Translate

الأربعاء، 23 مارس 2022

2.مجلد 2-كتاب : نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار/ محمد بن علي بن محمد الشوكاني

 

[ نيل الأوطار - الشوكاني ] 2.

الكتاب : نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار/ محمد بن علي بن محمد الشوكاني
الناشر : إدارة الطباعة المنيرية
عدد الأجزاء : 9
مع الكتاب : تعليقات يسيرة لمحمد منير الدمشقي
(الصفحات من بعد المجلد الرابع مرقمة آليا)

باب استحباب الطهارة لذكر الله عز و جل والرخصة في تركه

1 - عن المهاجر بن قنفذ : ( أنه سلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه وقال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلى على طهارة )
- رواه أحمد وابن ماجه بنحوه

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي . وهو يدل على كراهة الذكر للمحدث حدثا أصغر . ولفظ أبي داود وهو يبول ويعارضه ما سيأتي من حديث علي وعائشة فإن في حديث علي ( لا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة ) فإن كان الحدث الأصغر لا يمنعه عن قراءة القرآن وهو أفضل الذكر كان جواز ما عداه من الأذكار بطريق الأولى
[ ص 266 ] وكذلك حديث عائشة فإن قولها ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحيانه ) مشعر بوقوع الذكر منه حال الحدث الأصغر لأنه من جملة الأحيان المذكورة فيمكن الجمع بأن هذا الحديث خاص فيخص به ذلك العموم ويمكن حمل الكراهة على كراهة التنزيه ومثله الحديث الذي بعده ويمكن أن يقال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما ترك الجواب لأنه لم يخش فوت من سلم عليه فيكون دليلا على جواز التراخي مع عدم خشية الفوت لمن كان مشتغلا بالوضوء ولكن التعليل بكراهته لذكر الله في تلك الحال يدل على أن الحدث سبب الكراهة من غير نظر إلى غيره

2 - وعن أبي جهيم بن الحارث قال : ( أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام )
- متفق عليه . ومن الرخصة في ذلك حديث عبد الله بن سلمة عن علي . وحديث ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة وسنذكرهما

- قوله ( بئر جمل ) بجيم وميم مفتوحتين وفي رواية النسائي بئر الجمل بالألف واللام وهو موضع بقرب المدينة
قوله ( حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ) هو محمول على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عادما للماء حال التيمم فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادرين على استعماله قال النووي : ولا فرق بين أن يضيق وقت الصلاة وبين أن يتسع
ولا فرق أيضا بين صلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما . وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور
وقال أبو حنيفة : يجوز أن يتيمم مع وجود الماء لصلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما انتهى . وهو أيضا مذهب الهادوية
وفي الحديث دلالة على جواز التيمم من الجدار إذا كان عليه غبار . قال النووي : وهو جائز عندنا وعند الجمهور من السلف والخلف . واحتج به من جوز التيمم بغير تراب . وأجيب بأنه محمول على جدار عليه تراب . وفيه دليل على جواز التيمم للنوافل والفضائل كسجود التلاوة والشكر ومس المصحف ونحوها كما يجوز للفرائض وهذا مذهب العلماء كافة قاله النووي
وفي الحديث أن المسلم في حال قضاء الحاجة لا يستحق جوابا وهذا متفق عليه . قال النووي : ويكره للقاعد على قضاء الحاجة أن يذكر الله بشيء من الأذكار قالوا : فلا يسبح ولا يهلل . ولا يرد السلام . ولا يشمت العاطس . ولا يحمد الله إذا عطس . ولا يقول [ ص 267 ] مثل ما يقول المؤذن . وكذلك لا يأتي بشيء من هذه الأذكار في حال الجماع . وإذا عطس في هذه الأحوال يحمد الله تعالى في نفسه ولا يحرك به لسانه وهذا الذي ذكرناه من كراهة الذكر هو كراهة تنزيه لا تحريم فلا إثم على فاعله
وإلى هذا ذهبت الشافعية والأكثرون وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس وعطاء ومعبد الجهني وعكرمة وقال إبراهيم النخعي وابن سيرين : لا بأس بالذكر حال قضاء الحاجة ولا خلاف أن الضرورة إذا دعت إلى الكلام كما إذا رأى ضريرا يقع في بئر أو رأى حية تدنو من أعمى كان جائزا
وقد تقدم طرف من هذا الحديث وطرف من شرحه في باب كف المتخلي عن الكلام
قوله ( ومن الرخصة في ذلك حديث عبد الله بن سلمة عن علي ) سيذكره المصنف في باب تحريم القرآن على الحائض والجنب
وفيه ( أنه كان لا يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة ) فأشعر بجواز قراءة القرآن في جميع الحالات إلا في حال الجنابة والقرآن أشرف الذكر فجواز غيره بالأولى . ومن جملة الحالات حالة الحدث الأصغر
قوله ( وحديث ابن عباس بت عند خالتي ميمونة ) محل الدلالة منه قوله ثم قرأ العشر الآيات أولها { إن في خلق السماوات والأرض } إلى آخر السورة . قال ابن بطال ومن تبعه : فيه دليل على رد قول من كره قراءة القرآن على غير طهارة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض وليس كذلك لأنه قال تنام عيناي ولا ينام قلبي . وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ قال الحافظ : وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في كونه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكره ابن المنير

3 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحيانه )
- رواه الخمسة إلا النسائي وذكره البخاري بغير إسناد

- الحديث أخرجه مسلم أيضا قال النووي في شرح مسلم : هذا الحديث أصل في ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار . وهذا جائز بإجماع المسلمين وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض وسيأتي [ ص 268 ] الكلام على ذلك في باب تحريم القراءة على الحائض والجنب
واعلم أنه يكره الذكر في حالة الجلوس على البول والغائط . وفي حالة الجماع . وقد ذكرنا ذلك في الحديث الذي قبل هذا فيكون الحديث مخصوصا بما سوى هذه الأحوال ويكون المقصود أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يذكر الله تعالى متطهرا ومحدثا وجنبا وقائما وقاعدا ومضجعا وماشيا قاله النووي

باب استحباب الوضوء لمن أراد النوم

1 - عن البراء بن عازب : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به قال : فرددها علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت : ورسولك قال : لا ونبيك الذي أرسلت )
- رواه أحمد والبخاري والترمذي

- قوله ( فتوضأ ) ظاهره استحباب تجديد الوضوء لكل من أراد النوم ولو كان على طهارة ويحتمل أن يكون مخصوصا بمن كان محدثا . وقد روى هذا الحديث الشيخان وغيرهما من طرق عن البراء ليس فيها ذكر الوضوء إلا في هذه الرواية وكذا قال الترمذي
وقد ورد في الباب حديث عن معاذ بن جبل أخرجه أبو داود وحديث عن علي أخرجه البزار وليس واحد منهما على شرط البخاري
قوله ( فأنت على الفطرة ) المراد بالفطرة هنا السنة
قوله ( واجعلهن آخر ما تتكلم به ) في رواية الكشميهني من آخر وهي تبين أنه لا يمتنع أن يقول بعدهن شيئا من المشروع من الذكر
قوله ( لا ونبيك ) قال الخطابي : فيه حجة لمن منع رواية الحديث بالمعنى قال : ويحتمل أن يكون أشار بقوله ونبيك الذي أرسلت إلى أنه كان نبيا قبل أن يكون رسولا ولأنه ليس في قوله ورسولك الذي أرسلت وصف زائد بخلاف قوله ونبيك الذي أرسلت . وقال غيره : ليس فيه حجة على منع ذلك لأن لفظ الرسول ليس بمعنى لفظ النبي ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى فكأنه أراد أن يجمع الوصفين صريحا وإن كان وصف الرسالة يستلزم وصف النبوة [ ص 269 ] أو لأن ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب فربما كان في اللفظ سر ليس في الآخر ولو كان يرادفه في الظاهر أو لعله أوحي إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده أو ذكره احترازا ممن أرسل من غير نبوة كجبريل وغيره من الملائكة لأنهم رسل لا أنبياء فلعله أراد تخليص الكلام من اللبس أو لأن لفظ النبي أمدح من لفظ الرسول لأنه مشترك في الإطلاق على كل من أرسل بخلاف لفظ النبي فإنه لا اشتراك فيه عرفا
وعلى هذا فقول من قال كل رسول نبي من غير عكس لا يصح إطلاقه قاله الحافظ
واستدل به بعضهم على أنه لا يجوز إبدال لفظ قال نبي الله مثلا في الرواية بلفظ قال رسول الله وكذا عكسه . قال الحافظ : ولو أجزنا الرواية بالمعنى فلا حجة له فيه وكذا لا حجة له فيه لمن أجاز الأول دون الثاني لكون الأول أخص من الثاني لأنا نقول لذات المخبر عنها في الرواية واحدة فبأي وصف وصفت تلك الذات من أوصافها اللائقة بها علم القصد بالمخبر عنه ولو تباينت معاني الصفات كما لو أبدل اسما بكنية أو كنية باسم فلا فرق
وللحديث فوائد مذكورة في كتاب الدعوات من الفتح ( 1 )
_________
( 1 ) قال الحافظ في الفتح : وأولى ما قيل في الحكمة في رده صلى الله عليه وآله وسلم من قال الرسول بدل النبي أن ألفاظ الأذكار توقيفية ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به وهذا اختيار المازري قال : فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف ولعله أوحى إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها وقال النووي : في الحديث ثلاث سنن مهمة أحدها الوضوء عند النوم وإن كان متوضئا كفاه لأن المقصود النوم على طهارة ثانيها النوم على اليمين . ثالثها الختم بذكر الله . وقال الكرماني : هذا الحديث يشتمل على الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إجمالا من الكتب والرسل من الإلهيات والنبويات وعلى إسناد الكل إلى الله من الذوات والصفات والأفعال لذكر الوجه والنفس والأمر وإسناد الظهر مع ما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه وهذا كله بحسب المعاش وعلى الاعتراف بالثواب والعقاب خيرا وشرا وهذا بحسب المعاد اه
وفي الحديث رد صريح على الذين ابتدعوا للناس أورادا وأحزابا وأنواعا من الأذكار لم يكن عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه ولا كانوا يلبسون على صغار العقول بتمويهات باطلة مثل اعتمادهم على منامات أو بأكاذيب مثل مكاشفات فإن مثل ذلك لا يغتر به إلا من لم يرح رائحة السنة ولم يذق طعم العلم الصحيح وخير الهدي هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هداها

باب تأكيد ذلك للجنب واستحباب الوضوء له لأجل الأكل والشرب والمعاودة

1 - عن ابن عمر أن عمر قال : ( يا رسول الله أينام أحدنا وهو جنب قال : نعم إذا [ ص 270 ] توضأ )

2 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة )
- رواهما الجماعة

3 - ولأحمد ومسلم عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ )

- قوله ( قال : نعم إذا توضأ ) في رواية البخاري ومسلم ليتوضأ ثم لينم . وفي رواية للبخاري ليتوضأ ويرقد . وفي رواية لهما توضأ واغسل ذكرك ثم نم . وفي لفظ للبخاري نعم ويتوضأ
وأحاديث الباب تدل على أنه يجوز للجنب أن ينام ويأكل قبل الاغتسال وكذلك يجوز له معاودة الأهل كما سيأتي في حديث أبي سعيد وكذلك الشرب كما سيأتي في حديث عمار وهذا كله مجمع عليه قاله النووي وحديث عمر جاء بصيغة الأمر وجاء بصيغة الشرط وهو متمسك لمن قال بوجوب الوضوء على الجنب إذا أراد أن ينام قبل الاغتسال وهم الظاهرية وابن حبيب من المالكية وذهب الجمهور إلى استحبابه وعدم وجوبه . وتمسكوا بحديث عائشة الآتي في الباب الذي بعد هذا ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينام وهو جنب ولا يمس ماء ) وهو غير صالح للتمسك به من وجوه : أحدها أن فيه مقالا لا ينتهض معه للاستدلال وسنبينه في شرحه إن شاء الله تعالى . وثانيها أن قوله لا يمس ماء نكرة في سياق النفي فتعم ماء الغسل وماء الوضوء وغيرهما وحديثها المذكور في الباب بلفظ : ( كان إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة ) خاص بماء الوضوء فيبنى العام على الخاص ويكون المراد بقوله لا يمس ماء غير ماء الوضوء
وقد صرح ابن سريج والبيهقي بأن المراد بالماء ماء الغسل . وقد أخرج أحمد عن عائشة قالت : ( كان يجنب من الليل ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ولا يمس ماء ) . وثالثها أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم لمس الماء لا يعارض قوله الخاص بنا كما تقرر في الأصول فيكون الترك على تسليم شموله لماء الوضوء خاصا به
وتمسكوا أيضا بحديث ابن عباس مرفوعا : ( إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة ) أخرجه أصحاب السنن . وقد استدل به أيضا على ذلك ابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحه
قال الحافظ : وقد قدح في هذا الاستدلال ابن زبيد المالكي وهو واضح . قلت : فيجب الجمع بين الأدلة بحمل الأمر على الاستحباب ويؤيد ذلك أنه أخرج ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما من حديث ابن عمر ( أنه سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أينام أحدنا وهو جنب قال : نعم ويتوضأ إن شاء ) والمراد بالوضوء هنا [ ص 271 ] وضوء الصلاة لما عرفناك غير مرة أنه هو الحقيقة الشرعية وأنها مقدمة على غيرها
وقد صرحت بذلك عائشة في حديث الباب المتفق عليه فهو يرد ما جنح إليه الطحاوي من أن المراد بالوضوء التنظيف واحتج بأن ابن عمر راوي هذا الحديث وهو صاحب القصة ( كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه ) كما رواه مالك في الموطأ عن نافع ويرد أيضا بأن مخالفة الراوي لما روى لا تقدح في المروي ولا تصلح لمعارضته : وأيضا قد ورد تقييد الوضوء بوضوء الصلاة من روايته ومن رواية عائشة فيعتمد ذلك ويحمل ترك ابن عمر لغسل رجليه على أن ذلك كان لعذر . وإلى هذا ذهب الجمهور . قال الحافظ : والحكمة في الوضوء أنه يخفف الحدث ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل . ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال : إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف غسل الجنابة . وقيل الحكمة في الوضوء أنه إحدى الطهارتين وقيل أنه ينشط إلى العود أو إلى الغسل

4 - وعن عمار بن ياسر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوؤه للصلاة )
- رواه أحمد والترمذي وصححه

- الوضوء عند إرادة الأكل والنوم ثابت من حديث عائشة ومتفق عليه . وقد تقدم في الحديث الذي قبل هذا إحدى الروايات وعزاها المصنف إلى أحمد ومسلم . وعند إرادة الشرب من حديث عائشة أيضا عند النسائي ولكن جميع ذلك من فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا من قوله كما في حديث الباب
وقد روي الوضوء عند الأكل من حديث جابر عند ابن ماجه وابن خزيمة ومن حديث أم سلمة وأبي هريرة عند الطبراني في الأوسط
والحديث يدل على أفضلية الغسل لأن العزيمة أفضل من الرخصة والخلاف في الوضوء لمن أراد أن ينام وهو جنب قد ذكرناه في الحديث الذي قبل هذا وأما من أراد أن يأكل أو يشرب فقد اتفق الناس على عدم وجوب الوضوء عليه وحكى ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن ابن عمر أنه واجب

5 - وعن أبي سعيد : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وزادوا : ( فإنه أنشط للعود ) وفي رواية [ ص 272 ] للبيهقي وابن خزيمة ( فليتوضأ وضوؤه للصلاة ) ويقال أن الشافعي قال : لا يثبت مثله قال البيهقي : ولعله لم يقف على إسناد حديث أبي سعيد ووقف على إسناد غيره فقد روي عن عمر وابن عمر بإسنادين ضعيفين قال الحافظ : ويؤيد هذا حديث أنس الثابت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( كان يطوف على نسائه بغسل واحد )
والحديث يدل على أن غسل الجنابة ليس على الفور وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصلاة . قال النووي : وهذا بإجماع المسلمين ولا شك في استحبابه قبل المعاودة لما رواه أحمد وأصحاب السنن من حديث أبي رافع ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم طاف على نسائه ذات ليلة يغتسل عند هذه وعند هذه وقيل : يا رسول الله ألا تجعله غسلا واحدا فقال : هذا أزكى وأطيب ) وقول أبي داود أن حديث أنس أصح منه لا ينفي صحته . وقد قال النووي : هو محمول على أنه فعل الأمرين في وقتين مختلفين
وقد ذهبت الظاهرية وابن حبيب إلى وجوب الوضوء على المعاود وتمسكوا بحديث الباب
وذهب من عداهم إلى عدم الوجوب وجعلوا ما ثبت في رواية الحاكم بلفظ : ( أنه أنشط للعود ) صارفا للأمر إلى الندب . ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي من حديث عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجامع ثم يعود ولا يتوضأ ) ويؤيده أيضا الحديث المتقدم بلفظ : ( إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة )
( فائدة ) طوافه صلى الله عليه وآله وسلم على نسائه محمول على أنه كان برضاهن أو برضا صاحبة النوبة إن كانت نوبة واحدة قال النووي : وهذا التأويل يحتاج إليه من يقول كان القسم واجبا عليه في الدوام كما يجب علينا وأما من لا يوجبه فلا يحتاج إلى تأويل فإن له أن يفعل ما شاء

باب جواز ترك ذلك

1 - عن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يأكل أو يشرب وهو جنب يغسل يديه ثم يأكل ويشرب )
- رواه أحمد والنسائي

- هو طرف من الحديث ولفظه في النسائي : ( كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه ثم يأكل أو يشرب )
وقد ذكره الحافظ في التلخيص وابن سيد الناس في شرح الترمذي ولم يتكلما عليه بما يوجب ضعفا وهو من سنن النسائي من طريق محمد بن عبيد بن محمد قال حدثنا [ ص 273 ] عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة فذكره . ومحمد بن عبيد ثقة وبقية رجال الإسناد أئمة
وأخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديثها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( كان إذا أراد أن يطعم وهو جنب غسل يده ثم يطعم ) وبه استدل من فرق بين الوضوء لإرادة النوم والوضوء لإرادة الأكل والشرب
قال الشيخ أبو العباس القرطبي : هو مذهب كثير من أهل الظاهر وهو رواية عن مالك . وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : إذا أراد الجنب أن يأكل غسل يديه ومضمض فاه
وعن مجاهد قال في الجنب إذا أراد الأكل : إنه يغسل يديه ويأكل . وعن الزهري مثله وإليه ذهب أحمد وقال : لأن الأحاديث في الوضوء لمن أراد النوم كذا في شرح الترمذي لابن سيد الناس . وذهب الجمهور إلى أنه كوضوء الصلاة واستدلوا بما في الصحيحين من حديثها بلفظ : ( كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ وضوؤه للصلاة ) وبما سبق من حديث عمار . ويجمع بين الروايات بأنه كان تارة يتوضأ وضوء الصلاة وتارة يقتصر على غسل اليدين لكن هذا في الأكل والشرب خاصة وأما في النوم والمعاودة فهو كوضوء الصلاة لعدم المعارض للأحاديث المصرحة فيهما بأنه كوضوء الصلاة

2 - وعنها أيضا قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان له حاجة إلى أهله أتاهم ثم يعود ولا يمس ماء )
- رواه أحمد ولأبي داود والترمذي عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينام وهو جنب ولا يمس ماء )

- الحديث قال أحمد : ليس بصحيح . وقال أبو داود : هو وهم . وقال يزيد بن هارون : هو خطأ . وقال مهنا عن أحمد بن صالح : لا يحل أن يروى هذا الحديث . وفي علل الأثرم : لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلا إبراهيم وحده لكفى قال ابن مفوز : أجمع المحدثون أنه خطأ من أبي إسحاق قال الحافظ : وتساهل في نقل الإجماع فقد صححه البيهقي وقال : إن أبا إسحاق قد بين سماعه من الأسود في رواية زهير عنه
قال ابن العربي في شرح الترمذي : تفسير غلط أبي إسحاق هو أن هذا الحديث رواه أبو إسحاق مختصرا أو اقتطعه من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه
ونص الحديث الطويل ما رواه أبو غسان قال : أتيت الأسود بن يزيد وكان لي أخا وصديقا فقلت : يا أبا عمر حدثني ما حدثتك عائشة أم المؤمنين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( قالت كان ينام أول الليل ويحيي آخره ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته ثم ينام قبل أن يمس ماء فإذا كان عند [ ص 274 ] النداء الأول وثب وربما قالت قام فأفاض عليه الماء وما قالت اغتسل وأنا أعلم ما تريد وإن نام جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة )
فهذا الحديث الطويل فيه وإن نام وهو جنب توضأ وضوء الرجل للصلاة فهذا يدلك على أن قوله ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته ثم ينام قبل أن يمس ماء يحتمل أحد وجهين إما أن يريد حاجة الإنسان من البول والغائط فيقضيهما ثم يستنجي ولا يمس ماء وينام فإن وطئ توضأ كما في آخر الحديث ويحتمل أن يريد بالحاجة حاجة الوطء وبقوله ثم ينام ولا يمس ماء يعني ماء الاغتسال ومتى لم يحمل الحديث على أحد هذين الوجهين تناقض أوله وآخره فتوهم أبو إسحاق أن الحاجة حاجة الوطء فنقل الحديث على معنى ما فهمه انتهى
والحديث يدل على عدم وجوب الوضوء على الجنب إذا أراد النوم أو المعاودة وقد تقدم في الباب الأول أنه غير صالح للاستدلال به على ذلك لوجوه ذكرناها هنالك
قال المصنف رحمه الله تعالى : وهذا لا يناقض ما قبله بل يحمل على أنه كان يترك الوضوء أحيانا لبيان الجواز ويفعله غالبا لطلب الفضيلة انتهى . وبهذا جمع ابن قتيبة والنووي

أبواب موجبات الغسل

- قال النووي : الغسل إذا أريد به الماء فهو مضموم الغين وإذا أريد به المصدر فيجوز بضم الغين وفتحها لغتان مشهورتان وبعضهم يقول إن كان مصدرا لغسلت فهو بالفتح كضربت ضربا وإن كان بمعنى الاغتسال فهو بالضم كقولنا غسل الجمعة مسنون وكذلك الغسل من الجنابة واجب وما أشبهه . وأما ما ذكره بعض من صنف في لحن الفقهاء من أن قولهم غسل الجنابة والجمعة ونحوهما بالضم لحن فهو خطأ منه بل الذي قالوه صواب كما ذكرنا . وأما الغسل بكسر الغين فهو اسم لما يغسل به الرأس من خطمى وغيره

باب الغسل من المني

1 - عن علي عليه السلام قال : ( كنت رجلا مذاء فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : في المذي الوضوء وفي المني الغسل )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه . ولأحمد فقال : ( إذا حذفت الماء فاغتسل من الجنابة فإذا لم تكن حاذفا فلا تغتسل )

- قال الترمذي : وقد روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه [ ص 275 ] وأخرج الحديث أيضا أبو داود والنسائي وأخرجه البخاري ومسلم من حديث علي مختصرا وفي إسناد الحديث الذي صححه الترمذي يزيد بن أبي زياد قال علي ويحيى : ضعيف لا يحتج به . وقال ابن المبارك : ارم به . وقال أبو حاتم الرازي : ضعيف الحديث كل أحاديثه موضوعة وباطلة . وقال البخاري : منكر الحديث ذاهب . وقال النسائي : متروك الحديث . وقال ابن حبان : صدوق إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير وكان يتلقن ما لقن فوقعت المناكير في حديثه فسماع من سمع منه قبل التغير صحيح . والترمذي قد صحح حديث يزيد المذكور في مواضع هذا أحدها
وفي حديث ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو صائم ) وفي حديث ( أن العباس دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا ) وقد أحسن أيضا حديثه في حديث ( أنها أدخلت العمرة في الحج ) فلعل التصحيح والتحسين بمشاركة الأمور الخارجة عن نفس السند من اشتهار المتون ونحو ذلك وإلا فيزيد ليس من رجال الحسن فكيف الصحيح . وأيضا الحديث من رواية ابن أبي ليلى عن علي وقد قيل أنه لم يسمع منه
وفي الباب عن المقداد بن الأسود عند أبي داود والنسائي وابن ماجه . وعن أبي بن كعب عند ابن أبي شيبة وغيره
والحديث يدل على عدم وجوب الغسل من المذي وأن الواجب الوضوء وقد تقدم الكلام في ذلك في باب ما جاء في المذي من أبواب تطهير النجاسات
ويدل على وجوب الغسل من المني قال الترمذي : وهو قول عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق
قوله ( حذفت ) يروى بالحاء المهملة والخاء المعجمة بعدها ذال معجمة مفتوحة ثم فاء وهو الرمي وهو لا يكون بهذه الصفة إلا لشهوة ولهذا قال المصنف : وفيه تنبيه على أن ما يخرج لغير شهوة إما لمرض أو أبردة لا يوجب الغسل انتهى

2 - وعن أم سلمة أن أم سليم قالت : ( يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت قال : نعم إذا رأت الماء فقالت أم سلمة : وتحتلم المرأة فقال : تربت يداك فبما يشبهها ولدها )
- متفق عليه

- للحديث ألفاظ عند الشيخين . ورواه مسلم من حديث أنس عن أم سليم ومن حديث عائشة أن امرأة سألت وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه . وفي الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن بسرة سألت أخرجه ابن أبي شيبة . وعن أبي [ ص 276 ] هريرة أخرجه الطبراني في الأوسط . وعن خولة بنت حكيم أخرجه النسائي
قولها ( إن الله لا يستحيي ) جعلت هذا القول تمهيدا لعذرها في ذكر ما يستحيا منه والمراد بالحياء هنا معناه اللغوي إذ الحياء الشرعي خير كله والمراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحق أو لا يمنع من ذكر الحق لأن الحياء تغير وانكسار وهو مستحيل عليه . وقيل إنما يحتاج إلى التأويل وفي الإثبات ولا يحتاج إليه في النفي
قولها ( احتلمت ) الاحتلام افتعال من الحلم بضم المهملة وسكون اللام وهو ما يراه النائم في نومه والمراد به هنا أمر خاص هو الجماع . وفي رواية أحمد من حديث أم سليم أنها قالت : ( إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل )
قوله ( إذا رأت الماء ) أي المني بعد الاستيقاظ
قولها ( وتحتلم المرأة ) بحذف همزة الاستفهام وفي بعض نسخ البخاري بإثباتها
قوله ( تربت يداك ) أي افتقرت وصارت على التراب وهو من الألفاظ التي تطلق عند الزجر ولا يراد بها ظاهرها
قوله ( فبما يشبهها ولدها ) بالباء الموحدة وإثبات ألف ما الاستفهامية المجرورة وهو لغة والحديث يدل على وجوب الغسل على المرأة بإنزالها الماء . قال ابن بطال والنووي : وهذا لا خلاف فيه وقد روي الخلاف في ذلك عن النخعي . وفي الحديث رد على من قال أن ماء المرأة لا يبرز

باب إيجاب الغسل من التقاء الختانين ونسخ الرخصة فيه

1 - عن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل )
- متفق عليه . ولمسلم وأحمد ( وإن لم ينزل )

- قوله ( إذا جلس ) الضمير المستتر فيه وفي قوله ( ثم جهدها ) للرجل والضمير البارز في قوله ( شعبها وجهدها ) للمرأة
قوله ( شعبها ) الشعب جمع شعبة وهي القطعة من الشيء قيل المراد هنا يداها ورجلاها وقيل رجلاها وفخذاها وقيل ساقاها وفخذاها وقيل فخذها واسكتاها وقيل فخذاها وشفراها وقيل نواحي فرجها الأربع قاله في الفتح . قال الأزهري : والاسكتان ناحيتا الفرج والشفران طرف الناحيتين
قوله ( ثم جهدها ) بفتح الجيم والهاء يقال جهد واجهد أي بلغ المشقة قيل معناه كدها بحركته أو بلغ جهده في العمل بها والمراد به هنا معالجة الإيلاج كنى به عنها
والحديث يدل على أن إيجاب الغسل لا يتوقف على الإنزال بل يجب بمجرد الإيلاج أو ملاقاة الختان [ ص 277 ] الختان كما سيأتي وقد ذهب إلى ذلك الخلفاء الأربعة والعترة والفقهاء وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم وروى ابن عبد البر عن بعضهم أنه قال : انعقد إجماع الصحابة على إيجاب الغسل من التقاء الختانين قال : وليس عندنا كذلك ولكنا نقول أن الاختلاف في هذا ضعيف وأن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف انعقد إجماعهم على إيجاب الغسل من التقاء الختانين أو مجاوزة الختان الختان انتهى
وجعلوا أحاديث الباب ناسخة لحديث ( الماء من الماء ) وخالف في ذلك أبو سعيد الخدري وزيد بن خالد وابن أبي وقاص ومعاذ ورافع بن خديج . وروي أيضا عن علي ومن غير الصحابة عمر بن عبد العزيز والظاهرية وقالوا : لا يجب الغسل إلا إذا وقع الإنزال وتمسكوا بحديث ( الماء من الماء ) المتفق عليه ويمكن تأييد ذلك بحمل الجهد المذكور في الحديث على الإنزال ولكنه لا يتم بعد التصريح بقوله وإن لم ينزل في رواية مسلم وأحمد . وأصرح من ذلك حديث عائشة الآتي بعد هذا لتصريحه بأن مجرد مس الختان للختان موجب للغسل ولكنها لا تتم دعوى النسخ التي جزم بها الأولون إلا بعد تسليم تأخر حديث أبي هريرة وعائشة وغيرهما
وقد ذكر المصنف حديث أبي بن كعب وحديث رافع بن خديج للاستدلال بهما على النسخ وهما صريحان في ذلك وسنذكرهما وقد ذكر الحازمي في الناسخ والمنسوخ آثارا تدل على النسخ ولو فرض عدم التأخر لم ينتهض حديث ( الماء من الماء ) لمعارضة حديث عائشة وأبي هريرة لأنه مفهوم وهما منطوقان والمنطوق أرجح من المفهوم
قال النووي : وقد أجمع على وجوب الغسل متى غابت الحشفة في الفرج وإنما كان الخلاف فيه لبعض الصحابة ومن بعدهم ثم انعقد الإجماع على ما ذكرنا وهكذا قال ابن العربي وصرح أنه لم يخالف في ذلك إلا داود
قوله ( فقد وجب عليه الغسل ) هو بضم الغين المعجمة اسم للاغتسال وحقيقته إفاضة الماء على الأعضاء وزادت الهادوية مع الدلك ولم نجد في كتب اللغة ما يشعر بأن الدلك داخل في مسمى الغسل فالواجب ما صدق عليه اسم الغسل المأمور به لغة اللهم إلا أن يقال حديث ( بلوا الشعر وأنقوا البشر ) على فرض صحته مشعر بوجوب الدلك لأن الانقاء لا يحصل بمجرد الإفاضة . ( لا يقال ) إذا لم يجب الدلك لم يبق فرق بين الغسل والمسح لأنا نقول المسح الإمرار على الشيء باليد يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ فلا يجب فيه الاستيعاب بخلاف الغسل فإنه يجب فيه الاستيعاب

2 - [ ص 278 ] وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه . ولفظه : ( إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل )

- ولها حديث آخر بلفظ : ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واغتسلنا ) وأخرجه الشافعي في الأم والنسائي وصححه ابن حبان وابن القطان وأعله البخاري بأن الأوزاعي أخطأ فيه
ورواه غيره عن عبد الرحمن بن القاسم مرسلا واستدل على ذلك بأن أبا الزناد قال سألت القاسم بن محمد سمعت في هذا الباب شيئا قال : لا وابنه عبد الرحمن قال : عن أبيه وأجاب من صححه بأنه يحتمل أن يكون القاسم كان نسيه ثم ذكر أو حدث به ابنه عبد الرحمن ثم نسي . قال الحافظ : ولا يخلو الجواب عن نظر . قال النووي : هذا الحديث أصله صحيح ولكن فيه تغيير وتبع في ذلك ابن الصلاح
قوله ( بين شعبها ) قد تقدم تفسير الشعب
قوله ( الختان ) المراد به هنا موضع الختن والختن في المرأة قطع جلدة في أعلى الفرج مجاروة لمخرج البول كعرف الديك ويسمى الخفاض
قوله ( جاوز ) ورد بلفظ المجاوزة وبلفظ الملاقاة وبلفظ الملامسة وبلفظ الإلزاق والمراد بالملاقاة المحاذاة . قال القاضي أبو بكر : إذا غابت الحشفة في الفرج فقد وقعت الملاقاة . قال ابن سيد الناس : وهكذا معنى مس الختان الختان أي قاربه وداناه ومعنى إلزاق الختان بالختان إلصاقه به ومعنى المجاوزة ظاهر . قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي حاكيا عن ابن العربي : وليس المراد حقيقة اللمس ولا حقيقة الملاقاة وإنما هو من باب المجاز والكناية عن الشيء بما بينه وبينه ملابسة أو مقاربة وهو ظاهر وذلك أن ختان المرأة في أعلى الفرج ولا يمسه الذكر في الجماع
وقد أجمع العلماء كما أشار إليه علي أنه لو وضع ذكره على ختانها ولم يولجه لم يجب الغسل على واحد منهما فلا بد من قدر زائد على الملاقاة وهو ما وقع مصرحا به في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ : ( إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل ) أخرجه ابن أبي شيبة والتصريح بلفظ الوجوب في هذا الحديث والذي قبله مشعر بأن ذلك على وجه الحتم ولا خلاف فيه بين القائلين بأن مجرد ملاقاة الختان الختان سبب للغسل
قال المصنف رحمه الله : وهو يفيد الوجوب وإن كان هناك حائل انتهى . وذلك لأن الملاقاة والمجاوزة لا يتوقف صدقهما على عدمه

3 - [ ص 279 ] وعن أبي بن كعب قال : ( إن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها )
- رواه أحمد وأبو داود . وفي لفظ : ( إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها ) رواه الترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة ورواه الزهري عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب وفي رواية ابن ماجه عن الزهري قال : قال سهل بن سعد . وفي رواية أبي داود عن ابن شهاب حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره وجزم موسى بن هارون والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل . وقال ابن خزيمة : هذا الرجل الذي لم يسمه الزهري هو أبو حازم ثم ساقه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد عن أبي قال : إن الفتيا وساقه بلفظ الكتاب إلا أنه قال في بدء الإسلام
وقد ساقه ابن خزيمة أيضا عن الزهري قال أخبرني سهل قال الحافظ : وهذا يدفع قول من جزم بأنه لم يسمعه منه لكن قال ابن خزيمة : أهاب أن تكون هذه اللفظة غلطا من محمد بن جعفر الراوي له عن معمر عن الزهري
قال الحافظ : وأحاديث أهل البصرة عن معمر يقع الوهم فيها لكن في كتاب ابن شاهين من طريق يعلى بن منصور عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري حدثني سهل وكذا أخرجه بقي بن مخلد في مسنده عن أبي كريب عن ابن المبارك وقال ابن حبان : يحتمل أن يكون الزهري سمعه من رجل عن سهل ثم لقي سهلا فحدثه أو سمعه من سهل ثم ثبته فيه أبو حازم ورواه ابن أبي شيبة من طريق شعبة عن سيف بن وهب عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عميرة بن يثربي عن أبي بن كعب نحوه
والحديث يدل على ما قاله الجمهور من النسخ وقد سبق الكلام عليه

4 - وعن عائشة رضي الله عنها : ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة جالسة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل )
- رواه مسلم

- قوله ( ثم يكسل ) قال النووي : ضبطناه بضم الياء ويجوز فتحها يقال أكسل الرجل في جماعه إذا ضعف عن الإنزال وكسل بفتح الكاف وكسر السين والأولى أفصح وهذا تصريح بما ذهب إليه الجمهور وقد سلف ذكر الخلاف فيه

5 - وعن رافع بن خديج قال : ( ناداني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 280 ] وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل فاغتسلت وخرجت فأخبرته فقال : لا عليك الماء من الماء قال رافع : ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بالغسل )
- رواه أحمد

- الحديث حسنه الحازمي وفي تحسينه نظر لأن في إسناده رشدين وليس من رجال الحسن . وفيه أيضا مجهول لأنه قال عن بعض ولد رافع بن خديج فلينظر فالظاهر ضعف الحديث لا حسنه وهو من أدلة مذهب الجمهور
وفي الباب عن علي بن أبي طالب وعثمان والزبير وطلحة وأبي أيوب وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم

باب من ذكر احتلاما ولم يجد بللا أو بالعكس

1 - عن خولة بنت حكيم : ( أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال : ليس عليها غسل حتى تنزل كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل )
- رواه أحمد والنسائي مختصرا . ولفظه : ( أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المرأة تحتلم في منامها فقال : إذا رأت الماء فلتغتسل )

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن أبي شيبة قال السيوطي في الجامع الكبير : وهو صحيح وذكره الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه وهو متفق على معناه من حديث أم سلمة وقد تقدم . وعند مسلم من حديث أنس وعائشة . وعند أحمد من حديث ابن عمر . والسائلة عند هؤلاء هي أم سليم وقد سألت عن ذلك خولة كما في حديث الباب . وسهلة بنت سهل عند الطبراني . وبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة . وقد أو ل ابن عباس حديث الماء من الماء بالاحتلام أخرج ذلك عنه الطبراني وأصله في الترمذي ولفظه : ( إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما الماء من الماء في الاحتلام ) قال الحافظ : وفي إسناده لين لأنه من رواية شريك عن أبي الحجاف
والحديث يدل على وجوب الغسل على الرجل والمرأة إذا وقع الإنزال وهو إجماع إلا ما يحكى عن النخعي واشترطت الهادوية مع تيقن خروج المني تيقن الشهوة أو ظنها وهذا الحديث وحديث أم سلمة السابق وحديث عائشة الآتي يرد ذلك وتأييده بأن المني إنما يكون عند الشهوة في جميع الحالات أو غالبها تقييد بالعادة وهو ليس بنافع لأن محل النزاع من وجد الماء ولم يذكر شهوة فالأدلة قاضية بوجوب الغسل عليه والتقييد بتيقن الشهوة أو ظنها مع وجود الماء يقضي بعدم وجوب الغسل اللهم إلا أن يجعل مجرد [ ص 281 ] وجود الماء محصلا لظن الشهوة لجري العادة بعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ولكنهم لا يقولون به

2 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال : يغتسل . وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل فقال : لا غسل عليه فقالت أم سليم : المرأة ترى ذلك عليها الغسل قال : نعم إنما النساء شقائق الرجال )
- رواه الخمسة إلا النسائي

- الحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وقد اختلف فيه فقال أحمد : هو صالح وروي عنه أنه قال : لا بأس به وكان ابن مهدي يحدث عنه . وقال يحيى بن معين : صالح وروي عنه أنه قال : لا بأس به يكتب حديثه . وقال يعقوب بن شيبة : ثقة صدوق في حديثه اضطراب أخرج له مسلم مقرونا بأخيه عبيد الله . وقال ابن المديني : ضعيف . وقال يحيى القطان : ضعيف وروي أنه كان لا يحدث عنه . وقال صالح : جزرة مختلط الحديث . وقال النسائي : ليس بالقوي . وقال ابن حبان : غلب عليه التعبد حتى غفل عن حفظ الأخبار وجودة الحفظ فوقعت المناكير في حديثه فلما فحش خطؤه استحق الترك
وقد تفرد به المذكور عند من ذكره المصنف من المخرجين له ولم نجده عن غيره وهكذا رواه أحمد وابن أبي شيبة من طريقه فالحديث معلول بعلتين الأولى العمري المذكور والثانية التفرد وعدم المتابعات فقصر عن درجة الحسن والصحة والله أعلم
والحديث يدل على اعتبار مجرد وجود المني سواء انضم إلى ذلك الشهوة أم لا وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك
قال ابن رسلان : أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني

باب وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم

1 - عن قيس بن عاصم : ( أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يغتسل بماء وسدر )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة وصححه ابن السكن وهو يدل على مشروعية الغسل لمن أسلم . وقد ذهب إلى الوجوب مطلقا أحمد بن حنبل
وذهب الشافعي إلى أنه يستحب له أن يغتسل فإن لم يكن جنبا أجزأه الوضوء وأوجبه [ ص 282 ] الهادي وغيره على من كان قد أجنب حال الكفر سواء كان قد اغتسل أم لا لعدم صحة الغسل وقال باستحبابه لمن لم يجنب أوجبه أبو حنيفة على من أجنب ولم يغسل حال كفره فإن اغتسل لم يجب . وقال المنصور بالله : لا يجب الغسل على الكافر بعد إسلامه من جنابة أصابته قبل إسلامه وروي عن الشافعي نحوه
احتج من قال بالوجوب مطلقا بحديث الباب وحديث ثمامة الآتي وحديث أمره صلى الله عليه وآله وسلم لواثلة وقتادة الرهاوي عند الطبراني وعقيل بن أبي طالب عند الحاكم في تاريخ نيسابور قال الحافظ : وفي أسانيد الثلاثة ضعف
واحتج القائلون بالاستحباب إلا لمن أجنب بأنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل من أسلم بالغسل ولو كان واجبا لما خص بالأمر به بعضا دون بعض فيكون ذلك قرينة تصرف الأمر إلى الندب وأما وجوبه على المجنب فللأدلة القاضية بوجوبه لأنها لم تفرق بين كافر ومسلم
واحتج القائل بالاستحباب مطلقا لعدم وجوبه على المجنب بحديث الإسلام يجب ما قبله والظاهر الوجوب لأن أمر البعض قد وقع به التبليغ ودعوى عدم الأمر لمن عداهم لا يصلح متمسكا لأن غاية ما فيها عدم العلم بذلك وهو ليس علما بالعدم

2 - وعن أبي هريرة : ( أن ثمامة أسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أيضا عبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال وإنما فيهما أنه اغتسل والحديث قد تقدم الكلام على فقهه

باب الغسل من الحيض

1 - عن عائشة : ( أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي )
- رواه البخاري

- الحديث متفق عليه بلفظ : ( فاغسلي عنك الدم وصلي )
قوله ( ذلك ) بكسر الكاف
قوله ( وليست بالحيضة ) الحيضة بفتح الحاء كما نقله الخطابي عن أكثر المحدثين أو كلهم وإن كان قد اختار الكسر على إرادة الحالة لكن الفتح هنا أظهر قاله الحافظ . وقال النووي : هو متعين أو قريب من المتعين
وأما قوله ( فإذا أقبلت الحيضة ) [ ص 283 ] فيجوز فيه الوجهان معا جوازا حسنا انتهى . قال الحافظ : والذي في روايتنا بفتح الحاء في الموضعين
قوله ( وصلي ) أي بعد الاغتسال وقد وقع التصريح بذلك في بعض روايات البخاري في باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض
والحديث يدل على أن المرأة إذا ميزت دم الحض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث فتتوضأ لكل صلاة لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية لظاهر قوله ( توضئي لكل صلاة ) قال الحافظ : وبهذا قال الجمهور
وعند الحنفية أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة وكذا عند الهادوية ويدل على عدم وجوب الاغتسال لكل صلاة وفيه خلاف وسيأتي الكلام عليه في باب غسل المستحاضة وفي أبواب الحيض لأن المصنف رحمه الله سيورد هذا الحديث مع سائر رواياته هنالك وإنما ساقه هنا للاستدلال به على غسل الحائض ولم يأمرها صلى الله عليه وآله وسلم بالاغتسال إلا لإدبار الحيضة

باب تحريم القراءة على الحائض والجنب

1 - عن علي كرم الله وجهه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولا يحجبه وربما قال لا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة )
- رواه الخمسة لكن لفظ الترمذي مختصر : ( كان يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا ) وقال : حديث حسن صحيح

- الحديث أيضا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبزار والدارقطني والبيهقي وصححه أيضا ابن حبان وابن السكن وعبد الحق والبغوي في شرح السنة . وقال ابن خزيمة : هذا الحديث ثلث رأس مالي . وقال شعبة : ما أحدث بحديث أحسن منه قال الشافعي : أهل الحديث لا يثبتونه . قال البيهقي : إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر قاله شعبة . وقال الخطابي : كان أحمد يوهن هذا الحديث وقال النووي : خالف الترمذي الأكثرون فضعفوا هذا الحديث وقد قدمنا من صححه مع الترمذي . وحكى البخاري عن عمرو بن مرة الراوي لهذا الحديث عنه أنه قال : كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر
والحديث يدل على أن الجنب لا يقرأ القرآن وقد ذهب إلى تحريم قراءة القرآن على الجنب القاسم والهادي [ ص 284 ] والشافعي من غير فرق بين الآية وما دونها وما فوقها . وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز له قراءة دون آية إذ ليس بقرآن . وقال المؤيد بالله والإمام يحيى وبعض أصحاب أبي حنيفة : يجوز ما فعل لغير التلاوة كيا مريم اقنتي لا لقصد التلاوة
احتج الأولون القائلون بالتحريم بحديث الباب وحديث ابن عمر الذي سيأتي وحديث ( اقرؤوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة فإن أصابته فلا ولا حرفا ) ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب ليس فيه ما يدل على التحريم لأن غايته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك القرآن حال الجنابة ومثله لا يصلح متمسكا للكراهة فكيف يستدل به على التحريم
وأما حديث ابن عمر ففيه مقال سنذكره عند ذكره لا ينتهض معه للاستدلال . وأما حديث اقرؤوا القرآن الخ فهو غير مرفوع بل موقوف على علي عليه السلام إلا أنه أخرج أبو يعلى من حديث علي قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن ثم قال هكذا لمن ليس بجنب فأما الجنب فلا ولا آية )
قال الهيثمي : رجاله موثقون فإن صح هذا صلح للاستدلال به على التحريم . وقد أخرج البخاري عن ابن عباس أنه لم ير في القراءة للجنب بأسا ويؤيده التمسك بعموم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( كان يذكر الله على كل أحيانه ) وبالبراءة الأصلية حتى يصح ما يصلح لتخصيص هذا العموم وللنقل عن هذه البراءة

2 - وعن ابن عمر : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن )
- رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه

- الحديث في إسناده إسماعيل بن عياش وروايته عن الحجازيين ضعيفة وهذا منها وذكر البزار أنه تفرد به عن موسى بن عقبة وسبقه إلى نحو ذلك البخاري وتبعهما البيهقي لكن رواه الدارقطني من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى ومن وجه آخر وفيه مبهم عن أبي معشر وهو ضعيف عن موسى
قال الحافظ : وصحح ابن سيد الناس طريق المغيرة وأخطأ في ذلك فإن فيها عبد الملك بن مسلمة وهو ضعيف فلو سلم منه لصح إسناده وإن كان ابن الجوزي ضعفه بمغيرة بن عبد الرحمن فلم يصب في ذلك فإن مغيرة ثقة . وقال أبو حاتم : حديث إسماعيل بن عياش هذا خطأ وإنما هو من قول ابن عمر . وقال أحمد بن حنبل : هذا باطل أنكر على إسماعيل بن عياش . والحديث يدل على تحريم القراءة على الجنب وقد عرفت بما ذكرنا أنه لا ينتهض للاحتجاج به [ ص 285 ] على ذلك وقد قدمنا الكلام على ذلك في الحديث قبل هذا . ويدل أيضا على تحريم القراءة على الحائض وقد قال به قوم . والحديث هذا والذي بعده يصلحان للاحتجاج بهما على ذلك فلا يصار إلى القول بالتحريم إلا لدليل

3 - وعن جابر : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئا )
- رواه الدارقطني

- الحديث فيه محمد بن الفضل وهو متروك ومنسوب إلى الوضع وقد روي موقوفا وفيه يحيى بن أبي أنيسة وهو كذاب . وقال البيهقي : هذا الأثر ليس بالقوي وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب وساقه عنه في الخلافيات بإسناد صحيح

باب الرخصة في اجتياز الجنب في المسجد ومنعه من اللبث فيه إلا أن يتوضأ

1 - عن عائشة قالت : ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناوليني الخمرة من المسجد فقلت : إني حائض فقال : إن حيضتك ليست في يدك )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- الحديث حسنه الترمذي وهو صحيح بتصحيح مسلم إياه كما قال ابن سيد الناس وإخراجه له في صحيحه وأما أبو الحسن الدارقطني فإنه ذكر فيه اختلافا على الأعمش في هذا الحديث وصوب رواية من رواه عنه عن ثابت عن القاسم عن عائشة وليس هذا الاختلاف الذي ذكره الدارقطني مانعا من القول بصحته بعد أن بين فيه وجه الصواب ولكنه تفرد به ثابت بن عبيد وهو وإن كان ثقة فليس في مرتبة الحفظ والإتقان الذي يقبل معه تفرد ويمكن أن يجاب عن إعلاله بالتفرد أن له طريقا أخرى عند الدارقطني عن محمد بن فضيل عن الأعمش عن السائب عن محمد بن أبي يزيد عن عائشة وعن عبد الوارث بن سعيد وعبد الرحمن المحاربي كلاهما عن ليث بن أبي سليم عن القاسم عن عائشة . وعن أبي عمر الحوضي عن شعبة عن سليمان الشيباني عن القاسم عن عائشة وهذه متابعات لطريق ثابت بن عبيد وهي وإن كانت واهية فهي تحصل تقوية
قوله ( الخمرة ) بضم الخاء المعجمة وإسكان الميم . قال الهروي وغيره : وهي السجادة وهي ما يضع عليه الرجل حر وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة من خوص . وقال الخطابي : هي السجادة يسجد عليها المصلي وهي عند بعضهم قدر ما يضع عليه المصلي [ ص 286 ] وجهه فقط وقد تكون عند بعضهم أكبر من ذلك
قوله ( إن حيضتك ) الحيضة قيدها الخطابي بكسر الحاء المهملة يعني الحالة والهيئة . وقال : المحدثون يفتحون الحاء وهو خطأ . وصوب القاضي عياض الفتح وزعم أن كسر الحاء هو الخطأ لأن المراد الدم وهو الحيض بالفتح لا غير وقد تقدم كلام الحافظ والنووي في باب وجوب الغسل على الكافر
والحديث يدل على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة ولكنه يتوقف على تعلق الجار والمجرور أعني قوله من المسجد بقوله ناوليني وقد قال بذلك طائفة من العلماء واستدلوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تعرض لها إذا لم يكن على جسدها نجاسة وأنها لا تمنع من المسجد إلا مخافة ما يكون منها وعلقته طائفة أخرى بقولها ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد ناوليني الخمرة ) على التقديم والتأخير
وعليه المشهور من مذاهب العلماء أنها لا تدخل لا مقيمة ولا عابرة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) وسيأتي الكلام عليه في هذا الباب
قالوا : ولأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة والجنب لا يمكث فيه وإنما اختلفوا في عبوره . والمشهور من مذاهب العلماء منعه فالحائض أولى بالمنع ويحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا مسجد بيته الذي كان يتنفل فيه فيسقط الاحتجاج به في هذا الباب
وقد ذهب إلى جواز دخول الحائض المسجد وأنها لا تمنع إلا لمخافة ما يكون منها زيد بن ثابت وحكاه الخطابي عن مالك والشافعي وأحمد وأهل الظاهر ومنع من دخولها سفيان وأصحاب الرأي وهو المشهور من مذهب مالك

2 - وعن ميمونة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض )
- رواه أحمد والنسائي

- الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا محمد بن منصور عن سفيان عن منبوذ عن أمه أن ميمونة فذكره . ومحمد بن منصور ثقة ومنبوذ وثقه ابن معين وقد أخرجه بنحو هذا اللفظ عنها عبد الرزاق وابن أبي شيبة والضياء في المختارة . وللحديث شواهد
أما قراءة القرآن في حجر الحائض فهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وليس فيها خلاف . وأما وضع الخمرة في المسجد فهو حجة لمن قال بجواز دخول الحائض المسجد للحاجة ومؤيد لتعليق الجار والمجرور في الحديث الأول بقوله : [ ص 287 ] ( ناوليني ) لأن دخولها المسجد لوضع الخمرة فيه لا فرق بينه وبين دخولها إليه لإخراجها وقد تقدم الكلام على ذلك
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر أن جواريه كن يغسلن رجليه ويعطينه الخمرة وهن حيض

3 - وعن جابر قال : ( كان أحدنا يمر في المسجد جنبا مجتازا )
- رواه ابن منصور في سننه

4 - وعن زيد بن أسلم قال : ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشون في المسجد وهم جنب )
- رواه ابن المنذر

- الحديث الأول أخرجه أيضا ابن أبي شيبة وقد أراد المصنف بهذا الاستدلال لمذهب من قال إنه يجوز للجنب العبور في المسجد وهم ابن مسعود وابن عباس والشافعي وأصحابه واستدلوا على ذلك بقوله تعالى { إلا عابري سبيل } والعبور إنما يكون في محل الصلاة وهو المسجد لا في الصلاة وتقييد جواز ذلك بالسفر لا دليل عليه بل الظاهر أن المراد مطلق المار لأن المسافر ذكر بعد ذلك فيكون تكرارا يصان القرآن عن مثله وقد أخرج ابن جرير عن يزيد ابن أبي حبيب أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم إلى المسجد فكانت تصيبهم جنابة فلا يجدون الماء ولا طريق إليه إلا من المسجد فأنزل الله تعالى { ولا جنبا إلا عابري سبيل } وهذا من الدلالة على المطلوب بمحل لا يبقى بعده ريب
وأما ما استدل به القائلون بعدم جواز العبور وهم العترة ومالك وأبو حنيفة وأصحابه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) وسيأتي فمع كونه فيه مقال سنبينه هو عام مخصوص بأدلة جواز العبور . وحمل الآية على من كان في المسجد وأجنب تعسف لم يدل عليه دليل

5 - وعن عائشة قالت : ( جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل فيهم رخصة فخرج إليهم فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب )
- رواه أبو داود

6 - وعن أم سلمة قالت : ( دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته أن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب )
- رواه ابن ماجه

- الحديث الأول صحيح كما سيأتي وأخرج الثاني أيضا الطبراني قال أبو زرعة : الصحيح [ ص 288 ] حديث عائشة وكلاهما من حديث أفلت بن خليفة عن جسرة وضعف ابن حزم هذا الحديث فقال : بأن أفلت مجهول الحال وقال الخطابي : ضعفوا هذا الحديث وأفلت راويه مجهول لا يصح الاحتجاج به وليس ذلك بسديد فإن أفلت وثقه ابن حبان وقال أبو حاتم : هو شيخ . وقال أحمد بن حنبل : لا بأس به وروى عنه سفيان الثوري وعبد الواحد بن زياد . وقال في الكاشف : صدوق . وقال في البدر المنير : بل هو مشهور ثقة . وأما جسرة فقال البخاري : إن عندها عجائب . قال ابن القطان : وقول البخاري في جسرة أن عندها عجائب لا يكفي في رد أخبارها . وقال العجلي : تابعية ثقة وذكرها ابن حبان في الثقات وقد حسن ابن القطان حديث جسرة هذا عن عائشة وصححه ابن خزيمة
قال ابن سيد الناس : ولعمرى إن التحسين لأقل مراتبه لثقة رواته ووجود الشواهد له من خارج فلا حجة لأبي محمد يعني ابن حزم في رده ولا حاجة بنا إلى تصحيح ما رواه في ذلك لأن هذا الحديث كاف في الرد
قال الحافظ : وأما قول ابن الرفعة في أواخر شروط الصلاة أن أفلت متروك فمردود لأنه لم يقله أحد من أئمة الحديث
والحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض وهو مذهب الأكثر واستدلوا بهذا الحديث وبنهي عائشة عن أن تطوف بالبيت متفق عليه
وقال داود والمزني وغيرهم : إنه يجوز مطلقا . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : إنه يجوز للجنب إذا توضأ لرفع الحدث لا الحائض فتمنع . وقال القائلون بالجواز مطلقا : إن حديث الباب كما قال ابن حزم باطل . وأما حديث عائشة فالنهي لكون الطواف بالبيت صلاة وقد تقدم . والبراءة الأصلية قاضية بالجواز ويجاب بأن الحديث كما عرفت إما حسن أو صحيح . وجزم ابن حزم بالبطلان مجازفة وكثيرا ما يقع في مثلها واحتج من قال بجوازه للجنب إذا توضأ بما قاله المصنف بعد أن ساق هذا الحديث ولفظه وهذا يمنع بعمومه دخوله مطلقا لكن خرج منه المجتاز لما سبق والمتوضئ كما ذهب إليه أحمد وإسحاق لما روى سعيد بن منصور في سننه قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام [ ص 289 ] ابن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : ( رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة )
وروى حنبل بن إسحاق صاحب أحمد قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال : ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل المسجد فيتحدث ) انتهى . ولكن في كلا الإسنادين هشام بن سعد وقد قال أبو حاتم : إنه لا يحتج به وضعفه ابن معين وأحمد والنسائي . وقال أبو داود : إنه أثبت الناس في زيد بن أسلم وعلى تسليم الصحة لا يكون ما وقع من الصحابة حجة ولا سيما إذا خالف المرفوع إلا أن يكون إجماعا

باب طوف الجنب على نسائه بغسل وبأغسال

1 - عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد )
- رواه الجماعة إلا البخاري : ولأحمد والنسائي ( في ليلة بغسل واحد )

- الحديث أخرجه البخاري أيضا من حديث قتادة عن أنس بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة قال : قلت لأنس بن مالك أو كان يطيقه قال : كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين ) . ولم يذكر فيه الغسل . قال ابن عبد البر : ومعنى الحديث أنه فعل ذلك عند قدومه من سفر ونحوه في وقت ليس لواحدة منهن يوم معين معلوم فجمعهن يومئذ ثم دار بالقسم عليهن بعد والله أعلم لأنهن كن حرائر وسنته صلى الله عليه وآله وسلم فيهن العدل بالقسم بينهن وأن لا يمس الواحدة في يوم الأخرى
وقال ابن العربي : إن الله أعطى نبيه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حق تكون مقتطعة له من زمانه يدخل فيها على جميع أزواجه أو بعضهن
وفي مسلم أن تلك الساعة كانت بعد العصر فلو اشتغل عنها كانت بعد المغرب أو غيره . وقد أسلفنا في باب تأكيد الوضوء للجنب تأويل النووي فليرجع إليه
والحديث يدل على عدم وجوب الاغتسال على من أراد معاودة الجماع
قال النووي : وهذا بإجماع المسلمين وأما الاستحباب فلا خلاف في استحبابه للحديث الآتي بعد هذا ولكنه ذهب قوم إلى وجوب الوضوء على المعاود وذهب آخرون إلى عدم وجوبه وقد ذكرنا ذلك في باب تأكيد الوضوء للجنب

2 - وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاف على نسائه في ليلة فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلا فقلت : يا رسول الله لو اغتسلت غسلا واحدا فقال : هذا أطهر وأطيب )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والترمذي قال الحافظ : وهذا الحديث [ ص 290 ] طعن فيه أبو داود فقال : حديث أنس أصح منه انتهى . وهذا ليس بطعن في الحقيقة لأنه لم ينف عنه الصحة . قال النسائي : ليس بينه وبين حديث أنس اختلاف بل كان يفعل هذا مرة وذاك أخرى
وقال النووي : هو محمول على أنه فعل الأمرين في وقتين مختلفين
والحديث يدل على استحباب الغسل قبل المعاودة ولا خلاف فيه

أبواب الأغسال المستحبة

باب غسل الجمعة

1 - عن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل )
- رواه الجماعة ولمسلم : ( إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل )

- الحديث له طرق كثيرة ورواه غير واحد من الأئمة وعد ابن منده من رواه عن نافع فبلغوا ثلاثمائة نفس وعد من رواه من الصحابة غير ابن عمر فبلغوا أربعة وعشرين صحابيا . قال الحافظ : وقد جمعت طرقه عن نافع فبلغوا مائة وعشرين نفسا
وفي الغسل يوم الجمعة أحاديث غير ما ذكر المصنف منها عن جابر عند النسائي . وعن البراء عند ابن أبي شيبة في المصنف . وعن أنس عند ابن عدي في الكامل . وعند بريدة عند البزار . وعن ثوبان عند البزار أيضا . وعن سهل بن حنيف عند الطبراني . وعن عبد الله بن الزبير عند الطبراني أيضا . وعن ابن عباس عند ابن ماجه . وعن عبد الله بن عمر حديث آخر عند الطبراني . وعن ابن مسعود عند البزار . وعن حفصة عند أبي داود . وفي الباب عن جماعة من الصحابة يأتي ذكرهم في أبواب الجمعة إن شاء الله
والحديث يدل على مشروعية غسل الجمعة وقد اختلف الناس في ذلك قال النووي : فحكى وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة وبه قال أهل الظاهر
وحكاه ابن المنذر عن مالك وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ومالك وحكاه ابن المنذر أيضا عن أبي هريرة وعمار وغيرهما . وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع من الصحابة ومن بعدهم . وحكي عن ابن خزيمة وحكاه شارح الغنية لابن سريج قولا للشافعي . وقد حكى الخطابي وغيره الإجماع على أن الغسل ليس شرطا في صحة الصلاة وأنها تصح بدونه
وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى أنه مستحب . قال القاضي عياض : وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه
استدل الأولون [ ص 291 ] على وجوبه بالأحاديث التي أوردها المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب وفي بعضها التصريح بلفظ الوجوب وفي بعضها الأمر به وفي بعضها أنه حق على كل مسلم والوجوب يثبت بأقل من هذا
واحتج الآخرون لعدم الوجوب بحديث ( من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
قال القرطبي في تقرير الاستدلال بهذا الحديث على الاستحباب ما لفظه : ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضي للصحة يدل على أن الوضوء كاف . قال ابن حجر في التلخيص : إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة واحتجوا أيضا لعدم الوجوب بحديث سمرة الآتي لقوله فيه ( ومن اغتسل فالغسل أفضل ) فدل على اشتراك الغسل والوضوء في أصل الفضل وعدم تحتم الغسل وبحديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب وقد ترك الغسل قال النووي : وجه الدلالة أن الرجل فعله وأقره عمر ومن حضر ذلك الجمع وهم أهل الحل والعقد ولو كان واجبا لما تركه ولألزموه به وبحديث أبي سعيد الآتي ووجه دلالته على ذلك ما ذكره المصنف وبحديث أوس الثقفي وسيأتي في هذا الباب ووجه دلالته جعله قرينا للتبكير والمشي والدنو من الإمام وليست بواجبة فيكون مثلها
وبحديث عائشة الآتي ووجه دلالته أنهم إنما أمروا بالاغتسال لأجل تلك الروائح الكريهة فإذا زالت زال الوجوب . وأجابوا عن الأحاديث التي صرح فيها بالأمر أنها محمولة على الندب والقرينة الصارفة عن الوجوب هذه الأدلة المتعاضدة والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب وقد أمكن بهذا
وأما قوله ( واجب ) وقوله ( حق ) فالمراد متأكد في حقه كما يقول الرجل لصاحبه حقك واجب علي ومواصلتك حق علي وليس المراد الوجوب المتحتم المستلزم للعقاب بل المراد أن ذلك متأكد حقيق بأن لا يبخل به واستضعفه ابن دقيق العيد وقال : إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا في الدلالة على هذا الظاهر وأقوى ما عارضوا به حديث ( من توضأ يوم الجمعة ) ولا يقاوم سنده سند هذه الأحاديث انتهى
وأما حديث من توضأ فأحسن الوضوء فقال الحافظ في الفتح : ليس فيه نفي الغسل وقد ورد من وجه آخر في الصحيح بلفظ : ( من اغتسل ) فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء انتهى
وأما حديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب وهو عثمان كما سيأتي فما أراه إلا حجة [ ص 292 ] على القائل بالاستحباب لا له لأن إنكار عمر على رأس المنبر في ذلك الجمع على مثل ذلك الصحابي الجليل وتقرير جمع الحاضرين الذين هم جمهور الصحابة لما وقع من ذلك الإنكار من أعظم الأدلة القاضية بأن الوجوب كان معلوما عند الصحابة ولو كان الأمر عندهم على عدم الوجوب لما عول ذلك الصحابي في الاعتذار على غيره فأي تقرير من عمر ومن حضر بعد هذا
ولعل النووي ومن معه ظنوا أنه لو كان الاغتسال واجبا لنزل عمر من منبره وأخذ بيد ذلك الصحابي وذهب به إلى المغتسل أو لقال له لا تقف في هذا الجمع أو اذهب فاغتسل فإنا سننتظرك أو ما أشبه ذلك ومثل هذا لا يجب على من رأى الإخلال بواجب من واجبات الشريعة وغاية ما كلفنا به في الإنكار على من ترك واجبا هو ما فعله عمر في هذه الواقعة على أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أول النهار كما قال الحافظ في الفتح لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران مولى عثمان أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء وإنما لم يعتذر لعمر بذلك كما اعتذر عن التأخر لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة
وقد حكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قصة عمر وعثمان تدل على وجوب الغسل لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رؤوس الناس ولو كان الترك مباحا لما فعل عمر ذلك
وأما حديث أبي سعيد الآتي فقد تقرر ضعف دلالة الاقتران ولا سيما بجنب مثل أحاديث الباب . وقد قال ابن الجوزي في الجواب على المستدلين بهذا الحديث على عدم الوجوب : إنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف
وقال ابن المنير : إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه لأن للقائل أن يقول خرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل
وأما حديث أوس الثقفي فليس فيه أيضا إلا الاستدلال بالاقتران
وأما حديث عائشة فلا نسلم أنها إذا زالت العلة زال الوجوب مسندين ذلك بوجوب السعي مع زوال العلة التي شرع لها وهي إغاظة المشركين وكذلك وجوب الرمي مع زوال ما شرع له وهو ظهور الشيطان بذلك المكان وكم لهذا من نظائر لو تتبعت لجاءت في رسالة مستقلة
قال في الفتح : وأجيب عن حديث عائشة بأن ليس فيه نفي الوجوب وبأنه سابق على الأمر به والإعلام بوجوبه
وبهذا يتبين لك عدم انتهاض ما جاء به الجمهور من الأدلة على عدم الوجوب وعدم إمكان الجمع بينها وبين أحاديث الوجوب لأنه وإن أمكن بالنسبة إلى الأوامر لم يمكن بالنسبة إلى [ ص 293 ] لفظ واجب وحق إلا بتعسف لا يلجئ طلب الجمع إلى مثله . ولا يشك من له أدنى إلمام بهذا الشأن أن أحاديث الوجوب أرجح من الأحاديث القاضية بعدمه لأن أوضحها دلالة على ذلك حديث سمرة وهو غير سالم من مقال وسنبينه وأما بقية الأحاديث فليس فيها إلا مجرد استنباطات واهية وقد دل حديث الباب أيضا على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة والمراد إرادة المجيء وقصد الشروع فيه وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال اشتراط الاتصال بين الغسل والرواح وإليه ذهب مالك . والثاني عدم الاشتراط لكن لا يجزئ فعله بعد صلاة الجمعة ويستحب تأخيره إلى الذهاب وإليه ذهب الجمهور . والثالث أنه لا يشترط تقديم الغسل على صلاة الجمعة بل لو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه وإليه ذهب داود ونصره ابن حزم واستبعده ابن دقيق العيد وقال : يكاد يجزم ببطلانه
وادعى ابن عبد البر الإجماع على من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة . واستدل مالك بحديث الباب ونحوه
واستدل الجمهور وداود بالأحاديث التي أطلق فيها يوم الجمعة لكن استدل الجمهور على عدم الاجتزاء به بعد الصلاة بأن الغسل لإزالة الروائح الكريهة والمقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة
والظاهر ما ذهب إليه مالك لأن حمل الأحاديث التي أطلق فيها اليوم على حديث الباب المقيد بساعة من ساعاته واجب
والمراد بالجمعة اسم سبب الاجتماع وهو الصلاة لا اسم اليوم كذا قيل وفي القاموس والجمعة المجموعة ويوم الجمعة وقيل إنما سمي يوم الجمعة لأن خلق آدم جمع فيه أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما من حديث سلمان
وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد بإسناد ضعيف وابن أبي حاتم بسند قوي موقوف . قال الحافظ : إن هذا أصح الأقوال ولكنه لا يصح أن يراد في الحديث إلا الصلاة لأن اليوم لا يؤتى وكذلك غيره وأخرج ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مرفوعا ( من أتى الجمعة فليغتسل ) زاد ابن خزيمة ومن لم يأتها فلا يغتسل

2 - وعن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه )
- متفق عليه

- وقد اتفق السبعة على إخراج قوله ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )
قوله ( وأن يمس ) يجوز فتح الميم وضمها وزاد في رواية لمسلم وغيره ( ولو من طيب المرأة ) وهو المكروه للرجال وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه فأباحه للرجل هنا للضرورة لعدم غيره وهو يدل على تأكده . [ ص 294 ] وقوله ( ما يقدر عليه ) قال القاضي عياض : محتمل لتكثيره ومحتمل لتأكيده حتى يفعله بما أمكنه
والحديث يدل على وجوب غسل يوم الجمعة للتصريح فيه بلفظ واجب . وقد استدل به على عدم الوجوب باعتبار اقترانه بالسواك ومس الطيب
قال المصنف رحمه الله تعالى : وهذا يدل على أنه أراد بلفظ الوجوب تأكيد استحبابه كما تقول حقك علي واجب والعدة دين بدليل أنه قرنه بما ليس بواجب بالإجماع وهو السواك والطيب انتهى
وقد عرفناك ضعف دلالة الاقتران عن ذلك وغايتها الصلاحية لصرف الأوامر وأما صرف لفظ واجب وحق فلا والكلام قد سبق مبسوطا في الذي قبله

3 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده )
- متفق عليه

- الحديث من أدلة القائلين بوجوب غسل الجمعة وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب وقد بين في الروايات الأخر أن هذا اليوم هو يوم الجمعة

4 - وعن ابن عمر أن عمر : ( بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين فناداه عمر : أية ساعة هذه فقال : إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على أن توضأت قال : والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بالغسل )
- متفق عليه

- الرجل المذكور هو عثمان كما بين في رواية لمسلم وغيره قال ابن عبد البر : ولا أعلم خلافا في ذلك
قوله ( أية ساعة هذه ) قال ذلك توبيخا له وإنكارا لتأخره إلى هذا الوقت
قوله ( والوضوء أيضا ) هو منصوب أي توضأت الوضوء قاله الأزهري وغيره وفيه إنكار ثان مضافا إلى الأول أي الوضوء أيضا اقتصرت عليه واخترته دون الغسل . والمعنى ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء
وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي والوضوء أيضا يقتصر عليه قال في الفتح : وأغرب السهيلي فقال : اتفق الرواة على الرفع لأن النصب يخرجه إلى معنى الإنكار يعني والوضوء لا يتنكر وجوابه ما تقدم
والحديث من أدلة القائلين بالوجوب لقوله كان يأمر وقد تقدم الكلام على ذلك وفيه استحباب تفقد الإمام لرعيته وأمرهم بمصالح دينهم والإنكار على مخالف السنة وإن كان كبير القدر وجواز الإنكار في مجمع من الناس وجواز الكلام في الخطبة وحسن الاعتذار إلى ولاة الأمر
وقد استدل بهذه [ ص 295 ] القصة على عدم وجوب غسل الجمعة وقد عرفناك فيما سبق عدم صلاحيتها لذلك

5 - وعن سمرة بن جندب : ( أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من توضأ للجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فذلك أفضل )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه فإنه رواه من حديث جابر بن سمرة

- الحديث أخرجه ابن خزيمة وحسنه الترمذي وقد روي عن قتادة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا . قال في الإمام : من يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث وهو مذهب علي بن المديني كما نقله عنه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم وقيل لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وهو قول البزار وغيره وقيل لم يسمع منه شيئا وإنما يحدث من كتابه
وروي من طريق الحسن عن أبي هريرة أخرجه البزار وهو وهم كما قال الحافظ . وروي من طريق قتادة عن الحسن عن جابر . ومن طريق إبراهيم بن مهاجر عن الحسن عن أنس
قال الحافظ : وهذا الاختلاف فيه على الحسن وعلى قتادة لا يضر لضعف من وهم فيه والصواب كما قال الدارقطني عن قتادة عن الحسن عن سمرة وكذا قال العقيلي
ورواه ابن ماجه بسند ضعيف عن أنس . ورواه الطبراني من حديثه في الأوسط بإسناد أمثل من ابن ماجه . ورواه البيهقي بإسناد فيه نظر من حديث ابن عباس وبإسناد فيه انقطاع من حديث جابر . ورواه عبد بن حميد والبزار في مسنديهما . وكذلك إسحاق بن راهويه من حديثه بإسناد فيه ضعف من حديث أبي سعيد . وله طريق أخرى في التمهيد فيها الربيع بن بدر وهو ضعيف
والحديث دليل لمن قال بعدم وجوب غسل الجمعة وقد ذكرنا تقرير الاستدلال به على ذلك والجواب عليه في أول الباب
قوله ( فبها ونعمت ) قال الأزهري : معناه فبالسنة أخذ ونعمت السنة قال الأصمعي : إنما ظهرت تاء التأنيث لإضمار السنة وقال الخطابي : ونعمت الخصلة . وقيل ونعمت الرخصة لأن السنة الغسل قاله أبو حامد الشاركي . وقال بعضهم : فبالفريضة أخذ ونعمت الفريضة

6 - وعن عروة عن عائشة قالت : ( كان الناس يتناوبون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء فيصيبهم الغبار والعرق فتخرج منهم الريح فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنسان منهم وهو عندي فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا )
- متفق عليه

[ ص 296 ] - قوله ( يتناوبون الجمعة ) أي يأتونها . والعوالي هي القرى التي حول المدينة على أربعة أميال منها
قوله ( في العباء ) هو بالمد وفتح العين المهملة جمع عباءة بالمد وعباية بالياء لغتان مشهورتان
قوله ( لو أنكم تطهرتم ) لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب أو للشرط والجواب محذوف تقديره لكان حسنا
الحديث استدل به من قال بعدم وجوب غسل الجمعة وقد قدمنا تقرير الاستدلال به والجواب عليه في أول الباب

7 - وعن أوس بن أوس الثقفي قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها )
- رواه الخمسة ولم يذكر الترمذي ( ومشى ولم يركب )

- الحديث حسنه الترمذي وسكت عليه أبو داود والمنذري وقد اختلف فيه على أبي الأشعث وعلى عبد الرحمن بن زيد . وعلى عبد الله بن المبارك . وقد رواه الطبراني بإسناد قال العراقي : حسن عن أوس المذكور
ورواه أحمد في مسنده عنه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قوله ( غسل ) روي بالتخفيف والتشديد قيل أراد غسل رأسه واغتسل أي غسل سائر بدنه وقيل جامع زوجته فأوجب عليها الغسل فكأنه غسلها واغتسل في نفسه
وقيل كرر ذلك للتأكيد ويرجح التفسير الأول ما في رواية أبي داود في هذا الحديث بلفظ : ( من غسل رأسه واغتسل ) وما في البخاري عن طاوس قال : قلت لابن عباس ذكروا ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اغتسلوا واغسلوا رؤوسكم ) الحديث
وقال صاحب المحكم : غسل امرأته يغسلها غسلا أكثر نكاحها . وقال الزمخشري : ويقال غسل المرأة بالتخفيف والتشديد إذا جامعها وحكاه صاحب النهاية وغيره أيضا
وقيل المراد غسل أعضاء الوضوء واغتسل للجمعة . وقيل غسل ثيابه واغتسل لجسده
قوله ( بكر ) بالتشديد على المشهور أي راح في أول الوقت وابتكر أي أدرك أول الخطبة ورجحه العراقي . وقيل كرره للتأكيد وبه جزم ابن العربي
والحديث يدل على مشروعية الغسل يوم الجمعة وقد تقدم الخلاف فيه وعلى مشروعية التبكير والمشي والدنو من الإمام والاستماع وترك اللغو وأن الجمع بين هذه الأمور سبب لاستحقاق ذلك الثواب الجزيل

باب غسل العيدين . [ ص 297 ]

1 - عن الفاكه بن سعد وكان له صحبة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم النحر وكان الفاكه بن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام )
- رواه عبد الله بن أحمد في المسند وابن ماجه ولم يذكر الجمعة

- الحديث رواه البزار والبغوي وابن قانع . ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس . قال الحافظ . وإسنادهما ضعيفان . رواه البزار من حديث أبي رافع وإسناده ضعيف أيضا . وفي رجال إسناد حديث الباب يوسف بن خالد السمتي وهو متروك بالمرة وكذبه ابن معين وأبو حاتم . وفي إسناد حديث ابن عباس ضعيفان وهما جبارة بن المغلس وحجاج بن تميم
وفي الباب من الموقوف عن علي عند الشافعي وابن عمر عند مالك في الموطأ والبيهقي
وروي عن عروة بن الزبير ( أنه اغتسل يوم عيد وقال : إنه السنة ) وقال البزار : لا أحفظ في الاغتسال للعيد حديثا صحيحا . وقال في البدر المنير : أحاديث غسل العيدين ضعيفة وفيه آثار عن الصحابة جيدة
والحديث استدل به على أن غسل العيد مسنون وليس في الباب ما ينتهض لإثبات حكم شرعي . وأما اشتراط أن يصلي به صلاة العيد فلا أدري ما الدليل على ذلك وقد ثبت في كتب أئمتنا كمجموع زيد بن علي وأصول الأحكام والشفاء عن علي عليه السلام قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نغتسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم العيد وقال : ليس ذلك بواجب ) فإن صح إسناده صلح لإثبات هذه السنة

باب الغسل من غسل الميت

1 - عن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ )
- رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجه الوضوء . وقال أبو داود : هذا منسوخ . وقال بعضهم : معناه من أراد حمله ومتابعته فليتوضأ من أجل الصلاة عليه )

- الحديث أخرجه البيهقي وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف . ورواه البزار من ثلاث طرق عن أبي هريرة ورواه أيضا ابن حبان قال البيهقي : والصحيح أنه موقوف [ ص 298 ] وقال البخاري : الأشبه موقوف . وقال علي بن المديني وأحمد بن حنبل : لا يصح في الباب شيء
وهكذا قال الذهبي فيما حكاه الحاكم في تاريخه ( ليس فيمن غسل ميتا فليغتسل ) حديث صحيح . وقال الذهلي : لا أعلم فيه حديثا ثابتا ولو ثبت للزمنا استعماله
وقال ابن المنذر : ليس في الباب حديث يثبت . وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه : لا يرفعه الثقات إنما هو موقوف . وقال الرافعي : لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئا مرفوعا . قال الحافظ : قد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان ورواه الدارقطني بسند رواته موثقون . وقد صحح الحديث أيضا ابن حزم وقد روي من طريق سفيان عن سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة قال ابن حجر : إسحاق مولى زائدة أخرج له مسلم فينبغي أن يصحح الحديث قال : وأما رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فإسنادها حسن إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفا
والحاصل أن الحديث كما قال الحافظ هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض . قال الذهبي : هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء . وفي الباب عن علي عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن أبي شيبة وأبي يعلى والبزار والبيهقي وعن حذيفة قال ابن أبي حاتم والدارقطني : لا يثبت ورواته ثقات كما قال الحافظ وأخرجه البيهقي وذكر الماوردي أن بعض أصحاب الحديث خرج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقا
والحديث يدل على وجوب الغسل على من غسل الميت والوضوء على من حمله وقد اختلف الناس في ذلك فروي عن علي وأبي هريرة وأحد قولي الناصر والإمامية أن من غسل الميت وجب عليه الغسل لهذا الحديث ولحديث عائشة الآتي
وذهب أكثر العترة ومالك وأصحاب الشافعي إلى أنه مستحب وحملوا الأمر على الندب لحديث ( إن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم ) أخرجه البيهقي وحسنه ابن حجر ولحديث ( كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل ) أخرجه الخطيب من حديث عمر وصحح ابن حجر أيضا إسناده ولحديث أسماء الآتي
وقال الليث وأبو حنيفة وأصحابه : لا يجب ولا يستحب لحديث ( لا غسل عليكم من غسل الميت ) رواه الدارقطني والحاكم مرفوعا من حديث ابن عباس وصحح البيهقي وقفه وقال : [ ص 299 ] لا يصح رفعه . وقال ابن عطاء ( لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس بنجس حيا ولا ميتا ) إسناده صحيح قد روي مرفوعا أخرجه الدارقطني وكذلك أخرجه الحاكم وورد أيضا مرفوعا من حديث ابن عباس ( لا تنجسوا موتاكم ) أي لا تقولوا هم نجس وقد تقدم حديث ( المؤمن لا ينجس ) وسيأتي حديث أسماء وهذا لا يقصر عن صرف الأمر عن معناه الحقيقي الذي هو الوجوب إلى معناه المجازي أعني الاستحباب فيكون القول بذلك هو الحق لما فيه من الجمع بين الأدلة بوجه مستحسن
وأما قول بعضهم الجمع حاصل بغسل الأيدي فهو غير ظاهر لأن الأمر بالاغتسال لا يتم معناه الحقيقي إلا بغسل جميع البدن وما وقع من إطلاقه على الوضوء في بعض الأحاديث فمجاز لا ينبغي حمل المتنازع فيه عليه بل الواجب حمله على المعنى الحقيقي الذي هو الأعم الأغلب ولكنه يمكن تأييده بما سلف من حديث ( فحسبكم أن تغسلوا أيديكم )

2 - وعن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( يغتسل من أربع من الجمعة والجنابة والحجامة وغسل الميت )
- رواه أحمد والدارقطني وأبو داود ولفظه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل ) وهذا الإسناد على شرط مسلم لكن قال الدارقطني : مصعب بن شيبة ليس بالقوي ولا بالحافظ

- الحديث أخرجه أيضا البيهقي ومصعب المذكور ضعفه أبو زرعة وأحمد والبخاري وصحح الحديث ابن خزيمة وهو يدل على أن الغسل مشروع لهذه الأربع . أما الجمعة فقد تقدم . وأما الجنابة فظاهر . وأما الحجامة فهو سنة عند الهادوية لهذا الحديث ولما روي عن علي عليه السلام أنه قال : ( الغسل من الحجامة سنة وإن تطهرت أجزأك ) وأخرج الدارقطني ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتجم ولم يزد على غسل محاجمه ) وفيه صالح بن مقاتل وليس بالقوي . وأما غسل الميت فقد تقدم قريبا

3 - وعن عبد الله بن أبي بكر وهو ابن عمرو بن حزم : ( أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنه غسلت أبا بكر حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت : إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل علي من غسل قالوا : لا )
- رواه مالك في الموطأ عنه

- الحديث هو من رواية عبد الله بن أبي بكر وأخرجه البيهقي من طريق الواقدي [ ص 300 ] عن ابن أخي الزهري عن عروة عن عائشة ( أن أبا بكر أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس فضعفت فاستعانت بعبد الرحمن ) قال البيهقي : وله شواهد عن ابن أبي مليكة عن عطاء عن سعد بن إبراهيم وكلها مراسيل
وهو من الأدلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه وهو أيضا من القرائن الصارفة عن الوجوب فإنه يبعد غاية البعد أن يجهل أهل ذلك الجمع الذين هم أعيان المهاجرين والأنصار واجبا من الواجبات الشرعية ولعل الحاضرين منهم ذلك الموقف جلهم وأجلهم لأن موت مثل أبي بكر حادث لا يظن بأحد من الصحابة الموجودين في المدينة أن يتخلف عنه وهم في ذلك الوقت لم يتفرقوا كما تفرقوا من بعد

باب الغسل للإحرام وللوقوف بعرفة ودخول مكة

1 - عن زيد بن ثابت : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجرد لإهلاله واغتسل )
- رواه الترمذي

- الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث زيد بن ثابت وحسنه الترمذي وضعفه العقيلي . ولعل الضعف لأن في رجال إسناده عبد الله بن يعقوب المدني قال ابن الملقن في شرح المنهاج جوابا على من أنكر على الترمذي تحسين الحديث : لعله إنما حسنه لأنه عرف عبد الله بن يعقوب الذي في إسناده أي عرف حاله
والحديث يدل على استحباب الغسل عند الإحرام وإلى ذلك ذهب الأكثر . وقال الناصر : إنه واجب . وقال الحسن البصري ومالك : محتمل . وأخرج الحاكم والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال : ( اغتسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى على البيداء أحرم بالحج ) ويعقوب ضعيف قاله الحافظ

2 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمى وأشنان ودهنه بشيء من زيت غير كثير )
- رواه أحمد

- الحديث قال في مجمع الزوائد : أخرجه البزار والطبراني في الأوسط وإسناد البزار حسن
قوله ( بخطمى ) نبات قال في القاموس : الخطمى ويفتح نبات محلل مفتح لين [ ص 301 ] نافع لعسر البول وذكر له فوائد ومنافع ( 1 )
قوله ( وأشنان ) هو بالضم والكسر للهمزة قاله في القاموس وهو نبات
والحديث يدل على استحباب تنظيف الرأس بالغسل ودهنه عند الإحرام وسيأتي الكلام على ذلك في الحج وليس فيه الغسل لجميع البدن الذي بوب المصنف له
_________
( 1 ) ونص عبارة القاموس هكذا : والخطمى ويفتح نبات محلل منضج ملين نافع لعسر البول والحصا والنسا وقرحة الأمعاء والارتعاش ونضج الجراحات وتسكين الوجع ومع الخل للبهق ووجع الأسنان مضمضة ونهش الهوام وحرق النار وخلط بزره بالماء أو سحق أصله يجمدانه ولعابه المستخرج بالماء الحار ينفع المرأة العقيم . اه . والله أعلم

3 - وعن عائشة قالت : ( نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل وتهل )
- رواه مسلم وابن ماجه وأبو داود

- الحديث أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن أسماء ( أنها ولدت محمد ابن أبي بكر بالبيداء فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : مرها فلتغتسل ثم لتهل ) قال الحافظ : وهذا مرسل
وقال الدارقطني بعد أن ساق حديث عائشة الذي ذكره المصنف في العلل : الصحيح قول مالك ومن وافقه يعني مرسلا . وأخرجه النسائي من حديث القاسم بن محمد عن أبيه عن أبي بكر
قال الحافظ : وهو مرسل أيضا لأن محمدا لم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا من أبيه . نعم يمكن أن يكون سمع ذلك من أمه لكن قد قيل أن القاسم أيضا لم يسمع من أمه وقد أخرجه مسلم من حديث جابر الطويل بلفظ : ( فخرجنا حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصنع قال : اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ) الحديث
قوله ( نفست ) بضم النون وكسر الفاء الولادة وأما بفتح النون فالحيض وليس بمراد هنا
الحديث يدل على مشروعية الغسل لمن أراد الإهلال بالحج ولكنه يحتمل أن يكون لقذر النفاس فلا يصلح للاستدلال به على مشروعية مطلق الغسل

4 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه : ( أن عليا كرم الله وجهه كان يغتسل يوم العيدين ويوم الجمعة ويوم عرفة وإذا أراد أن يحرم )
- رواه الشافعي

5 - وعن ابن عمر : ( أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا [ ص 302 ] ويذكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعله )
- أخرجه مسلم وللبخاري معناه ولمالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر ( كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة ولوقوفه عشية عرفة )

- لفظ البخاري أنه كان يدخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح ويغتسل ويحدث : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك ) وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي
الحديث يدل على استحباب الاغتسال لدخول مكة قال في الفتح : قال ابن المنذر : الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية
وقال أكثرهم : يجزئ عنه الوضوء . وفي الموطأ أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه . وقالت الشافعية : إن عجز عن الغسل تيمم
وقال ابن التين : لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة وإنما ذكروه للطواف والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف
قوله ( بذي طوى ) بضم الطاء وفتحها ( 1 )
_________
( 1 ) هو موضع بباب مكة وبه بئر اسمه الطوى

باب غسل المستحاضة لكل صلاة

1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( استحيضت زينب بنت جحش فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اغتسلي لكل صلاة )
- رواه أبو داود

- الحديث فيه محمد بن إسحاق وقد حسن المنذري بعض طرقه . وأخرجه ابن ماجه وفيه دلالة على وجوب الاغتسال عليها لكل صلاة وقد ذهب إلى ذلك الإمامية . وروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح هذا أيضا عن علي عليه السلام وابن عباس
وروي عن عائشة أنها قالت : تغتسل كل يوم غسلا واحدا . وعن ابن المسيب والحسن قالا : تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر ذكر ذلك النووي . وقد ذكر أبو داود حجج هذه الأقوال في سننه وجعلها أبوابا . وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب عليها الاغتسال لشيء من الصلوات ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها
قال النووي : وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف وهو مروي عن علي عليه السلام وابن مسعود وابن عباس وعائشة وهو قول [ ص 303 ] عروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن ومالك وأبي حنيفة وأحمد . ودليل الجمهور أن الأصل عدم الوجوب فلا يجب إلا بورود الشرع بإيجابه
قال النووي : ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضها وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي ) وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل قال : وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها بالغسل فليس فيها شيء ثابت
وقد بين البيهقي ومن قبله ضعفها وإنما صح في هذا ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن أم حبيبة بنت جحش ( استحيضت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاغتسلي ثم صلي فكانت تغتسل عند كل صلاة ) قال الشافعي رحمه الله تعالى : إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تغتسل وتصلي وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة قال : ولا أشك إن شاء الله أن غسلها كان تطوعا غير ما أمرت به وذلك واسع لها
وكذا قال سفيان بن عيينة والليث بن سعد وغيرهما وما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الاغتسال إلا لإدبار الحيضة هو الحق لفقد الدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة لا سيما في مثل هذا التكليف الشاق فإنه لا يكاد يقوم بما دونه في المشقة إلا خلص العباد فكيف بالنساء الناقصات الأديان بصريح الحديث والتيسير وعدم التنفير من المطالب التي أكثر المختار صلى الله عليه وآله وسلم الإرشاد إليها فالبراءة الأصلية المعتضدة بمثل ما ذكر لا ينبغي الجزم بالانتقال عنها بما ليس بحجة توجب الانتقال وجميع الأحاديث التي فيها إيجاب الغسل لكل صلاة قد ذكر المصنف بعضها في هذا الباب وأكثرها يأتي في أبواب الحيض وكل واحد منها لا يخلو عن مقال كما ستعرف ذلك
( لا يقال ) إنها تنتهض للاستدلال بمجموعها لأنا نقول هذا مسلم لو لم يوجد ما يعارضها وأما إذا كانت معارضة بما هو ثابت في الصحيح فلا كحديث عائشة الآتي في أبواب الحيض فإن فيه : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر فاطمة بنت أبي حبيش بالاغتسال عند ذهاب الحيضة ) فقط وترك البيان في وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول
وقد جمع بعضهم بين الأحاديث بحمل أحاديث الغسل لكل صلاة على الاستحباب كما سيأتي في باب من تحيض ستا أو سبعا وهو جمع حسن

2 - وعن عائشة أن سهلة بنت سهيل بن عمرو : ( استحيضت فأتت رسول الله [ ص 304 ] صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن ذلك فأمرها بالغسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل والصبح بغسل )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث في إسناده محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة وابن إسحاق ليس بحجة ( 1 ) لا سيما إذا عنعن وعبد الرحمن قد قيل إنه لم يسمع من أبيه . قال الحافظ : قد قيل أن ابن إسحاق وهم فيه
والحديث يدل على أنه يجوز الجمع بين الصلاتين والاقتصار على غسل واحد لهما وقد عرفت ما هو الحق في الذي قبله وقد ألحق بالمستحاضة المريض وسائر المعذورين بجامع المشقة ولهذا قال المصنف : وهو حجة في الجمع للمرضى انتهى
_________
( 1 ) طعنه علي ابن إسحاق بأنه ليس بحجة فيه نظر قال الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال : محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده بن عبد الله العبدي الأصبهاني الحافظ الجوال صاحب التصانيف كان من أئمة هذا الشأن وثقاتهم أبدع الحافظ أبو نعيم في جرحه لما بينهما من الوحشة ونال منه واتهمه فلم يلتفت إليه لما بينهما من العظائم نسأل الله العفو فلقد نال ابن منده من أبي نعيم وأسرف أيضا إلى أن قال : قال الباطرقاني حدثنا ابن منده إمام الأئمة في الحديث والذي قال أبو نعيم في تاريخه : هو حافظ من أولاد المحدثين . واختلط في آخر عمره

3 - وعن عروة بن الزبير عن أسماء بنت عميس قالت : ( قلت يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل فقال رسول الله صلى الله عليه وله وسلم : هذا من الشيطان لتجلس في مركن فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا وتغتسل للفجر غسلا وتتوضأ فيما بين ذلك )
- رواه أبو داود

- الحديث في إسناد سهيل بن أبي صالح ( 1 ) وفي الاحتجاج بحديثه خلاف . وفي الباب عن حمنة بنت جحش وفيه ( فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلي حتى تطهرين وتصلين الظهر والعصر جمعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الصبح وتصلين قال : وهذا أعجب الأمرين إلي ) أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني [ ص 305 ] والحاكم وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل ( 2 ) وهو مختلف في الاحتجاج به . وقال ابن منده : لا يصح بوجه من الوجوه وسيأتي بقية الكلام عليه في باب من تحيض ستا أو سبعا
وحديث الباب يدل على ما دل عليه الذي قبله وقد عرفت الخلاف في ذلك واختلف في وضوء المستحاضة هل يجب لكل صلاة أم لا وسيأتي الكلام على ذلك في باب وضوء المستحاضة لكل صلاة
قوله ( في مركن ) هو بكسر الميم الإجانة التي تغسل فيها الثياب والميم زائدة والإجانة بهمزة مكسورة فجيم مشددة فألف فنون ويقال الإجانة والإنجانة بالياء المثناة من تحت بعد الهمزة أو بالنون
قوله ( فإذا رأت صفرة فوق الماء ) أي الذي تقعد فيه فإنها تظهر الصفرة فوقه فعند ذلك يصب عليها الماء . وفي شرح المغربي لبلوغ المرام ما لفظه : أي صفرة الشمس وفي نسخة صفارة أي إذا زالت الشمس وقربت من العصر حتى نرى فوق الماء من شعاع الشمس شبه صفارة لأن شعاعها يتغير ويقل فيضرب إلى صفرة انتهى . فينظر في صحة هذا التفسير
_________
( 1 ) قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان : سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان أبو يزيد المدني ثقة عن أبيه اه
( 2 ) قال الحافظ في اللسان : عبد الله بن محمد بن عقيل البارودي النجاد كان من بقايا الشيوخ بأصبهان أدركه أبو مطيع قال عبد الرحمن بن منده قال لي من لم يكن معتزليا فليس بمسلم اه حكى ذلك يحيى بن منده في تاريخ أصبهان أنه سمع عمه يقول قال وكنت كتبت عنه جزئين فمزقتهما وقد روى عنه أحمد بن اشته ومات سنة 415

باب غسل المغمى عليه إذا أفاق

1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أصلى الناس . فقلنا : لا هم ينتظرونك يا رسول الله فقال : ضعوا لي ماء في المخضب . قالت : ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال : أصلى الناس فقلنا : لا هم ينتظرونك يا رسول الله فقال : ضعوا لي ماء في المخضب . قالت : ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق قال : أصلى الناس فقلنا : لا هم ينتظرونك يا رسول الله فذكرت إرساله إلى أبي بكر )
- وتمام الحديث متفق عليه

- قوله ( ثقل ) بفتح الثاء وكسر القاف قال في القاموس ثقل كفرح فهو ثقيل وثاقل اشتد مرضه
قوله ( في المخضب ) كمنبر قاله في القاموس وهو المركن وقد سبق تفسيره في الحديث الذي قبل هذا
قوله ( لينوء ) أي لينتهض بجهد ومشقة
قوله ( فأغمي عليه ) أي غشي عليه ثم أفاق
وتمام الحديث قالت : ( والناس عكوف في المسجد [ ص 306 ] ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا : يا عمر صل بالناس قالت : فقال عمر : أنت أحق بذلك قالت : فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تتأخر وقال لهما : أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعد )
والحديث له فوائد مبسوطة في شروح الحديث وقد ساقه المصنف ههنا للاستدلال به على استحباب الاغتسال للمغمى عليه وقد فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات وهو مثقل بالمرض فدل ذلك على تأكد استحبابه

باب صفة الغسل

1 - عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حثيات ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه )
- أخرجاه وفي رواية لهما : ( ثم يخلل بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات )

- قوله ( إذا اغتسل ) أي أراد ذلك . وفي الفتح أي شرع في الفعل
قوله ( وضوءه للصلاة ) فيه احتراز عن الوضوء اللغوي قال الحافظ : يحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفا لها ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى
وإلى هذا جنح الداودي شارح المختصر ونقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل وهو مردود فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل [ ص 307 ] لا ينوب عن الوضوء للمحدث وهو قول أكثر العترة وإلى القول الأول أعني عدم وجوب الوضوء مع الغسل ودخول الطهارة الصغرى تحت الكبرى ذهب زيد بن علي ولا شك في شرعية الوضوء مقدما على الغسل كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة
وأما الوجوب فلم يدل عليه دليل والفعل بمجرده لا ينتهض للوجوب نعم يمكن تأكيد القول الثاني بالأدلة القاضية بوجوب الوضوء
قوله ( في أصول الشعر ) أي شعر رأسه ويدل عليه رواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي ( يخلل بها شق رأسه الأيمن ) قال القاضي عياض : احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله ( أصول الشعر ) وإما بالقياس على شعر الرأس
قوله ( ثلاث حثيات ) فيه استحباب التثليث في الغسل . قال النووي : ولا نعلم فيه خلافا إلا ما انفرد به الماوردي فإنه قال : لا يستحب التكرار في الغسل . قال الحافظ : وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي وكذا قال القرطبي وحمل التثليث في هذه الرواية على أن كل غرفة في جهة من جهات الرأس
قوله ( ثم غسل رجليه ) يدل على أن الوضوء الأول وقع بدون غسل الرجلين . قال الحافظ : وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام . قال البيهقي : غريبة صحيحة لكن في رواية أبي معاوية عن هشام مقال نعم له شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة عند أبي داود الطيالسي وفيه ( فإذا فرغ غسل رجليه ) ويحتمل أن يكون قوله في رواية أبي معاوية ( ثم غسل رجليه ) أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء
وقد وقع التصريح بتأخير الرجلين في رواية للبخاري بلفظ : ( وضوءه للصلاة ) غير رجليه وهو مخالف لظاهر رواية عائشة
قال الحافظ : ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز وإما بحملها على حالة أخرى وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلفت أنظار العلماء فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين في الغسل وعن مالك إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم وعند الشافعية في الأفضل قولان . قال النووي : أصحهما وأشهرهما ومختارهما أن يكمل وضوءه قال : لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك
قوله ( ثم أفاض ) الإفاضة الإسالة . وقد استدل بذلك على عدم وجوب الدلك وعلى أن مسمى غسل لا يدخل فيه الدلك لأن ميمونة عبرت بالغسل وعبرت عائشة بالإفاضة والمعنى واحد
والإفاضة لا دلك فيها فكذلك الغسل . وقال المازري : لا يتم الاستدلال بذلك لأن أفاض بمعنى غسل والخلاف [ ص 308 ] قائم وقد قدمنا الكلام على ذلك في باب إيجاب الغسل من التقاء الختانين
قال الحافظ : قال القاضي عياض : لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار وقد ورد ذلك من طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجنابة الحديث . وفيه ( ثم يمضمض ثلاثا ويستنشق ثلاثا ويغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ثم يفيض على رأسه ثلاثا )
قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث : وهو دليل على أن غلبة الظن في وصول الماء إلى ما يجب غسله كاليقين انتهى

2 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه )
- أخرجاه

- قوله ( نحو الحلاب ) بالحاء المهملة المكسورة واللام الخفيفة ما يحلب فيه
قال المصنف : قال الخطابي : الحلاب إناء يسع قدر حلبة ناقة انتهى . وعلى هذا الأكثر وضبطه الأزهري بالجيم المضمومة وتشديد اللام قال : وهو ماء الورد وأنكر ذلك عليه جماعة وقد اختبط شراح البخاري وغيرهم في ضبط هذه اللفظة والسبب في ذلك أن البخاري قال باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل فتكلف جماعة لمطابقة هذه الترجمة للحديث وجعل الحلاب بمعنى الطيب وقد أطال الحافظ في الفتح الكلام على هذا ( 1 )
قوله [ ص 309 ] ( ثم أخذ بكفيه ) أشار إلى الغرفة الثالثة كما صرحت به رواية أبي عوانة ووقع في روايات البخاري بكفه بالإفراد وفي بعضها بالتثنية كما في الكتاب
والحديث يدل على استحباب البداءة بالميامن ولا خلاف فيه وفيه الاجتزاء بثلاث غرفات وترجم على ذلك ابن حبان
قوله ( فقال بهما ) هو من إطلاق القول على الفعل وقد وقع إطلاق الفعل على القول في حديث ( لا حسد إلا في اثنين ) قال فيه : ( لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت مثل ما يفعل ) كذا في الفتح
_________
( 1 ) قال الحافظ بعد أن بين أن العلماء ثلاث طوائف منهم من نسب البخاري إلى الوهم . ومنهم من ضبط الحلاب على غير المعروف في الرواية . ومنهم من تكلف لها توجيها من غير تغيير . ورأيت عن بعضهم ولا أحفظه الآن أن المراد بالطيب في الترجمة الإشارة إلى حديث عائشة أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الإحرام قال : والغسل من سنن الإحرام وكأن الطيب حصل عند الغسل فأشار البخاري هنا إلى أن ذلك لم يكن مستمرا من عادته انتهى . ويقويه تبويب البخاري بعد ذلك بسبعة أبواب باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب ثم ساق حديث عائشة أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرما وفي رواية أخرى عند قبيل هذا الباب ثم يصبح محرما ينضح طيبا فاستنبط الاغتسال بعد التطيب من قولها ثم طاف على نسائه لأنه كناية عن الجماع ومن لازمه الاغتسال فعرف أنه اغتسل بعد أن تطيب وبقي أثر الطيب بعد الغسل لكثرته لأنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يحب الطيب ويكثر منه فعلى هذا فقوله هنا من بدأ بالحلاب أي بالماء الذي للغسل فاستدعى به لأجل الغسل أو من بدأ بالطيب عند إرادة الغسل فالترجمة مترددة بين الأمرين فدل حديث الباب على مداومته على البداءة بالغسل وأما التطيب بعده فمعروف من شأنه وأما البداءة بالطيب قبل الغسل فبالإشارة إلى الحديث الذي ذكرناه وهذا أحسن الأجوبة عندي وألقيها بتصرفات البخاري والله أعلم

3 - وعن ميمونة قالت : ( وضعت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ماء يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثا ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه قالت : فأتيته بخرقة فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده )
- رواه الجماعة وليس لأحمد والترمذي نفض اليد

- قوله ( فأفرغ على يديه ) يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم ويدل عليه الزيادة التي رواها الترمذي بلفظ : ( قبل أن يدخلهما الإناء )
قوله ( مذاكيره ) جمع ذكر على غير قياس وقيل واحده مذكار قال الأخفش : هو من الجمع الذي لا واحد له
وقال ابن خروف : إنما جمعه مع أنه ليس في الجسد إلا واحد بالنظر إلى ما يتصل به وأطلق على الكل اسمه فكأنه جعل كل جزء من المجموع كالذكر في حكم الغسل
قوله ( ثم دلك يده بالأرض ) فيه أنه يستحب للمستنجي بالماء إذا فرغ أن يغسل يده بتراب أو أشنان أو يدلكها بالتراب أو بالحائط ليذهب الاستقذار منها
قوله ( فغسل قدميه ) قد تقدم الكلام على ذلك في حديث أول الباب
قوله ( ثم تنحى ) أي تحول إلى ناحية
قوله ( فلم يردها ) من الإرادة لا من الرد وقد تقدم الكلام في كراهية التنشيف وعدمها
قوله ( وجعل ينفض ) فيه جواز نفض اليدين من ماء الغسل قال الحافظ : وكذا الوضوء وفيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره ولفظه : ( لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مرواح الشيطان ) قال ابن الصلاح : لم أجده وتبعه النووي وقد أخرجه ابن حبان في الضعفاء وابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي هريرة ولو لم يعارضه هذا الحديث لم يكن صالحا لأن يحتج به
قال المصنف رحمه الله : وفيه دليل استحباب دلك اليد بعد الاستنجاء انتهى

4 - [ ص 310 ] وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوضأ بعد الغسل )
- رواه الخمسة

- الحديث قال الترمذي : حسن صحيح . وقال ابن سيد الناس : إنها تختلف نسخ الترمذي في تصحيحه وأخرجه البيهقي بأسانيد جيدة . وفي الباب عن ابن عمر مرفوعا وعنه موقوفا أنه قال : ( لما سئل عن الوضوء بعد الغسل وأي وضوء أعم من الغسل ) رواه ابن أبي شيبة
وروي عنه أنه قال لرجل قال له إني أتوضأ بعد الغسل فقال : لقد تعقمت
وروي عن حذيفة أنه قال : أما يكفي أحدكم أن يغسل من قرنه إلى قدمه حتى يتوضأ . وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم حتى قال أبو بكر بن العربي : إنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث وتقضي عليها لأن موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث فدخل الأقل في نية الأكثر وأجزأت نية الأكبر عنه . وقد تقدم كلام ابن بطال في أول الباب وتقدم الرد عليه بأنه قول أبي ثور وداود وغيرهما قال ابن سيد الناس : إن داود الظاهري أوجب الوضوء في غسل الجنابة لا أنه بعده لكن لا يخلو عنده من الوضوء وحكاه عنه الشيخ محي الدين النووي . قال ابن سيد الناس : والذي رأيته عن أبي محمد بن حزم أن ذلك عنده ليس فرضا في الغسل وإنما هو كمذهب الجماعة

5 - وعن جبير بن مطعم قال : ( تذاكرنا غسل الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أما أنا فآخذ ملء كفي فأصب على رأسي ثم أفيض بعد على سائر جسدي )
- رواه أحمد

- الحديث رجاله رجال الصحيح . وقد أخرجه أيضا أحمد من حديث جبير بن مطعم بلفظ : ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات ثم أفيض فإذا أنا قد طهرت )
قال الحافظ : وقوله ( فإذا أنا قد طهرت ) لا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف لكنه وقع من حديث أم سلمة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء عليك فإذا أنت قد طهرت ) . وأصله في صحيح مسلم وذكر الحافظ في التلخيص في باب الغسل حديث جبير بن مطعم عند أحمد بلفظ : ( أما أنا فآخذ ملء كفي ثلاثا فأصب على رأسي ثم أفيض على جسدي ) ولم يتكلم عليه وله شواهد في الصحيحين وغيرهما
قال المصنف رحمه الله : فيه مستدل [ ص 311 ] لمن لم يوجب الدلك ولا المضمضة والاستنشاق انتهى وقد تقدم الكلام في ذلك

باب تعاهد باطن الشعور وما جاء في نقضها

1 - عن علي رضي الله عنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار قال علي : فمن ثم عاديت شعري )
- رواه أحمد وأبو داود وزاد : وكان يجز شعره رضي الله عنه

- قال الحافظ : وإسناده صحيح لأن من رواته عطاء بن السائب وقد سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط وأخرجه أبو داود أيضا وابن ماجه من حديث حماد لكن قيل إن الصواب وقفه على علي . قال عبد الحق : الأكثرون قالوا بوقفه . وقال النووي : ضعيف وعطاء قد ضعف قبل اختلاطه ولحماد أوهام وفي إسناده أيضا زاذان وفيه خلاف
وفي الباب من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : ( بلوا الشعر وأنقوا البشر ) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي ومداره على الحارث بن وجيه وهو ضعيف جدا . قال أبو داود : والحارث هذا حديثه منكر وهو ضعيف . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث الحارث وهو شيخ ليس بذاك
وقال الدارقطني في العلل : إنما يروى هذا عن مالك بن دينار عن الحسن مرسلا ورواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس عن الحسن قال : ( نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فذكره ورواه أبان العطار عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة من قوله . وقال الشافعي : هذا الحديث ليس بثابت . وقال البيهقي : أنكره أهل العلم بالحديث البخاري وأبو داود وغيرهما
والحديث يدل على مشروعية تخليل الشعر بالماء في الغسل ولا أحفظ فيه خلافا

2 - وعن أم سلمة قالت : ( قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة قال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- الحديث قال الترمذي : حسن صحيح
قوله ( ضفر رأسي ) بفتح الضاد المعجمة وإسكان الفاء . قال النووي : هذا هو المشهور المعروف في رواية الحديث والمستفيض [ ص 312 ] عند المحدثين وهو الشعر المفتول ويجوز ضم الضاد والفاء جمع ضفيرة
قوله ( أن تحثي ) يقال حثيت وحثوت لغتان مشهورتان والحثية الحفنة . وهو يدل على أنه لا يجب على المرأة نقض الضفائر وقد اختلف الناس في ذلك قال القاضي أبو بكر ابن العربي : قال جمهورهم لا ينقضه إلا أن يكون ملبدا ملتفا لا يصل الماء إلى أصوله إلا بنقضه فيجب حينئذ من غير فرق بين جنابة وحيض
وروي عن المؤيد بالله وأبي طالب والإمام يحيى وروي أيضا عن القاسم . وقال النخعي : تنقضه في الجنابة والحيض وقال أحمد : تنقضه في الحيض دون الجنابة ( 1 ) وروي عن الحسن البصري وطاوس وروي عن مالك أنه لا يجب النقض لا على الرجال ولا على النساء
ووجه ما ذهب إليه عموم نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن نقض الشعر ولم يخص رجلا من امرأة ولا يلزم من كون السائل عن ذلك من النساء أن يكون الحكم مختصا بهن اعتبارا بعموم النهي كذا قاله ابن سيد الناس
ووجه قول من ذهب إلى التفرقة حديث ثوبان أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه ) أخرجه أبو داود وأكثر ما علل به أن في إسناده إسماعيل بن عياش والحديث من مروياته عن الشاميين وهو قوي فيهم فيقبل
ووجه ما روي عن النخعي أن عموم الغسل يجب في جميع الأجزاء من شعر وبشر وقد يمنع ضفر الشعر من ذلك ولعله لم تبلغه الرخصة في ذلك للنساء
ووجه ما ذهب إليه أحمد ومن معه من التفرقة بين الحيض والجنابة ما سيأتي وما روى الدارقطني في أفراده والبيهقي في سننه الكبرى من حديث مسلم بن صبيح عن أنس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها نقضا [ ص 313 ] وغسلته بخطمى وأشنان فإذا اغتسلت من الجنابة صبت على رأسها الماء وعصرت ) وقد تفرد به مسلم بن صبيح عن حماد
قال المصنف رحمه الله : وفي الحديث مستدل لمن لم يوجب الدلك باليد
وفي رواية لأبي داود أن امرأة جاءت إلى أم سلمة بهذا الحديث قالت : فسألت لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه قال فيه ( واغمزي قرونك عند كل حفنة ) وهو دليل على وجوب بل داخل الشعر المسترسل انتهى وقد تقدم الكلام في ذلك
_________
( 1 ) قال في المغني : قال بعض أصحابنا هو مستحب غير واجب وهو قول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله لأن في بعض ألفاظ حديث أم سلمة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للحيضة وللجنابة فقال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء فتطهرين رواه مسلم وهذا صريح في نفي الوجوب
وروت أسماء أنها سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن غسل الحيض فقال : تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلك دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء رواه مسلم ولو كان النقض واجبا لذكره لأنه موضع من البدن فاستوى فيه الحيض والجنابة وحديث عائشة ليس فيه أمر بالغسل ولو أمرت لم يكن فيه حجة لأنه ليس للحيض لأنه كان للإحرام حال الحيض اه مختصرا وقوله شؤون رأسه وهو بضم الشين المعجمة بعدها همزة أصول الشعر

3 - وعن عبيد بن عمير قال : ( بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت : يا عجبا لابن عمرو هو يأمر النساء إذا اغتسلن بنقض رؤوسهن أو ما يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات )
- رواه أحمد ومسلم

- الحديث يدل على عدم وجوب نقض الشعر على النساء وقد تقدم الكلام فيه . وأما أمر عبد الله بن عمرو بالنقض فيحتمل أنه أراد إيجاب ذلك عليهن ويكون ذلك في شعور لا يصل إليها الماء أو يكون مذهبا له أنه يجب النقض بكل حال كما حكى عن غيره ولم يبلغه حديث أم سلمة وعائشة ويحتمل أنه كان يأمرهن بذلك على الاستحباب والاحتياط للإيجاب قاله النووي

باب استحباب نقض الشعر لغسل الحيض وتتبع أثر الدم فيه

1 - عن عروة عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها وكانت حائضا : انقضي شعرك واغتسلي )
- رواه ابن ماجه بإسناد صحيح

- الحديث هو عند الستة إلا الترمذي بلفظ : ( أنها قدمت مكة وهي حائض ولم تطف بالبيت إلا بين الصفا والمروة فشكت ذلك إليه صلى الله عليه وآله وسلم فقال : انقضي رأسك وأمشطي وأهلي بالحج ) وليس فيه ذكر الغسل . وقد ثبت عند ابن ماجه كما ذكره المصنف وهو دليل لمن قال بالفرق بين الغسل للجنابة والحيض والنفاس وهو أحمد ابن حنبل والهادوية وأجيب بأن الخبر ورد في مندوبات الإحرام والغسل في تلك الحال للتنظيف لا للصلاة والنزاع في غسل الصلاة

2 - وعن عائشة : ( أن امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 314 ] عن غسلها من الحيض فأمرها كيف تغتسل ثم قال : خذي فرصة من مسك فتطهري بها قالت : كيف أتطهر بها قال : سبحان الله تطهري بها فاجتذبتها إلي فقلت : تتبعي بها أثر الدم )
- رواه الجماعة إلا الترمذي غير أن ابن ماجه وأبا داود قالا : ( فرصة ممسكة )

- الحديث أخرجه أيضا الشافعي وسماها مسلم أسماء بنت شكل . وقيل إنه تصحيف والصواب أسماء بنت يزيد بن السكن ذكره الخطيب في المبهمات . وقال المنذري : يحتمل أن تكون القصة تعددت وروي فرصة ممسكة في الصحيحين أيضا
قوله ( فرصة ) هي بكسر الفاء وإسكان الراء وبالصاد المهملة القطعة من كل شيء حكاه ثعلب . وقال ابن سيده : الفرصة من القطن أو الصوف مثلثة الفاء . والمسك هو الطيب المعروف . وقال عياض : رواية الأكثر بفتح الميم وهو الجلد وفيه نظر لقوله في بعض الروايات فإن لم يجد فطيبا غيره كذا أجاب الرافعي . قال الحافظ : وهو متعقب فإن هذا لفظ الشافعي في الأم نعم في رواية عبد الرزاق يعني بالفرصة السك أو الزريرة وليس في الحديث ذكر نقض الشعر وغاية ما فيه الدلالة على التنظيف والمبالغة في إذهاب أثر الدم
قال النووي : وقد اختلف العلماء في الحكمة في استعمال المسك المختار الذي قاله الجماهير أن المقصود من استعمال المسك تطييب المحل ودفع الرائحة الكريهة

باب ما جاء في قدر الماء في الغسل والوضوء

1 - عن سفينة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغتسل بالصاع ويتطهر بالمد )
- رواه أحمد وابن ماجه ومسلم والترمذي وصححه

- قوله بالصاع الصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمد رطل وثلث بالبغدادي فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا برطل بغداد ( 1 ) . قال النووي : هذا هو الصواب المشهور . وذكر جماعة من أصحابنا وجها لبعض أصحابنا أن الصاع هنا ثمانية أرطال والمد رطلان انتهى . والرطل البغدادي على ما قال الرافعي وغيره مائة وثلاثون درهما ورجح النووي أنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم
والحديث يدل على كراهة الإسراف في الماء للغسل والوضوء واستحباب الاقتصاد وقد أجمع العلماء على النهي عن [ ص 315 ] الإسراف في الماء ولو كان على شاطئ النهر قال بعض أصحاب الشافعي إنه حرام . وقال بعضهم : إنه مكروه كراهة تنزيه
_________
( 1 ) قال في القاموس بعد أن ذكر ما ذكره الشوكاني : قال الداودي معياره الذي لا يختلف أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما إذ ليس كل مكان يوجد فيه صاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى . وجربت ذلك فوجدته صحيحا انتهى

2 - وعن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد )
- متفق عليه

3 - وعن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ بإناء يكون رطلين ويغتسل بالصاع )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث الثاني أخرجه الترمذي بنحوه وقال : غريب وهو من طريق شريك عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن جبر عن أنس وكلهم ثقات
وقد ثبت في هذا الحديث إلى خمسة أمداد وفي حديث عائشة الآتي : ( كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء يقال له الفرق )
ووقع في رواية ثلاثة أمداد أو قريب من ذلك . وفي رواية : ( كان يغتسل من إناء واحد يقال له الفرق ) وفي أخرى : ( فدعت بإناء قدر الصاع فاغتسلت فيه ) وفي الأخرى : ( كان يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك ) وفي أخرى : ( يغسله الصاع ويوضئه المد ) وفي أخرى : ( يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ) قال الشافعي وغيره : الجمع بين هذه الروايات إنها كانت اغتسالات في أحوال والفرق سيأتي تقديره وأما المكوك فهو بفتح الميم وضم الكاف الأولى وتشديدها وجمعه مكاكيك ومكاكي قال النووي : ولعل المراد بالمكوك هنا المد

4 - وعن موسى الجهني قال : ( أتى مجاهد بقدح حزرته ثمانية أرطال فقال : حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل بمثل هذا )
- رواه النسائي

- الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا أحمد بن عبيد قال حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن موسى الجهني فذكره وأحمد بن عبيد هو ابن حسان وهو من رجال الصحيح . قال أبو داود : وهو حجة . ويحيى بن زكريا هو الإمام الكبير وحديثه في الصحيحين وغيرهما . وموسى الجهني أخرج له مسلم ووثقه أحمد وغيره وقد عرفت كيفية الجمع بين الروايات
قوله ( حزرته ) أي قدرته قال الحافظ : تمسك بهذا بعض الحنفية وجعل الفرق ثمانية أرطال والصحيح أن الفرق مقداره ما سيأتي والحزر لا يعارض به التحديد وأيضا لم يصرح مجاهد بأن الإناء المذكور صاع فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها

5 - [ ص 316 ] وعن جابر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يجزئ من الغسل الصاع ومن الوضوء المد )
- رواه أحمد والأثرم

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود وابن خزيمة وابن ماجه بنحوه وصححه ابن القطان
وقوله ( يجزئ ) الخ ظاهره أنه لا يجزئ دون الصاع والمد يعارضه ما سيأتي

6 - وعن عائشة قالت : ( كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء واحد من قدح يقال له الفرق )
- متفق عليه . والفرق ستة عشر رطلا بالعراقي

- قوله ( الفرق ) قال ابن التين : بتسكين الراء قال الحافظ : ورويناه بفتحها وجوز بعضهم الأمرين . قال النووي : الفتح أفصح وأشهر وزعم أبو الوليد الباجي أنه الصواب قال : وليس كما قال بل هما لغتان
قال الحافظ : لعل مستند الباجي ما حكاه الأزهري عن ثعلب وغيره الفرق بالفتح والمحدثون يسكنونه وكلام العرب بالفتح انتهى
وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما وحكى ابن الأثير أن الفرق بالفتح ستة عشر رطلا وبالإسكان مائة وعشرون رطلا قال الحافظ : وهو غريب وقد ثبت تقديره في صحيح مسلم عن سفيان بن عيينة فقال : هو ثلاثة آصع قال النووي : وكذا قال الجماهير . وقيل الفرق صاعان قال الحافظ : لكن نقل أبو عبد الله الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع وعلى أن الفرق ستة عشر رطلا ولعله يريد اتفاق أهل اللغة

باب من رأى التقدير بذلك استحبابا وأن ما دونه يجزئ إذا أسبغ

1 - عن عائشة : ( أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك )
- رواه مسلم

- القدر المجزئ من الغسل ما يحصل به تعميم البدن على الوجه المعتبر وسواء كان صاعا أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في النقصان إلى مقدار لا يسمى مستعمله مغتسلا أو إلى مقدار في الزيادة يدخل فاعله في حد الإسراف
وهكذا الوضوء القدر المجزئ منه ما يحصل به غسل أعضاء الوضوء سواء كان مدا أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد السرف أو النقصان إلى حد لا يحصل به الواجب
وقد أخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال : ما هذا السرف فقال : أفي الوضوء إسراف قال : نعم وإن كنت على نهر جار ) وفي إسناده ابن لهيعة
وروى ابن عدي من حديث ابن [ ص 317 ] عباس مرفوعا : ( كان يتعوذ بالله من وسوسة الوضوء ) قال ابن حجر : وإسناده واه

2 - وعن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فأتي بماء في إناء قدر ثلثي المد )
- رواه أبو داود والنسائي

- الحديث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من حديث عبد الله بن زيد بلفظ : ( توضأ بنحو ثلثي مد ) وصحح حديث الباب أبو زرعة . وأما حديث ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بنصف مد ) فأخرجه الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة وفي إسناده الصلت بن دينار وهو متروك . وحديث ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بثلث مد ) قال الحافظ : لم أجده

3 - وعن عبيد بن عمير أن عائشة قالت : ( لقد رأيتني أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا فإذا تور موضوع مثل الصاع أو دونه فنشرع فيه جميعا فأفيض على رأسي بيدي ثلاث مرات وما أنقض لي شعرا )
- رواه النسائي

- الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا سويد بن نصر قال أخبرنا عبد الله عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير فذكره ورجاله ثقات
وهو يدل على عدم وجوب الاغتسال بمقدار صاع من الماء لاشتراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة في صاع أو دونه والاكتفاء بمجرد الإفاضة على الرأس من دون نقض الشعر
وقد ورد في أحاديث كثيرة وقد سبق بعضها وقد تقدم الكلام على عدم وجوب نقض الشعر على المرأة في غسل الجنابة وهذا الحديث من الأدلة الدالة على ذلك . والتور قد تقدم الكلام عليه

باب الاستتار من الأعين للمغتسل وجواز تجرده في الخلوة

1 - عن يعلى بن أمية : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يغتسل بالبراز فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عز و جل حيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر )
- رواه أبو داود والنسائي

- الحديث رجال إسناده رجال الصحيح . وقد أخرج البزار نحوه من حديث ابن عباس مطولا وقد ذكره الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه
وهو يدل على وجوب التستر حال الاغتسال وقد ذهب إلى ذلك ابن أبي ليلى وذهب أكثر العلماء إلى أنه [ ص 318 ] أفضل وتركه مكروه وليس بواجب . واستدلوا على ذلك بما سيأتي . وقد ذهب بعض الشافعية أيضا إلى تحريمه قال الحافظ : والمشهور عند متقدميهم كغيرهم الكراهة فقط
قوله ( بالبراز ) المراد به هنا الفضاء والباء للظرفية
قوله ( ستير ) بسين مهملة مفتوحة وتاء مثناة من فوق مكسورة وياء تحتية ساكنة ثم راء مهملة . قال في النهاية : فعيل بمعنى فاعل
ومن الأدلة الدالة على استحباب الاستتار حال الغسل ما أخرجه النسائي من حديث أبي السمح قال : ( كنت أخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان إذا أراد أن يغتسل قال : ولني فأوليه قفاي فأستره به ) أخرجه النسائي . وما أخرجه مسلم من حديث أم هانئ قالت : ( ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة رضي الله عنها تستره بثوب )
ويدل على مشروعية مطلق الاستتار ما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : ( قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال : احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك قلت : يا رسول الله فالرجل يكون خاليا قال : الله أحق أن يستحي منه من الناس )

2 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( بينا أيوب عليه السلام يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه تبارك وتعالى : يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال : بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك )
- رواه أحمد والبخاري والنسائي

- قوله ( يحثي ) في رواية البخاري يحتثي والحثية هي الأخذ باليد
قوله ( لا غنى بي ) بالقصر بلا تنوين . قال الحافظ : ورويناه بالتنوين أيضا على أن لا بمعنى ليس قال ابن بطال : ووجه الدلالة من الحديث أن الله تعالى عاتبه على جمع الجراد ولم يعاتبه على الاغتسال عريانا فدل على جوازه . وقال أيضا : وجه الاستدلال بهذا الحديث وحديث أبي هريرة الذي سيأتي أنهما يعني أيوب وموسى ممن أمر بالإقتداء به
قال الحافظ : وهذا إنما يأتي على رأي من يقول شرع من قبلنا شرع لنا والذي يظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قص القصتين ولم يتعقب شيئا منهما فدل على موافقتهما لشرعنا وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق لبينه فيجمع بين الأحاديث بحمل الأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التستر على الأفضل

3 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كانت بنو [ ص 319 ] إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال : فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال : فجمح موسى عليه السلام بأثره يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى عليه السلام فقالوا : والله ما بموسى بأس قال : فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا )
- متفق عليه

- قوله ( كانت بنو إسرائيل ) أي جماعتهم
قوله ( يغتسلون عراة ) ظاهره أن ذلك كان جائزا في شرعهم وإلا لما أقرهم موسى على ذلك وكان هو عليه السلام يغتسل وحده أخذا بالأفضل . قال الحافظ : وأغرب ابن بطال فقال : هذا يدل على أنهم كانوا عصاة له وتبعه على ذلك القرطبي فأطال في ذلك
قوله ( آدر ) هو بالمد وفتح الدال المهملة وتخفيف الراء قال الجوهري : الأدرة نفخة في الخصية
قوله ( فجمح ) بالجيم ثم بالميم ثم الحاء المهملة أي جرى مسرعا . وفي رواية فخرج
قوله ( ثوبي حجر ) إنما خاطبه لأنه أجراه مجرى من يعقل لكونه فر بثوبه فانتقل من حكم الجماد إلى حكم الحيوان فناداه فلما لم يرد عليه ثوبه ضربه . وقيل يحتمل أن يكون أراد بضربه إظهار المعجزة بتأثير ضربه فيه ويحتمل أن يكون عن وحي
قوله ( حتى نظرت ) ظاهره أنهم رأوا جسده وبه يتم الاستدلال على جواز النظر عند الضرورة وأبدى ابن الجوزي احتمال أن يكون كان عليه مئزر لأنه يظهر ما تحته بعد البلل واستحسن ذلك ناقلا له عن بعض مشايخه قال الحافظ : وفيه نظر . والحديث قد تقدم الكلام على وجه دلالته في الذي قبله

باب الدخول في الماء بغير إزار

1 - عن علي بن زيد عن أنس بن مالك قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن موسى بن عمران عليه السلام كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه حتى يواري عورته في الماء )
- رواه أحمد

- الحديث قال في مجمع الزوائد : رجاله موثقون إلا أن علي بن زيد مختلف في الاحتجاج به وهذا نوع من الستر المندوب إليه فهو مندرج تحت عموم الأدلة القاضية بمشروعية الستر
قال المصنف رحمه الله تعالى : وقد نص أحمد على كراهة دخول الماء [ ص 320 ] بغير إزار وقال إسحاق : هو بالإزار أفضل لقول الحسن والحسين رضي الله عنهما وقد قيل لهما وقد دخلا الماء وعليهما بردان فقالا : إن للماء سكانا قال إسحاق : وإن تجرد رجونا أن لا يكون إثما واحتج بتجرد موسى عليه السلام انتهى

باب ما جاء في دخول الحمام

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام )
- رواه أحمد

- الحديث في إسناده أبو خيرة قال الذهبي : لا يعرف . وأحاديث الحمام لم يتفق على صحة شيء منها . قال المنذري : وأحاديث الحمام كلها معلولة وإنما يصح منها عن الصحابة
ويشهد لحديث الباب حديث عمر بن الخطاب الذي سيذكره المصنف في باب من دعي فرأى منكرا من كتاب الوليمة وقد أخرج الفصل الأول من هذا الحديث الترمذي من حديث جابر وقال : حسن غريب وفيه ليث بن أبي سليم . وقد رواه أحمد أيضا من طريق ثانية من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر
وأخرج معناه أبو داود والترمذي من حديث عائشة قالت : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجال والنساء عن دخول الحمام ثم رخص للرجال أن يدخلوه في المآزر )
لكنه من حديث حماد بن سلمة عن عبد الله بن شداد عن أبي عذرة عنها وأبو عذرة مجهول . قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة وإسناده ليس بذاك القائم
وأخرج أبو داود والترمذي من حديثها أنها قالت لنسوة دخلن عليها من نساء الشام : لعلكن من الكورة التي يدخل نساؤها الحمام قلن : نعم قالت : أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب ) وهو من حديث شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبي المليح عنها وكلهم رجال الصحيح
وروي عن جرير عن سالم عنها وكان سالم يدلس ويرسل وقال الترمذي بعد ذكر الحديث : حسن . وفي رواية للنسائي عن جابر : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام إلا من عذر ) هكذا بلفظ إلا من عذر في الجامع ولم يذكر هذا الاستثناء الترمذي ولم يوجد الحديث في النسائي ولعل ذلك في بعض النسخ
قال [ ص 321 ] العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في بعض أجوبته : والظاهر أنه غلط ولم يذكره الشريف أبو المحاسن في كتابه في الحمام ولم يذكر الاستثناء في حديث جابر ولا عزاه إلى النسائي . وقد رواه من حديث جابر بلفظ : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ) ورواه الشريف أبو المحاسن في كتابه في الحمام من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أبي الزبير عن جابر وليس في شيء من الطرق ذكر العذر
وحديث الباب يدل على جواز الدخول للذكور بشرط لبس المآزر وتحريم الدخول بدون مئزر وعلى تحريمه على النساء مطلقا واستثناء الدخول من عذر لهن لم يثبت من طريق تصلح للاحتجاج بها فالظاهر المنع مطلقا . ويؤيد ذلك ما سلف من حديث عائشة الذي روته لنساء الكورة وهو أصح ما في الباب إلا لمريضة أو نفساء كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا إن صح

2 - وعن عبد الله بن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالإزار وامنعوا النساء إلا مريضة أو نفساء )
- رواه أبو داود وابن ماجه

- الحديث في إسناده عبد الرحمن بن أنعم الإفريقي وقد تكلم عليه غير واحد . وفي إسناده أيضا عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية وقد غمزه البخاري وابن أبي حاتم وهو يدل على تقييد الجواز للرجال بلبس الإزار ووجوب المنع على الرجال للنساء إلا لعذر المرض والنفاس وهذا أعني استثناء المريضة والنفساء أخص من استثناء العذر المذكور في حديث النسائي فيقتصر عليهما وقد عرفت ما فيه
قال المصنف : وفيه أن من حلف لا يدخل بيتا فدخل حماما حنث انتهى

كتاب التيمم

- التيمم في اللغة القصد . قال الأزهري : التيمم في كلام العرب القصد يقال تيممت فلانا وتأممته ويممته وأممته أي قصدته . وفي الشرع القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها قاله في الفتح
واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وهي خصيصة خصص الله تعالى بها هذه الأمة
قال في الفتح : واختلف هل التيمم عزيمة أو رخصة وفصل بعضهم فقال : هو لعدم الماء عزيمة وللعذر رخصة

باب تيمم الجنب للصلاة إذا لم يجد ماء . [ ص 322 ]

1 - عن عمران بن حصين قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فصلى بالناس فإذا هو برجل معتزل فقال : ما منعك أن تصلي قال : أصابتني جنابة ولا ماء قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك )
- متفق عليه

- قوله ( فإذا هو برجل ) وقع في شرح العمدة للشبح سراج الدين ابن الملقن أن هذا الرجل هو خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري أخو رفاعة شهد بدرا . قال ابن الكلبي : وقتل يومئذ وقال غيره : له رواية . وهذا يدل على أنه عاش بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال الحافظ : أما على قول الكلبي فيستحيل أن يكون هو صاحب هذه القصة لتقدم وقعة بدر على هذه القصة بمدة طويلة بلا خلاف وأما على قول غيره فيحتمل أن يكون هو لكن لا يلزم من كون له رواية أن يكون عاش بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاحتمال أن تكون الرواية عنه منقطعة أو متصلة لكن نقلها عنه صحابي آخر وعلى هذا فلا منافاة بين هذا وبين من قال أنه قتل ببدر
قوله ( أصابتني جنابة ولا ماء ) بفتح الهمزة أي معي أي موجود وهو أبلغ في إقامة عذره لما فيه من عموم النفي كأنه نفى وجود الماء بالكلية
قوله ( عليك بالصعيد ) اللام للعهد المذكور في الآية الكريمة ودل قوله يكفيك على أن المتيمم في مثل هذه الحال لا يلزمه القضاء ويحتمل أن يكون المراد بقوله ( يكفيك ) أي للأداء فلا يدل على ترك القضاء والأول أظهر
والحديث يدل على مشروعية التيمم للصلاة عند عدم الماء من غير فرق بين الجنب وغيره وقد أجمع على ذلك العلماء ولم يخالف فيه أحد من الخلف ولا من السلف إلا ما جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وحكي مثله عن إبراهيم النخعي من عدم جوازه للجنب . وقيل إن عمر وعبد الله رجعا عن ذلك . وقد جاءت بجوازه للجنب الأحاديث الصحيحة
وإذا صلى الجنب بالتيمم ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال بإجماع العلماء إلا ما يحكى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن الإمام التابعي أنه قال : لا يلزمه وهو مذهب متروك بإجماع من بعده ومن قبله وبالأحاديث الصحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وآله وسلم للجنب بغسل بدنه إذا وجد الماء

باب تيمم الجنب للجرح . [ ص 323 ]

1 - عن جابر قال : ( خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده )
- رواه أبو داود والدارقطني

- الحديث رواه أيضا ابن ماجه وصححه ابن السكن وقد تفرد به الزبير بن خريق وليس بالقوي قاله الدارقطني وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب
قال الحافظ : رواه أبي داود أيضا من حديث الأوزاعي قال : بلغني عن عطاء عن ابن عباس . ورواه الحاكم عن بشر بن بكر عن الأوزاعي حدثني عطاء عن ابن عباس . وقال الدارقطني : اختلف فيه الأوزاعي والصواب أن الأوزاعي أرسل آخره عن عطاء . وقال أبو زرعة وأبو حاتم : لم يسمعه الأوزاعي من عطاء إنما سمعه من إسماعيل بن مسلم عن عطاء ونقل ابن السكن عن ابن أبي داود أن حديث الزبير بن خريق أصح من حديث الأوزاعي . وقد رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث الوليد بن عبيد بن أبي رباح عن عمه عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا . والوليد بن عبيد ضعفه الدارقطني وقواه من صحح حديثه
قوله ( العي ) بكسر العين هو التحير في الكلام قيل هو ضد البيان
والحديث يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر وقد ذهب إلى ذلك العترة ومالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وذهب أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه إلى عدم جواز التيمم لخشية الضرر قالوا : لأنه واحد . والحديث وقوله تعالى { وإن كنتم مرضى } الآية يردان عليهما
ويدل الحديث أيضا على وجوب المسح على الجبائر ومثله حديث علي عليه السلام قال : ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسح على الجبائر ) وقد اتفق الحفاظ على ضعفه وقد ذهب إلى وجوب المسح على الجبائر المؤيد بالله والهادي في أحد قوليه
وروي عن أبي حنيفة والفقهاء السبعة فمن بعدهم وبه قال الشافعي لكن بشرط أن توضع على طهر [ ص 324 ] وأن لا يكون تحتها من الصحيح إلا ما لا بد منه والمسح المذكور عندهم يكون بالماء لا بالتراب
وذهب أبو العباس وأبو طالب وهو أحد قولي الهادي وروي عن أبي حنيفة أنه لا يمسح بل يسقط كعبادة تعذرت ولأن الجبيرة كعضو آخر وآية الوضوء لم تتناول ذلك واعتذروا عن حديث جابر وعلي بالمقال الذي فيهما وقد تعاضدت طرق حديث جابر فصلح للاحتجاج به على المطلوب وقوي بحديث علي ولكن حديث جابر قد دل على الجمع بين الغسل والمسح والتيمم

باب الجنب يتيمم لخوف البرد

1 - عن عمرو بن العاص : ( أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروا ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فقلت : ذكرت قول الله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئا )
- رواه أحمد وأبو داود والدارقطني

- الحديث أخرجه البخاري تعليقا وابن حبان والحاكم واختلف فيه على عبد الرحمن بن جبير فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو وقيل عنه عن عمرو بلا واسطة لكن الرواية التي فيها أبو قيس ليس فيها إلا أنه غسل مغابنه فقط . وقال أبو داود : روى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية وفيه ( فتيمم ) ورجح الحاكم إحدى الروايتين وقال البيهقي : يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعا فيكون قد غسل ما أمكنه وتيمم للباقي وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث أبي أمامة عند الطبراني
قوله ( ذات السلاسل ) هي موضع وراء وادي القرى وكانت هذه الغزوة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة
قوله ( فأشفقت ) أي خفت وحذرت
قوله ( فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئا ) فيه دليلان على جواز التيمم عند شدة البرد ومخافة الهلاك : الأول التبسم والاستبشار والثاني عدم الإنكار لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر على باطل والتبسم والاستبشار أقوى دلالة من السكوت على [ ص 325 ] الجواز فإن الاستبشار دلالته على الجواز بطريق الأولى
وقد استدل بهذا الحديث الثوري ومالك وأبو حنيفة وابن المنذر على أن من تيمم لشدة البرد وصلى لا تجب عليه الإعادة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بالإعادة ولو كانت واجبة لأمره بها ولكنه أتى بما أمر به وقدر عليه فأشبه سائر من يصلي بالتيمم
قال ابن رسلان : لا يتيمم لشدة البرد من أمكنه أن يسخن الماء أو يستعمله على وجه يأمن الضرر مثل أن يغسل عضوا ويستره وكلما غسل عضوا ستره ودفاه من البرد لزمه ذلك وإن لم يقدر تيمم وصلى في قول أكثر العلماء . وقال الحسن وعطاء : يغتسل وإن مات ولم يجعلا له عذرا
ومقتضى قول ابن مسعود ( 1 ) : لو رخصنا لهم لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا أنه لا يتيمم لشدة البرد
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث ما لفظه : فيه من العلم إثبات التيمم لخوف البرد وسقوط الفرض به وصحة إقتداء المتوضئ بالمتيمم وأن التيمم لا يرفع الحدث وأن التمسك بالعمومات حجة صحيحة انتهى
وقوله ( وأن التيمم لا يرفع الحدث ) لعله مستفاد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( صليت بأصحابك وأنت جنب )
_________
( 1 ) قول ابن مسعود هذا ذكره البخاري في باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت عن شقيق بن سلمة قال : كنت عند عبد الله وأبي موسى فقال له أبو موسى : أرأيت يا أبا عبد الرحمن وهي كنية ابن مسعود إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع فقال عبد الله : لا يصلي حتى يجد الماء فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كان يكفيك قال : ألم تر عمر لم يقنع بذلك فقال أبو موسى : فدعنا من قول عمار كيف تصنع بهذه الآية فما درى عبد الله ما يقول فقال : إنا لو رخصنا لهم في هذا ولا شك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم فقلت لشقيق : فإنما كره عبد الله لهذا قال : نعم
قال الحافظ في الفتح : فيه جواز التيمم للجنب بخلاف ما نقل عن عمر وابن مسعود وفيه إشارة إلى ثبوت حجة أبي موسى لقوله فما درى عبد الله ما يقول
ثم قال في الباب الثاني إن ابن مسعود لا عذر له في التوقف عن قبول حديث عمار فلهذا جاء عنه أنه رجع عن الفتيا بذلك كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد فيه انقطاع عنه اه . والآية التي أشار إليها أبو موسى هي آية سورة المائدة كما جاء في الباب الذي بعد هذا الباب قال الحافظ : وإنما عين سورة المائدة لكونها أظهر في مشروعية تيمم الجنب من آية النساء لتقدم حكم الوضوء في المائدة قال الخطابي وغيره : وفيه دليل على أن عبد الله كان يرى أن المراد بالملامسة الجماع فلهذا لم يدفع دليل أبي موسى وإلا لكان يقول له المراد من الملامسة التقاء البشرتين فيما دون الجماع وجعل التيمم بدلا من الوضوء لا يستلزم جعله بدلا من الغسل اه

باب الرخصة في الجماع لعادم الماء

1 - عن أبي ذر قال : ( اجتويت المدينة فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 326 ] بإبل فكنت فيها فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : هلك أبو ذر قال : ما حالك قال : كنت أتعرض للجنابة وليس بقربي ماء فقال : إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين )
- رواه أحمد وأبو داود والأثرم وهذا لفظه

- الحديث أخرجه النسائي وابن ماجه أيضا وقد اختلف فيه على أبي قلابة الذي رواه عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر ورواه ابن حبان والحاكم والدارقطني وصححه أبو حاتم . وعمرو بن بجدان قد وثقه العجلي . قال الحافظ : وغفل ابن القطان فقال : إنه مجهول
وفي الباب عن أبي هريرة عند البزار والطبراني قال الدارقطني في العلل : وإرساله أصح
قوله ( اجتويت المدينة ) بالجيم أي استوخمتها ولم توافق طبعي وهو افتعلت من الجوى وهو المرض
والحديث يدل على جواز التيمم للجنب وقد تقدم الكلام عليه أول الباب
ويدل على أن الصعيد طهور يجوز لمن تطهر به أن يفعل ما يفعله المتطهر بالماء من صلاة وقراءة ودخول مسجد ومس مصحف وجماع وغير ذلك وأن الاكتفاء بالتيمم ليس بمقدر بوقت محدود بل يجوز وإن تطاول العهد بالماء وذكر العشر سنين لا يدل على عدم جواز الاكتفاء بالماء بعدها لأن ذكرها لم يرد به التقييد بل المبالغة لأن الغالب عدم فقدان الماء كثرة وجدانه لشدة الحاجة إليه فعدم وجدانه إنما يكون يوما أو بعض يوما

باب اشتراط دخول الوقت للتيمم

1 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت )

2 - وعن أبي أمامة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره )
- رواهما أحمد

- الحديث الأول أصله في الصحيحين والحديث الثاني إسناده في مسند أحمد هكذا حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان يعني التيمي عن سيار عن أبي أمامة وذكره وإسناده ثقات إلا سيارا الأموي وهو صدوق
وفي الباب عن علي عند البزار وعن أبي هريرة [ ص 327 ] عند مسلم والترمذي وعن جابر عند الشيخين والنسائي وعن ابن عباس عند أحمد وعن حذيفة عند مسلم والنسائي وعن أنس أشار إليه الترمذي ورواه السراج في مسنده بإسناد قال العراقي صحيح ورواه الخطابي في معالم السنن وسيأتي في الصلاة وعن أبي أمامة عند أحمد والترمذي في كتاب السير وقال : حسن صحيح ولكنه لم يذكر فيه المقصود وعن أبي ذر عند أبي داود وعن أبي موسى عند أحمد والطبراني بإسناد جيد وعن ابن عمر عند البزار والطبراني وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف وعن السائب بن يزيد عند الطبراني وعن أبي سعيد عند الطبراني أيضا
قوله ( جعلت لي الأرض مسجدا ) أي موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون غيره ويمكن أن يكون مجازا عن المكان المبني للصلاة قال الحافظ : وهو من مجاز التشبيه لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك
قال الداودي وابن التين : والمراد أن الأرض جعلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجدا وطهورا أو جعلت لغيره مسجدا ولم تجعل له طهورا لأن عيسى كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة وقيل إنما أبيح لهم موضع يتيقنون طهارته بخلاف هذه الأمة فإنه أبيح لهم التطهر والصلاة إلا فيما تيقنوا نجاسته والأظهر ما قاله الخطابي وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع
قال الحافظ في الفتح : ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ : ( وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم ) وهذا نص في موضع النزاع فثبتت الخصوصية ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس وفيه : ( ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه )
قوله ( وطهورا ) بفتح الطاء أي مطهرة وفيه دليل على أن التراب يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية قال الحافظ : وفيه نظر
وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض لعموم لفظ الأرض لجميعها وقد أكده بقوله كلها كما في الرواية الثانية
واستدل القائل بتخصيص التراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعا بلفظ : ( وجعلت تربتها لنا طهورا ) وهذا خاص فينبغي أن يحمل عليه العام وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره فلا يتم الاستدلال ورد بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره
وفي حديث علي ( وجعل التراب لي طهورا ) أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن وأجيب أيضا عن ذلك الاستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول ولم يقل به إلا الدقاق [ ص 328 ] فلا ينتهض لتخصيص المنطوق ورد بأن الحديث سبق لإظهار التشريف فلو كان جائزا بغير التراب لما اقتصر عليه وأنت خبير بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية نعم الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجدا دون الآخر كما سيأتي في حديث مسلم يدل على الافتراق في الحكم وأحسن من هذا أن قوله تعالى في آية المائدة منه يدل على أن المراد التراب وذلك لأن كلمة من للتبعيض كما قال في الكشاف إنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن والتراب إلا معنى التبعيض انتهى
( فإن قلت : ) سلمنا التبعيض فما الدليل على أن ذلك البعض هو التراب قلت : التنصيص عليه في الحديث المذكور ومن الأدلة الدالة على أن المراد خصوص التراب ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الصعيد والأمر بالتيمم منه وهو التراب لكنه قال في القاموس والصعيد التراب أو وجه الأرض وفي المصباح الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره
قال الزجاج : لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك . قال الأزهري : ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله تعالى { صعيدا طيبا } هو التراب
وفي كتاب فقه اللغة للثعالبي الصعيد تراب وجه الأرض ولم يذكر غيره
وفي المصباح أيضا ويقال الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه : على التراب الذي على وجه الأرض وعلى وجه الأرض وعلى الطريق ويؤيد حمل الصعيد على العموم تيممه صلى الله عليه وآله وسلم من الحائط فلا يتم الاستدلال
وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب العترة والشافعي وأحمد وداود . وذهب مالك وأبو حنيفة وعطاء والأوزاعي والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها ( 1 ) وسيعقد المصنف لذلك بابا
قوله ( أينما أدركتني الصلاة ) في الرواية الثانية ( فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة ) وفي الصحيحين ( فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ) وقد استدل به على عموم التيمم بأجزاء الأرض لأن قوله ( فأينما أدركت رجلا ) . ( وأيما [ ص 329 ] رجل ) صيغة عموم فيدخل تحته من لم يجد ترابا ووجد غيره من أجزاء الأرض
قال ابن دقيق العيد : ومن خصص التيمم بالتراب يحتاج إلى أن يقيم دليلا يخص به هذا العموم أو يقول دل الحديث على أنه يصلي وأنا أقول بذلك فيصلي على الحالة ( 2 ) ويرد عليه حديث الباب فإنه بلفظ فعنده مسجده وعنده طهوره
وقد استدل المصنف بالحديث على اشتراط دخول الوقت للتيمم لتقييد الأمر بالتيمم بإدراك الصلاة وإدراكها لا يكون إلا بعد دخول الوقت قطعا
وقد ذهب إلى ذلك الاشتراط العترة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وداود واستدلوا بقوله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } ولا قيام قبله والوضوء خص الإجماع والسنة
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجزئ قبل الوقت كالوضوء وهذا هو الظاهر ولم يرد ما يدل على عدم الإجزاء والمراد بقوله { إذا قمتم } إذا أردتم القيام وإرادة القيام تكون في الوقت وتكون قبله فلم يدل دليل على اشتراط الوقت حتى يقال خصص الوضوء الإجماع
_________
( 1 ) قال ابن القيم في زاد المعاد : وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ترابا كانت أو سبخة أو رملا وصح عنه أنه قال حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلة ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب وكذلك أرض الحجاز وغيره ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل والله أعلم وهذا قول الجمهور اه
( 2 ) نص عبارة ابن دقيق العيد في العمدة في شرح حديث جابر أعطيت خمسا وفيه فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل . ومن خص التيمم بالتراب يحتاج أن يقيم دليلا يخص به هذا العموم أو يقول دل الحديث على أنه يصلي وأنا أقول بذلك فيمن لم يجد ماء ولا ترابا فيصلي على حسب حاله وأقول بموجب الحديث إلا أنه قد جاء في رواية أخرى فعنده طهوره ومسجده والحديث إذا اجتمعت طرقه فسر بعضها بعضا اه فليتأمل فإن نقل الشوكاني عنه غير ظاهر المعنى والله أعلم

باب من وجد ما يكفي بعض طهارته يستعمله

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )
- متفق عليه

- هذا الحديث أصل من الأصول العظيمة وقاعدة من قواعد الدين النافعة وقد شهد له صريح القرآن قال الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } فلك الاستدلال بالحديث على العفو عن كل ما خرج عن الطاقة وعلى وجوب الإتيان بما دخل تحت الاستطاعة من المأمور به وأنه ليس مجرد خروج بعضه عن الاستطاعة موجبا للعفو عن جميعه
وقد استدل به المصنف على وجوب استعمال الماء الذي يكفي لبعض الطهارة وهو كذلك وقد خالف في ذلك زيد بن علي والناصر والحنفية فقالوا يسقط استعمال الماء لأن عدم بعض المبدل يبيح الانتقال إلى البدل

باب تعين التراب للتيمم دون بقية الجامدات . [ ص 330 ]

1 - عن علي كرم الله وجهه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل لي التراب طهورا وجعلت أمتي خير الأمم )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه البيهقي في الدلائل وأيضا في حديث جابر المتفق عليه ( خمس النصر بالرعب وجعل الأرض مسجدا وطهورا وتحليل الغنائم وإعطاء الشفاعة وعموم البعثة )
وزاد أبو هريرة في حديثه الثابت عند مسلم خصلتين وهما ( وأعطيت جوامع الكلم وختم بي النبيون ) فيحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال
ولمسلم من حديث حذيفة ( فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ) وذكر خصلة الأرض قال : وذكر خصلة أخرى وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة والنسائي وهي ( وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش ) يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الأصر فصارت الخصال تسعا
وفي حديث الباب زيادة ( أعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعلت أمتي خير الأمم ) فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة
وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه : ( فضلت على الأنبياء بست غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وجعلت أمتي خير الأمم وأعطيت الكوثر وأن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ) وذكر ثنتين مما تقدم
وله من حديث ابن عباس رفعه : ( فضلت على الأنبياء بخصلتين كان شيطاني كافر فأعانني الله عليه فأسلم قال : ونسيت الأخرى ) فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة
قال الحافظ في الفتح : ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب شرف المصطفى أن الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ستون خصلة
والحديث ساقه المصنف رحمه الله تعالى للاستدلال به على تعين التراب للتصريح في الحديث بذكر التراب وقد تقدم الكلام على ذلك في باب اشتراط دخول الوقت للتيمم
قوله ( نصرت بالرعب ) مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب لكن في مسيرة الشهر التي ورد التقييد بها في الصحيحين وفي أكثر منها بالأولى . وأما دونها فلا ولكن ورد في رواية في البخاري ( ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر ) وهي تشعر باختصاصه به مطلقا [ ص 331 ] وإنما جعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه
قال الحافظ في الفتح : وهل هي حاصلة لأمته من بعده فيه احتمال وقد نقل ابن الملقن في شرح العمدة عن مسند أحمد بلفظ : ( والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرا )
قوله ( وأعطيت مفاتيح الأرض ) هي ما سهل الله له ولأمته من افتتاح البلاد الممتنعة والكفور المتعذرة
قوله ( وجعلت أمتي خير الأمم ) هو مثل ما نطق به القرآن قال الله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس }

2 - وعن حذيفة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء )
- رواه مسلم

- قوله ( بثلاث ) الثالثة مبهمة وقد بينها ابن خزيمة والنسائي وهي ( وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة ) وقد تقدم التنبيه على ذلك
والحديث يدل على قصر التيمم على التراب للتصريح بالتراب فيه وقد عرفت البحث في ذلك في باب اشتراط دخول الوقت
قوله ( صفوفنا كصفوف الملائكة ) وهي أنهم يتمون المقدم ثم الذي يليه من الصفوف ثم يراصون الصف ( 1 ) كما ورد التصريح بذلك في سنن أبي داود وغيرها
_________
( 1 ) في ذلك تنبيه على فضل العناية بصفوف الصلاة في الجماعة وأن الواجب أن تكون على مثال صفوف الملائكة من تتميم الأول فالأول وسد الفرج فيها حتى تكون كالبنيان المرصوص وذلك لأن حكمة الجماعة هي ربط قلوب المؤمنين برباط الأخوة والمحبة ويكونوا قوة واحدة على درء الشر عنهم كما أن البنيان إنما كان بنيانا باجتماع أجزائه وارتباطها ببعضها ومن المحزن جدا أن المسلمين أهملوا ذلك كل الإهمال ولم يعبأوا به مع ما فيه من الخير العظيم جدا ولقد أصبحنا ندخل أي مسجد فلا نجد فيه إلا شذاذا متفرقين هنا واحد وهناك اثنان وهكذا والصفوف ناقصة ومعوجة والإمام يدخل إلى محرابه وفي صلاته ولا يهمه إلا أن يؤدي تلك المراسيم التي ظنوا العبادة قاصرة عليها وليس وراءها شيء آخر وتركوا ما كان عليه الإمام الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من أنه ما كان يكبر تكبيرة الإحرام حتى تستوي الصفوف وتتراص وبذلك حفظ الله له قلوب أصحابه ولكنا ضيعنا ذلك فأصبحنا والقلوب متفرقة بل ومتباغضة ويدخل أحدنا المسجد ويصل مع الجماعة ويخرج كما دخل قلبه على ما هو عليه لإخوانه من الغيظ والغل وغير ذلك وعلماؤنا وأئمتنا عن ذلك غافلون فاللهم الطف بنا وأرشد هذه الأمة إلى هدى خير المرسلين حتى نهتدي به إلى أطيب حياة في الدنيا وأسعد عاقبة في الآخرة

باب صفة التيمم . [ ص 332 ]

1 - عن عمار بن ياسر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في التيمم ضربة للوجه واليدين )
- رواه أحمد وأبو داود وفي لفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين ) رواه الترمذي وصححه

- قال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة وقد جمع البيهقي طرق حديث عمار فأبلغ . وقد روى الطبراني في الأوسط والكبير أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمار بن ياسر ( يكفيك ضربة للوجه وضربة للكفين ) وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف وإن كان حجة عند الشافعي
والحديث يدل على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وقد ذهب إلى ذلك عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق والصادق والإمامية . قال في الفتح : ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره وهو قول عامة أهل الحديث
وذهب الهادي والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب والإمام يحيى والفقهاء إلى أن الواجب ضربتان ضربة للوجه وأخرى لليدين
وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات ضربة للوجه وضربة للكفين وضربة للذراعين
( احتج الأولون ) بحديث الباب وبالرواية الأخرى الآتية المتفق عليها من حديث عمار وأجابوا عن الأحاديث القاضية بالضربتين بما فيها من المقال المشهور
( واحتج أهل القول الثاني ) بحديث ابن عمر مرفوعا بلفظ : ( التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ) أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وفي إسناده علي بن ظبيان قال الدارقطني : وثقه يحيى القطان وهشيم وغيرهما قال الحافظ : هو ضعيف ضعفه القطان وابن معين وغير واحد
وقد روي أيضا من طريق ابن عمر مرفوعا بلفظ : ( تيممنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا ثم ضربنا ضربة أخرى فمسحنا من المرافق إلى الكف ) وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك
وروي أيضا عن ابن عمر مرفوعا من وجه آخر بلفظ حديث ابن ظبيان . قال أبو زرعة : حديث باطل
ورواه الدارقطني والحاكم من حديث جابر وفيه عثمان بن محمد وهو متكلم فيه قاله ابن الجوزي قال الحافظ : وأخطأ في ذلك . قال ابن [ ص 333 ] دقيق العيد : لم يتكلم فيه أحد نعم روايته شاذة قال الدارقطني بعد رواية حديث جابر : كلهم ثقات والصواب موقوف
وفي الباب عن الأسلع بن شريك رواه الطبراني والدارقطني وفيه الربيع بن بدر وهو ضعيف . وعن أبي أمامة رواه الطبراني قال الحافظ : وإسناده ضعيف . وعن عائشة مرفوعا رواه البزار وابن عدي وقد تفرد به الحريش بن الخريت ولا يحتج بحديثه قال أبو حاتم : حديثه منكر
وعن عمار رواه البزار وقد عرفت أن أحاديثه الصحاح ضربة واحدة . وفي الباب أيضا عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم تيمم بضربتين مسح بإحداهما وجهه ) رواه أبو داود بسند ضعيف لأن مداره على محمد بن ثابت وقد ضعفه ابن معين وأبو حاتم والبخاري وأحمد . قال أبو داود : لم يتابع محمد بن ثابت أحد
وبهذا يتبين لك أن أحاديث الضربتين لا تخلو جميع طرقها من مقال ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة فالحق الوقوف على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار من الاقتصار على ضربة واحدة حتى تصح الزيادة على ذلك المقدار
وأما أهل القول الثالث فلم أقف لهم على ما يصلح متمسكا للوجوب بل قال الإمام يحيى : إنه لا دليل يدل على ندبية التثليث في التيمم وقوى ذلك الإمام المهدي والأمر كذلك

2 - وعن عمار قال : ( أجنبت فلم أصب الماء فتمعكت في الصعيد وصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنما كان يكفيك هكذا وضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيها ثم مسح بهما وجهه وكفيه )
- متفق عليه وفي لفظ : ( إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم ينفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرصغين ) رواه الدارقطني

- قوله ( فتمعكت ) وفي رواية ( فتمرغت ) أي تقلبت
قوله ( إنما كان يكفيك ) فيه دليل على أن الواجب في التيمم هي الصفة المذكورة في هذا الحديث
قوله ( وضرب بكفيه ) المذكور في هذا الحديث ضربة واحدة وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك في الحديث الذي قبل هذا
قوله ( ثم مسح بهما وجهه وكفيه ) فيه دليل لمذهب من قال إنه يقتصر في مسح اليدين على الكفين وإليه ذهب عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث هكذا في شرح مسلم
وذهب علي بن أبي طالب عليه السلام وعبد الله بن عمر والحسن البصري والشعبي وسالم بن عبد الله بن عمر وسفيان الثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحاب [ ص 334 ] الرأي وآخرون إلى أن الواجب المسح إلى المرفقين رواه النووي في شرح مسلم
ورواه في البحر أيضا عن الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبي طالب والفريقين وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الإبطين . قال الخطابي : لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين
( احتج الأولون ) بحديث الباب واحتج أهل القول الثاني بحديث ابن عمر مرفوعا بلفظ : ( ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ) وقد تقدم عدم انتهاضه للاحتجاج من هذا الوجه ومن غيره
واحتجوا بالقياس على الوضوء وهو فاسد الاعتبار واحتج الزهري بما ورد في بعض روايات حديث عمار عند أبي داود بلفظ : ( إلى الآباط ) وأجاب بأنه منسوخ كما قال الشافعي واحتج أيضا بأن ذلك حد اليد لغة وأجيب بأنه قصرها الخبر وإجماع الصحابة على بعض حدها لغة
قال الحافظ في الفتح : وما أحسن ما قال إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملا وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين وبذكر المرفقين في السنن وفي رواية إلى نصف الذراع وفي رواية إلى الآباط
فأما رواية المرفقين وكذا نصف الذراع ففيهما مقال وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره : إن كان ذلك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكل تيمم صح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده فهو ناسخ له وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به
ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار يفتي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره ولا سيما الصحابي المجتهد انتهى
فالحق مع أهل المذهب الأول حتى يقوم دليل يجب المصير إليه ولا شك أن الأحاديث المشتملة على الزيادة أولى بالقبول ( 1 ) ولكن إذا كانت صالحة [ ص 335 ] للاحتجاج بها . وليس في الباب شيء من ذلك
قوله وفي لفظ هذه الرواية ثبت عند البخاري معناها ولفظه : ( وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه )
قوله ( إلى الرصغين ) هما لغة في الرسغين وهما مفصل الكفين . قال المصنف بعد أن ساق الحديث : وفيه دليل على أن الترتيب في تيمم الجنب لا يجب انتهى
_________
( 1 ) قال ابن القيم : وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ثم إمرارها إلى المرفق ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى فيطبقها عليها فهذا مما يعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله ولا علمه أحدا من أصحابه ولا أمر به ولا استحسنه وهذا هديه إليه التحاكم وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة ولا أمر به بل أطلق وجعله قائما مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه إلا فيما اقتضى الدليل خلافه . والله أعلم

باب من تيمم في أول الوقت وصلى ثم وجد الماء في الوقت

1 - عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : ( خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجد الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك . وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين )
- رواه النسائي وأبو داود وهذا لفظه . وقد روياه أيضا عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا

- الحديث أخرجه أيضا الدارمي والحاكم ورواه الدارقطني موصولا ثم قال : تفرد به عبد الله بن نافع عن الليث عن بكر بن سوادة عن عطاء عنه موصولا وخالفه ابن المبارك فأرسله وكذا قال الطبراني في الأوسط : لم يروه متصلا إلا عبد الله بن نافع . وقال موسى بن هارون : رفعه وهم من ابن نافع
وقال أبو داود : رواه غيره عن الليث عن عميرة عن بكر عن عطاء مرسلا قال : وذكر أبي سعيد فيه ليس بمحفوظ وقد رواه ابن السكن في صحيحه موصولا من طريق أبي الوليد الطيالسي عن الليث عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية جميعا عن بكر موصولا ورواه ابن لهيعة عن بكر فزاد بين عطاء وأبي سعيد أبا عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد الله وابن لهيعة ضعيف ولا يلتفت إلى زيادته ولا تعل بها رواية الثقة عمرو ابن الحارث ومعه عميرة بن أبي ناجية وقد وثقه النسائي ويحيى بن بكير وابن حبان وأثنى عليه أحمد بن صالح وابن يونس وأحمد بن سعيد بن أبي مريم وله شاهد من حديث ابن عباس رواه إسحاق بن راهويه في مسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بال ثم تيمم فقيل له إن الماء قريب منك قال : فلعلي أن لا أبلغه
والحديث يدل على أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة لا يجب عليه الإعادة وإليه ذهب [ ص 336 ] أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والإمام يحيى وقال الهادي والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب وطاوس وعطاء والقاسم بن محمد بن أبي بكر ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كما حكاه المنذري وغيره : إنها تجب الإعادة مع بقاء الوقت لتوجه الخطاب مع بقائه لقوله تعالى { أقم الصلاة } مع قوله { إذا قمتم إلى الصلاة } فشرط في صحتها الوضوء وقد أمكن في وقتها ولقوله فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته . الحديث . ورد بأنه لا يتوجه الطلب بعد قوله ( أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ) وإطلاق قوله ( فإذا وجد الماء ) مقيد بحديث الباب ويؤيد القول بعدم وجوب الإعادة حديث ( لا تصلوا صلاة في يوم مرتين ) عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان وصححه ابن السكن ويجاب عنه بأنهما عند القائل بوجوب الإعادة صلاة واحدة لأن الأول قد فسد بوجود الماء فلا يرد ذلك عليه
وما قيل من تأويل الحديث بأنهما وجدا بعد الوقت فتعسف يخالف ما صرح به الحديث من أنهما وجدا ذلك في الوقت ( 1 ) : وأما إذا وجد الماء قبل الصلاة بعد التيمم وجب الوضوء عند العترة والفقهاء وقال داود وسلمة بن عبد الرحمن : لا يجب لقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } وأما إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها فإنه يجب عليه الخروج من الصلاة وإعادتها بالوضوء عند الهادي والناصر والمؤيد بالله وأبي طالب وأبي حنيفة والأوزاعي والثوري والمزني وابن شريح
وقال مالك وداود : لا يجب عليه الخروج بل يحرم والصلاة صحيحة وسيأتي الكلام عليه قوله ( أصبت السنة ) أي الشريعة الواجبة
قوله ( وأجزأتك صلاتك ) أي كفتك عن القضاء والإجزاء عبارة عن كون الفعل مسقطا للإعادة
_________
( 1 ) الحق الذي دلت عليه ظواهر النصوص من قوله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ومن قوله أصبت السنة وأجزتك أن لا إعادة لا في الوقت ولا بعده لأن المتيمم قام بالأمر على قدر استطاعته فأجزأه وخلصت منه ذمته ولم يبق مكلفا به فأمره بالإعادة تكليف جديد لا يثبت إلا بشرع ولا يوجد بل الذي وجد نقيضه وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم أصبت وأجزأتك أما قوله للذي أعاد لك الأجر مرتين فمعناه الأجر الأول على صلاتك بالتيمم والثاني على اجتهادك الذي أخطأت فيه وهذا واضح إذا لم نضرب النصوص ببعضها أو بالضعيف منها والله الموفق

باب بطلان التيمم بوجدان الماء في الصلاة وغيرها

1 - عن أبي ذر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الصعيد [ ص 337 ] الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير )
- رواه أحمد والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وأبو داود وابن ماجه وقد اختلف فيه على أبي قلابة وقد تقدم الكلام عليه في باب الرخصة في الجماع لعادم الماء
والمصنف رحمه الله قد استدل بقوله ( فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ) على وجوب الإعادة على من وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة وهو استدلال صحيح لأن هذا الحديث مطلق فيمن وجده بعد الوقت ومن وجده قبل خروجه وحال الصلاة وبعدها
وحديث أبي سعيد السابق مقيد بمن وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة فتخرج هذه الصورة بحديث أبي سعيد وتبقى صورة وجود الماء قبل الدخول في الصلاة بعد فعل التيمم وبعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها داخلتين تحت إطلاق الحديث
وفي كلا الصورتين خلاف قد ذكرناه في الباب الذي قبل هذا ولكنه يشكل على الاستدلال بهذا الحديث
قوله ( فإن ذلك خير ) فإنه يدل على عدم الوجوب المدعي

باب الصلاة بغير ماء ولا تراب عند الضرورة

1 - عن عائشة رضي الله عنها : ( أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجالا في طلبها فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكوا ذلك إليه فأنزل الله عز و جل آية التيمم )
- رواه الجماعة إلا الترمذي

- قوله ( أنها استعارت ) وفي بعض الروايات أنها قالت ( انقطع عقد لي ) ولا مخالفة بينهما فهو حقيقة ملك لأسماء وإضافته في الرواية الثانية إلى نفسها لكونه في يدها
قوله ( فصلوا بغير وضوء ) استدل بذلك جماعة من المحققين منهم المصنف على وجوب الصلاة عند عدم المطهرين الماء والتراب وليس في الحديث أنهم فقدوا التراب وإنما فيه أنهم فقدوا الماء فقط ولكن عدم الماء في ذلك الوقت كعدم الماء والتراب لأنه لا مطهر سواه
ووجه الاستدلال به أنهم صلوا معتقدين وجوب ذلك ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور [ ص 338 ] المحدثين وأكثر أصحاب مالك لكن اختلفوا في وجوب الإعادة فالمنصوص عن الشافعي وجوبها وصححه أكثر الصحابة واحتجوا بأنه عذر نادر فلم يسقط الإعادة والمشهور عن أحمد وبه قال المزني وسحنون وابن المنذر لا تجب . واحتجوا بحديث الباب لأنها لو كانت واجبة لبينها لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وتعقب بأن الإعادة لا تجب على الفور فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة وعلى هذا فلا بد من دليل على وجوب الإعادة
وقال مالك وأبو حنيفة في المشهور عنهما لا يصلي لكن قال أبو حنيفة وأصحابه يجب عليه القضاء وبه قال الثوري والأوزاعي وقال مالك فيما حكاه عنه المدينون : لا يجب عليه القضاء وهذه الأقوال الأربعة هي المشهورة في المسألة
وحكى النووي في شرح المهذب عن القديم تستحب الصلاة وتجب الإعادة وبهذا تصير الأقوال خمسة قاله الحافظ في الفتح ( 1 )
_________
( 1 ) قال الشيخ علاء الدين الدمشقي في ترتيب اختيارات شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية : ومن عدم الماء والتراب يتوجه أن يفعل ما يشاء من صلاة فرض أو نفل وزيادة قراءة على ما يجزئ وفي الفتاوى المصرية لابن تيمية على أصح القولين وهو قول الجمهور

أبواب الحيض

- قال في الفتح : أصله السيلان وفي العرف جريان دم المرأة
قال في القاموس حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا فهي حائض وحائضة سال دمها والمحيض اسم ومصدر ومنه الحوض لأن الماء يسيل إليه

باب بناء المعتادة إذا استحيضت على عادتها

1 - عن عائشة قالت : ( قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي )
- رواه البخاري والنسائي وأبو داود وفي رواية للجماعة إلا ابن ماجه : ( فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ) زاد الترمذي في رواية وقال : ( توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت ) [ ص 339 ] وفي رواية للبخاري : ( ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي )

- الحديث قد أسلفنا بعض الكلام عليه في باب الغسل من الحيض وعرفناك هنالك أن فيه دلالة على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره فإذا انقضى قدره اغتسلت منه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث فتتوضأ لكل صلاة لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة كما سيأتي في باب وضوء المستحاضة لكل صلاة وقد بينا في باب غسل المستحاضة لكل صلاة عند انتهاض الأحاديث الواردة بوجوب الغسل عليها لكل صلاة أو للصلاتين أو من ظهر إلى ظهر وعرفناك أن الحق أنه لا يجب عليها الاغتسال إلا عند إدبار الحيضة لهذا الحديث وقد ذكرنا الخلاف في ذلك هنالك
والحاصل أنه لم يأت في شيء من الأحاديث الصحيحة ما يقضي بوجوب الاغتسال عليها لكل صلاة أو لكل يوم أو للصلاتين بل لإدبار الحيضة كما في حديث فاطمة المذكور فلا يجب على المرأة غيره وقد أوضحنا هذا في باب غسل المستحاضة
وأحكام المستحاضة مستوفاة في كتب الفروع والأحاديث الصحيحة منها ما يقضي بأن الواجب عليها الرجوع إلى العمل بصفة الدم كما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش الآتي في الباب الذي بعد هذا . ومنها ما يقضي باعتبار العادة كما في أحاديث الباب ويمكن الجمع بأن المراد بقوله ( أقبلت حيضتك ) الحيضة التي تتميز بصفة الدم أو يكون المراد بقوله ( إذا أقبلت الحيضة ) في حق المعتادة والتمييز بصفة الدم في حق غيرها وينبغي أن يعلم أن معرفة إقبال الحيضة قد يكون بمعرفة العادة وقد يكون بمعرفة دم الحيض وقد يكون بمجموع الأمرين
وفي حديث حمنة بنت جحش بلفظ : ( فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام ) وهو يدل على أنها ترجع إلى الحالة الغالبة في النساء وهو غير صالح للاحتجاج كما ستعرف ذلك في باب من قال تحيض ستا أو سبعا ولو كان صالحا لكان الجمع ممكنا كما سيأتي
وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة واضطربت أقوالهم اضطرابا يبعد فهمه على أذكياء الطلبة فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي في البيان والنقص في الأديان وبالغوا في التعسير حتى جاؤوا بمسألة المتحيرة فتحيروا
والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها لأن حديث الباب ظاهر في معرفتها إقبال الحيضة وإدبارها [ ص 340 ] وكذلك الحديث الآتي في الباب الذي بعد هذا فإنه صريح في أن دم الحيض يعرف ويتميز عن دم الاستحاضة فطاحت مسألة المتحيرة ولله الحمد ولم يبق ههنا ما يستصعب إلا ورود بعض الأحاديث الصحيحة بالإحالة على صفة الدم وبعضها بالإحالة على العادة وقد عرفت إمكان الجمع بينها بما سلف
قوله ( قال توضئي لكل صلاة ) سيأتي الكلام عليه في باب وضوء المستحاضة
قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث : وفيه تنبيه على أنها إنما تبنى على عادة متكررة انتهى

2 - وعن عائشة : ( أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدم فقال لها : امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي فكانت تغتسل عند كل صلاة )
- رواه مسلم ورواه أحمد والنسائي ولفظهما : ( قال فلتنتظر قدر قروئها التي كانت تحيض فلتترك الصلاة ثم لتنظر ما بعد ذلك فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي )

- قوله ( ثم اغتسلي ) قال الشافعي وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وغيرهم : إنما أمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها بالاغتسال لكل صلاة
قال الشافعي : ولا أشك أن غسلها كان تطوعا غير ما أمرت به وقد قدمنا الكلام على هذا في باب غسل المستحاضة . والرواية الأولى من الحديث قد أخرج نحوها البخاري وأبو داود بزيادة : ( وتوضئي لكل صلاة )
والحديث يدل على أن المستحاضة ترجع إلى عادتها إذا كانت لها عادة وتغتسل عند مضيها . وقد تقدم الكلام على ذلك
وقوله في الرواية الأخرى ( فلتغتسل عند كل صلاة ) استدل به القائلون بوجوب الغسل لكل صلاة وقد تقدم الكلام على ذلك أيضا

3 - وعن القاسم عن زينب بنت جحش : ( أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها مستحاضة فقال : تجلس أيام أقرائها ثم تغتسل وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل وتصلي وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل وتصليهما جميعا وتغتسل للفجر )
- رواه النسائي

- الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا سويد بن نصر قال أخبرنا عبد الله عن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فذكره ورجاله ثقات
قال النووي : أحاديث الأمر بالغسل ليس فيها شيء ثابت وحكى عن البيهقي ومن قبله تضعيفها . وأقواها حديث [ ص 341 ] حمنة بنت جحش الذي سيأتي وستعرف ما عليه
والحديث استدل به من قال يجب الاغتسال على المستحاضة لكل صلاة أو تجمع بين الصلاتين بغسل واحد . وقد تقدم الكلام على ذلك في الغسل

4 - وعن أم سلمة : ( أنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امرأة تهراق لدم فقال لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتستثفر ثم تصلي )
- رواه الخمسة إلا الترمذي

- الحديث أخرجه أيضا الشافعي . قال النووي : إسناده على شرطيهما . وقال البيهقي : هو حديث مشهور إلا أن سليمان بن يسار لم يسمعه منها وفي رواية لأبي داود عن سليمان أن رجلا أخبره عن أم سلمة . وقال المنذري : لم يسمعه سليمان . وقد رواه موسى بن عقبة عن نافع عن سليمان عن مرجانة عنها وساقه الدارقطني وابن الجارود بتمامه من حديث صخر بن جويرية عن نافع عن سليمان أنه حدثه رجل عنها
قوله ( تهراق ) على صيغة ما لم يسم فاعله وفتح الهاء
قوله ( ولتستثفر ) الاستثفار إدخال الإزار بين الفخذين ملويا كما في القاموس وغيره . والحديث يدل على أن المستحاضة ترجع إلى عادتها المعروفة قبل الاستحاضة
ويدل على أن الاغتسال إنما هو مرة واحدة عند إدبار الحيضة وقد تقدم الكلام على ذلك
ويدل على استحباب اتخاذ الثفر ليمنع من خروج الدم حال الصلاة وقد ورد الأمر بالاستثفار في حديث حمنة بنت جحش أيضا كما سيأتي إن شاء الله
وقوله ( لتستثفر ) بسكون الثاء المثلثة بعدها فاء مكسورة أي تشد ثوبا على فرجها مأخوذا من ثفر الدابة بفتح الفاء وهو الذي يكون تحت ذنبها

باب العمل بالتمييز

1 - عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش : ( أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان دم الحيضة فإنه أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق )
- رواه أبو داود والنسائي

- الحديث رواه ابن حبان والحاكم وصححاه وأخرجه الدارقطني والبيهقي والحاكم [ ص 342 ] أيضا بزيادة : ( فإنما هو داء عرض أو ركضة من الشيطان أو عرق انقطع ) وهذا يرد إنكار ابن الصلاح والنووي وابن الرفعة لزيادة انقطع
وقد استنكر هذا الحديث أبو حاتم لأنه من رواية عدي بن ثابت عن أبيه عن جده وجده لا يعرف وقد ضعف الحديث أبو داود
قوله ( فإنه أسود يعرف ) قال ابن رسلان في شرح السنن : أي تعرفه النساء . قال شارح المصابيح : هذا دليل التمييز انتهى
وهذا يفيد أن الرواية يعرف بضم حرف المضارعة وسكون العين المهملة وفتح الراء . وقد روي بكسر الراء أي له رائحة تعرفها النساء
قوله ( عرق ) بكسر العين وإسكان الراء أي إن هذا الدم الذي يجري منك من عرق فمه في أدنى الرحم ويسمى العاذل بكسر الذال المعجمة
والحديث فيه دلالة على أنه يعتبر التمييز بصفة الدم فإذا كان متصفا بصفة السواد فهو حيض وإلا فهو استحاضة . وقد قال بذلك الشافعي والناصر في حق المبتدأة وفيه دلالة أيضا على وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى

باب من تحيض ستا أو سبعا لفقد العادة والتمييز

1 - عن حمنة بنت جحش قالت : ( كنت أستحاض حيضة شديدة كثيرة فجئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش قالت : قلت يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام فقال : أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت : هو أكثر من ذلك قال : فاتخذي ثوبا قالت : هو أكثر من ذلك قال : فتلجمي قالت : إنما أثج ثجا فقال : سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم فقال لها : إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها فصومي فإن ذلك مجزيك وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الفجر وتصلين فكذلك فافعلي وصلي وصومي [ ص 343 ] إن قدرت على ذلك . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وهذا أعجب الأمرين إلي )
- رواه أبو داود وأحمد والترمذي وصححاه

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه والدارقطني والحاكم ونقل الترمذي عن البخاري تحسينه وفي إسناده ابن عقيل قال البيهقي : تفرد به وهو مختلف في الاحتجاج به
وقال ابن منده : لا يصح بوجه من الوجوه لأنهم أجمعوا على ترك حديث ابن عقيل وتعقبه ابن دقيق العيد واستنكر منه هذا الإطلاق لأن ابن عقيل لم يقع الإجماع على ترك حديثه فقد كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون به وقد حمل على أن مراد ابن منده بالإجماع إجماع من خرج الصحيح وهو كذلك
قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عنه فوهنه ولم يقو إسناده . وقال الترمذي في كتاب العلل : إنه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال : هو حديث حسن إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم لا أدري سمع منه ابن عقيل أم لا
وهذه علة للحديث أخرى ويجاب على البخاري بأن إبراهيم بن محمد بن طلحة مات سنة عشر ومائة فيما قاله أبو عبيد القاسم بن سلام وعلي بن المديني وخليفة بن خياط وهو تابعي سمع عبد الله بن عمرو بن العاص وأبا هريرة وعائشة وابن عقيل سمع عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك والربيع بنت معوذ فكيف ينكر سماعه من إبراهيم بن محمد بن طلحة لقدمه وأين ابن طلحة من هؤلاء في القدم وهم نظراء شيوخه في الصحبة وقريب منهم في الطبقة فينظر في صحة هذا عن البخاري
وقال الخطابي : قد ترك العلماء القول بهذا الحديث وأما ابن حزم فإنه رد هذا الحديث بأنواع من الرد ولم يعلله بابن عقيل بل علله بالانقطاع بين ابن جريج وابن عقيل وزعم أن ابن جريج لم يسمعه من ابن عقيل وبينهما النعمان بن راشد قال وهو ضعيف . ورواه أيضا عن ابن عقيل شريك وزهير بن محمد وكلاهما ضعيف
وقال أيضا : عمر بن طلحة الذي رواه إبراهيم بن محمد بن طلحة عنه غير مخلوق لا يعرف لطلحة ابن اسمه عمر
وقد رد ابن سيد الناس ما قاله قال : أما الانقطاع بين ابن جريج وابن عقيل فقد روي من طريق زهير بن محمد عن ابن عقيل وأما تضعيفه لزهير هذا فقد أخرج له الشيخان محتجين به في صحيحيهما . وقال أحمد : مستقيم الحديث وقال أبو حاتم : محله الصدق وفي حفظه شيء وحديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق وقال البخاري في تاريخه الصغير : ما روي عنه أهل الشام فإنه مناكير وما روي عنه أهل [ ص 344 ] البصرة فإنه صحيح . وقال عثمان الدارمي : ثقة صدوق وله أغاليط وقال يحيى : ثقة وقال ابن عدي : وأهل الشام حيث رووا عنه أخطئوا عليه وأما حديثه ههنا فمن رواية أبي عامر العقدي عنه وهو بصري فهذا من حديث أهل العراق وأما عمر بن طلحة الذي ذكره فلم يسق الحديث من طريقه بل من طريق عمران بن طلحة وقد نبه الترمذي على أنه لم يقل في هذا الإسناد أحد من الرواة إلا ابن جريج وأن غيره يقول عمران وهو الصواب . وأما شريك الذي ضعفه أيضا فرواه ابن ماجه عن ابن عقيل من طريقه وشريك مخرج له في الصحيح
ومن جملة علل الحديث ما نقله أبو داود عن أحمد أنه قال : إن في الباب حديثين وثالثا في النفس منه شيء ثم فسر أبو داود الثالث بأنه حديث حمنة ويجاب عن ذلك بأن الترمذي قد نقل عن أحمد تصحيحه نصا وهو أولى مما ذكره أبو داود لأنه لم ينقل التعيين عن أحمد وإنما هو شيء وقع له ففسر به كلام أحمد وعلى فرض أنه من كلام أحمد فيمكن أن يكون قد كان في نفسه من الحديث شيء ثم ظهرت له صحته
قوله ( أنعت لك الكرسف ) أي أصف لك القطن
قوله ( فتلجمي ) قال في الصحاح والقاموس اللجام ما تشد به الحائض قال الخليل : معناه افعلي فعلا يمنع سيلان الدم واسترساله كما يمنع اللجام استرسال الدابة
وأما الاستثفار فهو أن تشد فرجها بخرقة عريضة توثق طرفيها في حقب تشده في وسطها بعد أن تحتشي كرسفا فيمنع ذلك الدم
وقولها ( إنما أثج ثجا ) الثج السيلان وقد استعمل في الحلب في الإناء يقال حلب فيه ثجا واستعمل مجازا في الكلام يقال للمتكلم مثجاج بكسر الميم
قوله ( ركضة من ركضات الشيطان ) أصل الركض الضرب بالرجل والإصابة بها وكأنه أراد الإضرار بالمرأة والأذى بمعنى أن الشيطان وجد بذلك سبيلا إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها حتى أنساها بذلك عادتها فصار في التقدير كأنه ركض بآلة
قوله ( فتحيضي ) بفتح التاء الفوقية والحاء المهملة والياء المشددة أي اجعلي نفسك حائضا
والحديث استدل به من قال إنها ترجع المستحاضة إلى الغالب من عادة النساء ولكنه كما عرفت مداره على ابن عقيل وليس بحجة ولو كان حجة لأمكن الجمع بينه وبين الأحاديث القاضية بالرجوع إلى عادة نفسها والقاضية بالرجوع إلى التمييز بصفات الدم وذلك بأن يحمل هذا الحديث على عدم معرفتها لعادتها وعدم إمكان التمييز بصفات الدم
واستدل به أيضا من قال إنها تجمع [ ص 345 ] بين الصلاتين بغسل واحد وإليه ذهب ابن عباس وعطاء والنخعي روى ذلك عنهم ابن سيد الناس في شرح الترمذي . قال ابن العربي : والحديث في ذلك صحيح فينبغي أن يكون مستحبا انتهى
وعلى فرض صحة الحديث فهذا جمع حسن لأنه صلى الله عليه وآله وسلم علق الغسل بقوتها فيكون ذلك قرينة دالة على عدم الوجوب . وكذا قوله في الحديث أيهما فعلت أجزأ عنك
قال المصنف رحمه الله : فيه أن الغسل ككل صلاة لا يجب بل يجزئها الغسل لحيضها الذي تجلسه وأن الجمع للمرض جائز وأن جمع الفريضتين لها بطهارة واحدة جائز وأن تعيين العدد من الستة والسبعة باجتهادها لا بتشهيها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( حتى إذا رأيت أن قد طهرت واستنقيت ) انتهى

باب الصفرة والكدرة بعد العادة

1 - عن أم عطية قالت : ( كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا )
- رواه أبو داود والبخاري ولم يذكر بعد الطهر

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم وأخرجه الإسماعيلي في مستخرجه بلفظ : ( كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئا ) يعني في الحيض وللدارمي بعد الغسل . قال الحافظ : ووقع في النهاية والوسيط زيادة في هذا وراء العادة وهي زيادة باطلة
وأما ما روي من حديث عائشة بلفظ : ( كنا لا نعد الصفرة والكدرة حيضا ) فقال النووي في شرح المهذب : لا أعلم من رواه بهذا اللفظ
والحديث يدل على أن الصفرة والكدرة بعد الطهر ليستا من الحيض وأما في وقت الحيض فهما حيض وقد نسب القول بذلك في البحر إلى زيد بن علي والهادي والمؤيد بالله وأبي طالب وأبي حنيفة ومحمد ومالك والليث والعنبري
وفي رواية عن القاسم وعن الناصر وعن الشافعي قال في البحر مستدلا لهم : إذ هو أذى ولقوله تعالى { حتى يطهرن } ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم لحمنة ( إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي ) وفي رواية عن القاسم ليس حيضا إذا توسطه الأسود لحديث : ( إذا رأيت الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة حتى إذا كان الصفرة فتوضئي وصلي ) ولحديث الباب . وعورضا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة ( لا تصلي حتى تري القصة البيضاء ) وقولها ( كنا نعد الكدرة والصفرة في أيام الحيض حيضا ) ولكونهما أذى خرج من الرحم فأشبه الدم . وفي رواية عن [ ص 346 ] الناصر والشافعي وهو مروي عن أبي يوسف أنهما حيض بعد الدم لأنهما من آثاره لا قبله ورد بأن الفرق تحكم وفي رواية عن الشافعي إن رأتهما في العادة فحيض وإلا فلا هذا حاصل ما في البحر
وحديث الباب إن كان له حكم الرفع كما قال البخاري وغيره من أئمة الحديث أن المراد كنا في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم مع علمه فيكون تقريرا منه ويدل بمنطوقه أنه لا حكم للكدرة والصفرة بعد الطهر وبمفهومه أنهما وقت الحيض حيض كما ذهب إليه الجمهور

2 - وعن عائشة رضي الله عنها : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في المرأة التي ترى ما يريبها بعد الطهر إنما هو عرق أو قال عروق )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

- الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا محمد بن يحيى عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن أم بكر عن عائشة وأم بكر لا يعرف حالها وبقية الإسناد ثقات . والحديث حسنه المنذري وهو من الأدلة الدالة على عدم الاعتبار بما ترى المرأة بعد الطهر وقد تقدم الخلاف فيه
قوله ( يريبها ) بفتح الياء أي شك فيه هل هو حيض أم لا يقال رابني الشيء يريبني إذا شككت فيه

باب وضوء المستحاضة لكل صلاة

1 - عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في المستحاضة : تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم وتصلي )
- رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال : حسن

- الحديث لم يحسنه الترمذي كما ذكره المصنف بل سكت عنه
قال ابن سيد الناس في شرحه : وسكت الترمذي عن هذا الحديث فلم يحكم بشيء وليس من باب الصحيح ولا ينبغي أن يكون من باب الحسن لضعف راويه عن عدي بن ثابت وهو أبو اليقظان واسمه عثمان بن عمير بن قيس الكوفي وهو الذي يقال له عثمان ابن أبي حميد وعثمان ابن أبي زرعة وعثمان أبو اليقظان واعشي ثقيف كله واحد
قال يحيى بن معين : ليس حديثه بشيء وقال أبو حاتم : ترك ابن مهدي حديثه وقال أبو حاتم أيضا : إنه ضعيف [ ص 347 ] الحديث منكر الحديث كان شعبة لا يرضاه
وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقوي عندهم ولم يرضه يحيى بن سعيد وقال النسائي : ليس بالقوي وقال الدارقطني : ضعيف وقال ابن حبان : اختلط حتى لا يدري ما يقول لا يجوز الاحتجاج به
قال الترمذي : سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقلت : عدي بن ثابت عن أبيه عن جده جد عدي بن ثابت ما اسمه فلم يعرف محمدا اسمه وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين أن اسمه دينار فلم يعبأ به وقال الدمياطي في عدي المذكور : هو عدي بن أبان بن ثابت بن قيس بن الحطيم الأنصاري ووهم من قال اسم جده دينار وعدي هذا من الثقات المخرج لهم في الصحيح وثقه أحمد بن حنبل . وقال أبو حاتم : صدوق
وقال أبو داود في سننه : حديث عدي بن ثابت والأعمش عن حبيب وأيوب وأبي العلاء كلها لا يصح منها شيء وذكر في آخر الباب الإشارة إلى صحة حديث قمير عن عائشة ومداره على أيوب بن مسكين وفيه خلاف وقد اضطرب أيضا فرواه عن ابن شبرمة عنها مرفوعا وعن حجاج عنها موقوفا . وكذلك رواه الثوري عن فراس عن الشعبي عن قمير موقوفا ذكره المزي في الأطراف
والحديث يدل على أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة وقد تقدم الكلام على ذلك
ويدل أيضا أنها تتوضأ عند كل صلاة وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وحكي عن عروة بن الزبير وسفيان الثوري وأحمد وأبي ثور واستدلوا بحديث الباب وبالحديث الذي سيأتي بعده وبما ثبت في رواية للبخاري بلفظ : ( وتوضأ لكل صلاة ) وغير ذلك
وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أن طهارتها مقدرة بالوقت فلها أن تجمع بين فريضتين وما شاءت من النوافل بوضوء واحد
واستدل لهم في البحر بحديث فاطمة بنت أبي حبيش وفيه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : وتوضئي لوقت كل صلاة )
وستعرف قريبا أن الرواية لكل صلاة لا لوقت كل صلاة كما زعمه ( فإن قيل ) إن الكلام على حذف مضاف والمراد لوقت كل صلاة فيجاب بما قاله في الفتح من أنه مجاز يحتاج إلى دليل فالحق أنه يجب عليها الوضوء لكل صلاة لكن لا بهذا الحديث بل بحديث فاطمة الآتي وبما في حديث أسماء بلفظ : ( وتتوضأ فيما بين ذلك ) وقد تقدم وبما ثبت في رواية البخاري من حديث عائشة وقد تقدم وسيأتي

2 - وعن عائشة قالت : ( جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لها : [ ص 348 ] لا اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير )
- رواه أحمد وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان ورواه مسلم في الصحيح بدون قوله ( وتوضئي لكل صلاة ) وقال في آخره حرف تركنا ذكره قال البيهقي : هو قوله ( وتوضئي ) وتركها لأنها زيادة غير محفوظة وقد روى هذه الزيادة من تقدم . وكذا رواها الدارمي والطحاوي وأخرجها أيضا البخاري وقد أعل الحديث بأن حبيبا لم يسمع من عروة بن الزبير وإنما سمع من عروة المزني فإن كان عروة المذكور في الإسناد عروة بن الزبير كما صرح بذلك ابن ماجه وغيره فالإسناد منقطع لأن حبيب ابن أبي ثابت مدلس وإن كان عروة هو المزني فهو مجهول
وفي الباب عن جابر رواه أبو يعلى بإسناد ضعيف والبيهقي وعن سودة بنت زمعة رواه الطبراني
والحديث يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة وقد تقدم الكلام فيه . ويدل على أن الغسل لا يجب إلا مرة واحدة عند انقضاء الحيض وكذلك الحديث الذي قبله يدل على ذلك وقد تقدم البحث فيه في مواضع

باب تحريم وطء الحائض في الفرج وما يباح منها

1 - عن أنس بن مالك : ( أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عز و جل { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) وفي لفظ : ( إلا الجماع )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- قوله ( فسأل ) السائل عن ذلك أسيد بن الحضير وعباد بن بشر . وقيل إن السائل عن ذلك هو أبو الدحداح قاله الواقدي والصواب الأول كما في الصحيح
والحديث يدل على حكمين : تحريم النكاح وجواز ما سواه
( أما الأول ) فبإجماع المسلمين وبنص القرآن العزيز والسنة الصريحة ومستحله كافر وغير المستحل إن كان ناسيا أو جاهلا لوجود الحيض أو جاهلا لتحريمه أو مكرها فلا إثم عليه ولا كفارة وإن وطئها [ ص 349 ] عامدا عالما بالحيض والتحريم مختارا فقد ارتكب معصية كبيرة نص على كبرها الشافعي ويجب عليه التوبة وسيأتي الخلاف في وجوب الكفارة
( وأما الثاني ) أعني جواز ما سواه فهو قسمان القسم الأول المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة بالذكر أو القبلة أو المعانقة أو اللمس أو غير ذلك وذلك حلال باتفاق العلماء وقد نقل الإجماع على الجواز جماعة
وقد حكي عن عبيدة السلماني وغيره أنه لا يباشر شيئا منها بشيء منه وهو كما قال النووي غير معروف ولا مقبول ولو صح لكان مردود بالأحاديث الصحيحة وبإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده . القسم الثاني فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر وفيها ثلاثة وجوه لأصحاب الشافعي الأشهر منها التحريم . والثاني عدم التحريم مع الكراهة . والثالث إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج إما شدة ورع أو لضعف شهوة جاز وإلا لم يجز وقد ذهب إلى الوجه الأول مالك وأبو حنيفة وهو قول أكثر العلماء منهم سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وعطاء وسليمان بن يسار وقتادة وممن ذهب إلى الجواز عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والحاكم والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وأصبغ وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر وداود
وحديث الباب يدل على الجواز لتصريحه بتحليل كل شيء مما عدا النكاح فالقول بالتحريم سدا للذريعة لما كان الحوم حول الحمى مظنة للوقوع فيه لما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير مرفوعا بلفظ : ( من وقع الحمى يوشك أن يواقعه ) وله ألفاظ عندهما وعند غيرهما ويشير إلى هذا حديث ( لك ما فوق الإزار ) وحديث عائشة الآتي لما فيه من الأمر للمباشرة بأن تأتزر . وقولها في رواية لهما ( وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يملك إربه )

2 - وعن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها شيئا )
- رواه أبو داود

3 - وعن مسروق بن أجدع قال : ( سألت عائشة رضي الله عنها ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا قالت : كل شيء إلا الفرج )
- رواه البخاري في تاريخه

4 - وعن حزام بن حكيم عن عمه : ( أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض قال : لك ما فوق الإزار )
- رواه أبو داود قلت عمه هو عبد الله بن سعد

- حديث عكرمة إسناده في سنن أبي داود هكذا حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد [ ص 350 ] ابن سلمة عن أيوب عن عكرمة فذكره ورجال إسناده ثقات محتج بهم في الصحيح وقد سكت عنه أبو داود والمنذري وقد قال ابن الصلاح والنووي وغيرهما : إنه يجوز الاحتجاج بما سكت عنه أبو داود وصرح أبو داود في نفسه أنه لا يسكت إلا عن الحديث الصالح للاحتجاج ويشهد له حديث الأمر بالإتزار وحديث ( لك ما فوق الإزار ) وأما حديث مسروق عن عائشة فهو مثل حديث أنس بن مالك السابق المتفق عليه . وأما حديث حزام بن حكيم فأورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه وإسناده في سنن أبي داود فيه صدوقان وبقيته ثقات
وقد روى أبو داود من حديث معاذ بن جبل نحوه وقال : ليس بالقوي وفي إسناده بقية عن سعيد بن عبد الله الأغطش . ورواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن سعيد بن عبد الله الخزاعي فإن كان هو الأغطش فقد توبع بقية وبقيت جهالة حال سعيد . قال الحافظ : لا نعرف أحدا وثقه وأيضا عبد الرحمن بن عائذ راويه عن معاذ قال أبو حاتم : روايته عن علي مرسلة وإذا كان كذلك فعن معاذ أشد إرسالا
والحديث الأول يدل على جواز الاستمتاع من غير تخصيص بمحل دون محل من سائر البدن غير الفرج لكن مع وضع شيء على الفرج يكون حائلا بينه وبين ما يتصل به من الرجل
والحديث الثاني يدل على جواز الاستمتاع بما عدا الفرج
والحديث الثالث يدل على جواز الاستمتاع بما فوق الإزار من الحائض وعدم جوازه بما عداه فمن أجاز التخصيص بمثل هذا المفهوم خصص به عموم كل شيء المذكور في حديث أنس وعائشة ومن لم يجوز التخصيص به فهو لا يعارض المنطوق الدال على الجواز والخلاف في جوازه وعدمه قد سبق في أول الباب

5 - وعن عائشة : ( قالت كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يباشرها أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضتها ثم يباشرها )
- متفق عليه قال الخطابي : فور الحيض أوله ومعظمه

- قوله ( أن يباشرها ) المراد بالمباشرة هنا التقاء البشرتين لا الجماع
قوله ( أن تأتزر ) في رواية للبخاري ( تتزر ) قال في الفتح : والأولى أفصح . والمراد بالإتزار أن تشد إزارا تستر سرتها وما تحتها والركبة
قوله ( في فور حيضتها ) هو بفتح الفاء وإسكان الواو . ومعناه كما قال الخطابي كما ذكره المصنف . وقال القرطبي : وفور الحيضة معظم صبها من فوران القدر وغليانها والكلام على فقه الحديث قد تقدم

باب كفارة من أتى حائضا . [ ص 351 ]

1 - عن ابن عباس : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار )
- رواه الخمسة وقال أبو داود : هكذا الرواية الصحيحة قال دينار أو نصف دينار . وفي لفظ للترمذي : ( إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار )
وفي رواية لأحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل في الحائض تصاب دينارا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار كل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- الرواية الأولى رواها أيضا الدارقطني وابن الجارود وكل رواتها مخرج لهم في الصحيح إلا مقسما الراوي عن ابن عباس فانفرد به البخاري لكن ما أخرج له إلا حديثا واحدا
وقد صحح حديث الباب الحاكم وابن القطان وابن دقيق العيد
وقال أحمد : ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس فقيل : تذهب إليه فقال : نعم . وقال أبو داود : وهي الرواية الصحيحة وربما لم يرفعه شعبة . وقال قاسم بن أصبغ : رفعه غندر قال الحافظ : والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير جدا ويجاب عنه بما ذكره أبو الحسن بن القطان وهو ممن قال بصحة الحديث أن الإعلال بالاضطراب خطأ . والصواب أن ينظر إلى رواية كل راو بحسبها . ويعلم ما خرج عنه فيها . فإن صح من طريق قبل ولا يضره أن يروى من طرق أخر ضعيفة . فهم إذا قالوا روي فيه بدينار وروي بنصف دينار . وروي باعتبار صفات الدم . وروي دون اعتبارها . وروي باعتبار أول الحيض وآخره . وروي دون ذلك . وروي بخمسي دينار . وروي بعتق نسمة . وهذا عند التدين والتحقيق لا يضره . ثم أخذ في تصحيح حديث عبد الحميد . وأكثر أهل العلم زعموا أن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس
قال الخطابي : والأصح أنه متصل مرفوع لكن الذمم بريئة إلا أن تقوم الحجة بشغلها . ويجاب عن دعوى الاختلاف في رفعه ووقفه بأن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي رفعوه عن شعبة وكذلك وهب بن جرير وسعيد بن عامر والنضر بن شميل وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف
قال ابن سيد الناس : من رفعه عن شعبة أجل وأكثر وأحفظ ممن وقفه . وأما قول شعبة أسنده إلى الحكم مرة ووقفه مرة فقد أخبر عن المرفوع [ ص 352 ] والموقوف أن كلا عنده ثم لو تساوى رافعوه مع واقفيه لم يكن في ذلك ما يقدح فيه
قال أبو بكر الخطيب : اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفا وهو مذهب أهل الأصول لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى والأخذ بالمرفوع أخذ بالزيادة وهي واجبة القبول
قال الحافظ : وقد أمعن ابن القطان القول في تصحيح هذا الحديث والجواب عن طرق الطعن فيه بما يراجع منه . وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وقواه في الإمام وهو الصواب فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا كحديث بئر بضاعة وحديث القلتين ونحوهما
وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب والتنقيح والخلاصة أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم وتبع النووي في بعض ذلك ابن الصلاح
وأما الرواية الثانية من حديث الباب فأخرجها مع الترمذي البيهقي والطبراني والدارقطني وأبو يعلى والدارمي بعضهم من طريق سفيان عن خصيف وعلي بن بذيمة وعبد الكريم ثلاثتهم عن مقسم وبعضهم من طريق أبي جعفر الرازي عن عبد الكريم عن مقسم وخصيف فيه مقال وعبد الكريم مختلف فيه وقيل مجمع على تركه وعلي بن بذيمة فيه أيضا مقال
وأما الرواية الثالثة من حديث الباب فقد أخرج نحوها البيهقي من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس
والحديث يدل على وجوب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض وإلى ذلك ذهب ابن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وإسحاق وأحمد في الرواية الثانية عنه والشافعي في قوله القديم واختلف هؤلاء في الكفارة فقال الحسن وسعيد : عتق رقبة وقال الباقون : دينار أو نصف دينار على اختلاف منهم في الحال الذي يجب فيه الدينار أو نصف الدينار بحسب اختلاف الروايات واحتجوا بحديث الباب
وقال عطاء وابن أبي مليكة والشعبي والنخعي ومكحول والزهري وأبو الزناد وربيعة وحماد ابن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري والليث بن سعد ومالك وأبو حنيفة وهو الأصح عن الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وجماهير من السلف : إنه لا كفارة عليه بل الواجب الاستغفار والتوبة وأجابوا عن الحديث بما سبق من المطاعن . قالوا : والأصل البراءة فلا ينتقل عنها إلا بحجة وقد عرفت انتهاض الرواية الأولى من حديث الباب فالمصير إليها متحتم وعرفت بما أسلفناه صلاحيتها للحجية وسقوط الإعتلالات الواردة عليها
قال المصنف [ ص 353 ] بعد أن ساق الحديث : وفيه تنبيه على تحريم الوطء قبل الغسل انتهى ( 1 )
_________
( 1 ) قال أبو بكر الجصاص : وقد تنازع أهل العلم في قوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن } فمن الناس من يقول أن انقطاع الدم يوجب إباحة وطئها ولم يفرقوا في ذلك بين أقل الحيض وأكثره ومنهم من لا يجوز وطئها إلا بعد الاغتسال في أقل الحيض وأكثره وهو مذهب الشافعي وقال أصحابنا إذا انقطع دمها وأيامها دون العشرة فهي في حكم الحائض حتى تغتسل إذا كانت واجدة للماء أو يمضي عليها وقت الصلاة فإذا كان أحد هذين خرجت من الحيض وحل زوجها وطؤها . وإن كانت أيامها عشرة ارتفع حكم الحيض بمضي العشرة وتكون حينئذ بمنزلة امرأة جنب في إباحة وطء الزوج
واحتج من أباح وطئها في سائر الأحوال قبل الاغتسال بقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } وحتى غاية تقتضي أن يكون حكم ما بعدها بخلافها فذلك عموم في إباحة وطئها بانقطاع الدم واحتج من حظر وطئها في كل حال حتى تغتسل بقوله { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } فشرط في إباحته شيئين أحدهما انقطاع الدم والآخر الاغتسال لأن قوله ( فإذا تطهرن ) لا يحتمل غير الاغتسال ثم قال : قال أبو بكر : قوله تعالى { حتى يطهرن } إذا قرئ بالتخفيف فإنما هو انقطاع الدم لا الاغتسال لأنها لو اغتسلت وهي حائض لم تطهر فلا يحتمل قوله { حتى يطهرن } إلا معنى واحدا وهو انقطاع الدم الذي به يكون الخروج من الحيض وإذا قرئ بالتشديد احتمل الأمرين من انقطاع الدم ومن الغسل لما وصفنا آنفا فصارت قراءة التخفيف محكمة وقراءة التشديد متشابهة وحكم المتشابه أن يحمل على المحكم ويرد إليه فحصل معنى القراءتين على وجه واحد وظاهرهما يقتضي إباحة الوطء بانقطاع الدم اه
أقول : وليس في السنة ما يدل صريحا على حرمة الوطء حتى تغتسل فيبقى الأمر على ما قال أبو بكر الجصاص والله أعلم

باب الحائض لا تصوم ولا تصلي وتقضي الصوم دون الصلاة

1 - عن أبي سعيد في حديث له : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للنساء : أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل قلن : بلى قال : فذلكن من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن : بلى قال : فذلكن من نقصان دينها )
- مختصر من البخاري

- الحديث أخرجه مسلم من حديثه وأخرجه أيضا مسلم من حديث ابن عمر بلفظ : ( تمكث الليالي ما تصلي وتفطر في شهر رمضان فهذا نقصان دينها ) واتفقا عليه من حديث أبي هريرة وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود ( 1 )
قوله ( لم تصل ولم تصم ) فيه إشعار بأن منع الحائض من الصوم والصلاة كان ثابتا بحكم الشرع قبل ذلك المجلس
والحديث يدل على عدم وجوب الصوم والصلاة على الحائض حال حيضها وهو إجماع
ويدل على أن العقل يقبل الزيادة والنقصان وكذلك الإيمان وليس المراد من ذكر نقصان عقول النساء لومهن على ذلك لأنه مما لا مدخل لاختيارهن فيه [ ص 354 ] بل المراد التحذير من الافتتان بهن وليس نقص الدين منحصر فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك قاله في الفتح ورواه عن النووي لأنه أمر نسبي فالكامل مثلا ناقص عن الأكمل ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك صلاتها زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي . وهل تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها
قال النووي : الظاهر أنها لا تثاب والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته والحائض ليست كذلك
قال الحافظ : وعندي في كون هذا الفرق مستلزما لكونها لا تثاب وقفة
_________
( 1 ) وأخرجه النسائي في الصلاة وابن ماجه

2 - وعن معاذة قالت : ( سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قالت : كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )
- رواه الجماعة

- نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على أنه لا يجب على الحائض قضاء الصلاة ويجب عليها قضاء الصيام
وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة وعن سمرة بن جندب أنه كان يأمر به فأنكرت عليه أم سلمة قال الحافظ : لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب كما قاله الزهري وغيره ومستند الإجماع هذا الحديث الصحيح ولكن الاستدلال بعدم الأمر على عدم وجوب القضاء قد ينازع فيه لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء والأولى الاستدلال بما عند الإسماعيلي من وجه آخر بلفظ : ( فلم نكن نقضي ) ذكر معناه في الفتح ولا تتم المنازعة في الاستدلال بعدم الأمر على عدم وجوب القضاء إلا بعد تسليم أن القضاء يجب بدليل الأداء أو وجود دليل يدل على وجوب قضاء الصلاة دلالة تندرج تحتها الحائض والكل ممنوع
وقد ذهب الجمهور كما قاله النووي إلى أنه لا يجب القضاء على الحائض إلا بدليل جديد . قال النووي في شرح مسلم : قال العلماء والفرق بينهما يعني الصوم والصلاة أن الصلاة كثيرة متكررة فيشق قضاؤها بخلاف الصوم فإنه يجب في السنة مرة واحدة وربما كان الحيض يوما أو يومين
واعلم أنه لا حجة للخوارج إلا ما أسلفنا من أن عدم الأمر لا يستلزم عدم وجوب القضاء والاكتفاء بأدلة القضاء فإن أرادوا بأدلة القضاء حديث : ( من نام عن صلاته أو نسيها ) فأين هو من محل النزاع وإن أرادوا غيره فما هو وأيضا أدلة القضاء كافية في الصوم فلأي شيء أمرهن الشارع به دونها والخوارج لا يستحقون المطاولة والمقاولة لا سيما في مثل هذه [ ص 355 ] المقالة الخارقة للإجماع الساقطة عند جميع المسلمين بلا نزاع لكنه لما رفع من شأنها بعض المتأخرين لمحبة الأغراب التي جبل عليها ذكرنا طرفا من الكلام في المسألة
وقد اختلف السلف فيمن طهرت من الحيض بعد صلاة العصر وبعد صلاة العشاء هل تصلي الصلاتين أو الأخرى
قال المصنف رحمه الله : وعن ابن عباس أنه كان يقول : ( إذا طهرت الحائض بعد العصر صلت الظهر والعصر وإذا طهرت بعد العشاء صلت المغرب والعشاء ) وعن عبد الرحمن بن عوف قال : ( إذا طهرت الحائض قبل أن تغرب الشمس صلت الظهر والعصر وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء ) رواهما سعيد بن منصور في سننه والأثرم وقال : قال أحمد : عامة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده انتهى

باب سؤر الحائض ومؤاكلتها

1 - عن عائشة قالت : ( كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع فاه على موضع في فيشرب وأتعرق العرق وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع فاه على موضع في )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

- قوله ( أتعرق العرق ) العرق بعين مهملة مفتوحة وراء ساكنة بعدها قاف العظم وتعرقه أكل ما عليه من اللحم ذكر معنى ذلك في القاموس
والحديث يدل على أن ريق الحائض طاهر ولا خلاف فيه فيما أعلم وعلى طهارة سؤرها من طعام أو شراب ولا أعلم فيه خلافا

2 - وعن عبد الله بن سعد قال : ( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مواكلة الحائض قال : واكلها )
- رواه أحمد والترمذي

- الحديث قال الترمذي : حديث حسن غريب . وأخرجه أيضا أبو داود رواته كلهم ثقات وإنما غربه الترمذي لأنه تفرد به العلاء بن الحارث عن حكيم بن حزام وحكيم بن حزام عن عمه عبد الله بن سعد
وفي الباب ما تقدم عن أنس عند مسلم بلفظ : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) وهو شاهد لصحة حديث الباب . وكذلك حديث عائشة السابق . قال ابن سيد الناس في شرح حديث الباب : لما اعتضد به ارتقى في مراتب التحسين إلى مرتبة لم تكن له لولاه
والحديث يدل على جواز مواكلة الحائض قال [ ص 356 ] الترمذي : وهو قول عامة أهل العلم لم يروا بمواكلة الحائض بأسا . قال ابن سيد الناس في شرحه : وهذا مما أجمع الناس عليه وهكذا نقل الإجماع محمد بن جرير الطبري . وأما قوله تعالى { فاعتزلوا النساء في المحيض } فالمراد اعتزلوا وطئهن

باب وطء المستحاضة

1 - عن عكرمة عن حمنة بنت جحش : ( أنها كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها )

2 - وعنه أيضا قال : ( كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها )
- رواهما أبو داود وكانت أم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف كذا في صحيح مسلم . وكانت حمنة تحت طلحة بن عبيد الله

- أما حديثه الأول فأخرجه أيضا البيهقي قال النووي : وإسناده حسن . وأما حديثه الثاني ففي إسناده معلى وهو ثقة وكان أحمد لا يروي عنه لأنه كان ينظر في الرأي وفي سماع عكرمة بن عمار من حمنة ومن أم حبيبة نظر قاله المنذري
وهما يدلان على جواز مجامعة المستحاضة ولو حال جريان الدم وهو قول الجمهور وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس وابن المسيب والحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير وقتادة وحماد بن سليمان وبكر بن عبد الله المزني والأوزاعي والثوري ومالك وإسحاق والشافعي وأبي ثور واستدلوا بما في الباب
وقال النخعي والحكم : إنه لا يأتيها زوجها وكرهه ابن سيرين وروي عن أحمد المنع أيضا
ولعل أهل القول الأول يقيدون ذلك بأن لا تعلم بالإمارات أو العادة أن ذلك الدم دم الحيض وفي احتجاجهم بروايتي عكرمة نظر لأن غايتهما أنه فعل صحابي ولم ينقل فيه التقرير من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا الأذن له بذلك ولكنه ينبغي التعويل في الاستدلال على أن التحريم إنما يثبت بدليل ولم يرد في ذلك شرع يقتضي المنع منه
وقد استدل القائلون بعدم الجواز أيضا بما رواه الخلال بإسناده إلى عائشة قالت : ( المستحاضة لا يغشاها زوجها ) قالوا : ولأن بها أذى فيحرم وطؤها كالحائض وقد منع الله من وطء الحائض معللا بالأذى والأذى موجود في المستحاضة فثبت التحريم في حقها

كتاب النفاس . [ ص 357 ]

باب أكثر النفاس

1 - عن علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل واسمه كثير بن زياد عن مسة الأزدية عن أم سلمة قالت : ( كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوما وكنا نطلي وجوهنا بالورس ( 1 ) من الكلف )
- رواه الخمسة إلا النسائي وقال البخاري : علي بن عبد الأعلى ثقة وأبو سهل ثقة

- الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم وعلي بن عبد الأعلى ثقة وأبو سهل وثقه البخاري وابن معين وضعفه ابن حبان . قال الحافظ : ولم يصب . ومسة الأزدية مجهولة الحال قال ابن سيد الناس : لا يعرف حالها ولا عينها ولا تعرف في غير هذا الحديث
قال النووي : قول جماعة من مصنفي الفقهاء أن هذا الحديث ضعيف مردود عليهم وله شاهد أخرجه ابن ماجه من طريق سلام عن حميد عن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقت للنفساء أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ) قال : لم يروه عن حميد غير سلام وهو ضعيف كذبه ابن معين وغيره من الأئمة ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن أنس موقوفا وروى الحاكم من حديث الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال : ( وقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنساء في نفاسهن أربعين يوما ) وقال : صحيح إن سلم من أبي بلال الأشعري . قال الحافظ : ضعفه الدارقطني والحسن عن عثمان منقطع والمشهور عن عثمان موقوف
وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي هريرة قالا : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنتظر النفساء أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإن بلغت أربعين يوما ولم تر الطهر فلتغتسل ) ذكره ابن عدي وفيه العلاء بن كثير وهو ضعيف جدا
وفي الباب أيضا عن عائشة نحو حديث عثمان بن أبي العاص عند [ ص 358 ] الدارقطني وفيه أبو بلال الأشعري وهو ضعيف وعطاء بن عجلان متروك الحديث وحديث الباب قال الحاكم بعد إخراجه في مستدركه : إنه صحيح الإسناد : وقال الخطابي : أثنى البخاري على هذا الحديث
وقد اختلف الناس في أكثر النفاس فذهب علي عليه السلام وعمر وعثمان وعائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والشعبي والمزني وأحمد بن حنبل ومالك والهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب إلى أن أكثر النفاس أربعون يوما
واستدلوا بحديث الباب وما ذكرناه بعده وقال الشافعي في قول وروي عن إسماعيل وموسى ابني جعفر بن محمد الصادق بل سبعون قالوا : إذ هو أكثر ما وجد . وفي قول للشافعي وهو الذي في كتب الشافعية وروي أيضا عن مالك بل ستون يوما لذلك . وقال الحسن البصري : خمسون لذلك . وقالت الإمامية : نيف وعشرون والنص يرد عليهم وقد أجابوا عنه بما تقدم من الضعف وبأنه كما قال الترمذي في العلل : منكر المتن فإن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما منهن من كانت نفساء أيام كونها معه إلا خديجة وزوجيتها كانت قبل الهجرة فإذا لا معنى لقول أم سلمة قد كانت المرأة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم تقعد في النفاس هكذا قال : وفيه أن التصريح بكونهن من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ظاهر في كونهن من غير زوجاته فلا يشكل ما ذكره
وأيضا نساؤه أعم من الزوجات لدخول البنات وسائر القرابات تحت ذلك والأدلة الدالة على أن أكثر النفاس أربعون يوما متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار فالمصير إليها متعين فالواجب على النفساء وقوف أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك كما دلت على ذلك الأحاديث السابقة
قال الترمذي في سننه : وقد أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم والتابعون ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي انتهى
وما أحسن ما قال المصنف رحمه الله تعالى ههنا ( 2 ) ولفظه : قلت : ومعنى الحديث [ ص 359 ] كانت تؤمر أن تجلس إلى الأربعين لئلا يكون الخبر كذبا إذ لا يمكن أن تتفق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض انتهى
وقد لخصت هذه المسألة في رسالة مستقلة واختلف العلماء في تقدير أهل النفاس فعند العترة والشافعي ومحمد لا حد لأقله واستدلوا بما سبق من قوله : ( فإن رأت الطهر قبل ذلك ) وقال زيد بن علي : ثلاثة أقراء فإذا كانت المرأة تحيض خمسا فأقل نفاسها خمسة عشر يوما . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : بل أحد عشر يوما كأكثر الحيض وزيادة يوم لأجل الفرق
وقال الثوري : ثلاثة أيام وجميع الأقوال ما عدا الأول لا دليل عليها ولا مستند لها إلا الظنون
_________
( 1 ) الورس قال في القاموس : نبات كالسمسم ليس إلا باليمن يزرع فيبقى عشرين سنة نافع للكلف . طلاء وقال في النهاية : وهو نبت أصفر يصبغ به . والكلف قال في القاموس : محرك شيء يعلو الوجه كالسمسم ولونه بين السواد والحمرة . وحمرة كدرة تعلو الوجه
( 2 ) معنى قول المصنف أمر كل امرأة أن تجلس أربعين سواء كانت متصلة الدم إلى ذلك أو انقطع دمها وفي ذلك نظر إذ كيف تؤمر التي طهرت من النفاس بانقطاع دمها لأقل من ذلك بترك الصلاة مع وجوبها عليها وعدم المانع
نعم روي عن أحمد رضي الله عنه أنه استحب لمن طهرت قبل الأربعين أن لا يقربها زوجها حتى تتم ذلك قال : ما يعجبني أن يأتيها زوجها على حديث عثمان بن أبي العاص أنها أتته قبل الأربعين فقال : لا تقربيني
قال ابن قدامة في المغني : وهذا على سبيل الاستحباب لأنا حكمنا لها بحكم الطاهرات فلهذا يلزمها أن تغتسل وتصلي وتصوم وإن عاد دمها في مدة الأربعين ففيه روايتان إحداهما أنه من نفاسها فتمتنع عن الصلاة والصوم فإن طهرت أيضا اغتسلت وصلت وصامت وهذا قول عطاء والشعبي
والثانية إنه مشكوك فيه تصوم وتصلي ثم تقضي الصوم احتياطا وهذه هي المشهورة عن أحمد ولا يأتيها زوجها إذا رأت الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق إنسان فهو نفاس وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس
وإن كان بعد بضعة لم يتبين فيها شيء فوجهان أحدهما نفاس والثاني ليس بنفاس . وإذا ولدت المرأة توأمين فعن أحمد روايتان إحداهما أن النفاس من الأول كله أوله وآخره وهي الصحيحة وهذا قول مالك وأبي حنيفة والرواية الثانية مختلف فيها فقول إن أوله من الأول وآخره من الثاني . وقول آخر إنه من الثاني فقط اه من المغني باختصار

باب سقوط الصلاة عن النفساء

1 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ( كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقعد في النفساء أربعين ليلة لا يأمرها النبي صلى الله عليه و سلم بقضاء صلاة النفاس )
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه وهو عند أبي داود من طريق أحمد بن يونس عن زهير عن علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل كثير بن زياد عن مسة عن أم سلمة فهو أحد روايات حديث مسة السابق وقد تقدم الكلام عليه وهو يدل على أنها تترك الصلاة أيام النفاس وقد وقع الإجماع من العلماء كما في البحر أن النفاس كالحيض في جميع ما يحل ويحرم ويكره ويندب وقد أجمعوا أن الحائض لا تصلي وقد أسلفنا ذلك

كتاب الصلاة . [ ص 360 ]

- قال النووي في شرح مسلم : اختلف العلماء في أصل الصلاة فقيل هي الدعاء لاشتمالها عليه وهذا قول جماهير أهل العربية والفقهاء وغيرهم . وقيل لأنها ثانية لشهادة التوحيد كالمصلي من السابق في خيل الحلبة . وقيل هي من الصلوين وهما عرقان مع الردف . وقيل هما عظمان . وقيل هي من الرحمة . وقيل أصلها الإقبال على الشيء . وقيل غير ذلك انتهى

باب افتراضها ومتى كان

1 - عن عبد الله بن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان )
- متفق عليه

- قوله ( على خمس ) في بعض الروايات خمسة بالهاء وكلاهما صحيح فالمراد برواية الهاء خمسة أركان أو أشياء أو نحو ذلك وبرواية حذف الهاء خمس خصال أو دعائم أو قواعد أو نحو ذلك
قوله ( شهادة ) بالجر على البدل ويجوز رفعه خبر المبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف وتقديره أحدها أو منها
قوله ( وإقام الصلاة ) أي المداومة عليها
والحديث يدل على أن كمال الإسلام وتمامه بهذه الخمس فهو كخباء أقيم على خمسة أعمدة وقطبها الذي يدور عليه الأركان الشهادة وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء . فظهر من هذا التمثيل أن الإسلام غير الأركان كما أن البيت غير الأعمدة والأعمدة غيره وهذا مستقيم على مذهب أهل السنة لأن الإسلام عندهم التصديق بالقول والعمل ( 1 )
[ ص 361 ] والحديث أورده عبد الله بن عمر في جواب من قال له ألا تغزو فقال : ( إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بني الإسلام ) الحديث فاستدل به ابن عمر على عدم وجوب غير ما اشتمل عليه ومن جملة ذلك الغزو لأن الإسلام بني على خمس ليس هو منها
قال النووي في شرح مسلم : اعلم أن هذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده وقد جمع أركانه
_________
( 1 ) قال الإمام ابن رجب : المراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس فهي كالأركان لبنيانه . والمقصود تمثيل الإسلام ببنيان ودعائم البنيان هذه الخمس فلا يثبت البنيان بدونها وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان فإذا فقد منها شيء نقص البنيان وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك بخلاف نقص هذه الدعائم الخمس فإن الإسلام يزول بفقدها جميعا بغير إشكال وكذلك يزول بفقد الشهادتين والمراد بهما الإيمان بالله ورسوله
وبهذا تعلم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام إلى أن قال : وقال ابن عيينة : المرجئة سموا ترك الفرائض بمنزلة ركوب المحارم وليس سواء لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر وهو كفر وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه . ثم قال : واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض كما في مسند أحمد عن زياد ابن نعيم الحضرمي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع فرضهن الله من الإسلام فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت )
وروي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئا دون شيء شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالجنة والنار والحياة بعد الموت هذه واحدة والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة والزكاة طهور من الذنوب ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة فمن فعل هؤلاء الثلاث ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدا لم يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة فمن فعل هؤلاء الأربعة ثم تيسر له الحج ولم يحج ولم يوص بحجته ولم يحج عنه بعض أهله لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها ) ذكره ابن أبي حاتم وقال : سألت أبي عنه فقال : هذا حديث منكر يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخراساني . قلت : الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر وعطاء من أجلاء علماء الشام
وقال ابن مسعود : من لم يزك فلا صلاة له اه من جامع العلوم والحكم ببعض تصرف والله أعلم

2 - وعن أنس بن مالك قال : ( فرضت على النبي صلى الله عليه و سلم الصلوات ليلة أسري به خمسين ثم نقصت حتى جعلت خمسا ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي وإن لك بهذه الخمس خمسين )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه

- الحديث في الصحيحين بلفظ : ( هي خمس وهي خمسون ) وبلفظ : ( هن خمس وهن خمسون ) المراد أنها خمس في العدد وخمسون في الأجر والاعتداد
والحديث طرف من حديث الإسراء الطويل . وقد استدل به على عدم فرضية ما زاد على الخمس الصلوات كالوتر وعلى دخول النسخ في الإنشاآت ولو كانت مؤكدة خلافا لقوم فيما أكد . وعلى جواز النسخ قبل الفعل وإليه ذهبت الأشاعرة قال ابن بطال وغيره : في بيان وجه الدلالة ألا ترى أنه عز و جل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب وتعقبه ابن المنير فقال : هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة أو منعه كالمعتزلة لكونهم اتفقوا جميعا على [ ص 362 ] أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ فهو مشكل عليهم جميعا قال : وهذه نكتة مبتكرة
قال الحافظ في الفتح : قلت إن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع وإن أراد قبل البلاغ إلى الأمة فمسلم ولكن قد يقال ليس هو بالنسبة إليهم نسخا لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كلف بذلك قطعا ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعل فالمسألة صحيحة التصوير في حقه صلى الله عليه و سلم

3 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الأول )
- رواه أحمد والبخاري

- زاد أحمد من طريق ابن كيسان إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا
والحديث يدل على وجوب القصر وأنه عزيمة لا رخصة وقد أخذ بظاهره الحنفية والهادوية واحتج مخالفوهم بقوله سبحانه { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ونفي الجناح لا يدل على العزيمة والقصر إنما يكون من شيء أطول منه قالوا : ويدل على أنه رخصة قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ) وأجابوا عن حديث الباب بأنه من قول عائشة غير مرفوع وبأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة قاله الخطابي وغيره
قال الحافظ : وفي هذا الجواب نظر أما أولا فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع وأما ثانيا فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة لأنه يحتمل أن يكون أخذه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن صحابي آخر أدرك ذلك
وأما قول إمام الحرمين لو كان ثابتا لنقل متواترا ففيه نظر لأن التواتر في مثل هذا غير لازم وقالوا أيضا يعارض حديث عائشة هذا حديث ابن عباس : ( فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ) أخرجه مسلم
( والجواب ) أنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس فلا تعارض وذلك بأن يقال إن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة قالت : ( فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار ) انتهى
ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة . ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة [ ص 363 ] وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها
وقيل كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية ذكره الدولابي وأورده السهيلي بلفظ بعد الهجرة بعام أو نحوه . وقيل بعد الهجرة بأربعين يوما فعلى هذا المراد بقول عائشة : ( فأقرت صلاة السفر ) أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف
والمصنف ساق الحديث للاستدلال به على فرضية الصلاة لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة ولعله يأتي تحقيق ما هو الحق في باب صلاة السفر إن شاء الله تعالى

4 - وعن طلحة بن عبيد الله : ( أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثائر الرأس فقال : يا رسول الله أخبرني ما فرض الله علي من الصلاة قال : الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا قال : أخبرني ما فرض الله علي من الصيام قال : شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا قال : أخبرني ما فرض الله علي من الزكاة قال : فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشرائع الإسلام كلها فقال : والذي أكرمك لا أطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق )
- متفق عليه

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي ومالك في الموطأ وغير هؤلاء
قوله ( أن أعرابيا ) في رواية ( جاء رجل ) زاد أبو داود ( من أهل نجد ) وكذا في مسلم والموطأ
قوله ( ثائر الرأس ) هو مرفوع على الوصف على رواية جاء رجل ويجوز نصبه على الحال والمراد أن شعره متفرق من ترك الرفاهية ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة
وأوقع اسم الرأس على الشعر إما مبالغة أو لأن الشعر منه ينبت
قوله ( إلا أن تطوع ) بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع بتاءين فأدغمت إحداهما ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما
قوله ( والذي أكرمك ) وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند البخاري ( والله )
قوله ( أفلح إن صدق ) وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر ( أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق ) ولأبي داود مثله . ( فإن قيل ) ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء أجيب عن ذلك بأنه كان قبل النهي أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال ورب أبيه أو أنه خاص ويحتاج إلى دليل
وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال : هو تصحيف وإنما كان والله فقصرت اللامان واستنكره القرطبي وغفل [ ص 364 ] القرافي فادعى أن الرواية بلفظ : ( وأبيه ) لم تصح وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لا مرية فيه . قال الحافظ : وأقوى الأجوبة الأولان
والحديث يدل على فرضية الصلاة وما ذكر معها على العباد . قال المصنف رحمه الله : فيه مستدل لمن لم يوجب صلاة الوتر ولا صلاة العيد انتهى
وقد أوجب قوم الوتر وآخرون ركعتي الفجر وآخرون صلاة الضحى وآخرون صلاة العيد وآخرون ركعتي المغرب وآخرون صلاة التحية ومنهم من لم يوجب شيئا من ذلك وجعل هذا الحديث صارفا لما ورد بعده من الأدلة المشعرة بالوجوب
وفي الحديث أيضا دليل على عدم وجوب صوم عاشوراء وهو إجماع وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة وفيه غير ذلك وقد جعل هذا الحديث دليلا على عدم وجوب ما ذكر نظر عندي لأن ما وقع في مبادئ التعاليم لا يصح التعلق به في صرف ما ورد بعده وإلا لزم قصر واجبات الشريعة بأسرها على الخمس المذكورة وأنه خرق للإجماع وإبطال لجمهور الشريعة فالحق أنه يؤخذ بالدليل المتأخر إذا ورد موردا صحيحا ويعمل بما يقتضيه من وجوب أو ندب أو نحوهما وفي المسألة خلاف وهذا أرجح القولين . والبحث مما ينبغي لطالب الحق أن يمعن النظر فيه ويطيل التدبر فإن معرفة الحق فيه من أهم المطالب العلمية لما ينبني عليه من المسائل البالغة إلى حد يقصر عنه العد
وقد أعان الله وله الحمد على جمع رسالة في خصوص هذا المبحث وقد أشرت إلى هذه القاعدة في عدة مباحث في غير هذا الباب وهذا موضع عرض ذكرها فيه

باب قتل تارك الصلاة

1 - عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز و جل )
- متفق عليه . ولأحمد مثله من حديث أبي هريرة

- قوله ( أمرت ) قال الخطابي : معلوم أن المراد بقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله [ ص 365 ] ويقاتلون ولا يرفع عنهم السيف وهذا التخصيص بأهل الأوثان إنما يحتاج إليه في الحديث الذي اقتصر فيه على ذكر الشهادة وجعلت لمجردها موجبة للعصمة . وأما حديث الباب فلا يحتاج إلى ذلك لأن العصمة متوقفة على كمال تلك الأمور ولا يمكن وجودها جميعا من غير مسلم
والحديث يدل على أن من أخل بواحدة منها فهو حلال الدم والمال إذا لم يتب وسيأتي ذكر الخلاف وبيان ما هو الحق في الباب الذي بعد هذا . وفي الاستتابة وصفتها ومدتها خلاف المعروف في الفقه
قوله ( إلا بحق الإسلام ) المراد ما وجب به من شرائع الإسلام إراقة الدم كالقصاص وزنا المحصن ونحو ذلك أو حل به أخذ جزء من المال كأروش الجنايات وقيم المتلفات وما وجب من النفقات وما أشبه ذلك
قوله ( وحسابهم على الله ) المراد فيما يستسر به ويخفيه دون ما يعلنه ويبديه . وفيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر العلماء
وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل قاله الخطابي
وذكر القاضي عياض معنى هذا وزاد عليه وأوضحه . قال النووي : وقد اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق ( 1 ) وهو الذي ينكر الشرع جملة قال : فذكروا فيه خمسة أوجه لأصحابنا والأصوب فيها : قبولها مطلقا للأحاديث الصحيحة المطلقة . والثاني : لا تقبل ويتحتم قتله لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة فكان من أهل الجنة . والثالث : إن تاب مرة واحدة قبلت توبته فإن تكرر ذلك منه [ ص 366 ] لم تقبل . والرابع : إن أسلم ابتداء من غير طلب قبل منه وإن كان تحت السيف فلا . والخامس : إن كان داعيا إلى الضلال لم يقبل منه وإلا قبل
قال النووي : وأيضا ولا بد مع هذا يعني القيام بالأمور المذكورة في الحديث من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الرواية الأخرى التي أشار إليها المصنف وهي من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم بلفظ : ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها )
_________
( 1 ) ومن هؤلاء الزنادقة ملحدوا أهل زمننا الذين يقلدون الفرنج في الإلحاد تقليدا أعمى ويقولون إن الشرائع الإسلامية لا تلائم روح العصر الحاضر ولا يتفق قطع يد السارق مثلا ومظاهر التحضر والتمدين الذي لا يعدو بعض شهوات النفوس وما تهواه من لذة النساء أو المال وهذا كل ما يتغنون به من الحضارة فأما تزكية النفس وترقية الأخلاق وتهذيب الروح وتصفيتها من تلك الكدورات التي هي مثار الأنانية وحب الذات الذي طالما قضى على سعادة الإنسان وراحته وما العهد بالحرب الأوربية ببعيد وما أساسها إلا تلك المدنية والحضارة الموهومة أقول : أما كل ذلك الذي يهنأ به الإنسان وتحيا به الأمم أما ذلك النور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم فقد أعلنوا براءتهم منه بل أعلنوا حربهم عليه ليس إلا لأنه دين سماوي جاء من عند الحكيم الخبير وأخذوا يهاجمونه من كل ناحية ويحاولون القضاء عليه يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . وعلماء الإسلام غافلون عن كل ذلك فيما هم فيه مما نسأل الله لهم منه العافية وأن ينزع من قلوبهم تلك التي فتنتهم وصرفتهم عن خدمته ما اعتزوا به والتجؤوا إليه والله وحده المسؤول أن يحفظنا من الفتن ويهدينا جميعا سبيله السوي وصراطه المستقيم

2 - وعن أنس بن مالك قال : ( لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارتدت العرب فقال : يا أبا بكر كيف نقاتل العرب فقال أبو بكر : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة )
- رواه النسائي

- الحديث أخرجه أيضا البيهقي في السنن وإسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا محمد بن بشار حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا عمران أبو العوام حدثنا معمر عن الزهري عن أنس فذكره وكلهم من رجال الصحيح إلا عمران أبو العوام فإنه صدوق يهم ولكن قد ثبت معناه في الصحيحين لكن بدون أنه قال ذلك أبو بكر في مراجعته لعمر بل الذي فيهما أن عمر احتج على أبي بكر لما عزم على قتال أهل الردة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم نفسه وماله فقال له أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعه )
قال النووي : وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر رضي الله عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة يعني من الأحاديث التي فيها ذكر الصلاة والزكاة فإن عمر لو سمع لما خالف ولما احتج بالحديث فإنه بهذه الزيادة حجة عليه ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها ولما احتج بالقياس والعموم اه . وإنما ذكرنا هذا الكلام للتعريف بأن المشهور عند أهل الصحيح والشارحين له خلاف ما ذكره النسائي في هذه الرواية وسيأتي الكلام على مراجعة أبي بكر وعمر مبسوطا في كتاب الزكاة
والحديث يدل على ما دل عليه الذي قبله من أن المخل بواحدة من هذه الخصال حلال الدم ومباح المال

3 - [ ص 367 ] وعن أبي سعيد الخدري قال : ( بعث علي عليه السلام وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذهبية فقسمها بين أربعة فقال رجل : يا رسول الله اتق فقال : ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال : لا لعله أن يكون يصلي فقال خالد : وكم من مصلي يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم )
- مختصر من حديث متفق عليه

- الحديث اختصره المصنف وترك أطرافا من أوائله وتمامه قال : ( ثم نظر إليه وهو مقف فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لينا رطبا لئن أدركتهم لأقتلهن قتل ثمود ) انتهى
قوله ( بذهبية ) على التصغير . وفي رواية بذهبة بفتح الذال
قوله ( بين أربعة ) هم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل كذا في صحيح مسلم
قال النووي : قال العلماء ذكر عامر هنا غلط ظاهر لأنه توفي قبل هذا بسنين والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة كما هو مجزوم به في باقي الروايات
قوله ( فقال خالد بن الوليد ) في رواية عمر بن الخطاب وليس بينهما تعارض بل كل واحد منهما استأذن فيه
قوله ( لعله أن يكون يصلي ) فيه أن الصلاة موجبة لحقن الدم ولكن مع بقية الأمور المذكورة في الأحاديث الآخرة
قوله ( لم أومر أن أنقب ) الخ معناه إني أمرت بالحكم بالظاهر والله متولي السرائر كما قال صلى الله عليه و سلم ( فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) . والحديث استدل به على كفر الخوارج لأنهم المرادون بقوله في آخره ( قوم يتلون كتاب الله ) كما صرح بذلك شراح الحديث وغيرهم . وقد اختلف الناس في ذلك قال النووي بعد أن صرح هو والخطابي بأن الحديث وأمثاله يدل على كفر الخوارج : وقد كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالا من سائر المسائل ولقد رأيت أبا المعالي وقد رغب إليه الفقيه عبد الحق في الكلام عليها فاعتذر بأن الغلط فيها يصعب موقعه لأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم منها عظيم في الدين . وقد اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر الباقلاني وناهيك به في علم الأصول وأشار ابن الباقلاني إلى أنها من المعوصات لأن القوم لم يصرحوا بالتكفير ( 1 ) وإنما قالوا قولا يؤدي إلى ذلك
[ ص 368 ] وأنا أكشف لك نكتة الخلاف وسبب الإشكال وذلك أن المعتزلي مثلا إذا قال إن الله تعالى عالم ولكن لا علم له وحي ولا حياة له وقع الاشتباه في تكفيره لأنا علمنا من دين الأمة ضرورة أن من قال أن الله ليس بحي ولا عالم كان كافرا وقامت الحجة على استحالة كون العالم لا علم له فهل يقول إن المعتزلي إذا نفى العلم نفى أن يكون الله عالما أو يقول قد اعترف بأن الله تعالى عالم فلا يكون نفيه للعلم نفيا للعالم هذا موضوع الإشكال
قال : هذا كلام الماوردي ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه وجماهير العلماء أن الخوارج لا يكفرون . قال الشافعي : أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية وهم طائفة من الرافضة يشهدون لموافقيهم في المذهب بمجرد قولهم فرد شهادتهم لهذا لا لبدعتهم وسيأتي الكلام على الخوارج مبسوطا في كتاب الحدود
وقد استدل المصنف بالحديث على قبول توبة الزنديق فقال : وفيه دليل لمن يقبل توبة الزنديق انتهى . وقد تقدم الكلام على ذلك وما ذكره متوقف على أن مجرد قوله لرسول الله ( اتق الله ) زندقة وهو خلاف ما عرف به العلماء الزنديق
وقد ثبت في رواية أخرى في الصحيح أنه قال ( والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله ) والاستدلال بمثل هذا على ما زعمه المصنف أظهر
قال القاضي عياض : حكم الشرع أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم كفر وقتل ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قتل . قال المازري : يحتمل أن يكون لم يفهم منع الطعن في النبوة وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة ويحتمل أن يكون استدلال المصنف ناظرا إلى قوله في الحديث ( لعله يصلي ) وإلى قوله ( لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ) فإن ذلك يدل على قبول ظاهر التوبة وعصمة من يصلي فإذا كان الزنديق قد أظهر التوبة وفعل أفعال الإسلام كان معصوم الدم
_________
( 1 ) لعله بالكفر أو ما يوجب التكفير

4 - وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار : ( أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في مجلس يساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أليس يشهد أن لا إله إلا الله قال الأنصاري : بلى يا رسول الله ولا شهادة له قال : أليس يشهد أن محمدا رسول الله قال : بلى ولا شهادة له قال : أليس يصلي قال : بلى ولا صلاة له قال : أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم )
- رواه الشافعي وأحمد في مسنديهما

- الحديث أخرجه أيضا مالك في الموطأ وفيه دلالة على أن الواجب المعاملة للناس [ ص 369 ] بما يعرف من ظواهر أحوالهم من دون تفتيش وتنقيش فإن ذلك مما لم يتعبدنا الله به ولذلك قال : ( إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ) وقال لأسامة لما قال له إنما قال ما قال يا رسول الله تقية يعني الشهادة : ( هل شققت عن قلبه ) واعتباره صلى الله عليه و سلم لظواهر الأحوال كان ديدنا له وهجيرا في جميع أموره منها قوله صلى الله عليه و سلم لعمه العباس لما اعتذر له يوم بدر بأنه مكره فقال له : ( كان ظاهرك علينا ) وكذلك حديث : ( إنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه إنما أقطع له قطعة من نار ) وكذلك حديث : ( إنما نحكم بالظاهر ) وهو وإن لم يثبت من وجه معتبر فله شواهد متفق على صحتها ومن أعظم اعتبارات الظاهر ما كان منه صلى الله عليه و سلم مع المنافقين من التعاطي والمعاملة بما يقتضيه ظاهر الحال

باب حجة من كفر تارك الصلاة

1 - عن جابر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة )
- رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي

- الحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكرا لوجوبها إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة وإن كان تركه لها تكاسلا مع اعتقاده لوجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف الناس في ذلك فذهبت العترة والجماهير من السلف والخلف منهم مالك والشافعي إلى أنه لا يكفر بل يفسق فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف
وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي
وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي
احتج الأولون على عدم كفره بقول الله عز و جل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وبما سيأتي في الباب الذي بعد هذا من الأدلة
واحتجوا على قتله بقوله تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة [ ص 370 ] فخلوا سبيلهم } وبقوله صلى الله عليه و سلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) الحديث متفق عليه . وتأولوا قوله صلى الله عليه و سلم : ( بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ) وسائر أحاديث الباب على أنه مستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل أو أنه محمول على المستحل أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر أو على أن فعله فعل الكفار
واحتج أهل القول الثاني بأحاديث الباب
واحتج أهل القول الثالث على عدم الكفر بما احتج به أهل القول الأول وعلى عدم القتل بحديث : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) وليس فيه الصلاة
والحق أنه كافر يقتل أما كفره فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة فتركها مقتض لجواز الإطلاق ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون لأنا نقول لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرا فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها ( 1 ) وأما أنه يقتل فلأن حديث : ( أمرت أن أقاتل الناس ) يقضي بوجوب القتل لاستلزام المقاتلة له وكذلك سائر الأدلة المذكورة في الباب الأول ولا أوضح من دلالتها على المطلوب [ ص 371 ] وقد شرط الله في القرآن التخلية بالتوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقال { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } فلا يخلى من لم يقم الصلاة
وفي صحيح مسلم ( سيكون عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ عنقه ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فقالوا : ألا نقاتلهم قال : لا ما صلوا ) فجعل الصلاة هي المانعة من مقاتلة أمراء الجور . وكذلك قوله لخالد في الحديث السابق ( لعله يصلي ) فجعل المانع من القتل نفس الصلاة
وحديث ( لا يحل دم امرئ مسلم ) لا يعارض مفهومه المنطوقات الصحيحة الصريحة . والمراد بقوله في حديث الباب ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ) كما قال النووي إن الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة فإن تركها لم يبق بينه وبين الكفر حائل . وفي لفظ مسلم ( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة )
ومن الأحاديث الدالة على الكفر حديث الربيع بن أنس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا ) ذكره الحافظ في التلخيص وقال : سئل الدارقطني عنه فقال : رواه أبو النضر عن أبي جعفر عن الربيع موصولا وخالفه علي بن الجعد فرواه عن أبي جعفر عن الربيع مرسلا وهو أشبه بالصواب . وأخرجه البزار من حديث أبي الدرداء بدون قوله ( جهارا ) وأخرج ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي هريرة مرفوعا ( تارك الصلاة كافر ) واستنكره . ورواه أبو نعيم من حديث أبي سعيد وفيه عطية وإسماعيل بن يحيى وهما ضعيفان
قال العراقي : لم يصح من أحاديث الباب إلا حديث جابر المذكور . وحديث بريدة الذي سيأتي وأخرج ابن ماجه من حديث أبي الدرداء قال : ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تشرك بالله وإن قطعت وحرقت وأن لا تترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر ) قال الحافظ : وفي إسناده ضعف . ورواه الحاكم في المستدرك ورواه أحمد والبيهقي من طريق أخرى وفيه انقطاع
ورواه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت ومن حديث معاذ بن جبل وإسنادهما ضعيفان . وقال ابن الصلاح والنووي : إنه حديث منكر
واختلف القائلون بوجوب قتل تارك الصلاة فالجمهور أنه يضرب عنقه بالسيف وقيل يضرب بالخشب حتى يموت واختلفوا أيضا في وجوب الاستتابة فالهادوية توجبها وغيرهم لا يوجبها لأنه يقتل حدا ولا تسقط التوبة الحدود كالزاني والسارق وقيل إنه [ ص 372 ] يقتل لكفره فقد حكى جماعة الإجماع على كفره كالمرتد وهو الظاهر وقد أطال الكلام المحقق ابن القيم في ذلك كتابه في الصلاة والفرق بينه وبين الزاني واضح فإن هذا يقتل لتركه الصلاة في الماضي وإصراره على تركها في المستقبل والترك في الماضي يتدارك بقضاء ما تركه بخلاف الزاني فإنه يقتل بجناية تقدمت لا سبيل إلى تركها واختلفوا هل يجب القتل لترك صلاة واحدة أو أكثر فالجمهور أنه يقتل لترك صلاة واحدة والأحاديث قاضية بذلك والتقييد بالزيادة على الواحدة لا دليل عليه
قال أحمد بن حنبل : إذا دعي إلى الصلاة فامتنع وقال لا أصلي حتى خرج وقتها وجب قتله وهكذا حكم تارك ما يتوقف صحة الصلاة عليه من وضوء أو غسل أو استقبال قبلة أو ستر عورة وكل ما كان ركنا أو شرطا
_________
( 1 ) قال العلامة ابن رجب : وأما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام ثم ساق حديث جابر وبعض ما ذكر هنا ثم قال : وفي حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه و سلم : رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط ولا يثبت إلا به ثم قال : وقال عمر : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وقال سعد وعلي بن أبي طالب : من تركها فقد كفر وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر إلا الصلاة . وقال أبو أيوب السختياني : ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه ثم قال : وحكى إسحاق إجماع أهل العلم عليه وقال محمد بن نصر المروزي : هو قول جمهور أهل العلم من المحدثين اه من جامع العلوم والحكم
وقال المنذري في الترغيب والترهيب : من ترك الصلاة قال أبو محمد ابن حزء : وقد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم : أن من ترك صلاة فرض واحد متمعدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد لا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفا
قال الحافظ عبد العظيم : قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدا لتركها حتى يخرج جميع وقتها منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله ابن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء رضي الله عنهم ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وعبد الله ابن المبارك والنخعي والحكم بن عتيبة وأيوب الستختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر ابن أبي شيبة وزهير بن حرب وغيرهم رحمهم الله تعالى اه من الترغيب والترهيب والله أعلم

2 - وعن بريدة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر )
- رواه الخمسة

- الحديث صححه النسائي والعراقي ورواه ابن حبان والحاكم وهو يدل على أن تارك الصلاة يكفر لأن الترك الذي جعل الكفر معلقا به مطلق عن التقييد وهو يصدق بمرة لوجود ماهية الترك في ضمنها . والخلاف في المسألة والتصريح بما هو الحق فيها قد تقدم في الذي قبله

3 - وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة )
- رواه الترمذي

- الحديث رواه الحاكم وصححه على شرطهما وذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة لأن قوله كان أصحاب رسول الله جمع مضاف وهو من المشعرات بذلك

4 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال : ( من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط . وقال في مجمع الزوائد : رجال أحمد ثقات وفيه أنه لا انتفاع للمصلي بصلاته إلا إذا كان محافظا عليها لأنه إذا [ ص 373 ] انتفى كونها نورا وبرهانا ونجاة مع عدم المحافظة انتفى نفعها
وقوله ( وكان يوم القيامة مع قارون ) الخ يدل على أن تركها كفر متبالغ لأن هؤلاء المذكورين هم أشد أهل النار عذابا وعلى تخليد تاركها في النار كتخليد من جعل معهم في العذاب فيكون هذا الحديث مع صلاحيته للاحتجاج مخصصا لأحاديث خروج الموحدين وقد ورد من هذا الجنس شيء كثير في السنة ويمكن أن يقال مجرد المعية والمصاحبة لا يدل على الاستمرار والتأييد لصدق المعنى اللغوي بلبثه معهم مدة لكن لا يخفى أن مقام المبالغة يأبى ذلك وسيأتي في الباب الثاني ما يعارضه

باب حجة من لم يكفر تارك الصلاة ولم يقطع عليه بخلود في النار ورجا له ما يرجى لأهل الكبائر

1 - عن ابن محيريز : ( أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يدعى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب قال المخدجي : فرحت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته فقال عبادة : كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وقال فيه : ( ومن جاء بهن قد انتقص منهن شيئا استخفافا بحقهن )

- الحديث أخرجه أيضا مالك في الموطأ وابن حبان وابن السكن . قال ابن عبد البر : هو صحيح ثابت لم يختلف عن مالك فيه ثم قال : والمخدجي مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث
قال الشيخ تقي الدين القشيري : انظر إلى تصحيحه لحديثه مع حكمه بأنه مجهول وقد ذكره ابن حبان في الثقات ولحديثه شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجه ومن حديث كعب بن عجرة عند أحمد
ورواه أبو داود الصنابحي قال : زعم أبو محمد أن الوتر واجب فقال عبادة بن الصامت وساق الحديث . والمخدجي المذكور في هذا الإسناد هو بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة ثم جيم بعدها ياء النسب [ ص 374 ] قيل اسمه رفيع
وأبو محمد المذكور هو مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن عثمان بن مالك بن النجار وقيل مسعود بن زيد بن سبيع يعد في الشاميين وقد عده الواقدي وطائفة من البدريين ولم يذكره ابن إسحاق فيهم وذكره جماعة في الصحابة
وقول عبادة كذب أبو محمد أي أخطأ ولا يجوز أن يراد به حقيقة الكذب لأنه في الفتوى ولا يقال لمن أخطأ في فتواه كذب . وأيضا قد ورد في الحديث ما يشهد لما قاله كحديث ( الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ) عند أبي داود من حديث بريدة وغيره من الأحاديث وسيأتي بسط الكلام على ذلك في باب أن الوتر سنة مؤكدة إن شاء الله تعالى
والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على عدم كفر من ترك الصلاة وعدم استحقاقه للخلود في النار لقوله ( إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ) وقد عرفناك في الباب الأول أن الكفر أنواع منها ما لا ينافي المغفرة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرا وهو يدل على عدم استحقاق كل تارك للصلاة للتخليد في النار
قوله ( استخفافا بحقهن ) هو قيد للمنفي لا للنفي
قوله ( كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ) فيه متمسك للمرجئة القائلين بأن الذنوب لا تضر من حافظ على الصلوات المكتوبة وهو مقيد بعدم المانع كأحاديث ( من قال لا إله إلا الله ) ونحوها لورود النصوص الصريحة كتابا وسنة بذكر ذنوب موجبة للعذاب كدم المسلم وماله وعرضه وغير ذلك مما يكثر تعداده

2 - وعن أبي هريرة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك )
- رواه الخمسة

- الحديث أخرجه أبو داود من ثلاث طرق طريقتين متصلتين بأبي هريرة والطريق الثالثة بتميم الداري وكلها لا مطعن فيها ولم يتكلم عليه هو ولا المنذري بما يوجب ضعفه وأخرجه النسائي من طريق إسنادها جيد ورجالها رجال الصحيح كما قال العراقي وصححها ابن القطان . وأخرج الحديث الحاكم في المستدرك وقال : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وفي الباب عن تميم الداري عند أبي داود وابن ماجه بنحو حديث أبي هريرة قال العراقي : وإسناده صحيح وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : إسناده صحيح على شرط مسلم . وعن أنس عند الطبراني في الأوسط . وعن أبي سعيد قال العراقي : رويناه في الطبوريات في [ ص 375 ] انتخاب السلفي منها وفي إسناده حصين بن مخارق نسبه الدارقطني إلى الوضع وعن صحابي لم يسم عند أحمد في المسند
والحديث يدل على أن ما لحق الفرائض من النقص كملته النوافل . وأورده المصنف في حجج من قال بعدم الكفر لأن نقصان الفرائض أعم من أن يكون نقصا في الذات وهو ترك بعضها أو في الصفة وهو عدم استيفاء أذكارها أو أركانها وجبرانها بالنوافل مشعر بأنها مقبولة مثاب عليها والكفر ينافي ذلك
وقد عرفت الكلام على ذلك فيما سلف ثم أورد من الأدلة ما يعتضد به قول من لم يكفر تارك الصلاة وعقبه بتأويل لفظ الكفر الواقع في الأحاديث فقال :

3 - ويعضد هذا المذهب عمومات : منها ما روي عن عبادة بن الصامت قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل )
- متفق عليه

4 - وعن أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ومعاذ رديفه على الرحل : يا معاذ قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا ثم قال : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال : يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا قال : إذن يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي خوفا من الإثم بترك الخبر به )
- متفق عليه

5 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا )
- رواه مسلم

6 - وعنه أيضا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه )
- رواه البخاري . وقد حملوا أحاديث التكفير على كفر النعمة أو على معنى قد قارب الكفر وقد جاءت أحاديث في غير الصلاة أريد بها ذلك

7 - فروى ابن مسعود قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )
- متفق عليه

8 - وعن أبي ذر أنه : ( سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار )
- متفق عليه

9 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت )
- رواه أحمد ومسلم

10 - [ ص 376 ] وعن ابن عمر قال : ( كان عمر يحلف وأبي فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : من حلف بشيء دون الله فقد أشرك )
- رواه أحمد

11 - وعن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن )
- رواه أحمد . انتهى كلام المصنف

- وأقول قد أطبق أئمة المسلمين من السلف والخلف والأشعرية والمعتزلة وغيرهم أن الأحاديث الواردة بأن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة مقيدة بعدم الإخلال بما أوجب الله من سائر الفرائض وعدم فعل كبيرة من الكبائر التي لم يتب فاعلها عنها وأن مجرد الشهادة لا يكون موجبا لدخول الجنة فلا يكون حجة على المطلوب ولكنهم اختلفوا في خلود من أخل بشيء من الواجبات أو قارف شيئا من المحرمات في النار مع تكلمه بكلمة الشهادة وعدم التوبة عن ذلك فالمعتزلة جزموا بالخلود والأشعرية قالوا يعذب في النار ثم ينقل إلى الجنة
وكذلك اختلفوا في دخوله تحت المشيئة فالأشعرية وغيرهم قالوا بدخوله تحتها والمعتزلة منعت من ذلك وقالوا لا يجوز على الله المغفرة لفاعل الكبيرة مع عدم التوبة عنها
وهذه المسائل محلها علم الكلام وإنما ذكرنا هذا للتعريف بإجماع المسلمين على أن هذه الأحاديث مقيدة بعدم المانع ولهذا أولها السلف فحكي عن جماعة منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي ورد بأن راوي بعض هذه الأحاديث أبو هريرة وهو متأخر الإسلام أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق وكانت إذ ذاك أحكام الشريعة مستقرة من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها
وحكى النووي عن بعضهم أنه قال : هي مجملة تحتاج إلى شرح ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها قال : وهذا قول الحسن البصري
وقال البخاري : إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك ذكره في كتاب اللباس . وذكر الشيخ أبو عمر بن الصلاح أنه يجوز أن يكون ذلك أعني الاقتصار على كلمة الشهادة في سببية دخول الجنة اقتصارا من بعض الرواة لا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل مجيئه تاما في رواية غيره ويجوز أن يكون اختصارا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما خاطب به الكفار عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم بالله تعالى مصحوبا بسائر ما يتوقف عليه الإسلام ومستلزما له والكافر إذا كان لا يقر بالوحدانية كالوثني والثنوي وقال لا إله إلا الله وحاله الحال التي حكيناها حكم بإسلامه
قال النووي : ويمكن الجمع بين الأدلة بأن يقال [ ص 377 ] المراد باستحقاقه الجنة أنه لا بد من دخولها لكل موحد إما معجلا معافى وإما مؤخرا بعد عقابه والمراد بتحريم النار تحريم الخلود
وحكي ذلك عن القاضي عياض وقال : إنه في نهاية الحسن ولا بد من المصير إلى التأويل لما ورد في نصوص الكتاب والسنة بذكر كثير من الواجبات الشرعية والتصريح بأن تركها موجب للنار . وكذلك ورود النصوص بذكر كثير من المحرمات وتوعد فاعلها بالنار
وأما الأحاديث التي أوردها المصنف في تأييد ما ذكره من التأويل فالنزاع في إطلاق الكفر على تارك الصلاة وقد عرفناك أن سبب الوقوع في مضيق التأويل توهم الملازمة بين الكفر وعدم المغفرة وليست بكلية كما عرفت وانتفاء كليتها يريحك من تأويل ما ورد في كثير من الأحاديث . منها ما ذكره المصنف . ومنها ما ثبت في الصحيح بلفظ : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) وحديث ( أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم ) وحديث ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ) وحديث ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها ) وكل هذه الأحاديث في الصحيح . وقد ورد من هذا الجنس أشياء كثيرة ونقول من سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كافرا سميناه كافرا ولا نزيد على هذا المقدار ولا نتأول بشيء منها لعدم الملجئ إلى ذلك

باب أمر الصبي بالصلاة تمرينا لا وجوبا

1 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مروا صبيانكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه الحاكم من حديثه أيضا والترمذي والدارقطني من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده بنحوه ولم يذكر التفرقة
وفي الباب عن أبي رافع عند البزار بلفظ قال : ( وجدنا في صحيفة في قراب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فيها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم وفرقوا بين الغلمان والجواري والأخوة والأخوات لسبع سنين واضربوا أبناءكم على الصلاة إذا بلغوا [ ص 378 ] أظنه تسع سنين )
وعن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني أنه قال لامرأته وفي رواية لامرأة : ( متى يصلي الصبي فقالت : كان رجل منا يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة ) أخرجه أبو داود . قال ابن القطان : لا نعرف هذه المرأة ولا الرجل الذي روت عنه . وقد رواه الطبراني من هذا الوجه فقال : عن أبي معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه به قال ابن صاعد : إسناده حسن غريب
وفي الباب عن أبي هريرة رواه العقيلي وأنس عند الطبراني بلفظ : ( مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لثلاث عشرة ) وفي إسناده داود بن المحبر وهو متروك وقد تفرد به
والحديث يدل على وجوب أمر الصبيان بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين وضربهم عليها إذا بلغوا عشرا والتفريق بينهم في المضاجع لعشر سنين إذا جعل التفريق معطوفا على قوله واضربوهم أو لسبع سنين إذا جعل معطوفا على قوله مروهم . ويؤيد هذا الوجه حديث أبي رافع المذكور
وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب إجبار ابن العشر على الولي وشرط الصلاة الذي لا تتم إلا به حكمه حكمها ولا فرق بين الذكر والأنثى والزوجة وغيرها
وقال في الوافي والمؤيد بالله في أحد قوليه : إن ذلك مستحب فقط وحملوا الأمر على الندب ولكنه إن صح ذلك في قوله مروهم لم يصح في قوله واضربوهم لأن الضرب إيلام للغير وهو لا يباح للأمر المندوب والاعتراض بأن عدم تكليف الصبي يمنع من حمل الأمر على حقيقته لأن الإخبار إنما يكون على فعل واجب أو ترك محرم وليست الصلاة بواجبة على الصبي ولا تركها محظور عليه مدفوع بأن ذلك إنما يلزم لو اتحد المحل وهو هنا مختلف فإن محل الوجوب الولي ومحل عدمه ابن العشر ولا يلزم من عدم الوجوب على الصغير عدمه على الولي

2 - وعن عائشة رضي الله عنها : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل )
- رواه أحمد ومثله من رواية علي له ولأبي داود والترمذي وقال : حديث حسن

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عائشة . قال يحيى بن معين : ليس يرويه إلا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان يعني عن إبراهيم عن الأسود عنها . وأخرجه أيضا النسائي والدارقطني والحاكم وابن حبان وابن خزيمة من حديث علي عليه السلام . قال البيهقي : تفرد برفعه جرير بن حازم قال الدارقطني في العلل : وتفرد به عن جرير عبد الله بن وهب وخالفه ابن [ ص 379 ] فضيل ووكيع فروياه عن الأعمش موقوفا ورواه عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي عليه السلام وعمر مرفوعا . قال الحافظ : وقول ابن فضيل ووكيع أشبه بالصواب
ورواه أبو داود من حديث أبي الضحى عن علي عليه السلام ولكن قال أبو زرعة : حديثه عن علي مرسل
ورواه ابن ماجه من حديث القاسم بن يزيد عن علي عليه السلام وهو مرسل أيضا كما قال أبو زرعة . ورواه الترمذي من حديث الحسن البصري عن علي قال أبو زرعة : لم يسمع الحسن من علي شيئا . وروى الطبراني من طريق برد بن سنان عن مكحول عن أبي إدريس الخولاني قال : أخبرني غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثوبان ومالك بن شداد وغيرهما فذكر نحوه . قال الحافظ : وفي إسناده مقال وبرد مختلف فيه . وروى أيضا من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : وإسناده ضعيف
والحديث يدل على عدم تكليف الصبي والمجنون والنائم ما داموا متصفين بتلك الأوصاف . قال ابن حجر في التلخيص حاكيا عن ابن حبان : إن الرفع مجاز عن عدم التكليف لأنه يكتب له فعل الخير انتهى . وهذا في الصبي ظاهر وأما في المجنون فلا تتصف أفعاله بخير ولا شر إذ لا قصد له والموجود منه من صور الأفعال لا حكم له شرعا وأما في النائم ففيه بعد لأن قصده منتف أيضا فلا حكم لما صدر منه من الأفعال حال نومه . وللناس كلام في تكليف الصبي بجميع الأحكام أو ببعضها ليس هذا محل بسطه وكذلك النائم

باب أن الكافر إذا أسلم لم يقض الصلاة

1 - عن عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الإسلام يجب ما قبله )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أيضا الطبراني والبيهقي من حديثه وابن سعد من حديث جبير بن مطعم : وأخرج مسلم في صحيحه معناه من حديث عمر وأيضا بلفظ : ( أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله ) وفي صحيح مسلم أيضا من حديث عبد الله بن مسعود قال : ( قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أوخذ بالأول [ ص 380 ] والآخر ) فهذا مقيد والحديث الأول مطلق وحمل المطلق على المقيد واجب فهدم الإسلام ما كان قبله مشروط بالإحسان
قوله ( يجب ما قبله ) أي يقطعه والمراد أنه يذهب أثر المعاصي التي قارفها حال كفره وأما الطاعات التي أسلفها قبل إسلامه فلا يجبها لحديث حكيم بن حزام عند مسلم وغيره : ( أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أرأيت أمورا كنت أثخنت بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أسلمت على ما أسلفت من خير )
وقد قال المازري : إنه لا يصح تقرب الكافر فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه حال شركه لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بمن تقرب إليه والكافر ليس كذلك وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال
قال في الفتح : واستضعف ذلك النووي فقال : الصواب الذي عليه المحققون بل نقل بعضهم الإجماع فيه أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له

أبواب المواقيت

- المواقيت جمع ميقات وهو القدر المحدود للفعل من الزمان والمكان

باب وقت الظهر

1 - عن جابر بن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءه جبريل عليه السلام فقال له : قم فصله فصلى الظهر حين زالت الشمس ثم جاءه العصر فقال : قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله ثم جاءه المغرب فقال : قم فصله فصلى المغرب حين وجبت الشمس ثم جاءه العشاء فقال : قم فصله فصلى العشاء حين غاب الشفق ثم جاءه الفجر فقال : قم فصله فصلى الفجر حين برق الفجر أو قال سطع الفجر ثم جاءه من الغد للظهر فقال : قم فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله ثم جاءه العصر فقال : قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل فصلى العشاء ثم جاء حين أسفر جدا فقال : قم فصله فصلى الفجر ثم قال : ما بين هذين الوقتين وقت )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي بنحوه . [ ص 381 ] وقال البخاري : هو أصح شيء في المواقيت

2 - وللترمذي عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين ) فذكر نحو حديث جابر إلا أنه قال فيه : ( وصلى المرة الثانية حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس ) وقال فيه : ( ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل ) وفيه : ( ثم قال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين )
- قال الترمذي : هذا حديث حسن

- أما حديث جابر فأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وروى الترمذي في سننه عن البخاري أنه أصح شيء في الباب كما قال المصنف رحمه الله
وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم وفي إسناده ثلاثة مختلف فيهم أولهم عبد الرحمن بن أبي الزناد كان ابن مهدي لا يحدث عنه . وقال أحمد : مضطرب الحديث وقال النسائي : ضعيف وقال يحيى بن معين وأبو حاتم : لا يحتج به وقال الشافعي : ضعيف وما حدث بالمدينة أصح مما حدث ببغداد وقال ابن عدي : بعض ما يرويه لا يتابع عليه وقد وثقه مالك واستشهد البخاري بحديثه عن موسى بن عقبة في باب التطوع بعد المكتوبة وفي حديث ( لا تمنوا لقاء العدو )
والثاني شيخه عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش ابن أبي ربيعة قال أحمد : متروك الحديث . وقال ابن نمير : لا أقدم على ترك حديثه وقال فيه ابن معين : صالح وقال أبو حاتم : شيخ وقال ابن سعد : ثقة وقال ابن حبان : كان من أهل العلم ولكنه قد توبع في هذا الحديث فأخرجه عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس بنحوه . قال ابن دقيق العيد : هي متابعة حسنة
والثالث حكيم بن حكيم وهو ابن عباد بن حنيف قال ابن سعد : كان قليل الحديث ولا يحتجون بحديثه
وحديث ابن عباس هذا قد صححه ابن عبد البر وأبو بكر ابن العربي قال ابن عبد البر : إن الكلام في إسناده لا وجه له وأخرجه من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش فسلمت طريقه من التضعيف بعبد الرحمن بن أبي الزناد . وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود وابن خزيمة قال أبو عمر : وذكره عبد الرزاق عن عمر بن نافع وابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن الحارث بإسناده وذكره أيضا عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس
وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي والنسائي بإسناد حسن [ ص 382 ] وصححه ابن السكن والحاكم وحسنه الترمذي ولكن فيه : ( إن للمغرب وقتين ) ونقل عن البخاري أنه خطأ . ورواه الحاكم من طريق أخرى وقال : صحيح الإسناد . وعن بريدة عند الترمذي أيضا وصححه . وعن أبي موسى عند مسلم وأبي داود والنسائي وأبي عوانة وأبي نعيم قال الترمذي في كتاب العلل : إنه حسنه البخاري . وعن أبي مسعود عند مالك في الموطأ وإسحاق بن راهويه والبيهقي في الدلائل وأصله في الصحيحين من غير تفصيل وفصله أبو داود . وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد في مسنده والطحاوي وعن عمرو بن حزم رواه إسحاق بن راهويه
وعن البراء ذكره ابن أبي خيثمة . وعن أنس عند الدارقطني وابن السكن في صحيحه والإسماعيلي في معجمه وأشار إليه الترمذي ورواه عنه النسائي بنحوه وأبو أحمد الحاكم في الكنى . وعن ابن عمر عند الدارقطني قال الحافظ : بإسناد حسن لكن فيه عنعنة ابن إسحاق . ورواه ابن حبان في الضعفاء من طريق أخرى فيها محبوب بن الجهم وهو ضعيف . وعن مجمع بن جارية عند الحاكم
قوله في الحديث ( قم فصله ) الهاء هاء السكت
قوله ( حين وجبت الشمس ) الوجوب السقوط والمراد سقوطها للغروب
وقوله ( زالت الشمس ) أي مالت إلى جهة الغرب
وقوله ( حين صار كل شيء مثله ) الظل الستر ومنه قولهم أنا في ظلك وظل الليل سواده لأنه يستر كل شيء وظل الشمس ما ستر به الشخوص من مسقطها
قال ابن عبد البر : وكانت إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الذي يلي ليلة الإسراء وأول صلاة أديت كذلك الظهر على المشهور قيل الصحيح كما ثبت من حديث ابن عباس عند الدارقطني
قال الحافظ : والصحيح خلافه وذكر ابن أبي خيثمة عن الحسن أنه ذكر له أنه لما كان عند صلاة الظهر نودي أن الصلاة جامعة ففزع الناس فاجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم الظهر أربع ركعات يؤم جبريل محمد أو يؤم محمد الناس لا يسمعهم فيهن قراءة
وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال نافع بن جبير وغيره : لما أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليلة التي أسري به فيها لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس ولذلك سميت الأولى فأمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى جبريل بالنبي وصلى النبي بالناس وطول الركعتين الأوليتين ثم قصر الباقيتين
وسيأتي للمصنف وغيره في شرح حديث أبي موسى أن صلاة جبريل كانت بمكة مقتصرين على ذلك
قال الحربي : إن الصلاة قبل الإسراء [ ص 383 ] كانت صلاة قبل الغروب وصلاة قبل طلوع الشمس . وقال أبو عمر : قال جماعة من أهل العلم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن عليه صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أمر به من صلاة الليل على نحو قيام رمضان من غير توقيت ولا تحديد ركعات معلومات ولا لوقت محصور . وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وقامه معه المسلمون نحوا من حول حتى شق عليهم ذلك فأنزل الله التوبة عنهم والتخفيف في ذلك ونسخه وحطه فضلا منه ورحمة فلم يبق في الصلاة فريضة إلا الخمس
والحديث يدل على أن للصلوات وقتين وقتين إلا المغرب وسيأتي الكلام على ذلك . وعلى أن الصلاة لها أوقات مخصوصة لا تجزئ قبلها بالإجماع وعلى أن ابتداء وقت الظهر الزوال ولا خلاف في ذلك يعتد به وآخره مصير ظل الشيء مثله . واختلف العلماء هل يخرج وقت الظهر بمصير ظل الشيء مثله أم لا فذهب الهادي ومالك وطائفة من العلماء أنه يدخل وقت العصر ولا يخرج وقت الظهر وقالوا يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالحا للظهر والعصر أداء
قال النووي في شرح مسلم : واحتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم ( فصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله وصلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله ) وظاهره اشتراكهما في قدر أربع ركعات قال : وذهب الشافعي والأكثرون إلى أنه لا اشتراك بين وقت الظهر ووقت العصر بل متى خرج وقت الظهر بمصير ظل كل شيء مثله غير الظل الذي يكون عند الزوال دخل وقت العصر وإذا دخل وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر . واحتجوا بحديث ابن عمرو بن العاص عند مسلم مرفوعا بلفظ : ( وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر ) الحديث قال : وأجابوا عن حديث جبريل بأن معناه فرغ من الظهر حين صار ظل كل شيء مثله وشرع في العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله فلا اشتراك بينهما قال : وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث ولأنه إذا حمل على الاشتراك يكون آخر وقت الظهر مجهولا لأنه إذا ابتدأ بها حين صار ظل كل شيء مثله لم يعلم متى فرغ منها وحينئذ لا يحصل بيان حدود الأوقات وإذا حمل على ذلك التأويل حصل معرفة آخر الوقت فانتظمت الأحاديث على اتفاق . ويؤيد هذا أن إثبات ما عدا الأوقات الخمسة دعوى مفتقرة إلى دليل خالص عن شوائب المعارضة فالتوقف على المتيقن هو الواجب حتى يقوم ما يلجئ [ ص 384 ] إلى المصير إلى الزيادة عليها
وفي الحديث أيضا ذكر بقية أوقات الصلوات وسيعقد المصنف لكل واحد منها بابا وسنتكلم على كل واحد منها في بابه إن شاء الله تعالى

باب تعجيلها وتأخيرها في شدة الحر

1 - عن جابر بن سمرة قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه وأبو داود

- وفي الباب أيضا عن أنس عند البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وقال : صحيح وعن خباب عند الشيخين وعن أبي بزرة عندهما أيضا . وعن ابن مسعود عند ابن ماجه وفيه زيد بن جبيرة قال أبو حاتم : ضعيف وقال البخاري : منكر الحديث . وعن زيد بن ثابت أشار إليه الترمذي . وعن أم سلمة عند الترمذي أيضا
قوله ( دحضت الشمس ) هو بفتح الدال والحاء المهملتين وبعدها ضاد معجمة أي زالت
والحديث يدل على استحباب تقديمها وإليه ذهب الهادي والقاسم والشافعي والجمهور للأحاديث الواردة في أفضلية أول الوقت وقد خصه الجمهور بما عدا أيام شدة الحر وقالوا يستحب الإبراد فيها إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج وسيأتي تحقيق ذلك

2 - وعن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الظهر في أيام الشتاء وما ندري أما ذهب من النهار أكثر أو ما بقي منه )
- رواه أحمد

3 - وعن أنس بن مالك قال : ( كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل )
- رواه النسائي . وللبخاري نحوه

4 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم )
- رواه الجماعة

- حديث أنس الأول أخرجه أيضا عبد الرزاق وفي الباب عن ابن عمر عند البخاري وابن ماجه وعن أبي موسى عند النسائي وعن عائشة عند ابن خزيمة وعن المغيرة عند أحمد وابن ماجه وابن حبان وفي رواية للخلال ( وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإبراد ) وعن أبي سعيد عند البخاري وعن عمرو بن عبسة عند الطبراني وعن صفوان عند ابن أبي شيبة والحاكم والبغوي وعن ابن عباس عند البزار وفيه عمرو بن صهبان وهو ضعيف وعن عبد الرحمن بن جارية [ ص 385 ] عند الطبراني وعن عبد الرحمن بن علقمة عند أبي نعيم
قوله ( فأبردوا بالصلاة ) أي أخروها عن ذلك الوقت وادخلوا بها في وقت الإبراد وهو الزمان الذي يتبين فيه انكسار شدة الحر ويوجد فيه برودة جهنم يقال أبرد الرجل أي صار في برد النهار . وفيح جهنم شدة حرها وشدة غليانها . قال القاضي عياض : اختلف العلماء في معناه فقال بعضهم هو على ظاهره وقيل بل هو على وجه التشبيه والاستعارة وتقديره أن شدة الحر تشبه نار جهنم فاحذروه واجتنبوا ضرره قال : والأول أظهر . وقال النووي : هو الصواب لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته فوجب الحكم بأنه على ظاهره انتهى
ويدل عليه حديث ( أن النار اشتكت إلى ربها فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ) وهو في الصحيح وحديث ( إن لجهنم نفسين ) وهو كذلك
والأحاديث تدل على مشروعية الإبراد والأمر محمول على الاستحباب وقيل على الوجوب حكى ذلك القاضي عياض وهو المعنى الحقيقي له . وذهب إلى الأول جماهير العلماء لكنهم خصوا ذلك بأيام شدة الحر كما يشعر بذلك التعليل بقوله ( فإن شدة الحر من فيح جهنم ) ولحديث أنس المذكور في الباب
وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين الجماعة والمنفرد . وقال أكثر المالكية : الأفضل للمنفرد التعجيل والحق عدم الفرق لأن التأذي بالحر الذي يتسبب عنه ذهاب الخشوع يستوي فيه المنفرد وغيره . وخصه الشافعي بالبلد الحار وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون المسجد من مكان بعيد لا إذا كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في ظل فالأفضل التعجيل
وظاهر الأحاديث عدم الفرق وقد ذهب إلى الأخذ بهذا الظاهر أحمد وإسحاق والكوفيون وابن المنذر ولكن التعليل بقوله ( فإن شدة الحر ) يدل على ما ذكره من التقييد بالبلد الحار
وذهب الهادي والقاسم وغيرهما إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا وتمسكوا بحديث جابر بن سمرة المذكور في أول الباب وسائر الروايات المذكورة هنالك وبأحاديث أفضلية أول الوقت على العموم كحديث أبي ذر عند البخاري ومسلم وغيرهما قال : ( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أي العمل أحب إلى الله قال : الصلاة على وقتها ) وبحديث خباب عند مسلم قال : ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا أي لم يعذرنا ولم يزل شكوانا ) وزاد ابن المنذر والبيهقي : ( وقال : إذا زالت الشمس فصلوا ) وتأولوا حديث الإبراد بأن معناه صلوا أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله وهو تعسف يرده [ ص 386 ] قوله ( فإن شدة الحر من فيح جهنم ) وقوله ( فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ) ويجاب عن ذلك بأن الأحاديث الواردة بتعجيل الظهر وأفضلية أول الوقت عامة أو مطلقة وحديث الإبراد خاص أو مقيد ولا تعارض بين عام وخاص ولا بين مطلق ومقيد . وأجيب عن حديث خباب بأنه كما قال الأثرم والطحاوي : منسوخ قال الطحاوي : ويدل عليه حديث المغيرة ( كنا نصلي بالهاجرة فقال لنا أبردوا ) فبين أن الإبراد كان بعد التهجير وقال آخرون : إن حديث خباب محمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا على قدر الإبراد لأن الإبراد أن يؤخر بحيث يصير للحيطان فيء يمشون فيه ويتناقص الحر
وحمل بعضهم حديث الإبراد على ما إذا صار الظل فيئا وحديث خباب على ما إذا كان الحصى لم يبرد لأنه لا يبرد حتى تصفر الشمس فلذلك رخص في الإبراد ولم يرخص في التأخير إلى خروج الوقت وعلى فرض عدم إمكان الجمع فرواية الخلال السابقة عن المغيرة بلفظ : ( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإبراد ) وقد صحح أبو حاتم وأحمد حديث المغيرة وعده البخاري محفوظا من أعظم الأدلة الدالة على النسخ كما قاله من قدمنا ولو نسلم جهل التاريخ وعدم معرفة المتأخر لكانت أحاديث الإبراد أرجح لأنها في الصحيحين بل في جميع الأمهات بطرق متعددة وحديث خباب في مسلم فقط ولا شك أن المتفق عليه مقدم وكذا ما جاء من طرق

5 - وعن أبي ذر قال : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أبرد ثم أراد أن يؤذن فقال له : أبرد حتى رأينا فيء التلول فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة )
- متفق عليه

- قوله ( فيء التلول ) قال ابن سيده : الفيء ما كان شمسا فنسخه الظل والجمع أفياء وفيوء وفاء الفيء فيئا تحول وتفيأ فيه تظلل . قال ابن قتيبة : يتوهم الناس أن الظل والفيء بمعنى وليس كذلك بل الظل يكون غدوة وعشية ومن أول النهار إلى آخره وأما الفيء فلا يكون إلا بعد الزوال ولا يقال لما قبل الزوال وإنما قيل لما بعد الزوال فيء لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب أي رجع والفيء الرجوع ونسبه النووي في شرح مسلم إلى أهل اللغة
( والتلول ) جمع تل وهو الربوة من التراب المجتمع والمراد أنه أخر تأخيرا كثيرا حتى صار للتلول فيء وهي منبطحة لا يصير لها فيء في العادة إلا بعد زوال الشمس بكثير
الحديث يدل [ ص 387 ] على مشروعية الإبراد وقد تقدم الكلام عليه مستوفى . قال المصنف رحمه الله : وفيه دليل على أن الإبراد أولى وإن لم ينتابوا المسجد من بعد لأنه أمر به مع اجتماعهم معه انتهى . أشار رحمه الله بهذا إلى رد ما قاله الشافعي وقد قدمنا حكاية ذلك عنه

باب أول وقت العصر وآخره في الاختيار والضرورة

- قد سبق في حديث ابن عباس وجابر في باب وقت الظهر

1 - وعن عبد الله بن عمرو قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود . وفي رواية لمسلم : ( ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول ) وفيه : ( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول )

- قوله ( ثور الشفق ) هو بالثاء المثلثة أي ثورانه وانتشاره ومعظمه . وفي القاموس إنه حمرة الشفق الثائرة فيه
قوله ( قرن الشمس ) هو ناحيتها أو أعلاها أو أول شعاعها قاله في القاموس
وقوله ( ويسقط قرنها الأول ) المراد به الناحية كما قاله النووي
والحديث فيه ذكر أوقات الصلوات الخمس وقد تقدم الكلام في الظهر وسيأتي الكلام على وقت المغرب والعشاء والفجر كل في بابه
وأما وقت العصر فالحديث يدل على امتداد وقته إلى اصفرار الشمس كما في الرواية الأولى من حديث الباب إلى سقوط قرنها أي غروبه كما في الرواية الثانية منه
وحديث ( من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ) يدل على أن إدراك بعضها في الوقت مجزئ وإلى هذا ذهب الجمهور وقال أبو حنيفة : آخره الاصفرار وقال الاصطخري : آخره المثلان وبعدها قضاء . والأحاديث ترد عليهم ولكنه استدل الاصطخري بحديث جبريل السابق وفيه أنه ( صلى العصر اليوم الأول عند مصير ظل الشيء مثله واليوم الثاني عند مصير ظل الشيء مثليه ) وقال بعد ذلك : ( الوقت ما بين هذين الوقتين )
وقد أجيب عن ذلك بحمل حديث جبريل على بيان وقت الاختيار لا لاستيعاب وقت الاضطرار والجواز وهذا الحمل لا بد منه للجمع بين الأحاديث وهو أولى من قول من قال إن هذه الأحاديث ناسخة لحديث [ ص 388 ] جبريل لأن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع وكذلك لا يصار إلى ترجيح . ويؤيد هذا الجمع حديث ( تلك صلاة المنافق ) وسيأتي بعد هذا الحديث فمن كان معذورا كان الوقت في حقه ممتدا إلى الغروب ومن كان غير معذور كان الوقت له إلى المثلين وما دامت الشمس بيضاء نقية فإن آخرها إلى الاصفرار وما بعده كانت صلاته صلاة المنافق المذكورة في الحديث . وأما أول وقت العصر فذهب العترة والجمهور إنه مصير ظل الشيء مثله لما تقدم في حديث جبريل وقال الشافعي : الزيادة على المثل وقال أبو حنيفة : المثلان وهو فاسد ترده الأحاديث الصحيحة
قال النووي في شرح مسلم : قال أصحابنا للعصر خمسة أوقات وقت فضيلة واختيار وجواز بلا كراهة وجواز مع كراهة ووقت عذر : فأما وقت الفضيلة فأول وقتها . ووقت الاختيار يمتد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه . ووقت الجواز إلى الاصفرار . ووقت الجواز مع الكراهة حال الاصفرار إلى الغروب . ووقت العذر وهو وقت الظهر في حق من يجمع بين العصر والظهر لسفر أو مطر . ويكون العصر في هذه الأوقات الخمسة أداء فإذا فاتت كلها بغروب الشمس صارت قضاء انتهى
قال المصنف رحمه الله : وفيه دليل على أن للمغرب وقتين وأن الشفق الحمرة وأن وقت الظهر يعاقبه وقت العصر وأن تأخير العشاء إلى نصف الليل جائز انتهى قوله وفيه دليل على أن للمغرب وقتين استدل على ذلك بقوله في الحديث ( ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ) قال النووي في شرح مسلم : وذهب المحققون من أصحابنا إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها ما لم يغب الشفق وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك ولا يأثم بتأخيرها عن أول الوقت وهذا هو الصحيح أو الصواب الذي لا يجوز غيره
والجواب عن حديث جبريل حين صلى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه :
أحدها أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر . والثاني أنه متقدم في أول الأمر بمكة وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في آخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها . والثالث أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها انتهى
وقوله ( وأن الشفق الحمرة ) قد أخرج ابن عساكر في غرائب مالك والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : ( الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة ) ولكنه صحح البيهقي وقفه وقد ذكر نحوه الحاكم وسيذكره [ ص 389 ] المصنف في باب وقت صلاة العشاء
وقوله ( وأن تأخير العشاء إلى نصف الليل ) الخ سيأتي تحقيق ذلك في باب وقت صلاة العشاء

2 - وعن أنس قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه

- الحديث رواه أبو داود بتكرير قوله تلك صلاة المنافق
قوله ( بين قرني الشيطان ) اختلفوا فيه فقيل هو على حقيقته وظاهر لفظه والمراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها وكذلك عند طلوعها لأن الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له وتخيل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له . وقيل هو على المجاز والمراد بقرنه وقرنيه علوه وارتفاعه وسلطانه وغلبة أعوانه وسجود مطيعيه من الكفار للشمس قاله النووي . وقال الخطابي : هو تمثيل ومعناه أن تأخيرها بتزيين الشيطان ومدافعته لهم عن تعجيلها كمدافعة ذوات القرون لما تدفعه
قوله ( فنقرها ) المراد بالنقر سرعة الحركات كنقر الطائر قال الشاعر :
لا أذوق النوم إلا غرارا ... مثل حسو الطير ماء الثماد
وفي الحديث دليل على كراهة تأخير الصلاة إلى وقت الاصفرار والتصريح بذم من أخر صلاة العصر بلا عذر والحكم على صلاته بأنها صلاة المنافق ولا أردع لذوي الإيمان وأفزع لقلوب أهل العرفان من هذا
وقوله ( يجلس يرقب الشمس ) فيه إشارة إلى أن الذم متوجه إلى من لا عذر له
وقوله ( فنقرها أربعا ) فيه تصريح بذم من صلى مسرعا بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار وقد نقل بعضهم الاتفاق على عدم جواز التأخير إلى هذا الوقت لمن لا عذر له وهذا من أوضح الأدلة القاضية بصحة الجمع بين الأحاديث الذي ذكرناه في الحديث الذي قبل هذا

3 - وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس والقائل يقول انتصف النهار أو لم وكان أعلم منهم ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام المغرب حين وقبت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أخر الفجر [ ص 390 ] من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول طلعت الشمس أو كادت وأخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس ثم أخر العصر فانصرف منها والقائل يقول احمرت الشمس ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ) وفي لفظ : ( فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق وأخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ثم أصبح فدعا السائل فقال الوقت فيما بين هذين )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الأسلمي

- حديث بريدة صححه الترمذي ولفظه : ( أن رجلا سأل رسول صلى الله عليه وآله وسلم عن وقت الصلاة فقال : صل معنا هذين الوقتين فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الظهر ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر وأنعم أن يبرد بها وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة فقال الرجل : أنا يا رسول الله قال : وقت صلاتكم بين ما رأيتم )
قوله ( أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا ) أي لم يرد جوابا ببيان الأوقات باللفظ بل قال له صل معنا لتعرف ذلك ويحصل لك البيان بالفعل كما وقع في حديث بريدة أنه قال له ( صل معنا هذين اليومين ) وليس المراد أنه لم يجب عليه بالقول ولا بالفعل كما هو الظاهر من حديث أبي موسى لأن المعلوم من أحواله أنه كان يجيب من سأله عما يحتاج إليه فلا بد من تأويل ما في حديث أبي موسى من قوله ( فلم يرد عليه شيئا ) بما ذكرنا . وقد ذكر معنى ذلك النووي
قوله ( انشق الفجر ) أي طلع
وقوله ( والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا ) بيان لذلك الوقت
قوله ( وقبت الشمس ) هو بقاف فباء موحدة فتاء مثناة يقال وقبت الشمس وقبا ووقوبا غربت ذكر معناه في القاموس
وفي الحديث بيان مواقيت الصلاة وفيه تأخير وقت العصر إلى قريب احمرار الشمس وفيه أنه أخر العشاء حتى كان ثلث الليل . وفي حديث عبد الله بن عمرو السابق أنه أخرها إلى نصف الليل وهو بيان لآخر وقت الاختيار وسيأتي [ ص 391 ] تحقيق ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى : وهذا الحديث يعني حديث الباب في إثبات الوقتين للمغرب وجواز تأخير العصر ما لم تصفر الشمس أولى من حديث جبريل عليه السلام لأنه كان بمكة في أول الأمر وهذا متأخر ومتضمن زيادة فكان أولى وفيه من العلم جواز تأخير البيان عن وقت السؤال انتهى . وهكذا صرح البيهقي والدارقطني وغيرهما أن صلاة جبريل كانت بمكة وقصة المسألة بالمدينة وصرحوا بأن الوقت الآخر لصلاة المغرب رخصة وقد ذكرنا طرفا من ذلك في شرح حديث جبريل وفيه زيادة أن ذلك في صبيحة ليلة الإسراء
وقوله ( الوقت فيما بين هذين الوقتين ) ينفي بمفهومه وقتية ما عداه ولكن حديث ( من أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس ومن الفجر ركعة قبل طلوع الشمس ) وغيره منطوقات وهي أرجح من المفهوم ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع وقد أمكن بما عرفت في شرح حديث عبد الله بن عمرو ولو صرت إلى الترجيح لكان حديث أنس المذكور قبل هذا مانعا من التمسك بتلك المنطوقات والمصير إلى الجمع لا بد منه

باب ما جاء في تعجيلها وتأكيده مع الغيم

1 - عن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة )
- رواه الجماعة إلا الترمذي . وللبخاري وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه . وكذلك لأحمد وأبي داود معنى ذلك

- قوله ( فيذهب ) في رواية لمسلم : ( ثم يذهب الذاهب إلى قبا ) وفي رواية له أيضا : ( ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون
قوله ( والشمس مرتفعة ) حية قال الخطابي : حياتها وجود حرها
قال أبو داود في سننه بإسناده إلى خيثمة أنه قال : حياتها أن تجد حرها
قوله ( إلى العوالي ) هي القرى التي حول المدينة أبعدها على ثمانية أميال من المدينة وأقربها ميلان وبعضها على ثلاثة أميال وبه فسرها مالك وكذا في شرح مسلم للنووي
والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة العصر أول وقتها لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس لم تتغير بصفرة [ ص 392 ] ونحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل الشيء مثله
قال النووي : ولا يكاد يحصل هذا إلا في الأيام الطويلة وهو دليل لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور من العترة وغيرهم القائلين بأن أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وفيه رد لمذهب أبي حنيفة فإنه قال : إن وقت العصر لا يدخل حتى يصير ظل كل شيء مثليه وقد تقدم ذكر ذلك

2 - وعن أنس قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر فأتاه رجل من بني سلمة فقال : يا رسول الله إنا نريد أن ننحر جزورا لنا وإنا نحب أن تحضرها قال : نعم فانطلق وانطلقنا معه فوجدنا الجزور لم تنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس )
- رواه مسلم

3 - وعن رافع بن خديج قال : ( كنا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم ننحر الجزور فنقسم عشر قسم ثم نطبخ فنأكل لحمه نضيجا قبل مغيب الشمس )
- متفق عليه

- قوله ( ننحر جزورا لنا ) في القاموس الجزور البعير أو خاص بالناقة المجزورة الجمع جزائر وجزر وجزرات
والحديثان يدلان على مشروعية المبادرة بصلاة العصر فإن نحر الجزور ثم قسمته ثم طبخه ثم أكله نضيجا ثم الفراغ من ذلك قبل غروب الشمس من أعظم المشعرات بالتبكير بصلاة العصر فهو من حجج الجمهور
ومن ذلك حديث ابن عباس وجابر في صلاة جبريل وغير ذلك وكلها ترد ما قاله أبو حنيفة وقد خالفه الناس في ذلك ومن جملة المخالفين له أصحابه وقد تقدم ذكر مذهبه

4 - وعن بريدة الأسلمي قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة فقال : بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاته صلاة العصر حبط عمله )
- رواه أحمد وابن ماجه

- الحديث في سنن ابن ماجه رجاله رجال الصحيح ولكنه وهم فيه الأوزاعي فجعل مكان أبي المليح أبا المهاجر
وقد أخرجه أيضا البخاري والنسائي عن أبي المليح عن بريدة بنحوه والأمر بالتبكير تشهد له الأحاديث السابقة وأما كون فوت صلاة العصر سببا لإحباط العمل فقد أخرج البخاري في صحيحه ( من ترك صلاة العصر حبط عمله ) وأما تقييد التبكير بالغيم فلأنه مظنة التباس الوقت فإذا وقع التراخي فربما خرج الوقت أو اصفرت الشمس قبل فعل الصلاة ولهذه الزيادة ترجم المصنف الباب بقوله وتأكيده في الغيم
والحديث من الأدلة الدالة على استحباب التبكير لكن مقيدا بذلك القيد وعلى عظم ذنب من فاتته صلاة العصر وسيأتي لذلك مزيد بيان

باب بيان أنها الوسطى وما ورد في ذلك في غيرها . [ ص 393 ]

1 - عن علي عليه السلام : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الأحزاب : ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس )
- متفق عليه . ولمسلم وأحمد وأبي داود : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر )

2 - وعن علي عليه السلام : ( قال : كنا نراها الفجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هي صلاة العصر يعني صلاة الوسطى )
- رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه

- هذه الرواية الأخيرة رواها ابن مهدي قال حدثنا سفيان عن عاصم عن زر قال : قلت لعبيدة : سل عليا عليه السلام عن الصلاة الوسطى فسأله فقال : كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الأحزاب ( شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر ) قال ابن سيد الناس : وقد روي ذلك عنه من غير وجه
والحديث يدل على أن الصلاة الوسطى هي العصر وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال بعد اتفاقهم على أنها آكد الصلوات :
( القول الأول ) أنها العصر وإليه ذهب علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وأبي بن كعب وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وحفصة وأم سلمة وعبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي والكلبي وقتادة والضحاك ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر نقله عن هؤلاء النووي وابن سيد الناس في شرح الترمذي وغيرهما ونقله الترمذي عن أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم . ورواه المهدي في البحر عن علي عليه السلام والمؤيد بالله وأبي ثور وأبي حنيفة
( القول الثاني ) أنها الظهر نقله الواحدي عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة ونقله ابن المنذر عن عبد الله بن شداد ونقله المهدي في البحر عن علي عليه السلام والهادي والقاسم وأبي العباس وأبي طالب وهو أيضا مروي عن أبي حنيفة
( القول الثالث ) أنها الصبح وهو مذهب الشافعي صرح به في كتبه ونقله النووي وابن سيد الناس عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ومالك بن أنس وجمهور أصحاب الشافعي وقال الماوردي [ ص 394 ] من أصحاب الشافعي : إن مذهبه أنها العصر لصحة الأحاديث فيه قال : وإنما نص على أنها الصبح لأنها لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه أتباع الحديث ورواه أيضا في البحر عن علي عليه السلام
( القول الرابع ) أنها المغرب وإليه ذهب قبيصة بن ذؤيب
( القول الخامس ) أنها العشاء نسبه ابن سيد الناس وغيره إلى البعض من العلماء وصرح المهدي في البحر بأنه مذهب الإمامية
( القول السادس ) أنها الجمعة في يوم الجمعة وفي سائر الأيام الظهر حكاه ابن مقسم في تفسيره ونقله القاضي عياض عن البعض
( القول السابع ) أنها إحدى الخمس مبهمة رواه ابن سيد الناس عن زيد بن ثابت والربيع بن خثيم وسعيد بن المسيب ونافع وشريح وبعض العلماء
( القول الثامن ) أنها جميع الصلوات الخمس حكاه القاضي والنووي ورواه ابن سيد الناس عن البعض
( القول التاسع ) أنها صلاتان العشاء والصبح ذكره ابن مقسم في تفسيره أيضا ونسبه إلى أبي الدرداء
( القول العاشر ) أنها الصبح والعصر ذهب إلى ذلك أبو بكر الأبهري
( القول الحادي عشر ) أنها الجماعة حكى ذلك عن الإمام أبي الحسن الماوردي
( القول الثاني عشر ) أنها صلاة الخوف ذكره الدمياطي وقال حكاه لنا من يوثق به من أهل العلم
( القول الثالث عشر ) أنها الوتر وإليه ذهب أبو الحسن علي بن محمد السخاوي المقري
( القول الرابع عشر ) أنها صلاة عيد الأضحى ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي والدمياطي
( القول الخامس عشر ) أنها صلاة عيد الفطر حكاه الدمياطي
( القول السادس عشر ) أنها الجمعة فقط ذكره النووي
( القول السابع عشر ) أنها صلاة الضحى رواه الدمياطي عن بعض شيوخه ثم تردد في الرواية
احتج أهل القول الأول بالأحاديث الصحيحة الصريحة المتفق عليها ومنها حديث الباب وما بعده من الأحاديث المذكورة الآتية وهو المذهب الحق الذي يتعين المصير إليه ولا يرتاب في صحته من أنصف من نفسه واطرح التقليد والعصبية وجود النظر إلى الأدلة ولم يعتذر عن أدلة هذا القول أهل الأقوال الآخرة بشيء يعتد به إلا حديث عائشة أنها أمرت أبا يونس يكتب لها مصحفا الحديث سيأتي ويأتي الجواب عن هذا الاعتذار
وأما اعتذار من اعتذر عنه بأن الاعتبار بالوسطى من حيث العدد فهو عذر بارد ونصب لنظر فاسد في مقابلة النصوص لأن الوسطى لا تتعين أن تكون من حيث العدد لجواز أن تكون من حيث الفضل على أنه لو سلم أن المراد بها الوسطى من حيث [ ص 395 ] العدد لم يتعين بذلك غير العصر من سائر الصلوات إذ لا بد أن يتعين الابتداء ليعرف الوسط ولا دليل على ذلك ولو فرضنا وجود دليل يرشد إلى الابتداء لم ينتهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة المتفق عليها المتضمنة لأخبار الصادق المصدوق أن الوسطى هي العصر فكيف يليق بالمتدين أن يعول على مسلك النظر المبني على شفا جرف هار ليتحصل له به معرفة الصلاة الوسطى وهذه أقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنادي ببيان ذلك
واحتج أهل القول الثاني بأن الظهر متوسطة بين نهاريتين وبأنها في وسط النهار ونصب هذا الدليل في مقابلة الأحاديث الصحيحة من الغرائب التي لا تقع لمنصف ولا متيقظ واحتجوا أيضا بقوله تعالى { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } فلم يذكرها ثم أمر بها حيث قال { لدلوك الشمس } وأفردها في الأمر بالمحافظة عليها بقوله { والصلاة الوسطى } وهذا الدليل أيضا من السقوط بمحل لا يجهل نعم أحسن ما يحتج به لهم حديث زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وسيأتيان وسنذكر الجواب عليهما
واحتج أهل القول الثالث بأن الصبح تأتي وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف والنعاس وفتور الأعضاء وغفلة الناس وبورود الأخبار الصحيحة في تأكيد أمرها فخصت بالمحافظة لكونها معرضة للضياع بخلاف غيرها وهذه الحجة ليست بشيء ولكن الأولى الاحتجاج لهم بما رواه النسائي عن ابن عباس قال : ( أدلج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عرس فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها فلم يصل حتى ارتفعت الشمس فصلى وهي صلاة الوسطى ) ويمكن الجواب عن ذلك من وجهين الأول أن ما روي من قوله في هذا الخبر وهي صلاة الوسطى يحتمل أن يكون من المدرج وليس من قول ابن عباس ويحتمل أن يكون من قوله وقد أخرج عنه أبو نعيم أنه قال : ( الصلاة الوسطى صلاة العصر ) وهذا صريح لا يتطرق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى الأول فلا يعارضه . الوجه الثاني ما تقرر من القاعدة أن الاعتبار عند مخالفة الراوي روايته بما روى لا بما رأى فقد روى عنه أحمد في مسنده قال : ( قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدوا فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها فلما رأى ذلك قال اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى املأ بيوتهم نارا أو قبورهم نارا ) وذكر أبو محمد بن الفرس في كتابه في أحكام القرآن أن ابن عباس قرأ { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } صلاة العصر على البدل على أن ابن عباس لم يرفع تلك المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل قالها من قبل نفسه وقوله ليس بحجة
واحتج أهل القول الرابع [ ص 396 ] بأن المغرب سبقت عليها الظهر والعصر وتأخرت عنها العشاء والصبح
واحتج أهل القول الخامس بأنها العشاء بمثل ما احتج أهل القول الرابع
واحتج أهل القول السادس بأن الجمعة قد ورد الترغيب في المحافظة عليها . قال النووي : وهذا ضعيف لأن المفهوم من الإيصاء بالمحافظة عليها إنما كان لأنها معرضة للضياع وهذا لا يليق بالجمعة فإن الناس يحافظون عليها في العادة أكثر من غيرها لأنها تأتي في الأسبوع مرة بخلاف غيرها
واحتج أهل القول السابع على أنها مبهمة بما روي أن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات تصبها فهي مخبوءة في جميع الصلوات خبء ساعة الإجابة في ساعات يوم الجمعة وليلة القدر في ليالي شهر رمضان والاسم الأعظم في جميع الأسماء والكبائر في جملة الذنوب . وهذا قول صحابي ليس بحجة ولو فرض أن له حكم الرفع لم ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما
واحتج أهل القول الثامن بأن ذلك أبعث على المحافظة عليها أيضا قال النووي : وهذا ضعيف أو غلط لأن العرب لا تذكر الشيء مفصلا ثم تجمله وإنما تذكره مجملا ثم تفصله أو تفصل بعضه تنبيها على فضيلته
واحتج أهل القول التاسع بقوله صلى الله عليه و سلم : ( لو يعلمون ما في العشاء والصبح لأتوهما ولو حبوا ) وقوله : ( من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ومن صلاها مع الصبح في جماعة كان كقيام ليلة ) وهذا الاستدلال مع كونه لا يثبت المطلوب معارض بما ورد في العصر وغيرها من الترغيب والترهيب
واحتج أهل القول العاشر بمثل ما احتج به للتاسع ورد بمثل ما ورد
واحتج أهل القول الحادي عشر بما ورد من الترغيب في المحافظة على الجماعة ورد بأن ذلك لا يستلزم كونها الوسطى وعورض بما ورد في سائر الصلوات من الفرائض وغيرها
واحتج أهل القول الثاني عشر بقول الله تعالى عقيب قوله { حافظوا على الصلوات } { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } وذكروا وجوها للاستدلال كلها مردودة
واحتج أهل القول الثالث عشر بأن المعطوف غير المعطوف عليه فالصلاة الوسطى غير الصلوات الخمس وقد وردت الأحاديث بفضل الوتر فتعينت والنص الصريح الصحيح يرده
واحتج أهل القول الرابع عشر بمثل ما احتج به للذي قبله ورد بمثل ما رد
واحتج أهل القول الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر بمثل ذلك ورد بالنص والمعارضة
إذا تقرر لك هذا فاعلم أنه ليس في شيء من حجج هذه الأقوال ما يعارض حجج القول الأول معارضة يعتد بها في الظاهر إلا ما سيأتي في الكتاب من الاحتجاج لأهل القول الثاني وستعرف عدم صلاحيته للتمسك به

3 - [ ص 397 ] وعن ابن مسعود قال : ( حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه

4 - وعن ابن مسعود قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الوسطى صلاة العصر )
- رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح

5 - وعن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( الصلاة الوسطى صلاة العصر )
- رواه أحمد والترمذي وصححه . وفي رواية لأحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وسماها لنا أنها صلاة العصر )

- حديث ابن مسعود الثاني حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره وحديث سمرة حسنه الترمذي في كتاب الصلاة من سننه وصححه في التفسير ولكنه من رواية الحسن عن سمرة وقد اختلف في صحة سماعه منه فقال : شعبة لم يسمع منه شيئا قيل سمع منه حديث العقيقة
وقال البخاري : قال علي بن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح ومن أثبت مقدم على من نفى . ورواية أحمد ذكرها الحافظ ابن سيد الناس في شرح الترمذي ولم يتكلم عليها وما في الصحيحين وغيرهما يشهد لها . وفي الباب عن عمر عند النسائي والترمذي وقال : ليس بإسناده بأس
وعن أبي هريرة عند الطحاوي والدمياطي وأشار إليه الترمذي وعن أبي هاشم بن عتبة عند الطحاوي وأشار إليه الترمذي أيضا وهذه الأحاديث مصرحة بأن الصلاة الوسطى صلاة العصر فهي من حجج أهل القول الأول الذي أسلفناه وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك
قوله ( عن صلاة العصر ) هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم وظاهره أنه لم يفت غيرها وفي الموطأ أنها الظهر والعصر وفي الترمذي والنسائي بإسناد لا بأس به من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال : ( شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء ) ومثله أخرج أحمد والنسائي وأشار إليه الترمذي من حديث أبي سعيد
وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من رجح ما في الصحيحين كابن العربي ومنهم من جمع بين الأحاديث في ذلك بأن الخندق كانت وقعته [ ص 398 ] أياما فكان ذلك كله في أوقات مختلفة في تلك الأيام وهذا أولى من الأول لأن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه وهذا إسناد صحيح جليل . وأيضا لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع على أن الزيادة مقبولة بالإجماع إذا وقعت غير منافية للمزيد
قوله ( حتى احمرت الشمس أو اصفرت ) وفي بعض روايات الصحيح ( حتى غابت ) قيل أن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف قال العلماء : يحتمل أنه أخرها نسيانا لا عمدا وكان السبب في النسيان الاشتغال بالعدو وكان هذا عذرا قبل نزول صلاة الخوف على حسب الأحوال وسيأتي البحث عن ذلك

6 - وعن البراء بن عازب قال : ( نزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقال رجل : هي إذن صلاة العصر فقال : قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله والله أعلم )
- رواه أحمد ومسلم

- أخرجه مسلم من طريق شقيق بن عقبة عن البراء وليس له في صحيحه عن شقيق غير هذا الحديث وفيه متمسك لمن قال إن الصلاة الوسطى هي العصر بقرينة اللفظ المنسوخ وإن لم يكن صريحا في المطلوب لأنه لا يجب أن يكون معنى اللفظ الناسخ معنى اللفظ المنسوخ وربما تمسك به من يرى أنها غير العصر قائلا لو كان المراد باللفظ الناسخ معنى اللفظ المنسوخ لم يكن للنسخ فائدة فالعدول إلى لفظ الوسطى ليس إلا لقصد الإبهام ويجاب عنه بأنه أرشد إلى أن المراد بالناسخ المبهم نفس المنسوخ المعين ما في الباب من الأدلة الصحيحة
قال المصنف رحمه الله : وهو دليل على كونها العصر لأنه خصها ونص عليها في الأمر بالمحافظة ثم جاء الناسخ في التلاوة متيقنا وهو في المعنى مشكوك فيه فيستصحب المتيقن السابق وهكذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعظيم أمر فواتها تخصيصا فروى عبد الله بن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) رواه الجماعة انتهى :
قوله ( أهله وماله ) روي بنصب اللامين ورفعهما والنصب هو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور على أنه مفعول ثان ومن رفع فعلى ما لم يسم فاعله ومعناه انتزع منه أهله وماله وهذا تفسير مالك بن أنس
وأما على رواية النصب فقال الخطابي وغيره : معناه نقص هو أهله وماله [ ص 399 ] وسلبهم فبقي بلا أهل ولا مال فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله . وقال أبو عمر ابن عبد البر : معناه عند أهل اللغة والفقه أنه كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وترا والوتر الجناية التي يطلب ثأرها فيجتمع عليه غم المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر

7 - وعن أبي يونس مولى عائشة أنه قال : ( أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلما بلغتها آذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه

- وفي الباب عن حفصة عند مالك في الموطأ قال عمرو بن رافع أنه : ( كان يكتب لها مصحفا فقالت له : إذا انتهيت إلى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فآذني فآذنتها فقالت : اكتب والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين )
استدل بالحديث من قال إن الصلاة الوسطى غير صلاة العصر لأن العطف يقتضي المغايرة وهو راجع إلى الخلاف الثابت في الأصول في القراءة الشاذة هل تنزل منزلة أخبار الآحاد فتكون حجة كما ذهبت إليه الحنفية وغيرهم أم لا تكون حجة لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر كما ذهبت إلى ذلك الشافعية والراجح الأول
وقد غلط من استدل من الشافعية بحديث عائشة وحفصة على أن هذه الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر لما عرفت من أن مذهبهم في الأصول يأبى هذا الاستدلال وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث من طرف القائلين بأنها العصر بوجهين :
الأول أن تكون الواو زائدة في ذلك على حد زيادتها في قوله تعالى { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } وقوله { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست } وقوله { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } وقوله { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } حكى عن الخليل أنه قال : يصدون والواو مقحمة زائدة . ومثله في القرآن كثير ومنه قول امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاق عقنقل
[ ص 400 ] وقول الآخر :
فإذا وذاك يا كبيشة لم يكن ... إلا كلمة حالم بخيال
الثاني أن لا تكون زائدة وتكون من باب عطف إحدى الصفتين على الأخرى وهما لشيء واحد نحو قوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وقريب منه قول الآخر :
أكر عليهم دعلجا ولبانة ... إذا ما اشتكى وقع الرماح تحمحما
فعطف لبانة وهو صدره على دعلج وهو اسم فرسه ومعلوم أن الفرس لا يكر إلا ومعه صدره لما كان الصدر يلتقي به ويقع به المصادمة :
وقال مكي بن أبي طالب في تفسيره : وليست هذه الزيادة توجب أن تكون الوسطى غير العصر لأن سيبويه حكى مررت بأخيك وصاحبك والصاحب هو الأخ فكذلك الوسطى هي العصر وإن عطفت بالواو انتهى
وتغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى في جواز العطف ومنه قول أبي داود الأيادي :
سلط الموت والمنون عليهم ... فلهم في صد المقابر هام
وقول عدي بن زيد العبادي :
وقدمت الأديم لراهشيه ... فألفى قولها كذبا ومينا
وقول عنترة :
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأفقر بعد أم الهيثم
وقول الآخر :
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
وهذا التأويل لا بد منه لوقوع هذه القراءة المحتملة في مقابلة تلك النصوص الصحيحة الصريحة . وقد روي عن السائب بن يزيد أنه تلا هذه الآية { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر } وهذا التأويل المذكور يجري في حديث عائشة وحفصة ويختص حديث حفصة بما روى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عمرو بن رافع قال : ( كان مكتوبا في مصحف حفصة بنت عمر حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر ) ذكر هذه الرواية والرواية السابقة عن [ ص 401 ] السائب ابن سيد الناس في شرح الترمذي
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد سياق حديث عائشة ما لفظه : وهذا يتوجه منه كون الوسطى العصر لأن تسميتها في الحث على المحافظة دليل تأكدها وتكون الواو فيه زائدة كقوله { آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } أي ضياء وقوله { فلما أسلما وتله للجبين وناديناه } أي ناديناه إلى نظائرها انتهى

8 - وعن زيد بن ثابت قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقال : إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين )
- رواه أحمد وأبو داود

9 - وعن أسامة بن زيد في الصلاة الوسطى قال : هي الظهر ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فأنزل الله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين )
- رواه أحمد

- الحديث الأول سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه البخاري في التاريخ والنسائي بإسناد رجاله ثقات . وأخرج نحو ذلك في الموطأ والترمذي عن زيد أيضا
والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي وابن منيع وابن جرير والضياء في المختارة ورجال إسناده في سنن النسائي ثقات
قوله ( الهجير ) قال في القاموس : الهجيرة والهجير والهاجرة نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو من عند زوالها إلى العصر لأن الناس يسكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا لشدة الحر
والأثران استدل بهما من قال إن الصلاة الوسطى هي الظهر وأنت خبير بأن مجرد كون صلاة الظهر كانت شديدة على الصحابة لا يستلزم أن تكون الآية نازلة فيها غاية ما في ذلك أن المناسب أن تكون الوسطى هي الظهر ومثل هذا لا يعارض به تلك النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة قد قدمنا لك منها جملة نافعة وعلى فرض أن قول هذين الصحابين تصريح ببيان سبب النزول لا إبداء مناسبة فلا يشك من له أدنى إلمام بعلوم الاستدلال أن ذلك لا ينتهض لمعارضة ما سلف على أنه يعارض المروي عن زيد بن ثابت هذا ما قدمنا عنه في شرح حديث علي فراجعه ولعلك إذا أمعنت النظر فيما حررناه في هذا الباب لا تشك بعده أن الوسطى هي العصر
فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
[ ص 402 ] قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الأثرين ما لفظه : وقد احتج بهما من يرى تعجيل الظهر في شدة الحر انتهى

باب وقت صلاة المغرب

1 - عن سلمة بن الأكوع : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب )
- رواه الجماعة إلا النسائي

- وفي الباب عن جابر عند أحمد وعن زيد بن خالد عند الطبراني وعن أنس عند أحمد وأبي داود وعن رافع بن خديج عند البخاري ومسلم وعن أبي أيوب عند أحمد وأبي داود والحاكم وعن أم حبيبة أشار إليه الترمذي وعن العباس بن عبد المطلب عند ابن ماجه قال الترمذي : وحديث العباس قد روي موقوفا وهو أصح
وعن أبي بن كعب ذكره ابن أبي حاتم في العلل وعن السائب بن يزيد عند أحمد وعن رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند النسائي والبغوي في معجمه
قوله ( وتوارت بالحجاب ) وقع في صحيح البخاري ( إذا توارت بالحجاب ) ولم يجر للشمس ذكر إحالة على فهم السامع وما يعطيه قوة الكلام وهو تفسير للجملة الأولى أعني قوله إذا غربت الشمس
والحديث يدل على أن وقت المغرب يدخل عند غروب الشمس وهو مجمع عليه وأن المسارعة بالصلاة في أول وقتها مشروعة . وقد اختلف السلف فيها هل هي ذات وقت أو وقتين فقال الشافعي : إنه ليس لها إلا وقت واحد وهو أول الوقت هذا هو الذي نص عليه في كتبه القديمة والجديدة ونقل عنه أبو ثور إن لها وقتين الثاني منهما ينتهي إلى مغيب الشفق قال الزعفراني : وأنكر هذا القول جمهور الأصحاب ثم اختلف أصحاب الشافعي في المسألة على طريقين : أحدهما القطع بأن لها وقتا فقط والثاني على قولين أحدهما هذا والثاني يمتد إلى مغيب الشفق وله أن يبدأ بالصلاة في كل وقت من هذا الزمان
قال النووي : وهو الصحيح وقد نقل أبو عيسى الترمذي عن العلماء كافة من الصحابة فمن بعدهم كراهة تأخير المغرب وتمسك القائل بأن لها وقتا واحدا بحديث جبريل السابق وقد ذكرنا كيفية الجمع بينه وبين الأحاديث القاضية بأن للمغرب وقتين في باب أول وقت العصر
وقد اختلف العلماء [ ص 403 ] بعد اتفاقهم على أن أول وقت المغرب غروب الشمس في العلامة التي يعرف بها الغروب فقيل بسقوط قرص الشمس بكماله وهذا إنما يتم في الصحراء وأما في العمران فلا . وقيل برؤية الكوكب الليلي وبه قالت القاسمية واحتجوا بقوله ( حتى يطلع الشاهد ) والشاهد النجم أخرجه مسلم والنسائي من حديث أبي بصرة . وقيل بل بالإظلام وإليه ذهب زيد بن علي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى والإمام يحيى لحديث ( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ) متفق عليه من حديث ابن عمر وعبد الله بن أبي أوفى ولما في حديث جبريل من رواية ابن عباس بلفظ : ( فصلى بي حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ) ولحديث الباب وغير ذلك
وأجاب صاحب البحر عن هذه الأدلة بأنها مطلقة وحديث ( حتى يطلع الشاهد ) مقيد ورد بأنه ليس من المطلق والمقيد وغايته أن يكون طلوع الشاهد أحد أمارات غروب الشمس على أنه قد قيل إن قوله والشاهد النجم مدرج فإن صح ذلك لم يبعد أن يكون المراد بالشاهد ظلمة الليل ويؤيد ذلك حديث السائب بن يزيد عند أحمد والطبراني مرفوعا بلفظ : ( لا تزال أمتي على الفطرة ما صلوا المغرب قبل طلوع النجم ) وحديث أيوب مرفوعا ( بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجم ) وحديث أنس ورافع بن خديج قال : ( كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نرمي فيرى أحدنا موقع نبله ) وأما آخر وقت المغرب فذهب الهادي والقاسم وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود إلى أن آخره ذهاب الشفق الأحمر لحديث جبريل وحديث ابن عمرو بن العاص وقد مرا
وقال مالك وأبو حنيفة : إنه ممتد إلى الفجر وهو أحد قولي الناصر وقد سبق ذكر ما ذهب إليه الشافعي

2 - وعن عقبة بن عامر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم في المستدرك وفي إسناده محمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث وفي الباب عن العباس بن عبد المطلب عند ابن ماجه والحاكم وابن خزيمة في صحيحه بلفظ : ( لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم ) قال محمد بن يحيى : اضطرب الناس في هذا الحديث ببغداد فذهبت أنا وأبو بكر الأعين إلى العوام بن عباد بن العوام فأخرج إلينا أصل أبيه فإذا الحديث فيه . [ ص 404 ] وأخرجه أبو بكر البزار من حديث إبراهيم بن موسى عن عباد بن العوام بسنده ثم قال : لا يعلمه يروى يعني عن العباس إلا من هذا الوجه ورواه غير واحد عن عمر بن إبراهيم عن قتادة عن الحسن مرسلا قال الترمذي : وحديث العباس وقد روي عنه موقوفا وهو أصح
قال ابن سيد الناس : ومراد البزار بالمرسل هنا الموقوف لأنه متصل الإسناد إلى العباس وذكر الخلال بعد إيراد هذا الحديث قال أبو عبد الله : هذا حديث منكر
والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة المغرب وكراهة تأخيرها إلى اشتباك النجوم وقد عكست الروافض القضية فجعلت تأخير صلاة المغرب إلى اشتباك النجوم مستحبا والحديث يرده
قال النووي في شرح مسلم : إن تعجيل المغرب عقيب غروب الشمس مجمع عليه قال : وقد حكي عن الشيعة فيه شيء لا التفات إليه ولا أصل له وأما الأحاديث الواردة في تأخير المغرب إلى قرب سقوط الشفق فكانت لبيان جواز التأخير وقد سبق إيضاح ذلك لأنها كانت جوابا للسائل عن الوقت وأحاديث التعجيل المذكورة في هذا الباب وغيره إخبار عن عادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتكررة التي واظب عليها إلا لعذر فالاعتماد عليها

3 - وعن مروان بن الحكم قال : ( قال لي زيد بن ثابت ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ فيها بطولى الطوليين )
- رواه البخاري وأحمد والنسائي . وزاد عن عروة طولى الطوليين الأعراف . وللنسائي : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ فيها بطولى الطوليين المص )

- قوله ( بقصار المفصل ) قال في الضياء : هو من سورة محمد إلى آخر القرآن وذكر في القاموس أقوالا عشرة من الحجرات إلى آخره قال : في الأصح أو من الجاثية أو القتال أو قاف أو الصافات أو الصف أو تبارك أو إنا فتحنا لك أو سبح اسم ربك الأعلى أو الضحى
نسب بعض هذه الأقوال إلى من قال بها قال : وسمي مفصلا لكثرة الفصول بين سوره أو لقلة المنسوخ
قوله ( بطولى الطوليين ) في الفتح الطوليين الأعراف والأنعام في قول وتسميتهما بالطوليين إنما هو لعرف فيهما لا أنهما أطول من غيرهما وفسرهما ابن أبي مليكة بالأعراف والمائدة والأعراف أطول من صاحبتها قال الحافظ : إنه حصل الاتفاق على تفسير الطولى بالأعراف
والحديث يدل على استحباب التطويل في قراءة المغرب وقد اختلفت حالات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها فثبت عند الشيخين من حديث [ ص 405 ] جبير بن مطعم أنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في المغرب بالطور ) وثبت أنه قرأ في المغرب بالصافات . وأنه قرأ فيها بحم الدخان وأنه قرأ بسبح اسم ربك الأعلى وأنه قرأ بالتين والزيتون وأنه قرأ بالمعوذتين وأنه قرأ بالمرسلات وأنه قرأ بقصار المفصل وسيأتي تحقيق ذلك في باب جامع القراءة في الصلاة إن شاء الله تعالى
والمصنف ساق الحديث هنا للاستدلال به على امتداد وقت المغرب ولهذا قال وقد سبق بيان امتداد وقتها إلى غروب الشفق في عدة أحاديث انتهى . وكذلك استدل الخطابي وغيره بهذا الحديث على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق قال الحافظ : وفيه نظر لأن من قال إن لها وقتا واحدا لم يحده بقراءة معينة بل قالوا لا يجوز تأخيرها عن أول غروب الشمس وله أن يمد القراءة فيها ولو غاب الشفق ثم قال : ولا يخفى ما فيه لأن تعمد إخراج بعض الصلاة عن الوقت ممنوع ولو أجزأت فلا يحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك

باب تقديم العشاء إذا حضر على تعجيل صلاة المغرب

1 - عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم )

2 - وعن عائشة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء )

3 - وعن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء ولا تعجل حتى تفرغ منه )
- متفق عليهن . وللبخاري وأبي داود : ( وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه يسمع قراءة الإمام )

- قوله ( حضر العشاء ) قال في القاموس هو طعام العشي وهو ممدود كسماء
قوله ( فابدؤوا بالعشاء ) أي بأكله
الحديث الأول يدل على وجوب تقديم العشاء على صلاة المغرب إن حضر والحديثان الآخران يدلان على وجوب تقديم العشاء إذا حضر على المغرب وغيرها لما يشعر به تعريف الصلاة من العموم
وقال ابن دقيق العيد : الألف واللام في الصلاة لا ينبغي أن يحمل على الاستغراق ولا على تعريف الماهية بل ينبغي أن يحمل على المغرب بما ورد في بعض الروايات ( إذا وضع العشاء وأحدكم صائم [ ص 406 ] فابدؤوا به قبل أن تصلوا ) وهو صحيح . وكذلك صح أيضا ( فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ) انتهى
وأنت خبير بأن التنصيص على المغرب لا يقتضي تخصيص عموم الصلاة لما تقرر في الأصول من أن موافق العام لا يخصص به فلا يصلح جعله قرينة لحمل اللام على ما لا عموم فيه ولو سلم عدم العموم لم يسلم عدم الإطلاق وقد تقرر أيضا في الأصول أن موافق المطلق لا يقتضي التقييد ولو سلمنا ما ذكره باعتبار أحاديث الباب لتأييده بأن لفظ العشاء يخرج صلاة النهار وذلك مانع من حمل اللام على العموم لم يتم له باعتبار حديث ( لا صلاة بحضرة طعام ) عند مسلم وغيره . ولفظ صلاة نكرة في سياق النفي ولا شك أنها من صيغ العموم
ولإطلاق الطعام وعدم تقييده بالعشاء فذكر المغرب من التنصيص على بعض أفراد العام وليس بتخصيص على أن العلة التي ذكرها شراح الحديث للأمر بتقديم العشاء كالنووي وغيره مقتضية لعدم الاختصاص ببعض الصلوات فإنهم قالوا إنها اشتغال القلب بالطعام وذهاب كمال الخشوع في الصلاة عند حضوره والصلوات متساوية الأقدام في هذا وظاهر الأحاديث أنه يقدم العشاء مطلقا سواء كان محتاجا إليه أم لا وسواء كان خفيفا أم لا وسواء خشي فساد الطعام أو لا وخالف الغزالي فزاد قيد خشية فساد الطعام والشافعية فزادوا قيد الاحتياج ومالك فزاد أن يكون الطعام خفيفا
وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر الأحاديث ابن حزم والظاهرية ورواه الترمذي عن أبي بكر وعمر وابن عمر وأحمد وإسحاق . ورواه العراقي عن الثوري فقال : يجب تقديم الطعام وجزموا ببطلان الصلاة إذا قدمت
وذهب الجمهور إلى الكراهة وظاهر الأحاديث أيضا أنه يقدم الطعام وإن خشي خروج الوقت وإليه ذهب ابن حزم وذكره أبو سعيد المتولي وجها لبعض الشافعية . وذهب الجمهور إلى أنه إذا ضاق الوقت صلى على حاله محافظة على الوقت ولا يجوز تأخيرها قالوا : لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا تفوته لأجله وظاهر قوله ولا تعجل حتى تفرغ أنه يستوفي حاجته من الطعام بكمالها وهو يرد ما ذكره بعض الشافعية من أنه يقتصر على تناول لقمات يكسر بها سورة الجوع . قال النووي : وهذا الحديث صريح في إبطاله
وقد استدل بالأحاديث المذكورة على أن الجماعة ليست بواجبة . قال ابن دقيق العيد : وهذا صحيح إن أريد به أن حضور الطعام مع التشوق إليه عذر في ترك الجماعة وإن أريد به الاستدلال على أنها ليست بفرض من غير عذر ولم يصح ذلك انتهى . ويؤيده أن ابن حبان وهو من القائلين بوجوب [ ص 407 ] الجماعة جعل حضور الطعام عذرا في تركها
وقد استدل أيضا بهذه الأحاديث على التوسعة في وقت المغرب وقد تقدم الكلام في ذلك وقد ألحق بالطعام ما يحصل بتأخيره تشويش الخاطر بجامع ذهاب الخشوع الذي هو روح الصلاة
وقوله ( إذا حضر العشاء ووضع عشاء أحدكم ) دليل على اعتبار الحضور الحقيقي ومن نظر إلى المعنى من أهل القياس لا يقصر الحكم على الحضور بل يقول به عند وجود المعنى وهو التشوق إلى الطعام ولا شك أن حضور الطعام مؤثر لزيادة الاشتغال به والتطلع إليه ويمكن أن يكون الشارع قد اعتبر هذه الزيادة في تقديم الطعام وقد تقرر في الأصول أن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يلغ . قال ابن دقيق العيد : إنه لا يبعد إلحاق ما كان متيسر الحضور عن قرب بالحاضر

باب جواز الركعتين قبل المغرب

1 - عن أنس قال : ( كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء ) وفي رواية ( إلا قليل )
- رواه أحمد والبخاري . وفي لفظ : ( كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب فقيل له أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاهما قال : كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا ) رواه مسلم وأبو داود

- تقريره صلى الله عليه و سلم لمن رآه يصلي في ذلك الوقت يدل على عدم كراهة الصلاة فيه ولا سيما والفاعل لذلك عدد كثير من الصحابة وفي المسألة مذهبان للسلف استحبهما جماعة من الصحابة والتابعين ومن المتأخرين أحمد وإسحاق ولم يستحبهما الأربعة الخلفاء رضي الله عنهم وآخرون من الصحابة ومالك وأكثر الفقهاء . وقال النخعي : هما بدعة
احتج من قال بالاستحباب بما في هذا الباب من الأحاديث الصحيحة وبما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى قبل المغرب ركعتين ) فقد ثبتنا عنه صلى الله عليه و سلم قولا كما سيأتي وفعلا وتقريرا [ ص 408 ] واحتج من قال بالكراهة بحديث عقبة بن عامر الذي قد مر ذكره في باب وقت صلاة المغرب وهو يدل على شرعية تعجيلها وفعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب
والحق أن الأحاديث الواردة بشرعية الركعتين قبل المغرب مخصصة لعموم أدلة استحباب التعجيل قال النووي : وأما قولهم يؤدي إلى تأخير المغرب فهذا خيال منابذ للسنة ولا يلتفت إليه ومع هذا فهو زمن يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها وأما من زعم النسخ فهو مجازف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا عجزنا عن التأويل والجمع بين الأحاديث وعلمنا التاريخ وليس هنا شيء من ذلك انتهى . وهذا الاستحباب ما لم تقم الصلاة كسائر النوافل لحديث ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة ) واعلم أن التعليل للكراهة بتأدية الركعتين إلى تأخير المغرب مشعر بأنه لا خلاف في أنه يستحب لمن كان في المسجد في ذلك الوقت منتظرا لقيام الجماعة وكان فعله للركعتين لا يؤثر في التأخير كما يقع من الانتظار بعد الآذان للمؤذن حتى ينزل من المنارة ولا ريب أن ترك هذه السنة في ذلك الوقت الذي لا اشتغال فيه بصلاة المغرب ولا بشيء من شروطها مع عدم تأثير فعلها للتأخير من الاستحواذات الشيطانية التي لم ينج منها إلا القليل
قوله ( شيء ) التنوين فيه للتعظيم أي لم يكن بينهما شيء كثير ونفي الكثير يقتضي إثبات القليل وبهذا يجمع بين هذه الرواية ورواية قليل . وقال ابن المنير : يجمع بين الروايتين بحمل النفي المطلق على المبالغة مجازا والإثبات للقليل على الحقيقة وقد طول الكلام في ذلك الحافظ في الفتح فليرجع إليه

2 - وعن عبد الله بن مغفل : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال : صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال عند الثالثة : لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة )
- رواه أحمد والبخاري وأبو داود . وفي رواية : ( بين كل أذانين صلاة بين كل آذانين صلاة ثم قال في الثالثة : لمن شاء ) رواه الجماعة

- زاد الإسماعيلي في روايته عن القواريري عن عبد الوارث في الرواية الأولى ثلاث مرات وهو موافق لما في رواية البخاري لأنها بلفظ : قال في الثالثة وفي رواية لأبي نعيم في المستخرج قالها ثلاثا ثم قال : لمن شاء
قوله ( كراهية أن يتخذها الناس سنة ) قال المحب الطبري : لم يرد نفي استحبابها لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب بل هذا الحديث من أدل الأدلة على استحبابها . ومعنى قوله سنة أي شريعة وطريقة لازمة وكأن المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض ولهذا لم يعدها أكثر الشافعية في الرواتب [ ص 409 ] واستدركها بعضهم وتعقب أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واظب عليها
قوله ( بين كل آذانين ) المراد بالآذنين والإقامة تغليبا . والرواية الأولى من حديث الباب تدل على استحباب هاتين الركعتين بخصوصها والرواية الأخرى بعمومها وقد عرفت الخلاف في ذلك

3 - وعن أبي الخير قال : ( أتيت عقبة بن عامر فقلت له : ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل صلاة المغرب فقال عقبة : إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت : فما يمنعك الآن قال : الشغل )
- رواه أحمد والبخاري

- قوله ( ألا أعجبك ) بضم أوله وتشديد الجيم من التعجيب
قوله ( من أبي تميم ) هو عبد الله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة تابعي كبير مخضرم أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عده جماعة في الصحابة قال الحافظ في الفتح : وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي أنه لم يفعلهما أحد بعد الصحابة لأن أبا تميم تابعي وقد فعلهما
والحديث يدل على مشروعية صلاة الركعتين قبل المغرب وقد تقدم الكلام على ذلك
وقوله ( على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه الصيغة فيها خلاف مذكور في الأصول وعلم الاصطلاح هل لها حكم الرفع وهل تشعر بإطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فليطلب من موضعه

4 - وعن أبي بن كعب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بلال اجعل بين آذانك وإقامتك نفسا يفرغ الآكل من طعامه في مهل ويقضي المتوضئ من مهل )
- رواه عبد الله بن أحمد في المسند

- الحديث من رواية أبي الجوزاء عن أبي بن كعب ولم يسمع منه وقد أخرج نحوه الترمذي من حديث جابر بزيادة : ( والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة ) قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم وإسناده مجهول انتهى . وفي إسناده ضعيفان يرويه أحدهما عن الآخر فأولهما عبد المنعم بن نعيم قال البخاري وأبو حاتم وابن حبان : منكر الحديث وقال النسائي : ليس بثقة . وثانيهما يحيى بن مسلم وهو البكاء بصري لم يرضه يحيى بن سعيد . وقال أبو زرعة : ليس بقوي وقال أبو حاتم : شيخ وقال يحيى بن معين : ليس بذلك وقال أحمد : ليس بثقة وقال النسائي : متروك وفيه كلام طويل وله شاهد من حديث أبي هريرة وسلمان أخرجهما أبو الشيخ وكلها واهية . قال الحاكم : ليس في [ ص 410 ] إسناده مطعون غير عمرو بن فائد
قال الحافظ : لم يقع إلا في روايته هو ولم يقع في رواية الباقين لكن فيه عبد المنعم صاحب الشفاء وهو كاف في تضعيف الحديث انتهى
والحديث يدل على مشروعية الفصل بين الآذان والإقامة وكراهة الموالاة بينهما لما في ذلك من تفويت صلاة الجماعة على كثير من المريدين لها لأن من كان على طعامه أو غير متوضئ حال النداء إذا استمر على أكل الطعام أو توضأ للصلاة فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل لا سيما إذا كان مسكنه بعيدا من مسجد الجماعة فالتراخي بالإقامة نوع من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها
قال المصنف رحمه الله تعالى : وكل هذه الأخبار تدل على أن للمغرب وقتين وأن السنة أن يفصل بين أذانها وإقامتها بقدر ركعتين انتهى
وقد تقدم الكلام على وقت المغرب وأما أن الفصل مقدار ركعتين فلم يثبت وقد ترجم البخاري باب كم بين الآذان والإقامة ولكن لما كان التقدير لم يثبت لم يذكر الحديث قال ابن بطال : لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين

باب في أن تسميتها بالمغرب أولى من تسميتها بالعشاء

1 - عن عبد الله بن مغفل : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال : والأعراب تقول هي العشاء )
- متفق عليه

- قوله ( والأعراب تقول هي العشاء ) لأن العشاء لغة أول ظلام الليل والمعنى النهي عن تسمية المغرب بالعشاء كما تفعل الأعراب فإذا وقعت الموافقة لهم فقد غلبتهم الأعراب عليها إذ من رجع إليه خصمه فقد غلبه وقد اختلف في علة النهي عن ذلك فقيل هي خوف التباس المغرب بالعشاء وقيل العلة الجامعة أن تسميتها بالعشاء مخالفة لأذن الله فإنه سمى الأولى المغرب والثانية العشاء الآخرة وقيل غير ذلك والله أعلم

باب وقت صلاة العشاء وفضل تأخيرها مع مراعاة حال الجماعة وبقاء وقتها المختار إلى نصف الليل

1 - عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة )
- رواه الدارقطني

[ ص 411 ] - الحديث قال الدارقطني في الغرائب : هو غريب وكل رواته ثقات وقد رواه أيضا ابن عساكر والبيهقي وصحح وقفه وقد ذكره الحاكم في المدخل وجعله مثالا لما رفعه المخرجون من الموقوفات . وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن عمر مرفوعا : ( ووقت صلاة المغرب إلى أن يذهب حمرة الشفق ) قال ابن خزيمة : إن صحت هذه اللفظة أغنت عن جميع الروايات لكن تفرد بها محمد بن يزيد
قال الحافظ : محمد بن يزيد صدوق قال البيهقي : روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة ولا يصح فيه شيء
قال المصنف رحمه الله : وهو يدل على وجوب الصلاة بأول الوقت انتهى . وفي ذلك خلاف في الأصول مشهور
والحديث يدل على صحة قول من قال أن الشفق الحمرة وهم ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وعبادة من الصحابة . والقاسم والهادي والمؤيد بالله وأبو طالب وزيد بن علي والناصر من أهل البيت . والشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف ومحمد من الفقهاء . والخليل والفراء من أئمة اللغة . قال في القاموس : الشفق الحمرة ولم يذكر الأبيض وقال أبو حنيفة والأوزاعي والمزني به وقال الباقر : بل هو الأبيض واحتجوا بقوله تعالى { إلى غسق الليل } ولا غسق قبل ذهاب البياض ورد بأن ذلك ليس بمانع كالنجوم
وقال أحمد بن حنبل : الأحمر في الصحارى والأبيض في البنيان وذلك قول لا دليل عليه ومن حجج الأولين ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي . قال ابن العربي : هو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول وهو الذي حد عليه السلام خروج أكثر الوقت به فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذلك يقينا أن الوقت دخل بالشفق الذي هو الحمرة انتهى . وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعا لما تقدم في حديث جبريل وفي حديث التعليم وهذا الحديث وغير ذلك وأما آخره فسيأتي الخلاف فيه

2 - وعن عائشة قالت : ( أعتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بالعتمة فنادى عمر : نام النساء والصبيان فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما ينتظرها [ ص 412 ] غيركم ولم تصل يومئذ إلا بالمدينة ثم قال : صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل )
- رواه النسائي

- الحديث رجال إسناده في سنن النسائي رجال الصحيح إلا شيخ النسائي عمرو بن عثمان وهو صدوق
والحديث متفق عليه من حديثها بنحو هذا اللفظ . وفي الباب عن زيد بن خالد أشار إليه الترمذي . وعن ابن عمر عند مسلم وعن معاذ عند أبي داود وعن أبي بكرة رواه الخلال من حديث عبد الله بن أحمد عن أبيه وعن علي عليه السلام عند البزار وعن أبي سعيد وعائشة وأنس وأبي هريرة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وسيأتي
قوله ( أعتم ) أي دخل في العتمة ومعناه أخرها والعتمة لغة حلب بعد هوى من الليل بعدا من الصعاليك . والمراد بها هنا صلاة العشاء وإنما سميت بذلك لوقوعها في ذلك الوقت . وفي القاموس والعتمة محركة ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق أو وقت صلاة العشاء الآخرة اه
وهذا الحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء عن أول وقتها وقد اختلف العلماء هل الأفضل تقديمها أم تأخيرها وهما مذهبان مشهوران للسلف وقولان لمالك والشافعي . فذهب فريق إلى تفضيل التأخير محتجا بهذه الأحاديث المذكورة في هذا الباب وذهب فريق آخر إلى تفضيل التقديم محتجا بأن العادة الغالبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم هي التقديم وإنما أخرها في أوقات يسيرة لبيان الجواز والشغل والعذر ولو كان تأخيرها أفضل لواظب عليه وإن كان فيه مشقة ورد بأن هذا إنما يتم لو لم يكن منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا مجرد الفعل لها في ذلك الوقت وهو ممنوع لورود الأقوال كما في حديث ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وغير ذلك وفيها تنبيه على أفضلية التأخير وعلى أن ترك المواظبة عليه لما فيه من المشقة كما صرحت بذلك الأحاديث وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم لا تعارض هذه الأقوال وأما ما ورد من أفضلية أول الوقت على العموم فأحاديث هذا الباب خاصة فيجب بناؤه عليها وهذا لا بد منه
قوله ( ولم تصل يومئذ إلا بالمدينة ) أي لم تصل بالهيئة المخصوصة وهي الجماعة إلا بالمدينة ذكر معناه في الفتح
قوله ( فيما بين أن يغيب الشفق ) الخ قد تقدم أن تحديد أول وقت العشاء بغيبوبة الشفق أمر مجمع عليه وإنما وقع الخلاف هل هو الأحمر أو الأبيض وقد سلف ما هو الحق

3 - وعن جابر بن سمرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 413 ] يؤخر العشاء الآخرة )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي

4 - وعن عائشة : ( قالت كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول )
- أخرجه البخاري

5 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه

- الحديث الأول يدل على استحباب مطلق التأخير للعشاء وجواز وصفها بالآخرة وأنه لا كراهة في ذلك وقد حكى عن الأصمعي الكراهة
والحديث الثاني يدل على استحباب تأخيرها أيضا وامتداد وقتها إلى ثلث الليل
والحديث الثالث فيه التصريح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة وقد تقدم الكلام في ذلك وفيه بيان امتداد الوقت إلى ثلث الليل أو نصفه وقد اختلف أهل العلم في ذلك
فذهب عمر بن الخطاب والقاسم والهادي والشافعي وعمر بن عبد العزيز إلى أن آخر وقت العشاء ثلث الليل واحتجوا بحديث جبريل وحديث أبي موسى في التعليم وقد تقدما
وفي قول للشافعي أن آخر وقتها نصف الليل واحتج بما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو في باب أول وقت العصر وفيه ( ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ) وبحديث أبي هريرة المذكور هنا وبحديث عائشة وأنس وأبي سعيد وستأتي وغير ذلك
وهذه الأحاديث المصير إليها متعين لوجوه : الأول لاشتمالها على الزيادة وهي مقبولة . الثاني اشتمالها على الأقوال والأفعال وتلك أفعال فقط وهي لا تتعارض ولا تعارض الأقوال . والثالث كثرة طرقها . والرابع كونها في الصحيحين فالحق أن آخر وقت اختيار العشاء نصف الليل وما أجاب به صاحب البحر من أن النصف مجمل فصله خبر جبريل فليس على ما ينبغي
وأما وقت الجواز والاضطرار فهو ممتد إلى الفجر لحديث أبي قتادة عند مسلم وفيه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فإنه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا صلاة الفجر فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع . وأما حديث عائشة الآتي بلفظ : ( حتى ذهب عامة الليل ) فهو وإن كان فيه إشعار بامتداد وقت اختيار العشاء إلى ما بعد نصف الليل ولكنه مؤول لما سيأتي

6 - وعن جابر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر بالهاجرة [ ص 414 ] والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت الشمس والعشاء أحيانا يؤخرها وأحيانا يعجل إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصليها بغلس )
- متفق عليه

- قوله ( بالهاجرة ) هي شدة الحر نصف النهار عقب الزوال سميت بذلك من الهجر وهو الترك لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر ويقيلون وقد تقدم تفسيرها بنحو من هذا
قوله ( والشمس نقية ) أي صافية لم تدخلها صفرة
قوله ( إذا وجبت ) أي غابت والوجوب السقوط كما سبق
قوله ( إذا رآهم اجتمعوا ) فيه مشروعية ملاحظة أحوال المؤتمين والمبادرة بالصلاة مع اجتماع المصلين لأن انتظارهم بعد الاجتماع ربما كان سببا لتأذي بعضهم وأما الانتظار قبل الاجتماع فلا بأس به لهذا الحديث ولأنه من باب المعاونة على البر والتقوى
قوله ( بغلس ) الغلس محركة ظلمة آخر الليل قاله في القاموس
والحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء لكن مقيدا بعدم اجتماع المصلين

7 - وعن عائشة : ( قالت أعتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل حتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال : إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي )
- رواه مسلم والنسائي

- قوله ( أعتم ) قد تقدم الكلام عليه
قوله ( حتى ذهب عامة الليل ) قال النووي : التأخير المذكور في الأحاديث كله تأخير لم يخرج به عن وقت الاختيار وهو نصف الليل أو ثلث الليل على الخلاف المشهور والمراد بعامة الليل كثير منه وليس المراد أكثره ولا بد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( إنه لوقتها ) ولا يجوز أن المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل لأنه لم يقل أحد من العلماء أن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل اه
قوله ( لولا أن أشق على أمتي ) فيه تصريح بما قدمنا من أن ترك التأخير إنما هو للمشقة
والحديث يدل على مشروعية تأخير صلاة العشاء إلى آخر وقت اختيارها وقد تقدم الكلام على ذلك

8 - وعن أنس قال : ( أخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها قال أنس : كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ )
- متفق عليه

[ ص 415 ] - قوله ( قد صلى الناس ) أي المعهودون ممن صلى من المسلمين إذ ذاك
قوله ( وبيص خاتمه ) هو بالباء الموحدة والصاد المهملة البريق . والخاتم بكسر التاء وفتحها ويقال أيضا خاتام وخيتام أربع لغات قاله النووي
والحديث يدل على مشروعية تأخير صلاة العشاء والتعليل بقوله ( أما إنكم ) الخ يشعر بأن التأخير لذلك قال الخطابي وغيره : إنما استحب تأخيرها لتطول مدة الانتظار للصلاة ومنتظر الصلاة في صلاة

9 - وعن أبي سعيد قال : ( انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بصلاة العشاء حتى ذهب نحو من شطر الليل قال : فجاء فصلى بنا ثم قال : خذوا مقاعدكم فإن الناس قد أخذوا مضاجعهم وإنكم لم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه من حديثه والنسائي وابن خزيمة وغيرهم وإسناده صحيح
قوله ( ليلة ) فيه إشعار بأنه لم يكن يواظب على ذلك
قوله ( شطر الليل ) الشطر نصف الشيء وجزؤه ومنه حديث الإسراء فوضع شطرها أي بعضها قاله في القاموس
قوله ( ولولا ضعف الضعيف ) هذا تصريح بأفضلية التأخير لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة
والحديث من حجج من قال بأن التأخير أفضل وقد تقدم الخلاف في ذلك
قال المصنف رحمه الله : قلت قد ثبت تأخيرها إلى شطر الليل عنه عليه السلام قولا وفعلا وهو يثبت زيادة على أخبار ثلث الليل والأخذ بالزيادة أولى اه . وهذا صحيح قد أسلفنا ذكره

باب كراهية النوم قبلها والسمر بعدها إلا في مصلحة

1 - عن أبي برزة الأسلمي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها )
- رواه الجماعة

- وفي الباب عن عائشة عند ابن حبان وعن أنس أشار إليه الترمذي . وعن ابن عباس رواه القاضي أبو الطاهر الدهلي وعن ابن مسعود وسيأتي . قال الترمذي : وقد كره أكثر أهل العلم النوم قبل صلاة العشاء ورخص في ذلك بعضهم وقال ابن المبارك : أكثر الأحاديث [ ص 416 ] على الكراهة ورخص بعضهم في النوم قبل صلاة العشاء في رمضان
قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وقد كرهه جماعة وأغلظوا فيه منهم ابن عمر وعمر وابن عباس وإليه ذهب مالك ورخص فيه بعضهم منهم علي عليه السلام وأبو موسى وهو مذهب الكوفيين وشرط بعضهم أن يجعل معه من يوقظه لصلاتها وروي عن ابن عمر مثله وإليه ذهب الطحاوي . وقال ابن العربي : إن ذلك جائز لمن علم من نفسه اليقظة قبل خروج الوقت بعادة أو يكون معه من يوقظه والعلة في الكراهة قبلها لئلا يذهب النوم بصاحبه ويستغرقه فتفوته أو يفوته فضل وقتها المستحب أو يترخص في ذلك الناس فيناموا عن إقامة جماعتها
احتج من قال بالكراهة بحديث الباب وما بعده
واحتج من قال بالجواز بدون كراهة بما أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتم بالعشاء حتى ناداه عمر نام النساء والصبيان ) ولم ينكر عليهم وبحديث ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شغل عنها ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) الحديث ولم ينكر عليهم . قال ابن سيد الناس : وما أرى هذا من هذا الباب ولا نعاسهم في المسجد وهم في انتظار الصلاة من النوم المنهي عنه وإنما هو من السنة التي هي مبادي النوم كما قال :
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في جفنه سنة وليس بنائم
وقد أشار الحافظ في الفتح إلى الفرق بين هذا النوم والنوم المنهي عنه
قوله ( والحديث بعدها ) سيأتي الخلاف في ذلك

2 - وعن ابن مسعود قال : ( جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السمر بعد العشاء )
- رواه ابن ماجه وقال : جدب يعني زجرنا عنه نهانا عنه

- الحديث رجاله في سنن ابن ماجه رجال الصحيح وقد أشار إليه الترمذي وذكره الحافظ ابن سيد الناس في شرح الترمذي ولم يتعقبه بما يوجب ضعفا
وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود نحوه من وجه آخر بلفظ : ( لا سمر بعد الصلاة يعني العشاء الآخرة إلا لأحد رجلين مصل أو مسافر ) ورواه الحافظ ضياء الدين المقدسي في الأحكام من حديث عائشة مرفوعا بلفظ : ( لا سمر إلا لثلاثة مصل أو مسافر أو عروس )
قوله ( جدب ) هو بجيم فدال مهملة مفتوحتين فباء كمع وزنا ومعنى . ومنه [ ص 417 ] سنة مجدبة أي ممنوعة الخير
والحديث يدل على كراهة السمر بعد العشاء وسيأتي الخلاف في ذلك

3 - وعن عمر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمر المسلمين وأنا معه )
- رواه أحمد والترمذي

- الحديث حسنه الترمذي أيضا وأخرجه النسائي ورجاله رجال الصحيح وإنما قصر به عن التصحيح الانقطاع الذي فيه بين علقمة وعمر
وفي الباب عن عبد الله بن عمر عند البخاري ومسلم وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث أبي برزة وعن أوس بن حذيفة أشار إليه الترمذي . وعن ابن عباس وسيأتي
الحديث استدل به على عدم كراهة السمر بعد العشاء لحاجة قال الترمذي : وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد العشاء فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء ورخص بعضهم إذا كان في معنى العلم وما لا بد منه من الحوائج وأكثر الحديث على الرخصة . وهذا الحديث يدل على عدم كراهة السمر بعد العشاء إذا كان لحاجة دينية عامة أو خاصة وحديث أبي برزة وابن مسعود وغيرهما على الكراهة . أو طريقة الجمع بينها بأن توجه أحاديث المنع إلى الكلام الذي ليس فيه فائدة تعود على صاحبه وأحاديث الجواز إلى ما فيه فائدة تعود على المتكلم أو يقال دليل كراهة الكلام والسمر بعد العشاء عام مخصص بدليل جواز الكلام والسمر بعدها في الأمور العائدة إلى مصالح المسلمين
قال النووي : واتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير . قيل : وعلة الكراهة ما يؤدي إليه السهر من مخافة غلبة النوم آخر الليل عن القيام لصلاة الصبح في جماعة أو الإتيان بها في وقت الفضيلة والاختيار أو القيام للورد من صلاة أو قراءة في حق من عادته ذلك ولا أقل لمن أمن من ذلك من الكسل بالنهار عما يجب من الحقوق فيه والطاعات

4 - وعن ابن عباس قال : ( رقدت في بيت ميمونة ليلة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندها لأنظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل قال : فتحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ثم رقد ) وساق الحديث
- رواه مسلم

- الحديث استدل به من قال بجواز السمر مطلقا لأن التحدث الواقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقيد بما فيه طاعة ولا بأس بتقييده بما فيه طاعة جمعا بين الأدلة كما [ ص 418 ] سبق على أنه يمكن أن يكون وقوع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الجواز وللإشعار بالمنع من حمل الأدلة القاضية بمنع السمر على التحريم ويمكن أن يقال إن العلة التي ذكرناها للكراهة منتفية في حقه صلى الله عليه وآله وسلم لا منه من غلبة النوم وعروض الكسل ويجاب بمنع أمنه من غلبة النوم مسندا بنومه في الوادي وأما أمنه من عروض الكسل فمسلم إن لم يكن ذلك من الأمور العارضة لطبيعة الإنسان الخارجة عن الاختيار

باب تسميتها بالعشاء والعتمة

1 - عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا )
- متفق عليه . زاد أحمد في روايته عن عبد الرزاق : ( فقلت لمالك : أما تكره أن تقول العتمة قال : هكذا قال الذي حدثني )

- قوله ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ) أي من مزيد الفضل وكثرة الأجر
قوله ( لأتوهما ) أي لأتوا المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد
قوله ( ولو حبوا ) أي زحفا إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير . ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ( ولو حبوا على المرافق والركب )
الحديث يدل على استحباب القيام بوظيفة الأذان والملازمة للصف الأول والمسارعة إلى جماعة العشاء والفجر وسيأتي الكلام على ذلك ويدل على جواز تسمية العشاء بالعتمة وقد ورد من حديث عائشة عند البخاري بلفظ : ( أعتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعتمة ) ومن حديث جابر عند البخاري أيضا بلفظ : ( صلى لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة صلاة العشاء وهي التي تدعو الناس العتمة ) ومن حديث غيرهما أيضا
وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث ابن عمر الآتي فقال النووي وغيره : الجواب عن حديث أبي هريرة من وجهين :
أحدهما إنه استعمل لبيان الجواز وإن انتهى عن العتمة للتنزيه لا للتحريم
والثاني إنه يحتمل أنه خوطب بالعتمة من لا يعرف العشاء فخوطب بما يعرفه [ ص 419 ] أو استعمل لفظ العتمة لأنه أشهر عند العرب وإنما كانوا يطلقون العشاء على المغرب كما في صحيح البخاري ومسلم بلفظ : ( لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال : والأعراب تقول هي العشاء ) وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه . وقيل إن النهي عن التسمية العتمة عتمة ناسخ للجواز وفيه إنه يحتاج في مثل ذلك إلى معرفة التاريخ والعلم بتأخر حديث المنع
قال الحافظ في الفتح : ولا يبعد أن ذلك كان جائزا فلما كثر إطلاقهم له نهوا عنه لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية ومع ذلك فلا يحرم ذلك بدليل أن الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة وأما استعمالها في مثل حديث أبي هريرة فلدفع الالتباس بالمغرب والله أعلم اه

2 - وعن ابن عمر قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه . وفي رواية لمسلم : ( لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل )

- الحديث أخرج نحوه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن قاله الحافظ . وأخرج نحوه أيضا البيهقي وأبو يعلى من حديث عبد الرحمن بن عوف كذلك زاد الشافعي في روايته في حديث ابن عمر وكان ابن عمر إذا سمعهم يقولون العتمة صاح وغضب . وأخرج عبد الرزاق هذا الموقوف من وجه آخر . وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال له ميمون بن مهران : من أول من سمى العشاء العتمة قال : الشيطان
والحديث يدل على كراهة تسمية العشاء بالعتمة وقد ذهب إلى ذلك ابن عمر وجماعة من السلف ومنهم من قال بالجواز وقد نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق وغيره ومنهم من جعله خلاف الأولى وقد نقله ابن المنذر عن مالك والشافعي واختاره
قال الحافظ : وهو الراجح واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة المتقدم وقد تقرر أن جواز المصير إلى الترجيح مشروط بتعذر الجمع ولم يتعذر ههنا كما عرفت في شرح الحديث الأول
قوله ( يعتمون ) قد تقدم تفسير ذلك في باب وقت صلاة العشاء

باب وقت صلاة الفجر وما جاء في التغليس بها والإسفار . [ ص 420 ]

- قد تقدم بيان وقتها في غير حديث

1 - وعن عائشة قالت : ( كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس )
- رواه الجماعة . وللبخاري ( ولا يعرف بعضهن بعضا )

- قوله ( نساء المؤمنات ) صورته صورة إضافة الشيء إلى نفسه واختلف في تأويله وتقديره : فقيل تقديره نساء الأنفس المؤمنات وقيل نساء الجماعات المؤمنات وقيل إن نساء هنا بمعنى الفاضلات أي فاضلات المؤمنات كما يقال رجال القوم أي فضلاؤهم ومقدموهم
وقوله ( كن ) قال الكرماني : هو مثل أكلوني البراغيث لأن قياسه الإفراد وقد جمع
قوله ( متلفعات ) هو بالعين المهملة بعد الفاء أي متجللات ومتلففات . والمروط جمع مرط بكسر الميم الأكسية المعلمة من خز أو صوف أو غير ذلك
قوله ( لا يعرفهن أحد ) قال الداودي : معناه ما يعرفن أنساء هن أم رجال . وقيل لا يعرف أعيانهن قال النووي : وهذا ضعيف لأن المتلفعة في النهار أيضا لا يعرف عنها فلا يبقى في الكلام فائدة وتعقب بأن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان ولو كان المراد الأول لعبر عنه نفي العلم
قال الحافظ : وما ذكره من أن المتلفعة بالنهار لا يعرف عينها فيه نظر لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب ولو كان بدنها مغطى . قال الباجي : وهذا يدل على أنهن كن سافرات ( 1 ) إذ لو كن متقنعات لكان المانع من المعرفة تغطيتهن لا التغليس
قوله ( من الغلس ) من ابتدائية أو تعليلية ولا معارضة بين هذا وبين حديث أبي برزة إنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفعة على بعد وذاك إخبار عن رؤية الجليس
والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة الفجر في أول الوقت وقد اختلف العلماء في ذلك فذهبت العترة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والأوزاعي وداود بن علي وأبو جعفر الطبري وهو المروي عن عمر وعثمان وابن الزبير وأنس وأبي موسى وأبي هريرة إلى أن التغليس أفضل وأن الإسفار غير مندوب
وحكى هذا القول الحازمي عن بقية الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأبي مسعود الأنصاري وأهل الحجاز واحتجوا بالأحاديث [ ص 421 ] المذكورة في هذا الباب وغيرها ولتصريح أبي مسعود في الحديث الآتي بأنها كانت صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التغليس حتى مات ولم يعد إلى الإسفار . وذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وأكثر العراقيين وهو مروي عن علي عليه السلام وابن مسعود إلى أن الإسفار أفضل
واحتجوا بحديث ( أسفروا بالفجر ) وسيأتي ونحوه . وقد أجاب القائلون بالتغليس عن أحاديث الإسفار بأجوبة : منها أن الإسفار التبين والتحقق فليس المراد إلا تبين الفجر وتحقق طلوعه ورد بما أخرجه ابن أبي شيبة وإسحاق وغيرهما بلفظ : ( ثوب بصلاة الصبح يا بلال حين يبصر القوم مواقع نبلهم من الإسفار ) ومنها أن الأمر بالإسفار في الليالي المقمرة فإنه لا يتحقق فيها الفجر إلا بالاستظهار في الإسفار . وذكر الخطابي إنه يحتمل أنهم لما أمروا بالتعجيل صلوا بين الفجر الأول والثاني طلبا للثواب فقيل لهم صلوا بعد الفجر الثاني وأصبحوا بها فإنه أعظم لأجركم فإن قيل لو صلوا قبل الفجر لم يكن فيها أجر فالجواب إنهم يؤجرون على نيتهم وإن لم تصح صلاتهم لقوله إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر . وقال أبو جعفر الطحاوي : إنما يتفق معاني آثار هذا الباب بأن يكون دخوله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الصبح مغلسا ثم يطيل القراءة حتى ينصرف عنها مسفرا وهذا خلاف قول عائشة لأنها حكت أن انصراف النساء كان وهن لا يعرفن من الغلس ولو قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسور الطوال ما انصرف إلا وهم قد أسفروا ودخلوا في الإسفار جدا ألا ترى إلى أبي بكر رضي الله عنه حين قرأ البقرة في ركعتي الصبح قيل له كادت الشمس تطلع فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين
_________
( 1 ) وفيه نظر إذ معنى لا يعرفن لا يميزن من الرجال لسواد الليل وحلوكه فلا يدل على ما ذكر بل الأخبار ترده

2 - وعن أبي مسعود الأنصاري : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر )
- رواه أبو داود

- الحديث رجاله في سنن أبي داود رجال الصحيح وأصله في الصحيحين والنسائي وابن ماجه ولفظه : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر حين تزول الشمس وربما أخرها حين اشتد الحر ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة [ ص 422 ] بيضاء قبل أن تدخلها الصفرة فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس ويصلي المغرب حين تسقط الشمس ويصلي العشاء حين يسود الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس وصلى الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر ) ولم يذكر رؤيته لصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أبو داود قال المنذري : وهذه الزيادة في قصة الإسفار رواتها عن آخرهم ثقات والزيادة من الثقة مقبولة اه . وقال الخطابي : هو صحيح الإسناد وقال ابن سيد الناس : إسناده حسن
قوله ( فأسفر بها ) قال في القاموس : سفر الصبح يسفر أضاء وأشرق اه . والغلس بقايا الظلام وقد مر تفسيره
والحديث يدل على استحباب التغليس وأنه أفضل من الإسفار ولولا ذلك لما لازمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات وبذلك احتج من قال باستحباب التغليس وقد مر ذكر الخلاف في ذلك وكيفية الجمع بين الأحاديث

3 - وعن أنس عن زيد بن ثابت قال : ( تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت : كم كان مقدار ما بينهما قال : قدر خمسين آية )
- متفق عليه

- الحديث أخرجه ابن حبان والنسائي عن أنس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أنس إني أريد الطعام أطعمني شيئا فجئته بتمر وإناء فيه ماء وذلك بعد ما أذن بلال قال : يا أنس انظر رجلا يأكل معي فدعوت زيد بن ثابت فجاء فتسحر معه ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج إلى الصلاة )
الحديث يدل أيضا على استحباب التغليس وأن أول وقت الصبح طلوع الفجر لأنه الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة وهي قراءة الخمسين آية هي مقدار الوضوء فأشعر ذلك بأن أول وقت الصبح أول ما يطلع الفجر

4 - عن رافع بن خديج قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر )
- رواه الخمسة وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني قال الحافظ في الفتح : وصححه غير واحد قال : وأبعد من زعم أنه ناسخ للصلاة في الغلس وقد احتج به من قال بمشروعية الإسفار وقد تقدم الكلام عليه وعلى الجمع بينه وبين أحاديث التغليس وقد تقرر في [ ص 423 ] الأصول أن الخطاب الخاص بنا لا يعارضه فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأمر بالإسفار لا يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا على طريق النصوصية ولا الظهور فملازمته للتغليس وموته عليه لا تقدح في مشروعية الإسفار للأمة لولا أنه فعل ذلك وفعله معه الصحابة لكان ذلك مشعرا بعدم الاختصاص به فلا بد من المصير إلى التأويل كما سبق

5 - وعن ابن مسعود قال : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها )
- متفق عليه . ولمسلم : ( قبل وقتها بغلس ) ولأحمد والبخاري عن عبد الرحمن بن يزيد قال : ( خرجت مع عبد الله فقدمنا جمعا فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة وتعشى بينهما ثم صلى حين طلع الفجر . قائل يقول طلع الفجر وقائل يقول لم يطلع ثم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب والعشاء ولا يقدم الناس جمعا حتى يعتموا وصلاة الفجر هذه الساعة )

- قوله ( بجمع ) بجيم مفتوحة فميم ساكنة فعين مهملة وهي المزدلفة ويوم جمع يوم عرفة وأيام جمع أيام منى أفاده القاموس . وإنما سميت المزدلفة جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها
وروي عن قتادة أنه قال : إنما سميت جمعا لأنه يجمع فيها بين الصلاتين وقيل وصفت بفعل أهلها لأنهم يجتمعون بها ويزدلفون إلى الله أي يتقربون إليه بالوقوف فيها وقيل غير ذلك
قوله ( حتى يعتموا ) أي يدخلوا في العتمة وقد تقدم بيانها وتمام حديث ابن مسعود في البخاري بعد قوله وصلاة الفجر هذه الساعة ثم وقف حتى أسفر ثم قال يعني ابن مسعود : لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر انتهى
والحديث استدل به من قال باستحباب الإسفار لأن قوله قبل ميقاتها قد بين في رواية مسلم أنه في وقت الغلس فدل على أن ذلك الوقت أعني وقت الغلس متقدم على ميقات الصلاة المعروف عند ابن مسعود فيكون ميقاتها المعهود هو الإسفار لأنه الذي يتعقب الغلس فيصلح ذلك للاحتجاج به على الإسفار وقد تقدم الكلام على ذلك

6 - وعن أبي الربيع قال : ( كنت مع ابن عمر فقلت له : إني أصلي معك ثم ألتفت فلا أرى وجه جليسي ثم أحيانا تسفر فقال : كذلك رأيت رسول الله صلى الله [ ص 424 ] عليه وآله وسلم يصلي وأحببت أن أصليها كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصليها )
- رواه أحمد

- الحديث في إسناده أبو الربيع المذكور . قال الدارقطني : مجهول وهو من جملة ما تمسك به القائلون باستحباب الإسفار لأن ابن عمر كان يسفر بعد موته صلى الله عليه و سلم فلو كان منسوخا لما فعله ولا يخفاك أن غاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان أحيانا يغلس وأحيانا يسفر وهذا لا يدل على أن الإسفار أفضل من التغليس إنما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل الأمرين وذلك مما لا نزاع فيه إنما النزاع في الأفضل وفعل ابن عمر لا يدل على عدم النسخ المتنازع فيه وهو نسخ الفضيلة لما سلف إنما يدل على عدم نسخ الجواز وذلك أمر متفق عليه

7 - وعن معاذ بن جبل قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقال : يا معاذ إذا كان في الشتاء فغلس بالفجر وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم وإذا كان الصيف فأسفر بالفجر فإن الليل قصير والناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوا )
- رواه الحسين بن مسعود البغوي في شرح السنة وأخرجه بقي بن مخلد في مسنده المصنف

- الحديث أخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية كما قال السيوطي في الجامع الكبير وفيه التفرقة بين زمان الشتاء والصيف في الإسفار والتغليس معللا بتلك العلة المذكورة في الحديث ولكنه لا يعارض أحاديث التغليس لما في حديث أبي مسعود السابق من التصريح بملازمته صلى الله عليه وآله وسلم للتغليس حتى مات فكان آخر الأمرين منه وهذا الحديث ظاهر في التقدم لما فيه من التاريخ بخروج معاذ إلى اليمن فلا بد من تأويله بما تقدم

باب بيان أن من أدرك بعض الصلاة في الوقت فإنه يتمها ووجوب المحافظة على الوقت

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر [ ص 425 ] قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر )
- رواه الجماعة وللبخاري : ( إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته )

2 - وعن عائشة قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه . والسجدة هنا الركعة

- قوله ( فقد أدرك ) قال النووي : أجمع المسلمون على أن هذا ليس على ظاهره وأنه لا يكون بالركعة مدركا لكل الصلاة وتكفيه وتحصل الصلاة بهذه الركعة بل هو متأول وفيه إضمار تقديره فقد أدرك حكم الصلاة أو وجوبها أو فضلها انتهى . وقيل يحمل على أنه أدرك الوقت
قال الحافظ : وهذا قول الجمهور وفي رواية من حديث أبي هريرة : ( من صلى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس وصلى ما بقي بعد غروب الشمس لم تفته العصر ) وقال مثل ذلك في الصبح
وفي رواية للبخاري من حديث أبي هريرة أيضا : ( فليتم صلاته ) وللنسائي : ( فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته ) وللبيهقي : ( فليصل إليها أخرى ) ويؤخذ من هذا الرد على الطحاوي حيث خص الإدراك باحتلام الصبي وطهر الحائض وإسلام الكافر ونحو ذلك وأراد بذلك نصرة مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة وهو مبني على أن الكراهة تتناول الفرض والنفل وهي خلافية مشهورة قال الترمذي : وبهذا يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وخالف أبو حنيفة فقال : من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته واحتج في ذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وادعى بعضهم أن أحاديث النهي ناسخة لهذا الحديث
قال الحافظ : وهي دعوى تحتاج إلى دليل وأنه لا يصار إلى النسخ بالاحتمال والجمع بين الحديثين ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل انتهى . قلت : وهذا أيضا جمع بما يوافق مذهب الحافظ والحق أن أحاديث النهي عامة تشمل كل صلاة وهذا الحديث خاص فيبنى العام على الخاص ولا يجوز في ذلك الوقت شيء من الصلوات إلا بدليل يخصه سواء كان من ذوات الأسباب أو غيرها ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركا للوقت وأن صلاته تكون قضاء وإليه ذهب الجمهور وقال البعض : أداء
والحديث [ ص 426 ] يرده واختلفوا إذا أدرك من لا تجب عليه الصلاة كالحائض تطهر والمجنون يعقل والمغمى عليه يفيق والكافر يسلم دون ركعة من وقتها هل تجب عليه الصلاة أم لا وفيه قولان للشافعي أحدهما لا تجب وروي عن مالك عملا بمفهوم الحديث وأصحهما عن أصحاب الشافعي أنها تلزمه وبه قال أبو حنيفة لأنه أدرك جزءا من الوقت فاستوى قليله وكثيره وأجابوا عن مفهوم الحديث بأن التقييد بركعة خرج مخرج الغالب ولا يخفى ما فيه من البعد وأما إذا أدرك أحد هؤلاء ركعة وجبت عليه الصلاة بالاتفاق بينهم ومقدار هذه الركعة قدر ما يكبر ويقرأ أم القرآن ويركع ويرفع ويسجد سجدتين
والحديث يدل على أن الصلاة التي أدركت منها ركعة قبل خروج الوقت أداء لا قضاء وفي ذلك إشكالات عند أئمة الأصول
قوله ( سجدة ) المراد بها الركعة كما ذكره المصنف ومسلم في صحيحه وقد ثبت عند الإسماعيلي بلفظ ركعة مكان سجدة فدل على أن الاختلاف في اللفظ وقع من الرواة وقد ثبت أيضا عند البخاري من طريق مالك بلفظ : ( من أدرك ركعة ) قال الحافظ : ولم يختلف على راويها في ذلك فكان عليها الاعتماد قال الخطابي : المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها والركعة إنما يكون تمامها بسجودها فسميت على هذا سجدة انتهى . وإدراك الركعة قبل خروج الوقت لا يخص صلاة الفجر والعصر لما ثبت عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) وهو أعم من حديث الباب . قال الحافظ : ويحتمل أن تكون اللام عهدية ويؤيده أن كلا منهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة وهذا مطلق وذاك يعني حديث الباب مقيد فيحمل المطلق على المقيد انتهى
ويمكن أن يقال إن حديث الباب دل بمفهومه على اختصاص ذلك الحكم بالفجر والعصر وهذا الحديث دل بمنطوقه على أن حكم جميع الصلوات لا يختلف في ذلك والمنطوق أرجح من المفهوم فيتعين المصير إليه ولاشتماله على الزيادة التي ليست منافية للمزيد
قال النووي : وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت انتهى . وقد قدمنا الكلام على اختصاص هذا الوقت بالمضطرين في أوائل الأوقات فارجع إليه

3 - وعن أبي ذر : ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة أو يؤخرون الصلاة عن وقتها قلت : فما تأمرني قال : صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة ) في رواية ( فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل ) وفي أخرى ( فإن أدركتك يعني الصلاة معهم [ ص 427 ] فصل ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي

- قوله ( يميتون الصلاة ) أي يؤخرونها فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه والمراد بتأخيرها عن وقتها المختار لا عن جميع وقتها فإن المنقول عن الأمراء المتقدمين والمتأخرين إنما هو تأخيرها عن وقتها المختار ولم يؤخرها أحد منهم عن جميع وقتها فوجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع
قوله ( فإن أدركتها ) الخ معناه صل في أول الوقت وتصرف في شغلك فإن صادفتهم بعد ذلك وقد صلوا أجزأتك صلاتك وإن أدركت الصلاة معهم فصل معهم وتكون هذه الثانية لك نافلة
الحديث يدل على مشروعية الصلاة لوقتها وترك الإقتداء بالأمراء إذا أخروها عن أول وقتها وإن المؤتم يصليها منفردا ثم يصليها مع الإمام فيجمع بين فضيلة أول الوقت وطاعة الأمير
ويدل على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية لئلا تتفرق الكلمة وتقع الفتنة ولهذا ورد في الرواية الأخرى ( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف )
وقوله ( فإنها لك نافلة ) صريح أن الفريضة الأولى والنافلة الثانية . وقد اختلف في الصلاة التي تصلى مرتين هل الفريضة الأولى أو الثانية فذهب الهادي والأوزاعي وبعض أصحاب الشافعي إلى أن الفريضة الثانية إن كانت في جماعة والأولى في غير جماعة وذهب المؤيد بالله والإمام يحيى وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن الفريضة الأولى وعن بعض أصحاب الشافعي أن الفرض أكملهما
وعن بعض أصحاب الشافعي أيضا أن الفرض أحدهما على الإبهام فيحتسب الله بأيتهما شاء . وعن الشعبي وبعض أصحاب الشافعي أيضا كلاهما فريضة
( احتج الأولون ) بحديث يزيد بن عامر عند أبي داود مرفوعا وفيه : ( فإذا جئت الصلاة فوجدت الناس يصلون فصل معهم وإن كنت صليت ولتكن لك نافلة ) وهذه مكتوبة . ورواه الدارقطني بلفظ : ( وليجعل التي صلى في بيته نافلة ) وأجيب بأنها رواية شاذة مخالفة لرواية الحفاظ الثقات كما قال البيهقي وقد ضعفها النووي وقال الدارقطني : هي رواية ضعيفة شاذة
واستدل القائلون بأن الفريضة هي الأولى سواء كانت جماعة أو فرادى بحديث يزيد بن الأسود عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم وصححه ابن السكن بلفظ : ( شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته فصليت معه الصبح في مسجد الخيف فلما قضى صلاته وانحرف إذ هو برجلين [ ص 428 ] في آخر القوم لم يصليا معه فقال : علي بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما قال : ما منعكما أن تصليا معنا فقالا : يا رسول الله إنا كنا صلينا في رحالنا قال : فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) قال الشافعي في القديم : إسناده مجهول لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه ولا لابنه جابر راو غير يعلى . قال الحافظ : يعلى من رجال مسلم وجابر وثقه النسائي وغيره وقال : وقد وجدنا لجابر راويا غير يعلى أخرجه ابن منده في المعرفة
ومن حجج أهل القول الثاني حديث الباب فإنه صريح في المطلوب ولأن تأدية الثانية بنية الفريضة يستلزم أن يصلي في يوم مرتين وقد ورد النهي عنه من حديث ابن عمر مرفوعا : ( لا تصلوا صلاة في يوم مرتين ) عند أبي داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان . وأما جعله مخصصا بما يحدث فيه فضيلة فدعوى عاطلة عن البرهان وكذا حمله على التكرير لغير عذر
وفي الحديث دليل على أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر وسائر الصلوات لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطلق الأمر بالإعادة ولم يفرق بين صلاة وصلاة فيكون مخصصا لحديث لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر ولأصحاب الشافعي وجه أنه لا يعيد الصبح والعصر تمسكا بعموم حديث ( لا صلاة ) ووجه أنه لا يعيد بعد المغرب لئلا تصير شفعا
قال النووي : وهو ضعيف . قلت : وكذلك الوجه الأول لأن الخاص مقدم على العام وهم يوجبون بناء العام على الخاص مطلقا كما تقرر في الأصول لهم واحتج من قال بأنهما فريضة بعدم المخصص بالاعتداد بأحدهما ورد بحديث : ( لا ظهران في يوم ) وحديث : ( لا تصلى صلاة في يوم مرتين )

4 - وعن عبادة بن الصامت : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ستكون عليكم بعدي أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها فصلوا الصلاة لوقتها فقال رجل : يا رسول الله أصلي معهم فقال : نعم إن شئت )
- رواه أبو داود وأحمد بنحوه . وفي لفظ : ( واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا )

- الحديث رجال إسناده في سنن أبي داود ثقات وقد أخرجه أيضا ابن ماجه وسكت أبو داود والمنذري عن الكلام عليه وقد عرفت ما أسلفناه عن ابن الصلاح والنووي وغيرهما من صلاحية ما سكت عنه أبو داود للاحتجاج
وحديث أبي ذر الذي قبله يشهد لصحته . وفيه دليل على وجوب تأدية الصلاة لوقتها وترك ما عليه أمراء الجور من التأخير وعلى استحباب الصلاة معهم لأن الترك من دواعي الفرقة وعدم الوجوب لقوله [ ص 429 ] في هذا الحديث : ( إن شئت ) وقوله : ( تطوعا ) وقد تقدم الكلام على فقه الحديث قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه دليل لمن رأى المعادة نافلة ولمن لم يكفر تارك الصلاة ولمن أجاز إمامة الفاسق انتهى
استنبط المؤلف من هذا الحديث والذي قبله ثلاثة أحكام وقد تقدم الكلام على الأول منها في شرح حديث أبي ذر وعلى الثاني في أول كتاب الصلاة وأما الثالث فلعله يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في الجماعة . والحق جواز الائتمام بالفاسق لأن الأحاديث الدالة على المنع كحديث : ( لا يؤمنكم ذو جراءة في دينه ) وحديث : ( لا يؤمن فاجر مؤمنا ) ونحوهما ضعيفة لا تقوم بها حجة وكذلك الأحاديث الدالة على جواز الائتمام بالفاسق كحديث : ( صلوا مع من قال لا إله إلا الله ) وحديث : ( صلوا خلف كل بر وفاجر ) ونحوهما ضعيفة أيضا ولكنها متأيدة بما هو الأصل الأصيل وهو أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره فلا تنتقل عن هذا الأصل إلى غيره إلا لدليل ناهض وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة وليس المقام مقام بسط الكلام في ذلك

[ تابع كتاب الصلاة ]

باب قضاء الفوائت . [ ص 2 ]

بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 - عن أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك )
- متفق عليه

- ولمسلم : ( إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز و جل يقول { أقم الصلاة لذكري } )

2 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول { أقم الصلاة لذكري } )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

- قوله ( من نسي ) تمسك بدليل الخطاب من قال إن العامد لا يقضي الصلاة لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فيلزم منه إن من لم ينس لا يصلي وإلى ذلك ذهب داود وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي وحكاه في البحر عن ابني الهادي والأستاذ ورواية عن القاسم والناصر : قال ابن تيمية حفيد المصنف : والمنازعون لهم ليس لهم حجة قط يرد إليها عند التنازع وأكثرهم يقولون لا يجب القضاء إلا بأمر جديد وليس معهم هنا أمر ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها وأطال البحث في ذلك واختار ما ذكره داود ومن معه والأمر كما ذكره فإني لم أقف مع البحث الشديد للموجبين للقضاء على العامد وهم من عدا من ذكرنا على دليل ينفق في سوق المناظرة ويصلح للتعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم إلا حديث ( فدين الله أحق أن يقضى ) باعتبار ما يقتضيه اسم الجنس المضاف من العموم ( 1 ) ولكنهم لم يرفعوا إليه رأسا وأنهض ما جاؤوا به في هذا المقام قولهم إن الأحاديث الواردة بوجوب القضاء على الناسي يستفاد من مفهوم خطابها وجوب القضاء على العامد لأنها من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فتدل بفحوى الخطاب وقياس الأولى على المطلوب وهذا مردود لأن القائل بأن العامد لا يقضي لم يرد أنه أخف حالا من [ ص 3 ] الناسي بل صرح بأن المانع من وجوب القضاء على العامد أنه لا يسقط الإثم عنه فلا فائدة فيه فيكون إثباته مع عدم النص عبثا بخلاف الناسي والنائم فقد أمرهما الشارع بذلك وصرح بأن القضاء كفارة لهما لا كفارة لهما سواه ومن جملة حججهم أن قوله في الحديث ( لا كفارة لها إلا ذلك ) يدل على العامد مراد بالحديث لأن النائم والناسي لا إثم عليهما قالوا : فالمراد بالناسي التارك سواء كان عن ذهول أم لا ومنه قوله تعالى { نسوا الله فنسيهم } وقوله تعالى { نسوا الله فأنساهم أنفسهم } ولا يخفى عليك أن هذا الكلام يستلزم عدم وجوب القضاء على الناسي والنائم لعدم الإثم الذي جعلوا الكفارة منوطة به والأحاديث الصحيحة قد صرحت بوجوب ذلك عليهما وقد استضعف الحافظ في الفتح هذا الاستدلال وقال : الكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد على أنه قد قيل أن المراد بالكفارة هي الإتيان بها تنبيها على أنه لا يكفي مجرد التوبة والاستغفار من دون فعل لها . وقد أنصف ابن دقيق العيد فرد جميع ما تشبثوا به والمحتاج إلى إمعان النظر ما ذكرنا لك سابقا من عموم حديث ( فدين الله أحق أن يقضى ) لا سيما على قول من قال : إن وجوب القضاء بدليل هو الخطاب الأول الدال على وجوب الأداء فليس عنده في وجوب القضاء على العامد فيما نحن بصدده تردد لأنه يقول المتعمد للترك قد خوطب بالصلاة ووجب عليه تأديتها فصارت دينا عليه والدين لا يسقط إلا بأدائه إذا عرفت هذا علمت أن المقام من المضايق وأن قول النووي في شرح مسلم بعد حكاية قول من قال لا يجب القضاء على العامد أنه خطأ من قائله وجهالة من الإفراط المذموم . وكذلك قول المقبلي في المنار أن باب القضاء ركب على غير أساس ليس فيه كتاب ولا سنة إلى آخر كلامه من التفريط
قوله ( لا كفارة لها إلا ذلك ) استدل بالحصر الواقع في هذه العبارة على الاكتفاء بفعل الصلاة عند ذكرها وعدم وجوب إعادتها عند حضور وقتها من اليوم الثاني وسيأتي الكلام على ذلك عند الكلام على حديث عمران بن حصين من آخر هذا الباب . والأمر بفعلها عند الذكر يدل على وجوب المبادرة بها فيكون حجة لمذهب من قال بوجوبه على الفور وهو الهادي والمؤيد بالله والناصر وأبو حنيفة وأبو يوسف والمزني والكرخي . وقال القاسم ومالك والشافعي : وروي عن المؤيد بالله أنه على التراخي واستدلوا في قضاء الصلاة بما في بعض الروايات حديث نوم الوادي من أنه لما استيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فوات الصلاة بالنوم [ ص 4 ] أخر قضائها واقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي ورد بأن التأخير لمانع آخر وهو ما دل عليه الحديث بأن ذلك الوادي كان به شيطان ولأهل القول الأول حجج غير مختصة بقضاء الصلاة وكذلك أهل القول الآخر . واعلم أن الصلاة المتروكة في وقتها لعذر النوم والنسيان لا يكون فعلها بعد خروج وقتها المقدر لها لهذا العذر قضاء وإن لزم باصطلاح الأصول لكن الظاهر من الأدلة أنها أداء لا قضاء فالواجب الوقوف عند مقتضى الأدلة حتى ينتهض دليل يدل على القضاء . والحديثان يدلان على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان وهو إجماع
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث أبي هريرة : وفيه أن الفوائت يجب قضاؤها على الفور وأنها تقضى في أوقات النهي وغيرها وأن من مات وعليه صلاة فإنها لا تقضى عنه ولا يطعم عنه لها لقوله ( لا كفارة لها إلا ذلك ) وفيه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخه انتهى
_________
( 1 ) وأيضا عمومات الأدلة القاضية بالقضاء على من أفطر في رمضان وغير ذلك ولا فرق بين الصلاة والصيام في الوجوب على أن الصلاة لا تسقط بخلاف الصيام فهي أولى بالقضاء

3 - وعن أبي قتادة قال : ( ذكروا للنبي صلى الله عليه و سلم نومهم عن الصلاة فقال : إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها )
- رواه النسائي والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود من حديثه . قال الحافظ : وإسناده على شرط مسلم ورواه مسلم بنحوه في قصة نومهم في صلاة الفجر ولفظه : ( ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حتى ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها ) الحديث يدل على أن النائم ليس بمكلف حال نومه وهو إجماع ولا ينافيه إيجاب الضمان عليه لما أتلفه وإلزامه أرش ما جناه لأن ذلك من الأحكام الوضعية لا التكليفية وأحكام الوضع تلزم النائم والصبي والمجنون بالاتفاق
وظاهر الحديث أنه لا تفريط في النوم سواء كان قبل دخول وقت الصلاة أو بعده قبل تضيقه . وقيل إنه إذا تعمد النوم قبل تضيق الوقت واتخذ ذلك ذريعة إلى ترك الصلاة لغلبة ظنه أنه لا يستيقظ إلا وقد خرج الوقت كان آثما والظاهر أنه لا إثم عليه بالنظر إلى النوم لأنه فعله في وقت يباح فعله فيه فيشمله الحديث وأما إذا نظر إلى التسبب به للترك فلا إشكال في العصيان بذلك ولا شك في إثم من نام بعد تضيق الوقت لتعلق الخطاب به والنوم مانع من الامتثال والواجب إزالة المانع [ ص 5 ] وقد تقدم الكلام على قوله في الحديث ( فإذا نسي أحدكم صلاة ) الخ

4 - وعن أبي قتادة في قصة نومهم عن صلاة الفجر قال : ( ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتين ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم )
- رواه أحمد ومسلم

- الحديث أورده مسلم مطولا وذكر فيه قصة أبي قتادة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في نومه على راحلته وأن أبا قتادة دعمه ثلاث مرات . وأخرج النسائي وابن ماجه طرفا منه
قوله ( ثم أذن بلال ) فيه استحباب الأذان للصلاة الفائتة
قوله ( فصلى ) الخ فيه استحباب قضاء السنة الراتبة لأن الظاهر أن هاتين الركعتين اللتين قبل الغداة هما سنة الصبح
قوله ( كما كان يصنع كل يوم ) فيه إشارة إلى أن صفة قضاء الفائتة كصفة أدائها فيؤخذ منه أن فائتة الصبح يقنت فيها وإلى ذلك ذهب الشافعية وسيأتي الكلام على القنوت وتحقيق ما هو الحق فيه . ويؤخذ منه أيضا أنه يجهر في الصبح المقضية بعد طلوع الشمس . ولهذا قال المصنف رحمه الله : وفيه دليل على الجهر في قضاء الفجر نهارا انتهى . وقال بعض أصحاب الشافعي : إنه يسن فقط وحمل قوله ( كما كان يصنع ) على الأفعال فقط وفيه ضعف

5 - وعن عمران بن حصين قال : ( سرينا مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما كان في آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى أيقظنا حر الشمس فجعل الرجل منا يقوم دهشا إلى طهوره ثم أمر بلالا فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلينا فقالوا : يا رسول الله ألا نعيدها في وقتها من الغد فقال : أينهاكم ربكم تعالى عن الربا ويقبله منكم )
- رواه أحمد في مسنده

- الحديث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وابن أبي شيبة والطبراني وأخرجه البخاري ومسلم مطولا عن أبي رجاء العطاردي عن عمران وليس فيهما ذكر الأذان والإقامة ولا قوله فقالوا : يا رسول الله ألا نعيدها إلى آخره . وأخرجه أبو داود من حديث الحسن عن عمران وفيه ذكر الأذان والإقامة دون قوله فقالوا يا رسول الله إلى آخر الحديث المذكور ولكنه أخرج هذه الزيادة التي في حديث الباب النسائي وذكرها الحافظ في الفتح واحتج بها ويعارضها ما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة بلفظ : ( فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها ) وما في سنن أبي داود من [ ص 6 ] حديث عمران بن حصين بلفظ : ( من أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض مثلها ) ويشهد لصحة تلك الرواية ما تقدم في أول الباب من حديث أنس بلفظ : ( لا كفارة لها إلا ذلك ) ويدل على صحتها إجماع المسلمين على عدم وجوب قضاء تلك الصلاة التي فعلها النائم عند استيقاظه والساهي عند ذكره إذا حضر وقتها كما صرح بذلك الخطابي والحافظ ابن حجر والمعارضة برواية مسلم السابقة غير صحيحة لاحتمال أن يريد بقوله ( فليصلها عند وقتها ) أي الصلاة التي تحضر لأنه ربما توهم أن وقتها قد تحول إلى ذلك الوقت الذي ذكرها فيه ولا يريد أنه يعيد الصلاة بعد خروج وقتها ذكر معنى ذلك النووي والحافظ وغيرهما . وأما رواية أبي داود فقال الحافظ : إنها خطأ من راويها قال : وحكى ذلك الترمذي وغيره عن البخاري . وقد ذكر الحافظ في الفتح أنه رواها أبو داود من حديث عمران بن حصين ورأيناها في السنن من حديث أبي قتادة الأنصاري ولم يتفرد بها عمران حتى يقال في تضعيفها إنها من رواية الحسن عنه . وقد صرح علي بن المديني وأبو حاتم وغيرهما أن الحسن لم يسمع منه ولكنها لا تنتهض لمعارضة حديث الباب بعد تأييده بما أسلفنا لا سيما بعد تصريح الحافظ بأنها خطأ
قال المصنف رحمه الله بعد سياقه لحديث الباب : فيه دليل على أن الفائتة يسن لها الأذان والإقامة والجماعة وإن النداءين مشروعان في السفر وإن السنن الرواتب تقضى انتهى
قوله ( عرسنا ) التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة هكذا قاله الخليل . وقال أبو زيد : هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار
قوله ( فأذن ثم أقام ) سيأتي الكلام على الأذان والإقامة في القضاء في باب من عليه فائتة آخر الأذان إن شاء الله تعالى

باب الترتيب في قضاء الفوائت

1 - عن جابر بن عبد الله : ( أن عمر جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال : يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما صليتها فتوضأ وتوضأنا فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب )
- متفق عليه

[ ص 7 ] - قوله ( عن جابر ) قد اتفق الحفاظ من الرواة أن هذا الحديث من رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا حجاج بن نصير فإنه رواه عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير فقال فيه : عن جابر عن عمر فجعله في مسند عمر . قال الحافظ : تفرد بذلك حجاج وهو ضعيف
قوله ( يسب كفار قريش ) لأنهم كانوا السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها
قوله ( ما كدت ) لفظة كاد من أفعال المقاربة فإذا قلت كاد زيد يقوم فهم منه أنه قارب القيام ولم يقم كما تقرر في النحو
والحديث يدل على وجوب قضاء الصلاة المتروكة لعذر الاشتغال بالقتال وقد وقع الخلاف في سبب ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لهذه الصلاة فقيل تركوها نسيانا وقيل شغلوا فلم يتمكنوا وهو الأقرب كما قال الحافظ . وفي سنن النسائي عن أبي سعيد أن ذلك قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف { فرجالا أو ركبانا } وسيأتي الحديث
وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الترتيب بين الفوائت المقضية والمؤداة فأبو حنيفة ومالك والليث والزهري والنخعي وربيعة قالوا بوجوب تقديم الفائتة على خلاف بينهم . وقال الشافعي والهادي والقاسم : لا يجب . ولا ينتهض استدلال الموجبين بالحديث للمطلوب لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب
قال الحافظ : إلا أن يستدل بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فيقوى قال : وقد اعتبر ذلك الشافعية في أشياء غير هذه انتهى . وقد استدل للموجبين أيضا بأن توقيت المقضية بوقت الذكر أضيق من توقيت المؤداة فيجب تقديم ما تضيق . والخلاف في جواز التراخي إنما هو في المطلقات لا المؤقتات المضيقة . وقد اختلف أيضا في الترتيب بين المقضيات أنفسها وسنذكره في شرح الحديث الآتي

2 - وعن أبي سعيد قال : ( حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل كفينا وذلك قول الله عز و جل { وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا } قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بلالا فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام المغرب فصلاها كذلك قال : وذلك قبل أن ينزل الله عز و جل في صلاة الخوف { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } )
- رواه أحمد والنسائي ولم يذكر المغرب

[ ص 8 ] - الحديث رجال إسناده رجال الصحيح وسيأتي ذكر من صححه
وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند الترمذي والنسائي بلفظ : ( إن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أربع صلوات يوم الخندق ) وساقا نحو الحديث . وأخرج نحوه مالك في الموطأ
قوله ( بهوى ) الهوى بفتح الهاء وكسر الواو وبياء مشددة السقوط والمراد بعد دخول طائفة من الليل
والحديث يدل على وجوب قضاء الصلاة المتروكة لعذر الاشتغال بحرب الكفار ونحوهم لكن إنما كان هذا قبل شرعية صلاة الخوف كما في آخر الحديث والواجب بعد شرعيتها على من حبس بحرب العدو أن يفعلها . وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا منسوخ بصلاة الخوف وذهب مكحول وغيره من الشاميين إلى جواز تأخير صلاة الخوف إذا لم يتمكن من أدائها والصحيح الأول لما في آخر هذا الحديث والحديث مصرح بأنها فائتة صلاة الظهر والعصر وحديث جابر المتقدم مصرح بأنها العصر وحديث عبد الله بن مسعود مصرح بأنها أربع صلوات فمن الناس من اعتمد الجمع فقال : إن وقعة الخندق بقيت أياما فكان في بعض الأيام الفائت العصر فقط وفي بعضها الفائت العصر والظهر وفي بعضها الفائت أربع صلوات ذكره النووي وغيره . ومن الناس من اعتمد الترجيح فقال : إن الصلاة التي شغل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدة وهي العصر ترجيحا لما في الصحيحين على ما في غيرهما ذكره أبو بكر ابن العربي قال ابن سيد الناس : والجمع أرجح لأن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي حدثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال : وهذا إسناد صحيح جليل انتهى . وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وصححه ابن السكن وقد تقدم نحو هذا في باب الصلاة الوسطى على أن حديث الباب ونحوه متضمن للزيادة فالمصير إليه متحتم واقتصار الراوي على ذكر العصر فقط لا يقدح في قول غيره أنها العصر والظهر أو الأربع الصلوات وغايته أنه روى ما علم وترك ما لم يعلم ومن علم حجة على من لم يعلم ولا يحتاج إلى الجمع بتعدد واقعة الخندق مع هذا
والحديث أيضا يدل على الترتيب بين الفوائت المقضية وقد قال بوجوبه زيد بن علي والناصر وأبو حنيفة وقال الشافعي والهادي والإمام يحيى : إنه غير واجب وهو الظاهر لأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب إلا أن يستدل بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) كما سبق ولكنه غير خالص عن شوب اعتراض [ ص 9 ] ومعارضة
وفي الحديث دليل على استحباب قضاء الفوائت في الجماعة وخالف فيه الليث بن سعد والحديث يرد عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه دليل على الإقامة للفوائت وعلى أن صلاة النهار وإن قضيت ليلا لا يجهر فيها . وعلى أن تأخيره يوم الخندق نسخ بشرع صلاة الخوف انتهى

أبواب الأذان

- الأذان لغة الإعلام نقل ذلك النووي في شرح مسلم عن أهل اللغة
وشرعا الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة وهو مع قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقائد كما بين ذلك الحافظ في الفتح نقلا عن القرطبي . وقد اختلف في الأفضل من الأذان والإمامة وسيأتي ما يرشد إلى الصواب . وقد اختلف في أي وقت كان ابتداء شرعية الأذان فقيل نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع فرض الصلاة وقد روى ذلك ابن حبان عن ابن عباس بإسناد فيه عبد العزيز بن عمران وهو ممن لا تقوم به حجة . وعند الدارقطني من حديث أنس . قال الحافظ : وإسناده ضعيف . وعند الطبراني عن ابن عمر وذكر أنه في ليلة الإسراء وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك . وعند ابن مردويه من حديث عائشة مثله وفيه من لا يعرف . وعند البزار وغيره عن علي رضي الله عنه وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك . قال الحافظ : والحق أنه لا يصح شيء من هذه وقد أطال الكلام في ذلك في الفتح فليرجع إليه . وقيل كان فرض الأذان عند قدوم المسلمين المدينة لما ثبت عند البخاري ومسلم والترمذي وقال : حسن صحيح والنسائي من حديث عبد الله بن عمر قال : ( كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم : اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم : اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود قال : فقال عمر : ألا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( يا بلال قم فناد بالصلاة ) وهذا أصح ما ورد في تعيين ابتداء وقت الأذان

باب وجوبه وفضيلته . [ ص 10 ]

1 - عن أبي الدرداء قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما من ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال : صحيح الإسناد ولكن لفظ أبي داود : ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية ) الحديث استدل به على وجوب الأذان والإقامة لأن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنبه . وإلى وجوبهما ذهب أكثر العترة وعطاء وأحمد بن حنبل ومالك والأصطخري كذا في البحر ومجاهد والأوزاعي وداود كذا في شرح الترمذي وقد حكى الماوردي عنهم تفصيلا في ذلك فحكى عن مجاهد أن الأذان والإقامة واجبان معا لا ينوب أحدهما عن الآخر فإن تركهما أو أحدهما فسدت صلاته . وقال الأوزاعي : يعيد إن كان وقت الصلاة باقيا وإلا لم يعد . وقال عطاء : الإقامة واجبة دون الأذان فإن تركها لعذر أجزأه ولغير عذر قضى . وفي البحر أن القائل بوجوب الإقامة دون الأذان الأوزاعي وروي عن أبي طالب أن الأذان واجب دون الإقامة . وعند الشافعي وأبي حنيفة أنهما سنة واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أقوال : الأول أنهما سنة . الثاني فرض كفاية . الثالث سنة في غير الجمعة وفرض كفاية فيها . وروى ابن عبد البر عن مالك وأصحابه أنهما سنة مؤكدة واجبة على الكفاية . وقال آخرون : الأذان فرض على الكفاية . ومن أدلة الموجبين للأذان قوله في حديث مالك بن الحويرث الآتي : ( فليؤذن لكم أحدكم ) وفي لفظ للبخاري : ( فأذنا ثم أقيما ) ومنها حديث أنس المتفق عليه بلفظ : ( أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) والآمر له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي ومنها ما في حديث عبد الله بن زيد الآتي من قوله : ( إنها لرؤيا حق إن شاء الله ثم أمر بالتأذين ) وما سيأتي من قوله صلى الله عليه و سلم لعثمان بن أبي العاص ( اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا ) ومنها حديث أنس عند البخاري وغيره قال : ( إن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أغزى بنا قوما لم يكن [ ص 11 ] يغزينا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم ) ومنها طول الملازمة من أول الهجرة إلى الموت لم يثبت أنه ترك ذلك في سفر ولا حضر إلا يوم المزدلفة فقد صحح كثير من الأئمة أنه لم يؤذن فيها وإنما أقام على أنه قد أخرج البخاري من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه و سلم صلاهما في جمع بأذانين وإقامتين وبهذا الترك على ما فيه من الخلاف احتج من قال بعدم الوجوب وخص بعض القائلين بالوجوب الرجال بوجوبهما ولم يوجبهما على النساء استدلالا بحديث ( ليس على النساء أذان ولا إقامة ) عند البيهقي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح إلا أنه قال ابن الجوزي : لا يعرف مرفوعا . وقد رواه البيهقي وابن عدي من حديث أسماء مرفوعا وفي إسناده الحكم بن عبد الله الأيلي وفيه ضعف جدا . وبحديث ( النساء عي وعورات فاستروا عيهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت )

2 - وعن مالك بن الحويرث : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم )
- متفق عليه

- قوله ( أحدكم ) يدل على أنه لا يعتبر السن والفضل في الأذان كما يعتبر في إمامة الصلاة . وقد استدل بهذا من قال بأفضلية الإمامة على الأذان لأن كون الأشرف أحق بها مشعر بمزيد شرف لها . وفي لفظ للبخاري : ( فإذا أنتما خرجتما فأذنا ) ولا تعارض بينه وبين ما في حديث الباب لأن المراد بقوله أذنا أي من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن وذلك لاستوائهما في الفضل
والحديث استدل به من قال بوجوب الأذان لما فيه من صيغة الأمر وقد تقدم الخلاف في ذلك

3 - وعن معاوية : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه

- وفي الباب عن أبي هريرة وابن الزبير بألفاظ مختلفة
قوله ( أطول الناس أعناقا ) هو بفتح الهمزة جمع عنق واختلف السلف والخلف في معناه فقيل معناه أكثر الناس تشوفا إلى رحمة الله لأن المتشوف يطيل عنقه لما يتطلع إليه فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب وقال النضر بن شميل : إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق . وقيل معناه أنهم سادة ورؤساء والعرب تصف السادة بطول العنق . وقيل معناه أكثر إتباعا وقال ابن الأعرابي : أكثر الناس أعمالا قال القاضي عياض وغيره : [ ص 12 ] وروى بعضهم إعناقا بكسر الهمزة أي إسراعا إلى الجنة وهو من سير العنق قال ابن أبي داود : سمعت أبي يقول : معناه أن الناس يعطشون يوم القيامة فإذا عطش الإنسان انطوت عنقه والمؤذنون لا يعطشون فأعناقهم قائمة . وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة : ( يعرفون بطول أعناقهم يوم القيامة ) زاد السراج لقولهم ( لا إله إلا الله ) وظاهره الطول الحقيقي فلا يجوز المصير إلى التفسير بغيره إلا لملجئ
والحديث يدل على فضيلة الأذان وأن صاحبه يوم القيامة يمتاز عن غيره ولكن إذا كان فاعله غير متخذ أجرا عليه وإلا كان فعله لذلك من طلب الدنيا والسعي للمعاش وليس من أعمال الآخرة . وقد استدل بهذا الحديث من قال إن الأذان أفضل من الإمامة وهو نص الشافعي في الأم وقول أكثر أصحابه . وذهب بعض أصحابه إلى أن الإمامة أفضل وهو نص الشافعي أيضا قاله النووي . وبعضهم ذهب إلى أنهما سواء وبعضهم إلى أنه إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة وجمع خصالها فهي أفضل وإلا فالأذان قاله أبو علي وأبو القاسم بن كج والمسعودي والقاضي حسين من أصحاب الشافعي
واختلف في الجمع بين الأذان والإمامة فقال جماعة من أصحاب الشافعي : إنه يستحب أن لا يفعله . وقال بعضهم : يكره وقال محققوهم وأكثرهم : لا بأس به بل يستحب . قال النووي : وهذا أصح وفي البيهقي مرفوعا من حديث جابر النهي عن ذلك قال الحافظ : لكن سنده ضعيف

4 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي

- الحديث رواه الشافعي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى وابن حبان وابن خزيمة كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة . وأخرجه من ذكر المصنف عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة . وروي أيضا عن أبي صالح عن عائشة قال أبو زرعة : حديث أبي هريرة أصح من حديث عائشة . وقال محمد عكسه وذكر علي بن المديني أنه لم يثبت واحد منهما . وقال أيضا : لم يسمع سهيل هذا الحديث من أبيه إنما سمعه من الأعمش ولم يسمعه الأعمش من أبي صالح بيقين لأنه يقول فيه نبئت عن أبي صالح وكذا قال البيهقي في المعرفة . وقال الدارقطني في العلل : رواه سليمان وروح بن القاسم ومحمد بن جعفر وغيره عن سهيل عن الأعمش قال : وقال أبو بدر عن الأعمش حدثت عن أبي صالح [ ص 13 ] وقال ابن فضيل عنه عن رجل عن أبي صالح . وقال الثوري : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من أبي صالح وصحح حديث أبي هريرة جميعا ابن حبان وقال : قد سمع أبو صالح هذين الخبرين من عائشة وأبي هريرة جميعا . وقال ابن عبد الهادي أخرج مسلم بهذا الإسناد يعني سهيلا عن أبيه نحوا من أربعة عشر حديثا
وفي الباب عن ابن عمر أخرجه أبو العباس السراج وصححه الضياء في المختارة . وعن أبي أمامة عند أحمد . وعن جابر عند ابن الجوزي في العلل . ورواه البزار عن أبي هريرة وزاد فيه بذلك الإسناد : ( قالوا : يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الأذان فقال : إنه يكون بعدكم قوما سفلتهم مؤذنوهم ) قال الدارقطني : هذه الزيادة ليست محفوظة وأشار ابن القطان إلى أن البزار هو المنفرد بها قال الحافظ : وليس كذلك فقد جزم ابن عدي بأنها من أفراد أبي حمزة وكذا قال الخليلي وابن عبد البر وأخرجه البيهقي من غير طريق البزار فبرئ من عهدتها . وأخرجها ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله عن يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش واتهم بها عيسى وقال : إنما تعرف هذه الزيادة بأبي حمزة . قال ابن القطان : أبو حمزة ثقة ولا عيب للإسناد إلا ما ذكر من الانقطاع ويجاب عنه بأن الواسطة قد عرفت وهو الأعمش كما تقدم فلا يضر هذا الانقطاع ولا تعد علة وأما الانقطاع الثاني بين الأعمش وأبي صالح الذي تقدم فيه قوله عن رجل فيجاب عنه بأن ابن نمير قد قال عن الأعمش عن أبي صالح ولا أراني إلا قد سمعته منه . وقال إبراهيم بن حميد الرواسي : قال الأعمش وقد سمعته من أبي صالح . وقال هشيم عن الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة ذكر ذلك الدارقطني فبينت هذه الطرق أن الأعمش سمعه عن غير أبي صالح ثم سمعه منه . قال اليعمري : والكل صحيح والحديث متصل
قوله ( الإمام ضامن ) الضمان في اللغة الكفالة والحفظ والرعاية والمراد أنهم ضمناء على الإسرار بالقراءة والأذكار حكي ذلك عن الشافعي في الأم . وقيل المراد ضمان الدعاء أن يعم القوم به ولا يخص نفسه . وقيل لأنه يتحمل القيام والقراءة عن المسبوق . وقال الخطابي : معناه أنه يحفظ على القوم صلاتهم وليس من الضمان الموجب للغرامة
قوله ( والمؤذن مؤتمن ) قيل المراد أنه أمين على مواقيت الصلاة . وقيل أمين على حرم الناس لأنه يشرف على المواضع العالية
والحديث استدل به على فضيلة الأذان وعلى أنه أفضل من الإمامة لأن الأمين أرفع حالا من الضمين وقد تقدم الخلاف في ذلك ويؤيد قول من قال [ ص 14 ] إن الإمامة أفضل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين بعده أموا ولم يؤذنوا وكذا كبار العلماء بعدهم

5 - وعن عقبة بن عامر قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يعجب ربك عز و جل من راعي غنم في شظية بجبل يؤذن للصلاة ويصلي فيقول الله عز و جل انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني فقد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

- الحديث رجال إسناده ثقات وقد أخرجه أيضا سعيد بن منصور والطبراني والبيهقي وفي البخاري والموطأ والنسائي بلفظ : ( إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) قال أبو سعيد : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج عبد الرزاق والمقدسي والنسائي في المواعظ من سننه عن سلمان رفعه : ( إذا كان الرجل في أرض في أي قفر فتوضأ فإن لم يجد الماء تيمم ثم ينادي بالصلاة ثم يقيمها ويصليها إلا أم من جنود الله صفا ) ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن معتمر التيمي عن أبيه وروى نحوه البيهقي والطبراني في الكبير
والحديث يدل على شرعية الأذان للمنفرد فيكون صالحا لرد قول من قال إن شرعية الأذان تختص بالجماعة وفيه أيضا أن الأذان من أسباب المغفرة للذنوب وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : ( يغفر للمؤذن مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ) وفي إسناده أبو يحيى الراوي له عن أبي هريرة . قال ابن القطان : لا يعرف وادعى ابن حبان في الصحيح أن اسمه سمعان وقد رواه البيهقي من وجهين آخرين عن الأعمش قال تارة عن أبي صالح وتارة عن مجاهد عن أبي هريرة ومن طريق أخرى عن مجاهد عن ابن عمر . ورواه أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب بلفظ : ( المؤذن يغفر له مد صوته ويصدقه من يسمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه ) وصححه ابن السكن ورواه أحمد والبيهقي من حديث مجاهد عن ابن عمر
وفي فضل الأذان أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما مصرحة بعظيم فضله وارتفاع درجته وأنه من أجل الطاعات التي يتنافس فيها المتنافسون ولكن بذلك الشرط الذي عرفناك في شرح حديث معاوية
قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق حديث الباب : وفيه دليل على أن الأذان يسن للمنفرد وإن كان [ ص 15 ] بحيث لا يسمعه أحد . الشظية الطريقة كالجدة انتهى . ويقال الشظية للقطعة المرتفعة من الجبل وهي بالظاء المعجمة

باب صفة الأذان

1 - عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال : ( لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته النصارى طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله قال : فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس قال : وما تصنع به قال : قلت ندعو به إلى الصلاة قال : أفلا أدلك على خير من ذلك فقلت بلى قال : تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله قال : ثم استأخر غير بعيد قال : ثم تقول إذا أقمت الصلاة الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله قال : فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما رأيت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذه الرؤيا حق إن شاء الله ثم أمر بالتأذين فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك ويدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة قال : فجاءه فدعاه ذات غداة إلى الفجر فقيل له إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته الصلاة خير من النوم قال سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر )
- رواه أحمد وأبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه وفيه : ( فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما رأيت فقال : إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فإنه أندى صوتا منك قال : فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول : والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أرى فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلله : الحمد ) وروى الترمذي هذا الطرف منه بهذه الطريق وقال : [ ص 16 ] حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح

- الحديث أخرجه أيضا من الطريقة الأولى الحاكم وقال : هذه أمثل الروايات في قصة عبد الله بن زيد لأن سعيد بن المسيب قد سمع من عبد الله بن زيد ورواه يونس ومعمر وشعيب وابن إسحاق عن الزهري ومتابعة هؤلاء لمحمد بن إسحاق عن الزهري ترفع احتمال التدليس الذي تحتمله عنعنة ابن إسحاق . وأخرجه أيضا من الطريقة الثانية ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي وابن ماجه . قال محمد بن يحيى الذهلي : ليس في أخبار عبد الله بن زيد أصح من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي يعني هذا لأن محمدا قد سمع من أبيه عبد الله بن زيد وقال ابن خزيمة في صحيحه : هذا حديث صحيح ثابت من جهة النقل لأن محمدا من أبيه وابن إسحاق سمع من التيمي وليس هذا مما دلسه . وقد صحح هذه الطريقة البخاري فيما حكاه الترمذي في العلل عنه . وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود من حديث محمد بن عمرو الواقفي عن محمد بن عبد الله عن عمه عبد الله بن زيد ومحمد بن عمرو ضعيف واختلف عليه فيه فقيل عن محمد بن عبد الله . وقيل عبد الله بن محمد . قال ابن عبد البر : إسناده حسن من حديث الإفريقي قال الحاكم : وأما أخبار الكوفة في هذه القصة يعني في تثنية الأذان والإقامة فمدارها على حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى واختلف عليه فيه فمنهم من قال عن معاذ بن جبل . ومنهم من قال عن عبد الله بن زيد . ومنهم من قال غير ذلك
الحديث فيه تربيع التكبير . وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء كما قال النووي . ومن أهل البيت الناصر والمؤيد بالله والإمام يحيى واحتجوا بهذا الحديث فإن المشهور فيه التربيع وبحديث أبي محذورة الآتي . وبأن التربيع عمل أهل مكة وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم
وذهب مالك وأبو يوسف ومن أهل البيت زيد بن علي والصادق والهادي والقاسم إلى تثنيته محتجين بما وقع في بعض روايات هذا الحديث من التثنية وبحديث أبي محذورة الآتي في رواية مسلم عنه وفيه أن الأذان مثنى فقط وبأن التثنية عمل أهل المدينة وهم أعرف بالسنن وبحديث أمره صلى الله عليه وآله وسلم لبلال بتشفيع الأذان وإيتار الإقامة وسيأتي . والحق أن روايات التربيع أرجح لاشتمالها على الزيادة وهي مقبولة لعدم منافاتها وصحة مخرجها
وفي الحديث ذكر الشهادتين مثنى مثنى وقد اختلف الناس [ ص 17 ] في ذلك فذهب أبو حنيفة والكوفيون والهادوية والناصر إلى عدم استحباب الترجيع تمسكا بظاهر الحديث والترجيع هو العود إلى الشهادتين مرتين مرتين برفع الصوت بعد قولها مرتين مرتين يخفض الصوت ذكر ذلك النووي في شرح مسلم . وفي كلام الرافعي ما يشعر بأن الترجيع اسم للمجموع من السر والجهر . وفي شرح المهذب والتحقيق والدقائق والتحرير أنه اسم للأول
وذهب الشافعي ومالك وأحمد وجمهور العلماء كما قال النووي إلى أن الترجيع في الأذان ثابت لحديث أبي محذورة الآتي وهو حديث صحيح مشتمل على زيادة غير منافية فيجب قولها وهو أيضا متأخر عن حديث عبد الله بن زيد . قال في شرح مسلم : إن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين وحديث عبد الله بن زيد في أول الأمر ويرجحه أيضا عمل أهل مكة والمدينة به . قال النووي : وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيع وتركه
وفيه التثويب في صلاة الفجر لقول سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر . يعني قول بلال الصلاة خير من النوم وزاد ابن ماجه فأقرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إسناده ضعف جدا . وروى أيضا ابن ماجه وأحمد والترمذي من حديث بلال بلفظ : ( لا تثويب في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر ) وفيه أبو إسماعيل الملائي وهو ضعيف مع انقطاعه بين عبد الرحمن بن أبي ليلى وبلال . قال ابن السكن : لا يصح إسناده . ورواه الدارقطني من طريق أخرى وفيه أبو سعيد البقال وهو نحو أبي إسماعيل في الضعف . وبيان الانقطاع بين ابن أبي ليلى وبلال أن ابن أبي ليلى مولده سنة سبع عشرة ووفاة بلال سنة عشرين أو إحدى وعشرين بالشام وكان مرابطا بها قبل ذلك من أوائل فتوحها فهو شامي وابن أبي ليلى كوفي فكيف يسمع منه مع حداثة السن وتباعد الديار
وقد روى إثبات التثويب من حديث أبي محذورة قال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأذان وقال : إذا كنت في أذان الصبح فقلت حي على الفلاح فقل الصلاة خير من النوم ) أخرجه أبو داود وابن حبان مطولا من حديثه وفيه هذه الزيادة وفي إسناده محمد بن عبد الملك ابن أبي محذورة وهو غير معروف الحال والحارث بن عبيد وفيه مقال . وذكره أبو داود من طريق أخرى عن أبي محذورة وصححه ابن خزيمة من طريق ابن جريج . ورواه النسائي من وجه آخر وصححه أيضا ابن خزيمة ورواه بقي بن مخلد . وروى التثويب [ ص 18 ] أيضا الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عمر بلفظ : ( كان الأذان بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين ) قال اليعمري : وهذا إسناد صحيح . وروى ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي عن أنس أنه قال : ( من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم ) قال ابن سيد الناس اليعمري ( 1 ) : وهو إسناد صحيح
وفي الباب عن عائشة عند ابن حبان وعن نعيم النحام عند البيهقي . وقد ذهب إلى القول بشرعية التثويب عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري وابن سيرين والزهري ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأصحاب الشافعي وهو رأي الشافعي في القديم ومكروه عنده في الجديد وهو مروي عن أبي حنيفة واختلفوا في محله فالمشهور أنه في صلاة الصبح فقط وعن النخعي وأبي يوسف إنه سنة في كل الصلوات وحكى القاضي أبو الطيب عن الحسن بن صالح إنه يستحب في أذان العشاء وروي عن الشعبي وغيره إنه يستحب في العشاء والفجر والأحاديث لم ترد بإثباته إلا في صلاة الصبح لا في غيرها فالواجب الاقتصار على ذلك والجزم بأن فعله في غيرها بدعة كما صرح بذلك ابن عمر وغيره وذهبت العترة والشافعي في أحد قوليه إلى أن التثويب بدعة قال في البحر : أحدثه عمر فقال ابنه : هذه بدعة . وعن علي عليه السلام حين سمعه : لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه ثم قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة : وبلال قلنا لو كان لما أنكره علي وابن عمر وطاوس سلمنا فأمر به إشعارا في حال لا شرعا جمعا بين الآثار انتهى ( 2 ) . وأقول : قد عرفت مما سلف رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم والأمر به على جهة العموم من دون تخصيص بوقت دون وقت وابن عمر لم ينكر مطلق التثويب بل أنكره في صلاة الظهر ورواية الإنكار عن علي عليه السلام بعد صحتها لا تقدح في مروي غيره لأن المثبت أولى ومن علم حجة والتثويب زيادة ثابتة فالقول بها لازم والحديث ليس فيه ذكر حي على خير العمل . وقد ذهبت العترة إلى إثباته وأنه بعد قول المؤذن حي على الفلاح قالوا : يقول مرتين حي على خير العمل ونسبه المهدي [ ص 19 ] في البحر إلى أحد قولي الشافعي وهو خلاف ما في كتب الشافعية فإنا لم نجد في شيء منها هذه المقالة بل خلاف ما في كتب أهل البيت قال في الانتصار : إن الفقهاء الأربعة لا يختلفون في ذلك يعني في أن حي على خير العمل ليس من ألفاظ الأذان وقد أنكر هذه الرواية الإمام عز الدين في شرح البحر وغيره ممن له إطلاع على كتب الشافعية
( احتج القائلون بذلك ) بما في كتب أهل البيت كأمالي أحمد بن عيسى والتجريد والأحكام وجامع آل محمد من إثبات ذلك مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال في الأحكام : وقد صح لنا أن حي على خير العمل كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤذن بها ولم تطرح إلا في زمن عمر وهكذا قال الحسن بن يحيى روي ذلك عنه في جامع آل محمد وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر أنه كان يؤذن بحي على خير العمل أحيانا
وروي فيها عن علي بن الحسين أنه قال : هو الأذان الأول . وروى المحب الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم أنه أذن بذلك . قال المحب الطبري : ورواه ابن حزم ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة ابن سهل البدري ولم يرو ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعا
وقول بعضهم وقد صحح ابن حزم والبيهقي والمحب الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن علي بن الحسين وابن عمر وأبي أمامة ابن سهل موقوفا ومرفوعا ليس بصحيح اللهم إلا أن يريد بقوله مرفوعا قول علي بن الحسين هو الأذان الأول ولم يثبت عن ابن عمر وأبي أمامة الرفع في شيء من كتب الحديث
( وأجاب الجمهور ) عن أدلة إثباته بأن الأحاديث الواردة بذكر ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما من دواوين الحديث ليس في شيء منها ما يدل على ثبوت ذلك قالوا : وإذا صح ما روي من أنه الأذان الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها . وقد أورد البيهقي حديثا في نسخ ذلك ولكنه من طريق لا يثبت النسخ بمثلها
وفي الحديث إفراد الإقامة إلا التكبير في أولها وآخرها وقد قامت الصلاة وقد اختلف الناس في ذلك وسنذكر ذلك وما هو الحق في شرح حديث أنس الآتي بعد هذا
قوله في الحديث ( أن يضرب بالناقوس ) هو الذي تضرب به النصارى لأوقات صلاتهم وجمعه نواقيس والنقس ضرب الناقوس
قوله ( حي على الصلاة حي على الفلاح ) اسم فعل معناه أقبلوا إليها وهلموا إلى الفوز والنجاة وفتحت الياء لسكونها وسكون الياء السابقة المدغمة
قوله ( فإنه أندى صوتا منك ) [ ص 20 ] أي أحسن صوتا منك . وفيه دليل على استحباب اتخاذ مؤذن حسن الصوت . وقد أخرج الدارمي وأبو الشيخ بإسناد متصل بأبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بنحو عشرين رجلا فأذنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان . وأخرجه أيضا ابن حبان من طريق أخرى . ورواه ابن خزيمة في صحيحه قال الزبير بن بكار : كان أبو محذورة أحسن الناس صوتا وأذانا . ولبعض شعراء قريش في أذان أبي محذورة :
أما ورب الكعبة المستورة ... وما تلا محمد من سوره
والنغمات من أبي محذورة ... لأفعلن فعلة مذكوره
وفي رواية للترمذي بلفظ : ( فقم مع بلال فإنه أندى أو أمد صوتا منك فألق عليه ما قيل لك ) والمراد بقوله أو أمد صوتا منك أي أرفع صوتا منك وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان وسيذكر المصنف لذلك بابا بعد هذا الباب
_________
( 1 ) هو الحافظ أبو الفتح محمد بن محمد سيد الناس اليعمري المتوفى سنة 734 ه شرح سنن الترمذي شرحا وافيا ولم يكمله . بلغ فيه دون ثلثيه في نحو عشر مجلدات ثم كمله الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي المتوفى سنة 806 ه . اه من الكشف
( 2 ) عبارة البحر هكذا في الأصل وفيها غموض كما لا يخفى على المتأمل ولم نتمكن من مراجعة البحر لعدم وجود نسخ منه لدينا . والله أعلم

2 - وعن أنس قال : ( أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة )
- رواه الجماعة

- وليس فيه للنسائي والترمذي وابن ماجه إلا الإقامة
قوله ( أمر بلال ) هو في معظم الروايات على البناء للمفعول . وقد اختلف أهل الأصول والحديث في اقتضاء هذه الصيغة للرفع والمختار عند محققي الطائفتين أنها تقتضيه لأن الظاهر أن المراد بالآمر من له الأمر الشرعي الذي يلزم إتباعه وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا سيما في أمور العبادة فإنها إنما تؤخذ عن توقيف ويؤيد هذا ما وقع في رواية روح عن عطاء ( فأمر بلالا ) بالنصب وفاعل أمر هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصرح من ذلك رواية النسائي وغيره عن قتيبة عن عبد الوهاب بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بلالا ) قال الحاكم : صرح برفعه إمام الحديث بلا مدافعة قتيبة قال الحافظ : ولم يتفرد به فقد أخرجه أبو عوانة من طريق عبدان المروزي ويحيى بن معين كلاهما عن عبد الوهاب وطريق يحيى عند الدارقطني أيضا ولم يتفرد عبد الوهاب . وقد رواه البلاذري من طريق أبي شهاب الحناط عن أبي قلابة وقضية وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النداء والآمر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير شك . وقد روى البيهقي فيه بالسند الصحيح عن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) لا ما حكي عن بعضهم من أن الآمر لبلال بذلك [ ص 21 ] كان من بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ من المنقول أن بلالا لم يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا لأبي بكر وقيل لم يؤذن لأحد بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا مرة واحدة بالشام
قوله ( أن يشفع الأذان ) بفتح أوله وفتح الفاء أي يأتي بألفاظه شفعا وهو مفسر بقوله مثنى مثنى . قال الحافظ : لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى . فتكون أحاديث تشفيع الأذان وتثنيته مخصصة بالأحاديث التي ذكرت فيها كلمة التوحيد مرة واحدة كحديث عبد الله بن زيد ونحوه
قوله ( إلا الإقامة ) ادعى ابن منده والأصيلي أن قوله إلا الإقامة من كلام أيوب وليس من الحديث وفيما قالاه نظر لأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده متصلا بالخبر مفسرا وكذا أبو عوانة في صحيحه والسراج في مسنده والأصل أن كل ما كان من الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل . وفي رواية أيوب زيادة من حافظ فلا يقدح في صحتها عدم ذكر خالد الحذاء لها وقد ثبت تكرير لفظ قد قامت الصلاة في حديث ابن عمر مرفوعا وسيأتي
وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة فإنه يثنى كما تقدم في حديث عبد الله بن زيد وأجيب بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير الأذان فإن التكبير في أول الأذان أربع وهذا إنما يتم في تكبير أول الأذان لا في آخره كما قال الحافظ . وأنت خبير بأن ترك استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته لأن روايات التكرير زيادة مقبولة
الحديث يدل على وجوب الأذان والإقامة وعلى أن الأذان مثنى وقد تقدم الكلام على ذلك
ويدل على إفراد الإقامة إلا الإقامة وقد اختلف الناس في ذلك فذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها ولفظ قد قامت الصلاة فإنها مثنى مثنى واستدلوا بهذا الحديث . وحديث ابن عمر الآتي : وحديث عبد الله بن زيد السابق
قال الخطابي : مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أن الإقامة فرادى قال أيضا : مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله قد قامت الصلاة إلا مالكا فإن المشهور عنه أنه لا يكررها . وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك . قال النووي : ولنا قول شاذ إنه يقول في التكبير الأول الله أكبر مرة وفي الأخير مرة ويقول قد قامت الصلاة مرة . قال ابن سيد الناس : وقد ذهب إلى القول بأن الإقامة [ ص 22 ] إحدى عشرة كلمة عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ويحيى بن يحيى وداود وابن المنذر . قال البيهقي : وممن قال بإفراد الإقامة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز . قال البغوي : هو قول أكثر العلماء . وذهبت الحنفية والهادوية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين واستدلوا بهما في رواية من حديث عبد الله بن زيد عند الترمذي وأبي داود بلفظ : ( كان أذان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شفعا شفعا في الأذان والإقامة ) وأجيب عن ذلك بأنه منقطع كما قال الترمذي وقال الحاكم والبيهقي : الروايات عن عبد الله بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة وقد تقدم ما في سماع ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد . ويجاب عن هذا الانقطاع بأن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ما لفظه : وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام . قال الترمذي : وهذا أصح انتهى
وقد روى ابن أبي ليلى عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعثمان وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب والمقداد وبلال وكعب بن عجرة وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وصهيب وخلق يطول ذكرهم وقال : أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم من الأنصار فلا علة للحديث لأنه على الرواية عن عبد الله بدون توسيط الصحابة مرسل عن الصحابة وهو في حكم المسند وعلى روايته عن الصحابة عنه مسند ومحمد بن عبد الرحمن وإن كان بعض أهل الحديث يضعفه فمتابعة الأعمش إياه عن عمرو بن مرة ومتابعة شعبة كما ذكر ذلك الترمذي مما يصحح خبره وإن خالفاه في الإسناد وأرسلا فهي مخالفة غير قادحة . واستدلوا أيضا بما رواه الحاكم والبيهقي في الخلافيات والطحاوي من رواية سويد بن غفلة أن بلالا كان يثني الأذان والإقامة وادعى الحاكم فيه الانقطاع . قال الحافظ : ولكن في رواية الطحاوي سمعت بلالا ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن جبر بن علي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده وهو سعد القرظ قال : أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أذن لأبي بكر في حياته ولم يؤذن في زمان عمر وسويد بن غفلة هاجر في زمن أبي بكر . وأما ما رواه أبو داود من أن بلالا ذهب إلى الشام في حياة أبي بكر فكان بها حتى مات فهو مرسل [ ص 23 ] وفي إسناده عطاء الخراساني وهو مدلس . وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق جنادة بن أبي أمية عن بلال أنه كان يجعل الأذان والإقامة مثنى مثنى وفي إسناده ضعف . قال الحافظ : وحديث أبي محذورة في تثنية الإقامة مشهور عند النسائي وغيره انتهى . وحديث أبي محذورة حديث صحيح قاسه الحازمي في الناسخ والمنسوخ وذكر فيه الإقامة مرتين مرتين وقال : هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسائي ( 1 ) وسيأتي ما أخرجه عنه الخمسة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمه الأذان تسع عشرة [ ص 24 ] كلمة والإقامة سبع عشرة ) وهو حديث صححه الترمذي وغيره وهو متأخر عن حديث بلال الذي فيه الأمر بإيتار الإقامة لأنه بعد فتح مكة لأن أبا محذورة من مسلمة الفتح وبلال أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان فيكون ناسخا . وقد روى أبو الشيخ ( أن بلالا أذن بمنى ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مرتين مرتين وأقام مثل ذلك ) إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها لما أسلفناه وأحاديث إفراد الإقامة وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها لازم لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها كما عرفناك . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الإقامة وتثنيتها قال أبو عمر ابن عبد البر : ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير قالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر أربعا في أول الأذان ومن شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان على كل حال انتهى
وقد أجاب القائلون بإفراد الإقامة عن حديث أبي محذورة بأجوبة منها :
إن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة وهذا ممنوع فإن المعتبر في الناسخ مجرد الصحة لا الأصحية ومنها أن جماعة من الأئمة ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة ورووا من طريق أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة كما ذكر ذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ . وأخرجه البخاري في تاريخه والدارقطني وابن خزيمة وهذا الوجه غير نافع لأن القائلين بأنها غير محفوظة غاية ما اعتذروا به عدم الحفظ وقد حفظ غيرهم من الأئمة كما تقدم ومن علم حجة على من لا يعلم . وأما رواية إيتار الإقامة عن أبي محذورة فليست كروايته التشفيع على أن الاعتماد على الرواية المشتملة على الزيادة
ومن الأجوبة أن تثنية الإقامة لو فرض أنها محفوظة وأن الحديث بها ثابت لكانت منسوخة فإن أذان بلال هو آخر الأمرين لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من حنين ورجع [ ص 25 ] إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته . قالوا : وقد قيل لأحمد بن حنبل : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة قال : أليس قد رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد وهذا أنهض ما أجابوا به ولكنه متوقف على نقل صحيح أن بلالا أذن بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وأفرد الإقامة ومجرد قول أحمد بن حنبل لا يكفي فإن ثبت ذلك كان دليلا لمذهب من قال بجواز الكل ويتعين المصير إليها لأن فعل كل واحد من الأمرين عقب الآخر مشعر بجواز الجميع لا بالنسخ
_________
( 1 ) أقول : وقد ذكر الخلاف الحازمي في الناسخ والمنسوخ ودليل كل وأرجحية الحكم في ذلك قال ما حاصله : فذهبت طائفة إلى أن الإقامة مثل الأذان مثنى وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة واحتجوا في الباب بهذا الحديث ( أي حديث أبي محذورة " قال : وعلمني الإقامة مرتين مرتين الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله " الخ ) وقد حسنه كما نقله الشوكاني عنه هنا ورأوه محكما وناسخا لحديث بلال وذكره بسنده عن أنس ( أنهم ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) هذا الحديث صحيح متفق عليه أخرجه مسلم في الصحيح من حديث وهب وأخرجاه من حديث عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء . قالوا : وهذا ظاهر في النسخ لأن بلالا أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان على ما دل عليه حديث أنس وأما حديث أبي محذورة كان عام حنين وبين الوقتين مدة مديدة . وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم فرأوا أن الإقامة فرادى وإلى هذا المذهب ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري ومالك بن أنس وأهل الحجاز والشافعي وأصحابه . وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومكحول والأوزاعي وأهل الشام . وإليه ذهب الحسن البصري ومحمد بن سيرين وأحمد بن حنبل ومن تبعهم من العراقيين . وإليه ذهب يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومن تبعهما من الخراسانيين وذهبوا في ذلك إلى حديث أنس وقالوا : أما حديث أبي محذورة فالجواب عنه من وجوه نذكر بعضها : منها أن شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة في جميع جهات الترجيحات على ما قررناه في مقدمة الكتاب . ونازعه في ذلك الشوكاني وغير خفي على من الحديث صناعته أن حديث أبي محذورة لا يوازي حديث أنس في جهة واحدة في الترجيحات فضلا عن الجهات كلها . ومنها أن جماعة من الحفاظ ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة بدليل ما أخبرنا به وساق سنده إلى أبي محذورة ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) ونحوه من الأحاديث
ثم لو قدرنا أن هذه الزيادة محفوظة وأن الحديث ثابت ولكنه منسوخ وأذان بلال هو آخر الأذانين لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته . وعن الأثرم قال : قيل لأبي عبد الله : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة فقال : أليس قد رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد . وعن الخلال قال : أخبرني عبد الله بن عبد الحميد قال : ناظرت أبا عبد الله في أذان أبي محذورة فقال : نعم قد كان أبو محذورة يؤذن ويثبت تثنية أذان أبي محذورة ولكن إذ أن بلال هو آخر الأذان . وبهذا تعلم أن ما ذكره الشارح بعد إنما هو مأخوذ من الحازمي بدون عزو والله أعلم

3 - وعن ابن عمر قال : ( إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين مرتين والإقامة مرة مرة غير أنه يقول قد قامت الصلاة وكنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

- الحديث أخرجه أيضا الشافعي وأبو عوانة والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وفي إسناده أبو جعفر المؤذن قال شعبة : لا يحفظ لأبي جعفر غير هذا الحديث . وقال ابن حبان : اسمه محمد بن مسلم بن مهران . وقال الحاكم : اسمه عمير بن يزيد بن حبيب الخطمي . قال الحافظ : ووهم الحاكم في ذلك . ورواه أبو عوانة والدارقطني من حديث سعيد بن المغيرة عن عيسى بن يونس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال الحافظ : وأظن سعيدا وهم فيه وإنما رواه عيسى عن شعبة كما تقدم لكن سعيد وثقه أبو حاتم ورواه ابن ماجه من حديث سعد القرظ ( 1 ) مرفوعا : ( كان أذان بلال مثنى مثنى وإقامته مفردة ) وعن أبي رافع نحوه وهما ضعيفان وقد صرح اليعمري في شرح الترمذي أن حديث ابن عمر إسناده صحيح
والحديث يدل على أن الأذان مثنى والإقامة مفردة إلا الإقامة . وقد تقدم البحث عن ذلك
_________
( 1 ) هو صحابي مشهور بقي إلى ولاية الحجاج على الحجاز سنة أربع وسبعين وكان مؤذنا بقباء اه من التقريب ببعض التصرف . وقوله بعد وهما ضعيفان أي الحديثان لا الراويان : تنبه

4 - وعن أبي محذورة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمه هذا الأذان الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم يعود فيقول أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله )
- رواه مسلم والنسائي . وذكر التكبير في أوله أربعا . وللخمسة عن أبي محذورة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمه الأذان تسع عشرة [ ص 26 ] كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة ) قال الترمذي : حديث حسن صحيح

- الرواية الأولى أخرجها أيضا بتربيع التكبير في أوله الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان وقال ابن القطان : الصحيح في هذا تربيع التكبير وبه يصح كون الأذان تسع عشرة كلمة كما في الرواية الثانية مضموما إلى تربيع التكبير الترجيع . قال الحافظ حاكيا عن ابن القطان : وقد وقع في بعض روايات مسلم بتربيع التكبير وهي التي ينبغي أن يعد في الصحيح انتهى
وقد رواه أبو نعيم في المستخرج والبيهقي بتربيع التكبير وقال بعده : أخرجه مسلم عن إسحاق وكذلك أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من طريق ابن المديني عن معاذ . والرواية الثانية أخرجها أيضا الدارمي والدارقطني والحاكم في مستدركه والبيهقي وتكلم عليه بأوجه من التضعيف ردها ابن دقيق العيد في الإمام وصحح الحديث وأخرجه أيضا الطبراني
قوله ( تسع عشرة كلمة ) لأن التكبير في أوله مربع والترجيع في الشهادتين يصير كل واحدة منهما أربعة ألفاظ والحيعلتين أربع كلمات والتكبير كلمتان وكلمة التوحيد في آخره
قوله ( سبع عشرة كلمة ) بتربيع التكبير في أول الإقامة وترك الترجيع وزيادة قد قامت الصلاة مرتين وباقي ألفاظها كالأذان فتكون الإقامة ذلك المقدار
والحديث يدل على تربيع التكبير والترجيع وتربيع تكبير الإقامة وتثنية باقي ألفاظها وقد تقدم الكلام على جميع هذه الأطراف مستوفى وقد عرفت مما سلف أن حديث أبي محذورة راجح لأنه متأخر ومشتمل على الزيادة لا سيما مع كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي لقنه إياه

5 - وعن أبي محذورة قال : ( قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان فعلمه وقال : فإن كان صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والنسائي وصححه ابن خزيمة وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة والحارث بن عبيد والأول غير معروف والثاني فيه مقال ولكنه قد روي من طريق أخرى وقد قدمنا الكلام على الحديث وعلى فقهه في شرح حديث عبد الله بن زيد فليرجع إليه

باب رفع الصوت بالأذان . [ ص 27 ]

1 - عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المؤذن يغفر له مد صوته ويشهد له كل رطب ويابس )
- رواه الخمسة إلا الترمذي

[ ص 28 ] - الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وفي إسناده أبو يحيى الراوي له عن أبي هريرة قال ابن القطان : لا يعرف وادعى ابن حبان في الصحيح أن اسمه سمعان ورواه البيهقي من وجهين آخرين عن الأعمش قال تارة عن أبي صالح وتارة عن مجاهد عن أبي هريرة قال الدارقطني : الأشبه أنه عن مجاهد مرسل . وفي العلل لأبي حاتم سئل أبو زرعة عن حديث منصور فقال فيه عن عطاء رجل من أهل المدينة ووقفه . ورواه أبو أسامة عن الحارث بن الحكم عن أبي هبيرة يحيى بن عباد عن شيخ من الأنصار فقال : الصحيح حديث منصور . ورواه أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب بلفظ : ( المؤذن يغفر له مد صوته ويصدقه من يسمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه ) وصححه ابن السكن ورواه أحمد والبيهقي من حديث مجاهد عن ابن عمر وفي الباب عن أنس عند ابن عدي وعن أبي سعيد عند الدارقطني في العلل . وعن جابر عند الخطيب في الموضح وغير ذلك
والحديث يدل على استحباب مد الصوت في الأذان لكونه سببا للمغفرة وشهادة الموجودات ولأنه أمر بالمجيء إلى الصلاة فكل ما كان أدعى لإسماع المأمومين بذلك كان أولى ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي محذورة : ( ارجع فارفع صوتك ) وهذا أمر برفع الصوت قيل هو تمثيل بمعنى أنه لو كان بين المكان الذي يؤذن فيه والمكان الذي يبلغه صوت ذنوب تملأ تلك المسافة لغفرها الله له

2 - وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة : ( أن أبا سعيد الخدري قال له : إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا يشهد له يوم القيامة قال أبو سعيد : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا الشافعي ومالك في الموطأ وغيرهما
قوله ( تحب الغنم والبادية ) أي لأجل الغنم لأن فيها ما يحتاج في إصلاحها إليه من الرعي وهو في الغالب لا يكون إلا بالبادية
قوله ( في غنمك أو باديتك ) يحتمل أن يكون أو شكا من الراوي ويحتمل أن يكون للتنويع لأن الغنم قد لا تكون في البادية ولأنه قد يكون في البادية حيث لا غنم
قوله ( فارفع صوتك ) فيه دليل لمن قال باستحباب الأذان للمنفرد وهو الراجح عند الشافعية
قوله ( مدى صوت المؤذن ) أي غاية صوته
قوله ( جن ولا إنس ولا شيء ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص
والحديث الأول يبين معنى الشيء المذكور هنا لأن الرطب واليابس لا يخرج عن الاتصاف بأحدهما شيء من الموجودات
وفي رواية لابن خزيمة لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس وبهذا يظهر أن التخصيص بالملائكة كما قال القرطبي أو بالحيوان كما قال غيره غير ظاهر وغير ممتنع عقلا ولا شرعا أن يخلق الله في الجمادات القدرة على السماع والشهادة ومثله قوله تعالى { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وفي صحيح مسلم : ( إني لأعرف حجرا كان يسلم علي ) ومنه ما يثبت في البخاري وغيره من قول النار أكل بعضي بعضا
قال الزين ابن المنير : والسر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجه الدعوى والجواب والشهادة . وقيل المراد بهذه الشهادة إشهار المشهود له بالفضل وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما كذلك يكرم بالشهادة آخرين
وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان وقد تقدم تعليل ذلك وفيه أن حب الغنم والبادية لا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح

باب المؤذن يجعل إصبعيه في أذنيه ويلوي عنقه عند الحيعلة ولا يستدبر

1 - عن أبي جحيفة قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم قال : فخرج بلال بوضوئه فمن ناضح ونائل قال : فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه قال : فتوضأ وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يمينا وشمالا حي على الصلاة حي على الفلاح قال : ثم ركزت [ ص 29 ] له عنزة فتقدم فصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع ) وفي رواية ( تمر من ورائه المرأة والحمار ثم صلى العصر ثم لم يزل يصلي حتى رجع إلى المدينة )
- متفق عليه . ولأبي داود : ( رأيت بلالا خرج إلى الأبطح فأذن فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر ) وفي رواية : ( رأيت بلالا يؤذن ويدور وأتتبع فاه ههنا وههنا وإصبعاه في أذنيه قال : ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قبة له حمراء أراها من أدم قال : فخرج بلال بين يديه بالعنزة فركزها فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بريق ساقيه ) رواه أحمد والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه النسائي بزيادة : ( فجعل يقول في أذانه هكذا ينحرف يمينا وشمالا ) وابن ماجه بزيادة : ( رأيته يدور في أذانه ) لكن في إسناده الحجاج بن أرطأة . ورواه الحاكم بزيادة ألفاظ وقال : قد أخرجاه إلا أنهما لم يذكرا فيه إدخال الإصبعين في الأذنين والاستدارة وهو صحيح على شرطهما . ورواه ابن خزيمة بلفظ : ( رأيت بلالا يؤذن يتبع بفيه يميل رأسه يمينا وشمالا ) ورواه من طريق أخرى بزيادة : ( ووضع الإصبعين في الأذنين ) وكذا رواه أبو عوانة في صحيحه وأبو نعيم في مستخرجه بزيادة : ( رأى أبو جحيفة بلالا يؤذن ويدور وإصبعاه في أذنيه ) وكذا رواه البزار . وقال البيهقي : الاستدارة لم ترد من طريق صحيحة لأن مدارها على سفيان الثوري وهو لم يسمعه من عون بن أبي جحيفة إنما سمعه عن رجل عنه والرجل يتوهم أنه الحجاج والحجاج غير محتج به . قال : ووهم عبد الرزاق في إدراجه وقد وردت الاستدارة من وجه آخر أخرجه أبو الشيخ في كتاب الأذان من طريق حماد وهشيم جميعا عن عون الطبراني من طريق إدريس الأودي عنه وفي الأفراد للدارقطني عن بلال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أذنا وأقمنا أن لا نزيل أقدامنا عن مواضعها ) وإسناده ضعيف
قوله ( فمن ناضح ونائل ) الناضح الآخذ من الماء لجسده تبركا ببقية وضوئه صلى الله عليه وآله وسلم والنائل الآخذ من ماء في جسد صاحبه لفراغ الماء لقصد التبرك . وقيل أن بعضهم كان ينال ما لا يفضل منه شيء وبعضهم كان ينال منه ما ينضحه على غيره . وفي رواية في الصحيح ورأيت بلالا أخرج وضوءا فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء فمن أصاب منه شيئا تمسح به ومن لم يصب أخذ من بلل صاحبه وبهذه الرواية يتبين المراد من تلك العبارة [ ص 30 ] والنضح الرش وقد تقدم الكلام عليه
قوله ( ههنا وههنا ) ظرفا مكان والمراد بهما جهة اليمين والشمال كما فسره بذلك الراوي
وللحديث فوائد وفيه أحكام سيأتي بسط الكلام عليها في مواضعها والمقصود منه ههنا الاستدلال على مشروعية التفات المؤذن يمينا وشمالا وجعل الإصبعين في الأذنين حال الأذان والالتفات المذكور ههنا مقيد بوقت الحيعلتين وقد بوب له ابن خزيمة فقال : باب انحراف المؤذن عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح بفمه لا ببدنه كله وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الرأس وقد اختلفت الروايات في الاستدارة ففي بعضه أنه كان يستدبر وفي بعضها ولم يستدر كما سلف ولكنها لم ترو الاستدارة إلا من طريق حجاج وإدريس الأودي وهما ضعيفان وقد رويت من طريق ثالثة وفيها ضعيف وهو محمد العرزمي . وقد خالف هؤلاء الثلاثة من هو مثلهم أو أمثل وهو قيس بن الربيع فرواه عن عون قال في حديثه ولم يستدر أخرجه أبو داود كما تقدم قال الحافظ : ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عنى بها استدارة الرأس ومن نفاها عنى استدارة الجسد كله ومشى ابن بطال ومن تبعه على ظاهره فاستدل به على جواز الاستدارة
قال ابن دقيق العيد : فيه دليل على استدارة المؤذن للإسماع عند التلفظ بالحيعلتين واختلف هل يستدير ببدنه كله أو بوجهه فقط وقدماه قارتان واختلف أيضا هل يستدير في الحيعلتين الأوليتين مرة وفي الثانيتين مرة أو يقول حي على الصلاة عن يمينه ثم حي على الصلاة عن شماله وكذا في الأخرى وقد رجح هذا الوجه بأنه يكون لكل جهة نصيب من كل كلمة قال : والأول أقرب إلى لفظ الحديث انتهى كلامه بالمعنى . وروي عن أحمد أنه لا يدور إلا إذا كان على منارة يقصد إسماع أهل الجهتين وبه قال أبو حنيفة وإسحاق . وقال النخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وهو رواية عن أحمد : إنه يستحب الالتفات في الحيعلتين يمينا وشمالا ولا يدور ولا يستدير سواء كان على الأرض أو على منارة وقال مالك : لا يدور ولا يلتفت إلا أن يريد إسماع الناس وقال ابن سيرين : يكره الالتفات
والحق استحباب الالتفات حال الأذان بدون تقييد وأما الدوران فقد عرفت اختلاف الأحاديث فيه وقد أمكن الجمع بما تقدم فلا يصار إلى الترجيح
وفي الحديث استحباب وضع الإصبعين في الأذنين وفي ذلك فائدتان ذكرهما العلماء : الأولى أن ذلك أرفع لصوته قال الحافظ : وفيه حديث ضعيف من طريق سعد القرظ عن بلال . والثانية أنه علامة للمؤذن ليعرف من يراه على بعد أو [ ص 31 ] من كان به صمم أنه يؤذن . قال الترمذي : استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان قال : واستحبه الأوزاعي في الإقامة أيضا ولم يرد في الأحاديث كما قال الحافظ تعيين الإصبع التي يستحب وضعها وجزم النووي بأنها المسبحة وإطلاق الإصبع مجاز عن الأنملة

باب الأذان في أول الوقت وتقديمه عليه في الفجر خاصة

1 - عن جابر بن سمرة قال : ( كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس لا يخرم ثم لا يقيم حتى يخرج إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا خرج أقام حين يراه )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

- قوله ( لا يخرم ) أي لا يترك شيئا من ألفاظه . الحديث فيه المحافظة على الأذان عند دخول وقت الظهر بدون تقديم ولا تأخير وهكذا سائر الصلوات إلا الفجر لما سيأتي . وفيه أيضا أن المقيم لا يقيم إلا إذا أراد الإمام الصلاة وقد أخرج ابن عدي من حديث أبي هريرة مرفوعا : ( المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة ) وضعفه ولعل تضعيفه له لأن في إسناده شريكا القاضي وقد أخرج البيهقي نحوه عن علي رضي الله عنه من قوله وقال : ليس بمحفوظ ورواه أبو الشيخ من طريق أبي الجوزاء عن ابن عمه وفيه معارك وهو ضعيف . ويعارض حديث الباب وما في معناه ما عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ : ( أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ) أي خرجت لأنه يدل على أن المقيم شرع في الإقامة قبل خروجه ويمكن الجمع بين الحديثين بأن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيشرع في الإقامة عند أول رؤيته له قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا ويشهد لهذا ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب ( أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف )
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود ومستخرج أبي عوانة : ( أنهم كانوا يعدلون الصفوف قبل خروجه صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي حديث أبي قتادة : ( أنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهاهم عن ذلك ) لاحتمال أن يقع له [ ص 32 ] شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم الانتظار
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد ذكر حديث الباب : وفيه أن الفريضة تغني عن تحية المسجد انتهى

2 - وعن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادي بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم )
- رواه الجماعة إلا الترمذي

- قوله ( أحدكم ) في رواية للبخاري ( أحد منكم ) شك من الراوي وكلاهما يفيد العموم
قوله ( من سحوره ) بفتح أوله اسم لما يؤكل في السحر . ويجوز الضم وهو اسم الفعل
قوله ( ليرجع ) بفتح الياء وكسر الجيم المخففة يستعمل هذا لازما ومتعديا تقول رجع زيد ورجعت زيدا ولا يقال في المتعدي بالتثقيل ومن رواه بالضم والتثقيل فقد أخطأ لأنه يصير من الترجيع وهو الترديد وليس مرادا هنا وإنما معناه يرد القائم أي المتهجد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا أو يتسحر إن كان له حاجة إلى الصيام ويوقظ النائم ليتأهب للصلاة بالغسل والوضوء
والحديث يدل على جواز الأذان قبل دخول الوقت في صلاة الفجر خاصة وقد ذهب إلى مشروعيته الجمهور مطلقا وخالف في ذلك الثوري وأبو حنيفة ومحمد والهادي والقاسم والناصر وزيد بن علي قال الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم : إنه يكتفى به للصلاة وقال ابن المنذر وطائفة من أهل الحديث والغزالي : أنه لا يكتفى به . وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء وتعقب بحديث الباب وأجيب بأنه مسكوت عنه وعلى التنزل فمحله ما إذا لم يرد نطق بخلافه وههنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة الآتي وهو يدل على عدم الاكتفاء نعم حديث زياد بن الحارث عند أبي داود يدل على الاكتفاء فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام لكن في إسناده ضعف كما قال الحافظ . وأيضا فهي واقعة عين وكانت في سفر ومن ثم قال القرطبي : إنه مذهب واضح . ويدل أيضا على عدم الاكتفاء أن الأذان المذكور قد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغرض به فقال : ( ليرجع قائمكم ) الحديث فهو لهذه الأغراض المذكورة لا للإعلام بالوقت والأذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة والأذان قبل الوقت ليس إعلاما بالوقت وتعقب بأن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاما بأنه دخل أو قارب أن يدخل
( واحتج المانعون ) من الأذان قبل دخول الوقت بحجج منها قوله صلى الله عليه و سلم لبلال [ ص 33 ] ( لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر ومد يديه عرضا ) أخرجه أبو داود وبما أخرجه أيضا من حديث ابن عمر : ( أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع فينادي ألا أن العبد نام ) قالوا : فوجب تأويل حديث الباب بما قال بعض الحنفية أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان وإنما كان تذكيرا كما يقع للناس اليوم ( 1 ) وأجيب عن الاحتجاج بالحديثين المذكورين بأن الأول منهما لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين لا سيما مع إشعار الحديث بالاعتياد . وأما الثاني فلا حجة فيه لأنه قد صرح بأنه موقوف أكابر الأئمة كأحمد والبخاري والذهلي وأبي داود وأبي حاتم والدارقطني والأثرم والترمذي وجزموا بأن حمادا أخطأ في رفعه وأن الصواب وقفه
وأما التأويل المذكور فقال الحافظ في الفتح : إنه مردود لأن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا وقد تضافرت الأحاديث على التعبير بلفظ الأذان قطعا فحمله على معناه الشرعي مقدم ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين والحديث ليس فيه تعيين الوقت الذي كان بلال يؤذن فيه وقد اختلف من أي وقت يشرع في ذلك فقيل إنه يشرع وقت السحر ورجحه جماعة من أصحاب الشافعي . وقيل إنه يشرع من النصف الأخير ورجحه النووي وتأول ما خالفه وقيل يشرع للسبع الأخير في الشتاء وفي الصيف لنصف السبع قاله الجويني . وقيل وقته الليل جميعه ذكره صاحب العمدة وكأن مسنده إطلاق لفظ بليل . وقيل بعد آخر اختيار العشاء وقد ورد ما يشعر بتعيين الوقت الذي كان بلال يؤذن فيه وهو ما رواه النسائي والطحاوي من حديث عائشة : ( إنه لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل هذا ) وكانا يؤذنان في بيت مرتفع كما أخرجه أبو داود فهذه الرواية تقيد إطلاق سائر الروايات ويؤيد هذا ما أخرجه الطحاوي أن بلالا وابن أم مكتوم كانا يقصدان وقتا واحدا فيخطئه بلال ويصيبه ابن أم مكتوم . وقد اختلف في أذان بلال بليل هل كان في رمضان فقط أم في جميع الأوقات فادعى ابن القطان الأول قال الحافظ : وفيه نظر . والحكمة في اختصاص صلاة الفجر لهذا من بين الصلوات ما ورد من الترغيب في الصلاة لأول الوقت والصبح يأتي غالبا عقيب النوم فناسب أن [ ص 34 ] ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة الوقت
_________
( 1 ) الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين لنا كيفية الأذان في جميع الأوقات وبيانه إنما هو بيان للعمل المشروع الذي به يقبل . والقياس ممنوع في العبادات اتفاقا وتم التشريع وانقطع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكل ما خالف هديه وعمله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان عليه فهو مردود بنص الكتاب والسنة وإجماع من سلف من الصحابة والتابعين والله أعلم

3 - وعن سمرة بن جندب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا يعني معترضا )
- رواه مسلم وأحمد والترمذي . ولفظهما : ( لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق )

4 - وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )
- متفق عليه ولأحمد والبخاري ( فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ) ولمسلم : ( ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا )

- قوله ( المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ) صفة هذه الإشارة مبينة في صحيح مسلم في الصوم من حديث ابن مسعود بلفظ : ( وليس أن يقول هكذا وهكذا وصوب يده ورفعها حتى يقول هكذا وفرج بين إصبعيه ) وفي رواية : ( ليس الذي يقول هكذا وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض ولكن الذي يقول هكذا وجمع أصابعه ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ) وفي رواية : ( ليس الذي يقول هكذا ولكن يقول هكذا ) وفسرها جرير بأن المراد أن الفجر هو المعترض وليس بالمستطيل والمعترض هو الفجر الصادق ويقال له الثاني والمستطير بالراء وأما المستطيل باللام فهو الفجر الكاذب الذي يكون كذنب السرحان . وفي البخاري من حديث ابن مسعود : ( وليس أن يقول الفجر أو الصبح وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا ) وقال زهير بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم أمرهما على يمينه وشماله
قوله ( حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) في رواية للبخاري ( حتى ينادي ) وبتلك الزيادة أعني قوله فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر أوردها في الصيام
قوله ( ولمسلم ولم يكن بينهما ) هذه الزيادة ذكرها مسلم في الصيام من حديث ابن عمر وذكرها البخاري في الصيام من كلام القاسم قال الحافظ في أبواب الأذان من الفتح : ولا يقال إنه مرسل لأن القاسم تابعي فلم يدرك القصة المذكورة لأنه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث وعند الطحاوي من رواية يحيى بن القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة بلفظ : ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا . قال النووي في شرح مسلم : قال العلماء معناه أن بلالا كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها ثم يرقى [ ص 35 ] ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر
والحديث يدل على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد وأما الزيادة فليس في الحديث تعرض لها ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أنه يكره الزيادة على أربعة لأن عثمان اتخذ أربعة ولم تنقل الزيادة عن أحد من الخلفاء الراشدين وجوزه بعضهم من غير كراهة قالوا : إذا جازت الزيادة لعثمان على ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جازت الزيادة لغيره . قال أبو عمر ابن عبد البر : وإذا جاز اتخاذ مؤذنين جاز أكثر من هذا العدد إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له اه
والمستحب أن يتعاقبوا واحدا بعد واحد كما اقتضاه الحديث إن اتسع الوقت لذلك كصلاة الفجر فإن تنازعوا في البداءة أقرع بينهم
وفي الحديث دليل على جواز أذان الأعمى قال ابن عبد البر : وذلك عند أهل العلم إذا كان معه مؤذن آخر يهديه للأوقات وقد نقل عن ابن مسعود وابن الزبير كراهة أذان الأعمى . وعن ابن عباس كراهة إقامته وللحديثين المذكورين ههنا فوائد وأحكام قد سبق بعضها في شرح حديث ابن مسعود

باب ما يقول عند سماع الأذان والإقامة وبعد الأذان

1 - عن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن )
- رواه الجماعة

- وفي الباب عن أبي رافع عند النسائي . وعن أبي هريرة عند النسائي أيضا . وعن أم حبيبة عند الطحاوي وعن ابن عمر عند أبي داود والنسائي . وعن عائشة عند أبي داود . وعن معاذ عند أبي الشيخ . وعن معاوية عند النسائي
قوله ( إذا سمعتم ) ظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة قاله النووي في شرح المهذب
قوله ( فقولوا مثل ما يقول المؤذن ) ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى عند قوله مثل ما يقول وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها ولم يصب صاحب العمدة في حذفها قاله الحافظ
قوله ( مثل ما يقول ) قال الكرماني : [ ص 36 ] قال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها . قال الحافظ : والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت . وأصرح من ذلك حديث عمر بن الخطاب الآتي بعد هذا
والحديث يدل على أنه يقول السامع مثل ما يقول المؤذن في جميع ألفاظ الأذان الحيعلتين وغيرهما وقد ذهب الجمهور إلى تخصيص الحيعلتين بحديث عمر الآتي فقالوا يقول مثل ما يقول فيما عدا الحيعلتين وأما في الحيعلتين فيقول لا حول ولا قوة إلا بالله
وقال ابن المنذر : يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما قال : فلم لا يقال يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة . والظاهر من قوله في الحديث فقولوا التعبد بالقول وعدم كفاية إمرار المجاوبة على القلب . والظاهر من قوله مثل ما يقول عدم اشتراط المساواة من جميع الوجوه . قال اليعمري : لاتفاقهم على أنه لا يلزم المجيب أن يرفع صوته ولا غير ذلك . قال الحافظ : وفيه بحث لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته ولاحتياج المؤذن إلى الإعلام شرع له رفع الصوت بخلاف السامع فليس مقصوده إلا الذكر والسر والجهر مستويان في ذلك
وظاهر الحديث إجابة المؤذن في جميع الحالات من غير فرق بين المصلي وغيره . وقيل يؤخر المصلي الإجابة حتى يفرغ . وقيل يجيب إلا في الحيعلتين . قال الحافظ : والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة بل يؤخرها حتى يفرغ وكذا حال الجماع والخلاء . قيل والقول بكراهة الإجابة في الصلاة يحتاج إلى دليل ولا دليل ولا يخفى أن حديث إن في الصلاة لشغلا دليل على الكراهة ويؤيده امتناع النبي صلى الله عليه و سلم من إجابة السلام فيها وهو أهم من الإجابة للمؤذن
وظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول المؤذن من غير فرق بين الترجيع وغيره . وفيه متمسك لمن قال بوجوب الإجابة لأن الأمر يقتضيه بحقيقته وقد حكى ذلك الطحاوي عن قوم من السلف وبه قالت الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب . وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب . قال الحافظ : واستدلوا بحديث أخرجه مسلم وغيره : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع مؤذنا فلما كبر قال على الفطرة فلما تشهد قال خرج من النار ) . قالوا فلما قال صلى الله عليه و سلم غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك [ ص 37 ] للاستحباب ورد بأنه ليس في الرواية أنه لم يقل مثل ما قال وباحتمال أنه وقع ذلك قبل الأمر بالإجابة واحتمال أن الرجل الذي سمعه النبي صلى الله عليه و سلم يؤذن لم يقصد الأذان وأجيب عن هذا الأخير بأنه وقع في بعض طرق هذا الحديث أنه حضرته الصلاة وقد عرفت غير مرة أن فعله صلى الله عليه و سلم لا يعارض القول الخاص بنا وهذا منه . والظاهر من الحديث التعبد بالقول مثل ما يقول المؤذن وسواء كان المؤذن واحدا أو جماعة . قال القاضي عياض : وفيه خلاف بين السلف فمن رأى الاقتصار على الإجابة للأول احتج بأن الأمر لا يقتضي التكرار ويلزمه على ذلك أن يكتفي بإجابة المؤذن مرة واحدة في العمر

2 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله قال : أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال : أشهد أن محمدا رسول الله قال : أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال : حي على الصلاة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال : حي على الفلاح قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال : الله أكبر الله أكبر قال : الله أكبر الله أكبر ثم قال : لا إله إلا الله قال : لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة )
- رواه مسلم وأبو داود

- الحديث أخرج البخاري نحوه من حديث معاوية وقال : هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يقول . قال الحافظ في الفتح : وقد وقع لنا هذا الحديث يعني حديث معاوية وذكر إسنادا متصلا بعيسى بن طلحة قال : ( دخلنا على معاوية فنادى مناد بالصلاة فقال : الله أكبر الله أكبر فقال معاوية : الله أكبر الله أكبر فقال : أشهد أن لا إله إلا الله فقال معاوية : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله فقال : أشهد أن محمدا رسول الله فقال معاوية : وأنا أشهد أن محمدا رسول الله ولما قال : حي على الصلاة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال : هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم )
قوله ( لا حول ولا قوة ) قال النووي في شرح مسلم : قال أبو الهيثم : الحول الحركة أي لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله تعالى وكذا قال ثعلب وآخرون : وقيل لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله وقيل لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته وحكي هذا عن ابن مسعود وحكى الجوهري لغة غريبة ضعيفة أنه يقال لا حيل ولا قوة إلا بالله قال : والحول والحيل بمعنى . ويقال في [ ص 38 ] التعبير عن قولهم لا حول ولا قوة إلا بالله الحوقلة هكذا قال الأزهري والأكثرون . وقال الجوهري : الحولقة فعلى الأول وهو المشهور الحاء والواو من الحول والقاف من القوة واللام من اسم الله وعلى الثاني الحاء واللام من الحول والقاف من القوة والأول أولى لئلا يفصل بين الحروف ومثل الحوقلة الحيعلة في حي على الصلاة وعلى الفلاح . والبسملة في بسم الله والحمدلة في الحمد لله . والهيللة في لا إله إلا الله والسبحلة في سبحان الله انتهى كلامه
قوله ( دخل الجنة ) قال القاضي عياض : إنما كان كذلك لأن ذلك توحيد وثناء على الله تعالى وانقياد لطاعته وتفويض إليه بقوله لا حول ولا قوة إلا بالله فمن حصل هذا فقد حاز حقيقة الإيمان وكمال الإسلام واستحق الجنة بفضل الله وإنما أفرد صلى الله عليه و سلم الشهادتين والحيعلتين في هذا الحديث مع أن كل نوع منها مثنى كما هو المشروع لقصد الاختصار . قال النووي : فاختصر صلى الله عليه وآله وسلم من كل نوع شطرا تنبيها على باقيه والحديث قد تقدم الجمع بينه وبين الحديث الذي قبله

3 - وعن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أن بلالا أخذ في الإقامة فلما أن قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أقامها الله وأدامها ) وقال في سائر الإقامة بنحو حديث عمر في سائر الأذان
- رواه أبو داود

- الحديث في إسناده رجل مجهول وشهر بن حوشب تكلم فيه غير واحد ووثقه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وفيه دلالة على استحباب مجاوبة المقيم لقوله وقال في سائر الإقامة بنحو حديث عمر . وفيه أيضا أنه يستحب لسامع الإقامة أن يقول عند قول المقيم قد قامت الصلاة أقامها الله وأدامها
قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه دليل على أن السنة أن يكبر الإمام بعد الفراغ من الإقامة انتهى . وفي ذلك خلاف لعله يأتي إن شاء الله تعالى

4 - وعن جابر ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وأبعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة )
- رواه الجماعة إلا مسلما

- وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند الطحاوي وعن أنس عند ابن حبان في فوائد الأصبهانيين له وعن ابن عباس عند ابن حبان أيضا في كتاب الأذان . وعن [ ص 39 ] أبي أمامة عند الضياء المقدسي ورواه الحاكم في المستدرك وفيه عفير بن معدان وقد تكلم فيه غير واحد وعن عبد الله بن عمرو وسيأتي
قوله ( رب هذه الدعوة التامة ) بفتح الدال والمراد بها دعوة التوحيد لقوله تعالى { له دعوة الحق } وقيل لدعوة التوحيد تامة لأنه لا يدخلها تغيير ولا تبديل بل هي باقية إلى يوم القيامة . وقال ابن التين : وصفت بالتامة لأن فيها أتم القول وهو لا إله إلا الله
قوله ( الوسيلة ) هي ما يتقرب به يقال توسلت أي تقربت وتطلق على المنزلة العلية وسيأتي تفسيرها في الحديث الذي بعد هذا
قوله ( والفضيلة ) أي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق ويحتمل أن تكون تفسيرا للوسيلة
قوله ( مقاما محمودا ) أي يحمد القائم فيه وهو يطلق على كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات ونصبه على الظرفية أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا أو ضمن ابعثه معنى أقمه أو على أنه مفعول به ومعنى ابعثه أعطه ويجوز أن يكون حالا أي ابعثه ذا مقام محمود والتنكير للتفخيم والتعظيم كما قال الطيبي كأنه قال مقاما أي مقام محمودا بكل لسان . وقد روي بالتعريف عند النسائي وابن حبان والطحاوي والطبراني والبيهقي وهذا يرد على ما أنكر ثبوته معرفا كالنووي
قوله ( الذي وعدته ) أراد بذلك قوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } وذلك لأن عسى في كلام الله للوقوع . قال الحافظ : والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف وليس صفة للنكرة وسيأتي تفسير حلت له الشفاعة في الحديث الذي بعد هذا

5 - وعن عبد الله بن عمرو : ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله بها عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه

- قوله ( مثل ما يقول ) قد تقدم الكلام على ذلك
قوله ( ثم صلوا علي ) هذه زيادة ثابتة في الصحيح وقبولها متعين
قوله ( ثم سلوا الله ) الخ قد تقدم ذكر بعض الأقوال في تفسير الوسيلة والمتعين المصير إلى ما في هذا الحديث من تفسيرها
قوله ( حلت عليه الشفاعة ) وفي الحديث الأول حلت له الشفاعة قال الحافظ : واللام بمعنى على ومعنى حلت أي استحقت ووجبت أو نزلت عليه ولا يجوز أن تكون من الحل [ ص 40 ] لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة
قوله ( شفاعتي ) استشكل بعضهم جعل ذلك ثوابا لقائل ذلك مع ما ثبت أن الشفاعة للمذنبين وأجيب بأن له صلى الله عليه و سلم شفاعات أخر كإدخال الجنة بغير حساب وكرفع الدرجات فيعطي كل أحد ما يناسبه ونقل عياض عن بعض شيوخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلصا مستحضرا إجلال النبي صلى الله عليه و سلم لا من قصد بذلك مجرد الثواب ونحو ذلك . قال الحافظ : وهو تحكم غير مرضي ولو كان لإخراج الغافل اللاهي لكان أشبه قال المهلب : في الحديث الحض على الدعاء في أوقات الصلوات لأنه حال رجاء الإجابة

6 - وعن أنس بن مالك قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي

- الحديث أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والضياء في المختارة وحسنه الترمذي ورواه سليمان التيمي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا نودي بالأذان فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء ) وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند الأذان تفتح أبواب السماء وعند الإقامة لا ترد دعوة ) وقد روي من حديث سهل بن سعد الساعدي رواه مالك عن ابن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : ساعتان تفتح لهما أبواب السماء وقل داع ترد عليه دعوته عند حضور النداء للصلاة والصف في سبيل الله . قال ابن عبد البر : هكذا هو موقوف على سهل بن سعد في الموطأ عند جماعة الرواة ومثله لا يقال من قبل الرأي ثم ساقه مرفوعا من طريق أبي بشر الدولابي قال حدثنا أبو عمير أحمد بن عبد العزيز بن سويد البلوي حدثنا أيوب بن سويد قال حدثنا مالك عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر نحو الحديث المتقدم
الحديث يدل على قبول مطلق الدعاء بين الأذان والإقامة وهو مقيد بما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم كما في الأحاديث الصحيحة وقد ورد تعيين أدعية تقال حال الأذان وبعده وهو بين الأذان والإقامة منها ما سلف في هذا الباب ومنها ما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه وصححه اليعمري من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا بلفظ : ( من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه ) ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة من [ ص 41 ] حديث عمرو بن العاص : ( أن رجلا قال : يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قل كما يقول فإذا انتهيت فسل تعطه ) ومنها ما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أم سلمة قالت : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقول عند أذان المغرب اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي ) وقد عين ما يدعى به صلى الله عليه و سلم لما قال : ( الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد قالوا : فما نقول رسول الله قال : سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة ) قال ابن القيم : هو حديث صحيح وفي المقام أدعية غير هذه

باب من أذن فهو يقيم

1 - عن زياد بن الحارث الصدائي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أخا صداء أذن قال : فأذنت وذلك حين أضاء الفجر قال : فلما توضأ رسول الله صلى الله عليه و سلم قام إلى الصلاة فأراد بلال أن يقيم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقيم أخو صداء فإن من أذن فهو يقيم )
- رواه الخمسة إلا النسائي ولفظه لأحمد

- الحديث في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحارث الصدائي قال الترمذي : إنما نعرفه من حديث الأفريقي وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره وقال أحمد : لا أكتب حديث الأفريقي قال : ورأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره ويقول : هو مقارب الحديث . والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم اه . قال في البدر المنير : ضعفه لكثرة روايته للمنكرات مع علمه وزهده ورواية المنكرات كثيرا ما تعتري الصالحين لقلة تفقدهم للرواة لذلك قيل لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث اه . وكان سفيان الثوري يعظمه . وقال ابن أبي داود : إنما تكلم الناس فيه لأنه روى عن مسلم بن يسار فقيل : أين رأيته فقال : بأفريقية فقالوا : ما دخل مسلم بن يسار أفريقية قط يعنون البصري ولم يعلموا أن مسلم بن يسار آخر يقال له أبو عثمان الطنبذي وعنه روى
وفي الباب عن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما يقيم من أذن ) أخرجه الطبراني والعقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ في الأذان وفي إسناده سعيد بن راشد [ ص 42 ] وهو ضعيف . قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن سعيد بن راشد هذا فقال : ضعيف الحديث منكر الحديث وقال مرة : متروك قال الحازمي في كتابه الناسخ والمنسوخ : واتفق أهل العلم في الرجل يؤذن ويقيم غيره أن ذلك جائز واختلفوا في الأولوية فقال أكثرهم : لا فرق والأمر متسع وممن رأى ذلك مالك وأكثر أهل الحجاز وأبو حنيفة وأكثر أهل الكوفة وأبو ثور . وقال بعض العلماء : من أذن فهو يقيم قال الشافعي : وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الإقامة وإلى أولوية المؤذن بالإقامة ذهب الهادوية واحتجوا بهذا الحديث واحتج القائلون بعدم الفرق بالحديث الذي سيأتي وسيأتي الكلام عليه والأخذ بحديث الصدائي أولى لأن حديث عبد الله بن زيد الآتي كان أول ما شرع الأذان في السنة الأولى وحديث الصدائي بعده بلا شك قاله الحافظ اليعمري . فإذا أذن واحد فقط فهو الذي يقيم وإذا أذن جماعة دفعة واتفقوا على من يقيم منهم فهو الذي يقيم وإن تشاحوا أقرع بينهم . قال ابن سيد الناس اليعمري : ويستحب أن لا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد إلا إذا لم تحصل به الكفاية اه

2 - وعن عبد الله بن زيد : ( أنه رأى الأذان قال : فجئت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : ألقه على بلال فألقيته فأراد أن يقيم فقلت : يا رسول الله أنا رأيت أريد أن أقيم قال : فأقم أنت فأقام هو وأذن بلال )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث في إسناده محمد بن عمر الواقفي الأنصاري البصري وهو ضعيف ضعفه القطان وابن نمير ويحيى بن معين واختلف عليه فيه فقيل عن محمد بن عبد الله وقيل عبد الله بن محمد قال ابن عبد البر : إسناده أحسن من حديث الأفريقي وقال البيهقي : إن صحا لم يتخالفا لأن قصة الصدائي بعد . وذكره ابن شاهين في الناسخ وله طريق أخرى أخرجها أبو الشيخ عن ابن عباس قال : كان أول من أذن في الإسلام بلال وأول من أقام عبد الله بن زيد . قال الحافظ : وإسناده منقطع لأنه رواه الحكم عن مقسم عن ابن عباس وهذا من الأحاديث التي لم يسمعها الحكم من مقسم وأخرجه الحاكم وفيه أن الذي أقام عمر قال : والمعروف أنه عبد الله بن زيد
والحديث استدل به من قال بعدم أولوية المؤذن بالإقامة وقد تقدم ذكرهم في الحديث الذي قبل هذا وقد عرفت تأخر حديث الصدائي وأرجحية الأخذ به على أنه لو لم يتأخر لكان هذا الحديث خاصا بعبد الله بن زيد والأولوية باعتبار غيره من [ ص 43 ] الأمة والحكمة في التخصيص تلك المزية التي لا يشاركه فيها غيره أعني الرؤيا فإلحاق غيره به لا يجوز لوجهين الأول أنه يؤدي إلى إبطال فائدة النص أعني حديث من أذن فهو يقيم فيكون فاسد الاعتبار . الثاني وجود الفارق وهو بمجرده مانع من الإلحاق

باب الفصل بين النداءين بجلسة

1 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : حدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين أو المؤمنين واحدة ) وذكر الحديث وفيه : ( فجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول قد قامت الصلاة ) وذكر الحديث
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الدارقطني من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل به . ورواه أبو الشيخ في كتاب الأذان من طريق يزيد ابن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد . قال الحافظ : وهذا الحديث ظاهر الانقطاع . قال المنذري : إلا أن قوله في رواية أبي داود حدثنا أصحابنا إن أراد الصحابة فيكون مسندا وإلا فهو مرسل . وفي رواية ابن أبي شيبة وابن خزيمة والطحاوي والبيهقي حدثنا أصحاب محمد فتعين الاحتمال الأول ولهذا صححها ابن حزم وابن دقيق العيد
وقد قدمنا في شرح حديث أنس أنه أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ما يجاب به عن دعوى الانقطاع وإعلال الحديث بها فارجع إليه
والحديث استدل به على استحباب الفصل بين الأذان والإقامة لقوله : ( فأذن ثم قعد قعدة ) وقد تقدم الكلام على ذلك في باب جواز الركعتين قبل المغرب من أبواب الأوقات والكلام على بقية فوائد الحديث قد مر في أول الأذان

باب النهي عن أخذ الأجرة على الأذان

1 - عن عثمان بن أبي العاص قال : ( آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه [ ص 44 ] وسلم أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا )
- رواه الخمسة

- الحديث صححه الحاكم وقال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعثمان بن أبي العاص واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا . وأخرج ابن حبان عن يحيى البكاء قال : سمعت رجلا قال لابن عمر : إني لأحبك في الله فقال له ابن عمر : إني لأبغضك في الله فقال : سبحان الله أحبك في الله وتبغضني في الله قال : نعم إنك تسأل على أذانك أجرا . وروي عن ابن مسعود : ( أنه قال أربع لا يؤخذ عليهن أجر الأذان وقراءة القرآن والمقاسم والقضاء ) ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي . وروى ابن أبي شيبة عن الضحاك أنه كره أن يأخذ المؤذن على أذانه جعلا ويقول إن أعطي بغير مسألة فلا بأس . وروي أيضا عن معاوية بن قرة أنه قال : كان يقال لا يؤذن لك إلا محتسب . وقد ذهب إلى تحريم الأجر شرطا ( 1 ) على الأذان والإقامة الهادي والقاسم والناصر وأبو حنيفة وغيرهم . وقال مالك : لا بأس بأخذ الأجر على ذلك . وقال الأوزاعي : يجاعل عليه ولا يؤاجر . وقال الشافعي في الأم : أحب أن يكون المؤذنون متطوعين قال : وليس للإمام أن يرزقهم وهو يجد من يؤذن متطوعا ممن له أمانة إلا أن يرزقهم من ماله قال : ولا أحسب أحدا ببلد كثير الأهل يعوزه أن يجد مؤذنا أمينا يؤذن متطوعا فإن لم يجده فلا بأس أن يرزق مؤذنا ولا يرزقه إلا من خمس الخمس الفضل
وقال ابن العربي : الصحيح جواز أخذ الأجرة على الأذان والصلاة والقضاء وجميع الأعمال الدينية فإن الخليفة يأخذ أجرته على هذا كله وفي كل واحد منها يأخذ النائب أجرة كما يأخذ المستنيب والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه و سلم : ( ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة ) اه . فقاس المؤذن على العامل وهو قياس في مصادمة النص وفتيا ابن عمر التي مرت لم يخالفها أحد من الصحابة كما صرح بذلك اليعمري وقد عقد ابن حبان ترجمة على الرخصة في ذلك وأخرج عن أبي محذورة أنه قال : ( فألقى علي رسول الله صلى الله عليه و سلم الأذان فأذنت ثم أعطاني حين قضيت التأذين صرة فيها شيء من فضة ) وأخرجه أيضا النسائي [ ص 45 ] قال اليعمري : ولا دليل فيه لوجهين الأول أن قصة أبي محذورة أول ما أسلم لأنه أعطاه حين علمه الأذان وذلك قبل إسلام عثمان بن أبي العاص فحديث عثمان متأخر . الثاني إنها واقعة يتطرق إليها الاحتمال وأقرب الاحتمالات فيها أن يكون من باب التأليف لحداثة عهده بالإسلام كما أعطى حينئذ غيره من المؤلفة قلوبهم ووقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سلبها الاستدلال لما يبقى فيها من الإجمال انتهى . وأنت خبير بأن هذا الحديث لا يرد على من قال إن الأجرة إنما تحرم إذا كانت مشروطة لا إذا أعطيها بغير مسألة والجمع بين الحديثين بمثل هذا حسن
_________
( 1 ) هو حال من الأجر أي وقد ذهب إلى تحريم الأجر إذا كان شرطا فإذا لم يكن شرطا فلا تحريم وسيأتي للشارح النص على ذلك آخر الشرح

باب فيمن عليه فوائت أن يؤذن ويقيم للأولى ويقيم لكل صلاة بعدها

1 - عن أبي هريرة قال : ( عرسنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان قال : ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم صلى سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي . ورواه أبو داود ولم يذكر فيه سجدتي الفجر وقال فيه : ( فأمر بلالا فأذن وأقام وصلى )

- الأمر بالإقامة للمقضية ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : ( وأمر بلالا فأقام الصلاة ) الحديث بطوله في نومهم في الوادي وفيه من حديث أبي قتادة : ( أن بلالا أذن )
قوله ( عرسنا ) قد تقدم تفسيره في باب قضاء الفوائت
قوله ( فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان ) قال النووي : فيه دليل على اجتناب مواضع الشيطان وهو أظهر المعنيين في النهي عن الصلاة في الحمام
قوله ( ثم صلى سجدتين ) يعني ركعتين وفيه دليل على استحباب قضاء النافلة الراتبة
قوله ( فأذن وأقام ) استدل به على مشروعية الأذان والإقامة في الصلاة المقضية وقد ذهب إلى استحبابهما في القضاء الهادي والقاسم والناصر وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وأبو ثور وقال مالك والأوزاعي ورواه المهدي في البحر قولا للشافعي إنه لا يستحب الأذان واحتج لهم بأنه لم ينقل في قضائه الأربع وأجاب عن ذلك بأنه نقل في رواية ثم قال : سلمنا فتركه خوف اللبس وسيأتي [ ص 46 ] حديث قضاء الأربع بعد هذا الحديث مصرحا فيه بالأذان والإقامة وإنما ترك الأذان في رواية أبي هريرة عند مسلم وغيره يوم نومهم في الوادي لما قال النووي في شرح مسلم ولفظه وأما ترك ذكر الأذان في حديث أبي هريرة وغيره فجوابه من وجهين : أحدهما لا يلزم من ترك ذكره أنه لم يؤذن فلعله أذن وأهمله الراوي ولم يعلم به . والثاني لعله ترك الأذان في هذه المرة لبيان جواز تركه وإشارة إلى أنه ليس بواجب متحتم لا سيما في السفر . وقال أيضا : وفي المسألة خلاف والأصح عندنا إثبات الأذان لحديث أبي قتادة وغيره من الأحاديث الصحيحة
وفي الحديث استحباب الجماعة في الفائتة وقد استشكل نومه صلى الله عليه و سلم في الوادي لقوله : ( إن عيني تنام ولا ينام قلبي ) قال النووي : وجوابه من وجهين أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين وإنما يدرك ذلك بالعين والعين نائمة وإن كان القلب يقظان والثاني إنه كان له حالان : أحدهما ينام فيه القلب وصادف هذا الموضع . والثاني لا ينام وهذا هو الغالب من أحواله وهذا التأويل ضعيف والصحيح المعتمد هو الأول اه

2 - وعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه : ( أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال : ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله

- الحديث رجاله رجال الصحيح ولا علة له إلا عدم سماع أبي عبيدة من أبيه وهو الذي جزم به الحافظ أعني عدم سماعه منه
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري عند أحمد والنسائي وقد تقدم . قال اليعمري : وحديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي حدثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه وهذا إسناد صحيح جليل انتهى
وفي الباب أيضا عن جابر عند البخاري ومسلم وقد تقدم وليس فيه ذكر الأذان والإقامة
والحديث استدل به على مشروعية الأذان والإقامة في القضاء وقد تقدم الخلاف في ذلك
وللحديث أحكام [ ص 47 ] وفوائد قد تقدم ذكر بعضها في باب الترتيب في قضاء الفوائت . وقد استشكل الجمع بينه وبين ما في الصحيحين من أن الصلاة التي شغل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة العصر فقط وقد قدمنا طرفا من الكلام على ذلك في باب الصلاة الوسطى وطرفا في باب الترتيب في قضاء الفوائت

أبواب ستر العورة

باب وجوب سترها

1 - عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : ( قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت : فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال : إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها قلت : فإذا كان أحدنا خاليا قال : فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه )
- رواه الخمسة إلا النسائي

- الحديث أخرجه أيضا النسائي في عشرة النساء عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد عن بهز فذكره لا كما قال المصنف وقد علقه البخاري وحسنه الترمذي وصححه الحاكم وأخرجه ابن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده بدون قوله فإذا كان القوم إلى قوله قلت فإذا كان أحدنا وزاد بعد قوله فالله أحق أن يستحيا منه لفظ من الناس وقد عرف من السياق أنه وارد في كشف العورة بخلاف ما قال أبو عبد الله البوني أن المراد بقوله أحق أن يستحيا منه أي فلا يعصى
ومفهوم قوله إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك يدل على أنه يجوز لهما النظر إلى ذلك منه وقياسه أنه يجوز له النظر . ويدل أيضا على أنه لا يجوز النظر لغير من استثنى ومنه الرجل للرجل والمرأة للمرأة وكما دل مفهوم الاستثناء على ذلك فقد دل عليه منطوق قوله فإذا كان القوم بعضهم في بعض ويدل على أن التعري في الخلاء غير جائز مطلقا . وقد استدل البخاري على جوازه في الغسل بقصة موسى وأيوب . ومما يدل على عدم الجواز مطلقا حديث ابن عمر عند الترمذي بلفظ : ( قال رسول الله صلى الله عليه [ ص 48 ] وسلم : إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم )
ويدل على ما أشعر به الحديث مفهوما ومنطوقا من عدم جواز نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم وأبي داود والترمذي بلفظ : ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد )
والحديث يدل على وجوب الستر للعورة كما ذكر المصنف لقوله ( احفظ عورتك ) وقوله ( فلا يرينها ) وقد ذهب قوم إلى عدم وجوب ستر العورة وتمسكوا بأن تعليق الأمر بالاستطاعة قرينة تصرف الأمر إلى معناه المجازي الذي هو الندب ورد بأن ستر العورة مستطاع لكل أحد فهو من الشروط التي يراد بها التهييج والإلهاب كما علم في علم البيان وتمسكوا أيضا بما سيأتي من كشفه صلى الله عليه و سلم لفخذه وسيأتي الجواب عليه . والحق وجوب ستر العورة في جميع الأوقات إلا وقت قضاء الحاجة وإفضاء الرجل إلى أهله كما في حديث ابن عمر السابق وعند الغسل على الخلاف الذي مر في الغسل ومن جميع الأشخاص إلا في الزوجة والأمة كما في حديث الباب والطبيب والشاهد والحاكم على نزاع في ذلك

باب بيان العورة وحدها

1 - عن علي رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت )
- رواه أبو داود وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبزار من حديث علي وفيه ابن جريج عن حبيب . وفي رواية أبي داود من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج قال أخبرت عن حبيب بن أبي ثابت وقد قال أبو حاتم في العلل : إن الواسطة [ ص 49 ] بينهما هو الحسن بن ذكوان قال : ولا يثبت لحبيب رواية عن عاصم . قال الحافظ : فهذه علة أخرى كذا قال ابن معين إن حبيبا لم يسمعه من عاصم وإن بينهما رجلا ليس بثقة وبين البزار أن الواسطة بينهما هو عمرو بن خالد الواسطي ووقع في زيادات المسند وفي الدارقطني ومسند الهيثم بن كليب تصريح ابن جريج بإخبار حبيب له وهو وهم كما قال الحافظ
والحديث يدل على أن الفخذ عورة وقد ذهب إلى ذلك العترة والشافعي وأبو حنيفة . قال النووي : ذهب أكثر العلماء إلى أن الفخذ عورة وعن أحمد ومالك في رواية العورة القبل والدبر فقط وبه قال أهل الظاهر وابن جرير والأصطخري . قال الحافظ : في ثبوت ذلك عن ابن جرير نظر فقد ذكر المسألة في تهذيبه ورد على من زعم أن الفخذ ليست بعورة واحتجوا بما سيأتي في الباب الذي بعد هذا والحق أن الفخذ من العورة وحديث علي هذا وإن كان غير منتهض على الاستقلال ففي الباب من الأحاديث ما يصلح للاحتجاج به على المطلوب كما ستعرف ذلك
وأما حديث عائشة وأنس الآتيان في الباب الذي بعد هذا فهما واردان في قضايا معينة مخصوصة يتطرق إليها من احتمال الخصوصية أو البقاء على أصل الإباحة ما لا يتطرق إلى الأحاديث المذكورة في هذا الباب لأنها تتضمن إعطاء حكم كلي وإظهار شرع عام فكان العمل بها أولى كما قال القرطبي على أن ظرف الفخذ قد يتسامح في كشفه لا سيما في مواطن الحرب ومواقف الخصام وقد تقرر في الأصول أن القول أرجح من الفعل

2 - وعن محمد بن جحش قال : ( مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال : يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة )
- رواه أحمد والبخاري في تاريخه

- الحديث أخرجه البخاري أيضا في صحيحه تعليقا والحاكم في المستدرك كلهم من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي كثير مولى محمد بن جحش عنه فذكره
قال الحافظ في الفتح : رجاله رجال الصحيح غير أبي كثير فقد روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحا بتعديل . وقد أخرج ابن قانع هذا الحديث من طريقه أيضا قال : وقد وقع لي حديث محمد بن جحش هذا مسلسلا بالمحمديين من ابتدائه إلى انتهائه وقد أمليته في الأربعين المتباينة
والحديث يدل على أن الفخذ عورة وقد تقدم ذكر الخلاف فيه وبيان ما هو الحق . ومحمد بن جحش هذا هو محمد بن عبد الله بن جحش نسب إلى جده له ولأبيه صحبة وزينب بنت جحش هي عمته ومعمر المشار إليه هو معمر بن عبد الله بن نضلة القرشي العدوي

3 - [ ص 50 ] وعن ابن عباس : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الفخذ عورة )
- رواه الترمذي وأحمد ولفظه : ( مر رسول الله صلى الله عليه و سلم على رجل وفخذه خارجة فقال : غط فخذيك فإن فخذ الرجل من عورته )

- الحديث في إسناده أبو يحيى القتات بقاف ومثناتين وهو ضعيف مشهور بكنيته . واختلف في اسمه على ستة أقوال أو سبعة أشهرها دينار . وقد أخرج هذا الحديث البخاري في صحيحه تعليقا وهو يدل على أن الفخذ عورة وقد تقدم الكلام في ذلك

4 - وعن جرهد الأسلمي قال : ( مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بردة وقد انكشفت فخذي فقال : غط فخذك فإن الفخذ عورة )
- رواه مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي وقال : حسن

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه وعلقه البخاري في صحيحه وضعفه في تاريخه للاضطراب في إسناده . قال الحافظ في الفتح : وقد ذكرت كثيرا من طرقه في تغليق التعليق . وجرهد هذا هو بفتح الجيم وسكون الراء وفتح الهاء . والحديث من أدلة القائلين بأن الفخذ عورة وهم الجمهور كما تقدم

باب من لم ير الفخذ من العورة وقال هي السوأتان فقط

1 - عن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا كاشفا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه فلما قاموا قلت : يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك فقال : يا عائشة ألا أستحيي من رجل والله إن الملائكة لتستحيي منه )
- رواه أحمد . وروى أحمد هذه القصة من حديث حفصة بنحو ذلك ولفظه : ( دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فوضع ثوبه بين فخذيه وفيه فلما استأذن عثمان تجلل بثوبه )

- الحديث أخرج نحوه البخاري تعليقا فقال في صحيحه في بعض ما يذكر في الفخذ وقال أبو موسى : غطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركبتيه حين دخل عثمان . وأخرجه [ ص 51 ] مسلم من حديث عائشة بلفظ : ( قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه ) الحديث وفيه فلما استأذن عثمان جلس . وحديث حفصة أخرجه الطحاوي والبيهقي من طريق ابن جريج قال أخبرني أبو خالد عن عبد الله بن سعيد المدني حدثتني حفصة بنت عمر : ( قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عندي يوما وقد وضع ثوبه بين فخذيه فدخل أبو بكر ) الحديث
والحديث استدل به من قال إن الفخذ ليست بعورة وقد تقدم ذكرهم في الباب الأول وهو لا ينتهض لمعارضة الأحاديث المتقدمة لوجوه : الأول ما قدمنا من أنها حكاية فعل . الثاني أنها لا تقوى على معارضة تلك الأقوال الصحيحة العامة لجميع الرجال . الثالث التردد الواقع في رواية مسلم التي ذكرناها ما بين الفخذ والساق والساق ليس بعورة إجماعا . الرابع غاية ما في هذه الواقعة أن يكون ذلك خاصا ( 1 ) بالنبي صلى الله عليه و سلم لأنه لم يظهر فيها دليل يدل على التأسي به في مثل ذلك فالواجب التمسك بتلك الأقوال الناصة على أن الفخذ عورة
_________
( 1 ) أقول : أما دعوى الخصوصية في هذا غير معقولة إذ كيف يأمر بالحياء غيره وهو في المكان الأعلى من ذلك . فيحمل أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم صرف الأمر عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الكراهة فتدبر . والله أعلم

2 - وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذه )
- رواه أحمد والبخاري وقال : حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط

- قوله ( حسر الإزار ) بمهملات مفتوحات أي كشف وضبطه بعضهم بضم أوله وكسر ثانيه على البناء للمفعول بدليل رواية مسلم فانحسر . قال الحافظ : وليس ذلك بمستقيم إذ لا يلزم من وقوعه كذلك في رواية مسلم أن لا يقع عند البخاري على خلافه وزاد البخاري في هذا الحديث عن أنس بلفظ : ( وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله ) وهو من جملة حجج القائلين بأن الفخذ ليست بعورة لأن ظاهره أن المس كان بدون الحائل ومس العورة بدون حائل لا يجوز ورد بما في صحيح مسلم ومن تابعه من أن الإزار لم تنكشف بقصد منه صلى الله عليه و سلم ويمكن أن يقال إن الاستمرار على ذلك يدل على مطلوبهم لأنه وإن كان من غير قصد لكن لو كانت عورة لم يقر على ذلك لمكان [ ص 52 ] عصمته صلى الله عليه و سلم وظاهر سياق أبي عوانة والجوزقي من طريقي عبد الوارث عن عبد العزيز يدل على استمرار ذلك لأنه بلفظ : ( فأجرى رسول الله صلى الله عليه و سلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله وإني لأرى بياض فخذيه ) وقد عرفت الجواب عن هذا الاحتجاج مما سلف

باب بيان أن السرة والركبة ليستا من العورة

1 - عن أبي موسى : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قاعدا في مكان فيه ماء فكشف عن ركبتيه أو ركبته فلما دخل عثمان غطاها )
- رواه البخاري

- الحديث في البخاري في كتاب الصلاة باللفظ الذي ذكرناه في شرح حديث عائشة وقد تقدم الكلام على الحديث هنالك وهو بهذا اللفظ المذكور هنا في المناقب من صحيح البخاري . واستدل المصنف به وبما بعده لمذهب من قال إن الركبة والسرة ليستا من العورة أما الركبة فقال الشافعي : إنها ليست عورة وقال الهادي والمؤيد بالله وأبو حنيفة وعطاء وهو قول الشافعي : إنها عورة وأما السرة فالقائلون بأن الركبة عورة قائلون بأنها غير عورة وخالفهم في ذلك الشافعي فقال : إنها عورة على عكس ما مر له في الركبة والاحتجاج بحديث الباب لمن قال إن الركبة ليست بعورة لا يتم لأن الكشف كان لعذر الدخول في الماء وقد تقدم في الغسل أدلة جوازه والخلاف فيه وأيضا تغطيتها من عثمان مشعر بأنها عورة وإن أمكن تعليل التغطية بغير ذلك فغاية الأمر الاحتمال
واستدل القائلون بأن الركبة من العورة بحديث أبي أيوب عند الدارقطني والبيهقي بلفظ : ( عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته ) وحديث أبي سعيد مرفوعا عند الحارث ابن أبي أسامة في مسنده بلفظ : ( عورة الرجل ما بين سرته وركبته ) وحديث عبد الله بن جعفر عند الحاكم بنحوه قالوا : والحد يدخل في المحدود كالمرفق وتغليبا لجانب الحصر ورد أولا بأن حديث أبي أيوب فيه عباد بن كثير وهو متروك وحديث أبي سعيد فيه شيخ الحارث ابن أبي أسامة داود بن المحبر رواه عن عباد بن كثير عن أبي عبد الله الشامي عن عطاء عنه وهو مسلسل بالضعفاء إلى عطاء وحديث عبد الله بن جعفر فيه أصرم بن حوشب وهو متروك وبالمنع من دخول الحد في المحدود والقياس على الوضوء باطل لأنه دخل [ ص 53 ] بدليل آخر ولأن غسله من مقدمة الواجب وأيضا يلزمهم القول بأن السرة عورة وهم لا يقولون بذلك والجواب الجواب
وقد استدل المهدي في البحر للقائلين بأن الركبة عورة لا السرة بقوله صلى الله عليه و سلم ( أسفل من سرته إلى ركبته ) وبتقبيل أبي هريرة سرة الحسن وروايته ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سيأتي
ويمكن الاستدلال لمن قال إن السرة والركبة ليستا من العورة بما في سنن أبي داود والدارقطني وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث ( وإذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة ) ورواه البيهقي أيضا ولكنه أخص من الدعوى والدليل على مدعي أنهما عورة والواجب البقاء على الأصل والتمسك بالبراءة حتى ينتهض ما يتعين به الانتقال فإن لم يوجد فالرجوع إلى مسمى العورة لغة هو الواجب ويضم إليه الفخذان بالنصوص السالفة

2 - وعن عمير بن إسحاق قال : ( كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة فقال : أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل فقال بقميصه فقبل سرته )
- رواه أحمد

- الحديث في إسناده عمير بن إسحاق الهاشمي مولاهم وفيه مقال . وقد أخرجه الحاكم وصححه بإسناد آخر من غير طريق عمير المذكور وقد استدل به من قال إن السرة ليست بعورة وهو لا يفيد المطلوب لأن فعل أبي هريرة لا حجة فيه وفعل النبي صلى الله عليه و سلم وقع والحسن طفل وفرق بين عورة الصغير والكبير وإلا لزم أن ذكر الرجل ليس بعورة لما روي أنه صلى الله عليه و سلم قبل زبيبة الحسن أو الحسين أخرجه الطبراني والبيهقي من حديث أبي ليلى الأنصاري قال البيهقي : وإسناده ليس بالقوي وروي أيضا من حديث ابن عباس بلفظ : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرج ما بين فخذي الحسين وقبل زبيبته ) أخرجه الطبراني وفي إسناده قابوس بن أبي ظبيان وقد ضعفه النسائي . قال ابن الصلاح : ليس في حديث أبي ليلى تردد بين الحسن والحسين إنما هو الحسن وقد وقع الإجماع على أن القبل والدبر عورة فاللازم باطل فلا يكون الحديث متمسكا لمن قال إن السرة ليست بعورة وقد حكى المهدي في البحر الإجماع على أن سرة الرجل ليست بعورة ثم قال : وفي دعوى الإجماع نظر وقد عرفناك أن القائل بذلك غير محتاج إلى الاستدلال عليه
قوله ( فقال بقميصه ) هذا من التعبير بالقول [ ص 54 ] عن الفعل وهو كثير

3 - وعن عبد الله بن عمر قال : ( صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسرعا قد حفزه النفس قد حسر عن ركبتيه فقال : أبشروا هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم يقول : انظروا إلى عبادي قد صلوا فريضة وهم ينتظرون أخرى )
- رواه ابن ماجه

- الحديث رجاله في سنن ابن ماجه رجال الصحيح فإنه قال حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي حدثنا النضر بن شميل حدثنا حماد عن ثابت عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو فذكره
قوله ( وعقب من عقب ) يقال عقبه تعقيبا إذا جاء بعقبة وقال في النهاية : إن معنى قوله عقب أي أقام في مصلاه بعد ما يفرغ من الصلاة يقال صلى القوم وعقب فلان
قوله ( حفزه النفس ) في القاموس حفزه يحفزه دفعه من خلفه وبالرمح طعنه وعن الأمر أعجله وأزعجه اه
والحديث من أدلة من قال إن الركبة ليست بعورة وقد تقدم الكلام على ذلك وفيه إن انتظار الصلاة بعد فعل الصلاة من موجبات الأجر وأسباب مباهاة رب العزة لملائكته بمن فعل ذلك

4 - وعن أبي الدرداء قال : ( كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أقبل أبو بكر أخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أما صاحبكم فقد غامر فسلم ) وذكر الحديث
- رواه أحمد والبخاري

- قوله ( غامر ) المغامر في الأصل الملقي بنفسه في الغمرة وغمرة الشيء شدته ومزدحمه الجمع غمرات . والمراد بالمغامرة هنا المخاصمة أخذا من الغمر الذي هو الحقد والبغض . والحديث يدل على أن الركبة ليست عورة
قال المصنف رحمه الله : والحجة منه أنه أقره على كشف الركبة ولم ينكره عليه اه

باب أن المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها

1 - عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )
- رواه الخمسة إلا النسائي

- الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم [ ص 55 ] وأعله الدارقطني بالوقف وقال : إن وقفه أشبه وأعله الحاكم بالإرسال ورواه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أبي قتادة بلفظ : ( لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر )
قوله ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) قد تقدم الكلام على لفظ القبول وما يدل عليه . والحائض من بلغت سن المحيض لا من هي ملابسة للحيض فإنها ممنوعة من الصلاة وهو مبين في رواية ابن خزيمة في صحيحه بلفظ : ( لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار ) وقوله ( إلا بخمار ) هو بكسر الخاء ما يغطى به رأس المرأة . قال صاحب المحكم : الخمار النصيف وجمعه أخمرة وخمر
والحديث استدل به على وجوب ستر المرأة لرأسها حال الصلاة واستدل به من سوى بين الحرة والأمة في العورة لعموم ذكر الحائض ولم يفرق بين الحرة والأمة وهو قول أهل الظاهر . وفرقت العترة والشافعي وأبو حنيفة والجمهور بين عورة الحرة والأمة فجعلوا عورة الأمة ما بين السرة والركبة كالرجل . والحجة لهم ما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما وقد ذكرنا لفظ الحديث في شرح حديث أبي موسى المتقدم في الباب الذي قبل هذا وبما رواه أبو داود أيضا بلفظ : ( إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظر إلى عورتها ) قالوا : والمراد بالعورة المذكورة في هذا الحديث ما صرح ببيانه في الحديث الأول . وقال مالك : الأمة عورتها كالحرة حاشا شعرها فليس بعورة وكأنه رأى العمل في الحجاز على كشف الإماء لرؤوسهن هكذا حكاه عنه ابن عبد البر في الاستذكار . قال العراقي في شرح الترمذي : والمشهور عنه أن عورة الأمة كالرجل وقد اختلف في مقدار عورة الحرة فقيل جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد قوليه والشافعي في أحد أقواله وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومالك . وقيل والقدمين وموضع الخلخال وإلى ذلك ذهب القاسم في قول وأبو حنيفة في رواية عنه والثوري وأبو العباس وقيل بل جميعها إلا الوجه وإليه ذهب أحمد بن حنبل وداود . وقيل جميعها بدون استثناء وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي وروي عن أحمد
وسبب اختلاف هذه الأقوال ما وقع من المفسرين من الاختلاف في تفسير قوله تعالى { إلا ما ظهر منها } وقد استدل بهذا الحديث على أن ستر العورة شرط في صحة الصلاة لأن قوله لا يقبل صالح للاستدلال به على الشرطية كما قيل
وقد اختلف في ذلك فقال الحافظ في الفتح : ذهب الجمهور إلى أن ستر العورة [ ص 56 ] من شروط الصلاة قال : وعن بعض المالكية التفرقة بين الذاكر والناسي ومنهم من أطلق كونه سنة لا يبطل تركها الصلاة اه
( احتج الجمهور ) بقوله تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وبما أخرجه البخاري تعليقا ووصله في تاريخه وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان عن سلمة بن الأكوع قال : ( قلت يا رسول الله إني رجل أتصيد أفأصلي في القميص الواحد قال : نعم زره ولو بشوكة ) وسيأتي الكلام على هذا الحديث في باب من صلى في قميص غير مزرر . وبحديث بهز بن حكيم المتقدم في أول هذه الأبواب
ويجاب عن هذه الأدلة بأن غايتها إفادة الوجوب . وأما الشرطية التي يؤثر عدمها في عدم المشروط فلا تصلح للاستدلال بها عليها لأن الشرط حكم وضعي شرعي لا يثبت بمجرد الأوامر نعم يمكن الاستدلال للشرطية بحديث الباب والحديث الآتي بعده وبحديث أبي قتادة عند الطبراني بلفظ : ( لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها ولا جارية بلغت المحيض حتى تختمر ) لكن لا يصفو الاستدلال بذلك عن شوب كدر لأنه أولا يقال نحن نمنع أن نفي القبول يدل على الشرطية لأنه قد نفى القبول عن صلاة الآبق ومن في جوفه الخمر ومن يأتي عرافا مع ثبوت الصحة بالإجماع . وثانيا بأن غاية ذلك أن الستر شرط لصحة صلاة المرأة وهو أخص من الدعوى وإلحاق الرجال بالنساء لا يصح ههنا لوجود الفارق وهو ما في تكشف المرأة من الفتنة وهذا معنى لا يوجد في عورة الرجل . وثالثا بحديث سهل بن سعد عند الشيخين وأبي داود والنسائي بلفظ : ( كان الرجال يصلون مع النبي صلى الله عليه و سلم عاقدين أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى تستوي الرجال جلوسا ) زاد أبو داود ( من ضيق الأزر ) وهذا يدل على عدم وجوب الستر فضلا عن شرطيته . ورابعا بحديث عمرو بن سلمة وفيه : ( فكنت أئمهم وعلي بردة مفتوقة فكنت إذا سجدت تقلصت عني ) وفي رواية : ( خرجت أستي فقالت امرأة من الحي : ألا تغطوا عنا أست قارئكم ) الحديث أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي فالحق أن ستر العورة في الصلاة واجب فقط كسائر الحالات لا شرط يقتضي تركه عدم الصحة
( وقد احتج القائلون ) لعدم الشرطية على مطلوبهم بحجج فقهية واهية منها قولهم : لو كان الستر شرطا في الصلاة لاختص بها ولافتقر إلى النية ولكان العاجز العريان ينتقل إلى بدل كالعاجز عن القيام ينتقل إلى القعود والأول منقوض بالإيمان فهو شرط في الصلاة ولا يختص بها [ ص 57 ] والثاني باستقبال القبلة فإنه غير مفتقر إلى النية . والثالث بالعاجز عن القراءة والتسبيح فإنه يصلي ساكتا

2 - وعن أم سلمة : ( أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم : أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار وقال : إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها )
- رواه أبو داود

3 - وعن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن قال : يرخين شبرا قالت : إذن ينكشف أقدامهن قال : فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه )
- رواه النسائي والترمذي وصححه . ورواه أحمد ولفظه : ( أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألته عن الذيل فقال : اجعلنه شبرا فقلن : إن شبرا لا يستر من عورة فقال : اجعلنه ذراعا )

- حديث أم سلمة أخرجه أيضا الحاكم وأعله عبد الحق بأن مالكا وغيره رووه موقوفا . قال الحافظ : وهو الصواب ولكنه قد قال الحاكم : إن رفعه صحيح على شرط البخاري اه . وفي إسناده عبد الرحمن بن دينار وفيه مقال قال في التقريب : صدوق يخطئ من السابعة
قال أبو داود : روى هذا الحديث مالك بن أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحاق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة لم يذكر واحد منهم النبي صلى الله عليه و سلم قصروا به عن أم سلمة اه . والرفع زيادة لا ينبغي إلغاؤها كما هو مصطلح أهل الأصول وبعض أهل الحديث وهو الحق وحديث ابن عمر هو للجماعة كلهم بدون قول أم سلمة وجواب النبي صلى الله عليه و سلم عليها وسيأتي الكلام عليه في باب الرخصة في اللباس الجميل من كتاب اللباس
وقد استدل بحديث أم سلمة فإن في بعض ألفاظه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها : لا بأس إذا كان الدرع سابغا الخ كما في التلخيص على أن ستر بدن المرأة من شروط صحة الصلاة لأن تقييد نفي البأس بتغطية القدمين مشعر أن البأس فيما عداه ليس إلا فساد الصلاة وأنت خبير بأن هذا الإشعار لو سلم لم يستلزم حصر البأس في الإفساد لأن نقصان الأجر الموجب لنقص الصلاة وعدم كمالها مع صحتها بأس ولو سلم ذلك الاستلزام فغايته أن يفيد الشرطية في النساء كما عرفت مما سلف
وفي هذا الحديث دليل لمن لم يستثن القدمين من عورة المرأة لأن قوله ( يغطي ظهور قدميها ) يدل على عدم العفو وهكذا [ ص 58 ] استدل من قال بالشرطية بما في حديث ابن عمر من قوله صلى الله عليه و سلم ( يرخين شبرا ) وقوله ( يرخينه ذراعا ) وهو كما عرفت غير صالح للاستدلال به على الشرطية المدعاة وغاية ما فيه أن يدل على وجوب ذلك . وفيه أيضا حجة لمن قال : إن قدمي المرأة عورة
قوله ( في درع ) هو قميص المرأة الذي يغطي بدنها ورجلها ويقال له سابغ إذا طال من فوق إلى أسفل
قوله ( يرخين شبرا ) قال ابن رسلان : الظاهر أن المراد بالشبر والذراع أن يكون هذا القدر زائدا على قميص الرجل لا أنه زائد على الأرض

باب النهي عن تجريد المنكبين في الصلاة إلا إذا وجد ما يستر العورة وحدها

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء )
- رواه البخاري ومسلم ولكن قال : ( على عاتقيه ) ولأحمد اللفظان

- الحديث اتفق عليه الشيخان وأبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
قوله ( لا يصلين ) في لفظ : ( لا يصلي ) قال ابن الأثير : كذا هو في الصحيحين بإثبات الياء ووجهه أن لا نافية وهو خبر بمعنى النهي
قال الحافظ : ورواه الدارقطني في غرائب مالك بلفظ : ( لا يصل ) ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء عن مالك بلفظ : ( لا يصلين ) بزيادة نون التأكيد ورواه الإسماعيلي من طريق الثوري عن أبي الزناد بلفظ : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
قوله ( ليس على عاتقه منه شيء ) العاتق ما بين المنكبين إلى أصل العنق والمراد أنه لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه بل يتوشح بهما على عاتقيه فيحصل الستر من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة . قال النووي : قال العلماء : حكمته أنه إذا اتزر به ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يؤمن أن تنكشف عورته بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه ولأنه قد يحتاج إلى إمساكه بيده فيشتغل بذلك وتفوته سنة وضع اليمنى على اليسرى تحت صدره ورفعهما
والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد . قال النووي : ولا خلاف في هذا إلا ما حكى عن ابن مسعود ولا أعلم صحته وأجمعوا أن الصلاة في ثوبين أفضل . ويدل أيضا على المنع من الصلاة في [ ص 59 ] الثوب الواحد إذا يكن على عاتق المصلي منه شيء وقد حمل الجمهور هذا النهي على التنزيه وعن أحمد لا تصح صلاة من قدر على ذلك فتركه وعنه أيضا تصح ويأثم وغفل الكرماني عن مذهب أحمد فادعى الإجماع على جواز ترك جعل طرف الثوب على العاتق وجعله صارفا للنهي عن التحريم إلى الكراهة . وقد نقل ابن المنذر عن محمد بن علي عدم الجواز وكلام الترمذي يدل على ثبوت الخلاف أيضا وعقد الطحاوي له بابا في شرح المغني ونقل المنع عن ابن عمر ثم عن طاوس والنخعي ونقله غيره عن ابن وهب وابن جرير وجمع الطحاوي بين الأحاديث بأن الأصل أن يصلي مشتملا فإن ضاق اتزر
ونقل الشيخ تقي الدين السبكي وجوب ذلك عن الشافعي واختاره . قال الحافظ : لكن المعروف في كتب الشافعية خلافه . واستدل الخطابي على عدم الوجوب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى في ثوب كان أحد طرفيه على بعض نسائه وهي نائمة قال : ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن يتزر به ويفضل منه ما كان لعاتقه وفيما قاله نظر لا يخفى قاله الحافظ . إذا تقرر لك عدم صحة الإجماع الذي جعله الكرماني صارفا للنهي فالواجب الجزم بمعناه الحقيقي وهو تحريم ترك جعل طرف الثوب الواحد حال الصلاة على العاتق والجزم بوجوبه مع المخالفة بين طرفيه بالحديث الآتي حتى ينتهض دليل يصلح للصرف ولكن هذا في الثوب إذا كان واسعا جمعا بين الأحاديث كما سيأتي التصريح بذلك في حديث جابر . وقد عمل بظاهر الحديث ابن حزم فقال : وفرض على الرجل إن صلى في ثوب واسع أن يطرح منه على عاتقه أو عاتقيه فإن لم يفعل بطلت صلاته فإن كان ضيقا اتزر به وأجزأه سواء كان معه ثياب غيره أو لم يكن ثم ذكر ذلك عن نافع مولى ابن عمر والنخعي وطاوس

2 - وعن أبي هريرة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من صلى في ثوب واحد فليخالف بطرفيه )
- رواه البخاري وأحمد وأبو داود وزاد : ( على عاتقيه )

- أخرج هذه الزيادة أحمد وكذا الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق حسين عن شيبان . وقد حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب وخالفهم في ذلك أحمد . والخلاف في الأمر ههنا كالخلاف في النهي في الحديث الذي قبل هذا
وفي الباب عن عمر بن أبي سلمة عند الجماعة كلهم وعن سلمة بن الأكوع عند أبي داود والنسائي وعن أنس [ ص 60 ] عند البزار والموصلي في مسنديهما وعن عمرو بن أبي أسد عند البغوي في معجم الصحابة والحسن بن سفيان في مسنده وعن أبي سعيد عند مسلم وابن ماجه وعن كيسان عند ابن ماجه وعن ابن عباس عند أحمد بإسناد صحيح وعن عائشة عند أبي داود وعن أم هانئ عند الشيخين وعن عمار بن ياسر عند أبي يعلى والطبراني وعن طلق بن علي عند أبي داود وعن عبادة بن الصامت عند الطبراني وعن أبي بن كعب عند عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند وعن حذيفة عند أحمد وعن سهل بن سعد عند الشيخين وأبي داود والنسائي وعن عبد الله بن أبي أمية عند الطبراني وعن عبد الله بن أنيس عند الطبراني أيضا وعن عبد الله بن سرجس عند الطبراني أيضا وعن عبد الله بن عبد الله بن المغيرة عند أحمد وعن عبد الله بن عمر عند أبي داود وعن علي بن أبي طالب عند الطبراني وعن معاذ عند الطبراني أيضا وعن معاوية عند الطبراني أيضا وعن أبي أمامة عند الطبراني أيضا وعن أبي بكر الصديق عند أبي يعلى الموصلي وعن أبي عبد الرحمن حاضن عائشة عند الطبراني وعن أم حبيبة عند أحمد وعن أم الفضل عند أحمد وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسم عند أحمد بإسناد صحيح

3 - وعن جابر عن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا صليت في ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به )
- متفق عليه . ولفظه لأحمد . وفي لفظ له آخر : قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا ما اتسع الثوب فلتعاطف به على منكبيك ثم صل وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ثم صل من غير رداء )

- قوله ( فالتحف به ) الالتحاف بالثوب التغطي به كما أفاده في القاموس . والمراد أنه لا يشد الثوب في وسطه فيصلي مكشوف المنكبين بل يتزر به ويرفع طرفيه فليلتحف بهما فيكون بمنزلة الإزار والرداء هذا إذا كان الثوب واسعا وأما إذا كان ضيقا جاز الاتزار به من دون كراهة وبهذا يجمع بين الأحاديث كما ذكره الطحاوي وغيره
واختاره ابن المنذر وابن حزم وهو الحق الذي يتعين المصير إليه فالقول بوجوب طرح الثوب على العاتق والمخالفة من غير فرق بين الثوب الواسع والضيق ترك للعمل بهذا الحديث وتعسير مناف للشريعة السمحة وإن أمكن الاستئناس له بحديث ( أن رجالا كانوا [ ص 61 ] يصلون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى تستوي الرجال جلوسا ) عند الشيخين وأبي داود والنسائي من حديث سهل بن سعد
قوله ( فشد به حقويك ) الحقو بفتح الحاء المهملة موضع شد الإزار وهو الخاصرة ثم توسعوا فيه حتى سموا الإزار الذي يشد على العورة حقوا

باب من صلى في قميص غير مزرر تبدو منه عورته في الركوع أو غيره

1 - عن سلمة بن الأكوع قال : ( قلت يا رسول الله إني أكون في الصيد وأصلي وليس علي إلا قميص واحد قال : فزره وإن لم تجد إلا شوكة )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

- الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والحاكم وعلقه البخاري في صحيحه ووصله في تاريخه وقال : في إسناده نظر
قال الحافظ : وقد بينت طرقه في تغليق التعليق وله شاهد مرسل وفيه انقطاع أخرجه البيهقي وقد رواه البخاري أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن موسى بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة زاد في الإسناد رجلا ورواه أيضا عن مالك بن إسماعيل عن عطاف بن خالد قال حدثنا موسى بن إبراهيم قال حدثنا سلمة فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة فاحتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الأسانيد أو يكون التصريح في رواية عطاف وهما فهذا وجه النظر في إسناده الذي ذكره البخاري . وأما من صححه فاعتمد على رواية الدراوردي وجعل رواية عطاف شاهدة لاتصالها . وطريق عطاف أخرجها أيضا أحمد والنسائي . وأما قول ابن القطان أن موسى هو ابن محمد بن إبراهيم التيمي المضعف عند البخاري وأبي حاتم وأبي داود وأنه نسب هنا إلى جده فليس بمستقيم لأنه نسب في رواية البخاري وغيره مخزوميا وهو غير التيمي فلا تردد نعم وقع عند الطحاوي موسى بن محمد بن إبراهيم فإن كان محفوظا فيحتمل على بعد أن يكونا جميعا رويا الحديث وحمله عنهما الدراوردي وإلا فذكر محمد فيه شاذ كذا قال الحافظ
قوله ( في الصيد ) جاء في رواية بلفظ : ( إنا نكون في الصف ) وفي أخرى بالصف وقد جمع ابن الأثير بين الروايات في شرحه للمسند بما حاصله أن ذكر الصيد لأن الصائد يحتاج أن يكون خفيفا ليس عليه ما يشغله عن الإسراع في طلب الصيد وذكر الصف معناه أن يصلي في جماعة [ ص 62 ] وليس عليه إلا قميص واحد فربما بدت عورته وذكر الصف لأنه مظنة للحر لا سيما في الحجاز لا يمكن معه الإكثار من اللباس
قوله ( فزره ) هكذا وقع هنا . وفي رواية البخاري قال : يزره . وفي رواية أبي داود : فازرره . وفي رواية ابن حبان والنسائي زره والمراد شد القميص والجمع بين طرفيه لئلا تبدو عورته ولو لم يمكنه ذلك إلا بأن يغرز طرف شوكة يستمسك بها
والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد وفي القميص منفردا عن غيره مقيدا بعقد الزرار وقد تقدم الخلاف في ذلك

2 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يصلي الرجل حتى يحتزم )
- رواه أحمد وأبو داود

- هذا الحديث وقع البحث عنه في سنن أبي داود ومسند أحمد والجامع الكبير ومجمع الزوائد فلم يوجد بهذا اللفظ فينظر في نسبة المصنف له إلى أحمد وأبي داود ولكنه يشهد له الأمر بشد الإزار على الحقو وقد تقدم لأن الاحتزام شد الوسط كما في القاموس وغيره وكذلك حديث ( وإن كان ضيقا فاتزر به ) عند الشيخين كما تقدم لأن الاتزار شد الإزار على الحقو فيكون هذا النهي مقيدا بالثوب الضيق كما في غيره من الأحاديث وقد تقدم الكلام على ذلك

3 - وعن عروة بن عبد الله عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه و سلم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق قال : فبايعته فأدخلت يدي من قميصه فمسست الخاتم قال عروة : فما رأيت معاوية ولا أباه في شتاء ولا حر إلا مطلقي إزرارهما لا يزرران أبدا )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه وذكر الدارقطني أن هذا الحديث تفرد به ( 1 ) وذكر ابن عبد البر أن قرة بن إياس والد معاوية المذكور ولم يرو عنه غير ابنه معاوية وفي إسناده أبو مهل بميم ثم هاء مفتوحتين ولام مخففة الجعفي الكوفي وقد وثقه أبو زرعة الرازي وذكره ابن حبان
قوله ( وعن عروة بن عبد الله ) هو ابن نفيل النفيلي وقيل ابن قشير وهو أبو مهل المذكور الراوي عن معاوية بن قرة
قوله ( وإن قميصه ) بكسر الهمزة لأنها بعد واو الحال
قوله ( لمطلق ) أي غير مشدود وكان [ ص 63 ] عادة العرب أن تكون جيوبهم واسعة فربما يشدونها وربما يتركونها مفتوحة مطلقة
قوله ( فمسست ) بكسر السين الأولى
قوله ( الخاتم ) يعني خاتم النبوة تبركا به وليخبر به من لم يره
قوله ( إلا مطلقي ) بكسر اللام وفتح القاف
والحديث يدل على أن إطلاق الزرار من السنة . والمصنف أورد ههنا توهما منه أنه معارض بحديث سلمة بن الأكوع الذي مر وليس الأمر كذلك لأن حديث سلمة خاص بالصلاة وهذا الحديث ليس فيه ذكر الصلاة ويمكن أن يكون مراد المصنف بإيراده ههنا الاستدلال به على جواز إطلاق الزرار في غير الصلاة وإن كانت ترجمة الباب لا تساعد على ذلك قال رحمه الله : وهذا محمول على أن القميص لم يكن وحده اه
_________
( 1 ) لم يذكر اسم من تفرد به ولعله زهير عن عروة لأن الحافظ ذكر في الإصابة عن البغوي في ترجمة قرة المذكور هذا الحديث ثم قال : قال البغوي : غريب لا أعلم رواه غير زهير عن عروة ولعله سقط من النسخة . تنبه . والله أعلم

باب استحباب الصلاة في ثوبين وجوازها في الثوب الواحد

1 - عن أبي هريرة : ( أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال : أولكلكم ثوبان )
- رواه الجماعة إلا الترمذي زاد البخاري في رواية : ( ثم سأل رجل عمر فقال : إذا وسع الله فأوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى رجل في إزار ورداء في إزار وقميص في إزار وقبا في سراويل ورداء في سراويل وقميص في سراويل وقبا في تبان وقبا في تبان وقميص . قال : وأحسبه قال : في تبان ورداء )

- قوله ( أن سائلا ) ذكر شمس الأئمة السرخسي الحنفي في كتابه المبسوط أن السائل ثوبان
قوله ( أولكلكم ثوبان ) قال الخطابي : لفظه استخبار ومعناه الإخبار على ما هم عليه من قلة الثياب ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى كأنه يقول : إذا علمتم أن ستر العورة فرض والصلاة لازمة وليس لكل أحد منكم ثوبان فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة أي مع مراعاة ستر العورة . وقال الطحاوي : معناه لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبا واحدا اه . قال الحافظ : وهذه الملازمة في مقام المنع للفرق بين القادر وغيره والسؤال إنما كان عن الجواز وعدمه لا عن الكراهة
قوله ( ثم سأل رجل عمر ) يحتمل أن يكون ابن مسعود لأنه اختلف هو وأبي بن كعب فقال أبي : الصلاة في الثوب الواحد غير مكروهة وقال ابن مسعود : إنما كان ذلك وفي الثياب قلة فقام عمر على المنبر فقال : القول ما قال أبي ولم يأل ابن مسعود أي لم يقصر أخرجه عبد الرزاق
قوله ( جمع رجل ) هذا [ ص 64 ] من قول عمر وأورده بصيغة الخبر ومراده الأمر . قال ابن بطال : يعني ليجمع وليصل وقال ابن المنير : الصحيح أنه كلام في معنى الشرط كأنه قال : إن جمع رجل عليه ثيابه فحسن ثم فصل الجمع بصور . قال ابن مالك : تضمن هذا فائدتين : الأولى ورود الماضي بمعنى الأمر في قوله صلى والمعنى ليصل والثانية حذف حرف العطف ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( تصدق امرؤ من ديناره من درهمه من صاع تمره )
قوله ( في سراويل ) قال ابن سيده : السراويل فارسي معرب يذكر ويؤنث ولم يعرف أبو حاتم السجستاني التذكير والأشهر عدم صرفه
قوله ( وقبا ) بالقصر وبالمد . قيل هو فارسي معرب وقيل عربي مشتق من قبوت الشيء إذا ضممت أصابعك سمي بذلك لانضمام أطرافه
قوله ( في تبان ) التبان بضم المثناة وتشديد الموحدة وهو على هيئة السراويل إلا أنه ليس له رجلان وهو يتخذ من جلد
قوله ( وأحسبه ) القائل أبو هريرة والضمير في أحسبه راجع إلى عمر ومجموع ما ذكر عمر من الملابس ستة ثلاثة للوسط وثلاثة لغيره فقدم ملابس الوسط لأنها محل ستر العورة وقدم أسترها وأكثرها استعمالا لهم وضم إلى كل واحد واحدا فخرج من ذلك تسع صور من ضرب ثلاثة في ثلاثة ولم يقصد الحصر في ذلك بل يلحق به ما يقوم مقامه
والحديث يدل على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة ولم يخالف في ذلك إلا ابن مسعود وقد تقدم ذلك وتقدم قول النووي لا أعلم صحته وتقدم الإجماع على أن الصلاة في ثوبين أفضل صرح بذلك القاضي عياض وابن عبد البر والقرطبي والنووي وفي قول ابن المنذر واستحب بعضهم الصلاة في ثوبين إشعار بالخلاف

2 - وعن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في ثوب واحد متوشحا به )
- متفق عليه

- الحديث أخرجه مسلم من رواية سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر ومن رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير . ورواه أبو داود من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال : ( أمنا جابر ) الحديث ولم يخرجه البخاري من حديث جابر بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف بل أخرج نحوه من حديث عمر بن أبي سلمة الذي سيأتي
قوله ( متوشحا به ) قال ابن عبد البر حاكيا عن الأخفش : إن التوشح هو أن يأخذ طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى فيلقيه على منكبه الأيمن ويلقي طرف الثوب الأيمن من تحت يده اليمنى على منكبه الأيسر قال : وهذا التوشح الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله [ ص 65 ] وسلم أنه صلى في ثوب واحد متوشحا به
والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد إذا توشح به المصلي وقد تقدم الكلام في ذلك

3 - وعن عمر بن أبي سلمة قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في ثوب واحد متوشحا به في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقيه )
- رواه الجماعة

- قوله ( متوشحا به ) في البخاري والترمذي مشتملا . وفي بعض روايات مسلم : ( ملتحفا به ) وقد جعلها النووي بمعنى واحد فقال : المشتمل والمتوشح والمخالف بين طرفيه معناه واحد هنا وقد سبقه إلى ذلك الزهري وفرق الأخفش بين الاشتمال هو أن يلتف الرجل بردائه أو بكسائه من رأسه إلى قدمه ويرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر قال : والتوشح وذكر ما قدمنا عنه في شرح الحديث الذي قبل هذا
وفائدة التوشح والاشتمال والالتحاف المذكورة في هذه الأحاديث أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود قاله ابن بطال
قوله ( قد ألقى طرفيه على عاتقيه ) قد تقدم الكلام في ذلك
والحديث يدل على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة إذا توشح به المصلي أو وضع طرفه على عاتقه أو خالف بين طرفيه وقد تقدم الكلام في ذلك

باب كراهية اشتمال الصماء

1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء وأن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه منه يعني شيء )
- متفق عليه . وفي لفظ لأحمد : ( نهى عن لبستين أن يحتبي أحدكم في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء وأن يشتمل في إزاره إذا ما صلى إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقيه )

- قوله ( أن يحتبي ) الاحتباء أن يقعد على إليتيه وينصب ساقيه ويلف عليه ثوبا ويقال له الحبوة وكانت من شأن العرب
قوله ( ليس على فرجه منه شيء ) فيه دليل على أن الواجب ستر السوأتين فقط ( 1 ) لأنه قيد النهي بما إذا لم يكن على الفرج [ ص 66 ] شيء ومقتضاه أن الفرج إذا كان مستورا فلا نهي
قوله ( وأن يشتمل الصماء ) هو بالصاد المهملة والمد قال أهل اللغة : هو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانبا ولا يبقي ما تخرج منه يده . قال ابن قتيبة : سميت صماء لأنه يسد المنافذ كلها فيصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق . وقال الفقهاء : هو أن يلتحف بالثوب ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيصير فرجه باديا . قال النووي : فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروها لئلا تعرض له حاجة فيتعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر وعلى تفسير الفقهاء يحرم لأجل انكشاف العورة . قال الحافظ : ظاهر سياق البخاري من رواية يونس في اللباس أن التفسير المذكور فيها مرفوع وهو موافق لما قال الفقهاء ولفظه سيأتي في هذا الباب وعلى تقدير أن يكون موقوفا فهو حجة على الصحيح لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر
قوله ( وفي لفظ لأحمد ) هذه الرواية موافقة لما عند الجماعة في المعنى إلا أن فيها زيادة وهو قوله إذا ما صلى وهي غير صالحة لتقييد النهي بحالة الصلاة لأن كشف العورة محرم في جميع الحالات إلا ما استثني والنهي عن الاحتباء والاشتمال لكونهما مظنة الانكشاف فلا يختص بتلك الحالة
قوله ( لبستين ) هو بكسر اللام لأن المراد بالنهي الهيئة المخصوصة لا المرة الواحدة من اللبس
والحديث يدل على تحريم هاتين اللبستين لأنه المعنى الحقيقي للنهي وصرفه إلى الكراهة مفتقر إلى دليل
_________
( 1 ) نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك الهيئة لا يدل على جواز غيرها حتى يستدل منه على أن الواجب ستر السوأتين فقط . والله أعلم

2 - وعن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء )
- رواه الجماعة إلا الترمذي فإنه رواه من حديث أبي هريرة . وللبخاري ( نهى عن لبستين ) واللبستان اشتمال الصماء والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب واللبسة الأخرى احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء )
- قد تقدم الكلام على الحديث في شرح الذي قبله

باب النهي عن السدل والتلثم في الصلاة

1 - عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه )
- رواه أبو داود . ولأحمد والترمذي عنه النهي عن السدل . ولابن ماجه النهي عن تغطية الفم

[ ص 67 ] - الحديث قال الترمذي : لا نعرفه من حديث عطاء عن أبي هريرة مرفوعا إلا من حديث عسل بن سفيان ( 1 ) وأخرجه الحاكم في المستدرك من الطريق التي رواها أبو داود بالزيادة التي ذكرها وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجا فيه تغطية الرجل فاه في الصلاة اه وكلامه هذا يفهم أنهما أخرجا أصل الحديث مع أنهما لم يخرجاه
وفي الباب عن أبي جحيفة عند الطبراني في معاجمه الثلاثة والبزار في مسنده وفي إسناده حفص ابن أبي داود وقد اختلف فيه عليه وهو ضعيف وكذلك أبو مالك النخعي وقد ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم . قال البيهقي : وقد كتبناه من حديث إبراهيم ابن طهمان عن الهيثم فإن كان محفوظا فهو أحسن من رواية حفص
وفي الباب أيضا عن ابن مسعود عند البيهقي وقد تفرد به بسر بن رافع وليس بالقوي . وعن ابن عباس عند ابن عدي في الكامل وفي إسناده عيسى بن قرطاس وليس بثقة وقال النسائي : متروك الحديث وقال ابن عدي : هو ممن يكتب حديثه
وقد اختلف الأئمة في الاحتجاج بحديث الباب فمنهم من لم يحتج به لتفرد عسل بن سفيان وقد ضعفه أحمد . قال الخلال : سئل أحمد عن حديث السدل في الصلاة من حديث أبي هريرة فقال : ليس هو بصحيح الإسناد وقال : عسل بن سفيان غير محكم الحديث وقد ضعفه الجمهور يحيى بن معين وأبو حاتم والبخاري وآخرون وذكره ابن حبان في الثقات وقال : يخطئ ويخالف على قلة روايته اه . وقد أخرج له الترمذي هذا الحديث فقط وأبو داود أخرج له هذا وحديثا آخر وقد تقدم تصحيح الحاكم لحديث أبي هريرة . وعسل بن سفيان لم يتفرد به فقد شاركه في الرواية عن عطاء الحسن بن ذكوان وترك يحيى له لم يكن إلا لقوله أنه كان قدريا وقد قال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به
قوله ( نهى عن السدل ) قال أبو عبيدة في غريبه : السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه فليس بسدل وقال صاحب النهاية : هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك قال : وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب قال : وقيل هو أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه
وقال الجوهري : سدل ثوبه يسدله بالضم سدلا أي أرخاه . وقال الخطابي : السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض اه . [ ص 68 ] فعلى هذا السدل والإسبال واحد . قال العراقي : ويحتمل أن يراد بالسدل سدل الشعر ومنه حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سدل ناصيته ) وفي حديث عائشة أنها سدلت قناعها وهي محرمة أي أسبلته اه . ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركا بينها وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي
وقد روي أن السدل من فعل اليهود أخرج الخلال في العلل وأبو عبيد في الغريب من رواية عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه عن علي عليه السلام ( أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال : كأنهم اليهود خرجوا من قهرهم ) قال أبو عبيد : هو موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه . قال صاحب الإمام : والقهر بضم القاف وسكون الهاء موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه وذكره في القاموس والنهاية في الفاء لا في القاف
( والحديث يدل ) على تحريم السدل في الصلاة لأنه معنى النهي الحقيقي وكرهه ابن عمر ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري والشافعي في الصلاة وغيرها . وقال أحمد : يكره في الصلاة . وقال جابر بن عبد الله وعطاء والحسن وابن سيرين ومكحول والزهري : لا بأس به وروي ذلك عن مالك وأنت خبير بأنه لا موجب للعدول عن التحريم إن صح الحديث لعدم وجدان صارف له عن ذلك
قوله ( وأن يغطي الرجل فاه ) قال ابن حبان : لأنه من زي المجوس قال : وإنما زجر عن تغطية الفم في الصلاة على الدوام لا عند التثاؤب بمقدار ما يكظمه لحديث ( إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه فإن الشيطان يدخل ) وهذا لا يتم إلا بعد تسليم عدم اعتبار قيد في الصلاة المصرح به في المعطوف عليه في جانب المعطوف وفيه خلاف ونزاع . وقد استدل به على كراهة أن يصلي الرجل ملتثما كما فعل المصنف
_________
( 1 ) قال الحافظ في التقريب : عسل بكسر أوله وسكون المهملة وقيل بفتحتين التيمي أبو قرة البصري ضعيف من السادسة . والله أعلم

باب الصلاة في ثوب الحرير والغصب

1 - عن ابن عمر قال : ( من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله عز و جل له صلاة ما دام عليه ثم أدخل إصبعيه في أذنيه وقال : صمتا إن لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم سمعته يقوله )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه عبد بن حميد والبيهقي في الشعب وضعفه وتمام والخطيب وابن عساكر والديلمي وفي إسناده هاشم عن ابن عمر قال ابن كثير في إرشاده : وهو لا يعرف . وقد استدل [ ص 69 ] به من قال إن الصلاة في الثوب المغصوب أو المغصوب ثمنه لا تصح وهم العترة جميعا
وقال أبو حنيفة والشافعي : تصح لأن العصيان ليس بنفس الطاعة لتغاير اللباس والصلاة ورد بأن الحديث مصرح بنفي قبول الصلاة في الثوب المغصوب ثمنه والمغصوب عينه بالأولى وأنت خبير بأن الحديث لا ينتهض للحجية ولو سلم فمعنى القبول لا يستلزم نفي الصحة لأنه يرد على وجهين الأول يراد به الملازم لنفي الصحة والإجزاء نحو قوله ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) والثاني يراد به نفي الكمال والفضيلة كما في حديث نفي قبول صلاة الآبق والمغاضبة لزوجها ومن في جوفه خمر وغيرهم ممن هو مجمع على صحة صلاتهم وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في موضعين من هذا الشرح ومن ههنا تعلم أن نفي القبول مشترك بين الأمرين فلا يحمل على أحدهما إلا لدليل فلا يتم الاحتجاج به في مواطن النزاع
وقال أبو هاشم : إن استتر بحلال لم يفسدها المغصوب فوقه إذ هو فضلة
قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه يعني الحديث دليل على أن النقود تتعين في العقود اه وفي ذلك خلاف بين الفقهاء وقد صرح المتأخرون من فقهاء الزيدية أنها تتعين في اثني عشر موضعا ومحل الكلام على ذلك علم الفروع

2 - وعن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )
- متفق عليه . ولأحمد : ( من صنع أمرا على غير أمرنا فهو مردود )

- قوله ( ليس عليه أمرنا ) المراد بالأمر هنا واحد الأمور وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه
قوله ( فهو رد ) المصدر بمعنى اسم المفعول كما بينته الرواية الأخرى قال في الفتح : يحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المترتبة عليها وأن النهي يقتضي الفساد لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله ( ليس عليه أمرنا ) والمراد به أمر الدين وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد اه
وهذا الحديث من قواعد الدين لأنه يندرج تحته من الأحكام ما لا يأتي عليه الحصر . وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء من تقسيم البدع إلى أقسام ( 1 ) وتخصيص الرد [ ص 70 ] ببعضها بلا مخصص من عقل ولا نقل فعليك إذا سمعت من يقول هذه بدعة حسنة بالقيام في مقام المنع مسندا له بهذه الكلية وما يشابهها من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( كل بدعة ضلالة ) طالبا لدليل تخصيص تلك البدعة التي وقع النزاع في شأنها بعد الاتفاق على أنها بدعة فإن جاءك به قبلته وإن كاع كنت قد ألقمته حجرا واسترحت من المجادلة
ومن مواطن الاستدلال لهذا الحديث كل فعل أو ترك وقع الاتفاق بينك وبين خصمك على أنه ليس من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخالفك في اقتضائه البطلان أو الفساد متمسكا بما تقرر في الأصول من أنه لا يقتضي ذلك إلا عدم أمر يؤثر عدمه في العدم كالشرط أو وجود أمر يؤثر وجوده في العدم كالمانع فعليك بمنع هذا التخصيص الذي لا دليل عليه إلا مجرد الاصطلاح مسندا لهذا المنع بما في حديث الباب من العموم المحيط بكل فرد من أفراد الأمور التي ليست من ذلك القبيل قائلا هذا أمر ليس من أمره وكل أمر ليس من أمره رد فهذا رد وكل رد باطل فهذا باطل فالصلاة مثلا التي ترك فيها ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو فعل فيها ما كان يتركه ليست من أمره فتكون باطلة بنفس هذا الدليل سواء كان ذلك الأمر المفعول أو المتروك مانعا باصطلاح أهل الأصول أو شرطا أو غيرهما فليكن منك هذا على ذكر
قال في الفتح : وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه من اخترع من الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه قال النووي : هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك . وقال الطوخي : هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع لأن الدليل يتركب من مقدمتين والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه
وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لأن منطوقه مقدمة كلية مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس هذا ليس من أمر الشرع وكل ما كان كذلك فهو مردود فهذا العمل مردود فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الدليل وإنما يقع النزاع في الأولى ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجمع أدلة الشرع لكن هذا الثاني لا يوجد فإذن حديث الباب نصف أدلة الشرع انتهى
_________
( 1 ) نقل الإمام الشاطبي في الاعتصام أن العز بن عبد السلام نقل الإجماع على أن كل بدعة ضلالة ثم قسمها إلى خمسة أقسام وتبعه في ذلك تلميذه العلامة القرافي ومن جاء بعدهما من العلماء ونظر في تقسيمها وأجاب بما حاصله أن البدعة إما أن تكون حسنة أو سيئة فإذا كانت سيئة فأمرها ظاهر وإن كانت حسنة فمن المحسن لها إن كان الشرع فليست ببدعة وإن كان العقل فليس بمذهب أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث إنما هو قول المعتزلة وأطال في ذلك وأطاب فعليك به فإنه أنفس كتاب ألف في السنة والبدعة

3 - وعن عقبة بن عامر قال : ( أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا عنيفا شديدا كالكاره له ثم [ ص 71 ] قال لا ينبغي هذا للمتقين )
- متفق عليه

- قوله ( فروج ) بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وآخره جيم هو القبا المفرج من خلف . وحكى أبو زكريا التبريزي عن أبي العلاء المعري جواز ضم أوله وتخفيف الراء قال الحافظ في الفتح : والذي أهداه هو أكيدر دومة كما صرح بذلك البخاري في اللباس
والحديث استدل به من قال بتحريم الصلاة في الحرير وهو الهادي في أحد قوليه والناصر والمنصور بالله والشافعي . وقال الهادي في أحد قوليه وأبو العباس والمؤيد بالله والإمام يحيى وأكثر الفقهاء : إنها مكروهة فقط مستدلين بأن علة التحريم الخيلاء ولا خيلاء في الصلاة وهذا تخصيص للنص بخيال علة الخيلاء وهو مما لا ينبغي الالتفات إليه
وقد استدلوا لجواز الصلاة في ثياب الحرير بعدم إعادته صلى الله عليه وآله وسلم لتلك الصلاة وهو مردود لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم ويدل على ذلك حديث جابر عند مسلم بلفظ : ( صلى في قبا ديباج ثم نزعه وقال : نهاني جبريل ) وسيأتي وهذا ظاهر في أن صلاته فيه كانت قبل تحريمه
قال المصنف : وهذا يعني حديث الباب محمول على أنه لبسه قبل تحريمه إذ لا يجوز أن يظن به أنه لبسه بعد التحريم في صلاة ولا غيرها ويدل على إباحته في أول الأمر ما روى أنس بن مالك ( أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبة سندس أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير فلبسها فتعجب الناس منها فقال : والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها ) رواه أحمد انتهى . قال في البحر : فإن لم يوجد غيره صحت فيه وفاقا بينهم فإن صلى عاريا بطلت صلاته . وقال أحمد بن حنبل : يصلي عاريا كالنجس
وقد اختلفوا هل تجزئ الصلاة في الحرير بعد تحريمه أم لا فقال الحافظ في الفتح : إنها تجزئ عند الجمهور مع التحريم وعن مالك يعيد في الوقت انتهى . وسيأتي البحث عن لبس الحرير وحكمه قريبا

4 - وعن جابر بن عبد الله قال : ( لبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قباء من ديباج أهدي إليه ثم أوشك أن نزعه وأرسل به إلى عمر بن الخطاب فقيل : قد أوشكت ما نزعته يا رسول الله قال : نهاني عنه جبريل عليه السلام فجاءه عمر يبكي فقال : يا رسول الله كرهت أمرا وأعطيتنيه فمالي فقال : ما أعطيتك لتلبسه إنما أعطيتك تبيعه فباعه بألفي درهم )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه مسلم في صحيحه بنحو مما هنا
قوله ( من ديباج ) الديباج هو [ ص 72 ] نوع من الحرير قيل هو ما غلظ منه
قوله ( ثم أوشك ) أي أسرع كما في القاموس وغيره
والحديث يدل على تحريم لبس الحرير ولبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون دليلا على الحل لأنه محمول على أنه لبسه قبل التحريم بدليل قوله ( نهاني عنه جبريل ) ولهذا حصر الغرض من الإعطاء في البيع وسيأتي تحقيق ما هو الحق في ذلك
قال المصنف رحمه الله : فيه يعني الحديث دليل أن أمته عليه السلام أسوته في الأحكام اه وقد تقرر في الأصول ما هو الحق في ذلك والأدلة العامة قاضية بمثل ما ذكره المصنف من نحو قوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } . { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني }

كتاب اللباس

باب تحريم لبس الحرير والذهب على الرجال دون النساء

1 - عن عمر قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة )

2 - وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة )
- متفق عليهما

- الحديثان يدلان على تحريم لبس الحرير لما في الأول من النهي الذي يقتضي بحقيقته التحريم وتعليل ذلك بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة والظاهر أنه كناية عن عدم دخول الجنة وقد قال الله تعالى في أهل الجنة { ولباسهم فيها حرير } فمن لبسه في الدنيا لم يدخل الجنة روى ذلك النسائي عن ابن الزبير وأخرج النسائي عن ابن عمر أنه قال : والله لا يدخل الجنة وذكر الآية وأخرج النسائي والحاكم عن أبي سعيد أنه قال : وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه . ويدل على ذلك أيضا حديث ابن عمر عند الشيخين بلفظ : ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة )
والخلاق كما في كتب اللغة وشروح الحديث النصيب أي من لا نصيب له في الآخرة وهكذا إذا فسر بمن لا حرمة له أو من لا دين له كما قيل . وهكذا حديث ابن عمر عند الستة إلا الترمذي بلفظ : ( أنه رأى عمر حلة من إستبرق تباع [ ص 73 ] فأتى بها النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما هذه لباس من لا خلاق له ثم لبث عمر ما شاء الله أن يلبث فأرسل إليه صلى الله عليه و سلم بجبة ديباج فأتى عمر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله قلت إنما هذه لباس من لا خلاق له ثم أرسلت إلي بهذه فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إني لم أرسلها إليك لتلبسها ولكن لتبيعها وتصيب بها حاجتك )
ومن أدلة التحريم حديث عقبة بن عامر السابق في الباب الذي قبل هذا الكتاب فإن قوله لا ينبغي هذا للمتقين إرشاد إلى أن لابس الحرير ليس من زمرة المتقين . وقد علم وجوب الكون منهم ومن ذلك ما عند البخاري بلفظ : ( الذهب والفضة والحرير والديباج لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) ومن ذلك حديث أبي موسى وعلي وحذيفة وعمر وأبي عامر وستأتي وإذا لم تفد هذه الأدلة التحريم فما في الدنيا محرم
وأما معارضتها بما سيأتي فستعرف ما عليه . وقد أجمع المسلمون على التحريم ذكر ذلك المهدي في البحر وقد نسب فيه الخلاف في التحريم إلى ابن علية وقال : إنه انعقد الإجماع بعده على التحريم . وقال القاضي عياض : حكي عن قوم إباحته وقال أبو داود : إنه لبس الحرير عشرون نفسا من الصحابة أو أكثر منهم أنس والبراء بن عازب ووقع الإجماع على أن التحريم مختص بالرجال دون النساء وخالف في ذلك ابن الزبير مستدلا بعموم الأحاديث ولعله لم يبلغه المخصص الذي سيأتي
وقد استدل من جوز لبس الحرير بأدلة منها حديث عقبة بن عامر المتقدم في الباب الذي قبل الكتاب وقد عرفت الجواب عن ذلك فيما سلف . ومنها حديث أسماء بنت أبي بكر في الجبة التي كان يلبسها رسول الله صلى الله عليه و سلم في باب إباحة اليسير من الحرير وسنذكر الجواب عنه هنالك ومنها حديث المسور بن مخرمة عند الشيخين أنها قدمت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أقبية فذهب هو وأبوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء منها فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه قباء من ديباج مزرور فقال : يا مخرمة خبأنا لك هذا وجعل يريه محاسنه وقال : أرضي مخرمة ) والجواب أن هذا فعل لا ظاهر له والأقوال صريحة في التحريم على أنه لا نزاع أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يلبس الحرير ثم كان التحريم آخر الأمرين كما يشعر بذلك حديث جابر المتقدم
ومنها حديث عبد الله بن سعد عن أبيه وسيأتي في باب ما جاء في لبس الحرير وسنذكر الجواب عنه هنالك . ومنها ما تقدم من لبس جماعة [ ص 74 ] من الصحابة له وسيأتي الجواب عليه في باب ما جاء في لبس الخز . ومنها أنه صلى الله عليه و سلم لبس مستقة من سندس أهداها له ملك الروم ثم بعث بها إلى جعفر فلبسها ثم جاءه فقال : إني لم أعطكها لتلبسها قال : فما أصنع قال : أرسل بها إلى أخيك النجاشي أخرجه أبو داود والجواب عن الاحتجاج بلبسه صلى الله عليه و سلم مثل ما تقدم في الجواب عن حديث مخرمة
وأما عن الاحتجاج بأمره صلى الله عليه و سلم لجعفر أن يبعث بها للنجاشي فالجواب عنه كالجواب الذي سيأتي في شرح حديث لبسه صلى الله عليه و سلم للخز على أن الحديث غير صالح للاحتجاج لأن في إسناده علي بن زيد بن جدعان ولا يحتج بحديثه ويمكن أن يقال أن لبسه صلى الله عليه وآله وسلم لقباء الديباج وتقسيمه للأقبية بين أصحابه ليس فيه ما يدل على أنه متقدم على أحاديث النهي كما أنه ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عنه فيكون قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة ويكون ذلك جمعا بين الأدلة . ومن مقويات هذا ما تقدم أنه لبسه عشرون صحابيا ويبعد كل البعد أن يقدموا على ما هو محرم في الشريعة ويبعد أيضا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه فقد كانوا ينكرون على بعضهم بعضا ما هو أخف من هذا ( 1 ) وقد اختلفوا في الصغار أيضا هل يحرم إلباسهم الحرير أم لا فذهب الأكثر إلى التحريم قالوا لأن قوله ( على ذكور أمتي ) كما في الحديث الآتي يعمهم . ولحديث ثوبان عند أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم من غزاة وكان لا يقدم إلا بدأ حين يقدم ببيت فاطمة فوجدها قد علقت سترا على بابها وحلت الحسنين بقلبين من فضة فتقدم فلم يدخل عليها فظنت أنه إنما منعه أن يدخل ما رأى فهتكت الستر وفكت القلبين عن الصبيين فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكيان فأخذه منهما وقال : يا ثوبان اذهب بهذا إلى آل فلان ) الحديث . وهذا وإن كان واردا في الحلية ولكنه مشعر بأن حكمهم حكم المكلفين فيها فيكون حكمهم [ ص 75 ] في لبس الحرير كذلك
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن في آخر الحديث ما يشعر بعدم التحريم فإنه قال نحن أهل بيت لا نستغرق طيباتنا في حياتنا الدنيا أو كما قال
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم ) والصغار غير مكلفين وإنما التكليف على الكبار . وقد روي أن إسماعيل بن عبد الرحمن دخل على عمر وعليه قميص من حرير وسواران من ذهب فشق القميص وفك السوارين وقال : اذهب إلى أمك . وقال محمد بن الحسن : إنه يجوز إلباسهم الحرير . وقال أصحاب الشافعي : يجوز في يوم العيد لأنه لا تكليف عليهم وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه أصحها جوازه والثاني تحريمه والثالث يحرم بعد سن التمييز واختلفوا في المقدار الذي يستثنى من الحرير للرجال وسيأتي الكلام عليه
_________
( 1 ) يخالف هذا ما تقدم من قوله سابقا بالتحريم . وأيضا سيأتي في باب لبس الخز قول الشارح إن فعل بعض الصحابة ليس بحجة ولو كانوا كثيرا وإنما الحجة في إجماعهم . وحجية فعل الصحابة وعدمها مسألة خلافية . والقول الفصل في ذلك ما حققه العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين أن الصحابي إذا قال قولا فإما أن يخالفه صحابي آخر أو لا يخالفه فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر . وإن خالفه من هو أعلم منه كما إذا خالف الراشدين أو بعضهم غيرهم من الصحابة فالصحيح أن الحجة في قول الجانب الذي فيه الخلفاء أو بعضهم والجانب الذي فيه أبو بكر وعمر فالصواب مع أبي بكر رضي الله عنه . والله أعلم

3 - وعن أبي موسى : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه

- الحديث أيضا أخرجه أبو داود والحاكم وصححه والطبراني وفي إسناده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى قال أبو حاتم : إنه لم يلقه وقال الدارقطني في العلل : لم يسمع سعيد ابن أبي هند من أبي موسى . وقال ابن حبان في صحيحه : حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسى معلول لا يصح
والحديث قد صححه الترمذي كما ذكر المصنف وصححه أيضا ابن حزم كما ذكر الحافظ . وقد روي من طريق يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ذكر ذلك الدارقطني في العلل قال : والصحيح عن نافع عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى . وقد اختلف فيه على نافع فرواه أيوب وعبيد الله ابن عمر عن نافع عن سعيد مثله ورواه عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن سعيد عن رجل عن أبي موسى
وفي الباب عن علي بن أبي طالب عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان بلفظ : ( أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال : إن هذين حرام على ذكور أمتي ) زاد ابن ماجه : ( حل لإناثهم ) وبين النسائي الاختلاف فيه على يزيد بن حبيب . قال الحافظ : وهو اختلاف لا يضر ونقل عبد الحق عن ابن المديني أنه قال : حديث حسن ورجاله معروفون
وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على يزيد ابن أبي حبيب ورجح النسائي رواية ابن المبارك عن الليث عن يزيد عن ابن أبي الصعبة عن رجل من همدان يقال [ ص 76 ] له أفلح عن عبد الله بن زرير عن علي عليه السلام . قال الحافظ : الصواب أبو أفلح . وقد أعله ابن القطان بجهالة حال رواته ما بين يزيد بن أبي حبيب وعلي فأما عبد الله بن زرير فقد وثقه العجلي وابن سعد وأما أبو أفلح فقال الحافظ : ينظر فيه وأما ابن أبي الصعبة فقد ذكره ابن حبان في الثقات واسمه عبد العزيز
وفي الباب أيضا عن عقبة بن عامر عند البيهقي بإسناد حسن . وعن عمر عند البزار والطبراني وفيه عمرو بن جرير البجلي قال : البزار لين الحديث . وعن عبد الله بن عمرو نحو حديث أبي موسى عند ابن ماجه والبزار وأبي يعلى والطبراني وفي إسناده الأفريقي وهو ضعيف . وعن زيد بن أرقم عند الطبراني والعقيلي وابن حبان في الضعفاء وفيه ثابت بن زيد قال أحمد : له مناكير وعن واثلة بن الأسقع عند الدارقطني وإسناده مقارب . وعن ابن عباس عند الدارقطني والبزار بإسناد واه وهذه الطرق متعاضدة بكثرتها ينجبر الضعف الذي لم تخل منه واحدة منها
والحديث دليل للجماهير القائلين بتحريم الحرير والذهب على الرجال وتحليلهما للنساء وقد تقدم الخلاف في ذلك

4 - وعن علي عليه السلام قال : ( أهديت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلة سيراء فبعث بها إلي فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال : إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء )
- متفق عليه

- قوله ( أهديت له ) أهداها له ملك أيلة وهو مشرك
قوله ( حلة ) الحلة على ما في القاموس وغيره من كتب اللغة إزار ورداء ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة وهي بضم الحاء
قوله ( سيراء ) بكسر السين المهملة بعدها مثناة تحتية ثم راء مهملة ثم ألف ممدودة قال في القاموس كعنباء نوع من البرود فيه خطوط صفر أو يخالطه حرير والذهب الخالص اه
قال الخطابي : هي برود مضلعة بالقز وكذا قال الخليل والأصمعي وأبو داود وقال آخرون : إنها شبهت خطوطها بالسيور . وقيل هي مختلفة الألوان قاله الأزهري . وقيل هي وشي من حرير قاله مالك وقيل هي حرير محض . وقال ابن سيده : إنها ضرب من البرود . وقال الجوهري : إنها ما كان فيه خطوط صفر وقيل ما يعمل من القز . وقيل ما يعمل من ثياب اليمن وقد روي تنوين الحلة وإضافتها والمحققون على الإضافة . قال القرطبي : كذا قيد عمن يوثق بعلمه فهو على هذا من باب إضافة الشيء إلى صفته على أن سيبويه قال : لم يأت فعلاء صفة
قوله ( خمرا ) جمع خمار
[ ص 77 ] وقوله ( بين النساء ) زاد في رواية : ( فشققته بين نسائي ) وفي رواية : ( بين الفواطم ) وهن ثلاث : فاطمة بنت رسول الله وفاطمة بنت أسد أم علي وفاطمة بنت حمزة . وذكر عبد الغني وابن عبد البر أن الفواطم أربع والرابعة فاطمة بنت شيبة بن ربيعة كذا قاله عياض وابن رسلان
والحديث يدل على المنع من لبس الثوب المشوب بالحرير إن كانت السيراء تطلق على المخلوط بالحرير وإن لم يكن خالصا كما هو المشهور عند أئمة اللغة وإن كانت الحرير الخالص كما قاله البعض فلا إشكال
وقد رجح بعضهم أنه الخالص لحديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما نهى عن الثوب المصمت ) وسيأتي وستعرف ما هو الحق في المقدار الذي يحل من المشوب . ويدل الحديث أيضا على حل الحرير للنساء وقد تقدم الكلام على ذلك

5 - وعن أنس بن مالك : ( أنه رأى على أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم برد حلة سيراء )
- رواه البخاري والنسائي وأبو داود

- قوله أم كلثوم هي بنت خديجة بنت خويلد تزوجها عثمان بعد رقية
قوله ( برد حلة ) بالإضافة في رواية البخاري . وفي رواية أبي داود بردا سيراء بالتنوين . والحديث من أدلة جواز الحرير للنساء أن فرض إطلاع النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك وتقريره وقد تقدم مخالفة ابن الزبير في ذلك

باب في أن افتراش الحرير كلبسه

1 - عن حذيفة قال : ( نهاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن يجلس عليه )
- رواه البخاري

- الحديث قد تقدم الكلام عليه في باب الأواني
وقوله ( وأن نجلس عليه ) يدل على تحريم الجلوس على الحرير وإليه ذهب الجمهور كذا في الفتح بأنه مذهب الجمهور وبه قال عمر وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وإليه ذهب الناصر والمؤيد بالله والإمام يحيى . قال القاسم وأبو طالب والمنصور بالله وأبو حنيفة وأصحابه وروي عن ابن عباس وأنس : إنه يجوز افتراش الحرير وبه قال ابن الماجشون وبعض الشافعية . واحتج لهم في البحر بأن [ ص 78 ] الفراش موضع إهانة وبالقياس على الوسائد المحشوة بالقز قال : إذ لا خلاف فيها وهذا دليل باطل لا ينبغي التعويل عليه في مقابلة النصوص كحديث الباب والحديث الآتي بعده وقد تقرر عند أئمة الأصول وغيرهم بطلان القياس المنصوب في مقابلة النص وأنه فاسد الاعتبار وعدم حجية أقوال الصحابة لا سيما إذا خالفت الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم

2 - وعن علي عليه السلام قال : ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجلوس على المياثر والمياثر قسي كانت تصنعه النساء لبعولتهن على الرحل كالقطائف من الأرجوان )
- رواه مسلم والنسائي

- قد اتفق الشيخان على النهي عن المياثر من حديث البراء . وأخرج الجماعة كلهم إلا البخاري حديث علي عليه السلام بلفظ : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس القسي وعن الميثرة ) وفي رواية : ( مياثر الأرجوان ) ولم يذكر الجلوس إلا في رواية مسلم ولهذا ذكره المصنف رحمه الله
قوله ( على المياثر ) جمع ميثرة بكسر الميم وبالثاء المثلثة وهي مأخوذة من الوثارة وهي اللين والنعمة وياء ميثرة واو لكنها قلبت لكسر ما قبلها كميزان وميعاد وقد فسرها علي بما ذكره مسلم في صحيحه كما رواه المصنف عنه وكذلك فسرها البخاري في صحيحه وقد اختلف في تفسير المياثر على أربعة أقوال . منها هذا التفسير المروي عن علي عليه السلام والأخذ به أولى
قوله ( والمياثر قسي ) القسي بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة على الصحيح . قال أهل اللغة وغريب الحديث : هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف موضع من بلاد مصر على ساحل البحر قريب من تنيس . وقيل أنها منسوبة إلى القز وهو رديء الحرير فأبدلت الزاي سينا
قوله ( من الأرجوان ) هو بضم الهمزة والجيم وهو الصوف الأحمر كذا في شرح السنن لابن رسلان . وقيل الأرجوان الحمرة وقيل الشديد الحمرة وقيل الصباغ الأحمر القاني
والحديث يدل على تحريم الجلوس على ما فيه حرير وقد خصص بعضهم بالمذهب فقال : إن كان حرير الميثرة أكثر أو كانت جميعها من الحرير فالنهي للتحريم وإلا فالنهي للتنزيه
والاستدلال بهذا الحديث على تحريم ذلك على الأمة مبني على أن خطابه صلى الله عليه وآله وسلم لواحد خطاب لبقية الأمة والحكم عليه حكم عليهم وفي ذلك خلاف في الأصول مشهور وقد ثبت في غير هذه الرواية بلفظ نهى كما عرفت وهو دليل على عدم اختصاص ذلك بعلي عليه السلام

باب إباحة يسير ذلك كالعلم والرقعة . [ ص 79 ]

1 - عن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما )
- متفق عليه . وفي لفظ : ( نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة ) رواه الجماعة إلا البخاري وزاد فيه أحمد وأبو داود : ( وأشار بكفه )

- الحديث فيه دلالة على أنه يحل من الحرير مقدار أربع أصابع كالطراز والسجاف من غير فرق بين المركب على الثوب والمنسوج والمعمول بالإبرة والترقيع كالتطريز ويحرم الزائد على الأربع من الحرير ومن الذهب بالأولى وهذا مذهب الجمهور وقد أغرب بعض المالكية فقال : يجوز العلم وإن زاد على الأربع وروي عن مالك القول بالمنع من المقدار المستثنى في الحديث ولا أظن ذلك يصح عنه وذهبت الهادوية إلى تحريم ما زاد على الثلاث الأصابع ورواية الأربع ترد عليهم وهي زيادة صحيحة بالإجماع فتعين الأخذ بها

2 - وعن أسماء : ( أنها أخرجت جبة طيالسة عليها لبنة شبر من ديباج كسرواني وفرجيها مكفوفين ( 1 ) به فقالت : هذه جبة رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يلبسها كانت عند عائشة فلما قبضت عائشة قبضتها إلي فنحن نغسلها للمريض يستشفي بها )
- رواه أحمد ومسلم ولم يذكر لفظ الشبر

- قوله ( جبة طيالسة ) هو بإضافة جبة إلى طيالسة كما ذكره ابن رسلان في شرح السنن والطيالسة جمع طيلسان وهو كساء غليظ والمراد أن الجبة غليظة كأنها من طيلسان
قوله ( كسرواني ) بفتح الكاف وسكون السين وفتح الواو نسبة ( 2 ) إلى كسرى ملك الفرس
قوله ( وفرجيها مكفوفين ) الفرج في الثوب الشق الذي يكون أمام الثوب وخلفه في أسفلها وهما المراد بقوله فرجيها
( والحديث ) يدل على جواز لبس ما فيه من الحرير هذا المقدار . وقد قيل إن ذلك محمول على أنه أربع أصابع أو دونها أو فوقها إذا لم يكن مصمتا جمعا بين الأدلة ولكنه يأبى الحمل على الأربع فما دون قوله في حديث [ ص 80 ] الباب ( شبر من ديباج ) وعلى غير المصمت قوله ( من ديباج ) فإن الظاهر أنها من ديباج فقط لا منه ومن غيره إلا أن يصار إلى المجاز للجمع كما ذكر نعم يمكن أن يكون التقدير بالشبر لطول تلك اللبنة لا لعرضها فيزول الإشكال
( وفي الحديث ) أيضا دليل على استحباب التجمل بالثياب والاستشفاء بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي الأدب المفرد للبخاري أنه كان يلبسها للوفد والجمعة وقد وقع عند ابن أبي شيبة من طريق حجاج ابن أبي عمر وعن أسماء أنها قالت : ( كان يلبسها إذا لقي العدو وجمع ) وأخرج الطبراني من حديث علي النهي عن المكفف بالديباج وفي إسناده محمد بن جحادة عن أبي صالح عن عبيد بن عمير وأبو صالح هو مولى أم هانئ وهو ضعيف وروى البزار من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا عليه جبة مزررة أو مكففة بحرير فقال له : طوق من نار وإسناده ضعيف . وقد أسلفنا أنه استدل بعض من جوز لبس الحرير بهذا وهو استدلال غير صحيح لأن لبسه صلى الله عليه وآله وسلم للجبة المكفوفة بالحرير لا يدل على جواز لبث الثوب الخالص الذي هو محل النزاع ولو فرض أن هذه الجبة جميعها حرير خالص لم يصلح هذا الفعل للاستدلال به على الجواز لما قدمنا من الجواب على الاستدلال بحديث مخرمة
_________
( 1 ) نصب فرجيها مكفوفين بفعل محذوف أي ورأيت فرجيها مكفوفين . ومعنى المكفوف أنه جعل لها كفة بضم الكاف وهو ما يكف به جوانبها ويعطف عليها ويكون ذلك في الذيل والفرجين والكمين قاله النووي ببعض تصرف
( 2 ) بكسر الكاف أيضا

3 - وعن معاوية قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطعا )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

- الحديث أخرجه أبو داود في الخاتم والنسائي في الزينة بإسناد رجاله ثقات إلا ميمون القناد وهو مقبول وقد وثقه ابن حبان وقد رواه النسائي عن غير طريقه وقد اقتصر أبو داود في اللباس منه على النهي عن ركوب النمار وكذلك ابن ماجه ورواه أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب ومعاوية وفيه النهي عن لبس الذهب والحرير وجلود السباع وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف
قوله ( عن ركوب النمار ) في رواية النمور فكلاهما جمع نمر بفتح النون وكسر الميم ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم وهو سبع أخبث وأجرأ من الأسد وهو منقط الجلد نقط سود وفيه شبه من الأسد إلا أنه أصغر منه وإنما نهى عن استعمال جلوده لما فيها من الزينة والخيلاء ولأنه زي العجم وعموم النهي شامل للمذكى وغيره
قوله ( وعن لبس الذهب إلا مقطعا ) لا بد فيه من تقييد القطع بالقدر المعفو عنه لا بما فوقه جمعا بين الأحاديث
قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود : والمراد بالنهي الذهب الكثير لا المقطع قطعا يسيرة منه [ ص 81 ] تجعل حلقة أو قرطا أو خاتما للنساء أو في سيف الرجل وكره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء والتكبر . وقد يضبط الكثير منه بما كان نصابا تجب فيه الزكاة واليسير بما لا تجب فيه انتهى . وقد ذكر مثل هذا الكلام الخطابي في المعالم وجعل هذا الاستثناء خاصا بالنساء قال : لأن جنس الذهب ليس بمحرم عليهن كما حرم على الرجال قليله وكثيره

باب لبس الحرير للمريض

1 - عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما )
- رواه الجماعة إلا أن لفظ الترمذي : ( إن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم القمل فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما )

- وهكذا في صحيح مسلم أن الترخيص لعبد الرحمن والزبير كان في السفر . وزعم المحب الطبري انفراده به وعزاه إليهما ابن الصلاح وعبد الحق والنووي
قوله ( في قمص الحرير ) بضم القاف والميم جمع قميص ويروى بالإفراد
قوله ( لحكة ) بكسر الحاء وتشديد الكاف . قال الجوهري : هي الجرب وقيل هي غيره وهكذا يجوز لبسه للقمل كما في رواية الترمذي وهي أيضا في الصحيحين . والتقييد بالسفر بيان للحال الذي كانا عليه لا للتقييد وقد جعل السفر بعض الشافعية قيدا في الترخيص وهو ضعيف ووجهه أنه شاغل عن التفقد والمعالجة واختاره ابن الصلاح لظاهر الحديث والجمهور على خلافه
( والحديث ) يدل على جواز لبس الحرير لعذر الحكة والقمل عند الجمهور وقد خالف في ذلك مالك والحديث حجة عليه ويقاس غيرهما من الحاجات عليهما وإذا ثبت الجواز في حق هذين الصحابيين ثبت في حق غيرهما ما لم يقم دليل على اختصاصهما بذلك وهو مبني على الخلاف المشهور في الأصول فمن قال حكمه على الواحد حكم على الجماعة كان الترخيص لهما ترخيصا لغيرهما إذا حصل له عذر مثل عذرهما ومن منع من ذلك ألحق غيرهما بالقياس بعدم الفارق

باب ما جاء في لبس الخز وما نسج من حرير وغيره . [ ص 82 ]

1 - عن عبد الله بن سعد عن أبيه سعد قال : ( رأيت رجلا ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال : كسانيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أبو داود والبخاري في تاريخه . وقد صح لبسه عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي ورواه البخاري في التاريخ الكبير عن مخيلد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد وقال : قال عبد الله : نراه ابن خازم السلمي قال : وابن خازم ما أدري أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لا وهذا شيخ آخر
وقال النسائي : قال بعضهم : إن هذا الرجل عبد الله بن خازم أمير خراسان . قال المنذري : عبد الله بن خازم هذا بالخاء المعجمة والزاي كنيته أبو صالح ذكر بعضهم أن له صحبة وأنكرها بعضهم انتهى . وعبد الله بن سعد المذكور في هذا الحديث هو عبد الله بن سعد بن عثمان الدشتكي الرازي روى عنه هذا الحديث ابنه عبد الرحمن وليس له في الكتب غيره وقد وثقه ابن حبان وقد ساق هذا الحديث أبو داود في سننه من طريق أحمد بن عبد الرحمن الرازي عن أبيه عبد الرحمن قال أخبرني أبي عبد الله بن سعد عن أبيه سعد قال رأيت رجلا . الحديث ولعل عبد الله بن خازم كما ذكر النسائي والبخاري هو الرجل المبهم في الحديث وقد صرح بهذا ابن رسلان فقال الرجل الراكب قيل هو عبد الله بن خازم وكنيته أبو صالح
قوله ( عمامة خز ) قال ابن الأثير : الخز ثياب تنسج من صوف وإبريسم وهي مباحة وقد لبسها الصحابة والتابعون وقال غيره : الخز اسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها . وقال المنذري : أصله من وبر الأرنب ويسمى ذكره الخز . وقيل إن الخز ضرب من ثياب الإبريسم . وفي النهاية ما معناه : إن الخز الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه و سلم مخلوط من صوف وحرير
وقال عياض في المشارق : إن الخز ما خلط من الحرير والوبر وذكر أنه من وبر الأرنب ثم قال : فسمي ما خالط الحرير من سائر الأوبار خزا
( والحديث ) قد استدل به على جواز لبس الخز وأنت خبير بأن غاية ما في الحديث أنه أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كساه عمامة الخز [ ص 83 ] وذلك لا يستلزم جواز اللبس
وقد ثبت من حديث علي عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي أنه قال : ( كساني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة سيراء فخرجت بها فرأيت الغضب في وجهه فأطرتها خمرا بين نسائي ) هذا لفظ الحديث في التيسير فلم يلزم من قول علي عليه السلام كساني جواز اللبس وهكذا قال عمر لما بعث إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحلة سيراء يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إني لم أكسكها لتلبسها ) هذا لفظ أبي داود وبهذا يتبين لك أنه لا يلزم من قوله كساني جواز اللبس على أنه قد ثبت في تحريم الخز ما هو أصح من هذا الحديث وهو حديث أبي عامر الآتي وكذلك حديث معاوية
( وقد استدل ) بهذا الحديث أيضا على جواز لبس المشوب وهو لا يدل على ذلك إلا على أحد التفاسير للخز وقد تقدم ذكر بعضها وقد اختلف الناس في المشوب وسيأتي بيان ما هو الحق
قوله ( وقد صح لبسه عن غير واحد من الصحابة ) لا يخفاك أنه لا حجة في فعل بعض الصحابة وإن كانوا عددا كثيرا والحجة إنما هي في إجماعهم عند القائلين بحجية الإجماع ولو كان لبسهم الخز يدل على أنه حلال لكان الحرير الخالص حلالا لما تقدم عن أبي داود أنه قال : لبس الحرير عشرون صحابيا وقد أخبر الصادق المصدوق أنه سيكون من أمته أقوام يستحلون الخز والحرير وذكر الوعيد الشديد في آخر هذا الحديث من المسخ إلى القردة والخنازير كما سيأتي

2 - وعن ابن عباس قال : ( إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الثوب المصمت من قز قال ابن عباس : أما السدى والعلم فلا نرى به بأسا )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث في إسناده خصيف بن عبد الرحمن وقد ضعفه غير واحد قال في التقريب : هو صدوق سيئ الحفظ خلط بآخره ورمى بالإرجاء وقد وثقه ابن معين وأبو زرعة وبقية رجال إسناده ثقات . وأخرجه الحاكم بإسناد صحيح والطبراني بإسناد حسن كما قال الحافظ في الفتح
قوله ( المصمت ) بضم الميم الأولى وفتح الثانية المخففة وهو الذي جميعه حرير لا يخالطه قطن ولا غيره قاله ابن رسلان
قوله ( أما السدى ) بفتح السين والدال بوزن الحصى ويقال ستى بمثناة من فوق بدل الدال لغتان بمعنى واحد وهو خلاف اللحمة وهو ما مد طولا في النسج
قوله ( والعلم ) هو رسم الثوب ورقمه قاله في القاموس وذلك كالطراز والسجاف
[ ص 84 ] ( والحديث ) يدل على حل لبس الثوب المشوب بالحرير وقد اختلف الناس في ذلك
قال في البحر : مسألة : ويحل المغلوب بالقطن وغيره ويحرم الغالب إجماعا فيهما اه : وكلا الإجماعين ممنوع أما الأول فقد نقل الحافظ في الفتح عن العلامة ابن دقيق العيد أنه إنما يجوز من المخلوط ما كان مجموع الحرير فيه أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة إلى جميع الثوب
وأما الثاني فقد تقدم الخلاف عن ابن علية في الحرير الخالص ونقله القاضي عياض عن قوم كما عرفت . وقد ذهب الإمامية إلى أنه لا يحرم إلا ما كان حريرا خالصا لم يخالطه ما يخرجه عن ذلك كما روى ذلك الريمي عنهم . وقال الهادي في الأحكام والمؤيد بالله وأبو طالب : إنه يحرم من المخلوط ما كان الحرير غالبا فيه أو مساويا تغليبا لجانب الحظر ولا دليل على تحليل المشوب إلا حديث ابن عباس هذا وهو غير صالح للاحتجاج من وجهين
الأول الضعف في إسناده كما عرفت . الثاني أنه أخبر بما بلغه من قصر النبي على المصمت وغيره أخبر بما هو أعم من ذلك كما تقدم في حلة السيراء من غضبه صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى عليا لابسا لها . والقول بأن حلة السيراء هي الحرير الخالص كما قال البعض ممنوع والسند ما أسلفناه عن أئمة اللغة بل أخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه والدورقي والبيهقي حديث علي السابق في السيراء بلفظ : ( قال علي : أهدى إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة سيراء إما سداها حرير وإما لحمتها فأرسل بها إلي فأتيته فقلت : ما أصنع بها ألبسها قال : لا إني لا أرضى لك ما أكره لنفسي شققها خمرا لفلانة وفلانة فشققتها أربعة أخمرة ) وسيأتي الحديث وهذا صريح بأن تلك السيراء مخلوطة لا حرير خالص
ومن ذلك حديث أبي ريحانة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه وفيه النهي عن عشر منها أن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرا مثل الأعاجم وأن يجعل على منكبه حريرا مثل الأعاجم وقد عرفت مما سلف الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد فالظاهر منها تحريم ماهية الحرير سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص وسواء وجد ذلك المقدار مجتمعا كما في القطعة الخالصة أو مفرقا كما في الثوب المشوب
وحديث ابن عباس لا يصلح لتخصيص تلك العمومات ولا لتقييد تلك الإطلاقات لما عرفت ولا متمسك للجمهور القائلين بحل المشوب إذا كان الحرير مغلوبا إلا قول ابن عباس فيما أعلم فانظر أيها المنصف هل [ ص 85 ] يصلح جعله جسرا تذاد عنه الأحاديث الواردة في تحريم مطلق الحرير ومقيده وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم مع ما في إسناده من الضعف الذي يوجب سقوط الاستدلال به على فرض تجرده عن المعارضات فرحم الله ابن دقيق العيد فلقد حفظ الله به في هذه المسألة أمة نبيه عن الإجماع على الخطأ ويمكن أن يقال أن خصيفا المذكور في إسناد الحديث قد وثقه من تقدم واعتضد الحديث بوروده من وجهين آخرين أحدهما صحيح والآخر حسن كما سلف فانتهض الحديث للاحتجاج به
( فإن قلت ) قد صرح الحافظ ابن حجر أن عهدة الجمهور في جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير أغلب ما وقع في تفسير الحلة السيراء قلت : ليس في أحاديث الحلة السيراء ما يدل على أنها حلال بل جميعها قاضية بالمنع منها كما في حديث عمر وعلي وغيرهما مما سلف فإن فسرت بالثياب المخلوطة بالحرير كما قال جمهور أهل اللغة كانت حجة على الجمهور لا لهم وإن فسرت بأنها الحرير الخالص فأي دليل فيها على جواز لبس المخلوط وهكذا إن فسرت بسائر التفاسير المتقدمة
( والحاصل ) أنه لم يأت المدعون للحل بشيء تركن النفس إليه وغاية ما جادلوا به أنه قول الجمهور وهذا أمر هين والحق لا يعرف بالرجال . وأما دعوى الإجماع التي ذكرها صاحب البحر فما هي بأول دعاويه على أن الراجح عند من أطلق نفسه عن وثاق العصبية الوبية عدم حجية الإجماع إن سلم إمكانه ووقوعه ونقله والعلم به وإن كان الحق منع الكل
وأحسن ما يستدل به على الجواز حديث عبد الله بن سعد المتقدم في لبس عمامة الخز لما في النهاية من أن الخز الذي كان على عهده صلى الله عليه و سلم مخلوط من صوف وحرير
وقال في المشارق : إن الخز ما خلط من الحرير والوبر كما تقدم لولا أنه يمنع من صلاحيته للاحتجاج به على المطلوب ما أسلفناه في شرحه على أن النزاع في مسمى الخز بمجرده مانع مستقل

3 - وعن علي عليه السلام قال : ( أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة مكفوفة بحرير إما سداها وإما لحمتها فأرسل بها إلي فأتيته فقلت : يا رسول الله ما أصنع بها ألبسها قال : لا ولكن اجعلها خمرا بين الفواطم )
- رواه ابن ماجه

- الحديث في إسناده يزيد بن أبي زياد وفيه مقال معروف وأما هبيرة بن يريم الراوي له عن علي فقد وثقه ابن حبان وقد أخرجه أيضا ابن أبي شيبة والبيهقي والدورقي
قوله ( بين الفواطم ) قد تقدم ذكر أسمائهن في شرح حديث علي [ ص 86 ] المتقدم
والحديث يدل على المنع من لبس الثوب المخلوط بالحرير وقد قدمنا الكلام على ذلك وذكرنا القدر المعفو عنه

4 - وعن معاوية قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تركبوا الخز ولا النمار )
- رواه أبو داود

- الحديث رجال إسناده ثقات . وقد أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والكلام على الخز تفسيرا وحكما قد تقدم . وكذلك الكلام على النمار وقد ذكرناه في حديث معاوية السابق

5 - وعن عبد الرحمن بن غنم قال : ( حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشجعي أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير وذكر كلاما قال : يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة )
- رواه أبو داود والبخاري تعليقا . وقال فيه : ( يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف )

- الحديث رجال إسناده في سنن أبي داود ثقات وقد وهم المصنف رحمه الله فقال أبو مالك الأشجعي : وليس كذلك بل هو الأشعري
قوله ( ليكونن من أمتي ) استدل بهذا على أن استحلال المحرمات لا يوجب لفاعله الكفر والخروج عن الأمة
قوله ( الخز ) بالخاء المعجمة والزاء وهو الذي نص عليه الحميدي وابن الأثير وذكره أبو موسى في باب الحاء والراء المهملتين وهو الفرج وكذلك ابن رسلان في شرح السنن ضبطه بالمهملتين قال : وأصله حرح فحذف أحد الحاءين وجمعه أحراح كفرخ وأفراخ . ومنهم من شدد الراء وليس بجيد يريد أنه يكثر فيهم الزنا . قال في النهاية : والمشهور الأول وقد تقدم تفسير الخز وعطف الحرير على الخز يشعر بأنهما متغايران
قوله ( آخرين ) وفي رواية ( آخرون ) . قوله ( قردة ) بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد . وفي ذلك دليل على أن المسخ واقع في هذه الأمة . وروي ابن أبي الدنيا في كتاب الملاهي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ : ( يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير فقالوا : يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال : بلى ويصومون ويصلون ويحجون قالوا : فما بالهم قال : اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا . قال أبو هريرة : لا تقوم الساعة [ ص 87 ] حتى يمشي الرجلان في الأمر فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا ولا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه حتى يقضي شهوته
قوله ( والمعازف ) بعين مهملة فزاي معجمة وهي أصوات الملاهي قاله ابن رسلان وفي القاموس المعازف الملاهي كالعود والطنبور انتهى . والكلام الذي أشار إليه المصنف تبعا لأبي داود بقوله وذكر كلاما هو ما ذكره البخاري بلفظ : ( ولينزلن أقوام إلى جنب علم بروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم يعني الفقير لحاجته فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم عليهم ) انتهى
والعلم بفتح العين المهملة واللام هو الجبل ومعنى يضع العلم عليهم أي يدكدكه عليهم فيقع
( والحديث ) يدل على تحريم الأمور المذكورة في الحديث للتوعد عليها بالخسف والمسخ وإنما لم يسند البخاري الحديث بل علقه في كتاب الأشربة من صحيحه لأجل الشك الواقع من المحدث حيث قال أبو عامر وأبو مالك وأبو عامر هو عبد الله بن هانئ الأشعري صحابي نزل الشام وقيل هو عبيد بن وهب وأبو مالك هو الحارث وقيل كعب بن عاصم صحابي يعد في الشاميين

باب نهي الرجال عن المعصفر وما جاء في الأحمر

1 - عن عبد الله بن عمرو قال : ( رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي ثوبين معصفرين فقال : إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي

- قوله ( معصفرين ) المعصفر هو المصبوغ بالعصفر كما في كتب اللغة وشروح الحديث
وقد استدل بهذا الحديث من قال بتحريم لبس الثوب المصبوغ بعصفر وهم العترة واستدلوا أيضا على ذلك بحديث ابن عمرو وحديث علي المذكورين بعد هذا وغيرهما وسيأتي بعض ذلك . وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك إلى الإباحة كذا قال ابن رسلان في شرح السنن قال : وقال جماعة من العلماء بالكراهة للتنزيه وحملوا النهي على هذا لما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصبغ بالصفرة ) زاد في رواية أبي داود والنسائي ( وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها ) وقال الخطابي : النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب وكأنه نظر إلى ما في الصحيحين من ذكر مطلق الصبغ بالصفرة فقصره على صبغ اللحية دون الثياب وجعل النهي متوجها إلى الثياب ولم يلتفت إلى تلك الزيادة المصرحة بأنه كان [ ص 88 ] يصبغ ثيابه بالصفرة ويمكن الجمع بأن الصفرة التي كان يصبغ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير صفرة العصفر المنهي عنه
ويؤيد ذلك ما سيأتي في باب لبس الأبيض والأسود من حديث ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصبغ بالزعفران ) وقد أجاب من لم يقل بالتحريم عن حديث ابن عمرو المذكور في الباب وحديثه الذي بعده بأنه لا يلزم من نهيه له نهي سائر الأمة وكذلك أجاب عن حديث علي الآتي بأن ظاهر قوله نهاني أن ذلك مختص به ولهذا ثبت في رواية عنه أنه قال : ولا أقول نهاكم وهذا الجواب ينبني على الخلاف المشهور بين أهل الأصول في حكمه صلى الله عليه وآله وسلم على الواحد من الأمة هل يكون حكما على بقيتهم أو لا والحق الأول فيكون نهيه لعلي وعبد الله نهيا لجميع الأمة ولا يعارضه صبغه بالصفرة على تسليم أنها من العصفر لما تقرر في الأصول من أن فعله الخالي عن دليل التأسي الخاص لا يعارض قوله الخاص بأمته فالراجح تحريم الثياب المعصفرة والعصفر وإن كان يصبغ صبغا أحمر كما قال ابن القيم فلا معارضة بينه وبين ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس حلة حمراء كما يأتي لأن النهي في هذه الأحاديث يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر وسيأتي ما حكاه الترمذي عن أهل الحديث بمعنى هذا . وقد قال البيهقي رادا لقول الشافعي : إنه لم يحك أحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الصفرة إلا ما قال علي نهاني ولا أقول نهاكم إن الأحاديث تدل على أن النهي على العموم ثم ذكر أحاديث ثم قال بعد ذلك : ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعي رحمه الله لقال بها ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي أنه قال : إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث

2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ثنية فالتفت إلي وعلي ربطة مضرجة بالعصفر فقال : ما هذه فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال : يا عبد الله ما فعلت الربطة فأخبرته فقال : ألا كسوتها بعض أهلك )
- رواه أحمد وكذلك أبو داود وابن ماجه وزاد : ( فإنه لا بأس بذلك للنساء )

- الحديث في إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه مقال مشهور ومن دونه ثقات
قوله ( من ثنية ) هي الطريقة في الجبل وفي لفظ ابن ماجه : ( من ثنية أذاخر ) [ ص 89 ] وأذاخر بفتح الهمزة والذال المعجمة المخففة وبعدها ألف ثم خاء معجمة على وزن أفاعل ثنية بين مكة والمدينة
قوله ( ريطة ) بفتح الراء المهملة وسكون المثناة تحت ثم طاء مهملة ويقال رائطة . قال المنذري : جاءت الرواية بهما وهي كل ملاءة منسوجة بنسج واحد وقيل كل ثوب رقيق لين والجمع ريط ورياط
قوله ( مضرجة ) بفتح الراء المشددة أي ملطخة
قوله ( يسجرون ) أي يوقدون
قوله ( بعض أهلك ) يعني زوجته أو بعض نساء محارمه وأقاربه
( وفيه دليل ) على جواز لبس المعصفر للنساء وفيه الإنكار على إحراق الثوب المنتفع به لبعض الناس دون بعض لأنه من إضاعة المال المنهي عنها ولكنه يعارض هذا ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر . وأيضا قال : ( رأى علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثوبين معصفرين فقال : أمك أمرتك بهذا قال : قلت أغسلهما يا رسول الله قال : بل احرقهما ) وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أولا بإحراقهما ندبا ثم لما أحرقهما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( لو كسوتهما بعض أهلك ) إعلاما له بأن هذا كان كافيا لو فعله وأن الأمر للندب ولا يخفى ما في هذا من التكلف الذي عنه مندوحة لأن القضية لم تكن واحدة حتى يجمع بين الروايتين بمثل هذا بل هما قضيتان مختلفتان وغايته أنه صلى الله عليه وآله وسلم في إحدى القضيتين غلظ عليه وعاقبه فأمره بإحراقهما ولعل هذه المرة التي أمره فيها بالإحراق كانت بعد تلك المرة التي أخبره فيها بأن ذلك غير واجب وهذا وإن كان بعيدا من جهة أن صاحب القصة يبعد أن يقع منه اللبس للمعصفر مرة أخرى بعد أن سمع فيه ما سمع المرة الأولى ولكنه دون البعد الذي في الجمع الأول لأن احتمال النسيان كائن وكذا احتمال عروض شبهة توجب الظن بعدم التحريم ولا سيما وقد وقعت منه صلى الله عليه وآله وسلم المعاتبة على الإحراق . قال القاضي عياض : أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإحراقهما من باب التغليظ والعقوبة انتهى . وفيه حجة على جواز المعاقبة بالمال
والحديث يدل على المنع من لبس الثياب المصبوغة بالعصفر وقد تقدم الكلام في ذلك

3 - وعن علي عليه السلام قال : ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه

[ ص 90 ] - قوله ( نهاني ) هذا لفظ مسلم وفي لفظ لأبي داود وغيره نهى وقد تقدم جواب من أجاب عن الحديث باختصاصه بعلي عليه السلام وتعقبه
قوله ( القسي ) قد تقدم ضبطه وتفسيره في شرح حديث علي في باب افتراش الحرير كلبسه
قوله ( وعن القراءة في الركوع والسجود ) فيه دليل على تحريم القراءة في هذين المحلين لأن وظيفتهما إنما هي التسبيح والدعاء لما في صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء
قوله ( وعن لبس المعصفر ) فيه دليل على تحريم لبسه وقد تقدم البحث عن ذلك

4 - وعن البراء بن عازب قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مربوعا بعيد ما بين المنكبين له شعر يبلغ شحمة أذنيه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه )
- متفق عليه

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي والنسائي وأبي داود . وفي الباب عن أبي جحيفة عند البخاري وغيره : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في حلة حمراء مشمرا صلى إلى العنزة بالناس ركعتين ) وعن عامر المزني عند أبي داود بإسناد فيه اختلاف قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر وعلي عليه السلام أمامه يعبر عنه ) قال في البدر المنير : وإسناده حسن وأخرج البيهقي عن جابر أنه كان له صلى الله عليه وآله وسلم ثوب أحمر يلبسه في العيدين والجمعة . وروى ابن خزيمة في صحيحه نحوه بدون ذكر الأحمر
( والحديث ) احتج به من قال بجواز لبس الأحمر وهم الشافعية والمالكية وغيرهم . وذهبت العترة والحنفية إلى كراهة ذلك واحتجوا بحديث عبد الله بن عمرو الذي سيأتي بعد هذا وسيأتي في شرحه إن شاء الله تعالى ما يتبين به عدم انتهاضه للاحتجاج
واحتجوا أيضا بالأحاديث الواردة في تحريم المصبوغ بالعصفر قالوا لأن العصفر يصبغ صباغا أحمر وهي أخص من الدعوى وقد عرفناك أن الحق أن ذلك النوع من الأحمر لا يحل لبسه
( ومن أدلتهم ) حديث رافع بن خديج عند أبي داود قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن أحمر فقال : ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم فقمنا سراعا لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها ) وهذا الحديث لا تقوم به حجة لأن [ ص 91 ] في إسناده رجلا مجهولا
( ومن أدلتهم ) حديث ( إن امرأة من بني أسد قالت : كنت يوما عند زينب امرأة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نصبغ ثيابها بمغرة والمغرة صباغ أحمر قالت : فبينا نحن كذلك إذ طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأى المغرة رجع فلما رأت ذلك زينب علمت أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد كره ما فعلت وأخذت فغسلت ثيابها ووارت كل حمرة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجع فاطلع فلما لم ير شيئا دخل ) الحديث أخرجه أبو داود وفي إسناده إسماعيل بن عياش وابنه وفيهما مقال مشهور
وهذه الأدلة غاية ما فيها لو سلمت صحتها وعدم وجدان معارض لها الكراهة لا التحريم فكيف وهي غير صالحة للاحتجاج بها لما في أسانيدها من المقال الذي ذكرنا ومعارضة بتلك الأحاديث الصحيحة نعم من أقوى حججهم ما في صحيح البخاري من النهي عن المياثر الحمر وكذلك ما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي من حديث علي قال : ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لبس القسي والميثرة الحمراء ) ولكنه لا يخفى عليك أن هذا الدليل أخص من الدعوى وغاية ما في ذلك تحريم الميثرة الحمراء فما الدليل على تحريم ما عداها مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم له مرات ومن أصرح أدلتهم حديث رافع بن برد أو رافع بن خديج كما قال ابن قانع مرفوعا بلفظ : ( إن الشيطان يحب الحمرة فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة ) أخرجه الحاكم في الكنى وأبو نعيم في المعرفة وابن قانع وابن السكن وابن منده وابن عدي ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن عمران بن حصين مرفوعا بلفظ : ( إياكم والحمرة فإنها أحب الزينة إلى الشيطان ) وأخرج نحوه عبد الرزاق من حديث الحسن مرسلا وهذا إن صح كان أنص أدلتهم على المنع ولكنك قد عرفت لبسه صلى الله عليه وآله وسلم للحلة الحمراء في غير مرة ويبعد منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يلبس ما حذرنا من لبسه معللا ذلك بأن الشيطان يحب الحمرة : ولا يصح أن يقال ههنا فعله لا يعارض القول الخاص بنا كما صرح بذلك أئمة الأصول لأن تلك العلة مشعرة بعدم اختصاص الخطاب بنا إذ تجنب ما يلابسه الشيطان هو صلى الله عليه وآله وسلم أحق الناس به
( فإن قلت : ) فما الراجح إن صح ذلك الحديث قلت : قد تقرر في الأصول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فعل فعلا لم يصاحبه دليل خاص يدل على التأسي به فيه كان مخصصا له عن عموم القول الشامل له بطريق الظهور فيكون على هذا لبس الأحمر مختصا به ولكن ذلك الحديث غير صالح للاحتجاج به كما صرح بذلك [ ص 92 ] الحافظ وجزم بضعفه لأنه من رواية أبي بكر البدلي . وقد بالغ الجوزقاني فقال باطل فالواجب البقاء على البراءة الأصلية المعتضدة بأفعاله الثابتة في الصحيح لا سيما مع ثبوت لبسه لذلك بعد حجة الوداع ولم يلبث بعدها إلا أياما يسيرة
وقد زعم ابن القيم أن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود وغلط من قال إنها كانت حمراء بحتا قال : وهي معروفة بهذا الاسم ولا يخفاك أن الصحابي قد وصفها بأنها حمراء وهو من أهل اللسان والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت والمصير إلى المجاز أي كون بعضها أحمر دون بعض لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى والواجب حمل مقالة ذلك الصحابي على لغة العرب لأنها لسانه ولسان قومه فإن قال إنما فسرها بذلك التفسير للجمع بين الأدلة فمع كون كلامه آبيا عن ذلك لتصريحه بتغليظ من قال إنها الحمراء البحت لا ملجئ إليه لإمكان الجمع بدونه كما ذكرنا مع أن حمله الحلة الحمراء على ما ذكر ينافي ما احتج به في أثناء كلامه من إنكاره صلى الله عليه و سلم على القوم الذين رأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر
( وفيه دليل ) على كراهية ما فيه الخطوط وتلك الحلة كذلك بتأويله
قوله في الحديث يبلغ شحمة أذنيه هي اللين في الأذن في أسفلها وهو معلق القرط منها وقد اختلفت الروايات الصحيحة في شعره فههنا إلى شحمة أذنيه وفي رواية كان يبلغ شعره منكبيه وفي رواية إلى أنصاف أذنيه وعاتقه
قال القاضي : الجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنه وعاتقه وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه . وقيل كان ذلك لاختلاف الأوقات فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب وإذا قصرها كانت إلى أنصاف أذنيه وكان يقصر ويطول بحسب ذلك . وقد تقدم نحو هذا في باب اتخاذ الشعر
وفي فتح الباري إن في لبس الثوب الأحمر سبعة مذاهب :
الأول الجواز مطلقا جاء عن علي عليه السلام وطلحة وعبد الله بن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وطائفة من التابعين
والثاني المنع مطلقا ولم ينسبه الحافظ إلى قائل معين إنما ذكر أخبارا وآثارا يعرف بها من قال بذلك
الثالث يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما صبغه خفيفا جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد
الرابع يكره لبس الأحمر [ ص 93 ] مطلقا لقصد الزينة والشهرة ويجوز في البيوت والمهنة جاء ذلك عن ابن عباس
الخامس يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج ويمنع ما صبغ بعد النسج جنح إلى ذلك الخطابي
السادس اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر ولم ينسبه إلى أحد
السابع تخصيص المنع بالثوب الذي يصنع كله وأما ما فيه لون آخر غير أحمر فلا . حكي عن ابن القيم أنه قال بذلك بعض العلماء ثم قال الحافظ : والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء وإن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء فيكون النهي عنه لا لذاته وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع حيث يقع ذلك وإلا فلا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين لبسه في المحافل وفي البيوت

5 - وعن عبد الله بن عمرو قال : ( مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل عليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلى الله عليه و سلم )
- رواه الترمذي وأبو داود . وقال معناه عند أهل الحديث أنه كره المعصفر وقال : ورأوا أن ما صبغ بالحمرة من مدر أو غيره فلا بأس به إذا لم يكن معصفرا )

- الحديث قال الترمذي : إنه حسن غريب من هذا الوجه اه
وفي إسناده أبو يحيى القتات وقد اختلف في اسمه فقيل عبد الرحمن ابن دينار وقيل زازان وقيل عمران وقيل مسلم وقيل زياد وقيل يزيد . قال المنذري : وهو كوفي لا يحتج بحديثه . قال أبو بكر البزار : وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو ولا نعلم له طريقا إلا هذه الطريق ولا نعلم رواه إسرائيل إلا عن إسحاق بن منصور . قال الحافظ في الفتح : هو حديث ضعيف الإسناد وإن وقع في نسخ الترمذي أنه حسن
( والحديث ) احتج به القائلون بكراهية لبس الأحمر وقد تقدم ذكرهم وأجاب المبيحون عنه بأنه لا ينتهض للاستدلال به في مقابلة الأحاديث القاضية بالإباحة لما فيه من المقال وبأنه واقعة عين فيحتمل أن يكون ترك الرد عليه بسبب آخر وحمله البيهقي على ما صبغ بعد النسج لا ما صبغ غزلا ثم نسج فلا كراهة فيه
قال ابن التين : زعم بعضهم أن لبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحلة كان لأجل الغزو وفيه نظر لأنه كان عقيب حجة الوداع ولم يكن له إذ ذاك غزو وقد قدمنا الكلام على حجج الفريقين مستوفى
قوله ( فلم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه ) فيه جواز ترك الرد على من سلم وهو مرتكب [ ص 94 ] لمنهي عنه ردعا له وزجرا عن معصيته
قال ابن رسلان : ويستحب أن يقول المسلم عليه أنا لم أرد عليك لأنك مرتكب لمنهي عنه . وكذلك يستحب ترك السلام على أهل البدع والمعاصي الظاهرة تحقيرا لهم وزجرا ولذلك قال كعب بن مالك : فسلمت عليه فو الله ما رد السلام علي والجمع الذي ذكره الترمذي ونسبه إلى أهل الحديث جمع حسن لانتهاض الأحاديث القاضية بالمنع من لبس ما صبغ بالعصفر

باب ما جاء في لبس الأبيض والأسود والأخضر والمزعفر والملونات

1 - عن سمرة بن جندب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : البسوا ثياب البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم واختلف في وصله وإرساله قال الحافظ في الفتح : وإسناده صحيح وصححه الحاكم
وفي الباب عن ابن عباس عند الشافعي وأحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بلفظ : ( البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ) وأخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي بمعناه . وفي لفظ للحاكم : ( خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم وكفنوا بها موتاكم ) وصحح حديث ابن عباس ابن القطان والترمذي وابن حبان
وفي الباب أيضا عن عمران بن الحصين عند الطبراني وعن أنس عند أبي حاتم في العلل وعند البزار في مسنده وعن ابن عمر عند ابن عدي في الكامل وعن أبي الدرداء يرفعه عند ابن ماجه بلفظ : ( أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض )
( والحديث ) يدل على مشروعية لبس البياض وتكفين الموتى به لعله كونه أطهر من غيره وأطيب أما كونه أطيب فظاهر وأما كونه أطهر فلأن أدنى شيء يقع عليه يظهر فيغسل إذا كان من جنس النجاسة فيكون نقيا كما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في دعائه : ( ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ) والأمر المذكور في الحديث ليس للوجوب أما في اللباس فلما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من لبس غيره وإلباس جماعة من الصحابة ثيابا غير بيض وتقريره لجماعة منهم على غير لبس البياض وأما في الكفن فلما ثبت عند أبي داود قال الحافظ : [ ص 95 ] بإسناد حسن من حديث جابر مرفوعا : ( إذا توفي أحدكم فوجد شيئا فليكفن في ثوب حبرة )

2 - وعن أنس قال : ( كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يلبسها الحبرة )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

- قوله ( الحبرة ) بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها . قال الجوهري : الحبرة كعنبة برد يمان يكون من كتان أو قطن سميت حبرة لأنها محبرة أي مزينة والتحبير التزيين والتحسين والتخطيط ومنه حديث أبي ذر ( الحمد لله الذي أطعمنا الخمير وألبسنا الحبير ) وإنما كانت الحبرة أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه ليس فيها كثير زينة ولأنها أكثر احتمالا للوسخ من غيرها

3 - وعن أبي رمثة قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه بردان أخضران )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه

- الحديث حسنه الترمذي وقال : لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن إياد انتهى
وعبيد الله وأبوه ثقتان وأبو رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها ثاء مثلثة مفتوحة واسمه رفاعة بن يثربي كذا قال صاحب التقريب . وقال الترمذي : اسمه حبيب بن وهب ويدل على استحباب لبس الأخضر لأنه لباس أهل الجنة وهو أيضا من أنفع الألوان للأبصار ومن أجملها في أعين الناظرين

4 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه

- قوله ( مرط ) بكسر الميم وسكون الراء المهملة كساء من صوف أو خز الجمع مروط كذا في القاموس . وقيل كساء من خز أو كتان
قوله ( مرحل ) بميم مضمومة وراء مهملة مفتوحة وحاء مهملة مشددة ولام كمعظم وهو برد فيه تصاوير . قال في القاموس : وتفسير الجوهري إياه بإزار خز فيه علم غير جيد إنما ذلك تفسير المرجل بالجيم انتهى . وتلك التصاوير هي صور الرحال والرحال تطلق على المنازل وعلى الرواحل وعلى ما يوضع على الرواحل يستوي عليه الراكب والترحيل مصدر رحل البرد أي وشاه . قال النووي : والمراد تصاوير رحال الإبل ولا بأس بهذه الصورة انتهى . وسيأتي الكلام على حكم ما فيه صورة في الباب الذي بعد هذا
( والحديث ) يدل على أنه [ ص 96 ] لا كراهة في لبس السواد . وقد أخرج أبو داود والنسائي من حديث عائشة قالت : ( صبغت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بردة سوداء فلبسها فلما عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها قال : وأحسبه قال : وكان يعجبه الريح الطيبة )

5 - وعن أم خالد قالت : ( أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثياب فيها خميصة سوداء فقال : من ترون نكسو هذه الخميصة فأسكت القوم فقال : ائتوني بأم خالد فأتي بي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فألبسنيها بيده وقال : أبلي وأخلقي مرتين وجعل ينظر إلى علم الخميصة ويشير بيده إلي ويقول : يا أم خالد هذا سنا يا أم خالد هذا سنا ) . السنا بلسان الحبشة الحسن
- رواه البخاري

- قوله ( خميصة ) بفتح المعجمة وكسر الميم وبالصاد المهملة كساء مربع له علمان
قوله ( نكسو هذه ) بالنون للمتكلم
قوله ( فأسكت القوم ) بضم الهمزة على البناء للمجهول
قوله ( أبلي وأخلقي ) هذا من باب التفاؤل والدعاء لللابس بأن يعمر ويلبس ذلك الثوب حتى يبلى ويصير خلقا وفيه أنه يستحب أن يقال لمن لبس ثوبا جديدا كذلك وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى على عمر قميصا أبيض فقال : البس جديدا وعش حميدا ومت شهيدا ) وأخرج أبو داود وسعيد بن منصور من حديث أبي نضرة قال : ( كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبس أحدهم ثوبا جديدا قيل له تبلي ويخلف الله تعالى ) وسنده صحيح
قوله ( هذا سنا ) بفتح السين المهملة وتشديد النون وفيه جواز التكلم باللغة العجمية ومعناه حسن
( والحديث ) يدل على أنه يجوز للنساء لباس الثياب السود ولا أعلم في ذلك خلافا

6 - وعن ابن عمر : ( أنه كان يصبغ ثيابه ويدهن بالزعفران فقيل له لم تصبغ ثيابك وتدهن بالزعفران فقال : إني رأيته أحب الأصباغ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدهن به ويصبغ به ثيابه )
- رواه أحمد وكذلك أبو داود والنسائي بنحوه وفي لفظهما : ( ولقد كان يصبغ ثيابه كلها حتى عمامته )

- الحديث في إسناده اختلاف كما قال المنذري . ولم يذكر أبو داود والنسائي الزعفران وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبيد بن جريج عن ابن عمر أنه قال : ( وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها فإني أحب أن أصبغ بها ) قال [ ص 97 ] المنذري : واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم : أراد الخضاب للحية بالصفرة وقال آخرون : أراد يصفر ثيابه ويلبس ثيابا صفرا انتهى . ويؤيد القول الثاني تلك الزيادة التي أخرجها أبو داود والنسائي
قوله ( حتى عمامته ) بالنصب
( والحديث ) يدل على مشروعية صبغ الثياب بالصفرة وقد تقدم الكلام على ذلك في باب نهي الرجال عن المعصفر
وفيه أيضا مشروعية الإدهان بالزعفران . ومشروعية صباغ اللحية بالصفرة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية النسائي وغيره : ( أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوهم واصبغوا ) قال ابن الجوزي : قد اختضب جماعة من الصحابة والتابعين بالصفرة . ورأى أحمد بن حنبل رجلا قد خضب لحيته فقال : إني لأرى الرجل يحيي ميتا من السنة . وقد تقدم الكلام على الخضاب في باب تغيير الشيب بالحناء والكتم

باب حكم ما فيه صورة من الثياب والبسط والستور والنهي عن التصوير

1 - عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه )
- رواه البخاري وأبو داود وأحمد . ولفظه : ( لم يكن يدع في بيته ثوبا فيه تصليب إلا نقضه )

- الحديث أخرجه أيضا النسائي
قوله ( لم يكن يترك في بيته شيئا ) يشمل الملبوس والستور والبسط والآلات وغير ذلك
قوله ( فيه تصاليب ) أي صورة صليب من نقش ثوب أو غيره والصليب فيه صورة عيسى عليه السلام تعبده النصارى
قوله ( نقضه ) بفتح النون والقاف والضاد المعجمة أي كسره وأبطله وغير صورة الصليب . وفي رواية أبي داود ( قضبه ) بالقاف المفتوحة والضاد المعجمة والباء الموحدة أي قطع موضع التصليب منه دون غيره والقضب القطع كذا قال ابن رسلان
( والحديث ) يدل على عدم جواز اتخاذ الثياب والستور والبسط وغيرها التي فيها تصاوير وعلى جواز تغيير المنكر باليد من غير استئذان مالكه زوجة كانت أو غيرها لما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة ( أنه كان يهوي بالقضيب الذي في يده إلى كل صنم فيخر لوجهه ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل } حتى مر على ثلاثمائة وستين صنما )
وأخرج البخاري من حديث ابن عباس قال : ( لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصور التي في [ ص 98 ] البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال : قاتلهم الله والله إن استقسما بالأزلام قط )
قال النووي : قال أصحابنا وغيرهم من العلماء : تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بالوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار وفلس وإناء وحائط وغيرها
وأما تصوير صورة الشجر وجبال الأرض وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام هذا حكم نقش التصوير . وأما اتخاذ ما فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت وسيأتي قال : ولا فرق في ذلك كله بين ماله ظل وما لا ظل له قال : هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم
وقال بعض السلف : إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل وهذا مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصور فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة . وقال الزهري : النهي في الصورة على العموم وكذلك استعمال ما هي فيه ودخول البيت الذي هي فيه سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملا بظاهر الأحاديث لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم وهذا مذهب قوي
وقال آخرون : يجوز منها ما كان رقما في ثوب سواء أمتهن أم لا وسواء علق في حائط أم لا قال : وهو مذهب القاسم بن محمد وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره . قال القاضي عياض : إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته وادعى بعضهم أن إباحة اللعب بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث انتهى

2 - وعن عائشة : ( أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزعه قالت : فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما )
- متفق عليه . وفي لفظ أحمد : ( فقطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئا على إحداهما وفيها صورة )

[ ص 99 ] - قوله ( فنزعه ) فيه الإرشاد إلى إزالة التصاوير المنقوشة على الستور
قوله ( فقطعته وسادتين ) فيه أن الصورة والتمثال إذا غيرا لم يكن بهما بأس بعد ذلك وجاز افتراشهما والارتفاق عليهما
قوله ( فكان يرتفق ) في القاموس ارتفق اتكأ على مرفق يده أو على المخدة
قوله ( فقطعته مرفقتين ) تثنية مرفقة كمكنسة وهي المخدة
( والحديث ) يدل على جواز افتراش الثياب التي كانت فيها تصاوير وعلى استحباب الارتفاق لما يشعر به لفظ كان من استمراره على ذلك وكثيرا ما يتجنبه الرؤساء تكبرا

3 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاني جبريل فقال : إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان فيه تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كهيئة الشجرة وأمر بالستر يقطع فيجعل وسادتين منتبذتين توطآن وأمر بالكلب يخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا الكلب جرو وكان للحسن والحسين تحت نضد لهم )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا النسائي
قوله ( الليلة ) وفي رواية أبي داود البارحة
قوله ( قرام ستر ) بكسر القاف وتخفيف الراء والتنوين وروي بحذف التنوين والإضافة وهو الستر الرقيق من صوف ذي ألوان
قوله ( فيه تماثيل ) وفي رواية لمسلم ( وقد سترت سهوة لي بقرام ) والسهوة الخزانة الصغيرة وفي رواية للنسائي ( قال جبريل كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير ) واختلاف الروايات يبين بعضها بعضا
قوله ( فمر ) بضم الميم أي فقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مر
قوله ( يصير كهيئة الشجرة ) لأن الشجر ونحوه مما لا روح فيه لا يحرم صنعته ولا التكسب به من غير فرق بين الشجرة المثمرة وغيرها . قال ابن رسلان : وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهد فإنه جعل الشجرة المثمرة من المكروه لما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال حاكيا عن الله تعالى ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي )
قوله ( وأمر بالستر ) رواية أبي داود ومر وكذلك قوله وأمر بالكلب
قوله ( منتبذتين ) أي مطروحتين على الأرض ولفظ أبي داود منبوذتين
قوله ( وكان للحسن والحسين ) فيه جواز تربية جرو الكلب للولد الصغير وقد يستدل به على طهارة الكلب وقد [ ص 100 ] تقدم الكلام على ذلك وعلى جواز اتخاذه لغير الاصطياد
قوله ( تحت نضد ) بفتح النون والضاد المعجمة فعل بمعنى مفعول أي تحت متاع البيت المنضود بعضه فوق بعض . وقيل هو السرير سمي بذلك لأن النضد يوضع عليه أي يجعل بعضه فوق بعض وفي حديث مسروق شجر الجنة نضد من أصلها إلى فرعها أي ليس لها سوق بارزة ولكنها منضودة بالورق والثمار من أسفلها إلى أعلاها
( الحديث ) يدل على أنها لا تدخل الملائكة البيوت التي فيها تماثيل أو كلب كما ورد من حديث أبي طلحة الأنصاري عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ : ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل ) زاد أبو داود والنسائي عن علي مرفوعا : ( ولا جنب ) قيل أراد بالملائكة السياحين غير الحفظة وملائكة الموت . قال في معالم السنن : الملائكة الذي ينزلون بالبركة والرحمة وأما الحفظة فلا يفارقون الجنب وغيره
قال النووي في شرح مسلم : سبب امتناع الملائكة من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب كثرة أكله النجاسات ولأن بعضها يسمى شيطانا كما جاء في الحديث والملائكة ضد الشياطين وخص الخطابي ذلك بما كان يحرم اقتناؤه من الكلاب وبما لا يجوز تصويره من الصور لا كلب الصيد والماشية ولا الصورة التي في البساط والوسادة وغيرهما فإن ذلك لا يمنع دخول الملائكة والأظهر أنه عام في كل كلب وفي كل صورة وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث ولأن الجرو الذي كان في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت السرير كان له فيه عذر فإنه لم يعلم به ومع هذا امتنع جبريل من دخول البيت لأجل ذلك الجرو

4 - وعن ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم )

5 - وعن ابن عباس : ( وجاءه رجل فقال : إني أصور هذه التصاوير فأفتني فيها فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا تعذبه في جهنم فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجر وما لا نفس له )
- متفق عليهما

- الحديثان يدلان على أن التصوير من أشد المحرمات للتوعد عليه بالتعذيب في النار وبأن كل مصور من أهل النار ولورود لعن المصورين في أحاديث أخر وذلك لا يكون إلا على محرم متبالغ في القبح وإنما كان التصوير من أشد المحرمات الموجبة لما ذكر لأن فيه [ ص 101 ] مضاهاة لفعل الخالق جل جلاله ولهذا سمى الشارع فعلهم خلقا وسماهم خالقين وظاهر قوله كل مصور
وقوله ( بكل صورة صورها ) أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب وبين ما له جرم مستقل . ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم من التعميم وما في حديث مسلم وغيره ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هتك درنوكا لعائشة كان فيه صور الخيل ذوات الأجنحة حتى اتخذت منه وسادتين ) والدرنوك ضرب من الثياب أو البسط . وما أخرج البخاري ومسلم والموطأ والنسائي من حديث عائشة قالت : ( قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال : يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ) وما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ )
فهذه الأحاديث قاضية بعدم الفرق بين المطبوع من الصور والمستقل لأن اسم الصورة صادق على الكل إذ هي كما في كتب اللغة الشكل وهو يقال لما كان منها مطبوعا على الثياب شكلا نعم حديث أبي طلحة عند مسلم وأبي داود وغيرهما بلفظ : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تمثال ) وفيه أنه قال : ( إلا رقما في ثوب ) فهذا إن صح رفعه كان مخصصا لما رقم في الأثواب من التماثيل
قوله ( أحيوا ما خلقتم ) هذا من باب التعليق بالمحال والمراد أنهم يعذبون يوم القيامة ويقال لهم لا تزالون في عذاب حتى تحيوا ما خلقتم وليسوا بفاعلين وهو كناية عن دوام العذاب واستمراره وهذا الذي قدرناه في تفسير الحديث مصرح بمعناه في حديث ابن عباس المتقدم والأحاديث يفسر بعضها بعضا
قوله ( فاجعل الشجر وما لا نفس له ) فيه الإذن بتصوير الشجر وكل ما ليس له نفس وهو يدل على اختصاص التحريم بتصوير الحيوانات قال في البحر : ولا يكره تصوير الشجر ونحوها من الجماد إجماعا

باب ما جاء في لبس القميص والعمامة والسراويل

1 - عن أبي أمامة قال : ( قلنا يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا [ ص 102 ] يأتزرون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب )
- رواه أحمد

2 - وعن مالك بن عمير قال : ( بعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل سراويل قبل الهجرة فوزن لي فأرجح لي )
- رواه أحمد وابن ماجه

- أما حديث أبي أمامة فلم أقف فيه على كلام لأحد إلا ما ذكره في مجمع الزوائد فإنه قال : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة وفيه كلام لا يضر انتهى . وفيه الأذن بلبس السراويل وأن مخالفة أهل الكتاب تحصل بمجرد الإتزار في بعض الأوقات لا بترك لبس السراويل في جميع الحالات فإنه غير لازم وإن كان أدخل في المخالفة
وأما حديث مالك بن عمير فأخرجه أيضا أبو داود والنسائي ورجال إسناده رجال الصحيح ويشهد لصحته حديث سويد بن قيس قال : ( جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال له : زن وأرجح ) رواه الخمسة وصححه الترمذي وسيأتي في أبواب الإجارة إن شاء الله . وحديث مالك بن عمير المذكور هو عند أحمد من طريق يزيد بن هارون عن شعبة عن سماك بن حرب عنه وقد صرح كثير من الأئمة بثبوت شرائه صلى الله عليه وآله وسلم للسراويل :
( قال في الهدي ) فصل : واشترى صلى الله عليه وآله وسلم سراويل والظاهر أنه إنما اشترها ليلبسها وقد روي في غير حديث أنه لبس السراويل وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه انتهى
وقال في الفصل الذي بعد هذا في الهدي : ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل انتهى
قال في المواهب اللدنية للقسطلاني : وأما السراويل فاختلف هل لبسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لا فجزم بعض العلماء بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يلبسه ويستأنس له بما جزم به النووي في ترجمة عثمان رضي الله عنه من كتاب تهذيب الأسماء واللغات أنه لم يلبس السراويل في جاهلية ولا إسلام إلى يوم قتله فإنهم كانوا أحرص شيء على إتباعه لكن قد ورد في حديث أبي يحيى الموصلي بسند ضعيف جدا عن أبي هريرة قال : ( دخلت السوق يوما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس إلى البزاز فاشترى منه سراويل بأربعة دراهم وكان لأهل السوق وزان يزن فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتزن راحجا فقال الوزان : إن هذه كلمة ما سمعتها من أحد قال أبو هريرة : فقلت له كفى بك من الجفاء في دينك أن لا تعرف [ ص 103 ] نبيك فطرح الميزان ووثب إلى يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يقبلها فجذب يده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : يا هذا إنما تفعل هذا الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم فأخذ فوزن وأرجح وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السراويل قال أبو هريرة : فذهبت لأحمله عنه فقال : صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم قال : قلت يا رسول الله وإنك لتلبس السراويل قال : أجل في السفر والحضر والليل والنهار فإني أمرت بالستر فلم أجد شيئا أستر منه ) وكذا أخرجه ابن حبان في الضعفاء عن أبي يعلى ورواه الطبراني في الأوسط والدارقطني في الأفراد والعقيلي في الضعفاء ومداره على يوسف بن زياد الواسطي وهو ضعيف عن شيخه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وهو أيضا ضعيف لكن قد صح شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسراويل وأما اللبس فلم يأت من طريق صحيحة ولهذا قال أبو عبد الله الحجازي في حاشيته على الشفاء ما لفظه : وما قاله في الهدي من أنه صلى الله عليه وآله وسلم لبس السراويل سبق قلم والله أعلم
وقد أورد أبو سعيد النيسابوري ذكر الحديث في السراويل وأورد فيه حديث المحرم لكونه لم يرد فيه شيء على شرطه

3 - وعن أم سلمة قالت : ( كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القمص )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وقال الترمذي : حسن غريب إنما نعرفه من حديث عبد المؤمن بن خالد تفرد به وهو مروزي . وروى بعضهم هذا الحديث عن أبي ثميلة عن عبد المؤمن بن خالد عن عبد الله بن بريدة عن أمه عن أم سلمة قال : وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : حديث عبد الله بن بريدة عن أمه عن أم سلمة أصح . هذا آخر كلامه . وعبد المؤمن هذا قاضي مرو . قال المنذري : ولا بأس به وأبو ثميلة يحيى بن واضح أدخله البخاري في الضعفاء ووثقه يحيى بن معين
( والحديث ) يدل على استحباب لبس القميص وإنما كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أمكن في الستر من الرداء والإزار اللذين يحتاجان كثيرا إلى الربط والإمساك وغير ذلك بخلاف القميص . ويحتمل أن يكون المراد من أحب الثياب إليه القميص لأنه يستر عورته ويباشر جسمه فهو شعار الجسد بخلاف ما يلبس فوقه من الدثار ولا شك أن كل ما قرب من الإنسان كان أحب إليه من غيره ولهذا شبه صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار بالشعار [ ص 104 ] الذي يلي البدن بخلاف غيرهم فإنه شبههم بالدثار وإنما سمى القميص قميصا لأن الآدمي يتقمص فيه أي يدخل فيه ليستره وفي حديث المرجوم أنه يتقمص في أنهار الجنة أي ينغمس فيها

4 - وعن أسماء بنت بريد قالت : ( كانت يد كم قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرسغ )
- رواه أبو داود والترمذي

5 - وعن ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس قميصا قصير اليدين والطول )
- رواه ابن ماجه

- الحديث الأول أخرجه النسائي أيضا وقال الترمذي : حسن غريب وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال مشهور
والحديث الثاني رواه ابن ماجه في سننه من طريق عبيد بن محمد قال حدثنا الحسن بن صالح ورواه أيضا من طريق شعبان بن وكيع عن أبيه عن الحسن بن صالح عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس وعبيد بن محمد ضعيف وشعبان بن وكيع أضعف منه ولكن شطره الأول يشهد له حديث أسماء هذا وشطره الثاني يشهد له حديث ابن عمر الآتي في إسبال الإزار والعمامة والقميص
قوله ( إلى الرسغ ) بالسين المهملة هذا لفظ الترمذي ولفظ أبي داود الرصغ بالصاد المهملة الساكنة قبلها راء مكسورة وبعدها غين معجمة وهو مفصل ما بين الكف والساعد ويقال المفصل الساق والقدم رسغ أيضا قاله ابن رسلان في شرح السنن
( والحديثان ) يدلان على أن السنة في الأكمام أن لا تجاوز الرسغ قال الحافظ ابن القيم في الهدي : وأما الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة وهي مخالفة لسنته وفي جوازها نظر فإنها من جنس الخيلاء انتهى . وقد صار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء فيرى أحدهم وقد جعل لقميصه كمين يصلح كل واحد منهما أن يكون جبة أو قميصا لصغير من أولاده أو يتيم وليس في ذلك شيء من الفائدة الدنيوية إلا العبث وتثقيل المؤونة على النفس ومنع الانتفاع باليد في كثير من المنافع وتعريضه لسرعة التمزق وتشويه الهيئة ولا الدينية إلا مخالفة السنة والإسبال والخيلاء
قال ابن رسلان : والظاهر أن نساءه صلى الله عليه وآله وسلم كن كذلك يعني أن أكمامهن إلى الرسغ إذ لو كانت أكمامهن تزيد على ذلك لنقل ولو نقل لوصل إلينا كما نقل في الذيول من رواية النسائي وغيره أن أم سلمة لما سمعت من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه قالت : ( يا رسول الله فكيف يصنع النساء بذيولهن قال : يرخينه شبرا قال : إذن ينكشف أقدامهن قال : يرخينه ذراعا [ ص 105 ] ولا يزدن عليه ) ويفرق بين الكف إذا ظهر وبين القدم أن قدم المرأة عورة بخلاف كفها انتهى
( وفي الحديث ) الثاني دلالة على أن هديه صلى الله عليه وآله وسلم كان تقصير القميص لأن تطويله إسبال وهو منهي عنه وسيأتي الكلام على ذلك

6 - وعن نافع عن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه قال نافع : وكان ابن عمر يسدل عمامته بين كتفيه )
- رواه الترمذي

- الحديث أخرج نحوه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه ) ( 1 ) . وأخرج ابن عدي من حديث جابر قال : ( كان للنبي صلى الله عليه و سلم عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه ) قال ابن عدي : لا أعلم يرويه عن أبي الزبير غير العرزمي وعنه حاتم بن إسماعيل . وأخرج الطبراني عن أبي موسى : ( أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه و سلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابته من ورائه )
قوله ( سدل ) السدل الإسبال والإرسال وفسره في القاموس بالإرخاء
( والحديث ) يدل على استحباب لبس العمامة وقد أخرج الترمذي وأبو داود والبيهقي من حديث ركانة بن عبد يزيد الهاشمي أنه قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس ) قال ابن القيم في الهدي : وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ويلبس العمامة بغير قلنسوة انتهى
( والحديث ) [ ص 106 ] أيضا يدل على استحباب إرخاء العمامة بين الكتفين وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عوف قال : ( قال : عممني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسدلها من بين يدي ومن خلفي ) والراوي عن عبد الرحمن شيخ من أهل المدينة لم يذكر أبو داود اسمه . وأخرج الطبراني من حديث عبد الله بن ياسر قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي ابن أبي طالب عليه السلام إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ثم أرسلها من ورائه أو قال على كتفه اليسرى ) وحسنه السيوطي وأخرج ابن سعد عن مولى يقال له هرمز قال : ( رأيت عليا عليه عمامة سوداء قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه ) قال ابن رسلان في شرح السنن عند ذكر حديث عبد الرحمن : وهي التي صارت شعار الصالحين المتمسكين بالسنة يعني إرسال العمامة على الصدر . وقال : وفي الحديث النهي عن العمامة المقعطة بفتح القاف وتشديد العين المهملة قال أبو عبيد في الغريب : المقعطة التي لا ذؤابة لها ولا حنك قيل المقعطة عمامة إبليس وقيل عمامة أهل الذمة
وورد النهي عن العمامة التي ليست محنكة ولا ذؤابة لها فالمحنكة من حنك الفرس إذا جعل له في حنكه الأسفل ما يقوده به هذا معنى كلام ابن رسلان . والذي ذكره أبو عبيد في الغريب في حديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط أن المقعطة هي التي لم يجعل منها تحت الحنك
وقال ابن الأثير في النهاية : في حديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الاقتعاط وأمر بالتلحي أن الاقتعاط أن لا يجعل تحت الحنك من العمامة شيئا والتلحي جعل بعض العمامة تحت الحنك وقال الجوهري في الصحاح : الاقتعاط شد العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك والتلحي تطويف العمامة تحت الحنك وهكذا في القاموس وكذا قال ابن قتيبة . وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي : اقتعاط العمائم هو التعميم دون حنك وهو بدعة منكرة وقد شاعت في بلاد الإسلام
وقال ابن حبيب في كتاب الواضحة : إن ترك الالتحاء من بقايا عمائم قوم لوط . وقال مالك : أدركت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين محنكا وإن أحدهم لو ائتمن على بيت المال لكان به أمينا . وقال القاضي عبد الوهاب في كتاب المعونة له : ومن المكروه ما خالف زي العرب وأشبه زي العجم كالتعمم بغير حنك . وقال القرافي : ما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكا وقد روي التحنك عن جماعة من السلف . وروي النهي عن الاقتعاط عن جماعة منهم وكان طاوس والمجاهد يقولان : إن الاقتعاط عمامة الشيطان فينظر فيما نقله ابن رسلان [ ص 107 ] عن أبي عبيد من أن المقعطة هي التي لا ذؤابة لها
( وقد استدل ) على جواز ترك الذؤابة ابن القيم في الهدي بحديث جابر بن سليم عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء ) بدون ذكر الذؤابة قال : فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه وقد يقال إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه اه
وروى أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عوف قال : ( عممني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي ) وروى الطبراني عن عائشة قالت : ( عمم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الرحمن بن عوف وأرخى له أربع أصابع ) وفي إسناده المقدام بن داود وهو ضعيف . وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها ثم قال : هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن ) قال السيوطي : وإسناده حسن وأخرج الطبراني أيضا في الأوسط من حديث ثوبان : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه ) وفي إسناده الحجاج بن رشدين وهو ضعيف
وأخرج الطبراني أيضا في الكبير عن أبي أمامة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلما يولي واليا حتى يعممه ويرخي لها من جانبه الأيمن نحو الأذن ) وفي إسناده جميع بن ثوبان وهو متروك قيل ويحرم إطالة العذبة طولا فاحشا ولا مقتضى للجزم بالتحريم . قال النووي في شرح المهذب : يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله ولا كراهة في واحد منهما ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها إرسالا فاحشا كإرسال الثوب يحرم للخيلاء ويكره لغيره انتهى
وقد أخرج ابن أبي شيبة أن عبد الله بن الزبير كان يعتم بعمامة سوداء قد أرخاها من خلفه نحوا من ذراع
وروى سعد بن سعيد عن رشدين قال : ( رأيت عبد الله بن الزبير يعتم بعمامة سوداء ويرخيها شبرا أو أقل من شبر ) قال السيوطي في الحاوي في الفتاوى : وأما مقدار العمامة الشريفة فلم يثبت في حديث وقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن سلام بن عبد الله بن سلام قال : ( سألت ابن عمر : كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتم قال : كان يدير العمامة على رأسه ويقورها من ورائه ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه ) وهذا يدل على أنها عدة أذرع والظاهر أنها كانت نحو العشرة أو فوقها بيسير انتهى
ولا أدري ما هذا الظاهر [ ص 108 ] الذي زعمه فإن كان الظهور من هذا الحديث الذي ساقه باعتبار ما فيه من ذكر الإدارة والتقوير وإرسال الذؤابة فهذه الأوصاف تحصل في عمامة دون ثلاثة أذرع وإن كان من غيره فما هو بعد إقراره بعدم ثبوت مقدارها في حديث
_________
( 1 ) والأحاديث بمجموعها تفيد مشروعية سدل العمامة بين الكتفين وتسمى ذؤبة وعذبة كما جاء التصريح بذلك في غير حديث وما أحسن العمة وأكملها وهي من عادات العرب قديما وسنن الأنبياء وقد جاء الشرع بتقريرها وقد ورد الترغيب فيها كما سيأتي للشارح بعد نقل ما رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها قال هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن ) وحسنه السيوطي وهو يفيد السنية ولقد طمس على بصائر أقوام ممن أضلهم الله وأعمى قلوبهم وتخبطوا في ظلمات الجهل فعدلوا عن العمامة التي هي تيجان العرب وشعار المسلمين إلى أزياء الكفار وعادات الأعداء وشعار الإفرنج وما حملهم على ذلك إلا قربهم منهم واكتساب عاداتهم القبيحة ولم يكفهم ذلك بل أرغموا الناس على ذلك بالتهديد والتقتيل خذلهم الله وقطع دابرهم وشتت جمعهم وكفى الله المؤمنين شرهم اللهم أصلح الأمة المحمدية وثبتها على دينك وانصرها على أعدائك واحفظها من التغيير والتبديل ولجهل غالب الأمة بدينها الحقيقي وما كان عليه نبيها المصطفى ورسولها المرتضى أصبح الكثير يستغرب كل شيء في الدين ويستحسن ما ألفى عليه أهل عصره من الإلحاد والزندقة واستقباح كل قديم واستملاح كل جديد إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم الطف بعبادك يا كريم يا حليم يا الله ...

============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المعجب في اخبار المغرب

    كتاب المعجب في اخبار المغرب  1 . المعجب في تلخيص أخبار المغرب تأليف : عبد الواحد بن علي المراكشي دراسة وتحقيق : الدكتور صلاح الدين ا...