي والافتراش للحرير لأن ذلك استعمال وقد جوزه البعض من القائلين
بتحريم الاستعمال . وأما حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال فلا تتم مع
مخالفة داود والشافعي وبعض أصحابه وقد اقتصر الإمام المهدي في البحر على نسبة ذلك
إلى أكثر الأمة على أنه لا يخفى على المنصف ما في حجية الإجماع من النزاع
والإشكالات التي لا مخلص عنها
والحاصل أن الأصل الحل فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلمه الخصم ولا دليل في المقام
بهذه الصفة فالوقوف على ذلك الأصل المعتضد بالبراءة الأصلية هو وظيفة المنصف الذي
لم يخبط بسوط هيبة الجمهور لا سيما وقد أيد هذا الأصل حديث ( ولكن عليكم بالفضة
فالعبوا بها لعبا ) أخرجه أحمد وأبو داود ويشهد له ما سلف أن أم سلمة جاءت بجلجل
من فضة فيه شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه و سلم فخضخضت . الحديث في البخاري
وقد سبق . وقد قيل إن العلة في التحريم الخيلاء أو كسر قلوب الفقراء ويرد عليه
جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة
ولم يمنعها إلا من شذ . وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإجماع على الجواز وتبعه
الرافعي ومن بعده . وقيل العلة التشبه بالأعاجم وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله
ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك وأما اتخاذ الأواني بدون استعمال فذهب الجمهور إلى
منعه ورخصت فيه طائفة
2 -
وعن أم سلمة رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الذي
يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )
- متفق عليه . ولمسلم : ( إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة )
3 -
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في الذي يشرب
في إناء فضة : ( كأنما يجرجر في بطنه نارا )
- رواه أحمد وابن ماجه
- حديث أم سلمة أخرجه أيضا الطبراني وزاد إلا أن يتوب وقد تفرد علي بن مسهر بزيادة إناء الذهب الثابتة عند مسلم
-
وحديث عائشة رواه أيضا الدارقطني في العلل من طريق شعبة والثوري عن سعد بن إبراهيم
عن نافع عن امرأة ابن عمر سماها الثوري صفية
وأخرجه أيضا أبو عوانة في صحيحه بلفظ : ( الذي يشرب في الفضة إنما يجرجر في جوفه
نارا ) . وفيه اختلاف على نافع فقيل عنه عن ابن عمر أخرجه الطبراني في الصغير
وأعله أبو زرعة وأبو حاتم . وقيل عنه عن أبي هريرة ذكره الدارقطني في العلل أيضا
وخطأه من رواية عبد العزيز بن أبي رواد قال : والصحيح فيه عن نافع عن زيد بن عبد
الله بن عمر كما تقدم يعني عن زيد بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن [ ص 83 ] عبد
الرحمن بن أبي بكر عن أم سلمة . قال الحافظ : فرجع الحديث إلى حديث أم سلمة
قوله ( يجرجر ) الجرجرة صب الماء في الحلق كالتجرجر والتجرجر أن تجرعه جرعا
متداركا . جرجر الشراب صوت وجرجره سقاه على تلك الصفة . قاله في القاموس
وقوله ( نار جهنم ) يروى بالرفع وهو مجاز لأن النار لا تجرجر على الحقيقة ولكنه
جعل الصوت جرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النهي عنها واستحقاق
العقاب عليها كجرجرة نار جهنم في بطنه على طريق المجاز . والأكثر الذي عليه شراح
الحديث وأهل الغريب واللغة النصب . والمعنى كأنما تجرع نار جهنم . قال في الفتح :
وقوله يجرجر بضم التحتانية وفتح الجيم وسكون الراء وجيم مكسورة وهو صوت يردده
البعير في حنجرته إذا هاج ثم حكى الخلاف في ضبط هذه اللفظة في كتاب الأشربة
والحديث قد تقدم الكلام عليه
4 -
وعن البراء بن عازب قال : ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب في
الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة )
- مختصر من مسلم
- الحديث قد تقدم الكلام عليه
باب النهي عن التضبيب بهما إلا بيسير الفضة
1 -
عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من شرب في إناء
ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم )
- رواه الدارقطني
-
الحديث أخرجه أيضا البيهقي كلاهما من طريق يحيى بن محمد الجاري عن زكريا بن
إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن ابن عمر بهذا اللفظ . وزاد البيهقي في
رواية له عن جده وقال إنها وهم
وقال الحاكم في علوم الحديث لم نكتب هذه اللفظة ( أو إناء فيه شيء من ذلك ) إلا
بهذا الإسناد
وقال البيهقي المشهور عن ابن عمر في المضبب موقوفا عليه ثم أخرجه بسند له على شرط
الصحيح أنه كان لا يشرب في قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة ثم روي النهي في ذلك عن
عائشة وأنس
وفي حرف الباء الموحدة في الأوسط للطبراني من حديث أم عطية ( نهانا رسول الله صلى
الله عليه و سلم عن لبس الذهب وتفضيض الأقداح ) قال : تفرد به عمر بن يحيى بن
معاوية بن [ ص 84 ] عبد الكريم ويحيى بن محمد الجاري راوي تلك الزيادة قال البخاري
: يتكلمون فيه وقال ابن عدي : هذا حديث منكر كذا في الميزان وفي الكاشف ليس بالقوي
. وفي الميزان أيضا رواية يحيى بن زكريا بن إبراهيم وليس بالمشهور
الحديث استدل به من قال بتحريم الأكل والشرب في الآنية المذهبة والمفضضة
وقال أبو حنيفة : يجوز إذا وضع الشارب فمه على غير محل الذهب والفضة واستدل له بما
سيأتي وأجيب عن حديث الباب بما سلف من المقال فيه
2 -
وعن أنس : ( أن قدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة
من فضة )
- رواه البخاري ولأحمد عن عاصم الأحول قال : ( رأيت عند أنس قدح النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فيه ضبة فضة )
-
وفي لفظ للبخاري من حديث عاصم الأحول : رأيت قدح رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عند أنس بن مالك وكان انصدع فسلسله بفضة
وحكى البيهقي عن موسى بن هارون أو غيره أن الذي جعل السلسلة هو أنس لأن لفظه فجعلت
مكان الشعب سلسلة وجزم بذلك ابن الصلاح . قال الحافظ : وفيه نظر لأن في الخبر عند
البخاري عن عاصم قال : وقال ابن سيرين : إنه كان فيه حلقة من حديد فأراد أنس أن
يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة فقال له أبو طلحة : لا تغير شيئا صنعه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فهذا يدل على أنه لم يغير شيئا
الحديث يدل على جواز اتخاذ سلسلة أو ضبة من فضة في إناء الطعام والشراب وهو حجة
لأبي حنيفة والحديث السابق الذي فيه ( أو إناء فيه شيء من ذلك ) على فرض صحته لا
يعارض هذا لأن شيئا عام وهذا مخصص له وكذلك حديث النهي عن تفضيض الأقداح السابق
مخصص بهذا فلا يعارض
قوله ( الشعب ) هو الصدع والشق
وقوله ( سلسلة ) السلسلة بفتح الفاء ( 1 ) المراد بها إيصال الشيء بالشيء
_________
( 1 ) أي فاء كلمة سلسلة التي هي السين
باب الرخصة في آنية الصفر ونحوها
1 -
عن عبد الله بن زيد قال : ( أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجنا له
ماء في تور من صفر فتوضأ )
- رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه
2 -
وعن زينب بنت جحش : ( أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يتوضأ في [ ص
85 ] مخضب من صفر )
- رواه أحمد
-
قوله ( في تور ) التور بفتح المثناة الفوقية يشبه الطشت وقيل هو الطشت . والطشت
بفتح الطاء وكسرها وبإسقاط التاء لغات
قوله ( من صفر ) الصفر بصاد مهملة مضمومة نوع من النحاس
قوله ( في مخضب ) المخضب بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة بعدها
موحدة المشهور أنه الإناء الذي يغسل فيه الثياب من أي جنس كان وقد يطلق على الإناء
صغر أو كبر
والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على جواز استعمال آنية الصفر للوضوء وغيره وهو
كذلك . وله فوائد محلها الوضوء
باب استحباب تخمير الأواني
1 -
عن جابر بن عبد الله في حديث له : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أوك
سقاءك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو أن تعرض عليه عودا )
- متفق عليه . ولمسلم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : غطوا الإناء
وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس له غطاء أو سقاء
ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء )
-
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي . ولفظ أبي داود : ( أغلق بابك واذكر اسم
الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا واطف مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك ولو
بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله ) وله في أخرى من حديث
جابر : ( فإن الشيطان لا يفتح بابا غلقا ولا يحل وكاء ولا يكشف إناء وإن الفويسقة
تضرم على الناس بيتهم أو بيوتهم ) . وأخرجها أيضا مسلم والترمذي وابن ماجه وفي
رواية له أيضا عن جابر قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستسقى
فقال رجل من القوم : ألا نسقيك نبيذا قال : بلى فخرج الرجل يشتد فجاء بقدح فيه
نبيذ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا خمرته ولو أن تعرض عليه عودا ) .
وأخرجها مسلم
قوله ( أوك سقاءك ) الوكاء ككباء رباط القربة وقد وكأها وأوكأها أي ربطها
قوله ( وخمر إناءك ) التخمير التغطية
قوله ( ولو أن تعرض عليه عودا ) أي تضعه على العرض وهو الجانب من الإناء من عرض
العود على الإناء والسيف على الفخذ يعرضه ويعرضه فبهما
قوله ( وباء ) الوباء محركة الطاعون أو كل مرض عام قاله [ ص 86 ] في القاموس
والحديث يدل على مشروعية التبرك بذكر اسم الله عند إيكاء السقاء وتخمير الإناء
وكذلك عند تغليق الباب وإطفاء المصباح كما في الروايات التي ذكرناها . وقد أشعر
التعليل بقوله ( فإن الشيطان إلى آخره ) أن في التسمية حرزا عن الشيطان وأنها تحول
بينه وبين مراده . والتعليل بقوله ( فإن في السنة ليلة ) كما في رواية مسلم يشعر
بأن شرعية التخمير للوقاية عن الوباء وكذلك الإيكاء وقد تكلف بعضهم لتعيين هذه
الليلة ولا دليل له على ذلك
باب آنية الكفار
1 -
عن جابر بن عبد الله قال : ( كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنصيب
من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك عليهم )
- رواه أحمد وأبو داود
2 -
وعن أبي ثعلبة قال : ( قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم
قال : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها )
- متفق عليه ولأحمد وأبي داود : ( إن أرضنا أرض أهل الكتاب وإنهم يأكلون لحم
الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم قال : إن لم تجدوا غيرها
فأرحضوها بالماء واطبخوا فيها واشربوا ) . وللترمذي قال : ( سئل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم عن قدور المجوس قال : أنقوها غسلا واطبخوا فيها )
-
حديث جابر أخرجه ابن أبي شيبة بمعناه واستدل به من قال بطهارة الكافر وهو مذهب
الجماهير من السلف والخلف كما قاله النووي لأن تقرير المسلمين على الاستمتاع بآنية
الكفار مع كونها مظنة لملابسهم ومحلا للمنفصل من رطوبتهم مؤذن بالطهارة
وحديث أبي ثعلبة استدل به من قال بنجاسة الكافر وهو مذهب الهادي والقاسم والناصر
ومالك وقد نسبه القرطبي في شرح مسلم إلى الشافعي قال في الفتح : وقد أغرب
ووجه الدلالة أنه لم يأذن بالأكل فيها إلا بعد غسلها ورد بأن الغسل لو كان لأجل
النجاسة لم يجعله مشروطا بعدم الوجدان لغيرها إذ الإناء المتنجس لا فرق بينه وبين
ما لم يتنجس بعد إزالة النجاسة فليس ذلك إلا للاستقذار . ورد أيضا بأن الغسل إنما
هو لتلوثها بالخمر ولحم الخنزير كما ثبت في رواية أبي ثعلبة عند أحمد وأبي داود
إنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر وبما ذكره في البحر من أنها لو حرمت
رطوبتهم لاستفاض نقل [ ص 87 ] توقيهم لقلة المسلمين حينئذ وأكثر مستعملاتهم لا
يخلو منها ملبوسا ومطعوما والعادة في مثل ذلك تقتضي الاستفاضة انتهى . وأيضا قد
أذن بأكل طعامهم وصرح بحله وهو لا يخلو من رطوباتهم في الغالب
وقد استدل من قال بالنجاسة بقوله تعالى { إنما المشركون نجس } وقد استوفينا البحث
في هذه المسألة وصرحنا بما هو الحق في باب طهارة الماء المتوضأ به وهو الباب
الثاني من أبواب الكتاب فراجعه
3 -
وعن أنس : ( أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خبز شعير وإهالة
سنخة فأجابه )
- رواه أحمد . والإهالة الودك والسنخة الزنخة المتغيرة . وقد صح عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم الوضوء من مزادة مشركة . وعن عمر الوضوء من جرة نصرانية
-
الكلام على فقه الحديثين قد سبق . قال في النهاية في حرف السين : السنخة المتغيرة
الريح ويقال بالزاي . وقال في حرف الزاي : أن رجلا دعا النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقدم إليه إهالة زنخة فيها عرف أي متغيرة الرائحة ويقال سنخة بالسين انتهى
قال المصنف رحمه الله تعالى : وقد ذهب بعض أهل العلم إلى المنع من استعمال آنية
الكفار حتى تغسل إذا كانوا ممن لا تباح ذبيحته وكذلك من كان من النصارى بموضع
متظاهرا فيه بأكل لحم الخنزير متمكنا فيه أو يذبح بالسن والظفر ونحو ذلك وأنه لا
بأس بآنية من سواهم جمعا بذلك بين الأحاديث . واستحب بعضهم غسل الكل لحديث الحسن
بن علي قال : ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك ) . رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه اه . وصححه أيضا ابن حبان والحاكم
أبواب أحكام التخلي
باب ما يقول المتخلي عند دخوله وخروجه
1 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا
دخل الخلاء قال : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )
- رواه الجماعة ولسعيد بن منصور في سننه كان يقول : ( بسم الله اللهم إني أعوذ بك
من الخبث والخبائث )
-
قوله ( إذا دخل الخلاء ) قال في الفتح : أي كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول
لا بعده وقد صرح بهذا البخاري في الأدب المفرد قال : حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد
بن زيد ثنا عبد العزيز [ ص 88 ] ابن صهيب قال : حدثني أنس قال : ( كان النبي صلى
الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال ) فذكر مثل حديث الباب وهذا في
الأمكنة المعدة لذلك وأما في غيرها فيقوله في أول الشروع عند تشمير الثياب وهذا
مذهب الجمهور
قوله ( الخبث ) بضم المعجمة والموحدة كذا في الرواية وقال الخطابي : إنه لا يجوز
غيره وتعقب بأنه يجوز إسكان الباء الموحدة كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه
ككتب وكتب قاله في الفتح . قال النووي : وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء
هنا ساكنة منهم أبو عبيدة إلا أن يقال إن ترك التخفيف أولى لئلا يشتبه بالمصدر .
والخبث جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة قال الخطابي وابن حبان وغيرهما : يريد ذكران
الشياطين وإنائهم قال في الفتح : قال البخاري ويقال الخبث أي بإسكان الباء فإن
كانت مخففة عن المحركة فقد تقدم توجيهه وإذا كانت بمعنى المفرد فمعناه كما قال ابن
الأعرابي المكروه قال : فإن كان من الكلام فهو الشتم وإن كان من الملل فهو الكفر
وإن كان من الطعام فهو الحرام وإن كان من الشراب فهو الضار وعلى هذا فالمراد
بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التناسب قال : وقد روى المعمري
هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال :
( إذا دخلتم الخلاء فقولوا بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث ) وإسناده على
شرط مسلم وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية اه . وهذه الرواية تشهد
لما في حديث الباب من رواية سعيد بن منصور
2 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من
الخلاء قال غفرانك )
- رواه الخمسة إلا النسائي
-
الحديث صححه الحاكم وأبو حاتم قال في البدر المنير : ورواه الدارمي وصححه ابن
خزيمة وابن حبان
وقوله ( غفرانك ) إما مفعول به منصوب بفعل مقدر أي أسألك غفرانك أو أطلب أو مفعول
مطلق أي اغفر غفرانك قيل إنه استغفر لتركه الذكر في تلك الحالة لما ثبت أنه كان
يذكر الله على كل أحواله إلا في حال قضاء الحاجة فجعل ترك الذكر في هذه الحالة
تقصيرا وذنبا يستغفر منه . وقيل استغفر لتقصيره في شكر نعمة الله عليه بإقداره على
إخراج ذلك الخارج وهو المناسب للحديث الآتي في الحمد
3 -
وعن أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من
الخلاء قال الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )
- رواه ابن ماجه
[ ص
89 ] - الحديث رواه ابن ماجه عن هارون بن إسحاق حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن
إسماعيل بن مسلم عن الحسن وقتادة عن أنس
فهارون بن إسحاق وثقه النسائي وقال في التقريب : صدوق وعبد الرحمن المحاربي هو ابن
محمد وثقه ابن معين والنسائي وقال في التقريب : لا بأس به وكان يدلس قاله أحمد
وإسماعيل ابن مسلم إن كان العبدي فقد وثقه أبو حاتم وإن كان البصري فهو ضعيف
وكلاهما يروى عن الحسن . وقد رواه أيضا النسائي وابن السني عن أبي ذر . ورمز
السيوطي بصحته
وفي حمده صلى الله عليه وآله وسلم إشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنة جزيلة فإن انحباس
ذلك الخارج من أسباب الهلاك فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها وحق على من
أكل ما يشتهيه من طيبات الأطعمة فسد به جوعته وحفظ به صحته وقوته ثم لما قضى منه وطره
ولم يبق فيه نفع واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة خرج بسهولة من مخرج معد
لذلك أن يستكثر من محامد الله جل جلاله اللهم أوزعنا شكر نعمتك
باب ترك استصحاب ما فيه ذكر الله
1 -
عن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه )
- رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي . وقد صح أن نقش خاتمه كان محمد رسول الله
-
الحديث أخرجه ابن حبان والحاكم قال النسائي : هذا حديث غير محفوظ وقال أبو داود :
منكر وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وأشار إلى شذوذه . وأما الترمذي فصححه . قال
النووي : هذا مردود عليه ذكره في الخلاصة . وقال المنذري : الصواب عندي تصحيحه فإن
رواته ثقات إثبات وتبعه أبو الفتح القشيري في آخر الاقتراح وعلته أنه من رواته
همام عن ابن جريج وابن جريج لم يسمع من الزهري وإنما رواه عن زياد بن سعد عن
الزهري بلفظ آخر وقد رواه مع همام مرفوعا يحيى بن الضريس البجلي ويحيى بن المتوكل
أخرجهما الحاكم والدارقطني وقد رواه عمر بن عاصم وهو من الثقات عن همام موقوفا على
أنس
وأخرج له البيهقي شاهدا وأشار إلى ضعفه ورجاله ثقات ورواه الحاكم أيضا ولفظه : (
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبس خاتما نقشه محمد رسول الله فكان إذا دخل
الخلاء وضعه ) وله شاهد من حديث ابن عباس رواه [ ص 90 ] الجوزقاني في الأحاديث
الضعيفة وينظر في سنده فإن رجاله ثقات إلا محمد بن إبراهيم الرازي فإنه متروك قاله
الحافظ
قوله ( وقد صح أن نقش خاتمه ) أخرجه البيهقي والحاكم قال الحافظ : ووهم النووي
والمنذري في كلاميهما على المهذب فقالا هذا من كلام المصنف لا من الحديث ولكنه
صحيح من طريق أخرى في أن نقش الخاتم كان كذلك
والحديث يدل على تنزيه ما فيه ذكر الله تعالى عن إدخاله الحشوش والقرآن بالأولى
حتى قال بعضهم يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة وقد خالف في ذلك المنصور بالله
فقال : لا يندب نزع الخاتم الذي فيه ذكر الله لتأديته إلى ضياعه وقد نهى عن إضاعة
المال والحديث يرده
باب كف المتخلي عن الكلام
1 -
عن ابن عمر رضي الله عنه : ( أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبول
فسلم عليه فلم يرد عليه )
- رواه الجماعة إلا البخاري
-
الحديث زاد فيه أبو داود من طريق ابن عمر وغيره ( أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم تيمم ثم رد على الرجل السلام ) . ورواه أيضا من طريق المهاجر بن قنفذ بلفظ
أنه : ( أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى
توضأ ثم اعتذر إليه فقال : إني كرهت أن أذكر الله عز و جل إلا على طهر أو قال على
طهارة ) وأخرج هذه الرواية أيضا النسائي وابن ماجه وهو يدل على كراهة ذكر الله حال
قضاء الحاجة ولو كان واجبا كرد السلام ولا يستحق المسلم في تلك الحال جوابا
قال النووي : وهذا متفق وسيأتي بقية الكلام على الحديث في باب استحباب الطهارة
لذكر الله وفيه أنه ينبغي لمن سلم عليه في تلك الحال أن يدع الرد حتى يتوضأ أو
يتيمم ثم يرد وهذا إذا لم يخش فوت المسلم أما إذا خشي فوته فالحديث لا يدل على
المنع لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمكن من الرد بعد أن توضأ أو تيمم على
اختلاف الرواية فيمكن أن يكون تركه لذلك طلبا للأشرف وهو الرد حال الطهارة ويبقى
الكلام في الحمد حال العطاس فالقياس على التسليم المذكور في حديث الباب وكذلك
التعليل بكراهة الذكر إلا على طهر يشعران المنع من ذلك . وظاهر حديث ( إذا عطس
أحدكم فليحمد الله ) يشعر بشرعيته في جميع الأوقات التي منها قضاء الحاجة فهل يخصص
عموم كراهة الذكر [ ص 91 ] المستفادة من المقام بحديث العطاس أو يجعل الأمر بالعكس
أو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه فيتعارضان فيه تردد . وقد قيل إنه يحمد بقلبه
وهو المناسب لتشريف مثل هذا الذكر وتعظيمه وتنزيهه
2 -
وعن أبي سعيد قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا يخرج الرجلان
يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
-
الحديث فيه عكرمة بن عمار العجلي وقد احتج به مسلم في صحيحه وضعف بعض الحفاظ حديث
عكرمة هذا عن يحيى بن أبي كثير ولكنه لا وجه للتضعيف بهذا فقد أخرج مسلم حديثه عن
يحيى واستشهد بحديثه البخاري عن يحيى أيضا وفي الترغيب والترهب أن في إسناده عياض
بن هلال أو هلال بن عياض وهو في عداد المجهولين . وأخرجه ابن السكن وصححه وابن
القطان من حديث جابر بلفظ : ( إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه
ولا يتحدثا ) قال الحافظ ابن حجر : وهو معلول
والحديث يدل على وجوب ستر العورة وترك الكلام فإن التعليل بمقت الله يدل على حرمة
الفعل المعلل وجوب اجتنابه لأن المقت هو البغض كما في القاموس وروي أنه ( أشد
البغض ) وقيل إن الكلام في تلك الحال مكروه فقط والقرينة الصارفة إلى معنى الكراهة
الإجماع على أن الكلام غير محرم في هذه الحالة ذكره الإمام المهدي في الغيث فإن صح
الإجماع صلح للصرف عند القائل بحجيته ولكنه يبعد حمل النهي على الكراهة ربطه بتلك
العلة
قوله ( يضربان الغائط ) يقال ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء وضربت في الأرض إذا سافرت
روي ذلك عن ثعلب والمراد هنا يمشيان إلى الغائط
قوله ( كاشفين ) قال النووي : كذا ضبطناه في كتب الحديث وهو منصوب على الحال قال :
ووقع في كثير من نسخ المهذب كاشفان وهو صحيح أيضا خبر مبتدأ محذوف أي وهما كاشفان
والأول أصوب
وذكر الرجلين في الحديث خرج مخرج الغالب وإلا فالمرأتان والمرأة والرجل أقبح من
ذلك
باب الإبعاد والاستتار للمتخلي في الفضاء . [ ص 92 ]
1 -
عن جابر قال : ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فكان لا يأتي
البراز حتى يغيب فلا يرى )
- رواه ابن ماجه ولأبي داود : ( كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد )
-
الحديث رجاله عند ابن ماجه رجال الصحيح إلا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي فقال
البخاري : يكتب حديثه . وقال أبو حاتم : ليس بالقوي وقال في التقريب : صدوق كثير
الوهم وقد أخرجه أيضا النسائي وأبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح من حديث المغيرة
بلفظ : ( كان إذا ذهب أبعد ) وأخرجه أبو داود من حديث جابر بلفظ : ( كان إذا أراد
البراز انطلق حتى لا يراه أحد ) وفي إسناده أيضا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي نزيل
مكة وقد تكلم فيه غير واحد . وقال في التقريب : صدوق كثير الوهم من السادسة
قوله ( لا يأتي البراز ) البراز بفتح الباء اسم للفضاء الواسع من الأرض كنى به عن
حاجة الإنسان كما كنى عنها بالغائط والخلاء
والحديث يدل على مشروعية الإبعاد لقاضي الحاجة والظاهر أن العلة إخفاء المستهجن من
الخارج فيقاس عليه إخفاء الإخراج لأن الكل مستهجن
2 -
وعن عبد الله بن جعفر قال : ( كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه . وحائش نخل أي جماعته ولا واحد له من لفظه
-
قوله ( هدف ) الهدف محركة كل مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل
قوله ( أو حائش نخل ) بالحاء المهملة فألف فياء مثناة تحتية فشين معجمة هو في كتب
اللغة كما ذكره المصنف
والحديث يدل على استحباب أن يكون قاضي الحاجة مستترا حال الفعل بما يمنع من رؤية الغير
له وهو على تلك الصفة ولعل قضاءه صلى الله عليه وآله وسلم للحاجة في حائش النخل في
غير وقت الثمرة لما عند الطبراني في الأوسط من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر : (
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة أو على ضفة
نهر جار ) ولكنه لم يروه عن ميمون إلا فرات بن السائب وفرات متروك قاله البخاري
وغيره
3 -
[ ص 93 ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من
أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان
يلعب بمقاعد بني آدم من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
-
الحديث رواه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي ومداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي
وفيه اختلاف وقيل إنه صحابي ولا يصح والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول وقال أبو
زرعة : شيخ وذكره ابن حبان في الثقات وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل
والحديث فيه الأمر بالتستر معللا بأن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم وذلك أن الشيطان
يحضر وقت قضاء الحاجة لخلوه عن الذكر الذي يطرد به فإذا حضر في ذلك الوقت أمر
الإنسان بكشف العورة وحسن له البول في المواضع الصلبة التي هي مظنة رشاش البول
وذلك معنى قوله يلعب بمقاعد بني آدم فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاضي
الحاجة بالتستر حال قضائها مخالفة للشيطان ودفعا لوسوسته التي يتسبب عنها النظر
إلى سوأة قاضي الحاجة المفضي إلى إثمه
قوله ( إلا أن يجمع كثيبا من رمل ) الكثيب بالثاء المثلثة قطعة مستطيلة تشبه
الربوة أي فإن لم يجد سترة فليجمع من التراب والرمل قدرا يكون ارتفاعه بحيث يستره
قوله ( فليستدبره ) أي يجعله دبر ظهره وفيه أن الساتر حال قضاء الحاجة يكون خلف
الظهر
باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة واستدبارها
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( إذا جلس
أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها )
- رواه أحمد ومسلم في رواية الخمسة إلا الترمذي قال : ( إنما أنا لكم بمنزلة
الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب
بيمينه وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروثة والرمة ) . وليس لأحمد فيه الأمر
بالأحجار
-
الحديث أخرجه أيضا مالك . وفي الباب عن أبي أيوب في الصحيحين كما سيأتي وعن سلمان
في مسلم . وعن عبد الله بن الحارث بن جزء في ابن ماجه وابن حبان . وعن معقل بن أبي
معقل في أبي داود . وعن سهل بن حنيف في مسند الدارمي وزيادة [ ص 94 ] لا يستطب
بيمينه هي أيضا في المتفق عليه من حديث أبي قتادة بلفظ : ( فلا يمس ذكره بيمينه
وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه ) قال ابن منده : مجمع على صحته وزيادة : ( وكان
يأمر بثلاثة أحجار ) أخرجها أيضا ابن خزيمة وابن حبان والدارمي وأبو عوانة في
صحيحه والشافعي من حديث أبي هريرة بلفظ : ( وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ) وأخرجها
أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وصححها من حديث عائشة بلفظ : (
فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهن فإنها تجزئ عنه ) وأخرجها مسلم من حديث سلمان
وأبو داود من حديث خزيمة بن ثابت بلفظ : ( فليستنج بثلاثة أحجار ) وعند مسلم من
حديث سلمان بلفظ ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نجتزئ بأقل من
ثلاثة أحجار )
والحديث يدل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط وقد اختلف
الناس في ذلك على أقوال :
الأول لا يجوز ذلك لا في الصحارى ولا في البنيان وهو قول أبي أيوب الأنصاري
الصحابي ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وأبي ثور وأحمد في رواية كذا قاله النووي
في شرح مسلم ونسبه في البحر إلى الأكثر ورواه ابن حزم في المحلى عن أبي هريرة وابن
مسعود وسراقة بن مالك وعطاء والأوزاعي . وعن السلف من الصحابة والتابعين
المذهب الثاني الجواز في الصحارى والبنيان وهو مذهب عروة بن الزبير وربيعة شيخ
مالك وداود الظاهري كذا رواه النووي في شرح مسلم عنهم وهو مذهب الأمير الحسين
المذهب الثالث أنه يحرم في الصحارى لا في العمران وإليه ذهب مالك والشافعي وهو
مروي عن العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن
حنبل في إحدى الروايتين عنه صرح بذلك النووي في شرح مسلم أيضا وزاد في البحر عبد
الله بن العباس ونسبه في الفتح إلى الجمهور
المذهب الرابع أنه لا يجوز الاستقبال لا في الصحارى ولا في العمران ويجوز
الاستدبار فيهما وهو أحد الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد
المذهب الخامس أن النهي للتنزيه فيكون مكروها وإليه ذهب الإمام القاسم بن إبراهيم
وأشار إليه في الأحكام وحصله القاضي زيد لمذهب الهادي عليه السلام ونسبه في البحر
إلى المؤيد بالله وأبي طالب والناصر والنخعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد
بن حنبل وأبي ثور وأبي أيوب الأنصاري
المذهب السادس جواز الاستدبار في البنيان فقط وهو قول أبي يوسف ذكره في [ ص 95 ]
الفتح
المذهب السابع التحريم مطلقا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس وهو محكي عن
إبراهيم وابن سيرين ذكره أيضا في الفتح وقد ذهب إلى عدم الفرق بين القبلتين
الهادوية ولكنهم صرحوا بأنه مكروه فقط
المذهب الثامن أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتهم فأما من كانت قبلته
في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا قاله أبو عوانة صاحب
المزني هكذا في الفتح
احتج أهل المذهب الأول بالأحاديث الصحيحة الواردة في النهي مطلقا كحديث الباب
وحديث أبي أيوب وحديث سلمان وغيرها عن غيرهم كما تقدم قالوا : لأن المنع ليس إلا
لحرمة القبلة وهذا المعنى موجود في الصحارى والبنيان ولو كان مجرد الحائل كافيا
لجاز في الصحارى لوجود الحائل من جبل أو واد أو غيرهما من أنواع الحائل . وأجابوا
عن حديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستقبل الشام مستدبر
الكعبة بأنه ليس فيه أنه كان ذلك بعد النهي وبأنه موافق لما كان عليه الناس قبل
النهي فهو منسوخ صرح بذلك ابن حزم . وعن حديث جابر الذي قال فيه : ( نهى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها )
بأن فيه أبان بن صالح وليس بالمشهور قاله ابن حزم . وفيه أنه قد حسن الحديث
الترمذي والبزار وصححه البخاري وابن السكن والأولى في الجواب عنه أن فعله صلى الله
عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في الأصول . وعن حديث عائشة
قالت : ( ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة
بفروجهم فقال أو قد فعلوها حولوا مقعدي قبل القبلة ) بأنه من طريق خالد بن أبي
الصلت وهو مجهول لا ندري من هو . قاله ابن حزم وقال الذهبي في ترجمته : إن حديث
حولوا مقعدي منكر وفيه أنه قال النووي في شرح مسلم أن إسناده حسن
واحتج أهل المذهب الثاني بحديث ابن عمر وجابر وعائشة وسيأتي ذكر من أخرجها في
الباب الذي بعد هذا وقالوا : إنها ناسخة للنهي
واحتج أهل المذهب الثالث بحديث ابن عمر وعائشة لأن ذلك كان في البنيان قالوا :
وبهذا حصل الجمع بين الأحاديث والجمع بينها ما أمكن هو الواجب قال الحافظ في الفتح
: وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة اه . ويرده حديث جابر الآتي فإنه لم يقيد
الاستقبال فيه بالبنيان وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا عموم لها وسيأتي تحقيق الكلام
في الباب الذي بعد هذا
وما روي عن ابن عمر أنه قال : إنما نهى عن ذلك في الفضاء كما سيأتي يؤيد هذا
المذهب
واحتج أهل [ ص 96 ] المذهب الرابع بحديث سلمان الذي في صحيح مسلم وليس فيه إلا
النهي عن الاستقبال فقط وهو باطل لأن النهي عن الاستدبار في الأحاديث الصحيحة وهو
زيادة يتعين الأخذ بها
واحتج أهل المذهب الخامس بحديث عائشة وجابر وابن عمر وسيأتي ذكر ذلك قالوا : إنها
صارفة للنهي عن معناه الحقيقي وهو التحريم إلى الكراهة وهو لا يتم في حديث ابن عمر
وجابر لأنه ليس فيهما إلا مجرد الفعل وهو لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في
الأصول ولا شك أن قوله ( لا تستقبلوا القبلة ) خطاب للأمة نعم إن صح حديث عائشة
لذلك
واحتج أهل المذهب السادس بحديث ابن عمر لأن فيه أنه رآه مستدبر القبلة مستقبل
الشام وفيه ما سلف
واحتج أهل المذهب السابع بما رواه أبو داود قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط ) رواه أبو داود وابن ماجه قال الحافظ
في الفتح : وهو حديث ضعيف لأن فيه راويا مجهول الحال وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك
أهل المدينة ومن على سمتها لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة
فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس . وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم
تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة وفيه نظر لما ذكرنا عن
إبراهيم وابن سيرين انتهى . وقد نسبه في البحر إلى عطاء والزهري والمنصور بالله
والمذهب
واحتج أهل المذهب الثامن بعموم قوله ( شرقوا أو غربوا ) وهو استدلال في غاية الركة
والضعف
إذا عرفت هذه المذاهب وأدلتها لم يخف عليك ما هو الصواب منها وسيأتيك التصريح به
والمقام من معارك النظار فتدبره
وفي الحديث أيضا دلالة على أنه يجب الاستنجاء بثلاثة أحجار ولا يجوز الاستنجاء
بدونها لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستنجاء بدون ثلاثة أحجار وأما بأكثر
من ثلاث فلا بأس به لأنه أدخل في الانقاء
وقد ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى وجوب الاستنجاء وأنه
يجب أن يكون بثلاثة أحجار أو ثلاث مسحات وإذا استنجى للقبل والدبر وجب ست مسحات
لكل واحد ثلاث مسحات قالوا : والأفضل أن يكون بست أحجار فإن اقتصر على حجر واحد له
ست أحرف أجزأه وكذلك تجزئ الخرقة الصفيقة التي إذا مسح بأحد جانبيها لا يصل البلل
إلى الجانب الآخر قالوا : وتجب الزيادة على ثلاثة أحجار وإن لم يحصل الانقاء بها
وذهب مالك وداود إلى أن الواجب الانقاء فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لبعض أصحاب
الشافعي وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أنه ليس بواجب وإنما يجب عند [ ص 97 ]
الهادوية على المتيمم إذا لم يستنج بالماء لإزالة النجاسة قالوا : إذ لا دليل على
الوجوب كذا في البحر
وفيه أنه قد ثبت الأمر بالاستجمار والنهي عن تركه بل النهي عن الاستجمار بدون
الثلاث فكيف يقال لا دليل على الوجوب
وفي الحديث أيضا النهي عن الاستطابة باليمين . قال النووي : وقد أجمع العلماء على
أنه منهي عنه ثم الجمهور على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم . وذهب بعض أهل
الظاهر إلى أنه حرام قال : وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا انتهى . قلت : وهو
الحق لأن النهي يقتضي التحريم ولا صارف له فلا وجه للحكم بالكراهة فقط
وفي الحديث أيضا دلالة على كراهة الاستجمار بالروثة وقد ثبت عنه صلى الله عليه
وآله وسلم عند البخاري أنه قال : إنها ركس ولم يستجمر بها وكذلك الرمة وهي العظم
لأنها من طعام الجن . وسيأتي الكلام عن ذلك في باب النهي عن الاستجمار بدون
الثلاثة الأحجار
2 -
وعن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا أتيتم الغائط
فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا وغربوا ) قال أبو أيوب : فقدمنا
الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى )
- متفق عليه
-
قوله ( إذا أتيتم الغائط ) هو الموضع المطمئن من الأرض كانوا ينتاوبونه للحاجة
فكنوا به عن نفس الحدث كراهية منهم لذكره بخاص اسمه
قوله ( ولكن شرقوا أو غربوا ) محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه مخالفا
لاستقبال القبلة واستدبارها كالمدينة وما في معناها من البلاد ولا يدخل فيه ما
كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب
قوله ( مراحيض ) بفتح الميم وبالحاء المهملة وبالضاد المعجمة جمع مرحاض وهو
المغتسل وهو أيضا كناية عن موضع التخلي
قوله ( ونستغفر الله ) قيل يراد به الاستغفار لباني الكنف على هذه الصفة الممنوعة
عنده وإنما وجب المصير إلى هذا التأويل لأن المنحرف لا يحتاج إلى استغفار
والحديث استدل به على المنع من استقبال القبلة . واستدل بقول أبي أيوب من لم يفرق
بين الصحارى والبنيان وقد تقدم الكلام على فقه الحديث في الذي قبله
باب جواز ذلك في البنيان . [ ص 98 ]
1 -
عن ابن عمر رضي الله عنه قال : ( رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة )
- رواه الجماعة
-
وقع في رواية لابن حبان مستقبل القبلة مستدبر الشام قال الحافظ : وهي خطأ تعد من
قسم المقلوب
قوله ( رقيت ) رقى إلى الشيء بكسر القاف رقيا ورقوا صعد وترقى مثله ورقى غيره
والمرقاة والمرقاة الدرجة ونظيره مسقاة مسقاة ومثناة ومثناة للحبل ومبناة ومبناة
للعيبة أو النطع يعني بفتح الميم وكسرها فيها قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي
قوله ( على بيت حفصة ) وقع في رواية ( على ظهر بيت لنا ) وفي أخرى ( على ظهر بيتنا
) وكلها في الصحيح . وفي رواية لابن خزيمة ( دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر
البيت ) وطريق الجمع أن يقال أضاف البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته وأضافه
إلى حفصة لأنه البيت الذي أسكنها فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أضافه
إلى نفسه باعتبار ما آل إليه الحال لأنه ورث حفصة دون أخوته لكونه شقيقها
الحديث يدل على جواز استدبار القبلة حال قضاء الحاجة وقد استدل به من قال بجواز
الاستقبال والاستدبار ورأى أنه ناسخ واعتقد الإباحة مطلقا
وبه احتج من خص عدم الجواز بالصحارى كما تقدم ومن خص المنع بالاستقبال دون
الاستدبار في الصحارى والعمران ومن جوز الاستدبار في البنيان وهي أربعة مذاهب من
المذاهب الثمانية التي تقدمت ولكنه لا يخفى أن الدليل باعتبار الثلاثة المذاهب
الأول من هذه الأربعة أخص من الدعوى . أما الأول منها فظاهر . وأما الثاني فلأن
المدعى جواز الاستقبال والاستدبار في البنيان وليس في الحديث إلا الاستدبار . وأما
الثالث فلأن المدعى جواز الاستدبار في الصحارى والعمران وليس في الحديث إلا
الاستدبار في العمران فقط ويمكن تأييد الأول من الأربعة بأن اعتبار خصوص كونه في
البنيان وصف ملغى فيطرح ويؤخذ منه الجواز مجردا عن ذلك ولكنه يفت في عضد هذا
التأييد أن الواجب أن يقتصر في مخالفة مقتضى العموم على مقدار الضرورة ويبقى العام
على مقتضى عمومه فيما بقي من الصور إذ لا معارض له فيما عدا تلك الصورة المخصوصة
التي ورد بها الدليل الخاص وهذا لو فرض أن حديث أبي [ ص 99 ] أيوب وغيره ورد بصيغة
واحدة تعم الاستقبال والاستدبار فكيف وهو قد ورد بصيغتين صيغة دلت على منع
الاستقبال وصيغة دلت على منع الاستدبار فغاية ما في حديث ابن عمر تخصيص الصيغة
الثانية لأنه وارد في البنيان وهي عامة لكل استدبار ويمكن أيضا تأييد المذهب
الثاني من هذه الأربعة بأن الاستقبال في البنيان يقاس على الاستدبار ولكنه يخدش
فيه ما قاله ابن دقيق العيد أن هذا تقديم للقياس على مقتضى اللفظ العام وفيه ما
فيه على ما عرف في أصول الفقه وبأن شرط القياس مساواة الفرع للأصل أو زيادة عليه
في المعنى المعتبر في الحكم ولا تساوي ههنا فإن الاستقبال يزيد في القبح على
الاستدبار على ما شهد به العرف ولهذا اعتبر بعض العلماء هذا المعنى فمنع الاستقبال
وأجاز الاستدبار وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح من الاستدبار فلا يلزم من إلغاء
المفسدة الناقصة في القبح في حكم الجواز إلغاء المفسدة الزائدة في القبح في حكم
الجواز انتهى
وفيه أن دعوى الزيادة في القبح ممنوعة ومجرد اقتصار بعض أهل العلم على منع
الاستقبال ليس لكونه أشد بل لأنه لم يقم دليل على جوازه كما قام على جواز
الاستدبار والتخصيص بالقياس مذهب مشهور راجح وهذا على تسليم أنه لا دليل على
الجواز إلا مجرد القياس وليس كذلك فإن حديث جابر الآتي بلفظ أنه رآه قبل أن يقبض
بعام مستقبل القبلة نص في محل النزاع لولا ما أسلفنا في الباب الأول من أن فعله
صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض قوله الخاص بنا كما تقرر في الأصول
ويمكن تأييد المذهب الثالث من الأربعة بأن الاستدبار في الفضاء ملحق بالاستدبار في
البنيان لأن الأمكنة أوصاف طردية ملغاة ويقدح فيه ما سلف
وأما المذهب الرابع فلا مطعن فيه إلا ما ذكرناه أنه لا تعارض بين قوله الخاص بنا
وفعله لا سيما ورؤية ابن عمر كانت اتفاقية من دون قصد منه ولا من الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم فلو كان يترتب على هذا الفعل حكم لعامة الناس لبينه لهم فإن
الأحكام العامة لا بد من بيانها فليس في المقام ما يصلح للتمسك به في الجواز إلا
حديث عائشة الآتي إن صلح للاحتجاج
ومن جملة المستدلين بحديث ابن عمر القائلون بكراهة التنزيه وفيه ما مر . وبقية
الكلام على الحديث تقدمت في الباب الأول
2 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها )
- رواه الخمسة إلا النسائي
[ ص
100 ] - وأخرجه أيضا البزار وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني
وحسنه الترمذي ونقل عن البخاري تصحيحه . وحسنه أيضا البزار وصححه أيضا ابن السكن
وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره وضعفه
ابن عبد البر بأبان بن صالح القرشي قال الحافظ : ووهم في ذلك فإنه ثقة بالاتفاق .
وادعى ابن حزم أنه مجهول فغلط
والحديث استدل به من قال بجواز الاستقبال والاستدبار في الصحارى والعمران وجعله
ناسخا وفيه ما سلف إلا أن الاستدلال به أظهر من الاستدلال بحديث ابن عمر . لأن فيه
التصريح بتأخره عن النهي ولا تصريح في حديث ابن عمر ولعدم تقييده بالبنيان كما في
حديث ابن عمر . ولعدم ما يدل على أن الرؤية كانت اتفاقية بخلاف حديث ابن عمر وهو
يرد على من قال بجواز الاستدبار فقط سواء قيده بالبنيان كما ذهب إليه البعض أو لم
يقيده كما ذهب إليه آخرون وقد سبق ذكرهم في الباب الأول ويرد أيضا على من قيد جواز
الاستقبال والاستدبار بالبنيان لعدم التقييد من جابر وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا
عموم لها فيحتمل أن يكون لعذر وأن يكون في بنيان هكذا أجاب الحافظ ابن حجر ذكر ذلك
في التلخيص ولا يخفى أن احتمال أن يكون ذلك الفعل لعذر يقال مثله في حديث ابن عمر
فلا يتم للشافعية ومن معهم الاحتجاج به على تخصيص الجواز بالبنيان . وقد تقدم
الكلام على الحديث في الذي قبله وفي الباب الأول
3 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا
ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أو قد فعلوها حولوا مقعدتي قبل
القبلة )
- رواه أحمد وابن ماجه
-
الحديث قال ابن حزم في المحلى : إنه ساقط لأن راويه خالد الحذاء وهو ثقة عن خالد
بن أبي الصلت وهو مجهول لا ندري من هو وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء
عن كثير بن الصلت وهذا أبطل وأبطل لأن خالدا الحذاء لم يدرك كثير ابن الصلت ثم [ ص
101 ] لو صح لما كانت فيه حجة لأن نصه صلى الله عليه وآله وسلم يبين أنه إنما كان
قبل النهي لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم
عن استقبال القبلة بالبول والغائط ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك هذا ما لا يظنه مسلم
ولا ذو عقل وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم فلو صح لكان منسوخا بلا شك ثم لو صح لما
كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط لا إباحة الاستدبار أصلا فبطل تعلقهم به انتهى .
وقال الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن أبي الصلت : إن هذا الحديث منكر . وقال
النووي في شرح مسلم : إن إسناده حسن
والحديث استدل به من ذهب إلى النسخ وقد عرفناك أنه لا دليل يدل على الجواز إلا هذا
الحديث لأنه لا يصح دعوى اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله ( أو قد
فعلوها ) وأما حديث ابن عمر وجابر فقد قررنا لك أن فعله لا يعارض القول الخاص
بالأمة
وقوله لا تستقبلوا لا تستدبروا من الخطابات الخاصة بهم فيكون فعله بعد القول دليل
الاختصاص به لعدم شمول ذلك الخطاب له بطريق الظهور ولا صيغة تكون فيه النصوصية
عليه وهذا قد تقرر في الأصول ولم يذهب إلى خلافه أحد من أئمته الفحول ولكن الشأن
في صحة هذا الحديث وارتفاعه إلى درجة الاعتبار وأين هو من ذاك فالإنصاف الحكم
بالمنع مطلقا والجزم بالتحريم حتى ينتهض دليل يصلح للنسخ أو التخصيص أو المعارضة
ولم نقف على شيء من ذلك إلا أنه يؤنس بمذهب من خص المنع بالفضاء ما سيأتي عن ابن
عمر من قوله إنما نهى عن هذا في الفضاء بالصيغة القاضية بحصر النهي عليه وسيأتي ما
فيه
4 -
وعن مروان الأصفر قال : ( رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت
: أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن ذلك فقال : بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء فإذا
كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس )
- رواه أبو داود
-
أخرجه وسكت عنه وقد صح عنه أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج وكذلك سكت عنه
المنذري ولم يتكلم عليه في تخريج السنن . وذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص ولم
يتكلم عليه بشيء وذكر في الفتح أنه أخرجه أبو داود والحاكم بإسناد حسن وروى
البيهقي من طريق عيسى الخياط قال : قلت للشعبي إني لأعجب لاختلاف أبي هريرة وابن
عمر قال نافع عن ابن عمر : دخلت إلى بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم مستقبل القبلة . وقال أبو هريرة : إذا أتى أحدكم
الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها قال الشعبي صدقا جميعا أما قول أبي هريرة
فهو في الصحراء فإن لله عبادا ملائكة وجنا يصلون فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط
ولا يستدبرهم وأما كنفكم هذه فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها وأخرجه ابن ماجه
مختصرا
وقول ابن عمر يدل على أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الصحراء [ ص
102 ] مع عدم الساتر وهو يصلح دليلا لمن فرق بين الصحراء والبنيان ولكنه لا يدل
على المنع في الفضاء على كل حال كما ذهب إليه البعض بل مع عدم الساتر وإنما قلنا
بصلاحيته للاستدلال لأن قوله إنما نهى عن هذا في الفضاء يدل على أنه قد علم ذلك من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل أنه قال هذا إسنادا إلى الفعل الذي
شاهده ورواه فكأنه لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت حفصة مستدبرا
القبلة فهم اختصاص النهي بالبنيان فلا يكون هذا الفهم حجة ولا يصلح هذا القول للاستدلال
به وأقل شيء الاحتمال ( 1 ) فلا ينتهض لإفادة المطلوب . وقد سقنا في شرح أحاديث
هذا الباب والذي قبله من الكلام على هذه المسألة المعضلة أبحاثا لا تجدها في غير
هذا الكتاب ولعلك لا تحتاج بعد إمعان النظر فيها إلى غيره
( فائدة ) قال المنصور بالله والغزالي والصيمري : إنه يكره استقبال القمرين
والنيرات قالوا لشرفها بالقسم بها فأشبهت الكعبة كذا في البحر وقد استقوى عدم
الكراهة . وقد قيل في الاستدلال على الكراهة بأنه روى الحكيم الترمذي عن الحسن قال
حدثني سبعة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أبو هريرة وجابر
وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين ومعقل بن يسار وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك
يزيد بعضهم على بعض في الحديث ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يبال في
المغتسل ونهى عن البول في الماء الراكد ونهى عن البول في الشارع ونهى أن يبول
الرجل وفرجه باد إلى الشمس والقمر ) . فذكر حديثا طويلا في نحو خمسة أوراق على هذا
الأسلوب
قال الحافظ : وهو حديث باطل لا أصل له بل هو من اختلاق عباد بن كثير وذكر أن مداره
عليه . وقال النووي في شرح المهذب : هذا حديث باطل وقال ابن الصلاح : لا يعرف وهو
ضعيف انتهى
_________
( 1 ) هذا مثل قولهم الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال تنبه
باب ارتياد المكان الرخو وما يكره التخلي فيه
1 -
عن أبي موسى قال : ( مال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى دمث إلى جنب حائط
فبال وقال إذا بال أحدكم فليرتد لبوله )
- رواه أحمد وأبو داود
-
الحديث فيه مجهول لأن أبا داود قال في سننه حدثنا حماد أخبرنا أبو التياح حدثني
شيخ قال : لما قدم عبد الله بن عباس البصرة فكان يحدثنا عن أبي موسى فكتب عبد الله
إلى أبي موسى يسأله عن أشياء فكتب إليه أبو موسى إني كنت مع رسول الله [ ص 103 ]
صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال ثم قال
صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا )
قوله ( إلى دمث ) هو بدال مهملة فميم مفتوحتين فثاء مثلثة ذكر معناه في المصباح .
وفي القاموس دمث المكان وغيره كفرح سهل انتهى . فالصفة منه دمث بميم مكسورة قبلها
دال مفتوحة لأن الأكثر في الصفة المشبهة من فعل بكسر العين أن يكون على فعل بكسر
عينه أيضا إلا أن يكون ما ذكره في المصباح من النادر فإنه قد جاء ندس وندس وحذر
وحذر وعجل وعجل بالضم والكسر فبها . وجاء أيضا فعل بسكون العين نحو شكس بوزن فلس
وحر بوزن فلك وصفر بوزن حبر والكل من فعل بكسر العين كما تقرر في الصرف فينظر هل
تأتي منه الصفة على فعل بفتح العين كما ذكره صاحب المصباح اللهم إلا أن يكون مصدرا
وصف به المكان مبالغة . وقد ضبطه ابن رسلان في شرح السنن بكسر الميم على ما هو
القياس كما ذكرنا
قوله ( فليرتد ) أي يطلب محلا سهلا لينا . والحديث يدل على أنه ينبغي لمن أراد
قضاء الحاجة أن يعمد إلى مكان لين لا صلابة فيه ليأمن من رشاش البول ونحوه وهو وإن
كان ضعيفا فأحاديث الأمر بالتنزه عن البول تفيد ذلك
2 -
وعن قتادة عن عبد الله بن سرجس قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
يبال في الجحر قالوا لقتادة ما يكره من البول في الجحر قال يقال إنها مساكن الجن )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود
-
وأخرجه الحاكم والبيهقي وقيل أن قتادة لم يسمع من عبد الله بن سرجس حكاه حرب عن
أحمد وأثبت سماعه منه علي بن المديني وصححه ابن خزيمة وابن السكن
قوله ( في الجحر ) هو بضم الجيم وسكون الحاء كل شيء تحتفره السباع والهوام لأنفسها
كالجحران والجمع جحرة كعنبة وأحجار كأقفال
قوله ( قالوا لقتادة ما يكره ) هو بضم أوله مبني ما لم يسم فاعله . قال ابن رسلان
في شرح السنن : والحديث يدل على كراهة البول في الحفر التي تسكنها الهوام والسباع
إما لما ذكره قتادة أو لأنه يؤذي ما فيها من الحيوانات
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اتقوا
اللاعنين قالوا : وما اللاعنان يا رسول الله قال : الذي يتخلى في طريق الناس أو في
ظلهم )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود
[ ص
104 ] - وفي لفظ مسلم ( اتقوا اللعانين قالوا وما اللعانان ) الحديث قال الخطابي :
المراد باللاعنين الأمران الجالبان للعن الحاملان الناس عليه والداعيان إليه وذلك
أن من فعلهما لعن وشتم يعني عادة الناس لعنه فلما صارا سببا أسند اللعن إليهما على
طريق المجاز العقلي قال : وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون أي الملعون فاعلهما فهو
كذلك من المجاز العقلي
وقوله ( الذي يتخلى في طريق الناس ) على حذف مضاف وتقديره تخلى الذي يتخلى
قوله ( أو في ظلهم ) المراد بالظل هنا على ما قاله الخطابي وغيره مستظل الناس الذي
يتخذونه مقيلا ومنزلا ينزلونه ويقعدون فيه وليس كل ظل يحرم قضاء الحاجة فيه فقد
قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاجته في حائش النخل كما سلف وله ظل بلا شك
والحديث يدل على تحريم التخلي في طرق الناس وظلهم لما فيه من أذية المسلمين بتنجيس
من يمر به ونتنه واستقذاره
4 -
وعن أبي سعيد الحميري عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم : اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل )
- رواه أبو داود وابن ماجه وقال : هو مرسل
-
الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه أيضا ابن السكن قال الحافظ : وفيه نظر لأن أبا
سعيد لم يسمع من معاذ ولا يعرف بغير هذا الإسناد قاله ابن القطان
وفي الباب عن ابن عباس نحوه رواه أحمد وفيه ضعف لأجل ابن لهيعة والراوي عن ابن
عباس مبهم وعن سعد بن أبي وقاص في علل الدارقطني . وعن أبي هريرة رواه مسلم في
صحيحه بلفظ : ( اتقوا اللاعنين قالوا وما اللاعنان يا رسول الله قال الذي يتخلى في
طريق الناس أو ظلهم ) . وفي رواية لابن حبان ( وأفنيتهم ) وفي رواية ابن الجارود (
أو مجالسهم ) وفي لفظ للحاكم ( من سل سخيمته أي غائطه على طريق عامرة من طرق
المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) وإسناده ضعيف
قال الحافظ ابن حجر : وفي ابن ماجه عن جابر بإسناد حسن مرفوعا ( إياكم والتعريس
على جواد الطريق فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن ) .
وعن ابن عمر ( نهى أن يصلي على قارعة الطريق أو يضرب عليها الخلاء أو يبال فيها )
. وفي إسناده ابن لهيعة . وقال الدارقطني : رفعه غير ثابت
وقال في التقريب : إن أبا سعيد الحميري شامي مجهول وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن
الشعبي مرسلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ( اتقوا الملاعن [ ص 105 ] وأعدوا
النبل ) . ورواه أبو عبيد من وجه آخر عن الشعبي عمن سمع النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال ابن حجر : وإسناده ضعيف . ورواه ابن أبي حاتم في العلل من حديث سراقة
مرفوعا وصحح أبوه وقفه . والنبل بضم النون وفتحها الأحجار الصغار التي يستنجى بها
والحديث يدل على المنع من قضاء الحاجة في الموارد والظل وقارعة الطريق لما في ذلك
من الأذية للمسلمين والبراز قد سبق ضبطه في باب الإبعاد والاستتار . والمراد
بالموارد المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد . والمراد بقارعة الطريق أعلاه سمي
بذلك لأن المارين عليه يقرعونه بنعالهم وأرجلهم قاله ابن رسلان . والمراد بالظل
الموضع الذي يستظل به الناس ويتخذونه مقيلا وينزلونه لا كل ظل
5 -
وعن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لا يبولن أحدكم في
مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه )
- رواه الخمسة لكن قوله ( ثم يتوضأ فيه ) لأحمد وأبي داود فقط
-
قال الترمذي : حديث غريب وأخرجه الضياء في المختارة بنحوه
قوله ( في مستحمه ) المستحم المغتسل سمي باسم الحميم وهو الماء الحار الذي يغتسل
به وأطلق على كل موضع يغتسل فيه وإن لم يكن المار حارا وقد صرح في حديث آخر بذكر
المغتسل ولفظه قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يمتشط أحدنا كل
يوم أو يبول في مغتسله ) . أخرجه أبو داود والنسائي وراويه عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم مجهول وجهالة الصحابي لا تضر
قوله ( عامة الوسواس ) هو بكسر الواو الأولى حديث النفس والشيطان بما لا نفع فيه
وأما بفتحها فاسم للشيطان
الحديث يدل على المنع من البول في محل الاغتسال لأنه يبقى أثره فإذا انتضح إلى
المغتسل شيء من الماء بعد وقوعه على محل البول نجسه فلا يزال عند مباشرة الاغتسال
متخيلا لذلك فيفضي به إلى الوسوسة التي علل صلى الله عليه وآله وسلم النهي بها
وقد قيل إنه إذا كان للبول مسلك ينفذ فيه فلا كراهة وربط النهي بعلة إفضاء المنهي
عنه إلى الوسوسة يصلح قرينة لصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة
6 -
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أنه نهى أن يبال في الماء الراكد )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
- قد تقدم الكلام على الحديث في باب بيان زوال تطهير الماء وفي باب حكم الماء فليرجع إليهما
باب البول في الأواني للحاجة . [ ص 106 ]
1 -
عن أميمة بنت رقيقة عن أمها قالت : ( كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدح من
عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل )
- رواه أبو داود والنسائي
-
الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم . ورواه أبو ذر الهروي في مستدركه وأخرج الحسن
بن سفيان في مسنده والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم من حديث أبي مالك
النخعي عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن أم أيمن قالت : ( قام رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم من الليل إلى فخارة له في جانب البيت فبال فيها فقمت من الليل
وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر فلما أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال : يا أم أيمن قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة قلت : قد والله شربته قال : فضحك
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال : أما والله لا يبعجن
بطنك أبدا )
ورواه أبو أحمد العسكري بلفظ : ( لن تشتكي بطنك ) وأبو مالك ضعيف ونبيح لم يلحق أم
أيمن . وله طريق أخرى رواها عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرت : ( أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره فجاء فإذا القدح ليس
فيه شيء فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة :
أين البول الذي كان في القدح قالت : شربته قال صحة يا أم يوسف وكانت تكنى أم يوسف
فما مرضت حتى كان مرضها الذي ماتت فيه )
والحديث يدل على جواز إعداد الآنية للبول فيها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا
قوله ( من عيدان ) هو بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة التحتية طوال النخل
الواحدة عيدانة . وفي القاموس كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدح من عيدانة
يبول فيها بالليل انتهى
2 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( يقولون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى
إلى علي لقد دعي بالطست ليبول فيها فانخنثت نفسه وما شعرت فإلى من أوصى )
- رواه النسائي : انخنثت أي انكسرت وانثنت
-
الحديث أخرجه الشيخان أيضا من حديث الأسود بن يزيد قال : ذكروا عند عائشة رضي الله
عنها أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه كان وصيا لرسول الله صلى [ ص 107 ] الله
عليه وآله وسلم قالت : متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري فدعا بالطست فلقد
انخنث في حجري وما شعرت أنه مات فمتى أوصى إليه
قوله ( انخنثت ) هو كما ذكر المصنف الانثناء والانكسار والمراد بقوله في رواية
الصحيحين انخنث أي استرخى فانثنت أعضاؤه
والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على جواز البول في الآنية مؤيدا به الحديث الأول
لما كان فيه ذلك المقال ولكنه وقع في حال المرض ولم يذكر المصنف الحديث هذا في
الوصايا كغيره حتى يحيل الكلام عليه إلى هنالك . والإنكار لوصاية أمير المؤمنين
على المفهوم من استفهام أم المؤمنين لا يدل على عدم ثبوتها . وعدم وقوعها من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الوقت الخاص لا يدل على العدم المطلق وقد استوفينا
الكلام على ذلك في رسالة مستقلة لما سأل عن ذلك بعض العلماء
باب ما جاء في البول قائما
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بال قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا جالسا )
- رواه الخمسة إلا أبا داود وقال الترمذي : هو أحسن شيء في هذا الباب وأصح
-
قال الترمذي : وفي الباب عن عمر وبريدة . وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم
ابن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : ( رآني النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وأنا أبول قائما فقال : يا عمر لا تبل قائما فما بلت قائما بعد ) . قال الترمذي
: وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم ابن أبي المخارق وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه
أيوب السختياني وتكلم فيه وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر " ما بلت قائما
منذ أسلمت " وهذا أصح من حديث عبد الكريم
وحديث بريدة في هذا غير محفوظ وهو بلفظ : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ثلاث من الجفاء أن يبول الرجل قائما أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته أو ينفخ
في سجوده ) ورواه البزار . وفي إسناد حديث الباب شريك بن عبد الله وقد أخرج له
مسلم في المتابعات . وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : من الجفاء أن يبول الرجل
قائما
والحديث يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يبول حال القيام بل
كان هديه في البول القعود فيكون البول حال القيام مكروها ولكن قول عائشة هذا لا
ينفي إثبات من [ ص 108 ] أثبت وقوع البول منه حال القيام كما سيأتي من حديث حذيفة
: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما ) ولا شك أن
الغالب من فعله هو القعود والظاهر أن بوله قائما لبيان الجواز وقيل إنما فعله لوجع
كان بمأبضه ذكره ابن الأثير في النهاية وروى الحاكم والترمذي من حديث أبي هريرة
قال إنما بال قائما لجرح كان في مأبضه قال الحافظ : ولو صح هذا الحديث لكان فيه
غنى لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي والمأبض باطن الركبة . وقيل فعله استشفاء كما
سيأتي عن الشافعي . وقيل لأن السباطة رخوة يتخللها البول فلا يرتد إلى البائل منه
شيء وقيل إنما بال قائما لكونها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت ففعل ذلك لكونه
قريبا من الديار ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه قال البول قائما
أحصن للدبر
قال ابن القيم في الهدي : والصحيح إنما فعل ذلك تنزيها وبعدا من إصابة البول فإنه
إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو ملقى الكناسة وتسمى المزبلة وهي تكون مرتفعة
فلو بال فيها الرجل قاعدا لارتد عليه بوله وهو صلى الله عليه وآله وسلم استتر بها
وجعلها بينه وبين الحائط فلم يكن من بوله قائما ولا يخفى ما في هذا الكلام من
التكلف
( والحاصل ) أنه قد ثبت عنه البول قائما وقاعدا والكل سنة فقد روي عن عبد الله بن
عمر أنه كان يأتي تلك السباطة فيبول قائما هذا إذا لم يصح في الباب إلا مجرد
الأفعال أما إذا صح النهي عن البول حال القيام كما سيأتي من حديث جابر أنه صلى
الله عليه وآله وسلم نهى أن يبول الرجل قائما وجب المصير إليه والعمل بموجبه ولكنه
يكون الفعل الذي صح عنه صارفا للنهي إلى الكراهة على فرض جهل التاريخ أو تأخر
الفعل لأن لفظ الرجل يشمله صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الظهور فيكون فعله صالحا
للصرف لكونه وقع بمحضر من الناس فالظاهر أنه أراد التشريع ويعضده نهيه صلى الله
عليه وآله وسلم لعمر وإن كان فيه ما سلف
وقد صرح أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين بأن البول عن قيام منسوخ واستدلا عليه
بحديث عائشة السابق وبحديثها أيضا ما بال قائما منذ أنزل عليه القرآن رواه أبو
عوانة في صحيحه والحاكم قال الحافظ : والصواب أنه غير منسوخ
والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت وأما
في غير البيوت فلم تطلع هي عليه وقد حفظه حذيفة وهو من كبار الصحابة وقد بينا أن
ذلك كان بالمدينة فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن
وقد ثبت أن أمير المؤمنين علي [ ص 109 ] وعمر وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا
قياما وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش ولم يثبت عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في النهي عنه شيء انتهى
2 -
وعن جابر رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبول
الرجل قائما )
- رواه ابن ماجه
-
الحديث في إسناده عدي بن الفضل وهو متروك وقد عرفت ما قاله الحافظ من عدم ثبوت شيء
في النهي عن البول من قيام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقد حكى ابن ماجه
عن بعض مشايخه أنه قال : كان من شأن العرب البول من قيام ويدل عليه ما في حديث عبد
الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما فإن فيه ( بال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم جالسا فقلنا انظروا إليه يبول كما تبول المرأة ) وما في حديث
حذيفة بلفظ : ( فقام كما يقوم أحدكم ) وذلك يشعر بأن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم كان يخالفهم ويقعد لكونه أستر وأبعد من مماسة البول . قال الحافظ في الفتح :
وهو يعني حديث عبد الرحمن صحيح صححه الدارقطني وغيره ويدل عليه حديث عائشة الذي
رواه أبو عوانة في صحيحه والحاكم بلفظ : ( ما بال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قائما منذ أنزل عليه القرآن ) . ويدل عليه أيضا حديثها السالف
وقد روي عن أبي موسى التشديد في البول من قيام فروي عنه أنه رأى رجلا يبول قائما
فقال : ويحك أفلا قاعدا ثم ذكر قصة بني إسرائيل من أنه كان إذا أصاب جسد أحدهم
البول قرضه
وقد ذهبت العترة والأكثر إلى كراهة البول قائما وذهب أبو هريرة والشعبي وابن سيرين
إلى عدم الكراهة والحديث لو صح وتجرد عن الصوارف لصلح متمسكا للتحريم ولكنه لم يصح
كما قاله الحافظ وعلى فرض الصحة فالصارف موجود فيكون البول من قيام مكروها وقد
عرفت بقية الكلام في الحديث الأول
3 -
وعن حذيفة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما
فتنحيت فقال : ادنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ ومسح على خفيه )
- رواه الجماعة : والسباطة ملقى التراب والقمام
-
قوله ( سباطة قوم ) السباطة بمهملة مضمومة بعدها موحدة هي المزبلة والكناسة تكون
بفناء الدور مرفقا لأهلها وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل
وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك لأنها لا تخلو عن النجاسة وبهذا يندفع [ ص
110 ] إيراد من استشكل الرواية التي ذكر فيها الجدار قائلا إن البول يوهي الجدار
ففيه إضرار قال في الفتح : أو نقول إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار وهو
صريح في رواية أبو عوانة في صحيحه . وقيل يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح
أو غيره أو لكونه مما يتسامح الناس به أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك أو لكونه يجوز
له التصرف في مال أمته دون غيره لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم وهذا وإن
كان صحيح المعنى لكنه لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم
قوله ( فقال ادنه ) استدل به على جواز الكلام في حال البول وفيه أن هذه الرواية قد
بينت في رواية البخاري أن قوله ادنه بالإشارة لا باللفظ فلا يتم الاستدلال قاله
الحافظ
وقد استشكل بأن قرب حذيفة منه بحيث يسمع نداءه ويفهم إشارته مخالف لما عرف من
عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن أعين الناظرين . وقد أجيب عن ذلك بأنه صلى
الله عليه وآله وسلم كان مشغولا بمصالح المسلمين فلعله طال عليه المجلس حتى احتاج
إلى البول فلو أبعد لتضرر وقيل فعل ذلك لبيان الجواز وقيل إنه فعل ذلك في البول
وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف ولما يقترن به من الرائحة وقيل إن
الفرض من الإبعاد التستر وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر
والحديث يدل على جواز البول من قيام وقد سبق الكلام على ذلك . قال المصنف رحمه
الله : ولعله لم يجلس لمانع كان بها أو وجع كان به وقد روى الخطابي عن أبي هريرة
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بال قائما من جرح كان بمأبضه ويحمل قول عائشة
رضي الله عنها على غير حال العذر والمأبض ما تحت الركبة من كل حيوان وقد روي عن
الشافعي أنه قال : كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائما فيرى أنه لعله كان
به إذ ذاك وجع الصلب اه . وقد عرفت تضعيف الدارقطني والبيهقي لحديث أبي هريرة في
الحديث الأول من هذا الباب
باب وجوب الاستنجاء بالحجر أو الماء
1 -
عن عائشة رضي الله عنها : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا ذهب
أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود والدارقطني وقال : إسناده صحيح حسن
[ ص
111 ] - الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وأخرج نحوه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث
أبي هريرة وهو يدل على وجوب الاستجمار بثلاثة أحجار وفيه خلاف قد أسلفناه في باب نهي
المتخلي عن استقبال القبلة . قال في البحر : الاستجمار بثلاثة أحجار مشروع إجماعا
وقوله ( فإنها تجزئ عنه ) أي تكفيه وهو دليل لمن قال بكفاية الأحجار وعدم وجوب
الاستنجاء بالماء وإليه ذهبت الشافعية والحنفية وبه قال ابن الزبير وسعد ابن أبي
وقاص وابن المسيب وعطاء . وسيأتي الكلام على ذلك في باب الاستنجاء بالماء إن شاء
الله تعالى
2 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين فقال
: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله وأما الآخر
فكان يمشي بالنميمة )
- رواه الجماعة وفي رواية للبخاري والنسائي : ( وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان
أحدهما ) وذكر الحديث
-
قوله ( فقال إنهما يعذبان ) أعاد الضمير إلى القبرين مجازا والمراد من فيهما
قوله ( لا يستتر ) بمثناتين من فوق الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وهو هكذا في أكثر
الروايات قاله ابن حجر في الفتح . وفي رواية لمسلم وأبي داود يستنزه بنون ساكنة
بعدها زاي ثم هاء وفي رواية لابن عساكر يستبرئ بموحدة ساكنة من الاستبراء فعلى
الرواية الأولى معنى الاستتار أن لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني لا يتحفظ منه
فتوافق الرواية الثانية لأنها من التنزه وهو الإبعاد
وقد وقع عند أبي نعيم ( كان لا يتوقى ) وهو مفسر للمراد وأجراه بعضهم على ظاهره
فقال معناه لا يستر عورته وضعف لأن التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف
بالسببية واطرح اعتبار البول
وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية فالحمل على ما
يقتضيه الحديث المصرح بهذه الخصوصية أولى
وقد ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعا ( أكثر عذاب القبر من البول ) أي بسبب ترك
التحرز منه . وقد صححه ابن خزيمة وسيأتي حديث ( تنزهوا من البول فإن عامة عذاب
القبر منه ) قال ابن دقيق العيد : وأيضا فإن لفظة من لما أضيفت إلى البول وهي
لابتداء الغاية حقيقة أو ما يرجع إلى معنى ابتداء الغاية مجازا تقتضي نسبة
الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول . يعني أن ابتداء سبب عذابه من البول
وإذا حملناه على كشف العورة زال هذا المعنى
قوله ( من بوله ) هذه الرواية ترد مذهب من حمل البول على العموم واستدل [ ص 112 ]
به على نجاسة جميع أبوال الحيوانات وقد سبق الكلام على ذلك في باب الرخصة في بول
ما يؤكل لحمه
قوله ( يمشي بالنميمة ) قال النووي : هي نقل كلام الغير بقصد الإضرار وهي من أقبح
القبائح وتعقبه الكرماني فقال : هذا لا يصلح على قاعدة الفقهاء فإنهم يقولون
الكبيرة هي الموجبة الحد ولا حد على المشي بالنميمة وتعقبه الحافظ بأنه ليس قول
جميعهم لكن كلام الرافعي يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين أحدهما هذا
والثاني ما فيه وعيد شديد قال : وهم إلى الأول أميل والثاني أوفق لما ذكروه عند
تفصيل الكبائر انتهى . وللبحث في ذلك موضع غير هذا الموضع
قوله ( ثم قال بلى ) أي وإنه لكبير وقد صرح بذلك البخاري في الأدب من طريق عبيدة
بن حميد عن منصور عن الأعمش ولم يخرجها مسلم . وهذه الزيادة ترد ما قاله ابن بطال
من أن الحديث يدل على أن التعذيب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر وقد ورد
مثلها من طريق أبي بكرة عند أحمد والطبراني
وقد اختلف في معنى هذه الزيادة بعد قوله ( وما يعذبان في كبير ) فقال أبو عبد
الملك يحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم ظن أن ذلك غير كبير فأوحى إليه في الحال بأنه
كبير فاستدرك وتعقب بأنه يستلزم أن يكون نسخا والنسخ لا يدخل الخبر وأجيب بأن
الخبر بالحكم يجوز نسخه وقيل يحتمل أن الضمير في قوله ( وإنه ) يعود على العذاب
لما ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة ( يعذبان عذابا شديدا في ذنب هين )
وقيل الضمير يعود على أحد الذنبين وهي النميمة لأنها من الكبائر بخلاف كشف العورة
وهذا مع ضعفه غير مستقيم لأن الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة كما سلف
وقال الداودي : إن الكبير المنفي بمعنى أكبر والمثبت واحد الكبائر أي ليس ذلك
بأكبر الكبائر كالقتل مثلا وإن كان كبيرا في الجملة . وقيل المعنى ليس بكبير في
الصورة لأن تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة وهو كبير في الذنب . وقيل ليس
بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين وهو عند الله كبير . وقيل إنه ليس
بكبير في مشقة الاحتراز أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك وهذا الأخير جزم به
البغوي وغيره ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة . وقيل ليس بكبير بمجرده وإنما صار
كبيرا بالمواظبة عليه ويرشد إلى ذلك السياق فإنه وصف كلا منهما بما يدل على تجدد
ذلك منه واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد كان . ذكر معناه في الفتح
والحديث يدل على نجاسة البول من الإنسان ووجوب اجتنابه وهو إجماع
ويدل [ ص 113 ] أيضا على عظم أمره وأمر النميمة وأنهما من أعظم أسباب عذاب القبر
قال ابن دقيق العيد : وهو محمول على النميمة المحرمة فإن النميمة إذا اقتضى تركها
مفسدة تتعلق بالغير أو فعلها نصيحة يستضر الغير بتركها لم تكن ممنوعة كما نقول في
الغيبة إذا كانت للنصيحة أو لدفع المفسدة لم تمنع ولو أن شخصا اطلع من آخر على قول
يقتضي إيقاع ضرر بإنسان فإذا نقل إليه ذلك القول احترز عن ذلك الضرر لوجب ذكره له
انتهى
والحديث أيضا يدل على إثبات عذاب القبر وقد جاءت الأحاديث المتواترة بإثباته .
وخلاف بعض المعتزلة في ذلك من الأباطيل التي لا مستند لها إلا مجرد الهوى
( فائدة ) لم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة
لقصد الستر عليهما وهو عمل مستحسن وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في
حقه ما يذم به . وما حكاه القرطبي في التذكرة وضعفه أن أحدهما سعد بن معاذ فقال
الحافظ : إنه قول باطل لا ينبغي ذكره إلا مقرونا ببيانه ومما يدل على بطلان
الحكاية المذكورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت
في الحديث الصحيح
وأما قصة المقبورين ففي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال
لهم : " من دفنتم اليوم ههنا " فدل على أنه لم يحضرهما وقد اختلف في
المقبورين فقيل كانا كافرين وبه جزم أبو موسى المديني واستدل بما وقع من حديث جابر
أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية ) وفي
إسناده ابن لهيعة . وجزم ابن العطار في شرح العمدة ( 1 ) بأنهما كانا مسلمين قال :
لأنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه لهما ولو كان ذلك من
خصائصه لبينه كما في قصة أبي طالب
قال الحافظ : الظاهر من مجموع طرق حديث الباب أنهما كانا مسلمين ففي رواية ابن
ماجه ( مر بقبرين جديدين ) فانتفى كونهما في الجاهلية . وفي حديث أبي أمامة عند
أحمد أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( مر بالبقيع [ ص 114 ] فقال : من دفنتم اليوم
ههنا ) كما تقدم فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين لأن البقيع مقبرة المسلمين قال :
ويؤيده ما في رواية أبي بكرة عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح ( يعذبان وما يعذبان
في كبير وبلى وما يعذبان إلا في الغيبة والبول ) فهذا الحصر ينفي كونهما كانا
كافرين لأن الكافر يعذب على كفره بلا خلاف قال : وأما ما احتج به أبو موسى فهو
ضعيف كما اعترف به وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه ذكر سبب
التعذيب فهو من تخليط ابن لهيعة انتهى ملتقطا من الفتح
_________
( 1 ) أي عمدة الأحكام للعلامة الشيخ عبد الغني الجماعيلي المقدسي المتوفى سنة 600
هجرية . وقد شرحه الكثير من العلماء الأعلام منهم العلامة علاء الدين ابن العطار
وهو تلميذ الإمامين الجليلين العلامة أبي زكرياء يحيى النووي شارح المهذب والعلامة
المجتهد أبي الفتح القشيري المعروف بابن دقيق العيد . وقد وفقت لطبع شرح العلامة
ابن دقيق العيد على العمدة وجعلت عليه تعليقات نفيسة استفدت بعضها من شرح العلامة
علاء الدين ابن العطار كما نبهت على ذلك هناك وتم منه ثلاثة أجزاء والرابع قريب
الظهور وبه يتم الكتاب إن شاء الله تعالى والله أعلم
2 -
وعن أنس رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تنزهوا من البول
فإن عامة عذاب القبر منه )
- رواه الدارقطني
-
الحديث رواه الدارقطني من طريق أبي جعفر الرازي عن قتادة عنه وصحح إرساله ونقل عن
أبي زرعة أنه المحفوظ . وقال أبو حاتم : رويناه من حديث ثمامة عن أنس والصحيح
إرساله . ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة وفي لفظ له وللحاكم وابن ماجه وأحمد (
أكثر عذاب القبر من البول ) قال الحافظ في بلوغ المرام : وهو صحيح الإسناد انتهى .
وأعله أبو حاتم فقال : إن رفعه باطل
وفي الباب عن ابن عباس رواه عبد بن حميد في مسنده والحاكم والطبراني وغيرهم
وإسناده حسن ليس فيه غير أبي يحيى القتات وفيه لين ولفظه : ( أن عامة عذاب القبر
من البول فتنزهوا منه )
وعن عبادة بن الصامت في مسند البزار ولفظه : ( سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عن البول فقال إذا مسكم شيء فاغسلوه فإني أظن أن منه عذاب القبر ) . وإسناده
حسن . وقال سعيد بن منصور حدثنا خالد عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ( استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر من البول )
ورواته ثقات مع إرساله . ويؤيد الحديث ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في الحديث الذي
قبل هذا
قوله ( تنزهوا من البول ) التنزه البعد
قوله ( فإن عامة عذاب القبر منه ) عامة الشيء معظمه والمراد أنه أكثر أسبابه
والحديث يدل على وجوب الاستنزاه من البول مطلقا من غير تقييد بحال الصلاة وإليه
ذهب أبو حنيفة وهو الحق لكن غير مقيد بما ذكره من استثناء مقدار الدرهم فإنه تخصيص
بغير مخصص . وقال مالك : إزالته في وقت الصلاة ليست بفرض واعتذر له عن الحديث بأن
صاحب القبر إنما عذب لأنه كان يترك البول يسيل عليه فيصلي بغير طهور لأن الوضوء لا
يصح مع وجوده وهو تقييد لم يدل عليه دليل [ ص 115 ] وقد أمر الله بتطهير الثياب
ولم يقيده بحالة مخصوصة
باب النهي عن الاستجمار بدون الثلاثة الأحجار
1 -
عن عبد الرحمن بن يزيد قال : ( قيل لسلمان علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال
سلمان : أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وأن نستنجي باليمين أو يستنجي
أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار أو أن يستنجي برجيع أو بعظم )
- رواه مسلم وأبو داود والترمذي
-
أما الاستقبال بالغائط والبول فقد تقدم الكلام عليه في باب نهي المتخلي عن استقبال
القبلة وأما الاستنجاء باليمين فقد تقدم أيضا طرف من الكلام عليه في ذلك الباب .
قال النووي : وقد أجمع العلماء على أنه منهي عنه ثم الجماهير على أنه نهي تنزيه
وأدب لا نهي تحريم وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام قال : وأشار إلى تحريمه جماعة
من أصحابنا ولا تعويل على إشارتهم قال : قال أصحابنا ويستحب أن لا يستعين باليد
اليمنى في شيء من أحوال الاستنجاء إلا لعذر فإذا استنجى بماء صبه باليمنى ومسح
باليسرى وإذا استنجى بحجر فإن كان في الدبر مسح بيساره وإن كان في القبل وأمكنه
وضع الحجر على الأرض أو بين قدميه بحيث يتأتى مسحه أمسك الذكر بيساره ومسحه على
الحجر وإن لم يمكنه واضطر إلى حمل الحجر حمله بيمينه وأمسك الذكر بيساره ومسح بها
ولا يحرك اليمنى هذا هو الصواب قال : وقال بعض أصحابنا يأخذ الحجر بيساره والذكر
بيمينه ويحرك اليسرى وهذا ليس بصحيح لأنه يمس الذكر من غير ضرورة وقد نهي عنه ثم
إن في النهي عن الاستنجاء باليمين تنبيها على إكرامها وصيانتها عن الأقذار ونحوها
اه
والحاصل أنه قد ورد النهي عن مس الذكر باليمين في الحديث المتفق عليه وورد النهي
عن الاستنجاء باليمين في هذا الحديث وغيره فلا يجوز استعمال اليمين في أحد الأمرين
وإذا دعت الضرورة إلى الانتفاع بها في أحدهما استعملها قاضي الحاجة في أخف الأمرين
في نظره
وأما النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار فقد ذكرنا في باب نهي المتخلي عن
استقبال القبلة الروايات الواردة في هذا المعنى وذكرنا هنالك طرفا من فقه هذه
الجملة فليرجع إليه
وقد قال بعض أهل الظاهر : إن الاستجمار بالحجر متعين لنصه صلى الله عليه وآله وسلم
عليها فلا يجزئ غيره وذهب [ ص 116 ] الجمهور إلى أن الحجر ليس متعينا بل تقوم
الخرقة والخشب وغير ذلك مقامه قال النووي : فلا يكون له مفهوم كما في قوله تعالى {
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ويدل على عدم تعين الحجر نهيه صلى الله عليه وآله
وسلم عن العظم والبعر والرجيع ولو كان متعينا لنهى عما سواه مطلقا وعلى الجملة كل
جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة يجزئ الاستجمار به وأما النهي عن الاستنجاء
برجيع أو بعظم فقد ثبت من طرق متعددة والرجيع الروث . وفيه تنبيه على النهي عن جنس
النجس فلا يجزئ الاستنجاء بنجس أو متنجس
وقد ذهبت العترة والشافعي وأصحابه إلى عدم إجزاء العظم والروث وقال أبو حنيفة يكره
ويجزئ إذا قصد تخفيف النجاسة وهو يحصل بهما ويدل للأول ما أخرجه الدارقطني وصححه
من حديث أبي هريرة وفيه أنهما لا يطهران
والنهي عن العظم لكونه طعام الجن كما سيأتي وفيه تنبيه على جميع المطعومات ويلتحق
بها المحترمات كأجزاء الحيوانات وأوراق كتب العلم وغير ذلك
قوله ( الخراءة ) هي العذرة قال في القاموس : خرئ كسمع خرأ أو خراءة ويكسر وخروءا
سلح والخرءة بالضم العذرة
قوله ( الخراءة ) الخراءة الممدودة لفظا المذكورة في الحديث بقوله ( علمكم ) الخ
المراد بها الفعل نفسه لا الخارج فينظر في تفسيرها به
2 -
وعن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا استجمر أحدكم فليستجمر
ثلاثا )
- رواه أحمد
3 -
وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من استجمر فليوتر من فعل
فقد أحسن ومن لا فلا حرج )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
- الحديث الأول فيه ابن لهيعة وقد أخرجه أيضا الضياء وابن أبي شيبة ورواه النسائي في شيوخ الزهري وابن منده في المعرفة والطبراني من حديث أبي غسان محمد بن يحيى الكناني عن أبيه ابن أخي ابن شهاب عن ابن شهاب أخبرني خلاد بن السائب عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ( إذا تغوط الرجل فليتمسح ثلاث مرات ) وله طريق أخرى عن خلاد بن السائب عن أبيه في حديث البغوي عن هدبة وأعل ابن حزم الطريق الأولى بأن محمد بن يحيى مجهول وأخطأ بل هو معروف أخرج له البخاري وقال النسائي ليس به بأس قاله الحافظ
-
وأما الحديث الثاني فأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي ومداره على أبي سعيد
الحبراني الحمصي وفيه اختلاف . [ ص 117 ] وقيل إنه صحابي قال الحافظ : لا يصح
والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول وقال أبو زرعة : شيخ وذكره ابن حبان في
الثقات وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل
والحديث الأول يدل على شرعية الاستجمار بثلاثة أحجار ووجوبه . وقد تقدم ذكر الخلاف
فيه في باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة
والحديث الثاني يدل على الإيتار وعلى استحبابه وعدم وجوبه . لقوله ( ومن لا فلا
حرج ) قال الحافظ في الفتح : وهذه الزيادة حسنة الإسناد وقد أخذ بظاهره القاسمية
وأبو حنيفة ومالك فقالوا : لا يعتبر العدد بل المعتبر الإيتار وخالفهم الشافعي
وأصحابه وغيرهم كما تقدم . وقالوا : لا يجوز الاستجمار بدون ثلاث ويجوز بأكثر منها
إن لم يحصل الانقاء بها
وقد أشار المصنف رحمه الله إلى ما هو الحق وهو الذي لاح لي فقال : وهذا محمول على
أن القطع على وتر سنة فيما إذا زاد على ثلاث جمعا بين النصوص اه
والأدلة المتعاضدة قد دلت على عدم جواز الاستجمار بدون ثلاث وليس لمن جوز دليل يصل
للتمسك به في مقابلتها وسيأتي الكلام عليه وقد تقدم أيضا
باب في إلحاق ما كان في معنى الأحجار بها
1 -
عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن
الاستطابة فقال بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
2 -
وعن سلمان قال : ( أمرنا يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نكتفي بدون
ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم )
- رواه أحمد وابن ماجه
- الحديث الأول رجال إسناده ثقات فإنه أخرجه أبو داود عن شيخه عبد الله بن محمد النفيلي عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن عمرو بن خزيمة عن عمارة بن خزيمة عن خزيمة ابن ثابت
-
والحديث الثاني هو أيضا في صحيح مسلم وقد عارضت الحنفية هذا الحديث الدال على وجوب
الثلاث بحديث ابن مسعود الذي سيأتي وفيه ( فأخذ الحجرين وألقى الروثة )
قال الطحاوي : هو دليل على أن عدد الأحجار ليس بشرط لأنه قعد للغائط في مكان ليس
فيه أحجار لقوله ( ناولني ) فلما ألقى الروثة دل على أن الاستنجاء بالحجرين يجزئ
إذ لو لم يكن ذلك لقال ابغني ثالثا ورده الحافظ وقال : قد روى أحمد فيه هذه
الزيادة بإسناد رجاله ثقات قال في آخره ( فألقى الروثة وقال : إنها [ ص 118 ] ركس
ائتني بحجر ) قال : مع أنه ليس فيما ذكر استدلال لأنه مجرد احتمال وحديث سلمان نص
في عدم الاقتصار على ما دونها ثم حديث سلمان قول وحديث ابن مسعود فعل وإذا تعارضا
قدم القول اه . وأيضا في سائر الأحاديث الناصة على وجوب الثلاث زيادة يجب المصير
إليها مع عدم منافاتها بالاتفاق ولم تقع هنا منافية فالأخذ بها متحتم وقد تقدم
الكلام على الحديثين في مواضع من هذا الكتاب فلا نعيده
قال المصنف رحمه الله : ولولا أنه أراد الحجر وما كان نحوه في الانقاء لم يكن
لاستثناء العظم والروث معنى ولا حسن تعليل النهي عنهما بكونهما من طعام الجن وقد
صح عنه التعليل بذلك اه
وهذا الكلام هو وجه ترجمة الباب بتلك الترجمة وهو حسن
باب النهي عن الاستجمار بالروث والرمة ( 1 )
_________
( 1 ) الرمة بالكسر العظم البالي وكذلك الرميم
1 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
يتمسح بعظم أو بعرة )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود
2 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يستنجى بروث أو بعظم
وقال إنهما لا يطهران )
- رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح
-
النهي عن العظم قد تقدم في أحاديث متعددة في المتن والشرح . والنهي عن البعرة ثابت
في رواية جابر وغيره
وقد أخرج الحديث الثاني ابن خزيمة بهذا اللفظ ورواه البخاري بلفظ : ( ولا تأتني
بعظم ولا روث ) وزاد في باب المبعث ( إنهما من طعام الجن ) وهو عند مسلم من حديث
ابن مسعود وعند أبي داود والدارقطني والنسائي والحاكم من حديثه
وأخرجه البيهقي مطولا وهو عند الطبراني من حديث الزبير بسند ضعيف . وعند أحمد
بإسناد واه من حديث سهل بن حنيف . وعند أبي داود والنسائي من حديث رويفع . وعند
الدارقطني عن رجل من الصحابة
وفي الحديثين دليل على وجوب اجتناب العظم والروث وعدم الاجتزاء بهما
وقوله ( إنهما لا يطهران ) يرد قول أبي حنيفة الذي أسلفناه من أنه يجزئ بهما . قيل
والعلة في النهي عن العظم اللزوجة المصاحبة له التي لا يكاد يتماسك معها . وقيل
عدم خلوه في الغالب عن الدسومة . وقيل لكونه طعام الجن وهذا هو المتعين لورود النص
به فيلحق به سائر المطعومات وأما الروث فعلة النهي عنه النجاسة والنجاسة لا تزال
بمثلها
باب النهي أن يستنجى بمطعوم أو بما له حرمة . [ ص 119 ]
1 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أتاني داعي
الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم
وسألوه الزاد فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون
لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فلا تستنجوا
بهما فإنهما طعام إخوانكم )
- رواه أحمد ومسلم
-
الحديث رواه أيضا أبو داود والدارقطني والنسائي والحاكم
وفي الباب عن الزبير بن العوام رواه الطبراني بسند ضعيف وعن سلمان رواه مسلم وعن
جابر عند مسلم وغيره كما سلف
وقد ورد في الباب أحاديث متعددة مصرحة بالنهي عن العظم والروث قد ذكرنا بعض طرقها
في الحديث الذي قبل هذا . ورواه أيضا أبو عبد الله الحاكم في دلائل النبوة قال : (
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن مسعود ليلة الجن أولئك جن نصيبين
جاؤوني فسألوني الزاد فمتعتهم بالعظم والروث قال : وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله
قال : إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ ولا يجدون
روثا إلا وجدوا فيه حبه الذي كان يوم أكل فلا يستنجي أحد لا بعظم ولا بروث ) وفي
رواية أبي داود عن عبد الله بن مسعود قال : ( قدم وفد الجن على النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة فإن الله
تعالى جعل لنا فيها رزقا قال : فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ) وفي
إسناده إسماعيل بن عياش . والحديث قد تقدم الكلام على فقهه في مواضع
قال المصنف رحمه الله : وفيه تنبيه على النهي عن إطعام الدواب النجاسة اه لأن
تعليل النهي عن الاستجمار بالبعرة بكونها طعام دواب الجن يشعر بذلك
2 -
وعن أبي هريرة : ( أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إدواة لوضوئه
وحاجته فبينما هو يتبعه بها قال : من هذا قال : أنا أبو هريرة قال : ابغني أحجارا
استنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت
إلى جنبيه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت : ما بال العظم والروثة قال : هما من
طعام الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن [ ص 120 ] فسألوني الزاد فدعوت الله
لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاما )
- رواه البخاري
-
الحديث هكذا ساقه البخاري في باب ذكر الجن وهو أتم مما ساقه في الطهارة وأخرجه
البيهقي من الوجه الذي أخرجه منه مطولا
قوله ( ابغني أحجارا ) بالوصل من الثلاثي أي اطلب لي يقال بغيتك الشيء أي طلبته لك
وفي رواية بالقطع يقال أبغيتك الشيء أي أعنتك على طلبه والوصل أنسب بالسياق كذا في
الفتح
قوله ( أسنتفض ) بفاء مكسورة وضاد معجمة مجزوم لأنه جواب الأمر ويجوز الرفع على
الاستئناف . ومعنى الاستنفاض النفض وهو أن يهز الشيء ليطير غباره . وفي القاموس
اسنتفضه استخرجه وبالحجر استنجى . قال الحافظ : ومن رواه بالقاف فقد صحف
قوله ( ولا تأتني ) قال الحافظ : كأنه صلى الله عليه وآله وسلم خشي أن أبا هريرة
فهم من قوله ( أستنجي ) أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار
فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ ولو كان ذلك
مختصا بالأحجار كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية لم يكن لتخصيص هذين للنهي معنى
وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها
قوله ( هما من طعام الجن ) قال الحافظ : الظاهر من هذا التعليل اختصاص المنع بهما
. والحديث قد تقدم الكلام على فقهه
باب ما لا يستنجى به لنجاسته
1 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغائط
فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد فأخذت روثة
فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال : هذه ركس )
- رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وزاد فيه أحمد في رواية له ( أئتني بحجر )
-
قوله ( فلم أجد ) في رواية للبخاري ( فلم أجده ) والضمير للحجر
قوله ( فأخذت روثة ) زاد ابن خزيمة في رواية له في هذا الحديث أنها كانت روثة حمار
ونقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير
قوله ( وألقى الروثة ) استدل به الطحاوي على عدم وجوب الثلاث وقد سبق الرد عليه
برواية أحمد المذكورة ههنا في باب إلحاق ما كان في معنى الأحجار
قوله ( هذه ركس ) [ ص 121 ] الركس بكسر الراء وإسكان الكاف قيل هي لغية في رجس
ويدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة في هذا الحديث فإنها عندهما بالجيم : وقال
ابن بطال : لم أر هذا الحرف في اللغة يعني ركس وتعقبه أبو عبد الملك أن معناه الرد
من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة
قال الله تعالى { اركسوا فيها } أي ردوا . قال الحافظ : ولو ثبت ما قال لكان بفتح الراء
يقال أركسه ركسا إذا رده . وفي رواية الترمذي ( هذا ركس ) يعني نجسا . وأغرب
النسائي فقال : الركس طعام الجن قال الحافظ : وهذا إن ثبت في اللغة فهو مزيج
للإشكال . وفي القاموس الركس رد الشيء مقلوبا وقلب أوله على آخره وشد الركاس وهو
حبل يشد في خطم الجمل إلى رسغ يديه فيضيق عليه فيبقى رأسه معلقا وبالكسر النجس
انتهى
وقد ذكر الشاذكوني أن في الحديث تدليسا وقال : إنه لم يسمع في التدليس بأخفى منه
وقد رده في الفتح فليرجع إليه . والحديث يدل على المنع من الاستجمار بالروثة وقد
تقدم الكلام عليه
باب الاستنجاء بالماء
1 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل
الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إدواة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء )
- متفق عليه
-
قوله ( إداوة ) هي بكسر الهمزة إناء صغير من جلد
قوله ( وعنزة ) هي بفتح النون عصا أقصر من الرمح لها سنان وقيل هي الحربة القصيرة
قوله ( فيستنجي ) قال الأصيلي متعقبا على البخاري : استدلاله بهذه الزيادة على
الاستنجاء أنها من قول أبي الوليد أحد الرواة عن شعبة لا من قول أنس قال : وقد
رواه سليمان بن حرب عن شعبة فلم يذكرها وقد رده الحافظ بأنها قد ثبتت للإسماعيلي
من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة بلفظ : ( فانطلقت أنا وغلام من الأنصار معنا إدواة
فيها ماء يستنجي منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) وللبخاري من طريق روح بن
القاسم عن عطاء بن أبي ميمونة بلفظ : ( إذا تبرز أتيته بماء فتغسل به ) ولمسلم من
طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس بلفظ : ( فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وقد استنجى بالماء ) قال : وقد بان بهذه الروايات الرد على الأصيلي وكذا
فيه الرد [ ص 122 ] على من زعم أن قوله ( يستنجي بالماء ) مدرج من قول عطاء الراوي
عن أنس كما حكاه ابن التين عن أبي عبد الملك فإن رواية خالد الحذاء السابقة تدل
على أنه قول أنس
والحديث يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء وقد أنكره مالك وأنكر أن يكون النبي صلى
الله عليه و سلم استنجى بالماء . وقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن
اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال : إذا لا يزال في يدي نتن وعن نافع أن
ابن عمر كان لا يستنجي بالماء . وعن ابن الزبير قال : ما كنا نفعله
وذكر ابن دقيق العيد أن سعيد بن المسيب سئل عن الاستنجاء بالماء فقال : إنما ذلك
وضوء النساء . قال : وعن غيره من السلف ما يشعر بذلك
والسنة دلت على الاستنجاء بالماء في هذا الحديث وغيره فهي أولى بالإتباع قال :
ولعل سعيدا رحمه الله فهم من أحد غلوا في هذا الباب بحيث يمنع الاستنجاء بالأحجار
فقصد في مقابلته أن يذكر هذا اللفظ لإزالة ذلك الغلو وبالغ بإيراده إياه على هذه
الصيغة
وقد ذهب بعض من أصحاب مالك إلى أن الاستجمار بالحجارة إنما هو عند عدم الماء وإذا
ذهب إليه بعض الفقهاء فلا يبعد أن يقع لغيرهم ممن في زمان سعيد رحمه الله انتهى
وقد اختلف العلماء في الاكتفاء بالأحجار وعدم تعين الماء فذهبت الشافعية والحنفية
إلى عدم وجوب الماء وأن الأحجار تكفي إلا إذا تعدت النجاسة الشرج أي حلقة الدبر
وقال بقولهم سعد ابن أبي وقاص وابن الزبير وابن المسيب وعطاء واستدلوا بحديث : (
إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه ) كما تقدم وبنحوه
من أحاديث الاستطابة
وذهبت العترة والحسن البصري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبو علي الجبائي إلى
عدم الاجتزاء بالحجارة للصلاة ووجوب الماء وتعينه واحتجوا لذلك بقوله تعالى { فلم
تجدوا ماء فتيمموا } وأجيب بأن الآية في الوضوء ولا شك أن الماء متعين له ولا يجزئ
التيمم إلا عند عدمه وأما محل النزاع فلا دلالة في الآية عليه
قالوا : حديث الباب ونحوه مصرح بأن النبي صلى الله عليه و سلم استنجى بالماء قلنا
النزاع في تعينه وعدم الاجتزاء بغيره ومجرد فعل النبي له لا يدل على المطلوب وإلا
لزمكم القول بتعين الأحجار لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله وهو عكس مطلوبكم
قالوا : أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي من حديث عائشة أنها قالت للنساء : مرن
أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعله
قلنا صرحت بالمستند وهو مجرد فعل النبي له ولم تنقل عنه الأمر به ولا حصر
الاستطابة عليه
قالوا : حديث قباء وفيه الثناء عليهم لأنهم كانوا [ ص 123 ] يستنجون بالماء كما
سيأتي قلنا وهو حجة عليكم لا لكم لأن تخصيص أهل قباء بالثناء يدل على أن غيرهم
بخلافهم ولو كان واجبا لشاركهم غيرهم سلمنا فمجرد الثناء لا يدل على الوجوب المدعى
وغاية ما فيه الأولوية لأصالة الماء في التطهير وزيادة تأثيره في إذهاب أثر
النجاسة على أن حديث قباء فيه كلام سيأتي في هذا الباب
قال المهدي في البحر رادا على حجة أهل القول الأول ما لفظه قلنا مسلم فأين سقوط
الماء انتهى . ونقول له ومتى ثبت وجوب الماء حتى نطلب دليل سقوطه ثم أن السنة
باعترافك قد وردت بالاستطابة بالأحجار وأنها مجزئة فأين دليل عدم إجزائها . وعن
معاذة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( مرن أزواجكن أن يغسلوا عنهم أثر
الغائط والبول فإنا نستحي منهم وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يفعله )
رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه
الحديث يرد على من أنكر الاستنجاء بالماء منه صلى الله عليه و سلم والكلام عليه قد
تقدم في الذي قبله
2 -
وعن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( نزلت هذه الآية في أهل
قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } قال : كانوا يستنجون
بالماء فنزلت فيهم هذه الآية )
- رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه
-
الحديث قال الترمذي : غريب وأخرجه البزار في مسنده من حديث ابن عباس بلفظ : ( نزلت
هذه الآية في أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين } فسألهم
رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : إنا نتبع الحجارة الماء )
قال البزار : لا نعلم أحدا رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز ولا عنه إلا
ابنه
قال الحافظ : ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم فقال : ليس له ولا لأخويه عمران
وعبد الله حديث مستقيم وعبد الله بن شبيب الذي رواه البزار من طريقه ضعيف أيضا
وقد روى الحاكم هذا الحديث وليس فيه إلا ذكر الاستنجاء بالماء فحسب وهكذا صرح
النووي وابن الرفعة بأنه ليس في الحديث أنهم كانوا يجمعون بين الأحجار والماء .
ولا يوجد هذا في كتب الحديث وكذا قال المحب الطبري ورواية البزار واردة عليهم وإن
كانت ضعيفة . وحديث الباب قال الحافظ : هو بسند ضعيف . وروى أحمد وابن خزيمة
والطبراني والحاكم عن عويم بن ساعدة نحوه وأخرجه الحاكم من طريق مجاهد قال : ( لما
نزلت الآية بعث النبي صلى الله عليه و سلم إلى عويم بن ساعدة فقال : ما هذا الطهور
الذي أثنى الله [ ص 124 ] عليكم به قال : ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا
غسل دبره فقال صلى الله عليه و سلم : هو هذا ) ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي
سفيان طلحة بن نافع قال أخبرني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وإسناده
ضعيف . ورواه أحمد وابن أبي شيبة وابن قانع من حديث محمد بن عبد الله بن سلام وحكى
أبو نعيم في معرفة الصحابة الخلاف فيه على شهر بن حوشب . ورواه الطبراني من حديث
أبي أمامة وذكره الشافعي في الأم بغير إسناد
والحديث يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء والثناء على فاعله فيه من كمال التطهير وقد
تقدم الكلام عليه في أول الباب
باب وجوب تقدمة الاستنجاء على الوضوء
1 -
عن سليمان بن يسار قال : ( أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المقداد إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن الرجل يجد المذي فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يغسل ذكره ثم ليتوضأ )
- رواه النسائي
-
الحديث قال ابن حجر : منقطع وقد ساقه المصنف للاستدلال به على وجوب تقديم
الاستنجاء على الوضوء وترجم الباب بذلك لأن لفظة ثم تشعر بالترتيب ويشكل عليه ما
وقع في البخاري من تقديم الأمر بالوضوء على الغسل قال الحافظ : ووقع في العمدة
نسبة ذلك إلى البخاري وبالعكس
قال ابن دقيق العيد : قد يؤخذ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات (
توضأ وانضح فرجك ) جواز تأخير الاستنجاء عن الوضوء وقد صرح به بعضهم قال : وهذا
يتوقف على القول بأن الواو للترتيب وهو مذهب ضعيف انتهى
وأنت خبير بأن صحة استدلال ذلك البعض لا تتوقف على ما ذكره ابن دقيق العيد من كون
الواو للترتيب بل يصح على المذهب المشهور وهو أن الواو لمطلق الجمع من غير ترتيب
ولا معية لأن الواو على هذا تدل على جواز تقدم ما قبلها على ما بعدها وعكسه وإيقاع
الأمرين معا فيما يمكن فيه ذلك وليس مطلوب ذلك المستدل إلا جواز التقديم والعطف
بالواو الجامعة تدل عليه من دون توقف ذلك على القول بكونها للترتيب . ويمكن أن
يقال في جواب ذلك الإشكال على حديث الباب بأن رواية حديث الباب مقيدة والروايات
الواردة بالواو مطلقة فيحمل المطلق [ ص 125 ] على المقيد ويصح استدلال المصنف رحمه
الله . وقد تقدم الكلام على المذي في باب ما جاء في المذي من أبواب تطهير النجاسة
2 -
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : ( يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم
ينزل قال : يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي )
- أخرجاه
- الكلام على الحديث محله الغسل وسيأتي الخلاف في نسخه وعدمه والمصنف رحمه الله أورده هنا للاستدلال به على وجوب تقديم الاستنجاء على الغسل لترتيبه الوضوء على غسل ما مس المرأة منه قال رحمه الله : وحكم هذا الخبر في ترك الغسل من ذلك منسوخ وسيذكر في موضعه انتهى
أبواب السواك وسنن الفطرة
باب الحث على السواك وذكر ما يتأكد عنده
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : السواك
مطهرة للفم مرضاة للرب )
- رواه أحمد والنسائي وهو للبخاري تعليق
-
وأخرجه أيضا ابن حبان موصولا من حديث عبد الرحمن بن أبي عتيق سمعت أبي سمعت عائشة
بهذا قال ابن حبان : أبو عتيق هذا هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن أبي قحافة
وقال الحافظ : إنما هو من رواية ابنه عبد الله عنها قال : ورواه أحمد بن حنبل عن
عبد الله عنها وقد طول الكلام عليه في التلخيص
قوله ( أبواب السواك وسنن الفطرة ) قال أهل اللغة : السواك بكسر السين وهو يطلق
على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به وهو مذكر قال الليث : وتؤنثه العرب قال
الأزهري : هذا من أغاليط الليث القبيحة وذكر صاحب المحكم أنه يؤنث ويذكر والسواك
فعلك بالسواك ويقال ساك فمه يسوكه سوكا قلت : استاك لم تذكر الفم وجمع السواك سوك
بضمتين ككتاب وكتب وذكر صاحب المحكم أنه يجوز سؤك بالهمز قال النووي : ثم قيل إن
السواك مأخوذ من ساك إذا دلك . وقيل من جاءت الإبل تستاك أي تتمايل هزالا . وهو في
اصطلاح العلماء استعمال عود ونحوه في الأسنان ليذهب الصفرة وغيرها عنها
وأما الفطرة فقد اختلف العلماء في المراد بها ههنا قال الخطابي : ذهب أكثر العلماء
إلى أنها السنة وكذا ذكر جماعة غير الخطابي . وقيل هي الدين حكاه في الفتح عن [ ص
126 ] طائفة من العلماء وبه جزم أبو نعيم في المستخرج
وقال الراغب : أصل الفطرة الشق طولا ويطلق على الوهي وعلى الاختراع . وقال أبو
شامة : أصل الفطرة الخلقة المبتدأة ومنه { فاطر السماوات والأرض } أي المبتدئ
خلقهن والمراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( كل مولود يولد على الفطرة ) أي على
ما ابتدأ الله خلقه عليه وفيه إشارة إلى قوله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس
عليها } والمعنى أن كل واحد لو ترك في وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى
الدين الحق وهو التوحيد . ويؤيده أيضا قوله تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة
الله } وإليه يشير في بقية الحديث حيث عقبه بقوله ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه )
والحديث يدل على مشروعية السواك لأنه سبب لتطهير الفم وموجب لرضا الله على فاعله
وقد أطلق فيه السواك ولم يخصه بوقت معين ولا بحالة مخصوصة فأشعر بمطلق شرعيته وهو
من السنن المؤكدة وليس بواجب في حال من الأحوال لما سيأتي في حديث أبي هريرة (
لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ) ونحوه . قال النووي بإجماع من يعتد به في
الإجماع . وحكى أبو حامد الإسفرايني عن داود الظاهري أنه أوجبه في الصلاة وحكى
الماوردي عنه أنه واجب لا تبطل الصلاة بتركه
وحكى عن إسحاق بن راهويه أنه واجب تبطل الصلاة بتركه عمدا . قال النووي : وقد أنكر
أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد وغيره نقل الوجوب عن داود وقالوا مذهبه أنه
سنة كالجماعة ولو صح إيجابه عن داود لم يضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار
الذي عليه المحققون والأكثرون قال : وأما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه انتهى .
وعدم الاعتداد بخلاف داود مع علمه وورعه وأخذ جماعة من الأئمة الأكابر بمذهبه من
التعصبات التي لا مستند لها إلا مجرد الهوى والعصبية وقد كثر هذا الجنس في أهل
المذاهب وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة
علماء المسلمين فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة فهي بالنسبة إلى مقالات
غيره المؤسسة على محض الرأي المضادة لصريح الرواية في حيز القلة المتبالغة فإن
التعويل على الرأي وعدم الاعتناء بعلم الأدلة قد أفضى بقوم إلى التمذهب بمذاهب لا
يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر وأما داود فما في مذهبه من البدع التي أوقعه
فيها تمسكه بالظاهر وجموده عليه هي في غاية الندرة ولكن : لهوى النفوس سريرة لا
تعلم
قال النووي : والسواك مستحب في جميع الأوقات لكن في خمسة أوقات أشد استحبابا :
أحدها عند الصلاة سواء كان متطهرا بماء أو بتراب أو غير متطهر [ ص 127 ] كمن لم
يجد ماء ولا ترابا . الثاني عند الوضوء . الثالث عند قراءة القرآن . الرابع عند
الاستيقاظ من النوم . الخامس عند تغير الفم وتغيره يكون بأشياء منها ترك الأكل
والشرب ومنها أكل ما له رائحة كريهة ومنها طول السكوت ومنها كثرة الكلام
وقد قامت الأدلة على استحبابه في جميع هذه الحالات التي ذكرها . وسيأتي ذكر بعضها
في هذا الباب قال : ومذهب الشافعي أن السواك يكره للصائم بعد زوال الشمس لئلا تزول
رائحة الخلوف المستحبة وسيأتي الكلام عليه في باب السواك للصائم إن شاء الله .
ويستحب أن يستاك بعود من أراك وبأي شيء استاك مما يزيل التغير حصل السواك كالخرقة
الخشنة والأسنان
وللفقهاء في السواك آداب وهيئات لا ينبغي للفطن الاغترار بشيء منها إلا أن يكون
موافقا لما ورد عن الشارع ولقد كرهوه في أوقات وعلى حالات حتى كاد يفضي ذلك إلى
ترك هذه السنة الجليلة وإطراحها وهي أمر من أمور الشريعة ظهر ظهور النهار وقبله من
سكان البسيطة أهل الأنجاد والأغوار
قوله ( مطهرة للفم ) المطهرة بكسر الميم وتفتح قال في الديوان : الفتح أفصح
2 -
وعن زيد بن خالد قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولا أن أشق على
أمتي لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل ولأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )
- رواه أحمد والترمذي وصححه
-
الحديث رواه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ ( لفرضت عليهم السواك مع الوضوء ولأخرت
العشاء إلى نصف الليل ) وروى النسائي الجملة الأولى وروى العقيلي وأبو نعيم
والبيهقي من طريق أخرى عن سعيد به . ورواه أبو داود ومسلم بلفظ : ( لولا أن أشق
على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة ) ورواه أيضا أبو داود عن
زيد بن خالد باللفظ الذي في الكتاب ورواه البزار وأحمد من حديث علي نحوه وروى
الجملة الأولى أيضا الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي
هريرة . ولفظ الترمذي ( إلى ثلث الليل أو نصفه ) ولفظ أحمد وابن حبان ( إلى ثلث
الليل ) ولم يشك وروى الجملة الثانية النسائي وأحمد وابن خزيمة من حديث أبي هريرة
وعلقها البخاري وروى ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة : ( أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع الوضوء عند كل صلاة
)
وروى ابن أبي خيثمة في تاريخه بسند حسن عن أم حبيبة [ ص 128 ] ( لولا أن أشق على
أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضئون )
والحديث يدل على ندبية تأخير العشاء إلى ثلث الليل لأن لولا لامتناع الثاني لوجود
الأول فإذا ثبت وجود الأول ثبت امتناع الثاني وبقي الندب . ومحل الكلام على هذه
الجملة الصلاة إن شاء الله تعالى
ويدل أيضا على ندبية السواك بمثل ما ذكرناه في صلاة العشاء ويرد على من قال لا
يستحب السواك للصلاة وقد نسبه في البحر إلى الأكثر ويرد مذهب الظاهرية القائلين
بالوجوب إن صح عنهم وقد سبق كلام النووي في ذلك
3 -
وعن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لولا أن أشق على أمتي
لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )
- رواه الجماعة . وفي رواية لأحمد : ( لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء ) . وللبخاري
تعليقا : ( لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ) قال : ويروى نحوه عن جابر وزيد بن خالد
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
-
الحديث قال ابن منده : إسناده مجمع على صحته . وقال النووي : غلط بعض الأئمة
الكبار فزعم أن البخاري لم يخرجه وهو خطأ منه وقد أخرجه من حديث مالك عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وليس هو في الموطأ من هذا الوجه بل هو فيه عن ابن
شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل
وضوء ) ولم يصرح برفعه . قال ابن عبد البر : وحكمه الرفع وقد رواه الشافعي عن مالك
مرفوعا
وفي الباب عن زيد بن خالد عند الترمذي وأبي داود وعن علي عند أحمد وعن أم حبيبة
عند أحمد أيضا وعن عبد الله بن عمرو وسهل بن سعد وجابر وأنس عند أبي نعيم قال
الحافظ : وإسناد بعضها حسن . وعن ابن الزبير عند الطبراني وعن ابن عمر وجعفر بن
أبي طالب عند الطبراني أيضا
والحديث يدل على أن السواك غير واجب وعلى شرعيته عود الوضوء وعند الصلاة لأنه إذا
ذهب الوجوب بقي الندب كما تقدم وعلى أن الأمر للوجوب لأن كلمة لولا تدل على انتفاء
الشيء لوجود غيره فيدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة والمنفي لأجل المشقة إنما هو
الوجوب لا الاستحباب فإن استحباب السواك ثابت عند كل صلاة فيقتضي ذلك أن الأمر
للوجوب وفيه خلاف في الأصول على أقوال
ويدل الحديث أيضا على أن المندوب غير مأمور به لمثل ما ذكرناه وفيه أيضا خلاف في
الأصول مشهور
ويدل أيضا على أن للنبي صلى الله عليه و سلم أن يحكم بالاجتهاد ولا يتوقف حكمه على
النص لجعله المشقة سببا لعدم الأمر منه ولو [ ص 129 ] كان الأمر موقوفا على النص
لكان سبب عدم الأمر منه عدم النص لا مجرد المشقة وفيه احتمال للبحث والتأويل كما
قاله ابن دقيق العيد
وهو أيضا يدل بعمومه على استحباب السواك للصائم بعد الزوال لأن الصلاتين الواقعتين
بعده داخلتان تحت عموم الصلاة فلا تتم دعوى الكراهة إلا بدليل يخصص هذا العموم
وسيأتي الكلام على ذلك
4 -
وعن المقدام بن شريح عن أبيه قال : ( قلت لعائشة رضي الله عنها : بأي شيء كان يبدأ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل بيته قالت : بالسواك )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي
- الحديث رواه ابن حبان في صحيحه وفيه بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات وشدة الاهتمام به وتكراره لعدم تقييده بوقت الصلاة والوضوء
5 -
وعن حذيفة رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من
الليل يشوص فاه بالسواك )
- رواه الجماعة إلا الترمذي . والشوص الدلك . وللنسائي عن حذيفة قال : ( كنا نؤمر
بالسواك إذا قمنا من الليل )
-
الحديث متفق عليه من حديث حذيفة بلفظ : ( كان إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك )
وفي لفظ لمسلم : ( كان إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك ) واستغرب ابن منده من هذه
الزيادة وقد رواها الطبراني من وجه آخر بلفظ : ( كنا نؤمر بالسواك إذا قمنا من
الليل ) ورواه أيضا النسائي كما في حديث الباب ورواه مسلم وأبو داود وابن ماجه
والحاكم من حديث ابن عباس في قصة نومه عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (
فلما استيقظ من منامه أتي طهوره فأخذ سواكه فاستاك ) وفي رواية أبي داود التصريح
بتكرار ذلك
وفي رواية للطبراني كان يستاك من الليل مرتين أو ثلاثا وفي رواية له عن الفضل بن
عباس ( لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم إلى الصلاة بالليل إلا استن )
ورواه أبو داود من حديث عائشة بلفظ : ( كان يوضع له سواكه ووضوؤه فإذا قام من
الليل تخلى ثم استاك ) وصححه ابن منده ورواه ابن ماجه والطبراني من وجه آخر عن ابن
أبي مليكة عنها وصححه الحاكم وابن السكن . ورواه أبو داود عن عائشة أيضا بلفظ : (
كان لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ ) وفيه علي بن زيد
وفي الباب عن ابن عمر عند أحمد وعن معاوية عند الطبراني وإسناده ضعيف . وعن أنس
عند البيهقي وعن أبي أيوب عند أبي نعيم قال الحافظ : [ ص 130 ] وكلها ضعيفة
قوله ( يشوص ) بضم المعجمة وبسكون الواو شاصه يشوصه وماصه يموصه إذا غسله والشوص
بالفتح والتنظيف كذا في الصحاح وقيل الغسل وقيل التنقية وقيل الدلك وقيل الإمرار
على الأسنان من أسفل إلى فوق وعكسه الخطابي فقال : هو دلك الأسنان بالسواك
والأصابع عرضا
والحديث يدل على استحباب السواك عند القيام من النوم لأنه مقتض لتغير الفم لما
يتصاعد إليه من أبخرة المعدة والسواك ينظفه ولهذا أرشد إليه
وظاهر قوله من الليل ومن النوم العموم لجميع الأوقات قال ابن دقيق العيد : ويحتمل
أن يخص بما إذا قام إلى الصلاة قال الحافظ : ويدل عليه رواية البخاري بلفظ : ( إذا
قام للتهجد ) ولمسلم نحوه انتهى . فيحمل المطلق على المقيد ولكنه بعد معرفة أن
العلة التنظيف لا يتم ذلك لأنه مندوب إليه في جميع الأحوال
6 -
وعن عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يرقد ليلا
ولا نهارا فيستيقظ إلا تسوك )
- رواه أحمد وأبو داود
- الحديث أخرجه أيضا ابن أبي شيبة وقد تقدم الكلام عليه وعلى فقهه في الذي قبله
باب تسوك المتوضئ بإصبعه عند المضمضة
1 -
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( أنه دعا بكوز من ماء فغسل وجهه وكفيه ثلاثا
وتمضمض ثلاثا فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثا وغسل ذراعيه ثلاثا ومسح رأسه
واحدة ) . وذكر باقي الحديث وقال : ( هكذا كان وضوء نبي الله صلى الله عليه وآله
وسلم )
- رواه أحمد
-
الحديث يأتي الكلام على أطرافه في الوضوء وقد ساقه المصنف للاستدلال بقوله ( فأدخل
بعض أصابعه في فيه ) على أنه يجزئ التسوك بالإصبع . وقد روى ابن عدي والدارقطني
والبيهقي من حديث عبد الله بن المثنى عن النضر بن أنس عن أنس مرفوعا بلفظ : ( يجزئ
من السواك الأصابع ) قال الحافظ : وفي إسناده نظر . وقال أيضا : لا أرى بسنده بأسا
وقال البيهقي : المحفوظ عن ابن المثنى عن بعض أهل بيته عن أنس نحوه . ورواه أبو
نعيم والطبراني وابن عدي من حديث عائشة وفيه المثنى بن الصباح . ورواه أبو نعيم
أيضا من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وكثير ضعفوه . قال
الحافظ : وأصح من ذلك ما رواه أحمد في مسنده [ ص 131 ] من حديث علي بن أبي طالب
رضي الله عنه وذكر حديث الباب
وروى أبو عبيد في كتاب الطهور عن عثمان أنه كان إذا توضأ يسوك فاه بإصبعه وروى
الطبراني من حديث عائشة ( قلت : يا رسول الله الرجل يذهب فوه أيستاك قال : نعم قلت
: كيف يصنع قال : يدخل إصبعه في فيه ) رواه بإسناد فيه عيسى بن عبد الله الأنصاري
وقال : لا يروى إلا بهذا الإسناد قال الحافظ : وعيسى ضعفه ابن حبان وذكر له ابن
عدي هذا الحديث من مناكيره
باب السواك للصائم
1 -
عن عامر بن ربيعة قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا أحصي
يتسوك وهو صائم )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : حديث حسن
-
قال الحافظ : رواه أصحاب السنن وابن خزيمة وعلقه البخاري وفيه عاصم بن عبيد الله
وهو ضعيف قال ابن خزيمة : وأنا أبرأ من عهدته لكن حسن الحديث غيره . وقال الحافظ
أيضا : إسناده حسن
والحديث يدل على استحباب السواك للصائم من غير تقييد بوقت دون وقت وهو يرد على
الشافعي قوله بالكراهة بعد الزوال للصائم مستدلا بحديث الخلوف الذي سيأتي
وقد نقل الترمذي أن الشافعي قال لا بأس بالسواك للصائم أول النهار وآخره واختاره
جماعة من أصحابه منهم أبو شامة وابن عبد السلام والنووي والمزني
قال ابن عبد السلام في قواعده الكبرى : وقد فضل الشافعي تحمل الصائم مشقة رائحة
الخلوف على إزالته بالسواك مستدلا بأن ثوابه أطيب من ريح المسك ولا يوافق الشافعي
على ذلك إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره لأنه لا يلزم من ذكر
الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية ألا ترى أن الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل
من ركعتي الفجر مع قوله عليه السلام ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ) وكم
من عبادة قد أثنى الشارع عليها وذكر فضيلتها وغيرها أفضل منها وهذا من باب تزاحم
المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما فإن السواك نوع من التطهر المشروع لأجل
الرب سبحانه لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه ولأجله شرع
السواك وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال فكيف يقال إن فضيلة الخلوف تربى على تعظيم
ذي الجلال بتطييب الأفواه إلى أن قال : والذي [ ص 132 ] ذكره الشافعي رحمه الله
تخصيص للعام بمجرد الاستدلال المذكور المعارض بما ذكرنا
قال الحافظ في التلخيص : استدلال أصحابنا بحديث خلوف فم الصائم على كراهة الاستياك
بعد الزوال لمن يكون صائما فيه نظر لكن في رواية للدارقطني عن أبي هريرة قال : لك
السواك إلى العصر فإذا صليت فألقه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول : ( لخلوف فم الصائم ) الحديث قال : وقد عارضه حديث عامر بن ربيعة يعني حديث
الباب وقال : وفي الباب حديث علي ( إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي
فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانت له نورا بين عينيه يوم القيامة )
أخرجه البيهقي قال الحافظ : وإسناده ضعيف انتهى
وقول أبي هريرة مع كونه لا يدل على المطلوب لا حجة فيه على أن فيه عمر بن قيس وهو
متروك وكذلك حديث علي مع ضعفه لم يصرح فيه بالرفع فالحق أنه يستحب السواك للصائم
أول النهار وآخره وهو مذهب جمهور الأئمة
2 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خير
خصال الصائم السواك )
- رواه ابن ماجه . قال البخاري : وقال ابن عمر : يستاك أول النهار وآخره
-
الحديث قال في التلخيص : هو ضعيف ورواه أبو نعيم من طريقين آخريين عنها وروى
النسائي في الكنى والعقيلي وابن حبان في الضعفاء والبيهقي من طريق عاصم عن أنس (
يستاك الصائم أول النهار وآخره برطب السواك ويابسه ) ورفعه . وفيه إبراهيم بن
بيطار الخوارزمي قال البيهقي : انفرد به إبراهيم بن بيطار ويقال إبراهيم بن عبد
الرحمن قاضي خوارزمي وهو منكر الحديث . وقال ابن حبان : لا يصح ولا أصل له من حديث
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا من حديث أنس وذكره ابن الجوزي في الموضوعات
قال الحافظ : قلت له شاهد من حديث معاذ رواه الطبراني في الكبير وقال أحمد بن منيع
في مسنده : حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا يحيى بن حمزة عن النعمان ابن المنذر عن
عطاء وطاوس ومجاهد عن ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسوك وهو صائم
)
الحديث يدل على أن السواك من خير خصال الصائم من غير فرق بين قبل الزوال وبعده وقد
تقدم الكلام على ذلك في الحديث الأول
3 -
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لخلوف فم الصائم أطيب عند
الله من ريح المسك )
- متفق عليه
[ ص
133 ] - الحديث له طرق وألفاظ ورواه مسلم من حديث أبي سعيد والبزار من حديث علي وابن
حبان من حديث الحارث الأشعري وأحمد من حديث ابن مسعود والحسن بن سفيان من حديث
جابر
قوله ( لخلوف ) بضم الخاء قال القاضي عياض : قيدناه عن المتقنين بالضم وأكثر
المحدثين يفتحون خاءه وهو خطأ وعده الخطابي في غلطات المحدثين وهو تغير رائحة الفم
وقد استدل الشافعي بالحديث على كراهة الاستياك بعد الزوال للصائم لأنه يزيل الخلوف
الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك وهذا الاستدلال لا ينتهض لتخصيص الأحاديث
القاضية باستحباب السواك على العموم ولا على معارضة ( 1 ) تلك الخصوصات وقد سبق
الكلام على ذلك في حديث عامر بن ربيعة
قال المصنف رحمه الله : وبه احتج من كره السواك للصائم بعد الزوال اه
_________
( 1 ) قوله ولا على أي ولا يقوى على معارضة تلك الخ . وحذف لدلالة ما قبله عليه
باب سنن الفطرة
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس من
الفطرة الاستحداد والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار )
- رواه الجماعة
-
قوله ( خمس من الفطرة ) قد تقدم الكلام فيه في أول أبواب السواك والمراد بقوله خمس
من الفطرة في حديث الباب أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر
الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة
وقد رد البيضاوي الفطرة في حديث الباب إلى مجموع ما ورد في معناه مما تقدم فقال :
هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع فكأنها أمر جبلي
ينطوون عليها وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله خمس أنه صفة موصوف محذوف والتقدير
خصال خمس ثم فسرها أو على الإضافة أي خمس خصال ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف
والتقدير الذي شرع لكم خمس
قوله ( الاستحداد ) هو حلق العانة سمي استحدادا لاستعمال الحديدة وهي الموسى وهو
سنة بالاتفاق ويكون بالحلق والقص والنتف والنورة . قال النووي : والأفضل الحلق
والمراد بالعانة الشعر فوق ذكر الرجل وحواليه وكذلك الشعر حول فرج المرأة
ونقل عن أبي العباس ابن [ ص 134 ] سريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر . قال
النووي : فيحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما انتهى
وأقول : الاستحداد إن كان في اللغة حلق العانة كما ذكره النووي فلا دليل على سنية
حلق الشعر النابت حول الدبر وإن كان الاحتلاق بالحديد كما في القاموس فلا شك أنه
أعم من حلق العانة ولكنه وقع في مسلم وغيره بدل الاستحداد في حديث ( عشر من الفطرة
حلق العانة ) فيكون مبينا لإطلاق الاستحداد في حديث ( خمس من الفطرة ) فلا يتم
دعوى سنية حلق شعر الدبر أو استحبابه إلا بدليل ولم نقف على حلق شعر الدبر من فعله
صلى الله عليه وآله وسلم ولا من فعل أحد من أصحابه
قوله ( والختان ) اختلف في وجوبه وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا .
والختان قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف جميع الحشفة وفي المرأة قطع
أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج
قوله ( وقص الشارب ) هو سنة بالاتفاق والقاص مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يوليه
غيره لحصول المقصود بخلاف الإبط والعانة وسيأتي مقدار ما يقص منه في باب أخذ
الشارب
قوله ( ونتف الإبط ) هو سنة بالاتفاق أيضا قال النووي : الأفضل فيه النتف إن قوي
عليه ويحصل أيضا بالحلق والنورة
وحكى عن يونس بن عبد الأعلى قال : دخلت على الشافعي وعنده المزين يحلق إبطه فقال
الشافعي : علمت أن السنة النتف ولكن لا أقوى على الوجع . ويستحب أن يبدأ بالإبط
الأيمن لحديث التيمن وفيه ( كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله
) وكذلك يستحب أن يبدأ في قص الشارب بالجانب الأيمن لهذا الحديث
قوله ( تقليم الأظفار ) وقع في الرواية الآتية في صحيح مسلم وغيره ( قص الأظفار )
وهو سنة بالاتفاق أيضا والتقليم تفعيل من القلم وهو القطع . قال النووي : ويستحب
أن يبدأ باليدين قبل الرجلين فيبدأ بمسبحة يده اليمنى ثم الوسطى ثم البنصر ثم
الخنصر ثم الإبهام ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ببنصرها إلى آخره ثم يعود
إلى الرجل اليمنى فيبدأ بخنصرها ويختم بخنصر اليسرى انتهى ( 1 )
_________
( 1 ) وفيه نظر لأن الاستحباب حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل وليس عندنا في ذلك شيء
يثبت من فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا فعل أصحابه إلا ما ورد من حبه
عليه السلام للتيامن فقط وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس وأما الترتيب في الأصابع
على الصفة التي ذكرها فلعله من استحسانه والله يغفر له . وسبقه إلى ذلك الغزالي
وذكر حديثا لا أصل له وأنكر عليه الإمام المازري المالكي وغيره والله أعلم
2 -
[ ص 135 ] وعن أنس بن مالك قال : ( وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف
الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة )
- رواه مسلم وابن ماجه ورواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وقالوا : ( وقت لنا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
-
قوله ( وقت لنا ) في الرواية الأولى على البناء للمجهول وقد وقع خلاف في علم
الأصول والاصطلاح هل هي صيغة رفع أو لا والأكثر أنها صيغة رفع إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إذا قالها الصحابي مثل قوله أمرنا بكذا ونهينا عن كذا وقد صرح في
الرواية الثانية من حديث الباب بأن الموقت هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فارتفع الاحتمال لكن في إسنادها صدقة بن موسى أبو المغيرة ويقال أبو محمد السلمي
البصري الدقيقي قال يحيى بن معين : ليس بشيء وقال مرة : ضعيف وقال النسائي : ضعيف
وقال الترمذي : ليس بالحافظ وقال أبو حاتم الرازي : لين الحديث يكتب حديثه ولا
يحتج به ليس بالقوي . وقال أبو حاتم ابن حبان : كان شيخا صالحا إلا أن الحديث لم
يكن صناعته فكان إذا روى قلب الأخبار حتى خرج عن حد الاحتجاج به
وقد أخرج الرواية الأولى في صحيح مسلم عن يحيى بن يحيى وقتيبة كلاهما عن جعفر بن
سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك بذلك اللفظ قال القاضي عياض قال
العقيلي في حديث جعفر هذا نظر
وقال أبو عمر بن عبد البر : لم يروه إلا جعفر بن سليمان وليس بحجة لسوء حفظه وكثرة
غلطه . قال النووي : وقد وثق كثير من الأئمة المتقدمين جعفر بن سليمان ويكفي في
توثيقه احتجاج مسلم به وقد تابعه غيره انتهى
قوله ( أن لا نترك ) قال النووي : معناه تركا نتجاوز به أربعين لا أنه وقت لهم
الترك أربعين قال : والمختار أنه يضبط بالحاجة والطول فإذا طال حلق انتهى
قلت : بل المختار أنه يضبط بالأربعين التي ضبط بها رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فلا يجوز تجاوزها ولا يعد مخالفا للسنة من ترك القص ونحوه بعد الطول إلى
انتهاء تلك الغاية
3 -
وعن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير عن عائشة
رضي الله عنها قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر من الفطرة قص
الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط
وحلق العانة وانتقاص الماء يعني الاستنجاء قال زكريا قال مصعب ونسيت العاشرة إلا
أن تكون المضمضة )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي
[ ص
136 ] - الحديث أخرجه أيضا أبو داود من حديث عمار وصححه ابن السكن قال الحافظ :
وهو معلول ورواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس موقوفا في تفسير قوله تعالى {
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } قال : خمس في الرأس وخمس في الجسد فذكره
وقد تقدم الكلام على قص الشارب والسواك وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة
قوله ( وإعفاء اللحية ) إعفاء اللحية توفيرها كما في القاموس . وفي رواية للبخاري
( وفروا اللحى ) وفي رواية أخرى لمسلم ( أوفوا اللحى ) وهو بمعناه وكان من عادة
الفرس قص اللحية فنهى الشارع عن ذلك وأمر بإعفائها قال القاضي عياض : يكره حلق
اللحية وقصها وتحريفها ( 1 ) وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن وتكره الشهرة في
تعظيمها كما تكره في قصها وجزها
وقد اختلف السلف في ذلك فمنهم من لم يحد بحد بل قال : لا يتركها إلى حد الشهرة
ويأخذ منها وكره مالك طولها جدا ومنهم من حد بما زاد على القبضة فيزال ومنهم من
كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة
قوله ( واستنشاق الماء ) وسيأتي الكلام عليه في الوضوء
قوله ( وغسل البراجم ) هي بفتح الباء الموحدة وبالجيم جمع برجمة بضم الباء والجيم
وهي عقد الأصابع ومعاطفها كلها وغسلها سنة مستقلة ليست بواجبة . قال العلماء :
ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح ونحوه
قوله ( وانتقاص الماء ) هو بالقاف والصاد المهملة وقد ذكر المصنف تفسيره بأنه
الاستنجاء وكذلك فسره وكيع وقال أبو عبيد وغيره : معناه انتقاص البول بسبب استعمال
الماء في غسل مذاكيره . وقيل هو الانتضاح وقد جاء في رواية بدل الانتقاص الانتضاح
والانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس
وذكر ابن الأثير أنه روى انتفاص بالفاء والصاد المهملة وقال في فصل الفاء : قيل
الصواب أنه بالفاء قال : والمراد نضحه على الذكر لقولهم لنضح الدم القليل نفصة
وجمعها نفص ( 2 ) قال النووي : وهذا الذي نقله شاذ
قوله ( ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ) هذا شك منه قال القاضي عياض : ولعلها
الختان المذكور مع الخمس الأولى قال النووي : وهو أولى وسيأتي الكلام على المضمضة
في الوضوء
وقد استدل الرافعي بالحديث على أن المضمضة والاستنشاق سنة وروي الحديث بلفظ : (
عشر من السنة ) ورده الحافظ في التلخيص بأن لفظ الحديث ( عشر من الفطرة ) قال : بل
ولو ورد [ ص 137 ] بلفظ من السنة لم ينتهض دليلا على عدم الوجوب لأن المراد به
السنة أي الطريقة لا السنة بالمعنى الاصطلاحي الأصولي قال : وفي الباب عن ابن عباس
مرفوعا ( المضمضة والاستنشاق سنة ) رواه الدارقطني وهو ضعيف
_________
( 1 ) هكذا بالحاء والراء ولعله محرف عن تحليقها
( 2 ) النفصة هي بضم النون وسكون الفاء وفتح الصاد . وقوله نفص هو بضم النون وفتح
الفاء . وقال في القاموس : والانتفاص رش الماء من خلل الأصابع على الذكر
باب الختان
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( اختتن
إبراهيم خليل الرحمن بعد ما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم )
- متفق عليه إلا أن مسلما لم يذكر السنين
-
قوله ( الختان ) بكسر المعجمة وتخفيف المثناة مصدر ختن أي قطع والختن بفتح ثم سكون
قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص والاختتان والختان اسم لفعل الخاتن ولموضع الختان كما
في حديث عائشة ( إذا التقى الختانان ) قال الماوردي : ختان الذكر قطع الجلدة التي
تغطي الحشفة والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أول الحشفة وأقل ما يجزئ أن لا يبقى
منها ما يتغشى به
وقال إمام الحرمين : المستحق في الرجال قطع القلفة وهي الجلدة التي تغطي الحشفة
حتى لا يبقى من الجلدة شيء يتدلى
وقال ابن الصباغ : حتى تنكشف جميع الحشفة . وقال ابن كج فيما نقله الرافعي : يتأدى
الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها قال
النووي : وهو شاذ والأول هو المعتمد قال الإمام : والمستحق من ختان المرأة ما
ينطلق عليه الاسم وقال الماوردي : ختانها قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل
الذكر كالنواة أو كعرف الديك والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله قال
النووي : ويسمى ختان الرجل إعذارا بذال معجمة وختان المرأة خفضا بخاء وضاد معجمتين
وقال أبو شامة : كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل إعذارا والخفض يختص بالنساء قال
أبو عبيد : عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما وزنا ومعنى
قال الجوهري : والأكثر خفض الجارية قال : وتزعم العرب أن الولد إذا ولد في القمر اتسعت
قلفته فصار كالمختون وقد استحب جماعة من العلماء فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى
على موضع الختان من غير قطع . قال أبو شامة : وغالب من يكون كذلك لا يكون ختانه
تاما بل يظهر طرف الحشفة [ ص 138 ] فإن كان كذلك وجب تكميله
قوله ( بالقدوم ) بفتح القاف وضم الدال وتخفيفها آلة النجارة . وقيل اسم الموضع
الذي اختتن فيه إبراهيم وهو الذي في القاموس يقال ( 1 ) بل قد ذكره في باب فضل
إبراهيم الخليل من رواية أبي هريرة مع ذكر السنين
وأورد المصنف الحديث في هذا الباب للاستدلال به على أن مدة الختان لا تختص بوقت
معين وهو مذهب الجمهور وليس بواجب في حال الصغر وللشافعية وجه أنه يجب على الولي
أن يختن الصغير قبل بلوغه ويرده حديث ابن عباس الآتي ولهم أيضا وجه أنه يحرم قبل
عشر سنين ويرده حديث ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ختن الحسن والحسين يوم
السابع من ولادتهما ) أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث عائشة وأخرجه البيهقي من حديث
جابر . قال النووي بعد أن ذكر هذين الوجهين : وإذا قلنا بالصحيح استحب أن يختتن في
اليوم السابع من ولادته وهل يحسب يوم الولادة من السبع أو يكون سبعة سواه فيه
وجهان أظهرهما يحسب انتهى
واختلف في وجوب الختان فروى الإمام يحيى عن العترة والشافعي وكثير من العلماء أنه
واجب في حق الرجال والنساء . وعند مالك وأبي حنيفة والمرتضى قال النووي وهو قول
أكثر العلماء 'نه سنة فيهما وقال الناصر والإمام يحيى : إنه واجب في الرجال لا
النساء
احتج الأولون بما سيأتي من حديث عثيم بلفظ : ( ألق عنك شعر الكفر واختتن ) وهو لا
ينتهض للحجية لما فيه من المقال الذي سنبينه هنالك وبحديث أبي هريرة أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال ( من أسلم فليختتن ) وقد ذكره الحافظ في التلخيص ولم
يضعفه وتعقب بقول ابن المنذر وليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع وبحديث أم
عطية وكانت خافضة بلفظ : ( اشمى ولا تنهكي ) ( 2 ) عند الحاكم والطبراني والبيهقي
وأبي نعيم من حديث الضحاك بن قيس وقد اختلف فيه على عبد الملك ابن عمير فقيل عنه
عن الضحاك وقيل عنه عن عطية القرظي رواه أبو نعيم وقيل عنه عن أم عطية رواه أبو
داود في السنن وأعله بمحمد بن حسان فقال : إنه مجهول ضعيف وتبعه ابن عدي في تجهيله
والبيهقي وخالفهم عبد الغني بن سعيد [ ص 139 ] فقال : هو محمد بن سعيد المصلوب في
الزندقة ورواه ابن عدي من حديث سالم بن عبد الله ابن عمر والبزار من حديث نافع
كلاهما عن عبد الله بن عمر مرفوعا بلفظ : ( يا نساء الأنصار اختضبن غمسا واختفضن
ولا تنهكن وإياكن وكفران النعم ) قال الحافظ : في إسناد أبي نعيم مندل بن علي وهو
ضعيف وفي إسناد ابن عدي خالد بن عمرو القرشي وهو أضعف من مندل ورواه الطبراني وابن
عدي من حديث أنس نحو حديث أبي داود قال ابن عدي : تفرد به زائدة وهو منكر قاله
البخاري عن ثابت وقال الطبراني : تفرد به محمد ابن سلام
واحتج القائلون بأنه سنة بحديث ( الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء ) رواه
أحمد والبيهقي من حديث الحجاج بن أرطأة عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه والحجاج
مدلس وقد اضطرب فيه قتادة رواه هكذا وتارة رواه بزيادة شداد بن أوس بعد والد أبي
المليح أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في العلل والطبراني في الكبير وتارة رواه
عن مكحول عن أبي أيوب أخرجه أحمد وذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه
خطأ من حجاج أو من الراوي عنه وهو عبد الواحد بن زياد وقال البيهقي : هو ضعيف
منقطع . وقال ابن عبد البر في التمهيد : هذا الحديث يدور على حجاج بن أرطأة وليس
ممن يحتج به قال الحافظ : وله طريق أخرى من غير رواية حجاج فقد رواه الطبراني في
الكبير والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا وضعفه البيهقي في السنن وقال في المعرفة
: لا يصح رفعه وهو من رواية الوليد عن أبي ثوبان عن ابن عجلان عن عكرمة عنه ورواته
موثقون إلا أن فيه تدليسا اه . ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج لا حجة فيه على
المطلوب لأن لفظة السنة في لسان الشارع أعم من السنة في اصطلاح الأصوليين
واحتج المفصلون لوجوبه على الرجال بحجج القول الأول ولعدم وجوبه على النساء بما في
الحديث الذي احتج به أهل القول الثاني من قوله ( مكرمة في النساء )
والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب والمتيقن السنة كما في حديث ( خمس من
الفطرة ) ونحوه والواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه قال
البيهقي : أحسن الحجج أن يحتج بحديث أبي هريرة المذكور في الباب أن إبراهيم اختتن
وهو ابن ثمانين سنة وقد قال الله تعالى { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم
حنيفا } وصح عن ابن عباس أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هن خصال الفطرة
ومنهن الختان . والابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبا وتعقب بأنه لا يلزم ما
ذكر [ ص 140 ] إلا أن كان إبراهيم فعله على سبيل الوجوب فإنه من الجائز أن يكون
فعله على سبيل الندب فيحصل امتثال الأمر بإتباعه على وفق ما فعل وقد تقرر أن
الأفعال لا تدل على الوجوب وأيضا فباقي الكلمات العشر ليست واجبة . وقال الماوردي
: إن إبراهيم لا يفعل ذلك في مثل سنه إلا عن أمر من الله
والحاصل أن الاستدلال بفعل إبراهيم على الوجوب يتوقف على أنه كان عليه واجبا فإن
ثبت ذلك استقام الاستدلال
_________
( 1 ) في العبارة غموض ولعل لفظة يقال زائدة أو محرفة . وقوله قد ذكره في باب فضل
إبراهيم لعله يريد ما رواه البخاري وما ذكره الحافظ في الفتح في ذلك الموضع وكثيرا
ما يقول الشوكاني وما قاله وما ذكره أو قال يريد بذلك صاحب الفتح تنبه والله أعلم
( 2 ) الذي في سنن أبي داود ( اشمي ) بشين مكسورة وميم مشدودة مكسورة قال في
النهاية اشمي ولا تنهكي شبه القطع اليسير بإشمام الرائحة والنهك بالمبالغة فيه أي
اقطعي بعض النواة ولا تستأصليها
2 -
وعن سعيد بن جبير قال : ( سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال : أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك )
- رواه البخاري
- قوله ( حتى يدرك ) الإدراك في أصل اللغة بلوغ الشيء وقته وأراد به ههنا البلوغ . والحديث يدل على ما أسلفناه من أن الختان غير مختص بوقت معين وقد تقدم الكلام فيه في الحديث الذي قبله . ومن فوائد هذا الحديث أن ابن عباس كان عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سن البلوغ وسيأتي ذكر الاختلاف في عمره عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في باب ما يقطع الصلاة بمروره من أبواب السترة
3 -
وعن ابن جريج قال : أخبرت عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده : ( أنه جاء إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال : قد أسلمت قال ألق عنك شعر الكفر يقول : احلق قال :
وأخبرني آخر معه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لآخر : ألق عنك شعر الكفر
واختتن )
- رواه أحمد وأبو داود
-
وأخرجه أيضا الطبراني وابن عدي والبيهقي قال الحافظ : وفيه انقطاع وعثيم وأبوه
مجهولان قاله ابن القطان وقال عبدان هو عثيم بن كثير بن كليب والصحابي هو كليب
وإنما نسب عثيم في الإسناد إلى جده وقد وقع مبينا في رواية الواقدي أخرجه ابن منده
في المعرفة وقال ابن عدي : الذي أخبر ابن جريج به هو إبراهيم بن أبي يحيى وعثيم
بضم العين المهملة ثم ثاء مثلثة بلفظ التصغير . والحديث استدل به من قال بوجوب
الختان لما فيه من لفظ الأمر به وقد تقدم الكلام عليه
( فائدة ) اختلف في ختان الخنثى فقيل يجب ختانه في فرجيه قبل البلوغ وقيل لا يجوز
حتى يتبين وهو الأظهر قاله النووي . وأما من له ذكران فإن كانا عاملين وجب ختانهما
وإن كان أحدهما عاملا دون الآخر ختن وإذا مات إنسان قبل أن يختتن [ ص 141 ]
فلأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه الصحيح المشهور لا يختن كبيرا كان أو صغيرا والثاني
يختن والثالث يختن الكبير دون الصغير
باب أخذ الشارب وإعفاء اللحية
1 -
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من
لم يأخذ من شاربه فليس منا )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال : حديث صحيح
2 -
وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جزوا الشوارب
وأرخوا اللحى خالفوا المجوس )
- رواه أحمد ومسلم
3 -
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( خالفوا المشركين وفروا اللحى
وأحفوا الشوارب )
- متفق عليه زاد البخاري ( وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل
أخذه )
-
الكلام على ألفاظ هذه الأحاديث قد تقدم في باب سنن الفطرة . وقد اختلف الناس في حد
ما يقص من الشارب وقد ذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه لظاهر قوله ( احفوا
وانهكوا ) وهو قول الكوفيين وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال وإليه ذهب
مالك وكان يرى تأديب من حلقه . وروى عنه ابن القاسم أنه قال : إحفاء الشارب مثله .
قال النووي : المختار أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفيه من أصله قال : وأما
رواية ( احفوا الشوارب ) فمعناها ما طال عن الشفتين وكذلك قال مالك في الموطأ يؤخذ
من الشارب حتى يبدو أطراف الشفة
قال ابن القيم : وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس
والشوارب أن الإحفاء أفضل من التقصير وذكر بعض المالكية عن الشافعي أن مذهبه كمذهب
أبي حنيفة في حلق الشارب قال الطحاوي : ولم أجد عن الشافعي شيئا منصوصا في هذا
وأصحابه الذين رأيناهم المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما ويدل ذلك أنهما أخذاه
عن الشافعي وروى الأثرم عن الإمام أحمد أنه كان يحفي شاربه إحفاء شديدا وسمعته
يسأل عن السنة في إحفاء الشارب فقال : يحفى
وقال حنبل : قيل لأبي عبد الله ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه قال : إن
أحفاه فلا بأس وإن أخذه قصا فلا بأس
وقال أبو محمد في المغني : هو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه . وقد روى النووي في
شرح مسلم [ ص 142 ] عن بعض العلماء أنه ذهب إلى التخيير بين الأمرين الإحفاء وعدمه
وروى الطحاوي الإحفاء عن جماعة من الصحابة أبي سعيد وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل
بن سعد وعبد الله بن عمر وجابر وأبي هريرة
قال ابن القيم : واحتج من لم ير إحفاء الشارب بحديث عائشة وأبي هريرة المرفوعين (
عشر من الفطرة ) فذكر منها قص الشارب . وفي حديث أبي هريرة ( أن الفطرة خمس ) وذكر
منها قص الشارب
واحتج المحفون بأحاديث الأمر بالإحفاء وهي صحيحة وبحديث ابن عباس أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ( كان يحفي شاربه ) انتهى
والإحفاء ليس كما ذكره النووي من أن معناه احفوا ما طال عن الشفتين بل الإحفاء
الاستئصال كما في الصحاح والقاموس والكشاف وسائر كتب اللغة
ورواية القص لا تنافيه لأن القص قد يكون على جهة الإحفاء وقد لا يكون ورواية الإحفاء
معينة للمراد وكذلك حديث الباب الذي فيه من لم يأخذ من شاربه فليس منا لا يعارض
رواية الإحفاء لأن فيها زيادة يتعين المصير إليها ولو فرض التعارض من كل وجه لكانت
رواية الإحفاء أرجح لأنها في الصحيحين
وروى الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ من شارب المغيرة على سواكه
قال : وهذا لا يكون معه إحفاء ويجاب عنه بأنه محتمل ودعوى أنه لا يكون معه إحفاء
ممنوعة وهو إن صح كما ذكر لا يعارض تلك الأقوال منه صلى الله عليه وآله وسلم
قوله ( وأرخوا اللحى ) قال النووي : هو بقطع الهمزة والخاء المعجمة ومعناه اتركوا
ولا تتعرضوا لها بتغيير قال القاضي عياض : وقع في رواية الأكثرين بالخاء المعجمة
ووقع عند ابن ماهان أرجوا بالجيم قيل هو بمعنى الأول وأصله أرجئوا بالهمزة فحذفت
تخفيفا ومعناه أخروها واتركوها
قوله ( وفروا اللحى ) هي إحدى الروايات وقد حصل من مجموع الأحاديث خمس روايات
اعفوا وأوفوا وأرخوا وأرجوا ووفروا ومعناها كلها تركها على حالها . قال ابن السكيت
وغيره : يقال في جمع اللحية لحى ولحى بكسر اللام وضمها لغتان والكسر أفصح
قوله ( خالفوا المجوس ) قد سبق أنه كان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك
قوله ( فما فضل ) بفتح الفاء والضاد المعجمة ويجوز كسر الضاد كعلم والأشهر الفتح .
وقد استدل بذلك أهل العلم والروايات المرفوعة ترده ولكنه قد أخرج الترمذي من حديث
عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده ( أن النبي صلى الله عليه وله وسلم كان يأخذ من
لحيته من عرضها وطولها ) وقال : غريب قال : سمعت محمد بن إسماعيل [ ص 143 ] يعني
البخاري يقول : عمرو بن هارون يعني المذكور في إسناده مقارب الحديث لا أعرف له
حديثا ليس له أصل أو قال ينفرد به إلا هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديثه انتهى
وقال في التقريب : إنه متروك وكان حافظا من كبار التاسعة انتهى . فعلى هذا إنها لا
تقوم بالحديث حجة
( فائدة ) قال النووي ( 1 ) : وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها
أشد من بعض : الخضاب بالسواد لا لغرض الجهاد . والخضاب بالصفرة تشبها بالصالحين لا
لإتباع السنة . وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة لأجل الرياسة
والتعظيم وإيهام لقي المشايخ . ونتفها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة .
ونتف الشيب . وتصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا لتستحسنه النساء وغيرهن . والزيادة
فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين أو أخذ بعض العذار في حلق
الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك . وتسريحها تصنعا لأجل الناس . وتركها شعثة
منتفشة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه . هذه عشر والحادية عشرة عقدها وضفرها
. والثانية عشرة حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها
_________
( 1 ) ذكر النووي في شرح مسلم عن العلماء أن في اللحية اثنتي عشرة خصلة مكروهة
وأوردها معدودة وقد أورد الشارح هنا كلام النووي كما ترى فظاهره أنه ذكر النووي في
اللحية عشر خصال واستظهر عليه بخصلتين وليس كذلك بل ذكر اثنتي عشرة خصلة . وقول
الشارح هذه عشر ليس كما قال بل هي في كلامه تسع كما عدها النووي وترك الشارح
العاشرة وهي النظر إلى سوادها وبياضها إعجابا وخيلاء وغرة بالشباب وفخرا بالمشيب
وتطاولا على الشباب . تنبه لذلك والله أعلم
( فائدة ) سئل الإمام أحمد بن حنبل عن حف الوجه فقال : ليس به بأس للنساء وأكرهه
للرجال
باب كراهة نتف الشيب
1 -
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا
تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له
بها حسنة ورفعه بها درجة وحط عنه بها خطيئة )
- رواه أحمد وأبو داود
-
وأخرجه أيضا الترمذي وقال : حسن والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه . وقد أخرج
مسلم في الصحيح من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال ( كنا نكره أن ينتف الرجل الشعرة
البيضاء من رأسه ولحيته ) وفي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مقال معروف عند
المحدثين
والحديث يدل على تحريم نتف الشيب [ ص 144 ] لأنه مقتضى النهي حقيقة عند المحققين
وقد ذهبت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم إلى كراهة ذلك لهذا الحديث ولما
أخرجه الخلال في جامعه عن طارق بن حبيب : ( أن حجاما أخذ من شارب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فرأى شيبة في لحيته فأهوى بيده إليها ليأخذها فأمسك النبي صلى الله
عليه وآله وسلم يده وقال : من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة )
ولما أخرجه البزار والطبراني عن فضالة بن عبيد : ( أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال : من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة فقال له رجل عند
ذلك : فإن رجالا ينتفون الشيب فقال : من شاء فلينتف نوره )
قال النووي : لو قيل يحرم النتف للنهي الصريح الصحيح لم يبعد قال : ولا فرق بين
نتفه من اللحية والرأس والشارب والحاجب والعذار ومن الرجل والمرأة
قوله ( فإنه نور المسلم ) في تعليله بأنه نور المسلم ترغيب بليغ في إبقائه وترك
التعرض لإزالته وتعقيبه بقوله ( ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام ) والتصريح بكتب
الحسنة ورفع الدرجة وحط الخطيئة نداء بشرف الشيب وأهله وأنه من أسباب كثرة الأجور
وإيماء إلى أن الرغوب عنه بنتفه رغوب عن المثوبة العظيمة . وقد أخرج الترمذي من
حديث كعب بن مرة وحسنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من
شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة ) وأخرجه بهذا اللفظ من حديث عمرو
بن عبسة وقال : حسن صحيح غريب
باب تغيير الشيب بالحناء والكتم ونحوهما وكراهة السواد
1 -
عن جابر بن عبد الله قال : ( جيء بأبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وكأن رأسه ثغامة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اذهبوا
به إلى بعض نسائه فلتغيره بشيء وجنبوه السواد )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي
-
قوله ( بأبي قحافة ) هو والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
قوله ( ثغامة ) بثاء مثلثة مفتوحة ثم غين معجمة مخففة . قال أبو عبيد : هو نبت
أبيض الزهر والثمر يشبه بياض المشيب به . وقال ابن الأعرابي : هو شجر مبيض كأنه
الثلج قال في القاموس : الثغام السحاب نبت واحدته بهاء وأثغماء اسم الجمع وأثغم
الوادي أنبته والرأس صار [ ص 145 ] كالثغامة بياضا ولون تاغم أبيض كالثغام
والحديث يدل على مشروعية تغيير الشيب وأنه غير مختص باللحية وعلى كراهة الخضاب
بالسواد قال بذلك جماعة من العلماء قال النووي : والصحيح بل الصواب أنه حرام يعني
الخضاب بالسواد وممن صرح به صاحب الحاوي انتهى . وقد أخرج أبو داود والنسائي من
حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( قوم يخضبون في آخر
الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة ) قال المنذري : وفي إسناده
عبد الكريم ولم ينسبه أبو داود ولا النسائي انتهى . وهو الجريري كما وقع في بعض
نسخ السنن
وقد ورد في استحباب خضاب الشيب وتغييره أحاديث سيأتي بعضها منها ما أخرجه البخاري
ومسلم والنسائي وأبو داود من حديث ابن عباس بلفظ : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون
فخالفوهم ) وأخرجه الترمذي بلفظ : ( غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ) وأخرج أبو داود
والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه من حديث أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم ( إن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم ) وسيأتي . وعن ابن
عمر رضي الله عنهما : ( أنه كان يصبغ لحيته بالصفرة ويقول رأيت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم يصبغ بها ولم يكن أحب إليه منها وكان يصبغ بها ثيابه ) أخرجه أبو
داود والنسائي ويعارضه ما سيأتي عن أنس قال : ( ما خضب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وإنه لم يبلغ منه الشيب إلا قليلا قال : ولو شئت أن أعد شمطات كن في
رأسه لفعلت ) والحديث أخرجه الشيخان . وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود
قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره عشر خلال الصفرة يعني الخلوق
وتغيير الشيب ) الحديث ولكنه لا ينتهض لمعارضة أحاديث تغيير الشيب قولا وفعلا
قال القاضي عياض : اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه فقال
بعضهم ترك الخضاب أفضل وروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن
تغيير الشيب ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يغير شيبه روي هذا عن عمر وعلي وأبي
بكر وآخرين
وقال آخرون الخضاب أفضل وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة
في ذلك ثم اختلف هؤلاء فكان أكثرهم يخضب بالصفرة منهم ابن عمر وأبو هريرة وآخرون
وروي ذلك عن علي
وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم وبعضهم بالزعفران وخضب جماعة بالسواد روي ذلك عن
عثمان والحسن والحسين ابني علي وعقبة بن عامر وابن سيرين [ ص 146 ] وأبي بردة وآخرين
قال الطبري : الصواب أن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتغيير
الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب
أبي قحافة والنهي لمن له شمط فقط قال : واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف
أحوالهم في ذلك مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ولهذا لم ينكر
بعضهم على بعض
2 -
وعن محمد بن سيرين قال : ( سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن شاب إلا يسيرا ولكن أبا
بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم )
- متفق عليه . وزاد أحمد قال : ( وجاء أبو بكر بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يوم فتح مكة يحمله حتى إذا وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر : لو أقررت الشيخ في
بيته لأتيناه تكرمة لأبي بكر فأسلم ولحيته ورأسه كالثغامة بياضا فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم : غيروهما وجنبوه السواد )
-
قصة أبي قحافة قد تقدم الكلام عليها وفي هذه الرواية زيادة الأمر بتغيير بياض
اللحية وحديث أنس وإنكاره لخضاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعارضه ما سيأتي من
حديث ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران
) وما سبق من حديثه أنه كان يصبغ بالصفرة وما في الصحيحين وإن كان أرجح مما كان
خارجا عنهما ولكن عدم علم أنس بوقوع الخضاب منه صلى الله عليه وآله وسلم لا يستلزم
العدم ورواية من أثبت أولى من روايته لأن غاية ما في روايته أنه لم يعلم وقد علم
غيره . وأيضا قد ثبت في صحيح البخاري ما يدل على اختضابه كما سيأتي على أنه لو فرض
عدم ثبوت اختضابه لما كان قادحا في سنية الخضاب لورود الإرشاد إليها قولا في
الأحاديث الصحيحة
قال ابن القيم : واختلف الصحابة في خضابه صلى الله عليه وآله وسلم فقال أنس : لم
يخضب وقال أبو هريرة : خضب . وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال : ( رأيت
شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخضوبا ) قال حماد : وأخبرني عبد الله بن
محمد بن عقيل قال : ( رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند أنس بن مالك
مخضوبا )
وقالت طائفة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يكثر الطيب قد احمر شعره
فكان يظن مخضوبا ولم يخضب انتهى
وقد أثبت اختضابه [ ص 147 ] صلى الله عليه وآله وسلم مع ابن عمر أبو رمثة كما سيأتي
قوله ( الكتم ) في القاموس والكتم محركة والكتمان بالضم نبت يخلط بالحناء ويخضب به
الشعر انتهى . وهو النبت المعروف بالوسمة يعني ورق النيل وفي كتب الطب أنه نبت من
نبت الجبال ورقه كورق الآس يخضب به مدقوقا
3 -
وعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : ( دخلنا على أم سلمة فأخرجت إلينا من شعر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو مخضوب بالحناء والكتم )
- رواه أحمد وابن ماجه والبخاري ولم يذكر بالحناء وبالكتم
4 -
وعن نافع عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس النعال
السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران وكان ابن عمر يفعل ذلك )
- رواه أبو داود والنسائي
- الحديث الأول يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خضب وقد تقدم الكلام عليه وقد أجيب بأن الحديث ليس فيه بيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي خضب بل يحتمل أن يكون أحمر بعده لما خالطه من طيب فيه صفرة وأيضا كثير من الشعور التي تنفصل عن الجسد إذا طال العهد يؤول سوادها إلى الحمرة كذا قال الحافظ . وأيضا هذا الحديث معارض لحديث أنس المتقدم وقد سبق البحث عن ذلك وقال الطبري في الجمع بين الحديثين من جزم بأنه خضب فقد حكى ما شاهد وكان ذلك في بعض الأحيان ومن نفى ذلك فهو محمول على الأكثر الأغلب من حاله صلى الله عليه وآله وسلم
-
والحديث الثاني في إسناده عبد العزيز ابن أبي رواد وفيه مقال معروف وهو في صحيح
البخاري بأطول من هذا ذكره في أبواب الوضوء ولكنه لم يقل يصفر لحيته بل قال : وأما
الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ
بها الحديث . وأخرجه أيضا مسلم
قوله ( السبتية ) بكسر السين جلود البقر وكل جلد مدبوغ أو بالقرظ ذكره في القاموس
وإنما قيل لها سبتية أخذا من السبت وهو الحلق لأن شعرها قد حلق عنها وأزيل
قوله ( ويصفر لحيته ) قال الماوردي : لم ينقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه صبغ
شعره ولعله لم يقف على هذا الحديث وهو مبين للصبغ المطلق في الصحيحين وكذا قال ابن
عبد البر لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بالصفرة إلا ثيابه ورده
ابن قدامة في المغني
قوله ( بالورس والزعفران ) الورس بفتح الواو نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به
والزعفران معروف [ ص 148 ] وظاهر العطف أنه كان يصبغ لحيته بالزعفران ويحتمل أن
يكون التقدير أنه كان يصفر لحيته بالورس وثيابه بالزعفران . وقد روى أبو داود من
طرق صحاح ما يدل على أن ابن عمر كان يصبغ لحيته وثيابه بالصفرة ولفظه : ( أن ابن
عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تملأ ثيابه فقيل له في ذلك فقال : إني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها ولم يكن شيء أحب إليه منها كان يصبغ ثيابه
بها حتى عمامته )
والحديث يدل على أن تغيير الشيب سنة وقد تقدم الكلام عليه
5 -
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن أحسن
ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي
6 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن
اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم )
- رواه الجماعة
-
الحديث الأول يدل على أن الحناء والكتم من أحسن الصباغات التي يغير بها الشيب وأن
الصبغ غير مقصور عليهما لدلالة صيغة التفضيل على مشاركة غيرهما من الصباغات لهما
في أصل الحسن وهو يحتمل أن يكون على التعاقب ويحتمل الجمع
وقد أخرج مسلم من حديث أنس قال : اختضب أبو بكر بالحناء والكتم واختضب عمر بالحناء
بحتا أي منفردا وهذا يشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائما والكتم نبات باليمن
يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معا يخرج بين
السواد والحمرة واستنبط ابن أبي عاصم من قوله ( جنبوه السواد ) في حديث جابر أن
الخضاب بالسواد كان من عادتهم
-
والحديث الثاني يدل على أن العلة في شرعية الصباغ وتغيير الشيب هي مخالفة اليهود
والنصارى وبهذا يتأكد استحباب الخضاب وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها وهذه السنة قد كثر اشتغال السلف بها ولهذا
ترى المؤرخين في التراجم لهم يقولون وكان يخضب وكان لا يخضب
قال ابن الجوزي : قد اختضب جماعة من الصحابة والتابعين وقال أحمد بن حنبل وقد رأى
رجلا قد خضب لحيته : إني لأرى رجلا يحيي ميتا من السنة وفرح به حين رآه صبغ بها
قال النووي مذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة ويحرم خضابه
بالسواد على الأصح قال : وللخضاب فائدتان إحداهما تنظيف الشعر مما تعلق به
والثانية مخالفة أهل الكتاب
قال في الفتح : وقد رخص فيه أي في الخضب بالسواد طائفة من [ ص 149 ] السلف منهم
سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد واختاره ابن أبي
عاصم في كتاب الخضاب وأجاب عن حديث ابن عباس رفعه ( يكون قوم يخضبون بالسواد لا
يجدون ريح الجنة ) بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الإخبار عن
قوم هذه صفتهم وعن حديث جابر ( جنبوه السواد ) بأنه ليس في حق كل أحد
وقد أخرج الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي الدرداء رفعه ( من خضب بالسواد سود
الله وجهه يوم القيامة ) قال الحافظ : وسنده لين ويمكن تعقب الجواب الأول بأن يقال
ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وقد وصف القوم المذكورين بأنهم يخضبون بالسواد
ويمكن تعقب الجواب الثاني بأنه مبني على أن حكمه على الواحد ليس حكما على الجماعة
وفيه خلاف معروف في الأصول
7 -
وعن ابن عباس قال : ( مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل قد خضب بالحناء
فقال : ما أحسن هذا فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال : هذا أحسن من هذا فمر آخر
وقد خضب بالصفرة فقال : هذا أحسن من هذا كله )
- رواه أبو داود وابن ماجه
- في
إسناده حميد بن وهب القرشي الكوفي وهو منكر الحديث ومحمد بن طلحة الكوفي وكان ممن
يخطئ حتى خرج عن حد التعديل ولم يغلب خطؤه صوابه حتى يستحق الترك وهو ممن يحتج به
إلا بما انفرد كذا قاله المنذري
والحديث يدل على حسن الخضب بالحناء على انفراده فإن انضم إليه الكتم كان أحسن ويدل
على أن الخضب بالصفرة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحسن في عينه من
الحناء على انفراده ومع الكتم . وقد سبق حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم خضب بالصفرة وتقدم الكلام فيه
8 -
وعن أبي رمثة قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخضب بالحناء والكتم وكان
شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه )
- رواه أحمد وفي لفظ لأحمد والنسائي وأبي داود : ( أتيت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم مع أبي وله لمة بها ردع من حناء ) ردع بالعين المهملة أي لطخ يقال به ردع من
دم أو زعفران
-
وفي لفظ من حديث أبي رمثة : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ابن لي
فقال : ابنك قلت : نعم أشهد به فقال : لا تجني عليه ولا يجني عليك قال : ورأيت
الشيب [ ص 150 ] أحمر )
قال الترمذي : هذا أحسن شيء روي في هذا الباب وأفسره لأن الروايات الصحيحة أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبلغ الشيب
قال حماد بن سلمة عن سماك بن حرب قيل لجابر بن سمرة : أكان في رأس رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم شيب قال : لم يكن في رأسه شيب إلا شعرات في مفرق رأسه إذا
ادهن واراهن الدهن قال أنس : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر دهن
رأسه ولحيته
قوله ( لمة ) بكسر اللام وتشديد الميم هي الشعر المجاوز شحمة الأذن كذا في القاموس
. وفي رواية لأبي داود من هذا الحديث وكان يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد
لطخ لحيته بالحناء
قوله ( ردع ) وهو بالراء المهملة المفتوحة والدال المهملة الساكنة
باب جواز اتخاذ الشعر وإكرامه واستحباب تقصيره
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوق
الوفرة ودون الجمة )
- رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي
-
ولفظ ابن ماجه ( فوق الجمة ) قال الترمذي : هو حديث صحيح غريب من هذا الوجه . وقد
روي من غير وجه عن عائشة أنها قالت : ( كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم من إناء واحد ) ولم يذكروا فيه هذا الحرف وكان له شعر فوق الجمة وإنما
ذكره عبد الرحمن ابن أبي الزناد وهو ثقة حافظ انتهى . وعبد الرحمن مدني سكن بغداد
وحدث بها إلى حين وفاته وثقه الإمام مالك بن أنس واستشهد به البخاري وتكلم فيه غير
واحد
قوله ( فوق الوفرة ) بفتح الواو قال في القاموس : الوفرة الشعر المجتمع على الرأس
أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن ثم الجمة ثم اللمة والجمع وفار
وقال في الجمة إنها مجتمع الرأس وهي بضم الجيم وتشديد الميم . قال ابن رسلان في
شرح السنن : إنها قريب المنكبين
قال المصنف رحمه الله : الوفرة الشعر إلى شحمة الأذنين فإذا جاوزها فهو اللمة فإذا
بلغ المنكبين فهو الجمة انتهى
والحديث يدل على استحباب ترك الشعر على الرأس إلى أن يبلغ ذلك المقدار
2 -
وعن أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضرب شعره منكبيه ) .
وفي لفظ ( كان شعره رجلا ليس بالجعد والسبط بين أذنيه وعاتقه )
- أخرجاه ولأحمد ومسلم ( كان شعره إلى أنصاف أذنيه )
-
قوله ( كان شعره رجلا ) براء مهملة مفتوحة وجيم مكسورة هو الشعر بين السبوطة [ ص
151 ] والجعودة . والسبط : بسين مهملة مفتوحة وباء موحدة ساكنة تحرك وتكسر قال في القاموس
: وهو نقيض الجعودة . وفي المشارق وهو المسترسل كشعر العجم . والجعد في القاموس
خلاف السبط . وفي المشارق هو المتكسر فإذا كان شديد التكسر فهو القطط مثل شعر
السودان
والحديث يدل على استحباب ترك الشعر وإرساله بين المنكبين أو بين الأذنين والعاتق
وقد أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث البراء قال : ( ما
رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) قال أبو
داود : زاد محمد بن سليمان له شعر يضرب منكبيه قال : وكذا رواه إسرائيل عن أبي
إسحاق عن البراء يضرب منكبيه وقال شعبة : تبلغ شحمة أذنيه قال أبو داود : وهم شعبة
فيه . وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي من حديث أنس قال : ( كان شعر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إلى أنصاف أذنيه )
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء قال : ( كان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه )
قال القاضي : الجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو
الذي بين أذنه وعاتقه وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه . وقيل كان ذلك لاختلاف
الأوقات فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب وإذا قصرها كانت إلى أنصاف أذنيه . وكان
يقصر ويطول بحسب ذلك
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كان له
شعر فليكرمه )
- رواه أبو داود
-
الحديث قال في الفتح : وإسناده حسن وله شاهد من حديث عائشة في الغيلانيات وإسناده
حسن أيضا وسكت عنه أبو داود والمنذري وقد صرح أبو داود أيضا أنه لا يسكت إلا عما
هو صالح للاحتجاج ورجال إسناده أئمة ثقات . وفيه دلالة على استحباب إكرام الشعر
بالدهن والتسريح وإعفائه عن الحلق لأنه يخالف الإكرام إلا أن يطول كما ثبت عند أبي
داود والنسائي وابن ماجه من حديث وائل بن حجر قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ولي شعر طويل فلما رآني قال : ذباب ذباب قال : فرجعت فجززته ثم أتيته من
الغد فقال : إني لم أعنك ) ( 1 ) وهذا أحسن . وفي إسناده عاصم بن كليب [ ص 152 ]
الحرمي وقد احتج به مسلم في صحيحه وقال الإمام أحمد : لا بأس بحديثه وقال أبو حاتم
الرازي : صالح وقال علي بن المديني : لا يحتج به إذا انفرد
وأخرج مالك عن عطاء بن يسار وقال : ( أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثائر
الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأنه يأمره بإصلاح
شعره ولحيته ففعل ثم رجع فقال صلى الله عليه وآله وسلم أليس هذا خير من أن يأتي
أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان ) والثائر الشعث بعيد العهد بالدهن والترجيل
_________
( 1 ) قوله ذباب . قال صاحب النهاية : الذباب الشؤم أي هذا شؤم . وقيل الذباب الشر
الدائم . وقوله لم أعنك أي لم أردك بالكلام وإنما أردت غيرك والله أعلم
4 -
وعن عبد الله بن المغفل قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الترجل
إلا غبا )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي
-
الحديث صححه ابن حبان قال المنذري : ولكن أخرجه النسائي مرسلا وأخرجه عن الحسن
البصري وعن محمد بن سيرين من قولهما . وقال أبو الوليد الباجي : هذا وإن كان رواته
ثقات إلا أنه يثبت وأحاديث الحسن عن عبد الله بن مغفل فيها نظر وفيما قاله نظر فقد
قال الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي : إن الحسن سمع من عبد الله بن
مغفل غير أن الحديث في إسناده اضطراب
قوله ( عن الترجل ) الترجل والترجيل تسريح الشعر وقيل الأول المشط والثاني التسريح
وقوله ( إلا غبا ) أي في كل أسبوع مرة كذا روي عن الحسن وفسره الإمام أحمد بأن
يسرحه يوما ويدعه يوما وتبعه غيره وقيل المراد به وقت دون وقت وأصل الغب في إيراد
الإبل أن ترد الماء يوما وتدعه يوما وفي القاموس الغب في الزيارة أن تكون كل أسبوع
ومن الحمى ما تأخذ يوما وتدع يوما
والحديث يدل على كراهة الاشتغال بالترجيل في كل يوم لأنه نوع من الترفه وقد ثبت من
حديث فضالة بن عبيد عند أبي داود قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كان ينهانا عن كثير من الأرفاه وفي ترك الترجيل الأيام نوع من البذاذة ) وقد ثبت
عند أبي داود وابن ماجه من حديث أبي أمامة قال : ( ذكر أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يوما عنده الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا
تسمعون ألا تسمعون إن البذاذة من الإيمان إن البذاذة من الإيمان ) قال أبو داود في
سننه : إن البذاذة التقحل . وفي النهاية قحل إذا التزق جلده بعظمه من الهزال
والبلا انتهى . والإرفاه الاستكثار من الزينة وأن لا يزال يهيئ نفسه وأصله من
الرفه وهو أن ترد الإبل الماء كل يوم فإذا وردت يوما ولم ترد يوما فذلك الغب قاله
الخطابي في المعالم
[ ص 153 ] وحديث أبي أمامة في إسناده محمد بن إسحاق ولم يصرح بالتحديث بل عنعن
وفيه مقال مشهور : وقال أبو عمر النمري : إنه اختلف في إسناد هذا الحديث اختلافا
سقط معه الاحتجاج ولا يصح من جهة الإسناد
5 -
وعن أبي قتادة : ( أنه كانت له جمة ضخمة فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمره
أن يحسن إليها وأن يترجل كل يوم )
- رواه النسائي
-
الحديث رجال إسناده كلهم رجال الصحيح وأخرجه أيضا مالك في الموطأ ولفظ الحديث عن
أبي قتادة قال : ( قلت يا رسول الله إن لي جمة أفأرجلها قال : نعم وأكرمها ) فكان
أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم
وأكرمها
وعلى هذا فلا يعارض الحديث المتقدم في النهي عن الترجل إلا غبا لأن الواقع من
النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد الإذن بالترجيل والإكرام وفعل أبي قتادة
ليس بحجة
والواجب حمل مطلق الأمر بالترجيل والإكرام على المقيد لكن الإذن بالترجيل كل يوم
كما في حديث أبي قتادة الذي ذكره المصنف يخالف ما في حديث عبد الله بن المغفل من
النهي عن الترجيل إلا غبا فإن لم يمكن الجمع وجب الترجيح :
وقد تقدم ذكر حديث إكرام الشعر وتقدم أيضا تفسير الجمة والترجيل
باب ما جاء في كراهية القزع والرخصة في حلق الرأس
1 -
عن نافع عن ابن عمر قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القزع فقيل
لنافع : ما القزع قال : أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعض )
- متفق عليه
-
وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجه وذكر أبو داود في سننه بعد ذكره تفسير
القزع بمثل ما في المتن تفسيرا آخر فقال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( نهى
عن القزع وهو أن يحلق الصبي ويترك له ذؤابة ) وهذا لا يتم لأنه قد أخرج أبو داود
نفسه من حديث أنس بن مالك ( قال : كانت لي ذؤابة فقالت لي أمي : لا أجزها كان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يمدها ويأخذ بها ) وفسر القزع في القاموس بحلق رأس
الصبي وترك مواضع منه متفرقة غير محلوقة تشبيها بقزع السحاب بعد أن ذكر أن القزع
قطع من السحاب الواحدة بهاء
وقال في شرح مسلم بعد أن ذكر تفسير ابن عمر : وهذا الذي فسره به نافع وعبيد الله [
ص 154 ] هو الأصح قال : والقزع حلق بعض الرأس مطلقا . ومنهم من قال هو حلق مواضع
متفرقة منه والصحيح الأول لأنه تفسير الراوي وهو غير مخالف للظاهر فوجب العمل به
وفي البخاري في تفسير القزع قال : فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه
وقال : إذا حلق رأس الصبي ترك ههنا شعر وههنا شعر قال عبيد الله : أما القصة
والقفا للغلام فلا بأس ( 1 ) بهما وكل خصلة من الشعر قصة سواء كانت متصلة بالرأس
أو منفصلة والمراد بها هنا شعر الناصية يعني أن حلق القصة وشعر القفا خاصة لا بأس
به
وقال النووي : المذهب كراهيته مطلقا كما سيأتي وأخرج أبو داود من حديث أنس قال (
كان لي ذؤابة فقالت أمي : لا أجزها فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
يمدها ويأخذ بها ) وأخرج النسائي بسند صحيح عن زياد بن حصين عن أبيه : ( أنه أتى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده على ذؤابته وسمت ( 2 ) عليه ودعا له ) ومن
حديث ابن مسعود وأصله في الصحيحين قال : ( قرأت من في رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لمع الغلمان له ذؤابتان ) ويمكن الجمع بأن
الذؤابة الجائز اتخاذها ما يفرد من الشعر فيرسل ويجمع ما عداها بالضفر وغيره والتي
تمنع أن يحلق الرأس كله ويترك ما في وسطه فيتخذ ذؤابة وقد صرح الخطابي بأن هذا مما
يدخل في معنى القزع انتهى من الفتح
والحديث يدل على المنع من القزع قال النووي : وأجمع العلماء على كراهة القزع كراهة
تنزيه وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقا وقال بعض أصحابه لا بأس به للغلام
ومذهبنا كراهته مطلقا للرجل والمرأة لعموم الحديث قال العلماء : والحكمة في كراهته
أنه يشوه الخلق وقيل لأنه زي أهل الشرك وقيل لأنه زي اليهود وقد جاء هذا مصرحا به
في رواية لأبي داود انتهى . ولفظه في سنن أبي داود أن الحجاج بن حسان قال ( دخلنا
على أنس بن مالك فحدثتني أختي المغيرة قالت وأنت يومئذ غلام ولك قرنان أو قصتان
فمسح رأسك وبرك عليك وقال : احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود )
_________
( 1 ) ونقل المروزي عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه سئل عن حلق القفا فقال : هو
من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم . والقصة بضم القاف وفتح الصاد المشددة هي
كما فسرها والله أعلم
( 2 ) هو بفتح السين المهملة وتشديد الميم دعاء له بالبركة والخير فعطف ما بعده
عليه تفسير له
2 -
وعن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى صبيا قد حلق بعض رأسه وترك
بعضه فنهاهم عن ذلك وقال : احلقوا كله أو ذروا كله )
- رواه أحمد وأبو داود [ ص 155 ] والنسائي بإسناد صحيح
-
قال المنذري : وأخرجه مسلم بالإسناد الذي خرجه أبو داود ولم يذكر لفظه وذكر أبو
مسعود الدمشقي في تعليقه أن مسلما أخرجه بهذا اللفظ
والحديث يدل على المنع من حلق بعض الرأس وترك بعضه وقد سبق الكلام عليه في الذي
قبله وهو مؤيد لتفسير القزع بما فسره به ابن عمر في الحديث السابق
وفيه دليل على جواز حلق الرأس جميعه قال الغزالي : لا بأس به لمن أراد التنظيف
وفيه رد على من كرهه لما رواه الدارقطني في الأفراد عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أنه قال : ( لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة ) ولقول عمر لصبي : لو وجدتك
محلوقا لضربت الذي في عيناك بالسيف ولحديث الخوارج أن سيماهم التحليق
قال أحمد : إنما كرهوا الحلق بالموسى أما بالمقراض فليس به بأس لأن أدلة الكراهة
تختص بالحلق
3 -
وعن عبد الله بن جعفر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمهل آل جعفر
ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي بني أخي قال
: فجيء بنا كأننا أفرخ فقال : ادعوا لي الحلاق قال : فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي
-
الحديث إسناده حسن وقد سكت عنه أبو داود والمنذري لذلك ورجال إسناده عند أبي داود
ثقات وأما عند النسائي فشيخه فيه مقال والبقية ثقات
قوله ( كأننا أفرخ ) جمع فرخ وهو صغير ولد الطير . ووجه التشبيه أن شعرهم يشبه زغب
الطير وهو أول ما يطلع من ريشه
والحديث يدل على أن الكبير من أقارب الأطفال يتولى أمرهم وينظر في مصالحهم وهو يدل
على الترخيص في حلق جميع الرأس ولكن في حق الرجال وأما النساء فقد أخرج النسائي من
حديث علي رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تحلق
المرأة رأسها ) ويدل على الترخيص للرجال أيضا الحديث الذي قبل هذا لأنه أمر بحلقه
كله أو تركه كله
باب الاكتحال والإدهان والتطيب
1 -
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من اكتحل فليوتر من فعل
فقد أحسن ومن لا فلا حرج )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
-
هذا طرف من حديث طويل ولفظه : ( من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج
ومن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أكل [ ص 156 ] فما تخلل
فليلفظ وما لاك بلسانه فليبتلع من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أتى الغائط
فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد
بني آدم من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ) وفي إسناده أبو سعيد الحبراني الحمصي
الراوي عن أبي هريرة . قال أبو زرعة الرازي : لا أعرفه . وقيل إنه صحابي قال
الحافظ : ولا يصح والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول : وقال أبو زرعة : شيخ .
وذكره ابن حبان في الثقات وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل وقد أخرج الحديث
ابن حبان والحاكم والبيهقي وهو يدل على مشروعية الإيتار في الكحل وظاهره عدم
الاقتصار على الثلاثة إلا أن يقيد الإيتار بما سيأتي من فعله صلى الله عليه وآله
وسلم
قال ابن رسلان : وفي كيفية الوتر في الاكتحال وجهان : أحدهما أن يضع في كل عين
ثلاث مرات وهذا هو الأصح لحديث ابن عباس الآتي والثاني يضع في اليمنى ثلاث مرات
وفي اليسرى مرتين فيكون المجموع وترا أو في عين ثلاث مرات وفي عين أربع مرات
2 -
وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت له مكحلة يكتحل منها كل
ليلة ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه )
- رواه ابن ماجه والترمذي وأحمد ولفظه : ( كان يكتحل بالإثمد كل ليلة قبل أن ينام
وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال )
-
الحديث حسنه الترمذي وقال : إنه روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنه قال : ( عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ) ثم ذكر أنه كانت للنبي
صلى الله عليه وآله وسلم مكحلة الخ وساق الحديث عن علي بن حجر ومحمد بن يحيى عن
يزيد بن هارون عن عثمان بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال : وفي الباب عن جابر
وابن عمر
والحديث يدل على استحباب أن يكون الاكتحال في كل عين ثلاثة أميال وأن يكون بالإثمد
وهو بالكسر حجر للكحل معروف وأن يكون في كل ليلة وأن يكون عند النوم . وقد أخرج
أبو داود من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (
البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم وإن خير أكحالكم
الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر ) وأخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرا وليس فيه ذكر
الكحل وفي رواية الطبراني ( فإنه منبتة للشعر مذهبة للقذى مصفاة للبصر )
3 -
[ ص 157 ] وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( حبب إلي من
الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة )
- رواه النسائي
-
وأخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة والحاكم من حديثه وفي إسناده في سنن النسائي سيار
بن حاتم وسلام بن مسكين ومن طريق سيار رواه أحمد في الزهد والحاكم في المستدرك .
ومن طريق سلام أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن سعد والبزار وأبو يعلى وابن عدي في
الكامل وأعله به والعقيلي في الضعفاء كذلك . وقال الدارقطني في علله : رواه أبو
المنذر سلام بن أبي الصهباء وجعفر بن سليمان
ورواه عن ثابت عن أنس وخالد بن حماد بن زيد عن ثابت مرسلا وكذا رواه محمد بن عثمان
بن ثابت البصري والمرسل أشبه بالصواب . وقد رواه عبد الله بن أحمد في زيادات الزهد
عن أبيه من طريق يوسف بن عطية عن ثابت موصولا أيضا ويوسف ضعيف وله طريق أخرى
معلولة عند الطبراني في الأوسط عن محمد بن عبد الله الحضري عن يحيى بن عثمان
الحربي عن الهبل بن زياد عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس
مثله
قال الحافظ في التلخيص : إن إسناده حسن وقال في تخريج الكشاف والتلخيص : ليس في
شيء من طرقه لفظ ثلاث بل أوله عند الجميع ( حبب إلي من دنياكم النساء ) الحديث
وزيادة ثلاث تفسد المعنى على أن الإمام أبا بكر ابن فورك شرحه في جزء مفرد
بإثباتها وكذلك أورده الغزالي في الإحياء واشتهر على الألسنة انتهى . وإنما قال :
إن زيادة لفظ ثلاث تفسد المعنى لأن الصلات ليس من حب الدنيا
وقد وجه ذلك السعد في حاشية الكشاف فقال : وقرة عيني مبتدأ قصد به الإعراض من حب
الدنيا وما يجب فيها وليس عطفا على الطيب كما سبق إلى الفهم لأنها ليست من حب
الدنيا
ووجه ذلك بعضهم بأن من بمعنى في قال : وقد جاءت كذلك في قوله تعالى { ماذا خلقوا
من الأرض } أي في الأرض ورده صاحب الثمرات بأنه قد حبب إليه أكثر من ذلك نحو الصوم
والجهاد ونحو ذلك من الطاعات انتهى
ومثل ما قال الحافظ قال شيخ الإسلام زيد الدين العراقي في أماليه وصرح بأن لفظ
ثلاث ليس في شيء من كتب الحديث وأنها مفسدة للمعنى وكذلك قال الزركشي وغيره وقال
الدماميني : لا أعلمها ثابتة من طريق صحيحة
والحديث يدل على أن الطيب والنساء محببان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وقد ورد ما يدل على أن الطيب محبب إلى الله تعالى فأخرج الترمذي عن ابن المسيب أنه
كان يقول : ( إن الله تعالى طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم [ ص
158 ] جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود ) قال يعني الراوي عن ابن
المسيب فذكرت ذلك لهاجر بن مسمار فقال : حدثنيه عامر بن سعد عن أبيه عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم مثله . قال الترمذي : هذا حديث غريب وخالد بن إلياس يضعف
ويقال ابن إياس
4 -
وعن نافع قال : ( كان ابن عمر يستجمر بالألوة غير مطراة وبكافور يطرحه مع الألوة
ويقول هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه النسائي ومسلم : الألوة العود الذي يتبخر به
-
قوله يستجمر الاستجمار هنا التبخر وهو استفعال من المجمرة وهي التي توضع فيها
النار
قوله ( الألوة ) بفتح الهمزة وضمها وضم اللام وتشديد الواو وفتحها العود الذي
يتبخر به كما قال المصنف وحكى الأزهري كسر اللام
قوله ( غير مطراة ) أي غير مخلوطة بغيرها من الطيب ذكره في شرح مسلم
والحديث يدل على استحباب التبخر بالعود وهو نوع من أنواع الطيب المندوب إليه على
العموم
5 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من
عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود
- لم
يخرجه مسلم بهذا اللفظ بل بلفظ : ( من عرض عليه ريحان فلا يرده ) وهكذا أخرجه
الترمذي بلفظ : ( إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة ) وقال : هذا
حديث حسن غريب وأخرجه من طريق حنان قال : ولا يعرف لحنان غير هذا الحديث انتهى
وهو أيضا مرسل لأنه رواه حنان عن أبي عثمان النهدي وأبو عثمان وإن أدرك زمن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يره ولم يسمع منه
وحديث الباب صححه ابن حبان وقد أخرج الترمذي عن ثمامة بن عبد الله قال : كان أنس
لا يرد الطيب . وقال أنس : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يرد الطيب قال
: وهذا حديث حسن صحيح
وفي الباب عن أنس أيضا من وجه آخر عند البزار بلفظ : ( ما عرض على النبي صلى الله
عليه وآله وسلم طيب قط فرده ) . قال الحافظ في الفتح : وسنده حسن وعن ابن عباس عند
الطبراني بلفظ : ( من عرض عليه طيب فليصب منه ) وقد بوب البخاري لهذا فقال : باب
من لم يرد الطيب وأورد فيه بلفظ : كان لا يرد الطيب
والحديث يدل على أن رد الطيب خلاف السنة ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ثم [ ص 159 ] أعقب النهي بعلة تفيد انتفاء موجبات الرد لأنه باعتبار ذاته خفيف لا
يثقل حامله وباعتبار عرضه طيب لا يتأذى به من يعرض عليه فلم يبق حامل على الرد فإن
كل ما كان بهذه الصفة محبب إلى كل قلب مطلوب لكل نفس
قوله ( المحمل ) قال القرطبي : هو بفتح الميمين ويعني به الحمل
6 -
وعن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في المسك هو أطيب طيبكم )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه
7 -
وعن محمد بن علي قال : ( سألت عائشة رضي الله عنها : أكان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يتطيب قالت : نعم بذكارة الطيب المسك والعنبر )
- رواه النسائي والبخاري في تاريخه
-
وأخرجه الترمذي أيضا من حديث عائشة بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يتطيب بذكار الطيب المسك والعنبر ويقول أطيب الطيب المسك ) وحديث الباب في
إسناده أبو عبيدة بن أبي السفر وفيه مقال واسمه أحمد بن عبد الله
وقولها ( بذكارة الطيب ) الذكارة بالكسر للمعجمة ما يصلح للرجال قاله في النهاية .
والمراد الطيب الذي لا لون له لأن طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه
وقولها ( المسك والعنبر ) بدل من ذكارة الطيب
والحديث الأول يدل على أن المسك خير الطيب وأحسنه وهو كذلك . وفي التصريح بأنه
أطيب الطيب ترغيب في التطيب به وإيثاره على سائر أنواع الطيب
8 -
وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن طيب الرجال ما ظهر
ريحه وخفي لونه وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه )
- رواه النسائي والترمذي وقال : حديث حسن
-
وقال الترمذي بعد أن ذكر للحديث طريقا أخرى عن الجريري عن أبي نضرة عن الطفاوي عن
أبي هريرة : إلا أن الطفاوي لا نعرفه إلا في هذا الحديث ولا يعرف اسمه
وأخرجه أيضا من طريق ثالثة عن عمران بن حصين بلفظ : ( إن خير طيب الرجال ما ظهر
ريحه وخفي لونه وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه ) وقال : هذا حديث حسن غريب
وفي رجال إسناده عند النسائي مجهول ثم بينه في إسناد آخر بأنه الطفاوي وهو أيضا
مجهول كما سبق
والحديث يدل على أنه ينبغي للرجال أن يتطيبوا بما له ريح ولا يظهر له لون كالمسك
والعنبر والعطر والعود وأنه يكره لهم التطيب [ ص 160 ] بما له لون كالزباد والعبير
( 1 ) ونحوه وأن النساء بالعكس من ذلك
وقد ورد تسمية المرأة التي تمر بالمجالس ولها طيب له ريح زانية كما أخرج الترمذي
وصححه وأبو داود والنسائي من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
: ( كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية ) قال
الترمذي : وفي الباب عن أبي هريرة
_________
( 1 ) العبير نوع من الطيب ذو لون يجمع من أخلاط
باب الإطلاء بالنورة
1 -
عن أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أطلى بدأ بعورته فطلاها
بالنورة وسائر جسده أهله ( 1 ) )
- رواه ابن ماجه
-
الحديث قال الحافظ ابن كثير في كتابه الذي ألفه في الحمام بعد أن ذكر حديث الباب :
هذا إسناده جيد وقد أخرجه ابن ماجه أيضا من طريق أخرى عن أم سلمة
وقد رواه عبد الرزاق عن حبيب ابن أبي ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
مرسلا بإسناد جيد قاله الأسيوطي . وقد أخرجه الخرائطي في مساوي الأخلاق من طريقين
عن أم سلمة وثوبان وأخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق ثوبان بلفظ : ( إن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل الحمام وكان يتنور ) وأخرجه ابن عساكر
في تاريخه من طريقه أيضا
وأخرج أيضا من طريق واثلة بن الأسقع أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( أطلى يوم فتح
خيبر ) . وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم قال : ( كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إذا أطلى ولى عانته بيده ) وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن
إبراهيم بنحوه قال ابن كثير : وهو مرسل فيقوي الموصول الذي أخرجه ابن ماجه
وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول أنه قال : ( لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم خيبر أكل متكئا وتنور ) وهو مرسل أيضا
وذكر أبو داود في المراسيل عن أبي معشر زياد بن كليب ( أن رجلا نور رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ) وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى وفي تاريخ ابن عساكر بإسناد
ضعيف عن ابن عمر ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان [ ص 161 ] يتنور كل شهر )
وأخرج أحمد عن عائشة قالت : ( أطلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنورة
فلما فرغ منها قال : يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طلية وطهور وإن الله
يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم )
وقد روي الإطلاء بالنورة عن جماعة من الصحابة . فرواه الطبراني عن يعلى بن مرة
الثقفي والطبراني أيضا بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عمر . والبيهقي عن ثوبان .
والخرائطي عن أبي الدرداء وجماعة من الصحابة . وعبد الرزاق عن عائشة . وابن عساكر
عن خالد بن الوليد وجاءت أحاديث قاضية بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتنور منها
عند ابن أبي شيبة عن الحسن قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو
بكر وعمر لا يطلون )
قال ابن كثير : هذا من مراسيل الحسن وقد تكلم فيها : وأخرج البيهقي في سننه عن
قتادة أن رسول الله بنحوه وزاد ولا عثمان وهو منقطع . وأخرج البيهقي عن أنس أنه
قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتنور . وفي إسناده مسلم الملائي
قال البيهقي : وهو ضعيف الحديث
قال السيوطي : والأحاديث السابقة أقوى سندا وأكثر عددا وهي أيضا مثبتة فتقدم
ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنور تارة ويحلق أخرى . وأما ما
روي عن ابن عباس أنه ما أطلى نبي قط فقال صاحب النهاية وصاحب الملخص وعبد الغافر
الفارسي أن المراد به ما مال إلى هواه
_________
( 1 ) قال السندي وسائر جسده بالنصب وأهله بالرفع وطلى سائر جسده أهله فهو من عطف
معمولي عامل واحد اه والله أعلم
أبواب صفة الوضوء فرضه وسننه
-
قال جمهور أهل اللغة : يقال الوضوء بضم أوله إذا أريد به الفعل الذي هو المصدر
ويقال الوضوء بفتح أوله إذا أريد به الماء الذي يتطهر به هكذا نقله ابن الأنباري
وجماعات من أهل اللغة وغيرهم
وذهب الخليل والأصمعي وأبو حاتم السجستاني والأزهري وجماعة إلا أنه بالفتح فيهما .
قال صاحب المطالع : وحكي بالضم فيهما جميعا وأصل الوضوء من الوضاءة وهي الحسن
والنظافة وسمي وضوء الصلاة وضوءا لأنه ينظف المتوضئ ويحسنه
باب الدليل على وجوب النية له
1 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول : إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله [ ص 162 ]
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها
فهجرته إلى ما هاجر إليه )
- رواه الجماعة
-
الحديث مداره على يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن
وقاص عن عمر بن الخطاب ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرجه سوى مالك فإنه
لم يخرجه في الموطأ ووهم ابن دحية فقال : إنه فيه ولعل الوهم اتفق له لما رأى
الشيخين والنسائي رووه من حديث مالك
وما وقع في الشهاب بلفظ الأعمال بالنيات بجمع الأعمال وحذف إنما فنقل النووي عن
أبي موسى المديني الأصبهاني أنه لا يصح له إسناد وأقره النووي
قال الحافظ : وهو وهم فقد رواه كذلك الحاكم في الأربعين له من طريق مالك وكذا
أخرجه ابن حبان من وجه آخر في مواضع تسعة من صحيحه منها في الحادي عشر من الثالث
والرابع والعشرين منه والسادس والستين منه ذكره في هذه المواضع بحذف إنما
وكذا رواه البيهقي في المعرفة وفي البخاري الأعمال بالنية بحذف إنما وإفراد النية
قال الحافظ : أبو سعيد محمد بن علي الخشاب رواه عن يحيى بن سعيد نحو مائتين وخمسين
إنسانا
وقال أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الأنصاري كتبت هذا الحديث عن سبعمائة
نفر من أصحاب يحيى بن سعيد
قال الحافظ : تتبعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء فما
استطعت أن أكمل له سبعين طريقا ثم رأيت في المستخرج لابن منده عدة طرق فضممتها إلى
ما عندي فزادت على ثلاثمائة
وقال البزار والخطابي وأبو علي بن السكن ومحمد بن عتاب وابن الجوزي وغيرهم : إنه
لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا عن عمر بن الخطاب . ورواه ابن عساكر
من طريق أنس وقال : غريب جدا
وذكر ابن منده في ومستخرجه أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من
عشرين نفسا قال الحافظ : وقد تتبعها شيخنا أبو الفضل بن الحسين في النكت التي
جمعها على ابن الصلاح وأظهر أنها في مطلق النية لا بهذا اللفظ
وهذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام حتى قيل إنه ثلث العلم . ووجهه أن كسب العبد
بقلبه وجوارحه ولسانه وعمل القلب أرجحها لأنه يكون عبادة بانفراده دون الآخرين
قوله ( إنما الأعمال ) هذا التركيب يفيد الحصر من جهتين الأولى " إنما "
فإنها من صيغ الحصر واختلف هل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم أو بالوضع أو العرف
وبالحقيقة أم بالمجاز [ ص 163 ] ومذهب المحققين أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا
قال الحافظ : ونقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا
اليسير كالآمدي وعلى العكس من ذلك أهل العربية وموضع البحث عن بقية أبحاث إنما
الأصول وعلم المعاني فليرجع إليهما . الجهة الثانية " الأعمال " لأنه
جمع محلى باللام المفيد للاستغراق وهو مستلزم للقصر لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل
إلا بنية هذا التركيب من المقتضى المعروف في الأصول وهو ما احتمل أحد تقديرات
لاستقامة الكلام لا عموم له عند المحققين فلا بد من دليل في تعيين أحدها وقد اختلف
الفقهاء في تقديره ههنا فمن جعل النية شرطا قدر صحة الأعمال ومن لم يشترط قدر كمال
الأعمال
قال ابن دقيق العيد : وقد رجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة فالحمل عليها
أولى لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب إلى خطوره بالبال اه
قال الحافظ : وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد واختلفوا في الوسائل
ومن ثم خالفت الحنفية في اشتراطها للوضوء
وقد نسب القول بفرضية النية المهدي عليه السلام في البحر إلى علي عليه السلام
وسائر العترة والشافعي ومالك والليث وربيعة وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
قوله ( بالنية ) الباء للمصاحبة ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل
فكأنها سبب في إيجاده
قال النووي : والنية القصد وهو عزيمة القلب وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر
زائد على أصل القصد
وقال البيضاوي : النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع
أو دفع ضرر حالا ومآلا والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله
وامتثال حكمه . والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليصح تطبيقه على ما
بعده وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل . والجار والمجرور متعلق بمحذوف
هو ذلك المقدر أعني الكمال أو الصحة أو الحصول أو الاستقرار
قال الطيبي : كلام الشارع محمول على بيان الشرع لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان
فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع فيتعين الحمل على ما يفيد
الحكم الشرعي
قوله ( وإنما لامرئ ما نوى ) فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال قال
القرطبي : فيكون على هذه جملة مؤكدة للتي قبلها وقال غيره : بل تفيد غير ما أفادته
الأولى لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها فيترتب الحكم على ذلك
والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه
قال ابن دقيق العيد : والجملة الثانية أن من نوى شيئا يحصل له وكل ما لم ينوه لم
يحصل فيدخل [ ص 164 ] في ذلك ما لا ينحصر من المسائل قال : ومن ههنا عظموا هذا
الحديث إلى آخر كلامه
ويدل على صحة كلامه أحاديث كثيرة واردة بثبوت الأجر لمن نوى خيرا ولم يعمله كحديث
: ( رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله وينفقه في حقه ورجل آتاه
الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل العمل الذي يعمل
فهما في الأجر سواء )
قال الحافظ : والمراد أنه يحصل إذا عمله بشرائطه أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا
بعدم عمله والمراد بعدم الحصول إذا لم تقع النية لا خصوصا ولا عموما أما إذا لم
ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية تشمله فهذا مما اختلف فيه أنظار العلماء ويتخرج
عليه من المسائل ما لا يحصى
قوله ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ) الهجرة الترك والهجرة إلى الشيء الانتقال
إليه من غيره وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه وقد وقعت في الإسلام على وجوه :
الهجرة إلى الحبشة . والهجرة إلى المدينة . وهجرة القبائل . وهجرة من أسلم من مكة
. وهجرة من كان مقيما بدار الكفر . والهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور
الفتن
وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول : ( سيكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في
الأرض شرار أهلها ) . ورواه أيضا أحمد في المسند
قوله ( فهجرته إلى الله ورسوله ) وقع الاتحاد بين الشرط والجزاء وتغايرهما لا بد
منه وإلا لم يكن كلاما مفيدا . وأجيب بأن التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا فلا اتحاد . وقيل يجوز الاتحاد في
الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لقصد التعظيم أو التحقير كانت أنت أي العظيم أو
الحقير
ومنه قول أبي النجم : وشعري شعري أي العظيم . وقيل الخبر محذوف في الجملة الأولى
منهما أي فهجرته إلى الله ورسوله محمودة أو مثاب عليها وفهجرته إلى ما هاجر إليه
مذمومة أو قبيحة أو غير مقبولة
قوله ( دنيا يصيبها ) بضم الدال وحكى ابن قتيبة كسرها وهي فعلى من الدنو أي القرب
سميت بذلك لسبقها للأخرى وقيل لدنوها إلى الزوال . واختلف في حقيقتها فقيل ما على
الأرض من الهواء والجو وقيل كل المخلوقات من الجواهر والأعراض . وإطلاق الدنيا على
بعضها كما في الحديث مجاز
قوله ( أو امرأة يتزوجها ) إنما خص المرأة بالذكر بعد ذكر ما يعمها وغيرها
للاهتمام بها وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم
دخول المرأة [ ص 165 ] فيها وتعقب بأنها نكرة في سياق الشرط فتعم
ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير لأن الافتتان بها أشد . وحكى ابن بطال عن ابن
سراج أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى عربية
ويراعون الكفاءة في النسب فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم فهاجر
كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها
وتعقبه ابن حجر بأنه يفتقر إلى نقل أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربية .
ومنع أن يكون عادة العرب ذلك ومنع أيضا أن الإسلام أبطل الكفاءة ولو قيل إن تخصيص
المرأة بالذكر لأن السبب في الحديث مهاجر أم قيس فذكرت المرأة بعد ذكر ما يشملها
لما كانت هجرة ذلك المهاجر لأجلها لم يكن بعيدا من الصواب وهذه نكتة سرية
والحديث يدل على اشتراط النية في أعمال الطاعات وأن ما وقع من الأعمال بدونها غير
معتد به وقد سبق ذكر الخلاف في ذلك . وفي الحديث فوائد مبسوطة في المطولات لا يتسع
لها المقام وهو على انفراده حقيق بأن يفرد له مصنف مستقل
باب التسمية للوضوء
1 -
عن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا صلاة لمن لا وضوء له
ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ولأحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد وأبي سعيد
مثله والجميع في أسانيدها مقال قريب . وقال البخاري : أحسن شيء في هذا الباب حديث
رباح بن عبد الرحمن يعني حديث سعيد بن زيد . وسئل إسحاق بن راهويه أي حديث أصح في
التسمية فذكر حديث أبي سعيد
-
الحديث الأول أخرجه أيضا الترمذي في العلل والدارقطني وابن السكن والحاكم والبيهقي
من طريق محمد بن موسى المخزومي عن يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة بهذا اللفظ
ورواه الحاكم من هذا الوجه فقال : يعقوب بن أبي سلمة وادعى أنه الماجشون وصححه
لذلك فوهم والصواب أنه الليثي قاله الحافظ
قال البخاري : لا يعرف له سماع من أبيه ولا لأبيه من أبي هريرة وأبوه ذكره ابن
حبان في الثقات وقال : ربما أخطأ وهذه عبارة عن ضعفه فإنه قليل الحديث جدا ولم يرو
عنه سوى ولده فإذا كان يخطئ مع قلة ما روى فكيف يوصف بكونه ثقة
قال ابن الصلاح : انقلب إسناده على الحاكم [ ص 166 ] فلا يحتج لثبوته بتخريجه له
وتبعه النووي
وله طريق أخرى عند الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة بلفظ : ( ما توضأ من لم يذكر
اسم الله عليه وما صلى من لم يتوضأ ) وفي إسناده محمود بن محمد الظفري وليس بالقوي
وفي إسناده أيضا أيوب بن النجار عن يحيى بن أبي كثير وقد روى يحيى بن معين عنه أنه
لم يسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثا واحدا غير هذا
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم : ( يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله فإن حفظتك لا تزال تكتب
لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء ) . قال : تفرد به عمرو بن أبي سلمة عن إبراهيم
بن محمد عنه وإسناده واه
وفيه أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة رفعه : ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل
يده في الإناء حتى يغسلها ويسمي قبل أن يدخلها ) تفرد بهذه الزيادة عبد الله بن
محمد عن هشام بن عروة وهو متروك
وفي الباب عن أبي سعيد وسعيد بن زيد كما ذكره المصنف وعائشة وسهل بن سعد وأبي سبرة
وأم سبرة وعلي وأنس
فحديث أبي سعيد رواه أحمد والدارمي والترمذي في العلل وابن ماجه وابن عدي وابن
السكن والبزار والدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ حديث الباب
وزعم ابن عدي أن زيد بن الحباب تفرد به عن كثير بن زيد قال الحافظ : وليس كذلك فقد
رواه الدارقطني من حديث أبي عامر العقدي وابن ماجه من حديث أبي أحمد الزهري وكثير
بن زيد قال ابن معين : ليس بالقوي وقال أبو زرعة : صدوق فيه لين وقال أبو حاتم :
صالح الحديث ليس بالقوي يكتب حديثه وكثير بن زيد رواه عن ربيح بن عبد الرحمن بن
أبي سعيد وربيح قال أبو حاتم : شيخ وقال البخاري : منكر الحديث وقال أحمد : ليس
بالمعروف وقال المروزي : لم يصححه أحمد وقال : ليس فيه شيء يثبت وقال البزار : كل
ما روي في هذا الباب فليس بقوي وذكر أنه روي عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن
أبي هريرة
وقال العقيلي : الأسانيد في هذا الباب فيها لين وقد قال أحمد بن حنبل : إنه أحسن
شيء في هذا الباب وقد قال أيضا : لا أعلم في التسمية حديثا صحيحا وأقوى شيء فيه
حديث كثير بن زيد عن ربيح
وقال إسحاق : هذا يعني حديث أبي سعيد أصح ما في الباب . وأما حديث سعيد بن زيد
فرواه الترمذي والبزار وأحمد وابن ماجه والدارقطني والعقيلي والحاكم [ ص 167 ]
وأعل بالاختلاف والإرسال . وفي إسناده أبو ثفال ( 1 ) عن رباح مجهولان فالحديث ليس
بصحيح قاله أبو حاتم وأبو زرعة وقد أطال الكلام على حديث سعيد بن زيد في التلخيص
وأما حديث عائشة فرواه البزار وأبو بكر ابن أبي شيبة في مسنديهما وابن عدي وفي
إسناده حارثة بن محمد وهو ضعيف
وأما حديث سهل بن سعد فرواه ابن ماجه والطبراني وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل
بن سعد وهو ضعيف وتابعه أخوه أبي بن عباس وهو مختلف فيه
وأما حديث أبي سبرة وأم سبرة فرواه الدولابي في الكنى والبغوي في الصحابة
والطبراني في الأوسط وفيه عيسى بن سبرة بن أبي سبرة وهو ضعيف
وأما حديث علي فرواه ابن عدي وقال : إسناده ليس بمستقيم
وأما حديث أنس فرواه عبد الملك بن حبيب الأندلسي وعبد الملك شديد الضعف
قال الحافظ : والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا . وقال
أبو بكر ابن أبي شيبة : ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله
قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : ولا يخلو هذا الباب من حسن صريح وصحيح غير
صريح
والأحاديث تدل على وجوب التسمية في الوضوء لأن الظاهر أن النفي للصحة لكونها أقرب
إلى الذات وأكثر لزوما للحقيقة فيستلزم عدمها عدم الذات وما ليس بصحيح لا يجزئ ولا
يقبل ولا يعتد به . وإيقاع الطاعة الواجبة على وجه يترتب قبولها وإجراؤها عليه
واجب
وقد ذهب إلى الوجوب والفرضية العترة والظاهرية وإسحاق وإحدى الروايتين عن أحمد بن
حنبل واختلفوا هل هي فرض مطلقا أو على الذاكر فالعترة على الذاكر والظاهرية مطلقا
وذهبت الشافعية والحنفية ومالك وربيعة وهو أحد قولي الهادي إلى أنها سنة
احتج الأولون بأحاديث الباب واحتج الآخرون بحديث ابن عمر مرفوعا : ( من توضأ وذكر
اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا
لأعضاء وضوئه ) . أخرجه الدارقطني والبيهقي وفيه أبو بكر الداهري عبد الله بن
الحكم وهو متروك ومنسوب إلى الوضع . ورواه الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث أبي
هريرة وفيه مرداس بن محمد بن عبد الله بن أبان عن أبيه وهما ضعيفان . ورواه
الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث ابن مسعود وفي إسناده يحيى بن هشام السمسار وهو
متروك
قالوا : فيكون هذا الحديث قرينة [ ص 168 ] لتوجه ذلك النفي إلى الكمال لا إلى
الصحة كحديث ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) فلا وجوب ويؤيد ذلك حديث ذكر
الله على قلب المؤمن من سمى أم لم يسم
واحتج البيهقي على عدم الوجوب بحديث : ( لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما
أمره الله ) وتقريره أن التمام لم يتوقف على غير الإسباغ فإذا حصل حصل
واستدل النسائي وابن خزيمة والبيهقي على استحباب التسمية بحديث أنس قال : ( طلب
بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضوء فلم يجد فقال : هل مع أحد منكم ماء
فوضع يده في الإناء فقال : توضئوا باسم الله ) وأصله في الصحيحين بدون قوله (
توضؤا باسم الله ) وقال النووي : يمكن أن يحتج في المسألة بحديث أبي هريرة : ( كل
أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أجزم )
ولا يخفى على الفطن ضعف هذه المستندات وعدم صراحتها وانتفاء دلالتها على المطلوب
وما في الباب إن صلح للاحتجاج أفاد مطلوب القائل بالفرضية لما قدمنا ولكنه صرح ابن
سيد الناس في شرح الترمذي بأنه قد روى في بعض الروايات لا وضوء كاملا . وقد استدل
به الرافعي قال الحافظ : لم أره هكذا انتهى . فإن ثبتت هذه الزيادة من وجه معتبر
فلا أصرح منها في إفادة مطلوب القائل بعدم وجوب التسمية
وقد استدل من قال بالوجوب على الذاكر فقط بحديث ( من توضأ وذكر اسم الله كان طهورا
لجميع بدنه ) وقد تقدم الكلام عليه . قالوا : فحملنا أحاديث الباب على الذاكر وهذا
على الناسي جمعا بين الأدلة ولا يخفى ما فيه
_________
( 1 ) هو بثاء مثلثة بعدها فاء اسمه ثمامة بن وائل بن حصين
باب استحباب غسل اليدين قبل المضمضة وتأكيده لنوم الليل
1 -
عن أوس بن أوس الثقفي قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ
فاستوكف ثلاثا أي غسل كفيه )
- رواه أحمد والنسائي
-
الحديث رجاله عند النسائي ثقات إلا حميد بن مسعدة فهو صدوق
قوله ( أوس بن أوس ) ويقال ابن أبي أوس في صحبته خلاف وقد ذكره أبو عمر في الصحابة
. وهذا الحديث معناه في الصحيحين من حديث عثمان بلفظ : ( فأفرغ على كفيه ثلاث مرات
فغسلهما ) وقال في آخره ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ نحو وضوئي
هذا ) وسيأتي في هذا الكتاب . وأخرج أبو داود من حديث عثمان أيضا بلفظ : ( أفرغ
بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما إلى الكوعين ) وثبت نحوه أيضا من حديث علي عليه
[ ص 169 ] السلام وعبد الله بن زيد عند أهل السنن
والحديث يدل على شرعية غسل الكفين قبل الوضوء وقد اختلف الناس في ذلك فعند الهادي
في أحد قوليه والمؤيد بالله وأبي طالب والمنصور بالله والشافعية والحنفية أنه
مسنون ولا يجب لحديث ( توضأ كما أمرك الله ) ولم يذكر فيه غسل اليدين
وقال القاسم وهو أحد قولي الهادي وإليه ذهب ابنه أحمد بن يحيى : إنه واجب لخبر
الاستيقاظ الذي سيأتي بعد هذا
وأجيب بأنه لا يدل على الوجوب لقوله فيه ( فإنه لا يدري أين باتت يده ) وليعلم أن
محل النزاع غسلهما قبل الوضوء وحديث الاستيقاظ الغسل فيه لا للوضوء فلا دلالة له
على المطلوب ومجرد الأفعال لا تدل على الوجوب وسيأتي الكلام على ما هو الحق في
الحديث الذي بعد هذا إن شاء الله
2 -
وعن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا استيقظ أحدكم
من نومه فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده )
- رواه الجماعة إلا أن البخاري لم يذكر العدد وفي لفظ الترمذي وابن ماجه : ( إذا
استيقظ أحدكم من الليل )
3 -
وعن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا استيقظ أحدكم من
منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده أو
أين طافت يده )
- رواه الدارقطني وقال : إسناد حسن
-
للحديث طرق منها ما ذكره المصنف ومنها عند ابن عدي بزيادة ( فليرقه ) وقال : إنها
زيادة منكرة . ومنها عند ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي بزيادة ( أين باتت يده منه
) قال ابن منده : هذه الزيادة رواها ثقات ولا أراها محفوظة
وفي الباب عن جابر عند الدارقطني وابن ماجه وابن عمر رواه ابن ماجه وابن خزيمة
بزيادة لفظ : " منه " . وعائشة رواه ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه
أنه وهم
قوله ( من نومه ) أخذ بعمومه الشافعي والجمهور فاستحبوه عقب كل نوم وخصه أحمد
وداود بنوم الليل لقوله في آخر الحديث ( باتت يده ) لأن حقيقة المبيت تكون بالليل
. ويؤيده ما ذكره المصنف رحمه الله في رواية الترمذي وابن ماجه وأخرجها أيضا أبو
داود وساق مسلم إسنادها وما في رواية لأبي عوانة ساق مسلم إسنادها أيضا ( إذا قام
أحدكم للوضوء حين يصبح ) لكن التعليل بقوله ( فإنه لا يدري أين باتت يده ) يقضي
بإلحاق نوم النهار بنوم الليل وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة . قال النووي :
وحكي عن أحمد في رواية أنه إن قام من [ ص 170 ] نوم الليل كره له كراهية تحريم وإن
قام من نوم النهار كره له كراهة تنزيه قال : ومذهبنا ومذهب المحققين أن هذا الحكم
ليس مخصوصا بالقيام من النوم بل المعتبر الشك في نجاسة اليد فمتى شك في نجاستها
كره له غمسها في الإناء قبل غسلها سواء كان قام من نوم الليل أو النهار أو شك
انتهى
والحديث يدل على المنع من إدخال اليد إلى إناء الوضوء عند الاستيقاظ وقد اختلف في
ذلك فالأمر عند الجمهور على الندب وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل واعتذر عن
الوجوب بأن التعليل بأمر يقتضي الشك قرينة صارفة عن الوجوب إلى الندب وقد دفع بأن
التشكيك في العلة لا يستلزم التشكيك في الحكم وفيه أن قوله ( لا يدري أين باتت يده
) ليس تشكيكا في العلة بل تعليلا بالشك وأنه يستلزم ما ذكر
ومن جملة ما اعتذر به الجمهور عن الوجوب حديث أنه صلى الله عليه و سلم توضأ من
الشن المعلق بعد قيامه من النوم ولم يرو أنه غسل يده كما ثبت في حديث ابن عباس
وتعقب بأن قوله ( أحدكم ) يقتضي اختصاص الأمر بالغسل بغيره فلا يعارضه ما ذكر ورد
بأنه صح عنه صلى الله عليه و سلم غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة
فاستحبابه بعد النوم أولى ويكون تركه لبيان الجواز
ومن الأعذار للجمهور أن التقييد بالثلاث في غير النجاسة العينية يدل على الندبية
وهذه الأمور إذا ضمت إليها البراءة الأصلية لم يبق الحديث منتهضا للوجوب ولا
لتحريم الترك ولا يصح الاحتجاج به على غسل اليدين قبل الوضوء فإن هذا ورد في غسل
النجاسة وذاك سنة أخرى
ويدل على هذا ما ذكره الشافعي وغيره من العلماء أن السبب في الحديث أن أهل الحجاز
كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف
يده على ذلك الموضع النجس أو على قذر غير ذلك فإذا كان هذا سبب الحديث عرفت أن
الاستدلال به على وجوب غسل اليدين قبل الوضوء ليس على ما ينبغي ( فإن قلت : ) هذا
قصر على السبب وهو مذهب مرجوح . قلت : سلمنا عدم القصر على السبب فليس في الحديث
إلا نهي المستيقظ عن نوم الليل أو مطلق النوم فهو أخص من الدعوى أعني مشروعية غسل
اليدين قبل الوضوء مطلقا فلا يصلح للاستدلال به على ذلك ونحن لا ننكر أن غسل
اليدين قبل الوضوء من السنن الثابتة بالأحاديث الصحيحة كما في حديث عثمان الآتي
وغيره وكما في الحديث الذي في أول الباب ولا منازعة في سنيته إنما النزاع في دعوى
وجوبه والاستدلال عليها بحديث الاستيقاظ . وقد سبق ذكر الخلاف في [ ص 171 ] ذلك في
الحديث الذي قبل هذا
قوله ( فلا يدخل يده في الإناء ) في رواية للبخاري " في وضوئه " وفي
رواية لابن خزيمة " في إنائه أو وضوئه " والظاهر اختصاص ذلك بإناء
الوضوء ويلحق به الغسل بجامع أن كل واحد منهما يراد التطهر به . وخرج بذكر الإناء
البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها النهي
وفي الحديث أيضا دلالة على أن الغسل سبعا ليس عاما لجميع النجاسات كما زعمه البعض
بل خاصا بنجاسة الكلب باعتبار ريقه والجمهور من المتقدمين والمتأخرين على أنه لا
ينجس الماء إذا غمس يده فيه وحكي عن الحسن البصري أنه ينجس إن قام من نوم الليل
وحكي أيضا عن إسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري . قال النووي : وهو ضعيف جدا
فإن الأصل في اليد والماء الطهارة فلا ينجس بالشك وقواعد الشريعة متظاهرة على هذا
قال المصنف رحمه الله : وأكثر العلماء حملوا هذا على الاستحباب مثل ما روى أبو
هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا استيقظ أحدكم من منامه
فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه ) متفق عليه انتهى
وإنما مثل المصنف محل النزاع بهذا الحديث لأنه قد وقع الاتفاق على عدم وجوب
الاستنثار عند الاستيقاظ ولم يذهب إلى وجوبه أحد وإنما شرع لأنه يذهب ما يلصق
بمجرى النفس من الأوساخ وينظفه فيكون سببا لنشاط القارئ وطرد الشيطان . والخيشوم
أعلى الأنف وقيل هو الأنف كله وقيل هو عظام رقاق لينة في أقصى الأنف بينه وبين
الدماغ . وقد وقع في البخاري في بدئ الخلق بلفظ : ( إذا استيقظ أحدكم من منامه
فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه ) فيحمل المطلق على المقيد
ويكون الأمر بالاستنثار باعتبار إرادة الوضوء وفي وجوبه خلاف سيأتي
باب المضمضة والاستنشاق
1 -
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : ( أنه دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات
فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى
المرفقين ثلاث مرات ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين ثم قال : رأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال : من توضأ [ ص 172 ]
نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه )
- متفق عليه
-
قوله ( فأفرغ على كفيه ثلاث مرات ) هذا دليل على أن غسلهما في أول الوضوء سنة
قال النووي : وهو كذلك باتفاق العلماء وقد أسلفنا الكلام عليه في الباب الذي قبل
هذا
قوله ( فمضمض ) المضمضة هي أن يجعل الماء في فيه ثم يديره ثم يمجه قال النووي :
وأقلها أن يجعل الماء في فيه ولا يشترط إدارته على المشهور وعند الجمهور وعند
جماعة من أصحاب الشافعي وغيرهم أن الإدارة شرط والمعول عليه في مثل هذا الرجوع إلى
مفهوم المضمضة لغة وعلى ذلك تنبني معرفة الحق . والذي في القاموس وغيره أن المضمضة
تحريك الماء في الفم
قوله ( واستنثر ) في رواية للبخاري واستنشق والاستنثار أعم قاله في الفتح . قال
النووي : قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون : الاستنثار هو إخراج الماء من
الأنف بعد الاستنشاق . وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة : الاستنثار هو الاستنشاق قال
: قال أهل اللغة : هو مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف
وقال الخطابي وغيره : هي الأنف والمشهور الأول قال الأزهري : روى سلمة عن الفراء
أنه يقال نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة في الطهارة انتهى . وفي القاموس
استنثر استنشق الماء ثم استخرج ذلك بنفس الأنف كانتثر . وقال في الاستنشاق استنشق
الماء أدخله في أنفه
إذا تقرر لك معنى المضمضة والاستنثار والاستنشاق لغة فاعلم أنه قد اختلف في الوجوب
وعدمه فذهب أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر ومن أهل البيت الهادي
والقاسم والمؤيد بالله إلى وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار وبه قال ابن أبي
ليلى وحماد بن سليمان . وفي شرح مسلم للنووي أن مذهب أبي ثور وأبي عبيد وداود
الظاهري وأبي بكر بن المنذر ورواية عن أحمد أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء
والمضمضة سنة فيهما وما نقل من الإجماع على عدم وجوب الاستنثار متعقب بهذا
واستدلوا على الوجوب بأدلة منها أنه من تمام غسل الوجه فالأمر بغسله أمر بها
وبحديث أبي هريرة المتفق عليه : ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر )
وبحديث سلمة بن قيس عند الترمذي والنسائي بلفظ : ( إذا توضأت فانتثر ) وبما أخرج
أحمد والشافعي وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي وأهل السنن
الأربع من حديث لقيط بن صبرة في حديث طويل وفيه : ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن
تكون صائما ) وفي رواية من هذا الحديث : ( إذا توضأت [ ص 173 ] فمضمض ) أخرجها أبو
داود وغيره . قال الحافظ في الفتح : إن إسنادها صحيح وقد رد الحافظ أيضا في
التلخيص ما أعل به حديث لقيط من أنه لم يرو عن عاصم بن لقيط بن صبرة إلا إسماعيل
بن كثير وقال : ليس بشيء لأنه روى عنه غيره وصححه الترمذي والبغوي وابن القطان
وقال النووي : هو حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة
ومن أدلة القائلين بالوجوب حديث أبي هريرة الذي سيذكره المصنف في هذا الباب بلفظ :
( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمضمضة والاستنشاق ) عند الدارقطني
وذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث والحسن البصري والزهري وربيعة ويحيى بن سعيد
وقتادة والحكم بن عتيبة ومحمد بن جرير الطبري والناصر من أهل البيت إلى عدم الوجوب
وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وزيد بن علي من أهل البيت عليهم السلام إلى أنهما
فرض في الجنابة وسنة في الوضوء فإن تركهما في غسله من الجنابة أعاد الصلاة
واستدلوا على عدم الوجوب في الوضوء بحديث : ( عشر من سنن المرسلين ) وقد رده
الحافظ في التلخيص وقال : إنه لم يرد بلفظ عشر من السنن بل بلفظ من الفطرة ولو ورد
لم ينتهض دليلا على عدم الوجوب لأن المراد به السنة أي الطريقة لا السنة بالمعنى
الاصطلاحي الأصولي وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم
واستدلوا أيضا بحديث ابن عباس مرفوعا بلفظ : ( المضمضة والاستنشاق سنة ) رواه
الدارقطني قال الحافظ : وهو حديث ضعيف وبحديث : ( توضأ كما أمرك الله ) وليس في
القرآن ذكر المضمضة والاستنشاق والاستنثار . ورد بأن الأمر بغسل الوجه أمر بها كما
سبق وبأن وجوبها ثبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر منه أمر من
الله بدليل { وما آتاكم الرسول فخذوه } { قل إن تحبون الله فاتبعوني } وتمكن
مناقشة هذا بأنه إنما يتم لو أحاله فقط كما وقع لابن دقيق العيد وغيره
وأما بالنظر إلى تمام الحديث وهو فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك فيصير
نصا على أن المراد كما أمرك الله في خصوص آية الوضوء لا في عموم القرآن فلا يكون
أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالمضمضة داخلا تحت قوله للأعرابي ( كما أمرك الله )
فيقتصر في الجواب على أنه قد صح أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها
والواجب الأخذ بما صح عنه ولا يكون الاقتصار على البعض في مبادئ التعاليم ونحوها
موجبا لصرف ما ورد بعده وإخراجه عن الوجوب وإلا لزم قصر واجبات الشريعة بأسرها على
الخمس المذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة مثلا [ ص 174 ] لاقتصاره على ذلك المقدار في
تعليمه
وهذا خرق للإجماع وإطراح لأكثر الأحكام الشرعية وعلى ما سلف من أن الأمر بغسل
الوجه أمر بها وهذا وإن كان مستبعدا في بادئ الرأي باعتبار أن الوجه في لغة العرب
معلوم المقدار لكنه يشد من عضد دعوى الدخول في الوجه أنه لا موجب لتخصيصه بظاهره
دون باطنه فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجها
( فإن قلت : ) قد أطلق على خرق الفم والأنف اسم خاص فليسا في لغة العرب وجها . قلت
: وكذلك أطلق على الخدين والجبهة وظاهر الأنف والحاجبين وسائر أجزاء الوجه أسماء
خاصة فلا تسمى وجها وهذا في غاية السقوط لاستلزامه عدم وجوب غسل الوجه
( فإن قلت : ) يلزم على هذا وجوب غسل باطن العين قلت : يلتزم لولا اقتصار الشارع
في البيان على غسل ما عداه وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزل
إلينا فداوم على المضمضة والاستنشاق ولم يحفظ أنه أخل بهما مرة واحدة كما ذكره ابن
القيم في الهدي ولم ينقل عنه أنه غسل باطن العين مرة واحدة على أنه قد ذهب إلى
وجوب غسل باطن العين ابن عمر والمؤيد بالله من أهل البيت وروي في البحر عن الناصر
والشافعي أنه يستحب واستدل لهم بظاهر الآية وسيأتي متمسك لمن قال بذلك من باب
تعاهد الماقين
وقد اعترف جماعة من الشافعية وغيرهم بضعف دليل من قال بعدم وجوب المضمضة
والاستنشاق والاستنثار . قال الحافظ في الفتح : وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم
يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا بكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه
لا يعيد وهذا دليل فقهي فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين إلا عن عطاء
وهكذا ذكر ابن حزم في المحلي
وذكر ابن سيد الناس في شرح الترمذي بعد أن ساق حديث لقيط بن صبرة ما لفظه : وقال
أبو بشر الدولابي فيما جمعه من حديث الثوري حدثنا محمد بن بشار أخبرنا ابن مهدي عن
سفيان عن أبي هاشم عن عاصم بن لقيط عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (
إذا توضأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما ) قال أبو الحسين ابن
القطان : وهذا صحيح فهذا أمر صحيح صريح وانضم إليه مواظبة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولا وفعلا مع المواظبة على
الفعل انتهى
ومن جملة ما أورده في شرح الترمذي من الأدلة القاضية بوجوب المضمضة والاستنشاق
حديث عائشة عند البيهقي بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي [ ص 175 ] لا بد منه ) وقد ضعف بمحمد بن
الأزهري الجوزجاني وقد رواه البيهقي لا من طريقه فرواه عن أبي سعيد أحمد بن محمد
الصوفي عن ابن عدي الحافظ عن عبد الله بن سليمان بن الأشعث عن الحسين بن علي بن
مهران عن عصام بن يوسف عن ابن المبارك عن ابن جريج عن سليمان بن يسار عن الزهري عن
عروة عنها
إذا تقرر هذا علمت أن المذهب الحق وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار
قوله ( ثم غسل وجهه ثلاث مرات ) وكذلك سائر الأعضاء إلا الرأس فإنه لم يذكر فيه
العدد فيه دليل على أن السنة الاقتصار في مسح الرأس على واحدة لأن المطلق يصدق
بمرة وقد صرحت الأحاديث الصحيحة بالمرة وفيه خلاف وسيأتي الكلام على ذلك في باب هل
يسن تكرار مسح الرأس
وقد أجمع العلماء على أن الواجب غسل الأعضاء مرة واحدة وأن الثلاث سنة لثبوت
الاقتصار من فعله صلى الله عليه وآله وسلم على مرة واحدة ومرتين وسيأتي لذلك باب
في هذا الكتاب
وقد استدل بما وقع في حديث الباب من الترتيب بثم على وجوب الترتيب بين أعضاء
الوضوء وقال ابن مسعود ومكحول ومالك وأبو حنيفة وداود والمزني والثوري والبصري
وابن المسيب وعطاء والزهري والنخعي : إنه غير واجب ولا ينتهض الترتيب بثم في حديث
الباب على الوجوب لأنه من لفظ الراوي وغايته أنه وقع من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم على تلك الصفة والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب نعم قوله في آخر الحديث ( من
توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه )
يشعر بترتيب المغفرة المذكورة على وضوء مرتب على هذا الترتيب وأما أنه يدل على
الوجوب فلا
وقد استدل على الوجوب بظاهر الآية وهو متوقف على إفادة الواو للترتيب وهو خلاف ما
عليه جمهور النحاة وغيرهم
وأصرح أدلة الوجوب حديث إنه صلى الله عليه وآله وسلم ( توضأ على الولاء ثم قال :
هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وفيه مقال لا أظنه ينتهض معه . وقد خلط فيه
بعض المتأخرين فخرجه من طرق وجعل بعضها شاهد البعض وليس الأمر كما ذكر فليراجع
الحديث في مظانه فإن التكلم على ذلك ههنا يفضي إلى تطويل يخرجنا عن المقصود وسيأتي
التصريح بما هو الحق في الباب الذي بعد هذا
قوله ( إلى المرفقين ) المرفق فيه وجهان أحدهما فتح الميم وكسر الفاء والثاني عكسه
لغتان . واتفق العلماء على وجوب غسلهما ولم يخالف في ذلك إلا زفر وأبو بكر بن داود
الظاهري فمن قال بالوجوب جعل إلى في الآية بمعنى مع ومن لم يقل به جعلها لانتهاء
الغاية
واستدل [ ص 176 ] لغسلهما أيضا بحديث ( إنه صلى الله عليه وآله وسلم أدار الماء
على مرفقيه ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) عند الدارقطني والبيهقي
من حديث جابر مرفوعا وفيه القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل وهو متروك
وقال أبو زرعة : منكر وضعفه أحمد وابن معين وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات ولم
يلتفت إليه في ذلك وصرح بضعف هذا الحديث المنذري وابن الجوزي وابن الصلاح والنووي
وغيرهم
واستدل لذلك أيضا بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : ( توضأ حتى أشرع في
العضد ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيه أنه فعل لا
ينتهض بمجرده على الوجوب وأجيب بأنه بيان للمجمل فيفيد الوجوب ورد بأنه لا إجمال
لأن إلى الحقيقة في انتهاء الغاية مجاز في معنى مع . وقد حقق الكلام في ذلك الرضي
في شرح الكافية وغيره فليرجع إليه
واستدل أيضا لذلك أنه من مقدمة الواجب فيكون واجبا وفيه خلاف في الأصول معروف
وسيعقد المصنف لذلك بابا سيأتي إن شاء الله
قوله ( إلى الكعبين ) هما العظمان النابتان بين مفصل الساق والقدم باتفاق العلماء
ما عدا الإمامية ومحمد بن الحسن . قال النووي : ولا يصح عنه . وقد اختلف هل الواجب
الغسل أو يكفي المسح وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى
قوله ( لا يحدث فيهما نفسه ) قال النووي : والمراد لا يحدثها بشيء من أمور الدنيا
ولو عرض له حديث فأعرض عنه حصلت له هذه الفضيلة لأن هذا ليس من فعله وقد غفر لهذه
الأمة ما حدثت به نفوسها هذا معنى كلامه
قال في الفتح : ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث لا يحدث نفسه بشيء من
الدنيا وهي في الزهد لابن المبارك والمصنف لابن أبي شيبة . قال المازري والقاضي
عياض : المراد بحديث النفس المجتلب والمكتسب وأما ما يقع في الخاطر غالبا فليس هو
المراد
قال عياض : وقوله ( يحدث نفسه ) فيه إشارة إلى أن ذلك الحديث مما يكتسبه لإضافته
إليه . قال ابن دقيق العيد : إن حديث النفس على قسمين : أحدهما ما يهجم هجما يتعذر
دفعه عن النفس . والثاني ما تسترسل معه النفس ويمكن قطعه ودفعه . فيمكن أن يحمل
الحديث على هذا النوع الثاني فيخرج عنه الأول لعسر اعتباره ويشهد لذلك لفظ يحدث
نفسه فإنه يقتضي تكسبا منه وتفعلا لهذا الحديث قال : ويمكن حمله على النوعين معا
إلى آخر كلامه
والحاصل أن الصيغة مشعرة بشيئين أحدهما أن يكون غير مغلوب بورود الخواطر النفسية
لأن من كان كذلك لا يقال له محدث لانتفاء الاختيار الذي [ ص 177 ] لا بد من
اعتباره . ثانيهما أن يكون مريدا للتحديث طالبا له على وجه التكلف ومن وقع له ذلك
هجوما وبغتة لا يقال إنه حدث نفسه
قوله ( غفر الله له ما تقدم من ذنبه ) رتب هذه المثوبة على مجموع الوضوء الموصوف
بتلك الصفة وصلاة الركعتين المقيدة بذلك القيد فلا تحصل إلا بمجموعهما . وظاهره
مغفرة جميع الذنوب وقد قيل إنه مخصوص بالصغائر لورود مثل ذلك مقيدا كحديث : (
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينها ما اجتنبت
الكبائر )
2 -
وعن علي رضي الله عنه : ( أنه دعا بوضوء فتمضمض ونثر بيده اليسرى ففعل هذا ثلاثا
ثم قال : هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد والنسائي
-
الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا حدثنا موسى بن عبد الرحمن قال حدثنا حسين بن
علي عن زائدة قال حدثنا خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي قدس سره : فموسى بن عبد
الرحمن إن كان ابن سعيد بن مسروق الكندي فهو ثقة وإن كان الحلبي الأنطاكي فهو صدوق
يغرب وكلاهما روى عنه النسائي . وأما خالد بن علقمة فهو الهمداني قال ابن معين ثقة
. وقال في التقريب : صدوق وبقية رجال الإسناد ثقات وهو طرف من حديث علي عليه
السلام وسيأتي الكلام على المضمضة والاستنشاق والاستنثار قد تقدم
قال المصنف رحمه الله : وفيه مع الذي قبله دليل على أن السنة أن يستنشق باليمين
ويستنثر باليسرى انتهى
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا توضأ
أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر )
- متفق عليه
- قد تقدم الكلام على تفسير الاستنثار وعلى وجوبه في حديث عثمان
4 -
وعن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال : ( أمر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بالمضمضة والاستنشاق )
- رواه الدارقطني
- قد
سلف الكلام على المضمضة والاستنشاق تفسيرا وحكما
قال المصنف رحمه الله تعالى : وقال يعني الدارقطني لم يسنده عن حماد غير هدبة
وداود بن المحبر وغيرهما يرويه عنه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا
يذكر أبا هريرة
قلت : وهذا لا يضر لأن هدبة ثقة مخرج عنه في الصحيحين فيقبل رفعه وما ينفرد به
انتهى
وقد ذكر [ ص 178 ] هذا الحديث ابن سيد الناس في شرح الترمذي منسوبا إلى أبي هريرة
ولم يتكلم عليه وعادته التكلم على ما فيه وهن
باب ما جاء في جواز تأخيرهما على غسل الوجه واليدين
1 -
عن المقدام بن معد يكرب قال : ( أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوضوء
فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا ثم مضمض واستنشق
ثلاثا ثلاثا ثم مسح برأسه وآذنيه ظاهرهما وباطنهما )
- رواه أبو داود وأحمد وزاد ( وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا )
-
الحديث إسناده صالح وقد أخرجه الضياء في المختارة وهو يدل على عدم وجوب الترتيب
بين المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين
وحديث عثمان وعبد الله بن زيد الثابتان في الصحيحين . وحديث علي الثابت عند أبي
داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبزار وغيرهم مصرحة بتقديم المضمضة
والاستنشاق على غسل الوجه واليدين
والحديث من أدلة القائلين بعدم وجوب الترتيب وقد سبق ذكرهم في شرح حديث عثمان
وحديث الربيع الآتي بعد هذا يدل أيضا على عدم وجوب الترتيب بين المضمضة والاستنشاق
وغسل الوجه
قال النووي : إنهم يتأولون هذه الرواية على أن لفظة ثم ليست للترتيب بل لعطف جملة
على جملة . وقد ذكر الفاضل الشلبي في صدر حواشيه على شرح المواقف أن المحققين من
النحاة نصوا على أن وجوب دلالة ثم على التراخي مخصوص بعطف المفرد . وقد ذكره أيضا
في حواشي المطول
وقد ذكر الرضي في شرح الكافية وابن هشام في المغني أنها قد تأتي لمجرد الترتيب
فظهر بهذا أنها مشتركة بين المعنيين لا أنها حقيقة في الترتيب ولكن لا يخفى عليك
أن هذا التأويل وإن نفع القائل بوجوب الترتيب في حديث الباب وما بعده فهو يجري في
دليله الذي عارض به حديثي الباب أعني حديث عثمان وعبد الله بن زيد وعلي فلا يدل
على تقديم المضمضة والاستنشاق كما لا يدل هذا على تأخيرهما فدعوى وجوب الترتيب لا
تتم إلا بإبراز دليل عليها يتعين المصير إليه وقد عرفناك في شرح حديث عثمان عدم
انتهاض ما جاء به مدعي وجوب الترتيب على المطلوب نعم حديث جابر عند النسائي في صفة
حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( ابدؤوا
بما بدأ [ ص 179 ] الله به ) بلفظ الأمر وهو عند مسلم بلفظ الخبر يصلح للاحتجاج به
على وجوب الترتيب لأنه عام لا يقصر على سببه عند الجمهور كما تقرر في الأصول وآية
الوضوء مندرجة تحت ذلك العموم
2 - وعن العباس بن يزيد عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال : ( أتيتها فأخرجت إلي إناء فقالت : في هذا كنت أخرج الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثا ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثا ثم يمضمض ويستنشق ثلاثا ثم يغسل يديه ثم يمسح برأسه مقبلا ومدبرا ثم يغسل رجليه )
-
قال العباس بن يزيد : هذه المرأة التي حدثت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه
بدأ بالوجه قبل المضمضة والاستنشاق وقد حدث به أهل بدر منهم عثمان وعلى أنه بدأ
بالمضمضة والاستنشاق قبل الوجه والناس عليه رواه الدارقطني
الحديث رواه الدارقطني عن شيخه إبراهيم بن حماد عن العباس المذكور وأخرجه أيضا أبو
داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وله عنها طرق وألفاظ مدارها على عبد الله بن محمد
بن عقيل وفيه مقال
وهو يدل على عدم وجوب الترتيب بين المضمضة وغسل الوجه وقد عرفت في الحديث الذي
قبله ما هو الحق
باب المبالغة في الاستنشاق
1 -
عن لقيط بن صبرة قال : ( قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال : أسبغ الوضوء
وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي
-
الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي من
طريق إسماعيل بن كثير المكي عن عاصم بن لقيط عن أبيه مطولا ومختصرا . قال الخلال
عن أبي داود عن أحمد عاصم لم يسمع عنه بكثير رواية انتهى . ويقال لم يرو عنه غير
إسماعيل قال الحافظ : وليس بشيء لأنه روى عنه غيره وصححه الترمذي والبغوي وابن
القطان وهذا اللفظ عندهم من رواية وكيع عن الثوري عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن
لقيط عن أبيه
وروى الدولابي في حديث الثوري من جمعه من طريق ابن [ ص 180 ] مهدي عن الثوري ولفظه
: ( وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما ) وفي رواية لأبي داود من طريق
أبي عاصم عن ابن جريج عن إسماعيل بن كثير بلفظ : ( إذا توضأت فتمضمض ) قال الحافظ
في الفتح : إسناد هذه الرواية صحيح
وقال النووي : حديث لقيط بن صبرة أسانيده صحيحة وقد وثق إسماعيل بن كثير أحمد وقال
أبو حاتم : هو صالح الحديث . وقال ابن سعد : ثقة كثير الحديث وأبو عاصم وثقه أبو
حاتم ومن عدا هذين من رجال إسناده فمخرج له في الصحيح قاله ابن سيد الناس في شرح
الترمذي . وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس ( فخلل بين أصابعك ) وقال : هذا حديث
حسن وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف وقد تقدم الترمذي إلى تحسين هذا الحديث
البخاري روى ذلك عنه الترمذي في كتاب العلل ولكن الراوي عنه موسى بن عقبة وسماعه
منه قبل أن يختلط
وأخرج الترمذي أيضا من حديث المستورد قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره ) وقال : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من
حديث ابن لهيعة وغرابته والذي قبله ترجع إلى الإسناد فلا ينافي الحسن قاله ابن سيد
الناس
وقد شارك ابن لهيعة في روايته عن يزيد بن عمر والليث بن سعد وعمرو بن الحارث
فالحديث إذن صحيح سالم عن الغرابة
وفي الباب مما ليس عند الترمذي عن عثمان وأبي هريرة والربيع بنت معوذ بن عفراء
وعائشة وأبي رافع
فحديث عثمان عند الدارقطني وحديث أبي هريرة عند الدارقطني أيضا وحديث الربيع عند
الطبراني وحديث عائشة عند الدارقطني وحديث أبي رافع عند ابن ماجه والدارقطني
والحديث يدل على مشروعية إسباغ الوضوء والمراد به الانقاء واستكمال الأعضاء والحرص
على أن يتوضأ وضوءا يصح عند الجميع وغسل كل عضو ثلاث مرات هكذا قيل فإذا كان
التثليث مأخوذا في مفهوم الإسباغ فليس بواجب لحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم
توضأ مرة ومرتين وإن كان مجرد الانقاء والاستكمال فلا نزاع في وجوبه
ويدل أيضا على وجوب تخليل الأصابع فيكون حجة على الإمام يحيى القائل بعدم الوجوب
ويدل أيضا على وجوب الاستنشاق وقد تقدم الكلام عليه في حديث عثمان وإنما كره
المبالغة للصائم خشية أن ينزل إلى حلقه ما يفطره واستدل به على عدم وجوب المبالغة
لأن الوجوب يستلزم عدم جواز الترك وفيه ما لا يخفى
2 -
[ ص 181 ] وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( استنثروا مرتين
بالغتين أو ثلاثا )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
-
الحديث أخرجه أيضا الحاكم وابن الجارود وصححه ابن القطان وذكره الحافظ في التلخيص
ولم يذكره بضعف وكذلك المنذري في تخريج السنن عزاه إلى ابن ماجه ولم يتكلم فيه
والحديث يدل على وجوب الاستنثار وقد تقدم ذكر الخلاف فيه في شرح حديث عثمان
والمراد بقوله ( بالغتين ) أنهما في أعلى نهاية الاستنثار من قولهم بلغت المنزل
وأما تقييد الأمر بالاستنثار بمرتين أو ثلاثا فيمكن الاستدلال على عدم وجوب
الثانية والثالثة بحديث الوضوء مرة ويمكن القول بإيجاب مرتين أو ثلاث إما لأنه خاص
وحديث الوضوء مرة عام وإما لأنه قول خاص بنا فلا يعارضه فعله صلى الله عليه وآله
وسلم كما تقرر في الأصول والمقام لا يخلو عن مناقشته في كلا الطرفين ( 1 )
_________
( 1 ) الظاهر أن الاستنثار في الوضوء لا يجب إلا مرة واحدة والثانية والثالثة سنة
غير أنها مؤكدة بذلك الأمر الذي صرف عن الوجوب باكتفاء النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بمرة لأن الظاهر أنه مخصص ومبين والله أعلم
باب غسل المسترسل من اللحية
1 -
عن عمرو بن عبسة قال : ( قلت يا رسول الله حدثني عن الوضوء قال : ما منكم من رجل
يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا
غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه
إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا
رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من
أنامله مع الماء )
- أخرجه مسلم ورواه أحمد وقال فيه : ( ثم يمسح رأسه كما أمر الله ثم يغسل قدميه
إلى الكعبين كما أمره الله )
-
قوله ( خرت خطاياه ) أي سقطت والخر والخرور السقوط أو من علو إلى سفل
والحديث من أحاديث فضائل الوضوء الدالة على عظم شأنه ومثله حديث أبي هريرة مرفوعا
عند مسلم ومالك والترمذي بلفظ : ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج
من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء وإذا غسل يديه
خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه
خرجت [ ص 182 ] كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا
من الذنوب ) ومثله حديث عبد الله الصنابحي عند مالك والنسائي : ( أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قال : إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا
استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت
أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه فإذا
مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من
رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له )
والمراد بالخطايا قال النووي وغيره : الصغائر
وظاهر الأحاديث العموم والتخصيص بما وقع في الأحاديث الأخر بلفظ : ( ما لم تغش
الكبائر ) وبلفظ : ( ما اجتنبت الكبائر ) قد ذهب إليه جماعة من شراح الحديث وغيرهم
. والمراد بالخرور والخروج مع الماء المجاز عن الغفران لأن ذلك مختص بالأجسام
والخطايا ليست متجسمة
وفي حديث الباب وما بعده رد لمذهب الإمامية في وجوب مسح الرجلين
وقد ساق المصنف رحمه الله تعالى الحديث للاستدلال به على غسل المسترسل من اللحية
لقوله فيه ( إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ) وفيه خلاف فذهب المؤيد
بالله وأبو طالب وأبو حنيفة إلى عدم الوجوب إن أمكن التخليل بدونه وذهب أبو العباس
إلى وجوبه وهو مذهب الشافعي في إحدى الروايات واستدلوا بالقياس على شعر الحاجبين
ورد بأن شعر الحاجبين من الوجه لغة لا المسترسل
وقد استنبط المصنف رحمه الله تعالى من الحديث فوائد فقال : فهذا يدل على أن غسل
الوجه المأمور به يشتمل على وصول الماء إلى أطراف اللحية
وفيه دليل على أن داخل الفم والأنف ليس من الوجه حيث بين أن غسل الوجه المأمور به
غيرهما ويدل على مسح كل الرأس حيث بين أن المسح المأمور به يشتمل على وصول الماء
إلى أطراف الشعر
ويدل على وجوب الترتيب في الوضوء لأنه وصفه مرتبا وقال في مواضع منه كما أمره الله
عز و جل انتهى
وقد قدمنا الكلام على أن داخل الفم والأنف من الوجه وعلى الترتيب . وسيأتي الكلام
على مسح الرأس
باب في أن إيصال الماء إلى باطن اللحية الكثة لا يجب . [ ص 183 ]
1 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أنه توضأ فغسل وجهه فأخذ غرفة من ماء فتمضمض بها
واستنشق ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه ثم
أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ثم
مسح برأسه ثم أخذ غرفة من ماء فرش بها على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة من
ماء فغسل بها رجله اليسرى ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يتوضأ )
- رواه البخاري
-
قوله ( فغسل وجهه ) الفاء تفصيلية لأنها داخلة بين المجمل والمفصل
قوله ( فأخذ غرفة ) هو بيان لقوله ( فغسل ) قال الحافظ : وظاهره أن المضمضة
والاستنشاق من جملة غسل الوجه لكن المراد بالوجه أولا ما هو أعم من المفروض
والمسنون بدليل أنه أعاد ذكره ثانيا بعد ذكر المضمضة والاستنشاق بغرفة مستقلة وفيه
دليل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة وغسل الوجه باليدين جميعا إذا كان
بغرفة واحدة لأن اليد الواحدة قد لا تستوعبه
قوله ( أضافها ) بيان لقوله فجعل بها هكذا
قوله ( فغسل بها ) أي الغرفة . وفي رواية بهما أي اليدين
قوله ( ثم مسح برأسه ) لم يذكر له غرفة مستقلة قال الحافظ : قد يتمسك به من يقول
بطهورية الماء المستعمل لكن في رواية أبي داود ( ثم قبض قبضة من الماء ثم نفض يده
ثم مسح رأسه ) زاد النسائي ( وأذنيه مرة واحدة )
قوله ( فرش ) أي سكب الماء قليلا قليلا إلى أن صدق عليه مسمى الغسل بدليل قوله (
حتى غسلها ) وفي رواية لأبي داود والحاكم ( فرش على رجله اليمنى وفيها النعل ثم
مسحها بيديه يد فوق القدم ويد تحت النعل ) فالمراد بالمسح تسييل الماء حتى يستوعب
العضو
وأما قوله ( تحت النعل ) فإن لم يحمل على التجوز عن القدم فهي رواية شاذة وراويها
هشام بن سعد لا يحتج بما تفرد يه فكيف إذا خالف قاله الحافظ
والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على عدم وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية فقال
: وقد علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كث اللحية وأن الغرفة الواحدة وإن عظمت
لا تكفي غسل باطن اللحية الكثة مع غسل جميع الوجه فعلم أنه لا يجب
وفيه أنه مضمض واستنشق بماء واحد انتهى
أما الكلام على وجوب [ ص 184 ] إيصال الماء إلى باطن اللحية فسيأتي في الباب الذي
بعد هذا . وأما أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كث اللحية فقد ذكر القاضي عياض
ورود ذلك في أحاديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة كذا قال
وفي مسلم من حديث جابر : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير شعر اللحية
) وروى البيهقي في الدلائل من حديث علي ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عظيم اللحية ) وفي رواية ( كث اللحية ) وفيها من حديث هند بن أبي هالة مثله . ومن
حديث عائشة مثله . وفي حديث أم معبد المشهور في لحيته كثافة قاله الحافظ في
التلخيص
باب استحباب تخليل اللحية
1 -
عن عثمان رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخلل لحيته )
- رواه ابن ماجه والترمذي وصححه
2 -
وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله
تحت حنكه فخلل به لحيته وقال : هكذا أمرني ربي عز و جل )
- رواه أبو داود
-
أما حديث عثمان فأخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم والدارقطني وابن حبان وفيه عامر بن
شقيق ضعفه يحيى بن معين . وقال البخاري : حديثه حسن . وقال الحاكم : لا نعلم فيه
طعنا بوجه من الوجوه وأورد له شواهد
وأما حديث أنس المذكور في الباب ففي إسناده الوليد بن زوران وهو مجهول الحال قال
الحافظ : وله طرق أخرى ضعيفة عن أنس منها ما رويناه في فوائد أبي جعفر بن البحيري
ومستدرك الحاكم ورجاله ثقات لكنه معلول فإنما رواه موسى بن أبي عائشة عن زيد بن
أبي أنيسة عن يزيد الرقاشي عن أنس أخرجه ابن عدي وصححه ابن القطان من طريق أخرى
وله طريق أخرى ذكرها الذهلي في الزهريات وهو معلول وصححه الحاكم قبل ابن القطان .
قال الحافظ : ولم تقدح هذه العلة عندهما فيه
وفي الباب عن علي وعائشة وأم سلمة وأبي أمامة وعمار وابن عمر وجابر وابن أبي أوفى
وابن عباس وعبد الله بن عكبرة وأبي الدرداء
أما حديث علي فرواه الطبراني فيما انتقاه عليه ابن مردويه وإسناده ضعيف ومنقطع
قاله الحافظ
وأما حديث عائشة فرواه أحمد قال الحافظ : وإسناده حسن
وأما حديث أم سلمة فرواه الطبراني والعقيلي والبيهقي بلفظ : ( كان يخلل لحيته
ويدلك عارضيه ) وفي لفظ ( كان [ ص 185 ] إذا توضأ خلل لحيته ) وفي إسناده خالد بن
إلياس وهو منكر الحديث
وأما حديث أبي أمامة فرواه أبو بكر ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير قال
الحافظ : وإسناده ضعيف
وأما حديث عمار فرواه الترمذي وابن ماجه وهو معلول
وأما حديث عمر فرواه الطبراني في الأوسط وإسناده ضعيف وأخرجه عنه ابن ماجه
والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن بلفظ : ( كان إذا توضأ عرك عارضيه بعد العراك
ثم يشبك لحيته بأصابعه من تحتها ) وفي إسناده عبد الواحد وهو مختلف فيه واختلف فيه
على الأوزاعي
وأما حديث جابر فرواه ابن عدي وفيه أصرم بن غياث وهو متروك الحديث قاله النسائي .
وفي إسناده انقطاع قاله ابن حجر
وأما حديث جرير فرواه ابن عدي وفيه يس الزيات وهو متروك
وأما حديث ابن أبي أوفى أبو عبيد في كتاب الطهور وفي إسناده أبو الورقاء وهو ضعيف
وهو في الطبراني
وأما حديث ابن عباس فرواه العقيلي قال ابن حزم : ولا يتابع عليه
وأما حديث عبد الله بن عكبرة فرواه الطبراني في الصغير بلفظ : ( التخليل سنة )
وفيه عبد الكريم أبو أمية وهو ضعيف
وأما حديث أبي الدرداء فرواه الطبراني وابن عدي بلفظ : ( توضأ فخلل لحيته مرتين
وقال هكذا أمرني ربي ) وفي إسناده تمام بن نجيح وهو لين الحديث قال عبد الله بن
أحمد عن أبيه : ليس في تخليل اللحية شيء صحيح . وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : لا
يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تخليل اللحية شيء ولكنه يعارض هذا تصحيح
الترمذي والحاكم وابن القطان لبعض أحاديث الباب وكذلك غيرهم
والحديثان يدلان على مشروعية تخليل اللحية وقد اختلف الناس في ذلك فذهب إلى وجوب
ذلك في الوضوء والغسل العترة والحسن بن صالح وأبو ثور والظاهرية كذا في البحر
واستدلوا بما وقع في أحاديث الباب بلفظ : ( هكذا أمرني ربي ) وذهب مالك والشافعي
والثوري والأوزاعي إلى أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء قال مالك وطائفة من
أهل المدينة ولا في غسل الجنابة . وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري
والأوزاعي والليث وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وأكثر أهل العلم :
إن تخليل اللحية واجب في غسل الجنابة ولا يجب في الوضوء هكذا في شرح الترمذي لابن
سيد الناس . قال وأظنهم فرقوا بين ذلك والله أعلم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (
تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر )
واستدلوا لعدم الوجوب في الوضوء بحديث ابن عباس المذكور في الباب الأول قال : وقد
روي [ ص 186 ] عن ابن عباس وابن عمر وأنس وعلي وسعيد بن جبير وأبي قلابة ومجاهد
وابن سيرين والضحاك وإبراهيم النخعي أنهم كانوا يخللون لحاهم . وممن روي عنه أنه
كان لا يخلل إبراهيم النخعي والحسن وابن الحنفية وأبو العالية وأبو جعفر الهاشمي
والشعبي ومجاهد والقاسم وابن أبي ليلى ذكر ذلك عنهم ابن أبي شيبة بأسانيده إليهم
والإنصاف أن أحاديث الباب بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج وصلاحيتها للاستدلال لا تدل
على الوجوب لأنها أفعال وما ورد في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وآله وسلم
( هكذا أمرني ربي ) لا يفيد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به وهو يتخرج على
الخلاف المشهور في الأصول هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به أم لا والفرائض لا
تثبت إلا بيقين والحكم على ما لم يفرضه الله بالفرضية كالحكم على ما فرضه بعدمها
لا شك في ذلك لأن كل واحد منهما من التقول على الله بما لم يقل . ولا شك أن الغرفة
الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته ودفع ذلك كما قال بعضهم
بالوجدان مكابرة منه نعم الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته لكن بدون
مجاراة على الحكم بالوجوب
قوله ( الحنك ) هو باطن أعلى الفم والأسفل من طرف مقدم اللحيين
باب تعاهد المأقين وغيرهما من غضون الوجه بزيادة ما
1 -
عن أبي أمامة : ( أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ثلاثا
ثلاثا قال : وكان يتعاهد المأقين )
- رواه أحمد
-
الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة أيضا بلفظ : ( أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال : الأذنان من الرأس وكان يمسح المأقين ) وذكره الحافظ في
التلخيص ولم يذكر له علة ولا ضعفا . وقال في مجمع الزوائد ( 1 ) : رواه الطبراني
في [ ص 187 ] الكبير من طريق سميع عن أبي أمامة وإسناده حسن وسميع ذكره ابن حبان
في الثقات . قال : ولا أدري من هو ولا ابن من هو والظاهر أنه اعتمد في توثيقه على
غيره
قوله ( المأقين ) موق العين مجرى الدمع منها أو مقدمها أو مؤخرها كذا في القاموس
قال الأزهري : أجمع أهل اللغة أن الموق والماق مؤخر العين الذي يلي الأنف انتهى .
والمراد بهما في الحديث مخصر العينين
وذكر المصنف رحمه الله تعالى في التبويب غضون الوجه وهي ما تعطف من الوجه إما
قياسا على الماقين وإما استدلالا بما في الحديث الآتي من قوله ( ثم أخذ بيديه فصك
بهما وجهه ) والأول أظهر . وقد ورد من حديث أخرجه ابن حبان وابن أبي حاتم وغيرهما
بلفظ : ( إذا توضأتم فأشربوا أعينكم من الماء ) وهو من حديث البختري بن عبيد
بالموحدة والمعجمة وقد ضعفوه كلهم فلا يقوم به حجة كذا قاله بعضهم . وفيه أنه ذكر
في الميزان أنه وثقه وكيع وقال ابن عدي : لا أعلم له حديثا منكرا انتهى . لكنه لا
يكون ما تفرد به حجة لوقوع الاختلاف فيه فقد قيل إنه ضعيف وقيل متروك الحديث .
وقال البخاري : يخالف في حديثه على أنه لم ينفرد به البختري فقد رواه ابن طاهر في
صفوة التصوف من طريق ابن أبي السري لكنه قال ابن الصلاح : لم أجد له أنا في جماعة
اعتنوا بالبحث عن حاله أصلا وتبعه النووي
_________
( 1 ) هو كتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للإمام العلامة الشيخ علي بن أبي بكر بن
سليمان الهيثمي المتوفى سنة 807 وهو من نجباء تلاميذ العلامة زين الدين العراقي
شيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني ولم يكن العلامة العراقي يعتمد في شيء من أموره إلا
عليه وزوجه ابنته ورزق منها أولاد وكان عجيبا في الدين والتقوى والورع والزهد .
جمع في هذا الكتاب مؤلفه الزوائد على الصحاح الستة من أربعة كتب قديمة ودواوين للسنة
النبوية العظيمة وهي مسند الإمام أحمد بن حنبل ومسند الحافظ أبي يعلى ومسند الحافظ
البزار والمعاجم الثلاث للطبراني ورتبها ترتيب أبواب الفقه وأوضح بعد ذكر الحديث
ما فيه من الجرح والتعديل حق الإيضاح وبين أنه من الضعاف أو الحسان أو الصحاح نسأل
الله القدير أن يوفق إدارة الطباعة المنيرية إلى نشره وغيره من كتب السنة العظيمة
والله أعلم
2 -
وعن ابن عباس : ( أن عليا رضي الله عنهما قال : يا ابن عباس ألا أتوضأ لك وضوء
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت : بلى فداك أبي وأمي قال : فوضع إناء فغسل
يديه ثم مضمض واستنشق واستنثر ثم أخذ بيديه فصك بهما وجهه وألقم إبهاميه ما أقبل
من أذنيه ثم عاد في مثل ذلك ثلاثا ثم أخذ كفا بيده اليمنى فأفرغها على ناصيته ثم
أرسلها تسيل على وجهه ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم يده الأخرى مثل ذلك
وذكر بقية الوضوء )
- رواه أحمد وأبو داود
-
لعل هذا اللفظ الذي ساقه المصنف رحمه الله لفظ أحمد وساقه أبو داود في سننه بمعناه
. وتمام الحديث : ( ثم مسح رأسه وطهور أذنيه ثم أدخل يديه جميعا فأخذ حفنة من ماء
فضرب بها على رجله وفيها النعل ففتلها بها ثم الأخرى مثل ذلك قال : قلت وفي
النعلين قال : وفي النعلين قال : قلت وفي النعلين قال : وفي النعلين : قال : قلت
وفي النعلين قال : وفي النعلين
وفي رواية لأبي داود ( ومسح برأسه مرة واحدة ) وفي رواية له ( ومسح برأسه ثلاثا )
قال المنذري : في [ ص 188 ] هذا الحديث مقال . وقال الترمذي : سألت محمد بن
إسماعيل عنه فضعفه وقال : ما أدري ما هذا
والحديث يدل على أنه يغسل ما أقبل من الأذنين مع الوجه ويمسح ما أدبر منهما مع
الرأس وإليه ذهب الحسن بن صالح والشعبي وذهب الزهري وداود إلى أنهما من الوجه
فيغسلان معه وذهب من عداهم إلى أنهما من الرأس فيمسحان معه
وفيه أيضا استحباب إرسال غرفة من الماء على الناصية لكن بعد غسل الوجه لا كما
يفعله العامة عقيب الفراغ من الوضوء
وفيه أنه لا يشترط في غسل الرجل نزع النعل وأن الفتل كاف وقد قدمنا عن الحافظ في
باب إيصال الماء إلى باطن اللحية الكثة أن رواية المسح على النعل شاذة لأنها من
طريق هشام بن سعد ولا يحتج بما تفرد به وأبو داود لم يروها من طريقه ولا ذكر المسح
ولكنه رواها من طريق محمد بن إسحاق عنعنة وفيه مقال مشهور إذا عنعن
وقد احتج من قال بتثليث مسح الرأس برواية أبي داود التي ذكرناها واحتج القائل بأنه
يمسح مرة واحدة بإطلاق المسح في حديث الباب وتقييده بالمرة في رواية وسيأتي الكلام
عليه في باب هل يسن تكرار المسح
وقوله ( وألقم إبهاميه ) جعل إبهاميه للبياض الذي بين الأذن والعذار كاللقمة توضع
فيه . واستدل بذلك الماوردي على أن البياض الذي بين الأذن والعذار من الوجه كما هو
مذهب الشافعية . وقال مالك ما بين الأذن واللحية ليس من الوجه . قال ابن عبد البر
: لا أعلم أحدا من علماء الأمصار قال بقول مالك وعن أبي يوسف يجب على الأمرد غسله
دون الملتحي
قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه حجة لمن رأى ما أقبل من الأذنين من الوجه انتهى
وقد تقدم
باب غسل اليدين مع المرفقين وإطالة الغرة
1 -
عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ( هلم أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فغسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضدين ثم مسح برأسه ثم أمر بيديه على
أذنيه ولحيته ثم غسل رجليه )
- رواه الدارقطني
-
الحديث في إسناده ابن إسحاق وقد عنعن
قوله ( هلم ) اسم فعل بمعنى قرب جاء لازما كقوله تعالى { هلم إلينا } ومتعديا
كقوله { هلم شهداءكم } ويستوي فيه عند الحجازيين بين الواحد والمثنى والجمع
والمذكر والمؤنث فيقال هلم يا رجل وهلم يا رجال وهلم يا امرأة وفي لغة بني تميم
يتغير كتغير أمر المخاطب نحو هلما وهلموا وهلمي
قوله ( حتى مس أطراف العضدين ) [ ص 189 ] فيه دليل على وجوب غسل المرفقين وقد
قدمنا طرفا من الكلام عليه في شرح حديث عثمان المتفق عليه
وقوله ( ثم مسح برأسه ) إطلاق المسح يشعر بعدم التكرار وسيأتي الكلام عليه
قوله ( ثم أمر بيديه على أذنيه ) دليل على مشروعية مسح الأذنين وسيأتي له باب في
هذا الكتاب
قوله ( ولحيته ) قد بسطنا البحث فيه في باب استحباب تخليل اللحية
2 -
وعن أبي هريرة : ( أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في
العضد ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد ثم مسح رأسه ثم رجله اليمنى حتى أشرع
في الساق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يتوضأ وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنتم
الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله )
- رواه مسلم
-
قوله ( أشرع في العضد ) وأشرع في الساق معناه أدخل الغسل فيهما قاله النووي
قوله ( أنتم الغر المحجلون ) قال أهل اللغة : الغرة بياض في جبهة الفرس والتحجيل
بياض في يدها ورجلها قال العلماء : سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة
غرة وتحجيلا تشبيها بغرة الفرس
وهذا الحديث وغيره مصرح باستحباب تطويل الغرة والتحجيل . والغرة غسل شيء من مقدم
الرأس أو ما يجاوز الوجه زائدا على الجزء الذي يجب غسله . والتحجيل غسل ما فوق
المرفقين والكعبين وهما مستحبان بلا خلاف واختلف في القدر المستحب على أوجه :
أحدها إنه تستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير تقدير . والثاني إلى نصف
العضد والساق . والثالث إلى المنكب والركبتين
قال النووي : وأحاديث الباب تقتضي هذا كله قال : وأما دعوى الإمام أبي الحسن ابن
بطال المالكي والقاضي عياض اتفاق العلماء على أنه لا يستحب الزيادة فوق المرفق
والكعب فباطلة وكيف يصح دعواهما وقد ثبت فعل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وأبي هريرة وهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا ولو خالف فيه من خالف كان محجوجا
بهذه السنن الصحيحة الصريحة وأما احتجاجهما بقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( من
زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ) فلا يصح لأن المراد زاد في عدد المرات
قال الحافظ في التلخيص : وقد ادعى ابن بطال في شرح البخاري وتبعه القاضي تفرد أبي
[ ص 190 ] هريرة بهذا يعني الغسل إلى الآباط وليس بجيد فقال : قد قال به جماعة من
السلف ومن أصحاب الشافعي وقال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن العمري عن نافع أن ابن
عمر كان ربما بلغ بالوضوء إبطيه . ورواه أبو عبيد بإسناد أصح من هذا فقال حدثنا
عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن نافع
قوله ( فمن استطاع منكم ) تعليق الأمر بإطالة الغرة والتحجيل بالاستطاعة قرينة
قاضية بعدم الوجوب ولهذا لم يذهب إلى إيجابه أحد من الأئمة
قال المصنف رحمه الله تعالى : ويتوجه منه وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله
وهو مجمل فيه وفعله صلى الله عليه وآله وسلم بيان لمجمل الكتاب ومجاوزته للمرفق
ليس في محل الإجمال ليجب بذلك انتهى . وقد أسلفنا الكلام عليه في الكلام على حديث
عثمان في أول أبواب الوضوء
باب تحريك الخاتم وتخليل الأصابع ودلك ما يحتاج إلى دلك
1 -
عن أبي رافع : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه )
- رواه ابن ماجه والدارقطني
- الحديث في إسناده معمر بن محمد بن عبيد الله عن أبيه وهما ضعيفان وقد ذكره البخاري تعليقا عن ابن سيرين ووصله ابن أبي شيبة وهو يدل على مشروعية تحريك الخاتم ليزول ما تحته من الأوساخ . وكذلك ما يشبه الخاتم من الأسورة والحلية ونحوهما
2 -
وعن ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا توضأت فخلل
أصابع يديك ورجليك )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي
3 -
وعن المستورد بن شداد قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ
خلل أصابع رجليه بخنصره )
- رواه الخمسة إلا أحمد
4 -
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فجعل يقول
هكذا يدلك )
- رواه أحمد
-
أما حديث ابن عباس فرواه أيضا الحاكم وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف ولكن حسنه
البخاري لأنه من رواية موسى بن عقبة عن صالح وسماع موسى منه قبل أن يختلط
وأما حديث المستورد بن شداد ففي إسناده ابن لهيعة لكن تابعه الليث بن سعد وعمرو بن
الحارث خرجه البيهقي وأبو بشر الدولابي والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب
عن الثلاثة وصححه ابن القطان
وأما حديث [ ص 191 ] عبد الله بن زيد فهو إحدى روايات حديثه المشهور
وفي الباب من حديث عثمان عند الدارقطني بلفظ : ( أنه خلل أصابع قدميه ثلاثا وقال :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل كما فعلت ) ومن حديث الربيع بنت معوذ
عند الطبراني في الأوسط قال الحافظ : وإسناده ضعيف . ومن حديث عائشة عند الدارقطني
وفيه عمرو بن قيس وهو منكر الحديث . ومن حديث وائل بن حجر عند الطبراني في الكبير
قال الحافظ : وفيه ضعف وانقطاع . ومن حديث لقيط بن صبرة بلفظ : ( إذا توضأت فخلل
الأصابع ) وقد تقدم . ومن حديث ابن مسعود رواه زيد بن أبي الزرقاء بلفظ : ( لينهكن
أحدكم أصابعه قبل أن تنهكه النار ) قال ابن أبي حاتم : رفعه منكر . قال الحافظ :
وهو في جامع الثوري موقوف وكذا في مصنف عبد الرزاق وكذا أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا
. ومن حديث أبي أيوب عند أبي بكر ابن أبي شيبة في المصنف . ومن حديث أبي هريرة عند
الدارقطني بلفظ : ( خللوا بين أصابعكم لا يخللها الله يوم القيامة بالنار ) . ومن
حديث أبي رافع عند أحمد والدارقطني من حديث معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع
قال البخاري : هو منكر الحديث
والأحاديث تدل على مشروعية تخليل أصابع اليدين والرجلين وأحاديث الباب يقوي بعضها
بعضا فتنتهض للوجوب ( 1 ) لا سيما حديث لقيط بن صبرة الذي قدمنا الكلام عليه في
باب المبالغة في الاستنشاق فإنه صححه الترمذي والبغوي وابن القطان
قال ابن سيد الناس : قال أصحابنا من سنن الوضوء تخليل أصابع الرجلين في غسلهما قال
: وهذا إذا كان الماء يصل إليها من غير تخليل فلو كانت الأصابع ملتفة لا يصل الماء
إليها إلا بالتخليل فحينئذ يجب التخليل لا لذاته لكن لأداء فرض الغسل انتهى
والأحاديث قد صرحت بوجوب التخليل وثبتت من قوله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله ولا
فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل وعدمه ولا بين أصابع اليدين والرجلين
فالتقييد بأصابع الرجلين أو بعدم إمكان وصول الماء لا دليل عليه
_________
( 1 ) ما ذهب إليه من الوجوب لا تطمئن النفس إليه بمثل ذلك الحديث مع ما رأيت فيه
من الاضطراب وإنما تطمئن إلى السنية تدبر
باب مسح الرأس كله وصفته وما جاء في مسح بعضه
1 -
عن عبد الله بن زيد : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح [ ص 192 ] رأسه
بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان
الذي بدأ منه )
- رواه الجماعة
-
قوله ( مسح رأسه ) زاد ابن الصباغ كله . وكذا في رواية ابن خزيمة
قوله ( فأقبل بهما وأدبر ) قد اختلف في كيفية الإقبال والإدبار المذكور في الحديث
فقيل يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه ويذهب بهما إلى القفا ثم يردهما إلى المكان
الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر . ويؤيد هذا قوله ( بدأ بمقدم رأسه ) إلا أنه يشكل
على هذه الصفة
قوله ( فأقبل بهما وأدبر ) لأن الواقع فيها بالعكس وهو أنه أدبر بهما وأقبل لأن
الذهاب إلى جهة القفا إدبار . وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب والدليل على ذلك
ما ثبت عند البخاري من رواية عبد الله بن زيد بلفظ : ( فأدبر بيديه وأقبل ) ومخرج
الطريقين متحد فهما بمعنى واحد
وأجيب أيضا بحمل قوله أقبل على البداءة بالقبل وقوله أدبر على البداءة بالدبر
فيكون من تسمية الفعل بابتدائه وهو أحد القولين لأهل الأصول في تسمية الفعل هل
يكون بابتدائه أو بانتهائه قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي . وقد أجيب بغير ذلك
. وقيل يبدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى جهة الوجه ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على قوله
أقبل وأدبر ولكنه يعارضه قوله بدأ بمقدم رأسه . وقيل يبدأ بالناصية ويذهب إلى
ناحية الوجه ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية . وفي
هذه الصفة محافظة على قوله بدأ بمقدم رأسه وعلى قوله أقبل وأدبر فإن الناصية مقدم
الرأس والذهاب إلى ناحية الوجه إقبال
والحديث يدل على مشروعية مسح جميع الرأس وهو مستحب باتفاق العلماء قاله النووي
وعلل ذلك بأنه طريق إلى استيعاب الرأس ووصول الماء إلى جميع شعره
وقد ذهب إلى وجوبه أكثر العترة ومالك والمزني والجبائي وإحدى الروايتين عن أحمد بن
حنبل وابن علية وقال الشافعي : يجزئ مسح بعض الرأس ولم يحده بحد قال ابن سيد الناس
في شرح الترمذي : وهو قول الطبري وقال أبو حنيفة الواجب الربع وقال النووي
والأوزاعي والليث يجزئ مسح بعض الرأس ويمسح المقدم وهو قول أحمد وزيد بن علي
والناصر والباقر والصادق . وأجاز الثوري والشافعي مسح الرأس بإصبع واحدة . واختلفت
الظاهرية فمنهم من أوجب الاستيعاب ومنهم من قال يكفي البعض
احتج الأولون بحديث الباب وحديث أنه مسح برأسه حتى بلغ القذال ( 1 ) عند [ ص 193 ]
أحمد وأبي داود من حديث طلحة بن مصرف ورد بأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب وفي
حديث طلحة بن مصرف مقال سيأتي تحقيقه
قالوا : قال الله تعالى { وامسحوا برؤوسكم } والرأس حقيقة اسم لجميعه والبعض مجاز
ورد بأن الباء للتبعيض . وأجيب بأنه لم يثبت كونها للتبعيض وقد أنكره سيبويه في
خمسة عشر موضعا من كتابه . ورد أيضا بأن الباء تدخل في الآلة والمعلوم أن الآلة لا
يراد استيعابها كمسحت رأسي بالمنديل فلما دخلت الباء في الممسوح كان ذلك الحكم
أعني عدم الاستيعاب في الممسوح أيضا قاله التفتازاني
قالوا : جعله جار الله مطلقا وحكم على المطلق بأنه مجمع وبينه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بالاستيعاب وبيان المجمل الواجب واجب . ورد بأن المطلق ليس بمجمل لصدقه
على الكل والبعض فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا وأيا ما كان وقع به الامتثال
. ولو سلم أنه مجمل لم يتعين مسح الكل لورود البيان بالبعض عند أبي داود من حديث
أنس بلفظ : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه
ولم ينقض العمامة ) . وعند مسلم وأبي داود والترمذي من حديث المغيرة بلفظ : ( أنه
صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة )
قالوا : قال ابن القيم : إنه لم يصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث واحد أنه
اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة قال :
وأما حديث أنس فمقصود أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينقض عمامته حتى
يستوعب مس الشعر كله ولم ينف التكميل على العمامة وقد أثبته حديث المغيرة فسكوت
أنس عنه لا يدل على نفيه . وأيضا قال الحافظ : إن حديث أنس في إسناده نظر . وأجيب
بأن النزاع في الوجوب وأحاديث التعميم وإن كانت أصح وفيها زيادة وهي مقبولة لكن
أين دليل الوجوب وليس إلا مجرد أفعال ورد بأنها وقعت بيانا للمجمل فأفادت الوجوب .
والإنصاف أن الآية ليست من قبيل المجمل وإن زعم ذلك الزمخشري وابن الحاجب في مختصره
والزركشي والحقيقة لا تتوقف على مباشرة آلة الفعل بجميع أجزاء المفعول كما لا
تتوقف في قولك ضربت عمرا على مباشرة الضرب لجميع أجزائه فمسح رأسه يوجد المعنى
الحقيقي بوجود مجرد المسح للكل أو البعض وليس النزاع في مسمى الرأس فيقال هو حقيقة
في جميعه بل النزاع في إيقاع المسح على الرأس والمعنى الحقيقي للإيقاع يوجد بوجود
المباشرة ولو كانت المباشرة الحقيقية لا توجد إلا بمباشرة الحال لجميع المحل لقل
وجود الحقائق في [ ص 194 ] هذا الباب بل يكاد يلحق بالعدم فإنه يستلزم أن نحو ضربت
زيدا أو أبصرت عمرا من المجاز لعدم عموم الضرب والرؤية وقد زعمه ابن جني منه
وأورده مستدلا به على كثرة المجاز
والحاصل أن الوقوع لا يتوقف وجود معناه الحقيقي على وجود المعنى الحقيقي لما وقع
عليه الفعل وهذا هو منشأ الاشتباه والاختلاف فمن نظر إلى جانب ما وقع عليه الفعل
جزم بالمجاز ومن نظر إلى جانب الوقوع جزم بالحقيقة وبعد هذا فلا شك في أولوية
استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه ولكن دون الجزم بالوجوب مفاوز وعقاب ( 2 )
_________
( 1 ) القذال كسحاب جماع مؤخر الرأس ومعقد العذار من الفرس خلف الناصية جمعه قذل
واقذاله اه قاموس
( 2 ) العقاب جمع عقبة مثل رقبة ورقاب والغريب من الشوكاني أن يستظهر وجوب تخليل
الأصابع بما سبق من الأحاديث المضطربة المعلولة ويستبعد وجوب مسح الرأس بظاهر
الآية وبيان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفعل الصحابة وما ورد في بعض الطرق
أنه اقتصر على بعض الرأس في المسح من غير تكميل على العمامة . لا يخلو من مقال
والله الموفق للصواب . والله أعلم
2 -
وعن الربيع بنت معوذ : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ عندها ومسح
برأسه فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته )
- رواه أحمد وأبو داود وفي لفظ : ( مسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره ثم بمقدمه وبأذنيه
كلتيهما ظهورهما وبطونهما ) رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن
-
هذه الروايات مدارها على ابن عقيل وفيه مقال مشهور لا سيما إذا عنعن وقد فعل ذلك
في جميعها
وأخرج هذا الحديث أحمد بلفظ : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ عندها
قالت : فرأيته مسح على رأسه مجاري الشعر ما أقبل منه وما أدبر ومسح صدغيه وأذنيه
ظاهرهما وباطنهما ) وأخرجه بلفظ أحمد أبو داود أيضا في رواية . وأخرجه ابن ماجه
والبيهقي ومدار الكل على ابن عقيل
والرواية الأولى من حديث الباب تدل على أنه مسح مقدم رأسه مسحا مستقلا ومؤخره كذلك
لأن المسح مرة واحدة لا بد فيه من تحريك شعر أحد الجانبين . ووقع في نسخة من
الكتاب مكان فوق فرق . وفي سنن أبي داود ثلاث نسخ هاتان والثالثة قرن
والرواية الثانية من حديث الباب تدل على أن المسح مرتان وسيأتي الكلام عليه في
الباب الذي بعد هذا وتدل على البداءة بمؤخر الرأس وقد تقدم الكلام على الخلاف في
صفته في حديث [ ص 195 ] أول الباب
قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وهذه الرواية محمولة على الرواية بالمعنى عند
من يسمى الفعل بما ينتهي إليه كأنه حمل قوله ما أقبل وما أدبر على الابتداء بمؤخر
الرأس فأداها بمعناها عنده وإن لم يكن كذلك . قال : ذكر معناه ابن العربي ويمكن أن
يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا لبيان الجواز مرة وكانت مواظبته على
البداءة بمقدم الرأس وما كان أكثر مواظبة عليه كان أفضل والبداءة بمؤخر الرأس
محكية عن الحسن بن حي ووكيع بن الجراح
قال أبو عمر ابن عبد البر : قد توهم بعض الناس في حديث عبد الله بن زيد في قوله (
ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ) أنه بدأ بمؤخر الرأس وتوهم غيره أنه بدأ من
وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر وهذه ظنون لا تصح . وقد روي عن ابن عمر أنه كان يبدأ
من وسط رأسه ولا يصح
وأصح حديث في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد . والمشهور المتداول الذي عليه
الجمهور البداءة من مقدم الرأس إلى مؤخره انتهى
قوله ( كل ناحية لمنصب الشعر ) المراد بالناحية جهة مقدم الرأس وجهة مؤخره أي مسح
الشعر من ناحية انصبابه والمنصب بضم الميم وتشديد الباء الموحدة آخره
قوله ( لا يحرك الشعر عن هيئته ) أي التي هو عليها قال ابن رسلان : وهذه الكيفية
مخصوصة بمن له شعر طويل إذا رد يده عليه ليصل الماء إلى أصوله ينتفش ويتضرر صاحبه
بانتفاشه وانتشار بعضه ولا بأس بهذه الكيفية للمحرم فإنه يلزمه الفدية بانتثار
شعره وسقوطه
وروي عن أحمد أنه سئل كيف تمسيح المرأة ومن له شعر طويل كشعرها فقال : إن شاء مسح
كما روي عن الربيع وذكر الحديث ثم قال هكذا ووضع يده على وسط رأسه ثم جرها إلى
مقدمه ثم رفعها فوضعها حيث بدأ منه ثم جرها إلى مؤخره
3 -
وعن أنس قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية
فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة )
- رواه أبو داود
-
الحديث قال الحافظ : في إسناده نظر انتهى . وذلك لأن أبا معقل الراوي عن أنس مجهول
وبقية إسناده رجال الصحيح وأورده المصنف ههنا للاستدلال به على الاكتفاء بمسح بعض
الرأس وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب
قوله ( قطرية ) بكسر القاف وسكون الطاء ويروى بفتحهما وهي نوع من البرود فيها حمرة
. وقيل هي [ ص 196 ] حلل تحمل من البحرين موضع قريب عمان . قال الأزهري : ويقال
لتلك القرية قطر بفتح القاف والطاء فلما دخلت عليها ياء النسبة كسروا القاف وخففوا
الطاء
قوله ( فأدخل يده ) لفظ أبي داود : ( فأدخل يديه ) قال ابن رسلان : وفيه فضيلة مسح
الرأس بالكفين جميعا
قوله ( فمسح مقدم الرأس ) قال ابن حجر : فيه دليل على الاجتزاء بالمسح على الناصية
وقد نقل عن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه وابن عمر مسح اليافوخ
باب هل يسن تكرار مسح الرأس أم لا
1 -
عن أبي حية قال : ( رأيت عليا رضي الله عنه توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم مضمض
ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه مرة ثم غسل قدميه
إلى الكعبين ثم قال : أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم )
- رواه الترمذي وصححه
-
وأخرجه أيضا ابن ماجه وروي عن سلمة بن الأكوع مثله وعن ابن أبي أوفى مثله أيضا
ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بلفظ : ( ومسح برأسه مرة ) قال الحافظ :
وإسناده صالح ورواه أبو علي ابن السكن من حديث رزيق بن حكيم عن رجل من الأنصار
مثله . وأخرجه الطبراني من حديث عثمان مطولا وفيه مسح برأسه مرة واحدة وهو في
الصحيحين مطلق غير مقيد وكذا حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين فإنه أطلق مسح
الرأس ولم يقيده
قال الحافظ : وفي رواية يعني من حديث عبد الله ومسح برأسه مرة واحدة وكذا حديث ابن
عباس الآتي بعد هذا فإنه قيد المسح فيه بمرة واحدة
وأخرج أبو داود من طريق ابن أبي ليلى قال : ( رأيت عليا توضأ ) وفيه ( ومسح برأسه
واحدة ثم قال هكذا توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخرج أيضا من طريق
ابن جريج أن عليا مسح برأسه مرة واحدة وأخرج الترمذي من حديث الربيع بلفظ : ( إنها
رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ قالت : مسح رأسه ما أقبل منه وما
أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة ) وقال : حسن صحيح . وفي تصحيحه نظر فإنه رواه من
طريق ابن عقيل
وروى النسائي من حديث الحسين بن علي عن أبيه أنه مسح برأسه مرة واحدة . ورواه
الإمام أحمد [ ص 197 ] والبيهقي من حديث عبد خير عن علي بلفظ مرة واحدة . ورواه
البيهقي من حديث زر بن حبيش بلفظ : ومسح رأسه حتى لما يقطر الماء . وأخرج النسائي
من حديث عائشة في تعليمها لوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ومسحت
رأسها مسحة واحدة
والحديث يدل على أن السنة في مسح الرأس أن يكون مرة واحدة وقد اختلف في ذلك فذهب
عطاء وأكثر العترة والشافعي إلى أنه يستحب تثليث مسحه كسائر الأعضاء
واستدلوا على ذلك بما في حديث علي وعثمان أنهما مسحا ثلاث مرات وفي كلا الحديثين
مقال :
أما حديث علي فهو عند الدارقطني من طريق عبد خير من رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة
عن خالد بن علقمة عنه وقال : إن أبا حنيفة خالف الحفاظ في ذلك فقال ثلاثا وإنما هو
مرة واحدة . وهو أيضا عند الدارقطني من طريق عبد الملك بن سلع عن عبد خير بلفظ : (
ومسح برأسه وأذنيه ثلاثا ) ومنها عند البيهقي في الخلافيات من طريق أبي حية عن علي
وأخرجه البزار أيضا . ومنها عند البيهقي في السنن من طريق محمد بن علي بن الحسين
عن أبيه عن جده عن علي في صفة الوضوء . وعند الطبراني وفيه عبد العزيز بن عبيد
الله قال الحافظ : وهو ضعيف
وأما حديث عثمان فرواه أبو داود والبزار والدارقطني بلفظ : ( فمسح رأسه ثلاثا )
وفي إسناده عبد الرحمن بن وردان . قال أبو حاتم : ما به بأس . وقال ابن معين :
صالح . وذكره ابن حبان في الثقات وتابعه هشام بن عروة أخرجه البزار وأخرجه أيضا من
طريق عبد الكريم عن حمران وإسناده ضعيف . ورواه أيضا من حديث أبي علقمة مولى ابن
عباس عن عثمان وفيه ضعف . ورواه أبو داود وابن خزيمة والدارقطني من طريق عامر بن
شقيق بلفظ : ( ومسح برأسه ثلاثا قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل
مثل هذا ) وعامر بن شقيق مختلف فيه . ورواه أحمد والدارقطني وابن السكن وفي إسناده
ابن دارة مجهول الحال
ورواه البيهقي من طريق عطاء بن أبي رباح عن عثمان وفيه انقطاع . ورواه الدارقطني
وفيه ابن البيلماني وهو ضعيف جدا عن أبيه وهو أيضا ضعيف . ورواه أيضا بإسناد فيه
إسحاق بن يحيى وليس بالقوي . ورواه البزار عن عثمان بلفظ : ( إن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ) وإسناده حسن وهو عند مسلم والبيهقي من وجه آخر
هكذا بدون تعرض لذكر المسح قال البيهقي : روي من أوجه غريبة عن عثمان وفيها مسح
الرأس ثلاثا إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة [ ص 198 ]
وإن كان بعض أصحابنا يحتج بها . ومثله مقالة أبي داود التي سيذكرها المصنف آخر
الباب
ومال ابن الجوزي في كشف المشكل إلى تصحيح التكرير . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام
: لا نعلم أحدا من السلف جاء عنه استكمال الثلاث في مسح الرأس إلا عن إبراهيم
التيمي قال الحافظ : وقد رواه ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير وعطاء وزاذان وميسرة
وأورده أيضا من طريق أبي العلاء عن قتادة عن أنس قال : وأغرب ما يذكر هنا أن الشيخ
أبا حامد الاسفرايني حكى عن بعضهم أنه أوجب الثلاث وحكاه صاحب الإبانة عن ابن أبي
ليلى
وذهب مجاهد والحسن البصري وأبو حنيفة والمؤيد بالله وأبو نصر من أصحاب الشافعي إلى
أنه لا يستحب تكرار مسح الرأس واحتجوا بما في الصحيحين من حديث عثمان وعبد الله بن
زيد من إطلاق مسح الرأس مع ذكر تثليث غيره من الأعضاء وبحديث الباب وما ذكرناه
بعده من الروايات المصرحة بالمرة الواحدة والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ إلى
درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة فالوقوف على ما صح من
الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهما هو
المتعين لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقة بالمرة الواحدة
وحديث ( من زاد على هذا فقد أساء وظلم ) الذي صححه ابن خزيمة وغيره قاض بالمنع من
الزيادة على الوضوء الذي قال بعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المقالة كيف
وقد ورد في رواية سعيد بن منصور في هذا الحديث التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة ثم
قال من زاد . قال الحافظ في الفتح : ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن
صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس جمعا بين الأدلة
( فائدة ) ورد ذكر مسح الرأس مرتين عند النسائي من رواية عبد الله بن زيد . ومن
حديث الربيع عند الترمذي وأبي داود وفيه المقال الذي تقدم
2 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ
فذكر الحديث كله ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة )
- رواه أحمد وأبو داود
3 - ولأبي داود عن عثمان رضي الله عنه : ( أنه توضأ مثل ذلك وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ )
- الحديث الأول أعله الدارقطني وتعقبه أبو الحسن بن القطان فقال : ما أعله به ليس [ ص 199 ] علة وإنه إما صحيح أو حسن
-
والحديث الثاني قد تقدم الكلام عليه في الذي قبله
قال المصنف رحمه الله : وقد سبق حديث عثمان المتفق عليه بذكر العدد ثلاثا ثلاثا
إلا في الرأس قال أبو داود : أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة
فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا وقالوا فيها ومسح رأسه ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره
انتهى
باب أن الأذنين من الرأس وأنهما تمسحان بمائه
1 - قد سبق في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه ولابن ماجه من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( الأذنان من الرأس )
-
أراد بحديث ابن عباس الحديث قبل هذا الباب بلفظ : ( مسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة )
وفي الباب عن أبي أمامة عند أبي داود والترمذي وابن ماجه قال الحافظ : إنه مدرج
قال الترمذي : وليس إسناده بذلك القائم . وعن عبد الله بن زيد قواه المنذري وابن
دقيق العيد . قال الحافظ : وقد ثبت أنه مدرج . وعن ابن عباس رواه البزار وأعله
الدارقطني بالاضطراب وقال : إنه وهم والصواب أنه مرسل
وعن أبي هريرة عند ابن ماجه وفيه عمرو بن الحصين وهو متروك . وعن أبي موسى عند
الدارقطني واختلف في وقفه وصوب الوقف قال الحافظ : وهو منقطع
وعن ابن عمر عند الدارقطني وأعله أيضا . وعن عائشة عند الدارقطني أيضا وفيه محمد
بن الأزهر وقد كذبه أحمد وعن أنس عند الدارقطني أيضا من طريق عبد الحكم عن أنس وهو
ضعيف
وحديث أبي أمامة وابن عباس أجود ما في الباب قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي :
وأما حديث أنس وابن عمر وأبي موسى وعائشة فواهية
والحديث يدل على أن الأذنين من الرأس فيمسحان معه وهو مذهب الجمهور . ومن العلماء
من قال هما من الوجه . ومنهم من قال المقبل من الوجه والمدبر من الرأس . وقد ذكرنا
نسبة ذلك إلى القائلين به في باب تعاهد المأقين
قال الترمذي : والعمل على هذا يعني كون الأذنين من الرأس عند أكثر أهل العلم من
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعدهم وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد
وإسحاق . واعتذر القائلون بأنهما ليستا من الرأس بضعف الأحاديث التي فيها (
الأذنان من الرأس ) حتى قال ابن الصلاح : إن ضعفها كثير لا ينجبر [ ص 200 ] بكثرة
الطرق ورد بأن حديث ابن عباس قد صرح أبو الحسن بن القطان أن ما أعله به الدارقطني
ليس بعلة وصرح بأنه إما صحيح أو حسن
واختلف في مسح الأذنين هل هو واجب أم لا فذهبت القاسمية وإسحاق بن راهويه وأحمد بن
حنبل إلى أنه واجب وذهب من عداهم إلى عدم الوجوب
واحتجوا بحديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح داخلهما
بالسبابتين وخالف بإبهاميه إلى ظاهرهما فمسح ظاهرهما وباطنهما ) أخرجه النسائي
وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي وصححه ابن خزيمة وابن منده وقال
ابن منده : لا يعرف مسح الأذنين من وجه يثبت إلا من هذه الطريق وبحديث الربيع
وطلحة بن مصرف والصنابحي وأجيب عن ذلك بأنها أفعال لا تدل على الوجوب
قالوا : أحاديث ( الأذنان من الرأس ) بعضها يقوى بعض وقد تضمنت أنهما من الرأس
فيكون الأمر بمسح الرأس أمرا بمسحهما فيثبت وجوبه بالنص القرآني
وأجيب بعدم انتهاض الأحاديث الواردة لذلك والمتيقن الاستحباب فلا يصار إلى الوجوب
إلا بدليل ناهض وإلا كان من التقول على الله بما لم يقل
2 -
وعن الصنابحي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا توضأ العبد المؤمن
فتمضمض خرجت الخطايا من فيه ) وذكر الحديث وفيه ( فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من
رأسه حتى تخرج من أذنيه )
- رواه مالك والنسائي وابن ماجه
-
الحديث رجاله رجال الصحيح وقد ذكرناه في باب غسل ما استرسل من اللحية والكلام على
أطرافه قد سبق هنالك
وقد ساقه المصنف هنا للاستدلال به على أن الأذنين يمسحان مع الرأس قال : فقوله
تخرج من أذنيه إذا مسح رأسه دليل على أن الأذنين داخلتان في مسماه ومن جملته انتهى
وقد اختلف الناس في ذلك وقد تقدم ذكر الخلاف واختلفوا هل يمسحان ببقية ماء الرأس
أو بماء جديد فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والمؤيد بالله إلى أنه يؤخذ لهما
ماء جديد وذهب الهادي والثوري وأبو حنيفة إلى أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد .
قال ابن عبد البر : وروي عن جماعة مثل هذا القول من الصحابة والتابعين
واحتج الأولون بما في حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ( أنه توضأ فمسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به الرأس ) أخرجه الحاكم
من طريق حرملة عن ابن وهب قال الحافظ : إسناده ظاهره الصحة وأخرجه البيهقي من طريق
عثمان الدارمي عن الهيثم بن خارجة عن [ ص 201 ] ابن وهب بلفظ : ( فأخذ لأذنيه ماء
خلاف الماء الذي أخذ لرأسه ) وقال : هذا إسناد صحيح لكن ذكر الشيخ تقي الدين ابن
دقيق العيد في الإمام أنه رأى في رواية ابن المقبري عن ابن قتيبة عن حرملة بهذا
الإسناد ولفظه : ( ومسح برأسه بماء غير فضل يديه ) لم يذكر الأذنين قال الحافظ :
قلت كذا هو في صحيح ابن حبان عن ابن سلم عن حرملة وكذا رواه الترمذي عن علي بن
خشرم عن ابن وهب
وقال عبد الحق : ورد الأمر بتجديد الماء للأذنين من حديث نمران بن جارية عن أبيه
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعقبه ابن القطان بأن الذي في رواية جارية بلفظ
: ( خذ للرأس ماءا جديدا ) رواه البزار والطبراني . وروي في الموطأ عن نافع عن ابن
عمر ( أنه كان إذا توضأ يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه ) وصرح الحافظ في بلوغ المرام
بعد أن ذكر حديث البيهقي السابق أن المحفوظ ما عند مسلم من هذا الوجه بلفظ : (
ومسح برأسه بماء غير فضل يديه ) وأجاب القائلون أنهما يمسحان بماء الرأس بما سلف
من إعلال هذا الحديث قالوا فيوقف على ما ثبت من مسحهما مع الرأس كما في حديث ابن
عباس والربيع وغيرهما . قال ابن القيم في الهدي : لم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماءا
جديدا وإنما صح ذلك عن ابن عمر
باب مسح ظاهر الأذنين وباطنهما
1 -
عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما
وباطنهما )
- رواه الترمذي وصححه . وللنسائي : ( مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالمسبحتين
وظاهرهما بإبهاميه )
-
وصححه ابن خزيمة وابن منده وأخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي بألفاظ مقاربة للفظ
الكتاب قال ابن منده : ولا يعرف مسح الأذن من وجه يثبت إلا من هذه الطريق
قال الحافظ : وكأنه عنى بهذا التفصيل والوصف . وفي المستدرك للحاكم من حديث الربيع
بنت معوذ باللفظ الذي مر في باب مسح الرأس كله . وأخرجه أيضا من حديث أنس مرفوعا
والصواب أنه عن ابن مسعود موقوفا
وأخرج أبو داود والطحاوي من حديث المقدام بن معد يكرب : ( أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم مسح في وضوئه رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل إصبعيه في صماخي
أذنيه ) . قال الحافظ : وإسناده حسن وعزاه النووي تبعا لابن الصلاح إلى النسائي
وهو وهم
وفي الباب عن عثمان عند [ ص 202 ] أحمد والحاكم والدارقطني وعن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده رواه الطحاوي
والحديث يدل على مشروعية مسح الأذنين ظاهرا وباطنا وقد تقدم الخلاف فيه في الباب
الذي قبل هذا ولم يذكر فيه للأذنين ماءا جديدا وبه تمسك من قال يمسحان ببقية ماء
الرأس وقد تقدم الكلام فيه في الحديث الذي قبله
باب مسح الصدغين وأنهما من الرأس
1 -
عن الربيع بنت معوذ قالت : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فمسح
برأسه ومسح ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة )
- رواه أبو داود والترمذي : وقال حديث حسن
-
حديث الربيع قد تقدم الكلام عليه في باب مسح الرأس كله وتقدم أن مدار جميع رواياته
على ابن عقيل وفيه مقال
قوله ( وصدغيه ) الصدغ بضم الصاد المهملة وسكون الدال الموضع الذي بين العين
والأذن والشعر المتدلي على ذلك الموضع
والحديث يدل على مشروعية مسح الصدغ والأذن وأن مسحهما مع الرأس وأنه مرة واحدة وقد
تقدم الكلام على ذلك
باب مسح العنق
1 -
عن ليث بن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده : ( أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق )
- رواه أحمد
-
الحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف . قال ابن حبان : كان يقلب الأسانيد ويرفع
المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم تركه يحيى بن القطان وابن مهدي وابن
معين وأحمد بن حنبل . قال النووي في تهذيب الأسماء : اتفق العلماء على ضعفه
وأخرج الحديث أبو داود وذكر له علة أخرى عن أحمد بن حنبل قال : كان ابن عيينة
ينكره ويقول ايش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده وكذا حكى عثمان الدارمي عن علي
بن المديني وزاد : سألت عبد الرحمن بن مهدي عن اسم جده فقال : عمرو بن كعب أو كعب
بن عمرو وكانت له صحبة
وقال الدوري عن ابن معين : المحدثون يقولون إن جد طلحة رأى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وأهل بيته يقولون [ ص 203 ] ليست له صحبة
وقال الخلال عن أبي داود : سمعت رجلا من ولد طلحة يقول إن لجده صحبة . وقال ابن
أبي حاتم : سألت أبي عنه فلم يثبته وقال إن طلحة هذا يقال إنه رجل من الأنصار
ومنهم من يقول طلحة بن مصرف قال : ولو كان طلحة بن مصرف لم يختلف فيه
وقال ابن القطان : علة الخبر عندي الجهل بحال مصرف بن عمرو والد طلحة وصرح بأنه
طلحة بن مصرف . وكذلك صرح بذلك ابن السكن وابن مردويه في كتاب أولاد المحدثين
ويعقوب بن سفيان في تاريخه وابن أبي خيثمة أيضا وخلق
وفي الباب حديث ( مسح الرقبة أمان من الغل ) قال ابن الصلاح : هذا الخبر غير معروف
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من قول بعض السلف
وقال النووي في شرح المهذب : هذا حديث موضوع ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله
وسلم . وقال في موضع آخر : لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه شيء قال :
وليس هو بسنة بل بدعة
وقال ابن القيم في الهدي : لم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة . وروى القاسم ابن
سلام في كتاب الطهور عن عبد الرحمن بن مهدي عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن
عن موسى بن طلحة قال : من مسح قفاه مع رأسه وقي الغلي يوم القيامة قال الحافظ ابن
حجر في التلخيص : فيحتمل أن يقال هذا وإن كان موقوفا فله حكم الرفع لأن هذا لا
يقال من قبيل الرأي فهو على هذا مرسل انتهى
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان قال : حدثنا محمد بن أحمد حدثنا عبد الرحمن بن
داود حدثنا عثمان بن خرزاد حدثنا عمر بن محمد بن الحسن حدثنا محمد بن عمرو
الأنصاري عن أنس بن سيرين عن ابن عمر أنه كان إذا توضأ مسح عنقه ويقول : ( قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من توضأ ومسح عنقه لم يغل بالأغلال يوم القيامة
) والأنصاري هذا واه . قال الحافظ : قرأت جزءا رواه أبو الحسين ابن فارس بإسناده
عن فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
من توضأ ومسح بيديه على عنقه وقي الغل يوم القيامة ) . وقال : إن شاء الله هذا
حديث صحيح . قلت : بين ابن فارس وفليح مفازة فلينظر فيها انتهى
وهو في كتب أئمة العترة في أمالي أحمد بن عيسى وشرح التجريد بإسناد متصل بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم ولكن فيه الحسين بن علوان عن أبي خالد الواسطي بلفظ : (
من توضأ ومسح سالفتيه وقفاه أمن من الغل يوم القيامة ) وكذا رواه في أصول الأحكام
والشفاء
ورواه في التجريد عن علي عليه [ ص 204 ] السلام من طريق محمد بن الحنفية في حديث
طويل وفيه ( أنه لما مسح رأسه مسح عنقه وقال له بعد فراغه من الطهور افعل كفعالي
هذا ) وبجميع هذا تعلم أن قول النووي مسح الرقبة بدعة وأن حديثه موضوع مجازفة
وأعجب من هذا قوله ولم يذكره الشافعي ولا جمهور الأصحاب وإنما قاله ابن القاص
وطائفة يسيرة فإنه قال الروياني من أصحاب الشافعي في كتابه المعروف بالبحر ما لفظه
: قال أصحابنا هو سنة وتعقب النووي أيضا ابن الرفعة بأن البغوي وهو من أئمة الحديث
قد قال باستحبابه قال : ولا مأخذ لاستحبابه إلا خبر أو أثر لأن هذا لا مجال للقياس
فيه
قال الحافظ : ولعل مستند البغوي في استحباب مسح القفا ما رواه أحمد وأبو داود وذكر
حديث الباب ونسب حديث الباب ابن سيد الناس في شرح الترمذي إلى البيهقي أيضا قال :
وفيه زيادة حسنة وهي مسح العنق . فانظر كيف صرح هذا الحافظ بأن هذه الزيادة
المتضمنة لمسح العنق حسنة ثم قال : قال المقدسي : وليث متكلم فيه وأجاب عن ذلك بأن
مسلما قد أخرج له واختلف القائلون باستحباب مسح الرقبة هل تمسح ببقية ماء الرأس أو
بماء جديد فقال الهادي والقاسم : تمسح ببقية ماء الرأس وقال المؤيد بالله والمنصور
بالله ونسبه في البحر إلى الفريقين : إنها تمسح بماء جديد
باب جواز المسح على العمامة
1 -
عن عمرو بن أمية الضمري قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على
عمامته وخفيه )
- رواه أحمد والبخاري وابن ماجه
2 -
وعن بلال قال : ( مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخفين والخمار )
- رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود . وفي رواية لأحمد : ( أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال : امسحوا على الخفين والخمار )
3 -
وعن المغيرة بن شعبة قال : ( توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومسح على
الخفين والعمامة )
- رواه الترمذي وصححه
-
أخرج حديث المغيرة بن شعبة أيضا مسلم في صحيحه بلفظ : ( فمسح بناصيته وعلى العمامة
وعلى الخفين ) ولم يخرجه البخاري . قال الحافظ : وقد وهم المنذري فعزاه إلى المتفق
عليه وتبع في ذلك ابن الجوزي فوهم وقد تعقبه ابن عبد الهادي وصرح عبد الحق في
الجمع بين الصحيحين أنه من أفراد مسلم وقد أعل حديث عمرو بن أمية [ ص 205 ]
المذكور في الباب بتفرد الأوزاعي بذكر العمامة حتى قال ابن بطال : إنه قال الأصيلي
ذكر العمامة في هذا الباب من خطأ الأوزاعي لأن شيبان وغيره رووه عن يحيى بدونها
فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحد قال : وأما متابعة معمر فليس فيها ذكر
العمامة وهي أيضا مرسلة لأن أبا سلمة لم يسمع من عمرو
قال الحافظ : سماعه منه ممكن فإنه مات بالمدينة سنة ستين وأبو سلمة مدني ولم يوصف
بتدليس وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو وقد أخرجه ابن منده من طريق معمر بإثبات ذكر
العمامة فيه وعلى تقدير تفرد الأوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته لأنها تكون من
ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته فتقبل ولا تكون شاذة ولا معنى لرد الروايات
الصحيحة بهذه التعليلات الواهية . وقد أطال الكلام على ذلك ابن سيد الناس في شرح
الترمذي فليرجع إليه
وفي الباب عن أبي أمامة عند الطبراني بلفظ : ( مسح رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم على الخفين والعمامة في غزوة تبوك )
وعن أبي موسى الأشعري عند الطبراني أيضا بلفظ : ( أتيت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فمسح على الجوربين والنعلين والعمامة ) قال الطبراني : تفرد به عيسى بن سنان
وعن خزيمة بن ثابت عند الطبراني ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمسح على
الخفين والخمار ) وعن أبي طلحة في كتاب مكارم الأخلاق للخرائطي بلفظ : ( مسح رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخمار والخفين ) وقد روي عن جماعة من الصحابة
وفي الباب عن سلمان وثوبان وسيأتي ذلك
وقد اختلف الناس في المسح على العمامة فذهب إلى جوازه الأوزاعي وأحمد بن حنبل
وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وقال الشافعي : إن صح الخبر عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فيه أقول : قال الترمذي : وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم أبو بكر وعمر وأنس ورواه ابن رسلان عن أبي
أمامة وسعد بن مالك وأبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة ومكحول
وروى الخلال بإسناده عن عمر أنه قال : من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره
الله . ورواه في الفتح عن الطبري وابن خزيمة وابن المنذر
واختلفوا هل يحتاج الماسح على العمامة إلى لبسها على طهارة أو لا يحتاج فقال أبو
ثور : لا يمسح على العمامة والخمار إلا من لبسهما على طهارة قياسا على الخفين ولم
يشترط ذلك الباقون وكذلك اختلفوا في التوقيت فقال أبو ثور أيضا : إن وقته كوقت
المسح على الخفين [ ص 206 ] وروي مثل ذلك عن عمر والباقون لم يوقتوا
قال ابن حزم : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على العمامة والخمار ولم يوقت
ذلك بوقت . وفيه أن الطبراني قد روى من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ( كان يمسح على الخفين والعمامة ثلاثا في السفر ويوما وليلة في الحضر )
لكن في إسناده مروان أبو سلمة قال ابن أبي حاتم : ليس بالقوي وقال البخاري : منكر
الحديث وقال الأزدي : ليس بشيء وسئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال : ليس بصحيح
استدل القائلون بجواز المسح على العمامة بما ذكره المصنف وذكرناه في هذا الباب من
الأحاديث . وذهب الجمهور كما قاله الحافظ في الفتح إلى عدم جواز الاقتصار على مسح
العمامة ونسبه المهدي في البحر إلى الكثير من العلماء
قال الترمذي : وقال غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمسح على
العمامة إلا أن يمسح برأسه مع العمامة وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن
المبارك والشافعي وإليه ذهب أيضا أبو حنيفة واحتجوا بأن الله فرض المسح على الرأس
والحديث في العمامة محتمل التأويل فلا يترك المتيقن للمحتمل والمسح على العمامة
ليس بمسح على الرأس ورد بأنه أجزأ المسح على الشعر ولا يسمى رأسا ( فإن قيل ) يسمى
مجازا بعلاقة المجاورة قيل والعمامة كذلك بتلك العلاقة فإنه يقال قبلت رأسه والتقبيل
على العمامة
والحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس فقط وعلى العمامة فقط وعلى الرأس والعمامة
والكل صحيح ثابت فقصر الأجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين
قوله ( والخمار ) هو بكسر الخاء المعجمة النصيف وكل ما ستر شيئا فهو خماره كذا في
القاموس والمراد به هنا العمامة كما صرح بذلك النووي في شرح مسلم قال : لأنها تخمر
الرأس أي تغطيه . ويؤيده الحديث الذي بعد هذا
4 - وعن سلمان : ( أنه رأى رجلا قد أحدث وهو يريد أن يخلع خفيه فأمره سلمان أن يمسح على خفيه وعلى عمامته وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على خفيه وعلى خماره )
5 -
وعن ثوبان : ( قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ ومسح على الخفين
والخمار )
- رواهما أحمد
6 -
وعن ثوبان قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فأصابهم البرد فلما
قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن
يمسحوا على العصائب والتساخين )
- رواه أحمد وأبو داود . العصائب العمائم والتساخين الخفاف
[ ص
207 ] - حديث سلمان أخرجه أيضا الترمذي في العلل ولكنه قال : مكان وعلى خماره وعلى
ناصيته وفي إسناده أبو شريح قال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل عنه ما اسمه فقال
: لا أدري لا أعرف اسمه . وفي إسناده أيضا أبو مسلم مولى زيد بن صوحان وهو مجهول
قال الترمذي : لا أعرف اسمه ولا أعرف له غير هذا الحديث
وأما حديث ثوبان الأول فأخرجه أيضا الحاكم والطبراني . وحديثه الثاني في إسناده
راشد بن سعد عن ثوبان قال الخلال في علله : إن أحمد قال لا ينبغي أن يكون راشد بن
سعد سمع من ثوبان لأنه مات قديما
والأحاديث تدل على أنه يجزئ المسح على العمامة وقد تقدم الكلام عليه
وتدل على جواز المسح على الخف وسيأتي
قوله ( العصائب ) هي العمائم كما قال المصنف وبذلك فسرها أبو عبيد سميت بذلك لأن
الرأس يعصب بها فكل ما عصبت به رأسك من عمامة ومنديل أو عصابة فهو عصابة
قوله ( والتساخين ) بفتح التاء الفوقية والسين المهملة المخففة وبالخاء المعجمة هي
الخفاف كما قال المصنف رحمه الله
قال ابن رسلان : ويقال أصل ذلك كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما ولا واحد
لها من لفظها وقيل واحدها تسخان وتسخين هكذا في كتب اللغة والغريب
باب مسح ما يظهر من الرأس غالبا مع العمامة
1 -
عن المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى
العمامة والخفين )
- متفق عليه
- قد
قدمنا أن البخاري لم يخرجه وأن المنذري وابن الجوزي وهما في ذلك كما قاله الحافظ .
والمصنف قد تبعهما في ذلك فتنبه
وهو يدل على ما ذهب إليه الشافعي ومن معه من أنه لا يجوز الاقتصار على العمامة بل
لا بد مع ذلك من المسح على الناصية وقد تقدم في الباب الأول ذكر الخلاف والأدلة
وما هو الحق
باب غسل الرجلين وبيان أنه الفرض
1 -
عن عبد الله بن عمر قال : ( تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة
فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال : فنادى بأعلى صوته
ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا )
- متفق عليه . أرهقنا العصر خرناها ويروى أرهقتنا العصر بمعنى دنا وقتها
[ ص
208 ] - في الباب أحاديث غير ما ذكره المصنف في هذا الكتاب . منها عن عائشة عند
مسلم وعن معيقيب عند أحمد وقد علل . وقيل : ليس بشيء . وعن خالد بن الوليد ويزيد
بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة . وعمرو بن العاص عند ابن ماجه بلفظ : ( أتموا
الوضوء ويل للأعقاب من النار ) وعن عبد الله بن عمر عند ابن أبي شيبة . وعن أبي
أمامة عن ابن أبي شيبة أيضا . وقد روي من حديث أبي أمامة . ومن حديث أخيه . ومن
حديثهما معا . ومن حديث أحدهما على الشك قاله ابن سيد الناس : وعن عمر بن الخطاب
عند مسلم . وعن أبي ذر الغفاري وفيه أبو أمية وهو ضعيف . وعن خالد بن معدان عند
أحمد
قوله ( في سفرة ) وقع في صحيح مسلم أنها كانت من مكة إلى المدينة
قوله ( أرهقنا ) قال الحافظ : بفتح الهاء والقاف والعصر مرفوع بالفاعلية كذا لأبي
ذر
وفي رواية كريمة بإسكان القاف والعصر منصوب بالمفعولية
ويقوي الأول رواية الأصيلي أرهقتنا بفتح القاف بعدها مثناة ساكنة ومعنى الإرهاق
الإدراك والغشيان قال ابن بطال : كأن الصحابة أخروا الصلاة في أول الوقت طمعا أن
يلحقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيصلوا معه فلما ضاق الوقت بادروا إلى
الوضوء ولعجلتهم لم يسبغوه فأدركهم على ذلك فأنكر عليهم
قوله ( ونمسح على أرجلنا ) انتزع منه البخاري أن الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا
بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل قال الحافظ : وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها
وفي أفراد مسلم ( فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء ) فتمسك بهذا
من يقول بإجزاء المسح ويحمل الإنكار على ترك التعميم لكن الرواية المتفق عليها
أرجح فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل وهو أن معنى قوله ( لم يمسها الماء ) أي
ماء الغسل جمعا بين الروايتين
وأصرح من ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا
لم يغسل عقبه فقال ذلك
قوله ( ويل ) جاز الابتداء بالنكرة لأنها دعاء والويل واد في جهنم رواه ابن حبان
في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعا والعقب مؤخر القدم وهي مؤنثة ويكسر القاف ويسكن
وخص العقب بالعذاب لأنها التي لم تغسل أو أراد صاحب العقب فحذف المضاف
والحديث يدل على وجوب غسل الرجلين وإلى ذلك ذهب الجمهور . قال النووي : اختلف
الناس على مذاهب فذهب جميع الفقهاء من أهل الفتوى في الأعصار والأمصار إلى أن
الواجب غسل القدمين مع الكعبين ولا يجزئ مسحهما ولا يجب المسح مع الغسل ولم يثبت
خلاف هذا عن أحد [ ص 209 ] يعتد به في الإجماع قال الحافظ في الفتح : ولم يثبت عن
أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك
قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
غسل القدمين رواه سعيد بن منصور وادعى الطحاوي وابن حزم أن المسح منسوخ وقالت
الإمامية : الواجب مسحهما وقال محمد بن جرير الطبري والجبائي والحسن البصري : إنه
مخير بين الغسل والمسح . وقال بعض أهل الظاهر : يجب الجمع بين الغسل والمسح
واحتج من لم يوجب غسل الرجلين بقراءة الجر في قوله { وأرجلكم } وهو عطف على قوله {
برؤوسكم } قالوا : وهي قراءة صحيحة سبعية مستفيضة والقول بالعطف على غسل الوجوه
وإنما قرئ بالجر للجواز وقد حكم بجوازه جماعة من أئمة الأعراب كسيبويه والأخفش لا
شك أنه قليل نادر مخالف للظاهر لا يجوز حمل المتنازع فيه عليه
قلنا أوجب الحمل عليه مداومته صلى الله عليه وآله وسلم على غسل الرجلين وعدم ثبوت
المسح عنه من وجه صحيح وتوعده على المسح بقوله ( ويل للأعقاب من النار ) ولأمره
بالغسل كما ثبت في حديث جابر عند الدارقطني بلفظ : ( أمرنا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا ) ولثبوت ذلك من قوله صلى الله
عليه وآله وسلم كما في حديث عمرو بن عبسة وأبي هريرة وقد سلف ذكر طرف من ذلك في
باب غسل المسترسل من اللحية . ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن توضأ وضوءا
غسل فيه قدميه ( فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ) أخرجه أبو داود والنسائي
وابن ماجه وابن خزيمة من طرق صحيحة وصححه ابن خزيمة . ولا شك أن المسح بالنسبة إلى
الغسل نقص وبقوله للأعرابي ( توضأ كما أمرك الله ) ثم ذكر له صفة الوضوء وفيها غسل
الرجلين وبإجماع الصحابة على الغسل فكانت هذه الأمور موجبة لحمل تلك القراءة على
ذلك الوجه النادر قالوا أخرج أبو داود من حديث أوس بن أبي أوس الثقفي : ( أنه رأى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى كظامة قوم فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه )
قلنا في رجال إسناده يعلى بن عطاء عن أبيه وقد أعله ابن القطان بالجهالة في عطاء
وبأن في الرواة من يرويه عن أوس بن أبي أوس عن أبيه فزيادة عن أبيه توجب كون أوس
من التابعين فيحتاج إلى النظر في حاله وأيضا في رجال إسناده هشيم عن يعلى قال أحمد
: لم يسمع هشيم هذا من يعلى مع ما عرف من تدليس هشيم . ويمكن الجواب عن هذه بأنه
قد وثق عطاء [ ص 210 ] هذا أبو حاتم وذكر أوس بن أبي أوس أبو عمر ابن عبد البر في
الصحابة وبأن هشيما قد صرح بالتحديث عن يعلى في رواية سعيد بن منصور فأزال إشكال
عنعنة هشيم ولكن قال أبو عمر في ترجمة أوس بن أبي أوس : وله أحاديث منها في المسح
على القدمين وفي إسناده ضعف فلا يكون الحديث مع هذا حجة لا سيما بعد تصريح أحمد
بعدم سماع هشيم من يعلى
قالوا : أخرج الطبراني عن عباد بن تميم عن أبيه قال : ( رأيت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يتوضأ ويمسح على رجليه ) قلنا : قال أبو عمر : في صحبة تميم هذا
نظر وضعف حديثه المذكور
قالوا : أخرج الدارقطني عن رفاعة بن رافع مرفوعا بلفظ : ( لا تتم صلاة أحدكم )
وفيه ( ويمسح برأسه ورجليه ) قلنا : إن صح فلا ينتهض لمعارضة ما أسلفنا فوجب
تأويله لمثل ما ذكرنا في الآية قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : قال الحازمي
بعد ذكره حديث أوس بن أبي أوس المتقدم من طريق يحيى بن سعيد : لا يعرف هذا الحديث
مجودا متصلا إلا من حديث يعلى
وفيه اختلاف وعلى تقدير ثبوته ذهب بعضهم إلى نسخه ثم أورده من طريق هشيم وفي آخره
قال هشيم : كان هذا في أول الإسلام
وأما الموجبون للمسح وهم الإمامية فلم يأتوا مع مخالفتهم للكتاب والسنة المتواترة
قولا وفعلا بحجة نيرة وجعلوا قراءة النصب عطفا على محل قوله { برؤوسكم } ومنهم من
يجعل الباء الداخلة على الرؤوس زائدة والأصل امسحوا رؤوسكم وأرجلكم وما أدري بماذا
يجيبون عن الأحاديث المتواترة
( فائدة ) قد صرح العلامة الزمخشري في كشافه بالنكتة المقتضية لذكر الغسل والمسح
في الأرجل فقال : هي توقى الإسراف لأن الأرجل مظنة لذلك وذكر غيره غيرها فليطلب
ذلك في مظانه ( 1 )
_________
( 1 ) قال القاضي أبو بكر ابن العربي في تفسير آيات الأحكام : وطريق النظر البديع
أن القراءتين محتملتان وأن اللغة تقتضي بأنهما جائزتان فردهما الصحابة إلى الرأس
مسحا فلما قطع بنا حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووقف في وجوهنا وعيده قلنا
جاءت السنة قاضية بأن النصب يوجب العطف على الوجه واليدين ودخل بينهما مسح الرأس
وإن لم تكن وظيفته كوظيفتهما لأنه مفعول قبل الرجلين لا بعدهما فذكر لبيان الترتيب
لا ليشتركا في صفة التطهير وجاء الخفض ليبين أن الرجلين يمسحان حال الاختيار على
حائل وهما الخفان بخلاف سائر الأعضاء فعطف بالنصب مغسولا على مغسول وعطف بالخفض
ممسوحا على ممسوح وصح المعنى فيه والله أعلم
2 -
وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال :
ويل للأعقاب من النار )
- رواه مسلم
3 -
وعن جابر بن عبد الله قال : ( رأى [ ص 211 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قوما توضئوا ولم يمس أعقابهم الماء فقال : ويل للأعقاب من النار )
- رواه أحمد
4 -
وعن عبد الله بن الحارث قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار )
- رواه أحمد والدارقطني
5 -
وعن جرير بن حازم عن قتادة عن أنس بن مالك : ( أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وقد توضأ وترك على ظهر قدميه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم : ارجع فأحسن وضوءك )
- رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وقال : تفرد به جرير بن حازم عن قتادة وهو ثقة
-
حديث أبو هريرة هو في الصحيحين من حديث محمد بن زياد . ورواه البخاري عن آدم ومسلم
عن قتيبة وابن أبي شيبة . وأخرجاه أيضا من حديث ابن سيرين عنه ورواه ابن ماجه
وغيره
وحديث جابر رواه ابن ماجه أيضا بإسناد رجاله ثقات . وحديث عبد الله بن الحارث رواه
من ذكره المصنف ولم يتكلم عليه أحد بشيء في إسناده وقد قال في مجمع الزوائد : إن
رجاله ثقات
وحديث أنس رواه ابن ماجه أيضا وابن خزيمة إلا إنه قال الحافظ : إن أبا داود رواه
من طريق خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحوه . قال
البيهقي : هو مرسل وكذا قال ابن القطان وفيه بحث
قال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل هذا إسناد جيد قال : نعم فقلت له : إذا قال رجل من
التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمه فالحديث صحيح
قال : نعم وأعله المنذري بأن فيه بقية وقال : عن بجير وهو مدلس . وفي المستدرك
تصريح بقية بالتحديث . وأطلق النووي أن الحديث ضعيف الإسناد . قال الحافظ : وفي هذا
الإطلاق نظر
أما حديث ابن عمر عن أبي بكر وعمر قالا : ( جاء رجل وقد توضأ وبقي على ظهر قدمه
مثل ظفر إبهامه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ارجع فأتم وضوءك ففعل )
فرواه الدارقطني ورواه الطبراني عن أبي بكر وفيه المغيرة ابن صقلاب عن الوازع بن
نافع
قال ابن أبي حاتم عن أبيه : هذا باطل والوزاع ضعيف وذكره العقيلي في الضعفاء في
ترجمة المغيرة وقال : لا يتابعه عليه إلا مثله
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود : ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن الرجل يغتسل من الجنابة فيخطئ بعض جسده فقال : ليغسل ذلك المكان ثم ليصل ) وفي
إسناده عاصم بن عبد العزيز
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بإعادة الوضوء وأعله [ ص 212 ] ابن
أبي حاتم بالإرسال وأصله في صحيح مسلم وأبهم المتوضئ ولفظه : فقال ( ارجع فأحسن
وضوءك ) وهو يدل على وجوب الإعادة إذا ترك غسل مثل ذلك المقدار من مواضع الوضوء
وسيأتي الكلام على ذلك في باب الموالاة
وهذه الأحاديث تدل على وجوب غسل الرجلين وقد تقدم الكلام على ذلك في أول الباب
باب التيمن في الوضوء
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب
التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله )
- متفق عليه
-
الحديث صححه ابن حبان وابن منده وله ألفاظ : ولفظ ابن حبان : ( كان يحب التيامن في
كل شيء حتى في الترجل والانتعال ) وفي لفظ ابن منده : ( كان يحب التيامن في الوضوء
والانتعال ) وفي لفظ لأبي داود : ( كان يحب التيامن ما استطاع في شأنه كله )
وفي الحديث دلالة على مشروعية الابتداء باليمين في لبس النعال وفي ترجيل الشعر أي
تسريحه وفي الطهور فيبدأ بيده اليمنى قبل اليسرى وبرجله اليمنى قبل اليسرى
وبالجانب الأيمن من سائر البدن في الغسل قبل الأيسر . والتيامن سنة في جميع
الأشياء لا يختص بشيء دون شيء كما أشار إلى ذلك الحديث بقوله ( وفي شأنه كله )
وتأكيد الشأن بلفظ كل يدل على التعميم وقد خص من ذلك دخول الخلاء والخروج من
المسجد
قال النووي : قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب
التكريم والتزيين وما كان بضدها استحب فيه التياسر قال : وأجمع العلماء على أن
تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فإنه الفضل وتم وضوءه
قال الحافظ في الفتح : ومراده بالعلماء أهل السنة وإلا فمذهب الشيعة الوجوب وغلط
المرتضى منهم فنسبه للشافعي وكأنه ظن أن ذلك لازم من قوله بوجوب الترتيب لكنه لم
يقل بذلك في اليدين ولا في الرجلين لأنهما بمنزلة العضو الواحد قال : ووقع في
البيان للعمراني نسبة القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة وهو تصحيف من الشيعة
وفي كلام الرافعي ما يوهم أن أحمد قال بوجوبه ولا يعرف ذلك عنه بل قال الشيخ
الموفق في المغني : لا نعلم في عدم الوجوب خلافا
وقد نسبه المهدي في البحر إلى العترة والإمامية واستدل لهم بالحديث الذي بعد هذا
وسنذكر هنالك ما هو الحق
2 -
[ ص 213 ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :
إذا لبستم وإذا توضأتم فابدؤوا بأيامنكم )
- رواه أحمد وأبو داود
-
الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي كلهم من طريق زهير عن
الأعمش عن أبي صالح عنه . قال ابن دقيق العيد : هو حقيق بأن يصح . وللنسائي
والترمذي من حديث أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا لبس قميصا
بدأ بميامنه )
والحديث يدل على وجوب الابتداء باليد اليمنى والرجل اليمنى في الوضوء وقد ذهب إليه
من ذكرنا في الحديث الذي قبل هذا ولكنه كما دل على وجوب التيامن في الوضوء يدل على
وجوبه في اللبس وهم لا يقولون به
وأيضا فقد روى عن علي عليه السلام أنه قال : ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا
أكملت الوضوء رواه الدارقطني قال : جاء رجل إلى علي عليه السلام فسأله عن الوضوء
فقال : أبدأ باليمين أو بالشمال فأضرط به علي أي صوت بفيه مستهزئا بالسائل ثم دعا
بماء وبدأ بالشمال قبل اليمين
وروى البيهقي من هذا الوجه أنه قال : ما أبالي بدأت بالشمال قبل اليمين إذا توضأت
وبهذا اللفظ رواه ابن أبي شيبة
وروى أبو عبيد في الطهور أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه فبلغ ذلك عليا فبدأ
بمياسره . ورواه أحمد بن حنبل عن علي
قال الحافظ : وفيه انقطاع وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا وكلام علي عند أكثر العترة الذاهبين
إلى وجوب الترتيب بين اليدين والرجلين حجة
وحديث عائشة المصرح بمحبة التيمن في أمور قد اتفق على عدم الوجوب في جميعها إلا في
اليدين والرجلين في الوضوء وكذلك حديث الباب المقترن بالتيامن في اللبس المجمع على
عدم وجوبه صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب
ودلالة الاقتران وإن كانت ضعيفة لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لا سيما مع
اعتضادها بقول علي عليه السلام وفعله وبدعوى الإجماع على عدم الوجوب
باب الوضوء مرة ومرتين وثلاثا وكراهة ما جاوزها
1 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة
مرة )
- رواه الجماعة إلا مسلما
- في
الباب أحاديث عن عمر وجابر وبريدة وأبي رافع وابن الفاكه وعبد الله بن عمر وعكراش
بن ذؤيب المري
فحديث عمر عند الترمذي وقال : ليس بشيء ورواه أيضا [ ص 214 ] ابن ماجه . وحديث
جابر أشار إليه الترمذي . وحديث بريدة عند البزار . وحديث أبي رافع عند البزار
أيضا . وحديث ابن الفاكه في معجمه وفيه عدي بن الفضل وهو متروك . وحديث عبد الله
بن عمر أخرجه البزار . وحديث عكراش ذكره أبو بكر الخطيب
والحديث يدل على أن الواجب من الوضوء مرة ولهذا اقتصر عليه النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ولو كان الواجب مرتين أو ثلاثا لما اقتصر على مرة . قال الشيخ محي الدين
النووي : وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاث
سنة وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا وبعض
الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين والاختلاف دليل على جواز ذلك كله وأن الثلاث هي الكمال
والواحدة تجزئ ( 1 )
_________
( 1 ) قال القاضي أبو بكر ابن العربي : ظن بعض الناس بل كلهم أن الواحدة فرض
والثانية فضل والثالثة مثلها والرابعة تعد وليس كما زعموا وإن كثروا . وإنما رأى
الراوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غرف لكل عضو مرة فقال : توضأ مرة وهذا
صحيح صورة ومعنى ضررة أنا نعلم قطعا أنه لو لم يوعب العضو بمرة لأعاد وأما إذا زاد
على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإنا لا نتحقق أنه أوعب الفرض في الغرفة
الواحدة وجاء ما بعدها فضلا أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنتين حتى زاد عليها
بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة وتأتي حضور التلطف في إدارة الماء القليل
والكثير عليها فيشبه والله أعلم
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يوسع على أمته بأن يكرر لهم الفعل فإن
أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة . ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرة ولا
مرتين ولا ثلاثا إلا ما أسبغ
قال : وقد اختلفت الآثار في التوقيت يريد اختلافا يبين أن المراد معنى الإسباغ لا
صورة الأعداد وقد توضأ صلى الله عليه وآله وسلم فغسل وجهه بثلاث غرفات ويديه
بغرفتين لأن الوجه ذو غضون ودحرجة واحد يدأب فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب من
مرة بخلاف الذراع فإنه مسطح إلى أن قال : ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث لأن الغرفة
الأولى تسن العضو للماء وتذهب عنه شعث التصرف والثانية ترحض وضر العضو وتدحض وهجه
والثالثة تنظفه فإن قصرت دربة أحد عن هذا كان بدويا جافيا فنعلمه الرفق حتى يتعلم
ولهذا قال من قال فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم والله أعلم
2 -
وعن عبد الله بن زيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ مرتين مرتين )
- رواه أحمد والبخاري
- في
الباب عن أبي هريرة وجابر :
أما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود والترمذي وقال : حسن غريب وفيه عبد الله بن
المفضل وقد روى له الجماعة ولكنه تفرد عنه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ومن أجله
كان حسنا . قال أبو داود : لا بأس به [ ص 215 ] وكان على المظالم ببغداد وقال علي
ابن المديني : لا بأس به . وكذلك قال أحمد وأبو زرعة . وقال أبو حاتم : يشوبه شيء
من القدر وتغير عقله في آخر حياته وهو مستقيم الحديث . وقال النسائي : ليس بالقوي
. وقال يحيى : مرة ضعيف ومرة لا بأس به وفيه كلام طويل
وأما حديث جابر فأشار إليه الترمذي
والحديث يدل على أن التوضىء مرتين يجوز ويجزئ ولا خلاف في ذلك
3 -
وعن عثمان رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا )
- رواه أحمد ومسلم
-
الحديث أخرجه بهذا اللفظ الترمذي وقال : هو أحسن شيء في الباب . وأبو داود
والنسائي وابن ماجه من حديث علي عليه السلام
وفي الباب عن الربيع وابن عمرو وأبي أمامة وعائشة وأبي رافع وعبد الله بن عمرو
ومعاوية وأبي هريرة وجابر وعبد الله بن زيد وأبي . وقد بوب البخاري للوضوء ثلاثا
وذكر حديث عثمان الذي شرحناه في أول باب الوضوء وقد قدمنا أن التثليث سنة بالإجماع
4 -
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا وقال : هذا الوضوء فمن زاد على هذا
فقد أساء وتعدى وظلم )
- رواه أحمد والنسائي وابن ماجه
-
الحديث أخرجه أيضا أبو داود وابن خزيمة . قال الحافظ : من طرق صحيحة وصرح في الفتح
أنه صححه ابن خزيمة وغيره وهو في رواية أبي داود بلفظ : ( فمن زاد على هذا أو نقص
فقد أساء وظلم ) بدون ذكر تعدى . وفي النسائي بدون نقص وهو من رواية عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده وفيه مقال عند المحدثين ولم يتعرض له من تكلم على هذا الحديث
وفي الحديث دليل على أن مجاوزة الثلاث الغسلات من الاعتداء في الطهور . وقد أخرج
أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن مغفل أنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول : إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء وأن
فاعله مسيء وظالم ) أي أساء بترك الأولى وتعدى حد السنة . وظلم أي وضع الشيء في
غير موضعه . وقد أشكل ما في رواية أبي داود من زيادة لفظ أو نقص على جماعة
قال الحافظ في التلخيص : ( تنبيه ) يجوز أن تكون الإساءة والظلم وغيرهما مما ذكر
مجموعا لمن نقص ولمن زاد ويجوز [ ص 216 ] أن يكون على التوزيع فالإساءة في النقص
والظلم في الزيادة وهذا أشبه بالقواعد والأول أشبه بظاهر السياق والله أعلم انتهى
ويمكن توجيه الظلم في النقصان بأنه ظلم نفسه بما فوتها من الثواب الذي يحصل
بالتثليث . وكذلك الإساءة لأن تارك السنة مسيء . وأما الاعتداء في النقصان فمشكل
فلا بد من توجيهه إلى الزيادة ولهذا لم يجتمع ذكر الاعتداء والنقصان في شيء من
روايات الحديث
ولا خلاف في كراهة الزيادة على الثلاث . قال ابن المبارك : لا آمن إذا زاد في
الوضوء على الثلاث أن يأثم . وقال أحمد وإسحاق : لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى
باب ما يقول إذا فرغ من وضوئه
1 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وأشهد أن محمد عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء
)
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود . ولأحمد وأبي داود في رواية ( من توضأ فأحسن الوضوء
ثم رفع نظره إلى السماء فقال ) وساق الحديث
-
رواية أحمد وأبي داود في إسنادها رجل مجهول . والحديث أخرجه أيضا الترمذي بزيادة (
اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ) لكن قال الترمذي : وفي إسناده
اضطراب ولا يصح فيه كثير شيء
قال الحافظ : لكن رواية مسلم سالمة عن هذا الاعتراض والزيادة التي عند الترمذي
رواها البزار والطبراني في الأوسط وأخرج الحديث أيضا ابن حبان
وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس وزاد النسائي في عمل اليوم والليلة بعد قوله ( من
المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك )
والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد وزاد ( كتبت في رق ثم طبع بطابع فلم يكسر
إلى يوم القيامة ) واختلف في رفعه ووقفه وصحح النسائي الموقوف وضعف الحازمي
الرواية المرفوعة لأن الطبراني قال في الأوسط : لم يرفعه عن شعبة إلا يحيى بن كثير
قال الحافظ : ورواه أبو إسحاق المزكي في الجزء الثاني من تخريج الدارقطني له من
طريق روح بن القاسم عن شعبة وقال : تفرد به عيسى بن شعيب عن روح بن القاسم ورجح
الدارقطني في العلل الرواية الموقوفة . قال النووي في الأذكار : [ ص 217 ] حديث
أبي سعيد هذا ضعيف الإسناد موقوفا ومرفوعا . قال الحافظ : أما المرفوع فيمكن أن
يضعف بالاختلاف والشذوذ وأما الموقوف فلا شك ولا ريب في صحته ورجاله من رجال
الصحيحين فلا معنى لحكمه عليه بالضعف
والحديث يدل على استحباب الدعاء المذكور ولم يصح من أحاديث الدعاء في الوضوء غيره
وأما ما ذكره أصحابنا والشافعية في كتبهم من الدعاء عند كل عضو كقولهم يقال عند
غسل الوجه اللهم بيض وجهي الخ فقال الرافعي وغيره : ورد بهذه الدعوات الأثر عن
الصالحين
وقال النووي في الروضة : هذا الدعاء لا أصل له . وقال ابن الصلاح : لا يصح فيه
حديث . وقال الحافظ : روي فيه من طرق ثلاث عن علي ضعيفة جدا أوردها المستغفري في
الدعوات وابن عساكر في أماليه وهو من رواية أحمد بن مصعب المروزي عن حبيب بن أبي
حبيب الشيباني عن أبي إسحاق السبيعي عن علي
وفي إسناده من لا يعرف ورواه صاحب مسند الفردوس من طريق أبي زرعة الراوي عن أحمد
بن عبد الله بن داود وساقه بإسناده إلى علي . ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث
أنس نحو هذا وفيه عباد بن صهيب وهو متروك . ورواه المستغفري أيضا من حديث البراء
بن عازب وأنس بطوله وإسناده واه ولكنه وثق عبادا يحيى بن معين ونفى عنه الكذب أحمد
بن حنبل وصدقه أبو داود وتركه الباقون
قال ابن القيم في الهدي : ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئا غير التسمية
وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق لم يقل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم شيئا منه ولا علمه لأمته ولا يثبت عنه غير التسمية في أوله وقوله
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني
من التوابين واجعلني من المتطهرين في آخره
باب الموالاة في الوضوء
1 -
عن خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي في ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء
فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعيد الوضوء )
- رواه أحمد وأبو داود وزاد والصلاة قال الأثرم : قلت لأحمد هذا إسناده جيد قال
جيد
2 -
وعن عمر بن الخطاب : ( أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله
[ ص 218 ] عليه وآله وسلم فقال : ارجع فأحسن وضوءك قال : فرجع فتوضأ ثم صلى )
- رواه أحمد ومسلم ولم يذكر فتوضأ
-
الحديث الأول أعله المنذري ببقية بن الوليد وقال عن بجير وهو ضعيف إذا عنعن
لتدليسه . وفي المستدرك تصريح بقية بالتحديث وقال ابن القطان والبيهقي : هو مرسل .
وقال الحافظ : فيه بحث وكأن البحث في ذلك من جهة أن خالد بن معدان لم يرسله بل قال
عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوصله وجهالة الصحابي غير قادحة وتمام
كلام الأثرم وبقية الكلام على الحديث أسلفناها في باب غسل الرجلين
وحديث عمر قد قدمنا الكلام عليه في ذلك الباب أيضا
وفي الباب عن أنس مرفوعا عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وابن خزيمة والدارقطني وقد
تقدم لفظه هنالك أيضا
والحديث الأول يدل على وجوب إعادة الوضوء من أوله على من ترك من غسل أعضائه مثل ذلك
المقدار
والحديث الثاني لا يدل على وجوب الإعادة لأنه أمره فيه بالإحسان لا بالإعادة
والإحسان يحصل بمجرد إسباغ غسل ذلك العضو . وكذلك حديث أنس لم يأمر فيه بسوى
الإحسان
فالحديث الأول يدل على مذهب من قال بوجوب الموالاة لأن الأمر بالإعادة للوضوء
كاملا للإخلال بها بترك اللمعة وهو الأوزاعي ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قول
له
والحديث الثاني وحديث أنس السابق يدلان على مذهب من قال بعدم الوجوب وهم العترة
وأبو حنيفة والشافعي في قول له والتمسك لوجوب الموالاة بحديث ابن عمر وأبي بن كعب
أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( توضأ على الولاء وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة
إلا به ) أظهر من التمسك بما ذكره المصنف في الباب لولا أنه غير صالح للاحتجاج كما
عرفناك في شرح حديث عثمان لا سيما زيادة قوله ( لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وقد
روي بلفظ : ( هذا الذي افترض الله عليكم ) بعد أن توضأ مرة ولكنه قال ابن أبي حاتم
: سألت أبا زرعة عن هذا الحديث فقال : حديث واه منكر ضعيف وقال مرة لا أصل له
وامتنع من قراءته . ورواه الدارقطني في غرائب مالك
قال الحافظ : ولم يروه مالك قط وروي بلفظ : ( هذا وضوء لا يقبل الله غيره ) أخرجه
ابن السكن في صحيحه من حديث أنس . وقد أجيب عن الحديث على تسليم صلاحيته للاحتجاج
بأن الإشارة هي إلى ذات الفعل مجردة عن الهيئة والزمان وإلا لزم وجوبهما ولم يقل
به أحد
باب جواز المعاونة في الوضوء . [ ص 219 ]
1 -
عن المغيرة بن شعبة : ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر وأنه
ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه
ومسح على الخفين )
- أخرجاه
-
الحديث اتفقا عليه بلفظ : ( كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فقال لي
: يا مغيرة خذ الإدواة فأخذتها ثم خرجت معه وانطلق حتى توارى عني حتى قضى حاجته ثم
جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فذهب يخرج يده من كمها فضاق فأخرج يده من أسفلها
فصببت عليه فتوضأ وضوؤه للصلاة ثم مسح على خفيه )
الحديث يدل على جواز الاستعانة بالغير في الوضوء وقد قال بكراهتها العترة والفقهاء
قال في البحر : والصب جائز إجماعا إذ صبوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتوضأ
وقال الغزالي وغيره من أصحاب الشافعي : إنه إنما استعان به لأجل ضيق الكمين وأنكره
ابن الصلاح وقال : الحديث يدل على الاستعانة مطلقا لأنه غسل وجهه أيضا وهو يصب
عليه
وذكر بعض الفقهاء أن الاستعانة كانت بالسفر فأراد أن لا يتأخر عن الرفقة قال
الحافظ في التلخيص : وفيه نظر . واستدل من قال بكراهة الاستعانة بقوله صلى الله
عليه وآله وسلم لعمر وقد بادر ليصب الماء على يديه : ( أنا لا أستعين في وضوئي
بأحد ) قال النووي في شرح المهذب : هذا حديث باطل لا أصل له . وقد أخرجه البزار
وأبو يعلى في مسنده من طريق النضر بن منصور عن أبي الجنوب عقبة بن علقمة والنضر
ضعيف مجهول لا يحتج به
قال عثمان الدارمي : قلت لابن معين : النضر بن منصور عن أبي الجنوب وعنه ابن أبي
معشر تعرفه قال : هؤلاء حمالة الحطب
واستدلوا أيضا بحديث ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا
يكل طهوره إلى أحد ) أخرجه ابن ماجه والدارقطني وفيه مطهر بن الهيثم وهو ضعيف
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم استعان بأسامة بن زيد في صب الماء على يديه
في الصحيحين وأنه استعان بالربيع بنت معوذ في صب الماء على يديه أخرجه الدارمي
وابن ماجه وأبو مسلم الكجي من حديثها وعزاه ابن الصلاح إلى أبي داود والترمذي
قال الحافظ : وليس في رواية أبي داود إلا أنها أحضرت له الماء حسب وأما الترمذي
فلم يتعرض فيه للماء بالكلية نعم في المستدرك أنها صبت على [ ص 220 ] رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم الماء فتوضأ وقال لها : اسكبي فسكبت
وروى ابن ماجه عن أم عياش أنها قالت : ( كنت أوضئ رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وأنا قائمة وهو قاعد ) قال الحافظ : وإسناده ضعيف
واستعان في الصب بصفوان بن عسال وسيأتي وغاية ما في هذه الأحاديث الاستعانة بالغير
على صب الماء وقد عرفت أنه مجمع على جوازه وأنه لا كراهية فيه إنما النزاع في
الاستعانة بالغير على غسل أعضاء الوضوء والأحاديث التي فيها ذكر عدم الاستعانة لا
شك في ضعفها ولكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه وكل غسل أعضاء
وضوئه إلى أحد وكذلك لم يأت من أقواله ما يدل على جواز ذلك بل فيها أمر المعلمين
بأن يغسلوا وكل أحد منا مأمور بالوضوء فمن قال : إنه يجزئ عن المكلف نيابة غيره في
هذا الواجب فعليه الدليل . فالظاهر ما ذهبت إليه الظاهرية من عدم الإجزاء وليس
المطلوب مجرد الأثر كما قال بعضهم بل ملاحظة التأثير في الأمور التكليفية أمر لا
بد منه لأن تعلق الطلب لشيء بذات قاض بلزوم إيجادها له وقيامه بها لغة وشرعا إلا
لدليل يدل على عدم اللزوم فما وجد ذلك مخالفا لهذه الكلية فلذلك
2 -
وعن صفوان بن عسال قال : ( صببت الماء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السفر
والحضر في الوضوء )
- رواه ابن ماجه
- الحديث أخرجه البخاري في التاريخ الكبير قال الحافظ : وفيه ضعف قلت : ولعل وجه الضعف كونه في إسناده حذيفة بن أبي حذيفة . وهو يدل على جواز الاستعانة بالغير في الصب وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله
باب المنديل بعد الوضوء والغسل
1 -
عن قيس بن سعد قال : ( زارنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزلنا فأمر له
سعد بغسل فوضع له فاغتسل ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها )
- رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود
-
الحديث تمامه : ( فالتحف بها حتى رؤي أثر الورس على عكنه ) ولفظ ابن ماجه : (
فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه )
وأخرجه أيضا النسائي في عمل اليوم والليلة قال الحافظ : واختلف في وصله وإرساله
ورجال إسناد أبي داود رجال الصحيح وصرح [ ص 221 ] فيه الوليد بالسماع ومع ذلك
فذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف
والحديث يدل على عدم كراهة التنشيف وقد قال بذلك الحسن بن علي وأنس وعثمان والثوري
ومالك وتمسكوا بالحديث . وقال عمرو ابن أبي ليلى والإمام يحيى والهادوية يكره
واستدلوا بما رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ عن أنس ( أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لم يكن يمسح وجهه بالمنديل بعد الوضوء ولا أبو بكر ولا عمر ولا علي
ولا ابن مسعود قال الحافظ : وإسناده ضعيف
وفي الترمذي ما يعارضه من حديث عائشة : ( قالت كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
خرقة ينشف بها بعد الوضوء ) وفيه أبو معاذ وهو ضعيف
وقال الترمذي : بعد أن روى الحديث ليس بالقائم ولا يصح فيه شيء . وأخرجه الحاكم
وأخرج الترمذي من حديث معاذ ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ
مسح وجهه بطرف ثوبه ) قال الحافظ : وإسناده ضعيف
وفي الباب عن سلمان أخرجه ابن ماجه قال ابن أبي حاتم : وروي عن أنس ولا يحتمل أن
يكون مسندا ورواه البيهقي عن أنس عن أبي بكر وقال : المحفوظ المرسل
وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على أنس والخطيب مرفوعا كلاهما من طريق ليث عن زريق عن
أنس . وفي الباب حديث ( إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم فإنها مرواح الشيطان ) ذكره
ابن أبي حاتم في كتاب العلل من حديث البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة وزاد في
أوله ( إذا توضأتم فأشربوا أعينكم من الماء ) ورواه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة
البختري بن عبيد وقال : لا يحل الاحتجاج به ولم ينفرد به البختري فقد رواه ابن
طاهر في صفوة التصوف من طريق ابن أبي السري
وقال ابن الصلاح : لم أجد له أنا في جماعة اعتنوا بالبحث عن حاله أصلا وتبعه
النووي
قوله ( بغسل ) بضم الغين اسم للماء الذي يغتسل به ذكره في النهاية
قوله ( ملحفة ) بكسر الميم
أبواب المسح على الخفين
باب في شرعيته
1 -
عن جرير : ( أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له تفعل هكذا قال نعم رأيت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه ) . قال إبراهيم : فكان
يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة
- متفق عليه
[ ص
222 ] - ورواه أبو داود وزاد : فقال جرير لما سئل هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها
ما أسلمت إلا بعد المائدة . وكذلك رواه الترمذي من طريق شهر بن حوشب قال : فقلت له
أقبل المائدة أم بعدها فقال جرير : ما أسلمت إلا بعد المائدة . وعند الطبراني من
رواية محمد بن سيرين عن جرير أنه كان في حجة الوداع قال الترمذي : هذا حديث مفسر
لأن بعض من أنكر المسح على الخفين تأول مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على
الخفين أنه كان قبل نزول آية الوضوء التي في المائدة فيكون منسوخا
والحديث يدل على مشروعية المسح على الخفين وقد نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال
: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف لأن كل من روى عنه منهم إنكاره فقد
روى عنه إثباته
وقال ابن عبد البر : لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك مع
أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك
على المالكية والمعروف المستقر عندهم الآن قولان الجواز مطلقا ثانيهما للمسافر دون
المقيم
وعن ابن نافع في المبسوطة أن مالكا إنما كان يتوقف فيه في خاصة نفسه مع إفتائه
بالجواز . قال ابن المنذر : اختلف العلماء أيهما أفضل المسح على الخفين أو نزعهما
وغسل القدمين والذي أختاره أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج
والروافض قال : وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه انتهى
قال النووي في شرح مسلم : وقد روي المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة قال
الحسن : حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم كان يمسح على الخفين أخرجه عنه ابن أبي شيبة قال الحافظ في
الفتح : وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر وجمع بعضهم رواته
فجاوزوا الثمانين منهم العشرة
وقال الإمام أحمد : فيه أربعون حديثا عن الصحابة مرفوعة وقال ابن أبي حاتم : فيه
عن أحد وأربعين . وقال ابن عبد البر في الاستذكار : روي عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم المسح على الخفين نحو أربعين من الصحابة . وذكر أبو القاسم ابن منده
أسماء من رواه في تذكرته فكانوا ثمانين صحابيا . وذكر الترمذي والبيهقي في سننهما
منهم جماعة
وقد نسب القول بمسح الخفين إلى جميع الصحابة كما تقدم عن ابن المبارك وما روي عن
عائشة وابن عباس وأبي هريرة من إنكار المسح فقال ابن عبد البر : لا يثبت قال أحمد
: لا يصح حديث أبي هريرة في إنكار المسح وهو باطل . وقد روى الدارقطني عن عائشة [
ص 223 ] القول بالمسح وما أخرجه ابن أبي شيبة عن علي أنه قال : سبق الكتاب الخفين
فهو منقطع
وقد روى عنه مسلم والنسائي القول به بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وما روي عن عائشة أنها قالت : لأن أقطع رجلي أحب إلي من أن أمسح عليهما ففيه محمد
بن مهاجر قال ابن حبان : كان يضع الحديث
وأما القصة التي ساقها الأمير الحسين في الشفاء وفيها المراجعة الطويلة بين علي
وعمر واستشهاد على الاثنين وعشرين من الصحابة فشهدوا بأن المسح كان قبل المائدة
فقال ابن بهران : لم أر هذه القصة في شيء من كتب الحديث
ويدل لعدم صحتها عند أئمتنا أن الإمام المهدي نسب القول بمسح الخفين في البحر إلى
علي عليه السلام . وذهبت العترة جميعا والإمامية والخوارج وأبو بكر بن داود
الظاهري إلى أنه لا يجزئ المسح عن غسل الرجلين واستدلوا بآية المائدة وبقوله صلى
الله عليه وآله وسلم لمن علمه : ( واغسل رجلك ) ولم يذكر المسح وقوله بعد غسلهما :
( لا يقبل الله الصلاة من دونه ) وقوله : ( ويل للأعقاب من النار ) قالوا :
والأخبار بمسح الخفين منسوخة بالمائدة . وأجيب عن ذلك أما الآية فقد ثبت عنه صلى
الله عليه وآله وسلم المسح بعدها كما في حديث جرير المذكور في الباب
وأما حديث ( واغسل رجلك ) فغاية ما فيه الأمر بالغسل وليس فيه ما يشعر بالقصر ولو
سلم وجود ما يدل على ذلك لكان مخصصا بأحاديث المسح المتواترة
وأما حديث لا يقبل الله الصلاة بدونه فلا ينتهض للاحتجاج به فكيف يصلح لمعارضة
الأحاديث المتواترة مع أنا لم نجده بهذا اللفظ من وجه يعتد به
وأما حديث ( ويل للأعقاب من النار ) فهو وعيد لمن مسح رجليه ولم يغسلهما ولم يرد
في مسح الخفين
( فإن قلت ) هو عام فلا يقصر على السبب قلت لا نسلم شموله لمن مسح على الخفين فإنه
يدع رجله كلها ولا يدع العقب فقط
سلمنا فأحاديث المسح على الخفين مخصصة للماسح من ذلك الوعيد . وأما دعوى النسخ
فالجواب أن الآية عامة مطلقة باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه فتكون أحاديث الخفين
مخصصة أو مقيدة فلا نسخ . وقد تقرر في الأصول رجحان القول ببناء العام على الخاص
مطلقا . وأما من يذهب إلى أن العام المتأخر ناسخ فلا يتم له ذلك إلا بعد تصحيح
تأخر الآية وعدم وقوع المسح بعدها
وحديث جرير نص من موضع النزاع والقدح في جرير بأنه فارق عليا ممنوع فإنه لم يفارقه
وإنما احتبس عنه بعد إرساله إلى معاوية لأعذار علي أنه قد نقل الإمام الحافظ محمد
بن إبراهيم الوزير الإجماع على قبول [ ص 224 ] رواية فاسق التأويل في عواصمه
وقواصمه ( 1 ) من عشر طرق ونقل الإجماع أيضا من طرق أكابر أئمة الآل وأتباعهم على
قبول رواية الصحابة قبل الفتنة وبعدها فالاسترواح إلى الخلوص عن أحاديث المسح
بالقدح في ذلك الصحابي الجليل بذلك الأمر مما لم يقل به أحد من العترة وأتباعهم
وسائر علماء الإسلام
وصرح الحافظ في الفتح بأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع وحديث المغيرة الذي
تقدم وسيأتي كان في غزوة تبوك وتبوك متأخرة بالاتفاق
وقد صرح أبو داود في سننه بأن حديث المغيرة في غزوة تبوك وقد ذكر البزار أن حديث
المغيرة هذا رواه عنه ستون رجلا
واعلم أن في المقام مانعا من دعوى النسخ لم يتنبه له أحد فيما علمت وهو أن الوضوء
ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق فإن كان المسح على الخفين ثابتا قبل نزولها
فورودها بتقرير أحد الأمرين أعني الغسل مع عدم التعرض للآخر وهو المسح لا يوجب نسخ
المسح على الخفين لا سيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله في الآية
( وأرجلكم ) مراد بها مسح الخفين وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ
بالقطع
نعم يمكن أن يقال على التقدير الأول أن الأمر بالغسل نهي عن ضده والمسح على الخفين
من أضداد الغسل المأمور به لكن كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده محل نزاع واختلاف
وكذلك كون المسح على الخفين ضدا للغسل وما كان بهذه المثابة حقيق بأن لا يعول عليه
لا سيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة
والعقبة الكؤود في هذه المسألة نسبة القول بعدم إجزاء المسح على الخفين إلى جميع
العترة المطهرة كما فعله الإمام المهدي في البحر ولكنه يهون الخطب بأن إمامهم
وسيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من القائلين بالمسح على الخفين وأيضا هو
إجماع ظني وقد صرح جماعة من الأئمة منهم الإمام يحيى بن حمزة بأنها تجوز مخالفته .
وأيضا فالحجة إجماع جميعهم وقد تفرقوا في البسيطة وسكنوا الأقاليم المتباعدة
وتمذهب كل واحد منهم بمذهب أهل بلده فمعرفة إجماعهم في جانب التعذر . وأيضا [ ص
225 ] لا يخفى على المنصف ما ورد على إجماع الأمة من الإيرادات التي لا يكاد ينتهض
معها للحجية بعد تسليم إمكانه ووقوعه . وانتفاء حجية الأعم يستلزم انتفاء حجية
الأخص . وللمسح شروط وصفات وفي وقته اختلاف وسيذكر المصنف رحمه الله جميع ذلك .
والخف نعل من أدم يغطي الكعبين . والجرموق أكبر منه يلبس فوقه . والجورب أكبر من
الجرموق
_________
( 1 ) كتاب العواصم والقواسم من أنفس الكتب المؤلفة فإنه رد فيه على رسالة جمعت
مسائل كثيرة في فنون مختلفة . فلربما تعرض لتحقيق المسألة الواحدة بذكر عشرة أدلة
أو أكثر من الكتاب والسنة مع بيان مرتبته من الصحة وافتتحه بمسألة الاجتهاد
والتقليد بعد ذكر مقدمة تقرب من عشرين ورقة والكتاب في ثلاث مجلدات واختصره مؤلفه
في جزء واحد سماه الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم وكلاهما اطلعت عليه
والحمد لله وأسأل الله أن يوفقني إلى طبعهما والله أعلم
2 -
وعن عبد الله بن عمر : ( أن سعدا حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه
يمسح على الخفين وأن ابن عمر سأل عن ذلك عمر فقال : نعم إذا حدثك سعد عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم شيئا فلا تسأل عنه غيره )
- رواه أحمد والبخاري وفيه دليل على قبول خبر الواحد
-
الحديث أخرجه أحمد أيضا من طريق أخرى عن ابن عمر وفيها قال ( رأيت سعد ابن أبي
وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين توضأ فأنكرت ذلك عليه فلما اجتمعنا عند عمر قال لي
سعد سل أباك فذكر القصة ) ورواه ابن خزيمة أيضا عن ابن عمر بنحوه وفيه أن عمر قال
: ( كنا ونحن مع نبينا نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسا )
قوله ( فلا تسأل عنه غيره ) قال الحافظ : فيه دليل على أن الصفات الموجبة للترجيح
إذا اجتمعت في الراوي كانت من جملة القرائن التي إذا حفت خبر الواحد قامت مقام
الأشخاص المتعددة وقد تفيد العلم عند البعض دون البعض وعلى أن عمر كان يقبل خبر
الواحد وما نقل عنه من التوقف إنما كان عند وقوع ريبة له في بعض المواضع قال :
وفيه أن الصحابي قديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجليلة في الشرع ما يطلع
عليه غيره لأن ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قديم صحبته وكثرة روايته وقد روى
القصة في الموطأ أيضا . والحديث يدل على المسح على الخفين وقد تقدم الكلام عليه في
الذي قبله
3 -
وعن المغيرة بن شعبة قال : ( كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فقضى
حاجته ثم توضأ ومسح على خفيه قلت : يا رسول الله أنسيت قال : بل أنت نسيت بهذا
أمرني ربي عز و جل )
- رواه أحمد وأبو داود . وقال الحسن البصري : روى المسح سبعون نفسا فعلا منه وقولا
- الحديث إسناده صحيح ولم يتكلم عليه أبو داود ولا المنذري في تخريج السنن ولا غيرهما . وقد رواه أبو داود في الطهارة عن هدبة بن خالد عن همام عن قتادة عن [ ص 226 ] الحسن وعن زرارة بن أوفى كلاهما عن المغيرة به . وفي رواية أبي عيسى الرملي عن أبي داود عن الحسن بن أعين عن زرارة بن أوفى عن المغيرة وهؤلاء كلهم رجال الصحيح وما يظن من تدليس الحسن قد ارتفع بمتابعة زرارة له . وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب
باب المسح على الموقين وعلى الجوربين والنعلين جميعا
1 -
عن بلال قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على الموقين والخمار
)
- رواه أحمد ولأبي داود : ( كان يخرج يقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على
عمامته وموقيه ) . ولسعيد بن منصور في سننه عن بلال قال : ( سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقول : امسحوا على النصيف والموق )
2 -
وعن المغيرة بن شعبة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ومسح على
الجوربين والنعلين )
- رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي
-
حديث بلال أخرجه أيضا الترمذي والطبراني وأخرجه الضياء في المختارة باللفظ الأول .
وحديث المغيرة قال أبو داود : كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث لأن
المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفين
قال أبو داود : ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وابن مسعود والبراء بن عازب
وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث . وروي ذلك عن عمر بن الخطاب
وابن عباس . قال : وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري وليس بالمتصل ولا بالقوي
ولكنه أخرجه عنه ابن ماجه وإنما قال أبو داود : إنه ليس بمتصل لأنه رواه الضحاك
ابن عبد الرحمن عن أبي موسى
قال البيهقي : لم يثبت سماعه من أبي موسى وإنما قال ليس بالقوي لأن في إسناده عيسى
بن سنان ضعيف لا يحتج به وقد ضعفه يحيى بن معين
وفي الباب عن ابن عباس عند البيهقي وأوس بن أبي أوس عند أبي داود بلفظ : ( أنه رأى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ومسح على نعليه ) وعلي ابن أبي طالب عند ابن
خزيمة وأحمد بن عبيد الصفار وعن أنس عند البيهقي
والحديث بجميع رواياته يدل على جواز المسح على الموقين وهما ضرب من الخفاف قاله
ابن سيده والأزهري وهو مقطوع الساقين قاله في الضياء
وقال الجوهري : الموق الذي يلبس فوق الخف قيل وهو عربي [ ص 227 ] وقيل فارسي معرب
وعلى جواز المسح على الخمار وهو العمامة كما قاله النووي
وقد تقدم الكلام على ذلك في باب جواز المسح على العمامة وعلى جواز المسح على
النصيف وهو أيضا الخمار قاله في الضياء . وعلى جواز المسح على الجورب وهو لفافة
الرجل قاله في الضياء والقاموس وقد تقدم أنه الخف الكبير
وقد قال بجواز المسح عليه من ذكره أبو داود من الصحابة وزاد ابن سيد الناس في شرح
الترمذي عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبا مسعود البدري عقبة بن عمر
وقد ذكر في الباب الأول أن المسح على الخفين مجمع عليه بين الصحابة . وعلى جواز
المسح على النعلين . قيل وإنما يجوز على النعلين إذا لبسهما فوق الجوربين قال
الشافعي : ولا يجوز مسح الجوربين إلا أن يكونا منعلين يمكن متابعة المشي فيهما
باب اشتراط الطهارة قبل اللبس
1 -
عن المغيرة بن شعبة قال : ( كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة في
مسير فأفرغت عليه من الإدواة فغسل وجهه وغسل ذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت لأنزع
خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما )
- متفق عليه ولأبي داود : ( دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان
فمسح عليهما )
2 -
وعن المغيرة بن شعبة قال : ( قلنا يا رسول الله أيمسح أحدنا على الخفين قال : نعم
إذا أدخلهما وهما طاهرتان )
- رواه الحميدي في مسنده
-
حديث المغيرة ورد بألفاظ في الصحيحين وغيرهما هذا أحدها وقد ذكرنا فيما سلف أنه
رواه ستون صحابيا كما صرح به البزار وأنه في غزوة تبوك وهي بعد المائدة بالاتفاق .
وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه . وفي الباب عن علي بن أبي طالب عند
أبي داود وعمر بن الخطاب رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة
قوله ( ثم أهويت ) أي مددت يدي قال الأصمعي : أهويت بالشيء إذا أومأت به وقال غيره
: أهويت قصدت الهوي من القيام إلى القعود وقيل الإهواء الإمالة
قوله ( فإني أدخلتهما طاهرتين ) هو يدل على اشتراط الطهارة في اللبس لتعليله عدم
النزع بإدخالهما طاهرتين وهو مقتض أن إدخالهما غير طاهرتين يقتضي النزع
وقد ذهب إلى ذلك الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري ويحيى
بن آدم والمزني [ ص 228 ] وأبو ثور وداود : يجوز اللبس على حدث ثم يكمل طهارته
والجمهور حملوا الطهارة على الشرعية وخالفهم داود فقال المراد إذا لم يكن على
رجليه نجاسة
وقد استدل به على أن إكمال الطهارة فيهما شرط حتى لو غسل إحداهما وأدخلها الخف ثم
غسل الأخرى وأدخلها الخف لم يجز المسح صرح بذلك النووي وغيره
قال في الفتح : عند الأكثر وأجاز الثوري والكوفيون والمزني ومطرف وابن المنذر وغيرهم
أنه يجزئ المسح إذا غسل إحداهما وأدخلها الخف ثم الأخرى لصدق أنه أدخل كلا من
رجليه الخف وهي طاهرة وتعقب بأن الحكم المرتب على التثنية غير الحكم المرتب على
الواحدة واستضعفه ابن دقيق العيد لأن الاحتمال باق قال : لكن إن ضم إليه دليل يدل
على أن الطهارة لا تتبعض اتجه وصرح بأنه لا يمتنع أن يعبر بهذه العبارة عن كون كل
واحدة منهما أدخلت طاهرة قال : بل ربما يدعى أنه طاهر في ذلك فإن الضمير في قوله (
أدخلتهما ) يقتضي تعليق الحكم بكل واحدة منهما نعم من روى فإني أدخلتهما وهما
طاهرتان قد يتمسك بروايته هذا القائل من حيث أن قوله أدخلتهما يقتضي كل واحدة
منهما فقوله وهما طاهرتان يصير حالا من كل واحدة فيكون التقدير أدخلت كل واحدة
منهما حال طهارتهما
3 -
وعن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ومسح على خفيه فقلت
: يا رسول الله رجليك لم تغسلهما قال : إني أدخلتهما وهما طاهرتان )
- رواه أحمد
4 -
وعن صفوان بن عسال قال : ( أمرنا يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نمسح على
الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا ويوما وليلة إذا أقمنا ولا
نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة )
- رواه أحمد وابن خزيمة . وقال الخطابي : هو صحيح الإسناد
- الحديث الأول قال في مجمع الزوائد : في إسناده رجل لم يسم وقد تقدم الكلام على فقهه
-
والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي والترمذي وابن خزيمة وصححاه ورواه الشافعي وابن
ماجه وابن حبان والدارقطني والبيهقي
وحكى الترمذي عن البخاري أنه حديث حسن ومداره على عاصم بن أبي النجود وهو صدوق سيء
الحفظ وقد تابعه جماعة ورواه عنه أكثر من أربعين نفسا قاله ابن منده
والحديث يدل على توقيت المسح بالثلاثة الأيام للمسافر واليوم والليلة للمقيم
وقد اختلف الناس في [ ص 229 ] ذلك فقال مالك والليث بن سعد : لا وقت للمسح على
الخفين ومن لبس خفيه وهو طاهر مسح ما بدا له والمسافر والمقيم في ذلك سواء
وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمر والحسن البصري .
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح بن حي والشافعي وأحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه وداود الظاهري ومحمد بن جرير الطبري بالتوقيت للمقيم يوما
وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن
قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وثبت التوقيت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي
طالب وابن مسعود وابن عباس وحذيفة والمغيرة وأبي زيد الأنصاري هؤلاء من الصحابة
وروي عن جماعة من التابعين منهم شريح القاضي وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعمر بن
عبد العزيز قال أبو عمر ابن عبد البر : وأكثر التابعين والفقهاء على ذلك وهو
الأحوط عندي لأن المسح ثبت بالتواتر واتفق عليه أهل السنة والجماعة واطمأنت النفس
إلى اتفاقهم فلما قال أكثرهم لا يجوز المسح للمقيم أكثر من خمس صلوات يوم وليلة
ولا يجوز للمسافر أكثر من خمس عشرة صلاة ثلاثة أيام ولياليها فالواجب على العالم
أن يؤدي صلاته بيقين واليقين الغسل حتى يجمعوا على المسح ولم يجمعوا فوق الثلاث
للمسافر ولا فوق اليوم للمقيم اه
وحديث الباب يدل على ما قاله الآخرون ويرد مذهب الأولين . وكذلك حديث أبي بكرة .
وحديث علي . وحديث خزيمة بن ثابت الآتي في هذا الكتاب
وفي الباب أحاديث عن غيرهم ولعل متمسك أهل القول الأول ما أخرجه أبو داود من حديث
أبي بن عمارة ( أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسح على الخفين قال :
نعم قال : يوما قال : ويومين قال : وثلاثة أيام قال : نعم وما شئت ) وفي رواية : (
حتى بلغ سبعا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم وما بدا لك )
قال أبو داود : وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي . وقال البخاري نحوه . وقال
الإمام أحمد : رجاله لا يعرفون . وأخرجه الدارقطني وقال : هذا إسناد لا يثبت وفي
إسناده ثلاثة مجاهيل عبد الرحمن . ومحمد بن يزيد . وأيوب بن قطن . ومع هذا فقد
اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافا كثيرا
وقال ابن حبان : لست أعتمد على إسناد خبره . وقال ابن عبد البر : لا يثبت وليس له
إسناد قائم وبالغ الجوزقاني فذكره في الموضوعات وما كان بهذه المرتبة لا يصلح
للاحتجاج به على فرض عدم المعارض فالحق توقيت المسح بالثلاث للمسافر واليوم [ ص
230 ] والليلة للمقيم
وفي الحديث دليل على أن الخفاف لا تنزع في هذه المدة المقدرة لشيء من الأحداث إلا
للجنابة
5 -
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أنه رخص
للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح
عليهما )
- رواه الأثرم في سننه وابن خزيمة والدارقطني قال الخطابي : هو صحيح الإسناد
- الحديث أخرجه الشافعي وابن أبي شيبة وابن حبان وابن الجارود والبيهقي والترمذي في العلل وصححه الشافعي وغيره قاله الحافظ في الفتح . وكذلك نقل البيهقي عن الشافعي وصححه ابن خزيمة والحديث تقدم الكلام على فقهه في الذي قبله
باب توقيت مدة المسح
1 -
قد أسلفنا فيه عن صفوان وأبي بكرة وروى شريح بن هانئ قال : ( سألت عائشة رضي الله
عنها عن المسح على الخفين فقالت : سل عليا فإنه أعلم بهذا مني كان يسافر مع رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه
2 -
وعن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أنه سئل عن المسح على
الخفين فقال : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه
- قد
قدمنا الكلام على حديث صفوان وأبي بكرة في الباب الأول . وحديث علي أخرجه أيضا
الترمذي وابن حبان وحديث خزيمة بن ثابت أخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان وفيه زيادة
تركها المصنف وهي ثابتة عند أبي داود وابن ماجه وابن حبان وهي بلفظ : ( ولو
استزدناه لزادنا ) وفي لفظ : ( ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمسا ) وأخرجه
الترمذي بدون الزيادة قال الترمذي : قال البخاري لا يصح عندي لأنه لا يعرف للجدلي
سماع من خزيمة وذكر عن يحيى بن معين أنه قال : هو صحيح
وقال ابن دقيق العيد : الروايات متضافرة متكاثرة برواية التيمي له عن عمرو بن
ميمون عن الجدلي عن خزيمة
وقال ابن أبي حاتم في العلل : قال أبو زرعة الصحيح من حديث التيمي عن عمرو بن
ميمون عن الجدلي عن خزيمة مرفوعا والصحيح عن النخعي عن [ ص 231 ] الجدلي بلا واسطة
. وادعى النووي في شرح المهذب الاتفاق على ضعف هذا الحديث . قال الحافظ : وتصحيح
ابن حبان له يرد عليه
والحديثان يدلان على توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر ويوم وليلة للمقيم وقد ذكرنا
الخلاف فيه وما هو الحق في الباب الذي قبل هذا . والزيادة التي لم يذكرها المصنف
في حديث خزيمة تصلح للاستدلال بها على مذهب من لم يحد المسح بوقت لولا ما عارض
تصحيح ابن حبان لها من الاتفاق ممن عداه على ضعفها . وأيضا قال ابن سيد الناس في
شرح الترمذي : لو ثبتت لم تقم بها حجة لأن الزيادة على ذلك التوقيت مظنونة إنهم لو
سألوا زادهم وهذا صريح في أنهم لم يسألوا ولا زيدوا فكيف تثبت زيادة بخبر دل على
عدم وقوعها اه
وغايتها بعد تسليم صحتها أن الصحابي ظن ذلك ولم نتعبد بمثل هذا ولا قال أحد أنه
حجة . وقد ورد توقيت المسح بالثلاث واليوم والليلة من طريق جماعة من الصحابة ولم
يظنوا ما ظنه خزيمة . وورد ذكر المسح بدون توقيت عن جماعة منهم أنس بن مالك عند
الدارقطني وذكره الحاكم وقال : قد روي عن أنس مرفوعا بإسناد صحيح رواته عن آخرهم
ثقات . وعن ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند
الدارقطني أيضا
باب اختصاص المسح بظهر الخف
1 -
عن علي رضي الله عنه قال : ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولي بالمسح من
أعلاه لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على ظاهر خفيه )
- رواه أبو داود والدارقطني
-
الحديث قال الحافظ في بلوغ المرام : إسناده حسن وقال في التلخيص : إسناده صحيح قلت
: وفي إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني وثقه يحيى بن معين وأحمد بن عبد الله
العجلي
وأما قول البيهقي لم يحتج به صاحبا الصحيح فليس بقادح بالاتفاق
والحديث يدل على أن المسح المشروع هو مسح ظاهر الخف دون باطنه وإليه ذهب الثوري
وأبو حنيفة والأوزاعي وأحمد بن حنبل . وذهب مالك والشافعي وأصحابهما والزهري وابن
المبارك وروي عن سعد بن أبي وقاص وعمر بن عبد العزيز إلى أنه يمسح ظهورهما
وبطونهما قال مالك والشافعي : إن مسح ظهورهما دون بطونهما أجزأه قال مالك : من مسح
باطن الخفين دون ظاهرهما لم يجزه وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده . وروي [ ص 232
] عنه غير ذلك . والمشهور عن الشافعي أن من مسح ظهورهما واقتصر على ذلك أجزأه ومن
مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يجزه وليس بماسح
وقال ابن شهاب وهو قول للشافعي : إن من مسح بطونهما ولم يمسح ظهورهما أجزأه
والواجب عند أبي حنيفة مسح قدر ثلاث أصابع من أصابع اليد وعند أحمد مسح أكثر الخف
وروي عن الشافعي أن الواجب ما يسمى مسحا
قال الحافظ في التلخيص : لما ذكر علي عليه السلام والمحفوظ عن ابن عمر أنه كان
يمسح أعلى الخف وأسفله كذا رواه الشافعي والبيهقي وروى عنه في صفة ذلك أنه كان يضع
كفه اليسرى تحت العقب واليمنى على ظاهر الأصابع ويمر اليسرى على أطراف الأصابع من
أسفل واليمنى إلى الساق
واستدل من قال بمسح ظاهر الخف وباطنه بحديث المغيرة المذكور في آخر هذا الباب وفيه
مقال سنذكره عند ذكره
وليس بين الحديثين تعارض غاية الأمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح تارة
على باطن الخف وظاهره وتارة اقتصر على ظاهره ولم يرو عنه ما يقضي بالمنع من إحدى
الصفتين فكان جميع ذلك جائزا وسنة
2 -
وعن المغيرة بن شعبة قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على
ظهور الخفين )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي ولفظه : ( على الخفين على ظاهرهما ) . وقال : حديث
حسن
-
الحديث قال البخاري في التاريخ : هو بهذا اللفظ أصح من حديث رجاء بن حيوة الآتي .
وفي الباب عن عمر بن الخطاب عند ابن أبي شيبة والبيهقي
واستدل بالحديث من قال بمسح ظاهر الخف وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله
3 -
وعن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة
: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح أعلى الخف وأسفله )
- رواه الخمسة إلا النسائي . وقال الترمذي : هذا حديث معلول لم يسنده عن ثور غير
الوليد بن مسلم وسألت أبا زرعة ومحمدا عن هذا الحديث فقالا : ليس بصحيح
-
الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي وابن الجارود . وقال الأثرم عن أحمد إنه كان
يضعفه ويقول ذكرته لعبد الرحمن ابن مهدي فقال عن ابن المبارك عن ثور حدثت عن رجاء
عن كاتب المغيرة ولم يذكر المغيرة قال أحمد : وقد كان نعيم بن حماد حدثني به عن
ابن المبارك كما حدثني الوليد بن مسلم به عن ثور فقلت له : إنما يقول هذا الوليد [
ص 233 ] وأما ابن المبارك فيقول حدثت عن رجاء ولم يذكر المغيرة فقال لي نعيم : هذا
حديثي الذي أسأل عنه فأخرج إلي كتابه القديم بخط عتيق فإذا فيه ملحق بين السطرين
بخط ليس بالقديم عن المغيرة فأوقفته عليه وأخبرته أن هذه زيادة في الإسناد لا أصل
لها فجعل يقول للناس بعد وأنا أسمع اضربوا على هذا الحديث
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة : حديث الوليد ليس بمحفوظ . وقال موسى بن
هارون : لم يسمعه ثور من رجاء ورواه أبو داود الطيالسي عن عروة بن المغيرة عن أبيه
: وكذا أخرجه البيهقي قال الحافظ بعد أن ذكر قول الترمذي : إنه لم يسنده عن ثور
غير الوليد . قلت : رواه الشافعي في الأم عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن ثور
مثل الوليد . قال أبو داود : لم يسمعه ثور من رجاء وقد وقع في سنن الدارقطني من
طريق داود بن رشيد تصريح ثور بأنه حدثه رجاء قال الحافظ : وهذا ظاهره أن ثور سمعه
من رجاء فتزول العلة ولكن رواه أحمد بن عبيد الصفار في مسنده من طريقه فقال عن ثور
عن رجاء فهذا اختلاف على داود يمنع من القول بصحة وصله مع ما تقدم من كلام الأئمة
والحديث استدل به من قال بمسح أعلى الخف وأسفله وتقدم الكلام على ذلك
أبواب نواقض الوضوء
باب الوضوء بالخارج من السبيل
1 -
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يقبل الله صلاة
أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من أهل حضرموت : ما الحدث يا أبا هريرة قال :
فساء أو ضراط )
- متفق عليه وفي حديث صفوان في المسح لكن من غائط وبول ونوم وسنذكره
-
قوله ( لا يقبل ) المراد بالقبول هنا وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة وهو
معنى الصحة لأنها ترتب الآثار أو سقوط القضاء على الخلاف . وترتب الآثار موافقة
الأمر ولما كان الإتيان بشروط الطاعة مظنة إجزائها وكان القبول من ثمراته عبر عنه
به مجازا . فالمراد بلا تقبل لا تجزئ . قال الحافظ في الفتح : وأما القبول المنفي
في مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( من أتى عرافا لم تقبل له صلاة ) فهو
الحقيقي لأنه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع ولهذا كان بعض السلف يقول : لأن
تقبل لي صلاة واحدة أحب [ ص 234 ] إلي من جميع الدنيا قاله ابن عمر قال : لأن الله
تعالى قال { إنما يتقبل الله من المتقين } ومن فسر الإجزاء بمطابقة الأمر والقبول
بترتب الثواب لم يتم له الاستدلال بالحديث على نفي الصحة لأن القبول أخص من الصحة
على هذا فكل مقبول صحيح وليس كل صحيح مقبولا
قال ابن دقيق العيد : إلا أن يقال دل الدليل على كون المقبول من لوازم الصحة فإذا
انتفى انتفت فيصح الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة ويحتاج في الأحاديث التي
نفى عنها القبول مع بقاء الصحة كحديث ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) عند
أبي داود والترمذي وحديث ( إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ) عند مسلم وحديث ( من
أتى عرافا ) عند أحمد والبخاري . وفي شارب الخمر عند الطبراني إلى تأويل أو تخريج
جواب قال : على أنه يرد على من فسر القبول بكون العبادة مثابا عليها أو مرضية أو
ما أشبه ذلك إذا كان مقصوده بذلك أنه لا يلزم من نفي القبول نفي الصحة أن يقال
القواعد الشرعية أن العبادة إذا أتى بها مطابقة للأمر كانت سببا للثواب والدرجات
والإجزاء والظواهر في ذلك لا تحصى
قوله ( إذا أحدث ) المراد بالحدث الخارج من أحد السبيلين وإنما فسره أبو هريرة
بأخص من ذلك تنبيها بالأخف على الأغلظ ولأنهما قد يقعان في الصلاة أكثر من غيرهما
وهذا أحد معاني الحدث . الثاني خروج ذلك الخارج . الثالث منع الشارع من قربان
العبادة المرتب على ذلك الخروج وإنما كان الأول هو المراد هنا لتفسير أبي هريرة له
بنفس الخارج لا بالخروج ولا بالمنع
والحديث استدل به على أن ما عدا الخارج من السبيلين كالقيء والحجامة ولمس الذكر
غير ناقض ولكنه استدلال بتفسير أبي هريرة وليس بحجة على خلاف في الأصول
واستدل به على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة لأنه جعل نفي القبول ممتدا إلى غاية هي
الوضوء وما بعد الغاية مخالف لما قبلها فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا
وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيا قاله ابن دقيق العيد . واستدل به
على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختياريا أو اضطراريا
قوله ( وفي حديث صفوان ) ذكره المصنف ههنا لمطابقته للترجمة لما فيه من ذكر البول
والغائط وذكره في باب الوضوء من النوم لما فيه من ذكر النوم
باب الوضوء من الخارج النجس من غير السبيلين . [ ص 235 ]
1 -
عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاء
فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال : صدق أنا صببت له وضوءه )
- رواه أحمد والترمذي وقال : هو أصح شيء في هذا الباب
-
الحديث هو عند أحمد وأصحاب السنن الثلاث وابن الجارود وابن حبان والدارقطني
والبيهقي والطبراني وابن منده والحاكم بلفظ : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قاء فأفطر ) . قال معدان : فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت له : أن أبا
الدرداء أخبرني فذكره فقال : صدق أنا صببت عليه وضوء . قال ابن منده : إسناده صحيح
متصل وتركه الشيخان لاختلاف في إسناده قال الترمذي : جوده حسين المعلم وكذا قال
أحمد وفيه اختلاف كثير ذكره الطبراني وغيره قال البيهقي : هذا حديث مختلف في
إسناده فإن صح فهو محمول على القيء عامدا وقال في موضع آخر : إسناده مضطرب ولا
تقوم به حجة وهو باللفظ الذي ذكره المصنف في جامع الأصول والتيسير منسوبا إلى أبي
داود والترمذي
والحديث استدل به على أن القيء من نواقض الوضوء وقد ذهب إلى ذلك العترة وأبو حنيفة
وأصحابه وقيدوه بقيود : الأول كونه من المعدة والثاني كونه ملء الفم والثالث كونه
دفعة واحدة . وذهب الشافعي وأصحابه والناصر والباقر والصادق إلى أنه غير ناقض .
وأجابوا عن الحديث بأن المراد بالوضوء غسل اليدين ويرد بأن الوضوء من الحقائق
الشرعية وهو فيها لغسل أعضاء الوضوء وغسل بعضها مجاز فلا يصار إليه إلا بعلاقة
وقرينة قالوا : القرينة أنه استقاء بيده كما ثبت في بعض الألفاظ والعلاقة ظاهرة .
وأجابوا أيضا بأنه فعل وهو لا ينتهض على الوجوب
واستدل الأولون أيضا بحديث إسماعيل بن عياش الآتي بعد هذا وسيأتي أنه لا يصلح لذلك
لما فيه من المقال الذي سنذكره واستدلوا بما في كتب الأئمة من حديث علي ( الوضوء
كتبه الله علينا من الحدث قال صلى الله عليه وآله وسلم : بل من سبع ) وفيها (
ودسعة تملأ الفم ) قالوا : معارض بما في كتب الأئمة أيضا في الانتصار والبحر
وغيرهما من حديث ثوبان قال : ( قلت يا رسول الله هل يجب الوضوء من القيء قال : لو
كان واجبا لوجدته في كتاب [ ص 236 ] الله ) قال في البحر : قلنا مفهوم وحديثنا
منطوق ولعله متقدم انتهى . والجواب الأول صحيح ولكنه لا يفيد إلا بعد تصحيح الحديث
والجواب الثاني ( 1 ) من الأجوبة التي لا تقع لمنصف ولا متيقظ فإن كل أحد لا يعجز
عن مثل هذه المقالة وهي غير نافقة في أسواق المناظرة وقد كثرت أمثال هذه العبارة
في ذلك الكتاب
_________
( 1 ) وهو أن العمل لا ينتهض على الوجوب
2 -
وعن إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت :
( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي
فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم )
- رواه ابن ماجه والدارقطني وقال الحافظ : من أصحاب ابن جريج يروونه عن ابن جريج
عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا
-
الحديث أعله غير واحد بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وهو حجازي .
ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة وقد خالفه الحفاظ من أصحاب ابن جريج فرووه
مرسلا كما قال المصنف وصحح هذه الطريقة المرسلة الذهلي والدارقطني في العلل وأبو
حاتم وقال : رواية إسماعيل خطأ . وقال ابن معين : حديث ضعيف وقال أحمد : الصواب عن
ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ورواه الدارقطني من حديث
إسماعيل بن عياش أيضا عن عطاء بن عجلان وعباد بن كثير عن ابن أبي مليكة عن عائشة
وقال بعده : عطاء وعباد ضعيفان . وقال البيهقي : الصواب إرساله وقد رفعه أيضا
سليمان بن أرقم وهو متروك
وفي الباب عن ابن عباس عند الدارقطني وابن عدي والطبراني بلفظ : ( إذا رعف أحدكم
في صلاته فلينصرف فليغسل عنه الدم ثم ليعد وضوءه وليستقبل صلاته ) قال الحافظ :
وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك
وعن أبي سعيد عند الدارقطني بلفظ : ( إذا قاء أحدكم أو رعف وهو في الصلاة أو أحدث
فلينصرف فليتوضأ ثم ليجيء فليبن على ما مضى ) وفيه أبو بكر الزاهري وهو متروك .
ورواه عبد الرزاق في مصنفه موقوفا على علي وإسناده حسن قاله الحافظ . وعن سلمان
نحوه . وعن ابن عمر عند مالك في الموطأ : ( أنه كان إذا رعف رجع فتوضأ ولم يتكلم
ثم يرجع ويبني ) وروى الشافعي من قوله نحوه
قوله ( قلس ) هو بفتح القاف واللام ويروى بسكونها قال الخليل : هو ما خرج من الحلق
ملء الفم أو دونه وليس بقيء وإن [ ص 237 ] عاد فهو القيء . وفي النهاية القلس ما
خرج من الجوف ثم ذكر مثل كلام الخليل
والحديث استدل به على أن القيء والرعاف والقلس والمذي نواقض للوضوء وقد تقدم ذكر
الخلاف في القيء والخلاف في القلس مثله
وأما الرعاف فهو ناقض للوضوء وقد ذهب إلى أن الدم من نواقض الوضوء القاسمية وأبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل وإسحاق وقيدوه بالسيلان وذهب ابن عباس
والناصر ومالك والشافعي وابن أبي أوفى وأبو هريرة وجابر بن زيد وابن المسيب ومكحول
وربيعة إلى أنه غير ناقض
استدل الأولون بحديث الباب ورد بأن فيه المقال المذكور واستدلوا بحديث ( بل من سبع
) الذي ذكرناه في الحديث الذي قبل هذا ورد بأنه لم يثبت عند أحد من أئمة الحديث
المعتبرين . وبالمعارضة بحديث أنس الذي سيأتي . وأجيب بأن حديث أنس حكاية فعل لا
يعارض القول ولكن هذا يتوقف على صحة القول ولم يصح
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة ( لا وضوء إلا
من صوت أو ريح ) قال البيهقي : هذا حديث ثابت . وقد اتفق الشيخان على إخراج معناه
من حديث عبد الله بن زيد ورواه أحمد والطبراني من حديث السائب بن خباب بلفظ : ( لا
وضوء إلا من ريح أو سماع ) وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي وذكر حديث شعبة عن سهيل
عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا : ( لا وضوء إلا من صوت أو ريح ) فقال أبي : هذا وهم
اختصر شعبة متن الحديث وقال : ( لا وضوء إلا من صوت أو ريح ) ورواه أصحاب سهيل
بلفظ : ( إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحا من نفسه فلا يخرج حتى يسمع صوتا أو
يجد ريحا ) وشعبة إمام حافظ واسع الرواية وقد روى هذا اللفظ بهذه الصيغة المشتملة
على الحصر ودينه وإمامته ومعرفته بلسان العرب يرد ما ذكره أبو حاتم فالواجب البقاء
على البراءة الأصلية المعتضدة بهذه الكلية المستفادة من هذا الحديث فلا يصار إلى
القول بأن الدم أو القيء ناقض إلا لدليل ناهض والجزم بالوجوب قبل صحة المستند
كالجزم بالتحريم قبل صحة النقل والكل من التقول على الله بما لم يقل
ومن المؤيدات لما ذكرنا حديث ( إن عباد بن بشر أصيب بسهام وهو يصلي فاستمر في
صلاته ) عند البخاري تعليقا وأبي داود وابن خزيمة ويبعد أن لا يطلع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة ولم ينقل أنه أخبره بأن صلاته قد بطلت
وأما المذي فقد صحت الأدلة في إيجابه للوضوء وقد أسلفنا [ ص 238 ] الكلام على ذلك
في باب ما جاء في المذي من أبواب تطهير النجاسة
وفي الحديث دلالة على أن الصلاة لا تفسد على المصلي إذا سبقه الحدث ولم يتعمد خروجه
. وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وصاحباه ومالك . وروي عن زيد بن علي وقديم قولي
الشافعي والخلاف في ذلك للهادي والناصر والشافعي في أحد قوليه . فإن تعمد خروجه
فإجماع على أنه ناقض . واستدل على النقض بحديث ( إذا فسا أحدكم فلينصرف وليتوضأ
وليستأنف الصلاة ) أخرجه أبو داود ولعله يأتي في الصلاة إن شاء الله تمام تحقيق
البحث
3 -
وعن أنس قال : ( احتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد
على غسل محاجمه )
- رواه الدارقطني
-
الحديث رواه أيضا البيهقي قال الحافظ : وفي إسناده صالح بن مقاتل وهو ضعيف وادعى
ابن العربي أن الدارقطني صححه وليس كذلك بل قال عقبه في السنن : صالح بن مقاتل ليس
بالقوي . وذكره النووي في فصل الضعيف
والحديث يدل على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله
قال المصنف رحمه الله تعالى : وقد صح عن جماعة من الصحابة ترك الوضوء من يسير الدم
ويحمل حديث أنس عليه وما قبله على الكثير الفاحش كمذهب أحمد ومن وافقه جمعا بينهما
انتهى
ويؤيد هذا الجمع ما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا : ( ليس في القطرة
ولا في القطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دما سائلا ) لكن فيه محمد بن الفضل بن
عطية وهو متروك قال الحافظ : وإسناده ضعيف جدا
ويؤيده أيضا ما روي عن ابن عمر عند الشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي أنه عصر بثرة
في وجهه فخرج شيء من دمه فحكه بين إصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ . وعلقه البخاري . وعنه
أيضا ( كان إذا احتجم غسل أثر المحاجم ) ذكره في التلخيص لابن حجر . وعن ابن عباس
أنه قال : ( اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك ) رواه الشافعي . وعن ابن أبي أوفى ذكره
الشافعي ووصله البيهقي في المعرفة وكذا عن أبي هريرة موقوفا
وعن ج