الفصل في الملل والأهواء والنحل
هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مؤمناً مسلماً إلا من استدل قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل وإلا فليس مسلما و قال الطبري من بلغ الاحتلام أو الاشعار من الرجال والنساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز وجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال و قال أنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمها وتدريبهما على الاستدلال على ذلك و قال ت الأشعرية لا يلزمها الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ.
قال أبو محمد و قال سائر أهل الإسلام كل من اعتقد بقلبه اعتقاداً لا يشك فيه و قال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإن كل ما جاء به حق وبرئ من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك.
قال أبو محمد فاحتجت الطائفة الأولى بأن قال ت قد اتفق الجميع على أن التقليد مذموم وما لم يكن يعرف باستدلال فإنما هو تقليد لا واسطة بينهما وذكروا قول الله عز وجل " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " وقال تعالى " قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ " وقال تعالى " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ " وقال تعالى " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " و قالوا فذم الله تعالى اتباع الآباء والرؤساء قالوا وبيقين ندري أنه لا يعلم أحد أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الآباء شيأ أو لا يعلمون إلا بالدليل و قالوا كل مل لم يكن يصح بدليل فهو دعوي ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما لكن بالدليل قال الله عز وجل " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " قالوا فمن لا برهان له فليس صادقاً في قوله و قالوا ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا يعرف صحة الصحيح منها من بطلان الباطل منها بالحواس أصلاً فصح أنه لا يعلم ذلك إلا عن طريق الاستدلال فإذا لم يكن الاستدلال فليس المرء عالما بما لم يستدل عليه وإذا لم يكن عالما فهو شاك ضال وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسآئله الملك في القبر ما تقول في هذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن فإنه يقول هو محمد رسول الله قال وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته قالوا وقد ذكر الله عز وجل الاستدلال على الربوبية والنبوة في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن دليل كما قلنا.
قال أبو محمد هذا كلما موهوا به قد تقصيناه لهم غاية التقصي وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه على ما نبين بحول الله وقوته إن شاء الله تعالى لا إله إلا هو بعد أن نقول قولاً نصصحه المشاهدة إن جمهور هذه الفرقة أبعد من كل من ينتمي إلى البحث والاستدلال عن المعرفة بصحة الدلائل فأعجبوا لهذا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
قال أبو محمد أما قولهم قد أجمع الجميع على أن التقليد مذموم وأن ما لا يعرف باستدلال فإنما هو أخذ تقليد إذ لا واسطة بينهما فإنهم شغبوا في هذا الإمكان وولبوا فتركوا التقسيم الصحيح ونعم أن التقليد لا يحل البتة وإنما التقليد أخذ المرء قول من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يأمرنا الله عز وجل باتباعه قط ولا بأخذ قوله بل حرم علينا ذلك ونهانا عنه وأما أخذ المرء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي افترض علينا طاعته وألزمنا اتباعه وتصديقه وحذرنا عن مخالفة أمره وتوعدنا على ذلك أشد الوعيد فليس تقليداً بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة لله عز وجل وأداء للمفترض فموه هؤلاء القوم بأن أطلقوا على الحق الذي هو اتباع الحق اسم التقليد الذي هو باطل وبرهان ما ذكرنا أن امراءً لو اتبع أحداً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول قال ه لأن فلاناً قال ه فقط واعتقد أنه لو لم يقل ذلك الفلان ذلك القول لم يقل به هو أيضاً فإن فاعل هذا القول مقلد مخطى عاص لله تعالى ولرسوه ظالم آثم سواء كان قد وافق قوله ذلك الحق الذي قال ه الله ورسوله أو خالفه وإنما فسق لأنه اتبع من لم يؤمر باتباعه وفعل غير ما أمره الله عز وجل أن يفعله ولو أن امراءً اتبع قول الله عز وجل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان مطيعاً نحسناً مأجوراً غير مقلد وسواء وافق الحق أو وهم فأخطأ وإنما ذكرنا هذا لنبين أن الذي أمرنا به وافترض علينا هو اتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأن الذي حرم علينا هو اتباع من دونه أو اختراع قول لم يأذن به الله تعالى فقط وقد صح أن التقليد باطل لا يحل فمن الباطل الممتنع أن يكون الحق باطلاً معا والمحسن مسيئاً من وجه واحد معا فإذ ذلك كذلك فمتبع من أمر الله تعالى باتباعه ليس مقلداً ولا فعله تقليداً وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فسقط تمويههم بذم التقليد وصح أنهم وضعوه في غير موضعه وأوقعوا اسم التقليد على ما ليس تقليداً وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بذم الله تعالى اتباع الأباء والكبراء فهو مما قلنا آنفا سواء بسواء لأن اتباع الأباء والكبراء وكل من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من التقليد المحرم المذموم فاعله فقط قال الله عز وجل " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " فهذا نص ما قلنا ولله الحمد.
قال أبو محمد وأما احتجاجهم أنه لا يعرف أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الأباء شيئاً أم لا إلا بالدلايل وإن كل ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما وذكرهم قول الله تعالى " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى البرهان ولا تستقر نفسه إلى تصديق ما جاء به مات شاكا أو جاحداً قبل أن يسمع من البرهان ما يثلج صدره فقد مات كافراً وهو مخلد في النار وهو بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى المعجزات فهذا أيضاً لو مات مات كافراً بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضاً عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر قال الله عز وجل " قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " فقد افترض الله عز وجل على كل أحد أن يقي نفسه النار فهؤلاء قسم وهم الأقل من الناس والقسم الثاني من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقاً من الله عز وجل له وتيسيراً لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والاكرة والعباد وأصحاب الحديث الأيمة الذين يذمون الكلام والجدل والمرآء في الدين.
قال أبو محمد هم الذين قال لهم الله فيهم " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " و قال تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء.
قال أبو محمد قد سمى الله عز وجل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم الكفر والمعاصي فضلا منه ونعمة وهذا هو خلق الله تعالى للإيمان في قلوبهم ابتدأ وعلى ألسنتهم ولم يذكر الله تعالى في ذلك استدلالاً أصلاً وبالله تعالى التوفيق وليس هؤلاء مقلدين لابابهم ولا لكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن اباؤهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل أبائهم ورؤسائهم والبرأة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حساً وشاهدناه في ذواتنا يقيناً فلقد بقينا سنين كثيرة ولا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم نجد أنفسنا في غاية السكون إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعاً لهما كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن ذلك ف قالوا له أن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه من وسوسة الشيطان وأمر صلى الله عليه وسلم في ذلك بما أمر به من التعوذ والقرأة والتفل عن اليسار ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها ولله تعالى الحمد فما زادنا يقيناً على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كمن عرف وقد أيقن بأن الفيل موجود سماعاً ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقيناً بصحة أنيته أصلاً لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس وعلمنا أن كنا مقتدين بالخطأ في ذلك ولله تعالى الحمد وأن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد فصح بما قلنا أن كل من امحض اعتقاد الحق بقلبه و قال ه بلسانه فهم مؤمنون محققون وليسوا مقلدين أصلاً وإنما كانوا مقلدين لو أنهم قالوا واعتدقوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبرآءنا فقط ولو أن اباءنا وكبرآءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم لتركناه فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفاراً غير مؤمنين لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبرآءهم الذين نهوا عن اتباعهم ولم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم الذين أمروا باتباعه وبالله تعالى التوفيق وإنما كلف الله تعالى الاتيان بالبرهان إن كانوا صادقين يعني الكفار المخالفين لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الاتيان بالبراهين وإلا سقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان والفريق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي صلى الله عليه وسلم فلا برهان له أصلاً فكلف المجيء بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً إن كانوا صادقين وليسوا صادقين بلا برهان لهم وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك البرهان أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح بالبرهان ولا برهان على ما سواه فهو محق والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالماً فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر.
قال أبو محمد فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال فهذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ولا جاء بصحتها قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا لغة ولا طبيعة ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئاً على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز وجل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مساءلة الملك فلا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم كما هو لمجرده لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال فيه فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو رسول الله ولم يقل عليه الصلاة والسلام فأما المستدل فحسبنا فوز المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه و قال عليه الصلاة والسلام وأما المنافق أو المرتاب ولم يقل غير المستدل فيقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فنعم هذا قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا صفة مقلد للناس لا محقق فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم كافية وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن الله عز وجل قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذه أيضاً زيادة أقحموها وهي قولهم وأمر به فهذا لا يجدونه أبداً ولكن الله تعالى ذكر الاستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محفوض عليه كل من اطاقه لأنه تزود من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق نعوذ بالله عز وجل من البلا وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه هذا هو الباطل المحض وأما قولهم إن الله تعالى أوجب العلم به فنعم وأما قولهم والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هي الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفاً وأول بطلانها أنها دعوى بلا برهان وبالله تعالى العزيز الحكيم نتأيد.
قال أبو محمد هذا كلما شنعوا به قد نقضناه والحمد لله رب العالمين فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراة لم يأت بها نص قط ولا إجماع وبالله التوفيق.
قال أبو محمد ونحن الآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده البراهين على بطلان قولهم ولا حول قال أبو محمد ي قال لمن قال لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا متى يجب عليه فرض الاستدلال أقبل البلوغ أم بعده ولا بد من أحد المرين فلما الطبري فإنه أجاب بأن ذلك واجب قبل البلوغ.
قال أبو محمد وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفاً ولا مخاطباً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصغير حتى يحتلم فبطل جواب الطبري رحمه الله وأما الأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الإسلام وتصدء منها المسامع ويقطع ما بين قائلها وما بين الله عز وجل وهي أنهم قالوا لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤنة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم ف قالوا غير مساترين لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق.
قال أبو محمد ما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم أنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز وجل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق أم كاذب ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قبل هؤلاء أنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضاء الله عز وجل إلا بالشك فيه وأن من اعتقد موقناً بقلبه ولسانه أن الله تعالى ربه لا إله إلا هو وأن محمداً رسول الله وأن دين الإسلام دين الله الذي لا دين غيره فإنه كافر مشرك اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان فو الله لولا خذلان الله تعالى الذي هو غالب على أمره ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة وهذا يكفي من تكلف النقص لهذه الم قال ة الملعونة ومن بلغ هذا المبلغ حسن السكوت عنه ونعوذ بالله من الضلال ثم نقول لهم أخبرونا عن هذا الذي أوجبتم عليه الشك في فرض أو الشك في صحة النبوة والرسالة كم تكون هذه المدة التي أوجبتم عليه فيه البقا شاكا مستدلا طالباً للدلائل وكيف أن لم يجد في قريته أو مدينته ولا في اقليمه محسناً للدلائل فرحل طالباً للدلائل فاعترضته أهوال ومخاوف وتعذر من بحر أو مرض فاتصل له ذلك ساعات وأياماً وجمعاً وشهوراً وسنين ما قولكم في ذلك فإن حدوا في المدة يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك كانوا متحكمين بلا دليلوقائلين بلا هدي من الله تعالى ولم يعجز أحد عن أن يقول في تحديد تلك المدة بزيادة أو نقصان ومن بلغ ها هنا فقد ظهر فساد قوله وأن قالوا لا يحد في ذلك حداً قلنا لهم فإن امتد كذلك حتى فنى عمره ومات في مدة استدلاله التي حددتم له وهو شاك في الله تعالى وفي النبوة أيموت مؤمناً ويجب له الجنة أم يموت كافراً وتجب له النار فإن قالوا يموت مؤمناً تجب له الجنة أتوا بأعظم الطوام وجعلوا الشكاك في الله الذين هم عندهم شكاك مؤمنين من أهل الجنة وهذا كفر محض وتناقض لا خفاء به وكانوا مع ذلك قد سمحوا في أن يبقى المرء دهره كله شاكاً في الله عز وجل وفي النبوة والرسالة فإن قالوا بل يموت كافراً تجب له النار قلنا لهم لقد أمرتموه بما فيه هلاكه وأوجبتم عليه ما فيه دماره وما يفعل الشيطان إلا هذا في أمره بما يؤدي إلى الخلود في النار وإن قالوا بل هو في حكم أهل الفترة قلنا لهم هذا باطل لأن أهل الفترة لم تأتهم النذارة ولا بلغهم خبر النبوة والنص إنما جاء في أهل الفترة ومن زاد في الخبر ما ليس فيه فقد كذب على الله عز وجل ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ما حد الاستدلال الموجب لاسم الإيمان عندكم وقد يسمع دليلا عليه اعتراض الجزية ذلك الدليل أم لا فإن قالوا يجزيه قلنا لهم ومن أين وجب أن يجزيه وهو ذليل معترض فيه وليس هذه الصفة من الدلائل المخرجة عن الجهل إلى العلم بل هي مؤدية إلى الجهل الذي كان عليه قبل الاستدلال فإن قالوا بل لا يجزيه إلا حتى يوقن أنه قد وقع على دليل لا يمكن الاعتراض فيه تكلفوا ما ليس في وسع أكثرهم وما لا يبلغه إلا قليل من الناس في طويل من الدهر وكثير من البحث ولقد درى الله تعالى أنهم أصفار من العلم بذلك يعنب أهل هذه الم قال ة الملعونة الخبيثة.
قال أبو محمد ومن البرهان الموضح لبطلان هذه الم قال ة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئاً من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ بعث لم يزل يدعو الناس الجماء الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقرباً إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وأصغاره ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام وفيهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه.
قال أبو محمد لسنا نقول أنه لم يبلغنا أنه عليه السلام قال ذلك لأحد بل نقطع نحن وجميع أهل الأرض قطعاً كقطعنا على ما شاهدناه أنه عليه السلام لم يقل قط هذا لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتبينه لهم هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه الم قال ة خلاف للاجماع وخلاف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وجميع أهل الإسلام قاطبة فإن قالوا فما كانت حاجة الناس إلى الآيات المعجزات وإلى احتجاج الله عز وجل عليهم بالقرآن واعجازه به وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر وقلنا وبالله تعالى التوفيق إن الناس قسمان قسم لم تسكن قلوبهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذي يلزمهم طلب الاستدلال فرضاً ولا بد كما قلنا وقسم آخر وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق عز وجل في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى " بل الله يمن عليكم إن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " فهؤلاء آمنوا به عليه السلام بلا تكليف.
قال أبو محمد ويلزم أهل هذه الم قال ة أن جميع أهل الأرض كفار لا ألأقل وقد قال بعضهم أنهم مستدلون.
قال أبو محمد وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لا يدري ما معنى الاستدلال فكيف أن يستعمله.
قال أبو محمد ويلزم من قال بهذه الم قال ة أن لا يأكل من اللحم إلا ما ذبحه هو أو من يدري أنه مستدل وأن لا يطأ إلا زوجة أنها مستدلة ويلزم أن يشهد على نفسه بالكفر ضرورة قبل استدلاله ومدة استدلاله وأن يفارق امرأته التي تزوج في تلك المدة وأن لا يرث أخاه ولا أباه ولا أمه إلا أن يكونوا مستدلين وأن يعمل عمل الخوارج الذين يقتلون غيلة وعمل المغيرية المنصورة في ذبح كل من أمكنهم وقتله وأن يستحلوا أموال أهل الأرض بل لا يحل لهم الكف عن شيء من هذا كله لأن جهاد الكفار فرض وهذا كله أن التزموا طرد أصولهم وكفروا أنفسهم وأن لم يقولوا بذلك تناقضوا فصح أن كل من اعتقد الإسلام بقلبه ونطق به لسانه فهو مؤمن عند الله عز وجل ومن أهل الجنة سواء كان ذلك عن قبول أو نشأة أو عن استدلال وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فنقول لهم هل استدل من مخالفيكم في أقوالكم التي تدينون بها أحد أم لم يستدل قط أحد غيركم فلا بد من إقرارهم بأن مخالفيهم أيضاً قد استدلوا وهم عندكم مخطئون كمن لم يستدل وأنتم عندهم أيضاً مخطئون فإن قالوا إن الأدلة امنتنا من أن نكون مخطئين قلنا لهم وهذا نفسه هو قول خصومكم فإنهم يدعون أن أدلتهم على صواب قولهم وخطأ قولكم ولا فرق ما زالوا على هذه الدعوى مذ كانوا إلى يومنا هذا فما نراكم حصلتم من استدلالكم إلا على ما حصل عليه من لم يستدل سواء بسواء ولا فرق فإن قالوا لنا فعلى قولكم هذا يبطل الاستدلال جملة ويبطل الدليل كافة قلنا معاذ الله من هذا لكن أريناك أنه قد يستدل من يخطئ وقد يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى فقط وقد لا يستدل من يخطئ وقد لا يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى وكل ميسر لما خلق له والبرهان والدلائل الصحاح غير المموهة فمن وافق الحق الذي قامت عند غيره البراهين الصحاح بصحته فهو مصيب محق مؤمن استدل أو لم يستدل ومن يسر للباطل الذي قام البرهان عند غيره ببطلانه فهو مبطل مخطئ أو كافر سواء استدل أو لم يستدل وهذا هو الذي قام البرهان بصحته والحمد لله رب العالمين وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد اختلف الناس في الوعد والوعيد فذهبت كل طائفة لقول منهم من قال أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولكنه كافراً وفاسق وأن كل من مات مصراً على كبيرة من الكبائر فلم يمت مسلماً وإذا لم يمت مسلماً فهو مخلد في النار أبداً وإن من مات ولا كبيرة له أة تاب عن كبائره قبل موته فإنه مؤمن من أهل الجنة لا يدخل النار أصلاً ومنهم من قال بأن كل ذنب صغير أو كبير فهو مخرج عن الإيمان والإسلام فإن مات عليه فهو غير مسلم وغير مسلم مخلد في النار وهذه م قال ات الخوارج والمعتزلة إلا أن بكر ابن أخت عبد الواحد ابن زيد قال في طلحة والزبير رضي الله عنهما أنهما كافران من أهل الجنة لأنهما من أهل بدر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال فأهل بدر إن كفروا فمغفور لهم لأنهم بخلاف غيرهم و قال بعض المرجئة لا تضر مع الإسلام سيئة كما لا ينفع مع الكفر حسنة قالوا فكل مسلم ولو بلغ على معصية فهو من أهل الجنة لا يرى ناراً وإنما النار للكفار وكل هاتين الطائفتين تقربان أحداً لا يدخل النار ثم يخرج عنها بل من دخل النار فهو مخلد فيها أبداً ومن كان من أهل الجنة فهو لا يدخل النار و قال أهل السنة والحسين النجار وأصحابه وبشر بن غياث المريسي وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن كيسان الأصم البصري وغيلان ابن مروان الدمشقي القدري ومحمد بن شبيب ويونس بن عمران وأبو العباس الناشي والأشعري وأصحابه ومحمد بن كرام وأصحابه أن الكفار مخلدون في النار وأن المؤمنين كلهم في الجنة وإن كانوا أصحاب كبائر ماتوا مصرين عليها وأنهم طائفتان طائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها أي من النار إلى الجنة.
وطائفة لا تدخل النار إلا أن كل من ذكرنا قالوا لله عز وجل أن يعذب من شاء من المؤمنين أصحاب الكبائر بالنار ثم يدخلهم الجنة وله أن يغفر لهم ويدخلهم الجنة بدون أن يعذبهم.
ثم افترقوا ف قال ت طائفة منهم وهو محمد بن شبيب ويونس والناشي إن عذب الله تعالى واحداً من أصحاب الكبائر عذب جميعهم ولا بد ثم أدخلهم الجنة.
وإن غفر لواحد منهم غفر لجميعهم ولا بد.
و قال ت طائفة بل يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وإن كانت ذنوبهم كثيرة مستوية وقد يغفر لمن هو أعظم جرماً ويعذب من هو أقل جرماً.
و قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يغفر لمن يشاء من أصحاب الكبائر ويعذب من يشاء منهم إلا القاتل عمداً فإنه مخلد في النار أبداً و قال ت طائفة منهم من لقى الله عز وجل مسلماً تائباً من كل كبيرة أو لم يكن عمل كبيرة قط فسيئآته كلها مغفورة وهو من أهل الجنة لا يدخل النار ولو بلغت سيئآته ما شاء الله أن يبلغ ومن لقى الله عز وجل وله كبيرة لم يتب منها فالحكم في ذلك الموازنة فمن رجحت حسناته على كبائره وسيئآته كلها تسقط وهو من أهل الجنة ولا يدخل النار وإن استوت حسناته مع كبائره وسيئآته فهؤلاء أهل الأعراف ولهم وقفة ولا يدخلون النار ثم يدخلون الجنة ومن رجحت كبائره وسيئآته بحسناته فهؤلاء مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرحمة الله تعالى وكل من ذكرنا يجازون في الجنة بعد بما فضل لهم من الحسنات وأما من لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فمن دونهم وكل من خرج من النار بالشفاعة وبرحمة الله تعالى فهم كلهم سواء في الجنة ممن رجحت له حسنة فصاعداً.
قال أبو محمد فأما من قال بأن صاحب الكبيرة يخلد وصاحب الذنب كذلك فإن حجتهم قول الله عز وجل " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وقوله تعالى " مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " وقوله تعالى " والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وقوله تعالى " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها " وبقوله تعالى " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما " وقوله " ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاماً يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن " وقوله تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً " وقوله تعالى " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة " الآية وقوله تعالى " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " وقوله " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا " إلى قوله تعالى " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " وقوله تعالى " الذين يأكلون الربا " الآية وذكروا أحاديث صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في وعيد شارب الخمر وقاتل الهرة ومن قتل نفسه بسم أو حديد أو تردى من جبل فإنه يفعل ذلك به في جهنم خالداً ومن قتل نفسه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار وذكروا أن الكبيرة تزيل اسم الإيمان فبعضهم قال إلى شرك وبعضهم قال إلى كفر نعمة وبعضهم قال إلى نفاق وبعضهم قال إلى فسق فإذ ليس مؤمناً فلا يدخل الجنة لأنه لا يدخل الجنة المؤمنون هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة أصلاً غير ما ذكرنا وأما من خص القاتل بالتخليد فإنهم احتجوا بقوله تعالى " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فقط وأما من قطع باسقاط الوعيد عن كل مسلم فاحتجوا بقول الله تعالى " لا يصلاها إلا الاشقى الذي كذب وتولى " قالوا وهذه الآية مثبتة أن كل من توعده الله عز وجل على قتل أو زنا أو ربا أو غير ذلك فإنما هم الكفار خاصة لا غيرهم واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر وقول الله عز وجل " إن رحمة الله قريب من المحسنين " قالوا ومن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد أحسن فهو محسن فرحمة الله قريب منه ومن رحمه الله فلا يعذب و قالوا كما أن الكفر محبط لكل حسنة فإن الإيمان يكفر كل سيئة والرحمة والعفو أولى بالله عز وجل.
قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلاً أو يدخل فيما ذكرنا ولا يخرج عنه وبالله تعالى التوفيق وأما من قال إن الله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقد يعذب من هو أقل ذنوباً ممن يغفر له فإنهم احتجوا بقول الله عز وجل " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وبعموم قوله تعالى " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله على العبد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئاً كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وجعلوا الآيتين اللتين ذكرنا قاضيتين على جميع الآيات التي تعلقت بها سائر الطوائف و قالوا لله الأمر كله لا معقب لحكمه فهو يفعل ما يشاء ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا.
قال أبو محمد وأما من قال بمثل هذا إلا أنه قال الله تعالى إن عذب واحداً منهم عذب الجميع وإن غفر لواحد منهم غفر للجميع فإنهم قدرية جنحوا بهذا القول نحو العدل ورأوا أن المغفرة لواحد وتعذيب من له مثل ذنوبه جور ومحاباة ولا يوصف الله عز وجل بذلك وأما من قال بالموازنة فإنهم احتجوا ف قالوا إن آيات الوعيد وأخبار الوعيد التي احتج بها من ذهب مذهب المعتزلة والخوارج فإنها لا يجوز أن تخص بالتعلق بها دون آيات العفو وأحاديث العفو التي احتج بها من أسقط الوعيد وهي لا يجوز التعلق بها دون الآيات التي احتج بها من أثبت الوعيد بل الواجب جمع جميع تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها حق وكلها من عند الله وكلها مجمل تفسيرها بآيات الموازنة وأحاديث الشفاعة التي هي بيان لعموم تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها من عند الله قالوا ووجدنا الله عز وجل قد قال " وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا " و قال تعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل " الآية و قال تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " و قال تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " و قال تعالى " فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئاً " الآية و قال تعالى " ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب " و قال تعالى " وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ " وقال تعالى " لتجزى كل نفس بما تسعى " و قال تعالى " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " إلى قوله " الجزاء الأوفى " و قال تعالى " وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك " و قال تعالى " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا " الآية وقال تعالى " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " و قال تعالى " وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم " و قال تعالى " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " الآية و قال تعالى " لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا " الآية و قال تعالى " وما يفعلوا من خير فلن يكفروه " و قال تعالى " إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا " و قال تعالى " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " و قال تعالى " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " إلى قوله تعالى " قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد " إلى قوله تعالى " وما أنا بظلام للعبيد " و قال تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه " إلى آخر السورة و قال تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئآت " و قال تعالى " وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " و قال تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ /C_QURAN> " هذا نص كلامه يوم القيامة وهو القاضي على كل مجمل قالوا فنص الله عز وجل أنه يضع الموازين القسط وأنه لا يظلم أحداً شيئاً ولا مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة من خير ومن شر فصح أن السيئة لا تحبط الحسنة وأن الإيمان لا يسقط الكبائر ونص الله تعالى أنه تجزى كل نفس بما كسبت وما عملت وما سعت وأنه ليس لأحد إلا ما سعى وأنه سيجزى بذلك من أساء بما عمل ومن أحسن بالحسنى وأنه تعالى يوفي الناس أعمالهم فدخل في ذلك الخير والشر وأنه تعالى يجازي بكل خير وبكل سوء وعمل وهذا كله يبطل قول من قال بالتخليد ضرورة وقول من قال باسقاط الوعيد جملة لأن المعتزلة تقول أن الإيمان يضيع ويحبط وهذا خلاف قول الله تعالى أنه لا يضيع إيماننا ولا عمل عامل منا و قالوا هم أن الخير ساقط بسيئة واحدة و قال تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئآت " ف قالوا هم أن السيئآت يذهبن الحسنات وقد نص تعالى أن الأعمال لا يحبطها إلا الشرك والموت عليه و قال تعالى " من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " فلو كانت سيئة أو كبيرة توجب الخلود في جهنم وتحبط الأعمال الحسنة لكانت كل سيئة أو كل كبيرة كفراً ولتساوت السيئآت كلها وهذا خلاف النصوص وعلمنا بما ذكرنا أن الذين قال الله تعالى فيهم " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " هم الذين رجحت حسناتهم على سيئآتهم فسقط كل سيئة قدموها وصح أن قوله تعالى " وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " هو فيمن رجحت كبائرهم حسناتهم وإن السيئة الموجبة للخلود هي الكفر لأن النصوص جاءت بتقسيم السيئآت ف قال تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " فهذه سيئآت مغفورة باجتناب الكبائر و قال تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " و قال تعالى " ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " فأخبر تعالى أن من السيئات المجازى لها ما هو مقدار ذرة ومنها ما هو أكبر ولا شك أن الكفر أكبر السيئآت فلو كانت كل كبيرة جزاءها الخلود لكانت كلها كفراً ولكانت كلها سواء وليست كذلك بالنص وأما وعيد الله بالخلود في القاتل وغيره فلو لم يأت إلا هذه النصوص لوجب الوقوف عندها لكنه قد قال تعالى " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض وقد صح أن القاتل ليس كافراً وإن الزاني ليس كافراً وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفاراً بما ذكرنا قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات وأنهم مأمورون بالصلوات وأن زكاة أموالهم مقبوضة وأنهم لا يقتلون وأنه إن عفى عن القاتل فقتله مسلم فإنه يقتل ربه وأنه يرث ويورث وتؤكل ذبيحته فإذ ليس كافراً فبيقين ندري أن خلوده إنما هو مقام مدة ما وإن الصلى الذي نفاه الله تعالى عن كل من لم يكذب ولا تولى إنما هو صلى الخلود لا يجوز البتة غير هذا وبهذا تتألف النصوص وتتفق ومن المعهود في المخاطبة أن من وفد من بلد إلى بلد فحبس فيه لأمر أوجب احتباسه فيه مدة ما فإنه ليس من أهل ذلك البلد الذي حبس فيه فمن دخل في النار ثم أخرجه منها فقد انقطع عنه صليها فليس من أهلها وإنما أهلها وأهل صليها على الاطلاق والجملة هم الكفار المخلدون فيها أبداً فهكذا جاء في الحديث الصحيح فقد ذكر عليه السلام فيه من يدخل النار بذنوبه ثم يخرج منها ثم قال صلى الله عليه وسلم وأما أهل النار الذين هم أهلها يعني الكفار المخلدين فيها وقد قال عز وجل " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فقد بين عليه السلام ذلك بقوله في الخبر الصحيح ثم يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فبالقرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم صح أن ممر الناس من محشرهم إلى الجنة إنما هو بخوضهم وسط جهنم وينجي الله أولياءه من حرها وهم الذين لا كبائر لهم أو لهم كبائر تابوا عنها ورجحت حسناتهم بكبائرهم أو تساوت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم وأنه تعالى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته بحسناته ثم يخرجهم عنها إلى الجنة بإيمانهم ويمحق الكفار بتخليدهم في النار كما قال تعالى " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " وأيضاً فإن كل آية وعيد وخبر وعيد تعلق به من قال بتخليد المذنبين فإن المحتجين بتلك النصوص هم أول مخالف لها لأنهم يقولون أن من أتى بتلك الكبائر ثم تاب سقط عنه الوعيد فقد تركوا ظاهر تلك النصوص فإن قالوا إنما قلنا ذلك بنصوص اخر أوجبت ذلك قيل لهم نعم وكذلك فعلنا بنصوص أخر وهي آيات الموازنة وأنه تعالى لا يضيع عمل عامل من خير أو شر ولا فرق وي قال لمن أسقط آيات الوعيد جملة و قال أنها كلها إنما جاءت في الكفار إن هذا باطل لأن نص القرآن بالوعيد على الفار من الزحف ليس إلا على المؤمن بيقين بنص الآية في قوله تعالى " ومن يولهم يومئذ دبره " ولا يمكن أن يكون هذا في كافر أصلاً فسقط قول من قال بالتخليد وقول من قال بإسقاط الوعيد ولم يبق إلا قول من أجمل جواز المغفرة وجوز العقاب.
قال أبو محمد فوجدنا هذا القول مجملاً قد فسرته آيات الموازنة وقوله تعالى الذي تعلقوا به " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " حق على ظاهرها وعلى عمومها وقد فسرتها بإقرارهم آيات أخر لأنه لا يختلف في أن الله تعالى يغفر أن يشرك به لمن تاب من الشرك بلا شك وكذلك قوله تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فهذا كله حق إلا أنه قد بين من هم الذين شاء أن يغفر لهم فإن صرتم إلى بيان الله تعالى فهو الحق وأن أبيتم إلا الثبات على الأجمال فأخبرونا عن قول الله تعالى " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً " وقوله تعالى " بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " أترون أن هذا العموم تقولون به فتجيزون أنه يغفر الكفر لأنه ذنب من الذنوب أم لا وأخبرونا عن قول الله عز وجل حاكياً عن عيسى عليه السلام أنه يقول له تعالى يوم القيمة " يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " إلى قوله " وأنت على كل شيء شهيد " إلى قوله تجري من تحتها الأنهار أيدخل النصارى الذين اتخذوا عيسى وأمه الهين من دون الله تعالى في جواز المغفرة لهم لصدق قول الله تعالى في هذا القول من التخبير بين المغفرة لهم أو تعذيبهم وأخبرونا عن قوله تعالى " قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " فمن قولهم أن المغفرة لا تكون البتة لمن كفر ومات كافراً وأنهم خارجون من هذا العموم ومن هذه الجملة بقوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " قيل لهم ولم خصصتم هذه الجملة بهذا النص ولم تخصوا قوله تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " بقوله " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " وبقوله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " وبقوله تعالى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " وهذا خبر لا نسخ فيه فإن قالوا نعم إلا أن يشاء أن يغفر لهم قيل لهم قد أخبر الله تعالى أنه لا يشاء ذلك بإخباره تعالى أنه في ذلك اليوم يجزي كل نفس ما كسبت ولا فرق.
قال أبو محمد وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يأتي يوم القيمة وله صدقة وصيام وصلاة فيوجد قد سفك دم هذا وشتم هذا فتؤخذ حسناته كلها فيقتص لهم منها فإذا لم يبق له حسنة قذف من سيئاتهم عليه ورمى في النار وهكذا أخبر عليه السلام في قوم يخرجون من النار حتى إذا نقوا وهذبوا أدخلوا الجنة وقد بين عليه السلام ذلك بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة شعير من خير ثم من في قلبه مثقال برة من خير ثم من في قلبه مثقال حبة من خردل ثم من في قلبه مثقال ذرة إلى أدنى أدنى أدنى من ذلك ثم من لم يعمل خيراً قط إلا شهادة الإسلام فوجب الوقوف عند هذه النصوص كلها المفسرة للنص المجمل ثم ي قال أخبرونا عمن لم يعمل شراً قط إلا اللمم ومن هم بالشر فلم يفعله فمن قول أهل الحق أنه مغفور له جملة بقوله تعالى " إلا اللمم " وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تجاوز قال أبو محمد وهذا ينقسم أقساماً أحدها من هم بسيئة أي شيء كانت من السيئآت ثم تركها مختاراً لله تعالى فهذا تكتب له حسنة فإن تركها مغلوباً لا مختاراً لم تكتب له حسنة ولا سيئة تفضيلاً من الله عز وجل ولو عملها كتبت له سيئة واحدة ولو هم بحسنة ولم يعلمها كتبت له حسنة واحدة فإن عملها كتب له عشر حسنات وهذا كله نص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا فذهب إلى أن الهم بالسيئة إصرار عليها فقلت له هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء بعد تماد عليه أن يفعله وأما من هم بما لم يفعل بعد فليس إصراراً قال الله تعالى: " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ثم نسألهم عن عمل بالسيئات حاشا الكبائر عدداً عظيماً ولم يأت كبيرة قط ومات على ذلك أيجوزون أن يعذبه الله تعالى على ما عمل من السيئات أم يقولون أنها مغفورة له ولا بد فإن قالوا أنها مغفورة ولا بد صدقوا وكانوا قد خصوا قوله تعالى ويغفو ما دون ذلك لمن يشاء وتركوا حمل هذه الآية على عمومها فلا ينكروا ذلك على من خصها أيضاً بنص آخر وإن قالوا بل جائز أن يعذبهم الله تعالى على ذلك أكذبهم الله بقوله " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً " ونعوذ بالله من تكذيب الله عز وجل ثم نسألهم عمن عمل من الكبائر ومات عليها وعمل حسنات رجحت بكبائره عند الموازنة أيجوز أن يعذبه الله تعالى بما عمل من تلك الكبائر أم هي مغفورة له ساقطة عنه فإن قالوا بل هي مغفورة وساقطة صدقوا وكانوا قد خصوا عموم قوله تعالى ويغفو ما دون ذلك لمن يشاء وجعلوا هؤلاء ممن شاء ولا بد أن يغفر لهم وإن قالوا بل جايز أن يعذبهم أكذبهم الله تعالى بقوله " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية " وبقوله " إن الحسنات يذهبن السيئات ".
قال أبو محمد: وكذلك القول فيمن تساوت حسناته وكبائره وهم أهل الأعراف فلا يعذبون أصلاً فقد صح يقيناً أن هؤلاء الطبقات الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك فبقي الذين لم يشاء الله تعالى أن يغفر لهم ولم يبق من الطبقات أحد إلا من رجحت كبائره في الموازنة على حسناته فهو الذين يجازون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون من النار بالشفاعة وبرحمة الله عز وجل ف قالوا من هؤلاء من يغفر الله تعالى له ومنهم من يعذبه قلنا لهم أعندكم بهذا البيان نص وهم لا يجدونه أبداً فظهر تحكمهم بلا برهان وخلافهم لجميع الآيات التي تعلقوا بها فإنهم مقرون على أنها ليست على عمومها بل هي مخصوصة لأن الله تعالى قال إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولا خلاف في أنه تعالى يغفر الشرك لمن آمن فصح أنها مجملة تفسيرها ساير الآيات والأخبار وكذلك حديث عبادة خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئاً كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإنهم متفقون على أن من جاء بهن لم ينتقص من حدودهن شيئاً إلا أنه قتل وزنى وسرق فإنه قد يعذب ويقولون إن لم يأت بهن فإنه لا يعذب على التأييد بل يعذب ثم يخرج عن النار.
قال أبو محمد: هذا ترك منهم أيضاً لظاهر هذا الخبر.
قال أبو محمد: ولا فرق بين قول الله تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية " وبين قوله " وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " كلاهما خبران جاز إبطال أحدهما جاز إبطال الآخر ومعاذ الله من هذا القول وكذلك قد منع الله تعالى من هذا القول بقوله تعالى " لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد " ونحن نقول أن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وأنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن كل أحد فهو في مشيئة الله تعالى إلا أننا نقول أنه تعالى قد بين من يغفر له ومن يعذب وإن الموازين حق والموازنة حق والشفاعة حق وبالله تعالى التوفيق حدثنا محمد بن سعيد بن بيان حدثنا أحمد بن عبد النصير حدثنا القاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الختني حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله تعالى " وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص " قال ما وعدوا فيه من خير وشر وهذا هو نص وإني وإن واعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي قال أبو محمد: وهذا لا شيء قد جعل فخر صبي أحمق كافر حجة على الله تعالى والعرب تفخر بالظلم قال الراجز: أحيا أباه هاشم بن حرمله ترى الملوك حوله مغربله يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له وقد جعلت العرب مخلف الوعد كاذبا قال الشاعر أنشده أبو عبيدة معمر بن المثنى: أتوعدني وراء بني رباح كذبت لتقصرن يداك دوني فإن قالوا خصوا وعيد الشرك بالموازنة قلنا لا يجوز لأن الله تعالى منع من ذلك قال تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " فمن حبط عمله فلا خير له.
قال أبو محمد: وأهل النار متفاضلون في عذاب النار فأقلهم عذاباً أبو طالب فإنه توضع جمرتان من نار في أخمصيه إلى أن يبلغ الأمر إلى قوله تعالى " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقوله تعالى "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" ولا يكون الأشد إلا إلى جلب إلا دون و قال تعالى " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ".
قال أبو محمد: والكفار معذبون على المعاصي التي عملوا من غير الكفر برهان ذلك قول الله سبحانه وتعالى " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " فنص تعالى على أن الكفار يعذبون على ترك الصلاة وعلى ترك الطعام للمسكين.
قال أبو محمد: وأما من عمل منهم العتق والصدقة أو نحو ذلك من أعمال البر فحابط كل ذلك لأن الله عز وجل قال أنه من مات وهو كافر حيط عمله لكن لا يعذب الله أحداً إلا على ما عمل ما لم يعمل قال الله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فلما كان من لا يطعم المسكين من الكفار يعذب على ذلك عذاباً زائداً فالذي أطعم المسكين مع كفره لا يعذب ذلك العذاب الزائد فهو أقل عذاباً لأنه لم يفعل من الشر ما عمل من هو أشد عذاباً لأنه عمل خيراً.
قال أبو محمد: وكل كافر عمل خيراً وشراً ثم أسلم فإن كل ما عمل من خير مكتوب مجازى به في الجنة وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه وإن تمادى عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه برهان ذلك حديث حكيم بن حزام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يا رسول الله أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتق وصدقة وصلة رحم ف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما سلف لك من خير فأخبر أنه خير وأنه له إذا أسلم و قال ت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه كان يصل الرحم ويقرى الضيف أينفع ذلك قال لا لأنه لم يقل يوماً " وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ " فأخبر عليه السلام أنه لم ينتفع بذلك لأنه لم يسلم فاتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك وأما مؤاخذته بما عمل فحديث ابن مسعود رضي الله عنه بنص ما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلناه فإن اعترض معترض بقول الله تعالى " لئن أشركت ليحبطن عملك " ومن أسلم فليس من الخاسرين وقد بين ذلك بقوله " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " وإن اعترضوا فيما قلنا من المؤاخذة بما عمل في الكفر بقوله تعالى " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " قلنا لهم هذا حجة لنا لأن من انتهى عن الكفر غفر له وإن انتهى عن الزنا غفر له وإن لم ينته عن الزنا لم يغفر له ما انتهى عنه ولم يغفر له ما لم ينته عنه ولم يقل تعالى إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم سائر ذنوبهم والزيادة على الآية كذب على الله تعالى وهي أعمال متغايرة كما ترى ليست التوبة عن بعضها توبة عن سائرها فلكل واحد منها حكم فإن ذكروا حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام يجب ما قبله فقد قلنا أن الإسلام اسم لجميع الطاعات فمن أصر على المعصية فليس فعله في المعصية التي يتمادى عليها إسلاماً ولا إيماناً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فصح أن الإسلام والإيمان هو جميع الطاعات فإذا أسلم من الكفر وتاب من جميع معاصيه فهو الإسلام الذي يجب ما قبله وإذا لم يتب من معاصيه فلم يحسن في الإسلام فهو مأخوذ بالأول والآخر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا تتفق الأحاديث وكذلك قوله عليه السلام والهجرة تجب ما قبلها فقد صح عنه عليه السلام أن المهاجر من هجر ما نهاه الله عنه فمن تاب من جميع المعاصي التي سلفت منه فقد هجر ما نهاه الله عنه فهذه هي الهجرة التي تجب ما قبلها وأما قوله عليه السلام والحج يجب ما قبله فقد جاء أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فهذا على الموازنة التي ربنا عز وجل عالم بمراتبها ومقاديرها وإنما نقف حيث وقفنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واستدركنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قاتل نفسه حرم عليه الجنة وأوجب له النار مع قوله من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم عليه النار وأوجب له الجنة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " فصح أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله وحي من عند الله تعالى و قال عز وجل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح أن كل ما قال ه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عند الله تعالى وأنه لا اختلاف في شيء منه وأنه كله متفق عليه فإذ ذلك كذلك فواجب ضم هذه الأخبار بعضها إلى بعض فيلوح الحق حينئذ بحول الله وقوته فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم في القاتل حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار مبني على الموازنة فإن رجحت كبيرة قتله نفسه على حسناته حرم الله عليه الجنة حتى يقتص منه بالنار التي أوجبها الله تعالى جزاء على فعله وبرهان هذا حديث الذي أسلم وهاجر مع عمرو بن الحممة الدوسي ثم قتل نفسه لجراح جرح به فتألم به فقطع عروق يده فنزف حتى مات فرآه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حال حسنة إلا يده وذكر أنه قيل له لن يصلح منك ما أفسدت ف قال رسول الله صلى الله وسلم اللهم وليديه فاغفر ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة فهذا لا يختلف فيه مسلمان أنه ليس على ظاهره منفرداً لكن يضمه إلى غيره من الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين حاشا دين الإسلام ومعناه حينئذ أن الله عز وجل أوجب له الجنة ولا بد إما بعد الاقتصاص وإما دون الاقتصاص على ما توجبه الموازنة وحرم الله عليه أن يخلد فيها ويكون من أهلها القاطنين فيها على ما بينا قبل من قوله تعالى " لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا " وقوله تعالى " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها " فنص الآية أنها في الكفار هكذا في نص الآية.
قال أبو محمد: وأما الكفارة فإن الله تعالى قال: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ".
قال أبو محمد: ومن المحال أن يحرم الله تعالى علينا أمراً ويفرق بين أحكامه ويجعل بعضه مغفوراً باجتناب بعض ومؤاخذاً به إن لم يجتنب البعض الآخر ثم لا يبين لنا المهلكات من غيرها فنظرنا في ذلك فوجدنا قوماً يقولون أن كل ذنب فهو كبيرة.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لأن نص القرآن مفرق كما قلنا بين الكبائر وغيرها وبالضرورة ندري أنه لا ي قال كبيرة إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها والكبائر أيضاً تتفاضل فالشرك أكبر مما دونه والقتل أكبر من غيره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وأنه لكبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فأخبر عليه السلام أنهما كبير وما هما بكبير وهذا بين لأنهما كبيران بالإضافة إلى الصغائر المغفورة باجتناب الكبائر وليسا بكبيرين بالإضافة إلى الكفر والقتل.
قال أبو محمد: فبطل القول المذكور فنظرنا في ذلك فوجدنا معرفة الكبير من الذنوب مما ليس بكبير منها لا يعلم البتة إلا بنص وارد فيها إذ هذا من أحكام الله تعالى التي لا تعرف إلا من عنده تعالى فبحثنا عن ذلك فوجدنا الله تعالى قد نص بالوعيد على ذنوب في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ووجدنا ذنوباً أخر لم ينص عليها بوعيد فعلمنا يقيناً أن كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار أو توعد عليه رسوله صلى الله عليه وسلم بالنار فهو كبير وكل ما نص عليه رسول الله صلى الله وسلم باستعظامه فهو كبير كقوله عليه السلام اتقوا السبع الموبقات الشرك والسحر والقتل والزنا وذكر الحديث وكقوله عليه السلام عقوق الوالدين من الكبائر وكل ما لم يأت نص باستعظامه ولا جاء فيه وعيد بالنار فليس بكبير ولا يمكن أن يكون الوعيد بالنار على الصغائر على انفرادها لأنها مغفورة باجتناب الكبائر فصح ما قلناه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: اختلف المتكلمون في معنى عبروا عنه بلفظ الموافاة وهم أنهم قالوا في إنسان مؤمن صالح مجتهد في العبادة ثم مات مرتداً كافراً وآخر كافر متمرد أو فاس ثم مات مسلماً تائباً كيف كان حكم كل واحد منهما قبل أن ينتقل إلى ما مات عليه عند الله تعالى فهذب هشام بن عمرو الفوطي وجميع الأشعرية إلى أن الله عز وجل لم يزل راضياً عن الذي مات مسلماً تائباً ولم يزل ساخطاً على الذي مات كافراً أو فاسقاً واحتجوا في ذلك بأن الله عز وجل لا يتغير علمه ولا يرضى ما سخط ولا يسخط ما رضي و قال ت الأشعرية الرضا من الله عز وجل لا يتغير منه تعالى صفات الذات لأين ولآن ولا يتغير إن وذهب سائر المسلمين إلى أن الله عز وجل كان ساخطاً على الكافر والفاسق ثم رضي الله عنهما إذا أسلم الكافر وتاب الفاسق وأنه كان تعالى راضياً عن المسلم وعن الصالح ثم سخط عليهما إذا كفر المسلم وفسق الصالح.
قال أبو محمد: احتجاج الأشعرية ها هنا هو احتجاج اليهود في إبطال النسخ ولا فرق ونحن نبين بطلان احتجاجهم وبطلان قولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز وجل نتأيد أما قولهم عن علم الله عز وجل لا يتغير فصحيح ولكن معلوماته تتغير ولم نقل أن علمه يتغير ومعاذ الله من هذا ولم يزل علمه تعالى واحداً يعلم كل شيء على تصرفه في جميع حالاته فلم يزل يعلم أن زيداً سيكون صغيراً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم ميتاً ثم مبعوثاً ثم في الجنة أو في النار ولم يزل يعلم أن سيؤمن ثم يكفر أو أنه يكفر ثم يؤمن أو أنه يكفر ولا يؤمن أو أنه يؤمن ولا يكفر وكذلك القول في الفسق والصلاح ومعلوماته تعالى في ذلك متغيرة مختلفة ومن كابر هذا فقد كابر العيان والمشاهدات وأما قولهم أن الله تعالى لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط فباطل وكذب بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم ورضي لهم ذلك وسخط منهم خلافه وكذلك أحل لنا الخمر ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان والبغاء بلا صلاة وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك كله كما قال تعالى " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " ثم فرض علينا الصلاة والصوم وحرم علينا الخمر فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمر ورضي لنا خلاف ذلك وهذا لا ينكره مسلم ولم يزل الله تعالى عليماً أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا وأنه سيرضى منه ثم أنه سيحرمه ويسخطه وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة ثم أنه يحله ويرضاه كما علم عز وجل أنه سيحيى من أحياه مدة كذا وأنه يعز من أعزه مدة ثم يذله وهكذا المؤمن يموت مرتداً والكافر يموت مسلماً فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخطه فعل الكافر ما دام كافراً ثم أنه يرضى عنه إذا أسلم وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم وأفعال البر ثم أنه يسخط أفعاله إذا ارتد أو فسق ونص القرآن يشهد بذلك قال تعالى " ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم " فصح يقيناً أن الله تعالى يرضى الشكر ممن شكره فيما شكره ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر كيف كان انت قال هذه الأحوال من الإنسان الواحد وقوله تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير حابط ومن المحل أن يحبط عمل لم يكن محسوباً قط فصح أن عمل المؤمن الذي ارتد ثم مات كافراً أنه كان محسوباً ثم حبط إذا ارتد وكذلك قال الله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " فصح أنه لا يمحو إلا ما كان قد كتبه ومن المحل أن يمحى ما لم يكن مكتوباً وهذا بطلان قولهم يقيناً ولله الحمد وكذلك نص قوله تعالى " أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " فهذا نص قولنا وبطلان قولهم لأن الله تعالى سمى أفعالهم الماضية سيئات والسيئات مذمومة عنده تعالى بلا شك ثم أخبر تعالى أنه أحالها وبدلها حسنات مرضية فمن أنكر هذا فهو مكذب لله تعالى والله تعالى مكذب له وكذلك قال الله تعالى أنه سخط أكل آدم من الشجرة وذهاب يونس مغاضباً ثم أخبر عز وجل أنه تاب عليهما واجتبى يونس بعد أن لامه ولا يشك كل ذي عقل أن اللائمة غير الاجتباء.
قال أبو محمد: ثم نقول لهم أفي الكافر كفر إذا كان كافراً قبل أن يؤمن وفي الفاسق فسق قبل أن يتوب وفي المؤمن إيمان قبل أن يرتد أم لا فإن قالوا لا كابروا وأحالوا وإن قالوا نعم قلنا لهم فهل يسخط الله الكفر والفسق أو يرضى عنهما فإن قالوا بل يسخطهما تركوا قولهم وإن قالوا بل يرضى عن الكفر والفسق كفروا ونسألهم عن قتل وحشى حمزة رضي الله عنه إرضاء كان لله تعالى فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا بل ما كان إلا سخطاً سألناهم أيؤاخذه الله تعالى به إذا أسلم فمن قولهم لا وهكذا في كل حسنة وسيئة فظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الكلام في من لم تبلغه الدعوة
ومن تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع فيما تاب عنه قال أبو محمد: قال الله عز وجل " لأنذركم به ومن بلغ " و قال تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " فنص تعالى ذلك على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف والأصلح الأصم ومن كان في الفترة والمجنون فيقول المجنون يا رب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل ويقول الخرف والأصم والذي في الفترة أشياء ذكرها فيوقد لهم نار وي قال لهم ادخلوها فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بأرض الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً لانقطاع الطرق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض.
قال أبو محمد: ورأيت قوماً يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم من كان جاهلاً بها ولا من لم تبلغه.
قال أبو محمد: وهذا باطل بل هي لازمة له لأن رسول الله صلى الله وسلم بعث إلى الإنس كلهم وإلى الجن كلهم وإلى كل من لم يولد إذ بلغ بعد الولادة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى آمراً أن يقول " إني رسول الله إليكم جميعاً " وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه أحداً و قال تعالى " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " فأبطل سبحانه أن يكون أحد سدى والسدى هو المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهي فأبطل عز وجل هذا الأمر ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط وأن من بلغه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حيث ما كان من أقاصي الأرض ففرض عليه البحث عنه فإذا بلغته نذارته ففرض عليه التصديق به وأتباعه وطلب الدين اللازم له والخروج عن وطنه لذلك وإلا فقد استحق الكفر والخلود في النار والعذاب بنص القرآن وكل ما ذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج أن في حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يلزم من في أقاصي الأرض الإيمان به ومعرفة شرائعه فإن ماتوا في تلك الحال ماتوا كفاراً إلى النار ويبطل هذا قول الله عز وجل " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " وليس في وسع أحد علم الغيب فإن قالوا فهذه حجة الطائفة القائلة أنه لا يلزم أحداً شيء من الشرائع حتى تبلغه قلنا لا حجة لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم واحتمال بنيتهم إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفاً يعذبون به إن لم يفعلوه وإنما كلفوه تكليف من لا يعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن له أمراً من الحكم مجملاً ولم يبلغه نصه ففرض عليه اجتهاد نفسه في طلب ذلك الأمر وإلا فهو عاص لله عز وجل قال الله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وبقوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " وأما من تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع إلى ما تاب عنه فإنه إن كان توبته تلك وهو معتقد للعودة فهو عابث مستهزئ مخادع لله تعالى قال الله تعالى " يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم " إلى قوله " عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وأما من كانت توبته نصوحاً ثابت العزيمة في أن لا يعود فهي توبة صحيحة مقبولة بلا شك مسقطة لكل ما تاب عنه بالنص قال عز وجل " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً " فإن عاد بعد ذلك إلى الذنب الذي تاب منه فلا يعود عليه ذنب قد غفره الله له أبداً فإن ارتد ومات كافراً فقد سقط عنه الكفر وغيره.
قال أبو محمد: ولا تكون التوبة إلا بالندم والاستغفار وترك المعاودة والعزيمة على ذلك والخروج من مظلمة إن تاب عنها إلى صاحبها بتحلل أو إنصاف ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن يفجور المعروف بابن الأخشيد وهو أحد أركان المعتزلة وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة من الأتراك وولى أبوه الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي فرأيت له في بعض كتبه يقول أن التوبة هي الندم فقط وإن لم ينو مع ذلك ترك المراجعة لتلك الكبيرة.
قال أبو محمد: هذا أشنع ما يكون من قول المرجئة لأن كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على كل ذنب يعمله عالماً بأنه مسيء فيه مستغفر منه ومن كان بخلاف هذه الصفة لكن مستحسناً لما فعل غير نادم عليه فليس مسلماً فكل صاحب كبيرة فهو على قول ابن الأخشيد غير مؤاخذ بها لأنه تائب منها وهذا خلاف الوعيد فإن قال قائل فإنكم تقطعون على قبول إيمان المؤمن أفتقطعون على قبول توبة التائب وعمل العامل للخير إن كل ذلك مقبول وهل تقطعون على المكثر من السيئات أنه في النار قلنا وبالله تعالى التوفيق أن الأعمال لها شروط من توفية النية حقها وتوفية العمل حقه فلو أيقنا أن العمل وقع كاملاً كما أمر الله تعالى لقطعنا على قبول الله عز وجل له وأما التوبة فإذا وقعت نصوحاً فنحن نقطع بقبولها وأما القطع على مظهر الخير بأنه في الجنة وعلى مظهر الشر والمعاصي بأنه في النار فهذا خطأ لأننا لا نعلم ما في النفوس ولعل المظهر الخير مبطن للكفر أو مبطن على كباير لا نعلمها فواجب أن لا نقطع من أجل ذلك عليه بشيء وكذلك المعلن بالكبائر فإنه يمكن أن يبطن الكفر في باطن أمره فإذا قرب من الموت آمن فاستحق الجنة أو لعل له حسنات في باطن أمره تفيء على سيئاته فيكون من أهل الجنة فلهذا وجب أن لا نقطع على أحد بعينه بجنة ولا نار حاشا من جاء النص فيه من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم في الجنة وبأن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأهل بدر وأخل السوابق فإنا نقطع على هؤلاء بالجنة لأن الله تعالى أخبرنا بذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وحاشا من مات معلناً للكفر فإنا نقطع عليه بالنار ونقف فيمن عدا هؤلاء إذا أننا نقطع على الصفات فنقول من مات معلناً للكفر أو مبطناً له فهو في النار خالداً فيها ومن لقي الله تعالى راجح الحسنات على السيئات والكبائر أو متسايهما فهو في الجنة لا يعذب بالنار ومن لقي الله تعالى راجح الكبائر على الحسنات ففي النار ويخرج منها بالشفاعة إلى الجنة وبالله قال أبو محمد: ورأيت بعض أصحابنا يذهب إلى شيء يسميه شاهد الحال وهو أن من كان مظهر الشيء من الديانات متحملاً للأذى فيه غير مستجلب بما يلقي من ذلك حالاً فإنه مقطوع على باطنه وظاهره قطعاً لا شك فيه كعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين ومن جرى مجراهم ممن قبلهم أو بعدهم فإن هؤلاء رضي الله عنهم رفضوا من الدنيا ما لو استعملوه لما حط من وجاهتهم شيئاً واحتملوا من المضض ما لو خففوه عن أنفسهم لم يقدح لهم ذلك فيهم عند أحد فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله عز وجل وعلى خيرهم وفضلهم وكذلك نقطع على أن عمر بن عبيد كان يدين بأبطال القدر بلا شك في باطن أمره وأن أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما كانا في باطن أمرهما يدينان الله تعالى بالقياس وأن داود بن علي كان في باطن الأمر يدين الله تعالى بإبطال القياس بلا شك وأن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يدين الله تعالى بالتدين بالحديث في باطن أمره بلا شك وبأن القرآن غير مخلوق بلا شك وهكذا كل من تناصرت أحواله وظهر جده في معتقد وترك المسامحة فيه واحتمل الأذى والمضض من أجله.
قال أبو محمد: وهذا قول صحيح لا شك فيه إذ لا يمكن البتة في بنية الطبائع أن يحتمل أحد أذى ومشقة لغير فائدة يتعجلها أو يتأجلها وبالله تعالى التوفيق ولا بد لكل ذي عقد من أن يتبين عليه شاهد عقده بما يبدو منه من مسامحة فيه أو صبر عليه وأما من كان بغير هذه الصفة فلا نقطع على عقده وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الشفاعة والميزان والحوض وعذاب القبر والكتبة
قال أبو محمد: اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج وكل من تبع أن لا يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها وذهب أهل السنة والأشعرية والكرامية وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة واحتج المانعون بقول الله عز وجل " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وبقوله عز وجل " يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله " وبقوله تعالى " قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً " وبقوله تعالى " واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة " وبقوله تعالى " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " وبقوله تعالى " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " وبقوله تعالى " وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ".
قال أبو محمد: من يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض السنن دون بعض ولا على القرآن دون بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه عز وجل " لتبين للناس ما نزل إليهم " وقد نص الله على صحة الشفاعة في القرآن فقال تعالى " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً " فأوجب عزل وجل الشفاعة إلا من اتخذ عنده عهداً بالشفاعة وصحت بذلك الأخبار المتواترة المتناصرة بنقل الكواف لها قال تعالى " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً " و قال تعالى " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عز وجل ممن أذن له فيها ورضي قوله ولا أحد من الناس أولى بذلك من محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أفضل ولد آدم عليه السلام و قال تعالى " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وكم من ملوك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " و قال تعالى " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقيناً أن الشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي غير الشفاعة التي أثبتها عز وجل وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار قال تعالى لا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا نعوذ بالله منها فإذ لا شك فيه فقد صح يقيناً أن الشفاعة التي أوجب الله عز وجل لمن أذن له واتخذ عنده عهداً ورضي قوله فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت.
قال أبو محمد: وهما شفاعتان إحداهما الموقف ومسعه الحال وهو المقام المحمود الذي جاء النص في القرآن به في قوله " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " وهكذا جاء الخبر الثابت نصاً والشفاعة الثانية في إخراج أهل الكبائر من النار طبقة طبقة على ما صح في ذلك الخبر وأما قول الله تعالى " قل لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ولا تملك نفس لنفس شيئاً " فما خالفناهم في هذا أصلاً وليس هذا من الشفاعة في شيء فنعم لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً ولا رشداً ولا هدى وإنما الشفاعة رغبة إلى الله تعالى وضراعة ودعاء و قال بعض منكري الشفاعة أن الشفاعة ليست غلا في المحسنين فقط واحتجوا بقوله تعالى " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن من أذن الله في إخراجه من النار وأدخله الجنة وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه وهذا حق وفضل الله تعالى على من قد غفر له ذنوب بأن رجحت حسناته على كبائره أو بأن لم تكن له كبيرة أو بأن تاب عنها فهو مغن له عن شفاعة كل شافع فقد حصلت له الرحمة والفوز من الله تعالى وأمر به إلى الجنة ففيما ذا يشفع له وإنما الفقير إلى الشفاعة من غلبت كبائره حسناته فأدخل النار ولم يأذن تعالى بإخراجه منها إلا بالشفاعة وكذلك الخلق في كونهم في الموقف هم أيضاً في مقام شنيع فهم أيضاً محتاجون إلى الشفاعة وبالله تعالى التوفيق وبما صحت الأخبار من ذلك نقول.
وأما الميزان فقد أنكره قوم فخالفوا كلام الله تعالى وإقداماً وتنطع آخرون فقالوا هو ميزان بكفتين من ذهب وهذا إقدام آخر لا يحل قال الله عز وجل " ويقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ".
قال أبو محمد: وأمور الآخرة لا تعلم إلا بما جاء في القرآن أو بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأت عنه عليه السلام شيء يصح في صفة الميزان ولو صح عنه عليه السلام في ذلك شيء لقلنا به فإذ لا يصح عنه عليه السلام في ذلك فلا يحل لأحد أن يقول على الله عز وجل ما لم يخبرنا به لكن نقول كما قال الله عز وجل " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " إلى قوله " وكفى بنا حاسبين " و قال تعالى " والوزن يومئذ الحق " و قال تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " فنقطع على أن الموازين توضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد قال تعالى عن الكفار " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " وليس هذا على أن لا توزن أعمالهم بل توزن لكن أعمالهم شائلة وموازينهم خفاف قد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول " ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " إلى قوله " فكنتم بها تكذبون " فأخبر عز وجل أن هؤلاء المكذبين بآياته خفت موازينهم والمكذبون بآيات الله عز وجل كفار بلا شك ونقطع على أن تلك الموازين أشياء يبين الله عز وجل بها لعباده مقادير أعمالهم من خير أو شر من مقدار الذرة التي لا تحس وزنها في موازيننا أصلاً فما زاد ولا ندري كيف تلك الموازين إلا أننا ندري أنها بخلاف موازين الدنيا وأن ميزان من تصدق بدينار أو بلؤلؤة أثفل ممن تصدق بكذآنة وليس هذا وزناً وندري أن إثم القاتل أعظم من إثم اللاطم وأن ميزان مصلي الفريضة أعظم من ميزان مصلي التطوع بل بعض الفرائض أعظم من بعض فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من صلى الصبح في جماعة كمن قام ليلة ومن صلى العتمة في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكلاهما فرض وهكذا جميع الأعمال فإنما يوزن عمل العبد خيره مع شره ولو نصح المعتزلة أنفسهم لعلموا أن هذا عين العدل وأما من قال بما لا يدري أن ذلك الميزان ذو كفتين فإنما قال ه قياساً على موازين الدنيا وقد أخطأ في قياسه إذ في موازين الدنيا ما لا كفة له كالقرطسون وأما نحن فإنما اتبعنا النصوص الواردة في ذلك فقط ولا نقول إلا بما جاء به قرآن أو سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ننكر إلا ما لم يأت فيهما ولا نكذب إلا بما فيهما إبطاله وبالله تعالى التوفيق.
وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه وهو كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن ورد عليه من أمته ولا ندري لمن أنكره متعلقاً ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره وبالله تعالى التوفيق.
وأما الصراط فقد ذكرناه في الباب الأول الذي قبل هذا وأنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضع الصراط بين ظهراني جهنم ويمر علهي الناس فمخدوج وناج ومكردس في نار جهنم وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم كمر الطرف فما دون ذلك إلى من يقع في النار وهو طريق أهل الجنة إليها من المحشر في الأرض إلى السماء وهو معنى قول الله تعالى " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " وأما كتاب الملائكة لأعمالنا فحق قال الله تعالى " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين " وقال تعالى " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " وقال تعالى " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك " و قال تعالى " إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
قال أبو محمد وكل هذا ما لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام إلا أنه لا يعلم أحد من الناس كيفية ذلك الكتاب.
عذاب القبر قال أبو محمد ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
قال أبو محمد: وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " وبقوله قال أبو محمد: وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك قبر أو لم يقبر برهان ذلك قول الله تعالى " وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ " الآية وهذا قبل القيامة بلا شك وأثر الموت وهذا هو عذاب القبر و قال " إنما توفون أجوركم يوم القيامة " و قال تعالى في آل فرعون " النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " فهذا العرض المذكور هو عذاب القبر وإنما قيل عذاب القبر فأضيف إلى القبر لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع والغريق تأكله دواب البحر والمحرق والمصلوب والمعلق فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان لهؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مساءلة ونعوذ بالله من هذا بل كل ميت فلا بد له من فتنة وسؤال وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة فيوفون حينئذ أجورهم وينقلبون إلى الجنة أو النار وأيضاً فإن جسد كل إنسان فلا بد من العود إلى التراب يوماً ما كما قال الله تعالى " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " فكل من ذكرنا من مصلوب أو معلق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة فإنه يعود رماداً أو رجيعاً ويتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس أثر خروجها من الجسد فهو قبر لها إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثة وأحياناً ثلاثاً وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء و " الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " و " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه " وكذلك قوله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها " إلى قوله " إلى أجل مسمى " فصح بنص القرآن أن روح من مات لا يرجع إلى جسده إلا إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسرى به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أهل الشقاء وأخير عليه السلام يوم بدر إذ خاطب القتلى وأخبر أنهم وجدوا ما توعدهم به حقاً قبل أن يكون لهم قبور فقال المسلمون يا رسول الله أتخاطب قوماً قد جيفوا فقال عليه السلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم فلم ينكر عليه السلام على المسلمين قولهم أنهم قد جيفوا وأعلمهم أنهم سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له.
قال أبو محمد: ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه عليه السالم لقلنا به فإذ لا يصح فلا يحل لأحد أن يقول وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوى تركه شعبة وغيره وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضاً عن الصحابة رضي الله عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد ابن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان بن عيينة عن منصور ابن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قال ت دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحاً قبل أن يصلب فقيل له هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق فمال إليها فعزاها و قال أن هذه الجثث ليست بشيء وأن الأرواح عند الله فقال ت أسماء وما يمنعني وقد أهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وحدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عون الله حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني ثنا أبو موسى محمد بن المثني الزمن ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي اسحق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود في قول الله عز وجل " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال ابن مسعود هي التي في البقرة " وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم ولا مخلاف من الصحابة رضي الله عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان قال أبو محمد: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى موسى عليه السالم قائماً في قبره يصلي ليلة الإسراء وأخبر أنه رآه في السماء السادسة أو السابعة وبلا شك إنما رأى روحه وأما جسده فموارى بالتراب بلا شك فعلى هذا أن موضع كل روح يسمى قبراً فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث كانت وبالله تعالى التوفيق.
مستقر الأرواح قال أبو محمد اختلف الناس في مستقر الأرواح وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فذهب قوم من الروافض إلى أن أرواح الكفار ببيرهونت وهو بئر بحضرموت وأن أرواح المؤمنين بموضع آخر أظنه الجابية وهذا قول فاسد لأنه لا دليل عليه أصلاً وما لا دليل عليه فهو ساقط ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكاناً آخر غير ما ادعاه هؤلاء وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول وبالله تعالى التوفيق.
وذهب عوام أصحاب الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها وهذا قول لا حجة له أصلاً تصححه الأخبر ضعيف لا يحتج بمثله لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث وما كان هكذا فهو ساقط أيضاً وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلاً ومن عجائب أصحاب هذه الم قال ة الفاسدة قولهم أن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفني وهكذا أبداً وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام وزاد بعضهم فقال إن صحت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا يتجزأ من الجسم فهو يعذب وهذا أيضاً حمق آخر ودعاوي في غاية الفساد وبلغني عن بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذب أو ينعم وتعلق بالحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب.
قال أبو محمد: وهذا الخبر صحيح إلا أنه لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن عجب الذنب يحيا ولا أنه يركب فيه حياة ولا أنه يعذب ولا ينتقم وهذا كله مفحم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما في الحديث أن عجب الذنب خاصة لا يأكله التراب فلا يحول تراباً وأنه منه ابتداء خلق المرء ومنه يبتدأ إنشاؤه ثانية فقط وهذا خارج أحسن خروج على ظاهره وأن عجب الذنب خاصة تتبدد أجزاؤه وهي عظام تحسها لا تحول تراباً وأن الله تعالى يبتدئ الإنشاء الثاني يجمعها ثم يركب تمام الخلق للإنسان عليه وأنه أول ما خلق من جسم الإنسان ثم ركب عليه سائره وإذ هذا ممكن لو لم يأت به نص فخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالتصديق من كل خبر لأنه عن الله عز وجل قال تعالى " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " و قال تعالى " مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا " و قال أبو بكر بن كيسان الأصم لا أدري ما الروح ولم يثبت شيء غير الجسد.
قال أبو محمد: وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هاتين الم قال تين في باب الكلام في الروح والنفس من كتابنا هذا بحول الله وقوته والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قال ه الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لا يتعداه فهو البرهان الواضحوهو أن الله تعالى قال " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " و قال تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا " فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
قال أبو محمد: وهي العاقلة الحساسة وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وماء ثم أقرها تعالى حيث شاء لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها عز وجل حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت لا تزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء كما قال تعالى " ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى " و قال عز وجل " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً " الآية وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح وهذا نص قولنا والحمد لله فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى بع عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه السلام وأرواح أهل السقاوة عن يساره عليه السلام وذلك عند منقطع العناصر وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه و قال على هذا أجمع أهل العلم.
قال أبو محمد: وهو قول جميع أهل الإسلام حتى خالف من ذكرنا وهذا هو قول الله عز وجل " فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " وقوله تعالى " وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ " ولا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور فتقوم الساعة ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد وهي الحياة الثانية ويحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين أبداً.
قال أبو محمد: قول بعض الأشعرية معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المأخوذ في قول الله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم " إن إذ هاهنا بمعنى إذا فقول في غاية السقوط لوجوه خمسة أولها أنه دعوى بلا دليل والثانية أن إذ بمعنى إذا لا يعرف في اللغة وثالثها أنه لو صح له تأويله هذا الفاسد وهو لا يصح لكان كلاماً لا يعقل ولا يفهم وإنما أورده عز وجل حجة علينا ولا يحتج الله عز وجل إلا بما يفهم لا بما لا يفهم لأن الله تعالى قد تطول علينا بإسقاط الأصر عنا ولا أصر أعظن من تكليفنا فهم ما ليس في بنيتنا فهمه ورابعها أنه لو كان كما ادعى لما كان على ظهر الأرض إلا مؤمن والعيان يبطل هذا لأننا نشاهد كثيراً من الناس لم يقولوا قط ربنا الله ممن نشأ على الكفر وولد عليه إلى أن مات وممن يقول بأن العالم لم يزل ولا محدث له من الأوائل والمتأخرين وخامسها أن الله عز وجل إنما أخبر بهذه الآية عما فعل ودلنا بذلك على أن الذكر يعود بعد فراق الروح للجسد كما كان قبل حلوله فيه لأنه تعالى أخبرنا أنه أقام علينا الحجة بذلك الإشهاد دليلاً كراهية أن نقول يوم القيامة أنا كنا نحن فيها عن هذا غافلين أي عن ذلك الإشهاد المذكور فصح أن ذلك الإشهاد قبل هذه الدار التي نحن فيها التي أخبرنا الله عز وجل فيها بذلك الخبر وقبل يوم القيامة أيضاً فبطل بذلك قول بعض الأشعرية وغيرها وصح أن قولنا هو نص الآية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وإنما أتى المخالفون منهم أنهم عقدوا على أقوال ثم راموا رد كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها وهذا هو الباطل الذي لا يحل ونحن ولله الحمد إنما أتينا إلى ما قال ه عز وجل وما صح عن رسول صلى الله عليه وسلم فقلنا به ولم نحكم في ذلك بطراً ولا هوى ولا رددناهما إلى قول أحد بل رددنا جميع الأقوال إلى نصوص القرآن والسنن والحمد لله رب العالمين كثيراً وهذا هو الحق الذي لا يحق تعديه.
قال أبو محمد: وأما أرواح الأنبياء عليهم السلام فهم الذين ذكر الله تعالى أنهم المقربون في جنات النعيم وأنهم غير أصحاب اليمين وكذلك أخبر عليهم السلام أنه رآهم في السموات ليلة أسرى به في سماء سماء وكذلك الشهداء أيضاً هم في الجنة لقول الله عز وجل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون " وهذا الرزق للأرواح بلا شك ولا يكون إلا في الجنة وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي روي نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش وروينا هذا الحديث مبيناً من طريق ابن مسعود رضي الله عنه وأنهم الشهداء وبهذا تتألف الأحاديث والآيات والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل كيف تخرج الأنبياء عليهم السلام والشهداء من الجنة إلى حضور الموقف يوم القيامة قيل له وبالله التوفيق لسنا ننكر شهادة القرآن والحديث الصحيح بدخول الجنة والخروج عنها قبل يوم القيامة فقد خلق الله عز وجل فيها آدم عليه السلام وحواء ثم أخرجهما منها إلى الدنيا والملائكة في الجنة ويخرجون منها برسالات رب العالمين إلى الرسل والأنبياء إلى الدنيا وكل ما جاء به نص قرآن أو سنة فلا ينكره إلا جاهل أو مغفل أو رديء الدين وأما الذي ينكر ولا يجوز أن يكون البتة فخروج روح من دخل الجنة إلى النار فالمنع من هذا إجماع من جميع الأمة متيقن مقطوع به وكذلك من دخلها يوم القيامة جزاء أو تفضلاً من الله عز وجل فلا سبيل إلى خروجه منها أبداً بالنص وبالله تعالى التوفيق.
الكلام على من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ
قال أبو محمد: اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم فقال ت الأزارقة من الخوارج أما أطفال المشركين ففي النار وذهبت طائفة إلى أنهم يوقد لهم يوم القيامة نار ويؤمرون باقتحامها فمن دخلها منهم دخل الجنة ومن لم يدخلها منهم أدخل النار وذهب آخرون إلى الوقوف فيهم وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول.
قال أبو محمد: فأما الأزارقة فاحتجوا بقول الله تعالى حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً أنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " ويقول روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قلت يا رسول الله أين أطفالي منك قال في الجنة قال ت فأطفال من غيرك قال في النار فأعادت عليه فقال لها إن شئت أسمعتك تضاغيهم وبحديث آخر فيه الوائدة والموءودة في النار و قالوا إن كانوا عندكم في الجنة فهم مؤمنون لأنه لا يدخل الجنة الأنفس مسلمة فإن كانوا مؤمنين فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين وأن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين أبيه فتكون ردة وخروجاً عن الإسلام والكفر وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من أقاربه من المسلمين.
قال أبو محمد: هذا كلما احتجوا به ما يعلم لهم حجة غير هذا أصلاً وكله لا حجة لهم فيه البتة أما قول نوح عليه السلام فلم يقل ذلك على كل كافر بل قال ذلك على كفار قومه خاصة لأن الله تعالى قال له " أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن " فأيقن نوح عليه السلام بهذا الوحي أنه لا يحدث فيهم مؤمن أبداً وإن كل من ولدوه إن ولدوه لم يكن إلا كافراً ولا بد وهذا هو نص الآية لأنه تعالى حكي أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " وإنما أراد كفار وقته الذين كانوا على الأرض حينئذ فقط ولو كان للأزارقة أدنى علم وفقه لعلموا أن هذا من كلام نوح عليه السلام ليس على كل كافر لكن على قوم نوح خاصة لأن إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم كانا أبواهما كافرين مشركين وقد ولدا خير الأنس والجن من المؤمنين وأكمل الناس إيماناً ولكن الأزارقة كانوا أعراباً جهالاً كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الأسود بن سريع التميمي أنه عليه السلام قال أوليس خياركم أولاد المشركين.
قال أبو محمد: وهل كان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم الذين يتولاهم الأزارقة كابن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وخديجة أم المؤمنين وغيرهم رضي الله عنهم إلا أولاد الكفار فهل ولد آباؤهم كفاراً وهل ولدوا إلا أهل الإيمان الصريح ثم آباء الأزارقة أنفسهم كوالدنا نافع ابن الأزرق وغيرهم من شيوخهم هل كانوا إلا أولاد المشركين ولكن من يضلل الله فلا هادي له وأما حديث خديجة رضي الله عنها فساقط مطرح لم يروه قط من فيه خير وأما حديث الوائدة فإنه جاء كما نذكره حدثنا يوسف بن عبد البر أنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التميمي قال سمعت داود بن أبي هند يحدث عن عامر الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له أن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتصل الرحم فهل ينفعها من عملها ذلك شيء قال لا قلنا فإن أمنا وأدت أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الموءودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم.
قال أبو محمد: وهذه اللفظة يعني لم تبلغ الحنث ليست بلا شك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه فلما أخبر عليه السلام بأن تلك الموءودة في النار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما أنها لم تبلغ الحنث وتصحيحها لأنها قد كانت بلغت الحنث بخلاف ظنها لا يجوز إلا هذا القول لأن كلامه عليه السلام لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه عز وجل بل كلامه عليه السلام يصدق بعضه بعضاً ويوافق لما أخبر به عز وجل ومعاذ الله من غير ذلك وقد صح أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن أطفال المشركين في الجنة قال الله تعالى " وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ " فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة فكان هذا مبين لأن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن تلك الموءودة في النار أخبار عن أنها قد كانت بغت الحنث بخلاف ظن أخويها وقد روي هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن عدي وليس هو دون المعتمر ولم يذكر فيه لم تبلغ الحنث ورواه أيضاً داود بن أبي هند عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر فأما حديث عبيدة فحدثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال أنا وهب بن ميسرة قال حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيدة ابن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا كانت تقرى الضيف وتصل الرحم في الجاهلية فهل ينفعها ذلك شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لنا في الجاهلية فهل ينفع ذلك أختنا شيئاً قال لا الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الإسلام فيعفوا الله عنها وأما حديث ابن أبي عدي فحدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري حدثنا أبو بدر عبد بن أحمد الهروي الأنصاري حدثنا أبو محمد سعيد الخليل بن أحمد السجستاني حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود ابن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال انطلقت أنا وأخي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله إن مليكة كانت تصل الرحم وتقرى الضيف وتفعل هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لها في الجاهلية فهل قال أبو محمد: هكذا رويناه لها بالهاء على أنها أخت الوائدة.
قال أبو محمد: وهذا حديث قد رويناه مختصراً كما حدثاه عبد الله ابن ربيع التميمي حدثنا عمر ابن عبد الملك الخولاني حدثنا محمد ابن بكر الوراق البصري حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثني أبي عن عامر الشعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوائدة والموءودة في النار قال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال أبي فحدثني أبو إسحاق بن عامر حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: وهذا مختصر وهو على ما ذكرنا أنه عليه السلام إنما عنى بذلك التي بلغت لا يجوز غير هذا لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من آبائهم فإنما قال ه عليه السلام في الحكم لا في الدين ولله تعالى أن يفرق بين أحكام عباده ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وأيضاً فلا متعلق لهم بهذا اللفظ أصلاً لأنه إنما فيه أنهم من آبائهم وهذا لا شك فيه أنهم توالدوا من آبائهم ولم يقل عليه السلام أنهم على دين آبائهم وأما قولهم ينبغي أن تصلوا على أطفال المشركين وتورثوهم وترثوهم وأن لا تتركونهم يلتزموا دين آبائهم إذا بلغوا فإنها ردة فليس لهم أن يعترضوا على الله تعالى فليس تركنا الصلاة عليهم يوجب أنهم ليسوا مؤمنين فهؤلاء الشهداء وهم أفاضل المؤمنين لا يصلى عليهم وأما انقطاع المواريث بيننا وبينهم فلا حجة في ذلك على أنهم ليسوا مؤمنين فإن العبد مؤمن فاضل لا يرث ولا يورث وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر إذا مات وكثير من الفقهاء يورثون الكافر مال العبد من عبيده يسلم ثم يموت قبل أن يباع عليه وكثير من الفقهاء يورثون المسلمين مال المرتد إذ مات كافراً مرتداً وقتل على الردة وهذا معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومسروق بن الأجدع وغيرهم من الأئمة رضي الله عنهم يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا ولله تعالى أن يفرق بين أحكام من شاء من عباده وإنما نقف حيث أوقفنا النص ولا مزيد وكذلك دفنهم في مقابر آبائهم أيضاً وكذلك تركهم يخرجون إلى أديان آبائهم إذا بلغوا فإن الله تعالى أوجب علينا أن نتركهم وذلك ولا نعترض على أحكام الله عز وجل ولا يسأل عما يفعل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود على الملة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه.
قال أبو محمد فبطل أن يكون لهم في شيء مما ذكرنا متعلق وإنما هو تشغيب موهوا به لأن كا ما ذكرنا فإنما هي أحكام مجردة فقط وليس في شيء من هذه الاستدلالات نص على أن أطفال المشركين كفار ولا على أنهم غير كفار وهذه النكتتان هما اللتان قصدنا بالكلام فقط وبالله تعالى التوفيق وأما من قال فيهم بالوقف فإنهم احتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الأطفال يموتون فقال عليه السلام الله أعلم بما كانوا عاملين وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ مات صبي من أبناء الأنصار فقال ت عصفور من عصافير الجنة فقال لها عليه السلام وما يدريك يا عائشة أن الله خلق خلقاً للنار وهم في أصلاب آبائهم.
قال أبو محمد وهذان الخبران لا حجة لهم في شيء منهما إلا أنهما إنما قال هما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة وقد قال تعالى آمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخير وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه وما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي وكان هذا قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدر أو هو عليه السلام لا يقول إلا ما جاء به الوحي كما أمر الله عز وجل أن يقول " أن اتبع إلا ما يوحى إلي " فحكم كل شيء من الدين لم يأت به الوحي أن يتوقف فيه المرء فإذا جاء للبيان فلا يحل التوقف عن القول بما جاء به النص وقد صح الإجماع على أن ما علمت الأطفال قبل بلوغهم من قتل أو وطئ أجنبية أو شرب خمر أو قذف أو تعطيل صلاة أو صوم فإنهم غير مؤاخذين في الآخرة بشيء من ذلك ما لم يبلغوا وكذلك لا خلاف في أنه لا يؤاخذ الله عز وجل أحداً بما لم يفعله بل قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فمن المحال المنفي أن يكون الله عز وجل يؤاخذ الأطفال بما لم يعملوا مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بما عملوا ولا يختلف اثنان في أن إنساناً بالغاً مات مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بالزنا الذي لم يعمله وقد أكذب الله عز وجل من ظن هذا بقوله الصادق " الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " وبقوله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فصح أنه لا يجزي أحد بما لم يعمل ولا مما لم يسن فصح أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أعلم بما كانوا عاملين به مما لم يعملوه بعد وفي هذا اختلفنا لا فيما عداه وإنما فيه أن الله تعالى يعلم ما لم يكن وما لا يكون لو كان كيف كان يكون فقط ونعم هذا حق لا يشك فيه مسلم فبطل أن يكون لأهل التوقف حجة في شيء من هذين الخبرين إذ لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بيان وأما من قال أنهم يعذبون بعذاب آبائهم فباطل لأن الله تعالى يقول " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " وأما من قال أنهم توقد لهم نار فباطل لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجانين وفيمن لا يبلغه ذكر الإسلام من البالغين على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد فلما بطلت هذه الأقاويل كلها وجب النظر فيما صح من النصوص من حكم هذه المسألة ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " و قال عز وجل " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " إلى قوله " لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " إلى قوله " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " فنص عز وجل على أن فطر الناس على الإيمان وأن الإيمان هو صبغة الله تعالى و قال عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " فصح يقيناً أن كل نفس خلقها الله تعالى من بني آدم ومن الجن والملائكة فمؤمنون كلهم عقلاً مميزون فإذ ذلك كذلك فقد استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم حاشا من بدل هذا العهد وهذه الفطرة وهذه الصبغة وخرج عنها إلى غيرها ومات على التبديل وبيقين ندري أن الأطفال لم يغيروا شيئاً من ذلك فهم من أهل الجنة وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وروي عنه عليه السلام أنه قال على الملة فأباه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاً وهل يجدون فهيا من جدعاء حتى تكونوا أنتم الذي تجدعونها وهذا تفسير الآيات المذكورات حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق السكن حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث حدثنا الحسن بن علي حدثنا الحجاج بن المنهال قال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث أخذ الله العهد عليهم في أصلاب آبائهم حيث قال " ألست بربكم قالوا بلى " وقد صح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عياض بن حمار المجاشعي قال عن الله تعالى أنه قال خلقت عبادي حفناء كلهم فاجتالهم الشياطين عن دينهم فصح يقيناً أنه كل من مات قبل أن تجتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفاً وهذا حديث تدخل فيه الملائكة والجن والإنس عباد له عز وجل مخلوقين وأيضاً فإن الله عز وجل أخبر بقول إبليس له تعالى أن يغوي الناس فقال تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " فصح يقيناً أن الغواية داخلة على الإيمان وأن الأصل من كل واحد فهو الإيمان وكل مؤمن ففي الجنة وأيضاً فإن الله تعالى قال " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وليست هذه صفة الصبيان فصح أنهم لا يدخلون النار ولا دار إلا الجنة أو النار فإذا لم يدخلوا النار فهم بلا شك في الجنة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا الكبيرة التي رآها أنه رأى إبراهيم عليه السلام في روضة خضراً مفتخر وفيها من كل نور ونعيم وحواليه من أحسن صبيان وأكثرهم فسأل عليه السلام عنهم فأخبر أنهم من مات من أولاد الناس قبل أن يبلغوا فقيل له يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين فارتفع الإشكال وصح بالثابت من السنن وصحيحها أن جميع من لم يبلغ من أطفال المسلمين والمشركين ففي الجنة ولا يحل لأحد تعدى ما صح بالقرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إذا قلتم أن النار دار جزاء فالجنة كذلك ولا جزاء للصبيان قلنا وبالله تعالى التوفيق إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة قد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط وأن الجنة دار جزاء وتفضل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم ولمن لا عمل له دار تفضل من الله تعالى مجرد وقد قال قوم أن الصبان هم خدم أهل الجنة وقد ذكر الله تعالى الوالدان المخلدين في غير موضع من كتابه وأنهم خدم أهل الجنة فلعلهم هؤلاء والله أعلم.
قال أبو محمد: وأما المجانين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم كما ذكرنا يولدون على الملة حفناء مؤمنين ولم يغيروا ولا بدلوا فماتوا مؤمنين فهم في الجنة حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي بالثغري قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن المفرج القاضي حدثنا محمد بن أيوب السموط البرقي أنبأنا محمد بن عمر بن عبد الخالق البزاز حدثنا محمد بن المثني أبو موسى الزمن حدثنا معاذ بن هشام الدستواني حدثنا أبي عن قتادة عن الأسود بن سريع التميمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعرض على الله الأصم الذي لا يسمع شيئاً والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً ويقول الأحمق جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ويقول الذي مات في الفترة ما أتانا لك من رسول قال البزاز وذهب عني ما قال الرابع قال فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله إليهم ادخلوا النار فوا الذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلام.
الكلام في القيامة وتغيير الأجساد
اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيمة وعلى تكثير من أنكر ذلك ومعنى هذا القول أن لمكث الناس وتناسلهم في دار الابتلا التي هي الدنيا أمداً يعلمه الله تعالى فإذا انتهى ذلك الأمد مات كل من في الأرض ثم يحيى الله عز وجل كل من مات مذ خلق الله عز وجل الحيوان إلى انقضاء الأمد المذكور ورد أرواحهم التي كانت بأعيانها وجمعهم في موقف واحد وحاسبهم عن جميع أعمالهم ووفاهم جزاؤهم ففريق من الجن والإنس في الجنة وفريق في السعير وبهذا جاء القرآن والسنن قال تعالى " من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " و قال تعالى " وإن الله يبعث من في القبور " و قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " إلى آخر الآية و قال تعالى " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " و قال تعالى فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبث مائة عام " إلى قوله " وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً " الآية و قال تعالى عن المسيح عليه السلام " وأحيي الموتى بإذن الله " ولا يمكن البتة أن يكون الإحيا المذكور في جميع هذه الآيات إلا رد الروح إلى الجسد ورجوع الحس والحركة الإرادية التي بعد عدمها منه لم يكن غير هذا البتة إلا أن أبا العاص حكم بن المنذر بن سعيد القاضي أخبرني عن إسماعيل بن عبد الله الرعيني أنه كان ينكر بعث الأجساد ويقول أن النفس حال فراقها الجسد تصير إلى معادها في الجنة أو النار ووقفت على هذا القول بعض العارفين بإسماعيل فذكر لي ثقاة منهم أنهم سمعوه يقول أن الله تعالى يأخذ من الأجساد جزء الحياة منها.
قال أبو محمد: وهذا تلبيس من القول لم يخرج به عن ما حكي لي عنه حكم بن المنذر لأنه ليس في الأجساد جزء الحياة إلا النفس وحدها.
قال أبو محمد: ولم ألق إسماعيل الرعيني قط على أني قد أدركته وكان ساكناً معي في مدينة من مداين الأندلس تسمى نجاية مدة ولكنه كان مختفياً وكان له اجتهاد عظيم ونسك وعبادة وصلاة وصيام والله أعلم وحكم بن المنذر ثقة في قوله بعيد من الكذب وتبرأ منه حكم بن المنذر وكان قبل ذلك يجمعهما مذهب بن مسرة في القدر وتبرأ منه أيضاً إبراهيم بن سهل الأريواني وكان من روس المرية وتبرأ منه أيضاً صهره أحمد الطبيب وجماعة من المرية وتولته جماعة منهم وبلغني عنه أنه كان يحتج لقوله هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقف على ميت فقال أما هذا فقد قامت قيامته وبأنه عليه السلام كانت الأعراب تسأله عن الساعة فينظر إلى أصغرهم فيخبرهم أنه استوفى عن يمت حتى تقوم قيامتهم أو ساعتهم.
قال أبو محمد: وإنما عني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا قيام الموت فقط بعد ذلك إلى يوم البعث كما قال عز وجل " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " فنص تعالى على أن البعث يوم القيامة بعد الموت بلفظة ثم التي هي للمهلة وهكذا أخبر عز وجل عن قولهم يوم القيامة " قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ " وأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة وأنه يحيي العظام ويبعث من في القبور في مواضع كثيرة من القرآن وبرهان ضروري وهو أن الجنة والنار موضعان ومكانان وكل موضع ومكان ومساحة متناهية بحدوده بالبرهان الذي قدمنا على وجوب تناهي الإجسام وتناهى كل ما له عدد وبقول الله تعالى " جنة عرضها السماوات والأرض " فلو لم يكن لتولد الخلق نهاية لكانوا أبداً يحدثون بلا آخر وقد علمنا أن مصيرهم الجنة أو النار ومحال ممتنع غير ممكن أن يسع ما لا نهاية له فيما له نهاية من الأماكن فوجب ضرورة أن للخلق نهاية فإذ ذلك واجب فقد وجب تناهى عالم الذر والتناسل ضرورة وإنما كلامنا هذا مع من يؤمن بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وادعى الإسلام وأما من أنكر الإسلام فكلامنا معه على ما رتبناه في ديواننا هذا من النقض على أهل الإلحاد حتى تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فنرجع إليه بعد التنازع وبالله تعالى التوفيق وقد نص الله تعالى على أن العظام يعيدها ويحييها كما كانت أول مرة وأما اللحم فإنما هو كسوة كما قال " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " إلى قوله " فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " فأخبر عز جل أن عنصر الإنسان إنما هو العظام الذي انتقلت عن السلالة التي من طين إلى النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام وأن اللحم كسوة العظام وهذا أمر مشاهد لأن اللحم يذهب بالمرض حتى لا يبقى منه ما لا قدر له ثم يكثر عليه لحم آخر إذا خصب الجسم وكذلك أخبرنا عز وجل أنه يبدل الخلق في الآخرة فقال " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب " وفي الآثار الثابتة أن جلود الكفار تغلظ حتى تكون نيفاً وسبعين ذراعاً وأن ضرسه في النار كأحد وكذلك نجد اللحم الذي في جسد الإنسان يتغذى به حيوان آخر فيستحيل لحماً لذلك الحيوان إذ ينقلب دوداً فصح بنص القرآن العظام هي التي تحيى يوم القيامة ومن أنكر ما جاء به القرآن فلا حظ له في الإسلام
ذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أن الجنة والنار لم يخلقا بعد وذهب جمهور المسلمين إلى أنهما قد خلقتا وما نعلم لمن قال أنهما لم يخلقا بعد حجة أصلاً أكثر من أن بعضهم قال قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وذكر أشياء من أعمال البر من عملها غرس له في الجنة كذا وكذا شجرة وبقول الله تعالى حاكياً عن امرأة فرعون أنها قال ت " رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة " قالوا ولو كانت مخلوقة لم يكن في الدعاء في استئناف البناء والغرس معنى.
قال أبو محمد: وإنما قلنا أنهما مخلوقتان على الجملة كما أن الأرض مخلوقة ثم يحدث الله تعالى فيها ما يشاء من البنيان.
قال أبو محمد: والبرهان على أنهما مخلوقتان بعد أخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة ليلة الإسراء وأخبر عليه السلام أنه رأى سدرة المنتهى في السماء السادسة و قال تعالى " عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى " فصح أن جنة المأوى هي السماء السادسة وقد أخبر الله عز وجل أنها الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة فقال تعالى " لهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون " فليس لأحد بعد هذا أن يقول أنها جنة غير جنة الخلد وأخبر عليه السالم أنه رأي الأنبياء عليهم السلام في السماوات سماء سماء ولا شك في أن أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الجنة فصح أن الجنات هي السماوات وكذلك أخبر عليه السلام أن الفردوس الأعلى من الجنة التي أمرنا الله تعالى أن نسأله إياها فوقها عرش الرحمن والعرش مخلوق بعد الجنة فالجنة مخلوقة وكذلك أخبر عليه السلام أن النار اشتكت إلى رباه فأذن لها بنفسين وأن ذلك أشد ما نجده من الحر والبرد وكان القاضي منذر بن سعيد يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول أنها ليست التي كان في آدم عليه السلام وامرأته واحتج في ذلك بأشياء منها أنه لو كانت جنة الخلد لما أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين واحتج أيضاً بأن جنة الخلد لا كذب فيها وقد كذب فيها إبليس و قال من دخل الجنة لم يخرج منها وآدم وامرأته عليهما السلام قد خرجا منها.
قال أبو محمد: كل هذا لا دليل له فيه أما قوله أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين فقد علمنا أن أكله من الشجرة لم يكن ظنه في صواباً ولا أكله لها صواباً وإنما كان ظناً ولا حجة فيما كان هذه صفته والله عز وجل لم يخبره بأنه مخلد في الجنة بل قد كان في علم الله تعالى أنه سيخرجه منها فأكل عليه السلام من الشجرة رجاء الخلد الذي لم يضمن له ولا تيقن به لنفسه وأما قوله أن الجنة لا كذب فيها وأن من دخلها لم يخرج منها وقد كذب فيها إبليس وقد خرج منها آدم وامرأته فهذا لا حجة له فيه وإنما تكون كذلك إذا كانت جزاء لأهلها كما أخبر عز وجل عنها حيث يقول " لا تسمع فيها لاغية " فإنما هذا على المستأنف لا على ما سلف ولا نص معه على ما ادعى ولا إجماع واحتج أيضاً بقول الله عز وجل لآدم عليه السلام " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " قال وقد عرى فيها آدم عليه السلام.
قال أبو محمد: وهذا لا يحجة فيه بل هو حجة عليه لأن الله عز وجل وصف الجنة التي أسكن فيها آدم بأنها لا يجاع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى وهذه صفة الجنة بلا شك وليس في شيء مما دون السماء مكان هذه صفته بلا شك بل كل موضع دون السماء فإنه لا بد أن يجاع فيه ويعرى ويظمأ ويضحى ولا بد من ذلك ضرورة فصح أنه إنما سكن المكان الذي هذه صفته وليس هذا غير الجنة البتة وإنما عرى آدم حين أكل من الشجرة فأهبط عقوبة له و قال أيضاً قال الله عز وجل " لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً " وأخبر آدم أنه لا يضحى.
قال أبو محمد: وهذا أعظم حجة عليه لأنه لو كان في المكان الذي هو فيه شمس لأضحى فيه ولا بد فصح أن الجنة التي أسكن فيها آدم كانت لا شمس فيها فهي جنة الخلد بلا شك وأيضاً فإن قوله عز وجل " اسكن أنت وزوجك الجنة " إشارة إلى بالألف واللام ولا يكون ذلك إلى على معهود ولا تنطلق الجنة هكذا إلا على جنة الخلد ولا ينطلق هذا الاسم على غيرها إلا بالإضافة وأيضاً فلو أسكن آدم عليه السلام جنة في الأرض لم كان في إخراجه منها إلى غيرها من الأرض عقوبة بل قد بين تعالى أنها ليست في الأرض بقوله تعالى " وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " فصح يقيناً بالنص أنه قد أهبط من الجنة إلى الأرض فصح أنها لم تكن في الأرض البتة وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في بقاء أهل الجنة والنار أبداً
قال أبو محمد: اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها ولا للنار ولا لعذابها الأجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوماً من الروافض فأما جهم فقال أن الجنة وانلار يفنيان ويفنى أهلهما و قال أبو الهذيل أن الجنة والنار لا يفنيان ولا يفنى أهلهما إلا أن حركاتهم تفنى ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون و قال ت تلك الطائفة من الروافض أن أهل الجنة يخرجون من الجنة وكذلك أهل النار إلى حيث شاء الله.
قال أبو محمد: أما هذه الم قال ة ففي غاية الغثاثة والتعري من شيء يشغب به فكيف من إقناع أو برهان وما كان هكذا فهو ساقط وأما قول أبي الهذيل فإنه لا حجة له إلا أنه قال كلما قال أبو محمد: فظن أبو الهذيل لجهله بحدود الكلام وطبايع الموجودات أن ما لم يخرج إلى الفعل فإنه يقع عليه العدد وهذا خطأ فاحش لأن ما لم يخرج إلى الفعل فليس شيئاً ولا يجوز أن يقع العدد إلا على شيء وإنما يقع العدد على ما خرج إلى الفعل من حركات أهل النار والجنة متى ما خرج فهو محدود متناه وهكذا أبداً وقد أحكمنا هذا المعنى في أول هذا الكتاب في باب إيجاب حدوث العالم وتناهي الموجودات فأغنى عن إعادته وبالله تعالى التوفيق فبطل ما موه به أبو الهذيل ولله الحمد ثم نقول أن قوله هذا خلاف للإجماع المتيقن وأيضاً فإن الذي فر منه في الحركات فإنه لازم له في مدد سكونهم وتنعمهم وتألمهم لأنه مقر بأنهم يبقون ساكنين متنعمين متألمين بالعذاب وبالضرورة ندري أن للسكون والنعيم والعذاب مدداً يعد كل ذلك كما تعد الحركة ومددها ولا فرق أيضاً فلو كان ما قال ه أبو الهذيل صحيحاً لكان أهل الجنة في عذاب واصب وفي صفة المخدور والمفلوج ومن أخذه الكابوس ومن سقى البنج وهذا غاية النكد والشقاء ونعوذ بالله من هذا الحال وأما جهم بن صفوان فإنه احتج بقول الله تعالى " وأحصى كل شيء عدداً " وبقوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " و قال كما لا يجوز أن يوجد شيء لم يزل غير الله تعالى فكذلك لا يجوز أن يوجد شيء لا يزال غير الله تعالى.
قال أبو محمد: ما نعلم له حجة غير هذا أصلاً وكل هذا لا حجة له فيه أما قوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " فإنما عنى تعالى الاستحالة من شيء إلى شيء ومن حال إلى حال وهذا عام لجميع المخلوقات دون الله تعالى وكذلك مدد النعيم في الجنة والعذاب في النار كلما فنيت مدة أحدث الله عز وجل أخرى وهكذا أبداً بلا نهاية ولا آخر يدل على هذا ما نذكره بعد أن شاء الله تعالى من الدلائل على خلود الجنة والنار وأهلها وأما قوله تعالى " وأحصى كل شيء عدداً " فإن اسم الشيء لا يقع إلا على موجود والإحصاء لا يقع على ما ذكرنا إلا على ما خرج إلى الفعل ووجد بعد وإذا لم يخرج من الفعل فهو لا شيء بعد ولا يجوز أن يعد لا شيء وكل ما خرج إلى الفعل من مدة بقاء الجنة والنار وأهلهما فمحصي بلا شك ثم يحدث الله تعالى لهم مدداً آخر وهكذا أبداً بلا نهاية ولا آخر و قالوا هل أحاط الله تعالى علماً بجميع مدة الجنة والنار أم لا فإن قلتم لا جهلتم الله وإن قلتم نعم جعلتم مدتها محاطاً بها وهذا هو التناهي نفسه.
قال أبو محمد: إن الله تعالى إنما يعلم بالأشياء على ما هي عليه لأن من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فهو جاهل به مخطئ في اعتقاده ظان للباطل وليس علماً ولا حقاً ولا هو عالم به وهذا ما لا شك فيه وعلم الله عز وجل هو الحق اليقين على ما هي معلوماته عليه فكل ما كان ذا نهاية فهو في علم الله تعالى ذو نهاية ولا سبيل إلى غير هذا البتة وليس للجنة والنار مدد غير متناهية محاط بها وإنما لهما مدد كل ما خرج منها إلى الفعل فهو محصي محاط بعدده وما لم يخرج إلى الفعل فليس بمحصي لكن علم الله تعالى أحاط أنه لا نهاية لهما وأما قوله كما لا يجوز أن يوجد شيء غير الله تعالى لا نهاية له لم يزل فإن هذه قضية فاسدة وقياس فاسد لا يصح والفرق محال في الوجود كما ذكرنا في الرد على من قال بأن العالم لم يزل فأغنى عن إعادته وليس كذلك قولنا لا يزال لأن إحداث الله تعالى شيئاً بعد شيء أبداً بلا غاية متوهم ممكن لا حوالة فيه فقياس الممكن المتوهم على الممتنع المستحيل الذي لا يتوهم باطل عند القائلين بالقياس فكيف عند من لا يقول به فإن قال قائل أن كل ما ماله أول فله آخر قلنا له هذه قضية فاسدة ودعوى مجزدة وما وجب هذا قط لا بقضية عقل ولا بخبر لأن كون الموجودات لها أوائل معلوم بالضرورة لأن ما وجد بعد فقد حصره عدد زمان وجوده وكل ما حصره عدد فلذلك العدد أول ضرورة وهو قولنا واحد ثم يتمادى العدد أبداً فيمكن الزيادة بلا نهاية وتمادي الموجود بخلاف المبدأ لأنه إذا أبقى وقتاً جاز أن يبقى وقتين وهكذا أبداً بلا نهاية وكل ما خرج من مدد البقاء إلى حد الفعل فذو نهاية با شك كذلك من العدد أيضاً ولم نقل أن بقاء الناس في هذه الدنيا له نهاية إلا من النص ولو أخبر الله تعالى بذلك لأمكن وجاز أن تبقى الدنيا أبداً بلا نهاية ولكان الله تعالى قادراً على ذلك ولكن النص لا يحل خلافه وكذلك لولا قال أبو محمد: والبرهان على بقاء الجنة والنار بلا نهاية قول الله تعالى " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " وقوله تعالى في غير موضع من القرآن " خالدين فيها أبدًا " وقوله تعالى " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " مع صحة الإجماع بذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص لو أقام أهل النار في النار ما شاء الله أن يبقوا لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيها منها.
قال أبو محمد: وهذا إنما هو في أهل الإسلام الداخلين في النار بكبائرهم ثم يخرجون منها بالشفاعة ويبقى ذلك المكان خالياً ولا يحل لأحد أن يظن في الصالحين الفاضلين خلاف القرآن وحاشا لهما من ذلك وبالله تعالى التوفيق تم كتاب الإيمان والوعيد وتوابعه بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلى الله عدة للقائه الكلام في الإمامة والمفاضلة
قال الفقيه الإمام الأوحد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قال وا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة.
قال أبو محمد: وقول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه والقرآن والسنة قد ورد بإيجاب الإمام من ذلك قول الله تعالى " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة وأيضاً فإن الله عز وجل يقول " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في بنيتهم واحتمالهم وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم إنسان ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم إما لأنها ترد في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافاً مجرداً عليهم وهذا الذي لا بد منه ضرورة وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم حق ولا حد حتى قد ذهب الدين في أكثرها فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو إلى أكثر من واحد فإذ لا بد من أحد هذين الوجهين فإن الاثنين فصاعداً بينهما أو بينهم ما ذكرنا فلا يتم أمر البتة فلم يبق وجه تتم به الأمور إلا الإسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوي على الإنفاذ إلا أنه وإن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا من الظلم ما أمكنهم إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك وإلا فكف ما قدروا على كفه منه ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك ثم اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ولا يجوز إلا إمام واحد إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين في وقت وأكثر في وقت واحد واحتج هؤلاء بقول الأنصار أو من قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير واحتجوا أيضاً بأمر علي والحسن مع معاوية رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضي الله عنهم ما ذكرنا لم يكن صواباً بل كان خطأ إذا أداهم إليه الاجتهاد وخالفهم فيه المهاجرون ولا بد إذا اختلف القائلان على قولين متنافين من أن يكون أحدهما حقاً والآخر خطأ وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز وجل الرد إليه عند التنازع إذ يقول تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما و قال تعالى " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " و قال تعالى " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " فحرم الله عز وجل التفرق والتنازع وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا وأما من طريق النظر والمصلحة فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة وأكثر فإن منع من ذلك مانع كان متحكماً بلا برهان ومدعياً بلا دليل وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في كل عالم إمام أو في كل مدينة إمام أو في كل قرية إمام أو يكون كل أحد إماماً وخليفة في منزله وهذا هو الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا فصح أن قول الأنصار رضي الله عنهم وهلة وخطأ رجعوا عنه إلى الحق وعصمهم الله تعالى من التمادي عليه وأما أمر علي والحسن ومعاوية فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنذر بخارحة تخرج من طائفتين من أمة يقتلها أولي الطائفتين بالحق فكان قاتل تلك الطائفة علي رضي الله عنه فهو صاحب الحق بلا شك وكذلك أنذر عليه السلام بأن عماراً تقتله الفئة الباغية فصح أن علياً هو صاحب الحق وكان علي السابق إلى الإمامة فصح بعد أنه صاحبها وأن من نازعه فيها فمخطئ فمعاوية رحمه الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد ولا حجة في خطأ المخطئ فبطل قول هذه الطائفة وأيضاً فإن قول الأنصار رضي الله عنهم منا أمير يخرج على أنهم إنما أرادوا أن يلي وال منهم فإذا مات ولي من المهاجرين آخر وهكذا أبداً لا على أن يكون إمامان في وقت وهذا هو الأظهر من كلامهم وأما علي ومعاوية رضي الله عنهما فما سلم قط أحدهما للآخر بل كل واحد منهما يزعم أنه المحق وكذلك كان الحسن رضي الله عنه إلى أن أسلم الأمر إلى معاوية فإذ هذا كذلك فقد صح الإجماع على بطلان قول ابن كرام وأبي الصباح وبطل أن يكون لهم تعلق في شيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على قريش فذهب أهل السنة وجميع الشيعة وبعض المعتزلة وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش خاصة من كان من ولد فهر بن مالك وأنها لا تجوز فيمن كان أبوه من غير بني فهر بن مالك وإن كانت أمه من قريش ولا في حليف ولا في مولى وذهبت الخوارج كلها وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جايزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشياً كان أو عربياً أو ابن عبد و قال ضرار بن عمرو الغطفاني إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة فالواجب أن يقدم الحبشي لأنه قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك خاصة نقول بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الأئمة من قريش وعلى أن الإمامة في قريش وهذه رواية جاءت مجيء التواتر ورواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومعاوية وروي جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها ومما يدل على صحة ذلك إذعان الأنصار رضي الله عنهم يوم السقيفة وهم أهل الدار والمنعة والعدة والعدد والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحق لغيرهم في ذلك فإن قال قائل أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش يدخل في ذلك الحليف والمولى وابن الأخت لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مولي القوم منهم ومن أنفسهم وابن أخت القوم منهم فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الإجماع قد تيقن وصح على أن حكم الحليف والمولى وابن الأخت كحكم من ليس له حليف ولا مولى ولا ابن أخت فمن أجاز الإمامة في غير هؤلاء جوزها في هؤلاء ومن منعها من غير قريش منعها من الحليف والمولى وابن الأخت فإذا صح البرهان بأن لا يكون إلا في قريش لا فيمن ليس قرشياً صح بالإجماع أن حليف قريش ومولاهم وابن أختهم كحكم من ليس قرشياً وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: و قال قوم أن اسم الإمامة قد يقع على الفقيه العالم وعلى متولي الصلاة بأهل مسجد ما قلنا نعم لا يقع على هؤلاء إلا بالإضافة لا بالإطلاق في قال فلان إمام في الدين وإمام بني فلان فلا يطلق لأحدهم اسم الإمامة بلا خلاف من أحد من الأمة إلا على المتولي لأمور أهل الإسلام فإن قال قائل بأن اسم الإمارة واقع بلا خلاف على من ولي جهة من جهات المسلمين وقد سمي بالأمارة كل من ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جهة من الجهات أو سرية أو جيشاً وهؤلاء مؤمنون فما المانع من أن يوقع على كل واحد اسم أمير المؤمنين فجوابنا وبالله التوفيق أن الكذب محرم بلا خلاف وكل ما ذكرنا فإنما هو أمير لبعض المؤمنين لا لكلهم فلو سمي أمير المؤمنين لكان مسميه بذلك كاذباً لأن هذه اللفظة تقتضي عموم جميع المؤمنين وهو ليس كذلك وإنما هو أمير بعض المؤمنين فصح أنه ليس يجوز البتة أن يوقع اسم الإمامة مطلقاً ولا اسم أمير المؤمنين إلا على القرشي المتولي لجميع أمور المؤمنين كلهم أو الواجب له ذلك وإن عصاه كثير من المؤمنين وخرجوا عن الواجب عليهم من طاعته والمفترض عليهم من بيعته فكانوا بذلك فئة باغية حلالاً قتالهم وحربهم وكذلك اسم الخلافة بإطلاق لا يجوز أيضاً إلا لمن هذه صفته وبالله التوفيق واختلف القائلون بأن الإمامة لا تجوز إلا في صلبة قريش فقالت طائفة هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة و قالت طائفة لا تجوز الخلافة إلى في ولد العباس بن عبد المطلب وهو قول الراوندية و قالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد علي ابن أبي طالب ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب وأبو لهب والحارث والعباس وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس وكان له في ذلك تأليف مجموع وروينا كتاباً مؤلفاً لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا لولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال أبو محمد: فأما هذه الفرق الأربع فما وجدنا لهم شبهة يستحق أن يشتغل بها إلا دعاوي كاذبة لا وجه لها وإنما الكلام مع الذين يرون الأمر لولد العباس أو لولد علي فقط لكثرة عددهم.
قال أبو محمد: احتج من ذهب إلى أن الخلافة لا تجوز إلى في ولد العباس فقط على أن الخلفاء من ولده وكل من له حظ من علم من غير الخلفاء منهم لا يرضون بهذا ولا يقولون به لكن تلك الطائفة قالت كان العباس عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه فإذا كان ذلك قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء لأن ميراث العباس رضي الله عنه لو وجب له لكان ذلك في المال خاصة وأما المرتبة فما جاء قط في الديانات