Translate

الأربعاء، 23 مارس 2022

3.المجلد الثالث للفصل والنحل لابن حزم وورد {تم الكتاب بثلاثة مجلداته والحمد لله أولا وآخرا}

 

الفصل في الملل والأهواء والنحل

هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مؤمناً مسلماً إلا من استدل قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل وإلا فليس مسلما و قال الطبري من بلغ الاحتلام أو الاشعار من الرجال والنساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز وجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال و قال أنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمها وتدريبهما على الاستدلال على ذلك و قال ت الأشعرية لا يلزمها الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ‏.‏

قال أبو محمد و قال سائر أهل الإسلام كل من اعتقد بقلبه اعتقاداً لا يشك فيه و قال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإن كل ما جاء به حق وبرئ من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك‏.‏

قال أبو محمد فاحتجت الطائفة الأولى بأن قال ت قد اتفق الجميع على أن التقليد مذموم وما لم يكن يعرف باستدلال فإنما هو تقليد لا واسطة بينهما وذكروا قول الله عز وجل ‏"‏ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ‏"‏ و قالوا فذم الله تعالى اتباع الآباء والرؤساء قالوا وبيقين ندري أنه لا يعلم أحد أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الآباء شيأ أو لا يعلمون إلا بالدليل و قالوا كل مل لم يكن يصح بدليل فهو دعوي ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما لكن بالدليل قال الله عز وجل ‏"‏ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ‏"‏ قالوا فمن لا برهان له فليس صادقاً في قوله و قالوا ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا يعرف صحة الصحيح منها من بطلان الباطل منها بالحواس أصلاً فصح أنه لا يعلم ذلك إلا عن طريق الاستدلال فإذا لم يكن الاستدلال فليس المرء عالما بما لم يستدل عليه وإذا لم يكن عالما فهو شاك ضال وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسآئله الملك في القبر ما تقول في هذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن فإنه يقول هو محمد رسول الله قال وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته قالوا وقد ذكر الله عز وجل الاستدلال على الربوبية والنبوة في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن دليل كما قلنا‏.‏

قال أبو محمد هذا كلما موهوا به قد تقصيناه لهم غاية التقصي وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه على ما نبين بحول الله وقوته إن شاء الله تعالى لا إله إلا هو بعد أن نقول قولاً نصصحه المشاهدة إن جمهور هذه الفرقة أبعد من كل من ينتمي إلى البحث والاستدلال عن المعرفة بصحة الدلائل فأعجبوا لهذا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏.‏

قال أبو محمد أما قولهم قد أجمع الجميع على أن التقليد مذموم وأن ما لا يعرف باستدلال فإنما هو أخذ تقليد إذ لا واسطة بينهما فإنهم شغبوا في هذا الإمكان وولبوا فتركوا التقسيم الصحيح ونعم أن التقليد لا يحل البتة وإنما التقليد أخذ المرء قول من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يأمرنا الله عز وجل باتباعه قط ولا بأخذ قوله بل حرم علينا ذلك ونهانا عنه وأما أخذ المرء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي افترض علينا طاعته وألزمنا اتباعه وتصديقه وحذرنا عن مخالفة أمره وتوعدنا على ذلك أشد الوعيد فليس تقليداً بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة لله عز وجل وأداء للمفترض فموه هؤلاء القوم بأن أطلقوا على الحق الذي هو اتباع الحق اسم التقليد الذي هو باطل وبرهان ما ذكرنا أن امراءً لو اتبع أحداً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول قال ه لأن فلاناً قال ه فقط واعتقد أنه لو لم يقل ذلك الفلان ذلك القول لم يقل به هو أيضاً فإن فاعل هذا القول مقلد مخطى عاص لله تعالى ولرسوه ظالم آثم سواء كان قد وافق قوله ذلك الحق الذي قال ه الله ورسوله أو خالفه وإنما فسق لأنه اتبع من لم يؤمر باتباعه وفعل غير ما أمره الله عز وجل أن يفعله ولو أن امراءً اتبع قول الله عز وجل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان مطيعاً نحسناً مأجوراً غير مقلد وسواء وافق الحق أو وهم فأخطأ وإنما ذكرنا هذا لنبين أن الذي أمرنا به وافترض علينا هو اتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأن الذي حرم علينا هو اتباع من دونه أو اختراع قول لم يأذن به الله تعالى فقط وقد صح أن التقليد باطل لا يحل فمن الباطل الممتنع أن يكون الحق باطلاً معا والمحسن مسيئاً من وجه واحد معا فإذ ذلك كذلك فمتبع من أمر الله تعالى باتباعه ليس مقلداً ولا فعله تقليداً وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فسقط تمويههم بذم التقليد وصح أنهم وضعوه في غير موضعه وأوقعوا اسم التقليد على ما ليس تقليداً وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بذم الله تعالى اتباع الأباء والكبراء فهو مما قلنا آنفا سواء بسواء لأن اتباع الأباء والكبراء وكل من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من التقليد المحرم المذموم فاعله فقط قال الله عز وجل ‏"‏ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ‏"‏ فهذا نص ما قلنا ولله الحمد‏.‏

قال أبو محمد وأما احتجاجهم أنه لا يعرف أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الأباء شيئاً أم لا إلا بالدلايل وإن كل ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما وذكرهم قول الله تعالى ‏"‏ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ‏"‏ فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى البرهان ولا تستقر نفسه إلى تصديق ما جاء به مات شاكا أو جاحداً قبل أن يسمع من البرهان ما يثلج صدره فقد مات كافراً وهو مخلد في النار وهو بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى المعجزات فهذا أيضاً لو مات مات كافراً بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضاً عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر قال الله عز وجل ‏"‏ قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ‏"‏ فقد افترض الله عز وجل على كل أحد أن يقي نفسه النار فهؤلاء قسم وهم الأقل من الناس والقسم الثاني من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقاً من الله عز وجل له وتيسيراً لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والاكرة والعباد وأصحاب الحديث الأيمة الذين يذمون الكلام والجدل والمرآء في الدين‏.‏

قال أبو محمد هم الذين قال لهم الله فيهم ‏"‏ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء‏.‏

قال أبو محمد قد سمى الله عز وجل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم الكفر والمعاصي فضلا منه ونعمة وهذا هو خلق الله تعالى للإيمان في قلوبهم ابتدأ وعلى ألسنتهم ولم يذكر الله تعالى في ذلك استدلالاً أصلاً وبالله تعالى التوفيق وليس هؤلاء مقلدين لابابهم ولا لكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن اباؤهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل أبائهم ورؤسائهم والبرأة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حساً وشاهدناه في ذواتنا يقيناً فلقد بقينا سنين كثيرة ولا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم نجد أنفسنا في غاية السكون إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعاً لهما كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن ذلك ف قالوا له أن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه من وسوسة الشيطان وأمر صلى الله عليه وسلم في ذلك بما أمر به من التعوذ والقرأة والتفل عن اليسار ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها ولله تعالى الحمد فما زادنا يقيناً على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كمن عرف وقد أيقن بأن الفيل موجود سماعاً ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقيناً بصحة أنيته أصلاً لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس وعلمنا أن كنا مقتدين بالخطأ في ذلك ولله تعالى الحمد وأن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد فصح بما قلنا أن كل من امحض اعتقاد الحق بقلبه و قال ه بلسانه فهم مؤمنون محققون وليسوا مقلدين أصلاً وإنما كانوا مقلدين لو أنهم قالوا واعتدقوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبرآءنا فقط ولو أن اباءنا وكبرآءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم لتركناه فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفاراً غير مؤمنين لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبرآءهم الذين نهوا عن اتباعهم ولم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم الذين أمروا باتباعه وبالله تعالى التوفيق وإنما كلف الله تعالى الاتيان بالبرهان إن كانوا صادقين يعني الكفار المخالفين لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الاتيان بالبراهين وإلا سقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان والفريق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي صلى الله عليه وسلم فلا برهان له أصلاً فكلف المجيء بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً إن كانوا صادقين وليسوا صادقين بلا برهان لهم وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك البرهان أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح بالبرهان ولا برهان على ما سواه فهو محق والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالماً فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر‏.‏

قال أبو محمد فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال فهذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ولا جاء بصحتها قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا لغة ولا طبيعة ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئاً على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز وجل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مساءلة الملك فلا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم كما هو لمجرده لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال فيه فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو رسول الله ولم يقل عليه الصلاة والسلام فأما المستدل فحسبنا فوز المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه و قال عليه الصلاة والسلام وأما المنافق أو المرتاب ولم يقل غير المستدل فيقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فنعم هذا قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا صفة مقلد للناس لا محقق فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم كافية وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن الله عز وجل قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذه أيضاً زيادة أقحموها وهي قولهم وأمر به فهذا لا يجدونه أبداً ولكن الله تعالى ذكر الاستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محفوض عليه كل من اطاقه لأنه تزود من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق نعوذ بالله عز وجل من البلا وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه هذا هو الباطل المحض وأما قولهم إن الله تعالى أوجب العلم به فنعم وأما قولهم والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هي الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفاً وأول بطلانها أنها دعوى بلا برهان وبالله تعالى العزيز الحكيم نتأيد‏.‏

قال أبو محمد هذا كلما شنعوا به قد نقضناه والحمد لله رب العالمين فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراة لم يأت بها نص قط ولا إجماع وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو محمد ونحن الآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده البراهين على بطلان قولهم ولا حول قال أبو محمد ي قال لمن قال لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا متى يجب عليه فرض الاستدلال أقبل البلوغ أم بعده ولا بد من أحد المرين فلما الطبري فإنه أجاب بأن ذلك واجب قبل البلوغ‏.‏

قال أبو محمد وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفاً ولا مخاطباً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصغير حتى يحتلم فبطل جواب الطبري رحمه الله وأما الأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الإسلام وتصدء منها المسامع ويقطع ما بين قائلها وما بين الله عز وجل وهي أنهم قالوا لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤنة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم ف قالوا غير مساترين لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق‏.‏

قال أبو محمد ما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم أنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز وجل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق أم كاذب ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قبل هؤلاء أنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضاء الله عز وجل إلا بالشك فيه وأن من اعتقد موقناً بقلبه ولسانه أن الله تعالى ربه لا إله إلا هو وأن محمداً رسول الله وأن دين الإسلام دين الله الذي لا دين غيره فإنه كافر مشرك اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان فو الله لولا خذلان الله تعالى الذي هو غالب على أمره ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة وهذا يكفي من تكلف النقص لهذه الم قال ة الملعونة ومن بلغ هذا المبلغ حسن السكوت عنه ونعوذ بالله من الضلال ثم نقول لهم أخبرونا عن هذا الذي أوجبتم عليه الشك في فرض أو الشك في صحة النبوة والرسالة كم تكون هذه المدة التي أوجبتم عليه فيه البقا شاكا مستدلا طالباً للدلائل وكيف أن لم يجد في قريته أو مدينته ولا في اقليمه محسناً للدلائل فرحل طالباً للدلائل فاعترضته أهوال ومخاوف وتعذر من بحر أو مرض فاتصل له ذلك ساعات وأياماً وجمعاً وشهوراً وسنين ما قولكم في ذلك فإن حدوا في المدة يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك كانوا متحكمين بلا دليلوقائلين بلا هدي من الله تعالى ولم يعجز أحد عن أن يقول في تحديد تلك المدة بزيادة أو نقصان ومن بلغ ها هنا فقد ظهر فساد قوله وأن قالوا لا يحد في ذلك حداً قلنا لهم فإن امتد كذلك حتى فنى عمره ومات في مدة استدلاله التي حددتم له وهو شاك في الله تعالى وفي النبوة أيموت مؤمناً ويجب له الجنة أم يموت كافراً وتجب له النار فإن قالوا يموت مؤمناً تجب له الجنة أتوا بأعظم الطوام وجعلوا الشكاك في الله الذين هم عندهم شكاك مؤمنين من أهل الجنة وهذا كفر محض وتناقض لا خفاء به وكانوا مع ذلك قد سمحوا في أن يبقى المرء دهره كله شاكاً في الله عز وجل وفي النبوة والرسالة فإن قالوا بل يموت كافراً تجب له النار قلنا لهم لقد أمرتموه بما فيه هلاكه وأوجبتم عليه ما فيه دماره وما يفعل الشيطان إلا هذا في أمره بما يؤدي إلى الخلود في النار وإن قالوا بل هو في حكم أهل الفترة قلنا لهم هذا باطل لأن أهل الفترة لم تأتهم النذارة ولا بلغهم خبر النبوة والنص إنما جاء في أهل الفترة ومن زاد في الخبر ما ليس فيه فقد كذب على الله عز وجل ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ما حد الاستدلال الموجب لاسم الإيمان عندكم وقد يسمع دليلا عليه اعتراض الجزية ذلك الدليل أم لا فإن قالوا يجزيه قلنا لهم ومن أين وجب أن يجزيه وهو ذليل معترض فيه وليس هذه الصفة من الدلائل المخرجة عن الجهل إلى العلم بل هي مؤدية إلى الجهل الذي كان عليه قبل الاستدلال فإن قالوا بل لا يجزيه إلا حتى يوقن أنه قد وقع على دليل لا يمكن الاعتراض فيه تكلفوا ما ليس في وسع أكثرهم وما لا يبلغه إلا قليل من الناس في طويل من الدهر وكثير من البحث ولقد درى الله تعالى أنهم أصفار من العلم بذلك يعنب أهل هذه الم قال ة الملعونة الخبيثة‏.‏

قال أبو محمد ومن البرهان الموضح لبطلان هذه الم قال ة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئاً من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ بعث لم يزل يدعو الناس الجماء الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقرباً إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وأصغاره ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام وفيهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه‏.‏

قال أبو محمد لسنا نقول أنه لم يبلغنا أنه عليه السلام قال ذلك لأحد بل نقطع نحن وجميع أهل الأرض قطعاً كقطعنا على ما شاهدناه أنه عليه السلام لم يقل قط هذا لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتبينه لهم هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه الم قال ة خلاف للاجماع وخلاف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وجميع أهل الإسلام قاطبة فإن قالوا فما كانت حاجة الناس إلى الآيات المعجزات وإلى احتجاج الله عز وجل عليهم بالقرآن واعجازه به وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر وقلنا وبالله تعالى التوفيق إن الناس قسمان قسم لم تسكن قلوبهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذي يلزمهم طلب الاستدلال فرضاً ولا بد كما قلنا وقسم آخر وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق عز وجل في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى ‏"‏ بل الله يمن عليكم إن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ‏"‏ فهؤلاء آمنوا به عليه السلام بلا تكليف‏.‏

قال أبو محمد ويلزم أهل هذه الم قال ة أن جميع أهل الأرض كفار لا ألأقل وقد قال بعضهم أنهم مستدلون‏.‏

قال أبو محمد وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لا يدري ما معنى الاستدلال فكيف أن يستعمله‏.‏

قال أبو محمد ويلزم من قال بهذه الم قال ة أن لا يأكل من اللحم إلا ما ذبحه هو أو من يدري أنه مستدل وأن لا يطأ إلا زوجة أنها مستدلة ويلزم أن يشهد على نفسه بالكفر ضرورة قبل استدلاله ومدة استدلاله وأن يفارق امرأته التي تزوج في تلك المدة وأن لا يرث أخاه ولا أباه ولا أمه إلا أن يكونوا مستدلين وأن يعمل عمل الخوارج الذين يقتلون غيلة وعمل المغيرية المنصورة في ذبح كل من أمكنهم وقتله وأن يستحلوا أموال أهل الأرض بل لا يحل لهم الكف عن شيء من هذا كله لأن جهاد الكفار فرض وهذا كله أن التزموا طرد أصولهم وكفروا أنفسهم وأن لم يقولوا بذلك تناقضوا فصح أن كل من اعتقد الإسلام بقلبه ونطق به لسانه فهو مؤمن عند الله عز وجل ومن أهل الجنة سواء كان ذلك عن قبول أو نشأة أو عن استدلال وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فنقول لهم هل استدل من مخالفيكم في أقوالكم التي تدينون بها أحد أم لم يستدل قط أحد غيركم فلا بد من إقرارهم بأن مخالفيهم أيضاً قد استدلوا وهم عندكم مخطئون كمن لم يستدل وأنتم عندهم أيضاً مخطئون فإن قالوا إن الأدلة امنتنا من أن نكون مخطئين قلنا لهم وهذا نفسه هو قول خصومكم فإنهم يدعون أن أدلتهم على صواب قولهم وخطأ قولكم ولا فرق ما زالوا على هذه الدعوى مذ كانوا إلى يومنا هذا فما نراكم حصلتم من استدلالكم إلا على ما حصل عليه من لم يستدل سواء بسواء ولا فرق فإن قالوا لنا فعلى قولكم هذا يبطل الاستدلال جملة ويبطل الدليل كافة قلنا معاذ الله من هذا لكن أريناك أنه قد يستدل من يخطئ وقد يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى فقط وقد لا يستدل من يخطئ وقد لا يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى وكل ميسر لما خلق له والبرهان والدلائل الصحاح غير المموهة فمن وافق الحق الذي قامت عند غيره البراهين الصحاح بصحته فهو مصيب محق مؤمن استدل أو لم يستدل ومن يسر للباطل الذي قام البرهان عند غيره ببطلانه فهو مبطل مخطئ أو كافر سواء استدل أو لم يستدل وهذا هو الذي قام البرهان بصحته والحمد لله رب العالمين وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الوعد والوعيد

قال أبو محمد اختلف الناس في الوعد والوعيد فذهبت كل طائفة لقول منهم من قال أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولكنه كافراً وفاسق وأن كل من مات مصراً على كبيرة من الكبائر فلم يمت مسلماً وإذا لم يمت مسلماً فهو مخلد في النار أبداً وإن من مات ولا كبيرة له أة تاب عن كبائره قبل موته فإنه مؤمن من أهل الجنة لا يدخل النار أصلاً ومنهم من قال بأن كل ذنب صغير أو كبير فهو مخرج عن الإيمان والإسلام فإن مات عليه فهو غير مسلم وغير مسلم مخلد في النار وهذه م قال ات الخوارج والمعتزلة إلا أن بكر ابن أخت عبد الواحد ابن زيد قال في طلحة والزبير رضي الله عنهما أنهما كافران من أهل الجنة لأنهما من أهل بدر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال فأهل بدر إن كفروا فمغفور لهم لأنهم بخلاف غيرهم و قال بعض المرجئة لا تضر مع الإسلام سيئة كما لا ينفع مع الكفر حسنة قالوا فكل مسلم ولو بلغ على معصية فهو من أهل الجنة لا يرى ناراً وإنما النار للكفار وكل هاتين الطائفتين تقربان أحداً لا يدخل النار ثم يخرج عنها بل من دخل النار فهو مخلد فيها أبداً ومن كان من أهل الجنة فهو لا يدخل النار و قال أهل السنة والحسين النجار وأصحابه وبشر بن غياث المريسي وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن كيسان الأصم البصري وغيلان ابن مروان الدمشقي القدري ومحمد بن شبيب ويونس بن عمران وأبو العباس الناشي والأشعري وأصحابه ومحمد بن كرام وأصحابه أن الكفار مخلدون في النار وأن المؤمنين كلهم في الجنة وإن كانوا أصحاب كبائر ماتوا مصرين عليها وأنهم طائفتان طائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها أي من النار إلى الجنة‏.‏

وطائفة لا تدخل النار إلا أن كل من ذكرنا قالوا لله عز وجل أن يعذب من شاء من المؤمنين أصحاب الكبائر بالنار ثم يدخلهم الجنة وله أن يغفر لهم ويدخلهم الجنة بدون أن يعذبهم‏.‏

ثم افترقوا ف قال ت طائفة منهم وهو محمد بن شبيب ويونس والناشي إن عذب الله تعالى واحداً من أصحاب الكبائر عذب جميعهم ولا بد ثم أدخلهم الجنة‏.‏

وإن غفر لواحد منهم غفر لجميعهم ولا بد‏.‏

و قال ت طائفة بل يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وإن كانت ذنوبهم كثيرة مستوية وقد يغفر لمن هو أعظم جرماً ويعذب من هو أقل جرماً‏.‏

و قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يغفر لمن يشاء من أصحاب الكبائر ويعذب من يشاء منهم إلا القاتل عمداً فإنه مخلد في النار أبداً و قال ت طائفة منهم من لقى الله عز وجل مسلماً تائباً من كل كبيرة أو لم يكن عمل كبيرة قط فسيئآته كلها مغفورة وهو من أهل الجنة لا يدخل النار ولو بلغت سيئآته ما شاء الله أن يبلغ ومن لقى الله عز وجل وله كبيرة لم يتب منها فالحكم في ذلك الموازنة فمن رجحت حسناته على كبائره وسيئآته كلها تسقط وهو من أهل الجنة ولا يدخل النار وإن استوت حسناته مع كبائره وسيئآته فهؤلاء أهل الأعراف ولهم وقفة ولا يدخلون النار ثم يدخلون الجنة ومن رجحت كبائره وسيئآته بحسناته فهؤلاء مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرحمة الله تعالى وكل من ذكرنا يجازون في الجنة بعد بما فضل لهم من الحسنات وأما من لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فمن دونهم وكل من خرج من النار بالشفاعة وبرحمة الله تعالى فهم كلهم سواء في الجنة ممن رجحت له حسنة فصاعداً‏.‏

قال أبو محمد فأما من قال بأن صاحب الكبيرة يخلد وصاحب الذنب كذلك فإن حجتهم قول الله عز وجل ‏"‏ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما ‏"‏ وقوله ‏"‏ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاماً يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ‏"‏ الآية وقوله تعالى ‏"‏ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ‏"‏ وقوله ‏"‏ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا ‏"‏ إلى قوله تعالى ‏"‏ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ الذين يأكلون الربا ‏"‏ الآية وذكروا أحاديث صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في وعيد شارب الخمر وقاتل الهرة ومن قتل نفسه بسم أو حديد أو تردى من جبل فإنه يفعل ذلك به في جهنم خالداً ومن قتل نفسه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار وذكروا أن الكبيرة تزيل اسم الإيمان فبعضهم قال إلى شرك وبعضهم قال إلى كفر نعمة وبعضهم قال إلى نفاق وبعضهم قال إلى فسق فإذ ليس مؤمناً فلا يدخل الجنة لأنه لا يدخل الجنة المؤمنون هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة أصلاً غير ما ذكرنا وأما من خص القاتل بالتخليد فإنهم احتجوا بقوله تعالى ‏"‏ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فقط وأما من قطع باسقاط الوعيد عن كل مسلم فاحتجوا بقول الله تعالى ‏"‏ لا يصلاها إلا الاشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ قالوا وهذه الآية مثبتة أن كل من توعده الله عز وجل على قتل أو زنا أو ربا أو غير ذلك فإنما هم الكفار خاصة لا غيرهم واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر وقول الله عز وجل ‏"‏ إن رحمة الله قريب من المحسنين ‏"‏ قالوا ومن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد أحسن فهو محسن فرحمة الله قريب منه ومن رحمه الله فلا يعذب و قالوا كما أن الكفر محبط لكل حسنة فإن الإيمان يكفر كل سيئة والرحمة والعفو أولى بالله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلاً أو يدخل فيما ذكرنا ولا يخرج عنه وبالله تعالى التوفيق وأما من قال إن الله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقد يعذب من هو أقل ذنوباً ممن يغفر له فإنهم احتجوا بقول الله عز وجل ‏"‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ وبعموم قوله تعالى ‏"‏ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ‏"‏ وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله على العبد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئاً كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وجعلوا الآيتين اللتين ذكرنا قاضيتين على جميع الآيات التي تعلقت بها سائر الطوائف و قالوا لله الأمر كله لا معقب لحكمه فهو يفعل ما يشاء ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا‏.‏

قال أبو محمد وأما من قال بمثل هذا إلا أنه قال الله تعالى إن عذب واحداً منهم عذب الجميع وإن غفر لواحد منهم غفر للجميع فإنهم قدرية جنحوا بهذا القول نحو العدل ورأوا أن المغفرة لواحد وتعذيب من له مثل ذنوبه جور ومحاباة ولا يوصف الله عز وجل بذلك وأما من قال بالموازنة فإنهم احتجوا ف قالوا إن آيات الوعيد وأخبار الوعيد التي احتج بها من ذهب مذهب المعتزلة والخوارج فإنها لا يجوز أن تخص بالتعلق بها دون آيات العفو وأحاديث العفو التي احتج بها من أسقط الوعيد وهي لا يجوز التعلق بها دون الآيات التي احتج بها من أثبت الوعيد بل الواجب جمع جميع تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها حق وكلها من عند الله وكلها مجمل تفسيرها بآيات الموازنة وأحاديث الشفاعة التي هي بيان لعموم تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها من عند الله قالوا ووجدنا الله عز وجل قد قال ‏"‏ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل ‏"‏ الآية و قال تعالى ‏"‏ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وما كان الله ليضيع إيمانكم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ‏"‏ الآية و قال تعالى ‏"‏ ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ لتجزى كل نفس بما تسعى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ الجزاء الأوفى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ‏"‏ الآية وقال تعالى ‏"‏ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ‏"‏ الآية و قال تعالى ‏"‏ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ‏"‏ الآية و قال تعالى ‏"‏ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ‏"‏ إلى قوله تعالى ‏"‏ قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ‏"‏ إلى قوله تعالى ‏"‏ وما أنا بظلام للعبيد ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه ‏"‏ إلى آخر السورة و قال تعالى ‏"‏ إن الحسنات يذهبن السيئآت ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ /C_QURAN> ‏"‏ هذا نص كلامه يوم القيامة وهو القاضي على كل مجمل قالوا فنص الله عز وجل أنه يضع الموازين القسط وأنه لا يظلم أحداً شيئاً ولا مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة من خير ومن شر فصح أن السيئة لا تحبط الحسنة وأن الإيمان لا يسقط الكبائر ونص الله تعالى أنه تجزى كل نفس بما كسبت وما عملت وما سعت وأنه ليس لأحد إلا ما سعى وأنه سيجزى بذلك من أساء بما عمل ومن أحسن بالحسنى وأنه تعالى يوفي الناس أعمالهم فدخل في ذلك الخير والشر وأنه تعالى يجازي بكل خير وبكل سوء وعمل وهذا كله يبطل قول من قال بالتخليد ضرورة وقول من قال باسقاط الوعيد جملة لأن المعتزلة تقول أن الإيمان يضيع ويحبط وهذا خلاف قول الله تعالى أنه لا يضيع إيماننا ولا عمل عامل منا و قالوا هم أن الخير ساقط بسيئة واحدة و قال تعالى ‏"‏ إن الحسنات يذهبن السيئآت ‏"‏ ف قالوا هم أن السيئآت يذهبن الحسنات وقد نص تعالى أن الأعمال لا يحبطها إلا الشرك والموت عليه و قال تعالى ‏"‏ من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ‏"‏ فلو كانت سيئة أو كبيرة توجب الخلود في جهنم وتحبط الأعمال الحسنة لكانت كل سيئة أو كل كبيرة كفراً ولتساوت السيئآت كلها وهذا خلاف النصوص وعلمنا بما ذكرنا أن الذين قال الله تعالى فيهم ‏"‏ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏"‏ هم الذين رجحت حسناتهم على سيئآتهم فسقط كل سيئة قدموها وصح أن قوله تعالى ‏"‏ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ‏"‏ هو فيمن رجحت كبائرهم حسناتهم وإن السيئة الموجبة للخلود هي الكفر لأن النصوص جاءت بتقسيم السيئآت ف قال تعالى ‏"‏ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ‏"‏ فهذه سيئآت مغفورة باجتناب الكبائر و قال تعالى ‏"‏ وجزاء سيئة سيئة مثلها ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ‏"‏ فأخبر تعالى أن من السيئات المجازى لها ما هو مقدار ذرة ومنها ما هو أكبر ولا شك أن الكفر أكبر السيئآت فلو كانت كل كبيرة جزاءها الخلود لكانت كلها كفراً ولكانت كلها سواء وليست كذلك بالنص وأما وعيد الله بالخلود في القاتل وغيره فلو لم يأت إلا هذه النصوص لوجب الوقوف عندها لكنه قد قال تعالى ‏"‏ لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض وقد صح أن القاتل ليس كافراً وإن الزاني ليس كافراً وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفاراً بما ذكرنا قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات وأنهم مأمورون بالصلوات وأن زكاة أموالهم مقبوضة وأنهم لا يقتلون وأنه إن عفى عن القاتل فقتله مسلم فإنه يقتل ربه وأنه يرث ويورث وتؤكل ذبيحته فإذ ليس كافراً فبيقين ندري أن خلوده إنما هو مقام مدة ما وإن الصلى الذي نفاه الله تعالى عن كل من لم يكذب ولا تولى إنما هو صلى الخلود لا يجوز البتة غير هذا وبهذا تتألف النصوص وتتفق ومن المعهود في المخاطبة أن من وفد من بلد إلى بلد فحبس فيه لأمر أوجب احتباسه فيه مدة ما فإنه ليس من أهل ذلك البلد الذي حبس فيه فمن دخل في النار ثم أخرجه منها فقد انقطع عنه صليها فليس من أهلها وإنما أهلها وأهل صليها على الاطلاق والجملة هم الكفار المخلدون فيها أبداً فهكذا جاء في الحديث الصحيح فقد ذكر عليه السلام فيه من يدخل النار بذنوبه ثم يخرج منها ثم قال صلى الله عليه وسلم وأما أهل النار الذين هم أهلها يعني الكفار المخلدين فيها وقد قال عز وجل ‏"‏ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً ‏"‏ فقد بين عليه السلام ذلك بقوله في الخبر الصحيح ثم يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فبالقرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم صح أن ممر الناس من محشرهم إلى الجنة إنما هو بخوضهم وسط جهنم وينجي الله أولياءه من حرها وهم الذين لا كبائر لهم أو لهم كبائر تابوا عنها ورجحت حسناتهم بكبائرهم أو تساوت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم وأنه تعالى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته بحسناته ثم يخرجهم عنها إلى الجنة بإيمانهم ويمحق الكفار بتخليدهم في النار كما قال تعالى ‏"‏ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ‏"‏ وأيضاً فإن كل آية وعيد وخبر وعيد تعلق به من قال بتخليد المذنبين فإن المحتجين بتلك النصوص هم أول مخالف لها لأنهم يقولون أن من أتى بتلك الكبائر ثم تاب سقط عنه الوعيد فقد تركوا ظاهر تلك النصوص فإن قالوا إنما قلنا ذلك بنصوص اخر أوجبت ذلك قيل لهم نعم وكذلك فعلنا بنصوص أخر وهي آيات الموازنة وأنه تعالى لا يضيع عمل عامل من خير أو شر ولا فرق وي قال لمن أسقط آيات الوعيد جملة و قال أنها كلها إنما جاءت في الكفار إن هذا باطل لأن نص القرآن بالوعيد على الفار من الزحف ليس إلا على المؤمن بيقين بنص الآية في قوله تعالى ‏"‏ ومن يولهم يومئذ دبره ‏"‏ ولا يمكن أن يكون هذا في كافر أصلاً فسقط قول من قال بالتخليد وقول من قال بإسقاط الوعيد ولم يبق إلا قول من أجمل جواز المغفرة وجوز العقاب‏.‏

قال أبو محمد فوجدنا هذا القول مجملاً قد فسرته آيات الموازنة وقوله تعالى الذي تعلقوا به ‏"‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ حق على ظاهرها وعلى عمومها وقد فسرتها بإقرارهم آيات أخر لأنه لا يختلف في أن الله تعالى يغفر أن يشرك به لمن تاب من الشرك بلا شك وكذلك قوله تعالى ‏"‏ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ فهذا كله حق إلا أنه قد بين من هم الذين شاء أن يغفر لهم فإن صرتم إلى بيان الله تعالى فهو الحق وأن أبيتم إلا الثبات على الأجمال فأخبرونا عن قول الله تعالى ‏"‏ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ‏"‏ أترون أن هذا العموم تقولون به فتجيزون أنه يغفر الكفر لأنه ذنب من الذنوب أم لا وأخبرونا عن قول الله عز وجل حاكياً عن عيسى عليه السلام أنه يقول له تعالى يوم القيمة ‏"‏ يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وأنت على كل شيء شهيد ‏"‏ إلى قوله تجري من تحتها الأنهار أيدخل النصارى الذين اتخذوا عيسى وأمه الهين من دون الله تعالى في جواز المغفرة لهم لصدق قول الله تعالى في هذا القول من التخبير بين المغفرة لهم أو تعذيبهم وأخبرونا عن قوله تعالى ‏"‏ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ‏"‏ فمن قولهم أن المغفرة لا تكون البتة لمن كفر ومات كافراً وأنهم خارجون من هذا العموم ومن هذه الجملة بقوله تعالى ‏"‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ قيل لهم ولم خصصتم هذه الجملة بهذا النص ولم تخصوا قوله تعالى ‏"‏ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ بقوله ‏"‏ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ‏"‏ وهذا خبر لا نسخ فيه فإن قالوا نعم إلا أن يشاء أن يغفر لهم قيل لهم قد أخبر الله تعالى أنه لا يشاء ذلك بإخباره تعالى أنه في ذلك اليوم يجزي كل نفس ما كسبت ولا فرق‏.‏

قال أبو محمد وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يأتي يوم القيمة وله صدقة وصيام وصلاة فيوجد قد سفك دم هذا وشتم هذا فتؤخذ حسناته كلها فيقتص لهم منها فإذا لم يبق له حسنة قذف من سيئاتهم عليه ورمى في النار وهكذا أخبر عليه السلام في قوم يخرجون من النار حتى إذا نقوا وهذبوا أدخلوا الجنة وقد بين عليه السلام ذلك بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة شعير من خير ثم من في قلبه مثقال برة من خير ثم من في قلبه مثقال حبة من خردل ثم من في قلبه مثقال ذرة إلى أدنى أدنى أدنى من ذلك ثم من لم يعمل خيراً قط إلا شهادة الإسلام فوجب الوقوف عند هذه النصوص كلها المفسرة للنص المجمل ثم ي قال أخبرونا عمن لم يعمل شراً قط إلا اللمم ومن هم بالشر فلم يفعله فمن قول أهل الحق أنه مغفور له جملة بقوله تعالى ‏"‏ إلا اللمم ‏"‏ وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تجاوز قال أبو محمد وهذا ينقسم أقساماً أحدها من هم بسيئة أي شيء كانت من السيئآت ثم تركها مختاراً لله تعالى فهذا تكتب له حسنة فإن تركها مغلوباً لا مختاراً لم تكتب له حسنة ولا سيئة تفضيلاً من الله عز وجل ولو عملها كتبت له سيئة واحدة ولو هم بحسنة ولم يعلمها كتبت له حسنة واحدة فإن عملها كتب له عشر حسنات وهذا كله نص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا فذهب إلى أن الهم بالسيئة إصرار عليها فقلت له هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء بعد تماد عليه أن يفعله وأما من هم بما لم يفعل بعد فليس إصراراً قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ‏"‏ ثم نسألهم عن عمل بالسيئات حاشا الكبائر عدداً عظيماً ولم يأت كبيرة قط ومات على ذلك أيجوزون أن يعذبه الله تعالى على ما عمل من السيئات أم يقولون أنها مغفورة له ولا بد فإن قالوا أنها مغفورة ولا بد صدقوا وكانوا قد خصوا قوله تعالى ويغفو ما دون ذلك لمن يشاء وتركوا حمل هذه الآية على عمومها فلا ينكروا ذلك على من خصها أيضاً بنص آخر وإن قالوا بل جائز أن يعذبهم الله تعالى على ذلك أكذبهم الله بقوله ‏"‏ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ‏"‏ ونعوذ بالله من تكذيب الله عز وجل ثم نسألهم عمن عمل من الكبائر ومات عليها وعمل حسنات رجحت بكبائره عند الموازنة أيجوز أن يعذبه الله تعالى بما عمل من تلك الكبائر أم هي مغفورة له ساقطة عنه فإن قالوا بل هي مغفورة وساقطة صدقوا وكانوا قد خصوا عموم قوله تعالى ويغفو ما دون ذلك لمن يشاء وجعلوا هؤلاء ممن شاء ولا بد أن يغفر لهم وإن قالوا بل جايز أن يعذبهم أكذبهم الله تعالى بقوله ‏"‏ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ‏"‏ وبقوله ‏"‏ إن الحسنات يذهبن السيئات ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكذلك القول فيمن تساوت حسناته وكبائره وهم أهل الأعراف فلا يعذبون أصلاً فقد صح يقيناً أن هؤلاء الطبقات الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك فبقي الذين لم يشاء الله تعالى أن يغفر لهم ولم يبق من الطبقات أحد إلا من رجحت كبائره في الموازنة على حسناته فهو الذين يجازون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون من النار بالشفاعة وبرحمة الله عز وجل ف قالوا من هؤلاء من يغفر الله تعالى له ومنهم من يعذبه قلنا لهم أعندكم بهذا البيان نص وهم لا يجدونه أبداً فظهر تحكمهم بلا برهان وخلافهم لجميع الآيات التي تعلقوا بها فإنهم مقرون على أنها ليست على عمومها بل هي مخصوصة لأن الله تعالى قال إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولا خلاف في أنه تعالى يغفر الشرك لمن آمن فصح أنها مجملة تفسيرها ساير الآيات والأخبار وكذلك حديث عبادة خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئاً كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإنهم متفقون على أن من جاء بهن لم ينتقص من حدودهن شيئاً إلا أنه قتل وزنى وسرق فإنه قد يعذب ويقولون إن لم يأت بهن فإنه لا يعذب على التأييد بل يعذب ثم يخرج عن النار‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا ترك منهم أيضاً لظاهر هذا الخبر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا فرق بين قول الله تعالى ‏"‏ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ‏"‏ وبين قوله ‏"‏ وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ‏"‏ كلاهما خبران جاز إبطال أحدهما جاز إبطال الآخر ومعاذ الله من هذا القول وكذلك قد منع الله تعالى من هذا القول بقوله تعالى ‏"‏ لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ‏"‏ ونحن نقول أن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وأنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن كل أحد فهو في مشيئة الله تعالى إلا أننا نقول أنه تعالى قد بين من يغفر له ومن يعذب وإن الموازين حق والموازنة حق والشفاعة حق وبالله تعالى التوفيق حدثنا محمد بن سعيد بن بيان حدثنا أحمد بن عبد النصير حدثنا القاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الختني حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله تعالى ‏"‏ وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ‏"‏ قال ما وعدوا فيه من خير وشر وهذا هو نص وإني وإن واعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا شيء قد جعل فخر صبي أحمق كافر حجة على الله تعالى والعرب تفخر بالظلم قال الراجز‏:‏ أحيا أباه هاشم بن حرمله ترى الملوك حوله مغربله يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له وقد جعلت العرب مخلف الوعد كاذبا قال الشاعر أنشده أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ أتوعدني وراء بني رباح كذبت لتقصرن يداك دوني فإن قالوا خصوا وعيد الشرك بالموازنة قلنا لا يجوز لأن الله تعالى منع من ذلك قال تعالى ‏"‏ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ‏"‏ فمن حبط عمله فلا خير له‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأهل النار متفاضلون في عذاب النار فأقلهم عذاباً أبو طالب فإنه توضع جمرتان من نار في أخمصيه إلى أن يبلغ الأمر إلى قوله تعالى ‏"‏ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏"‏ ولا يكون الأشد إلا إلى جلب إلا دون و قال تعالى ‏"‏ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والكفار معذبون على المعاصي التي عملوا من غير الكفر برهان ذلك قول الله سبحانه وتعالى ‏"‏ ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ‏"‏ فنص تعالى على أن الكفار يعذبون على ترك الصلاة وعلى ترك الطعام للمسكين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما من عمل منهم العتق والصدقة أو نحو ذلك من أعمال البر فحابط كل ذلك لأن الله عز وجل قال أنه من مات وهو كافر حيط عمله لكن لا يعذب الله أحداً إلا على ما عمل ما لم يعمل قال الله تعالى ‏"‏ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏"‏ فلما كان من لا يطعم المسكين من الكفار يعذب على ذلك عذاباً زائداً فالذي أطعم المسكين مع كفره لا يعذب ذلك العذاب الزائد فهو أقل عذاباً لأنه لم يفعل من الشر ما عمل من هو أشد عذاباً لأنه عمل خيراً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل كافر عمل خيراً وشراً ثم أسلم فإن كل ما عمل من خير مكتوب مجازى به في الجنة وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه وإن تمادى عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه برهان ذلك حديث حكيم بن حزام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يا رسول الله أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتق وصدقة وصلة رحم ف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما سلف لك من خير فأخبر أنه خير وأنه له إذا أسلم و قال ت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه كان يصل الرحم ويقرى الضيف أينفع ذلك قال لا لأنه لم يقل يوماً ‏"‏ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏"‏ فأخبر عليه السلام أنه لم ينتفع بذلك لأنه لم يسلم فاتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك وأما مؤاخذته بما عمل فحديث ابن مسعود رضي الله عنه بنص ما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلناه فإن اعترض معترض بقول الله تعالى ‏"‏ لئن أشركت ليحبطن عملك ‏"‏ ومن أسلم فليس من الخاسرين وقد بين ذلك بقوله ‏"‏ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ‏"‏ وإن اعترضوا فيما قلنا من المؤاخذة بما عمل في الكفر بقوله تعالى ‏"‏ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ‏"‏ قلنا لهم هذا حجة لنا لأن من انتهى عن الكفر غفر له وإن انتهى عن الزنا غفر له وإن لم ينته عن الزنا لم يغفر له ما انتهى عنه ولم يغفر له ما لم ينته عنه ولم يقل تعالى إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم سائر ذنوبهم والزيادة على الآية كذب على الله تعالى وهي أعمال متغايرة كما ترى ليست التوبة عن بعضها توبة عن سائرها فلكل واحد منها حكم فإن ذكروا حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام يجب ما قبله فقد قلنا أن الإسلام اسم لجميع الطاعات فمن أصر على المعصية فليس فعله في المعصية التي يتمادى عليها إسلاماً ولا إيماناً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فصح أن الإسلام والإيمان هو جميع الطاعات فإذا أسلم من الكفر وتاب من جميع معاصيه فهو الإسلام الذي يجب ما قبله وإذا لم يتب من معاصيه فلم يحسن في الإسلام فهو مأخوذ بالأول والآخر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا تتفق الأحاديث وكذلك قوله عليه السلام والهجرة تجب ما قبلها فقد صح عنه عليه السلام أن المهاجر من هجر ما نهاه الله عنه فمن تاب من جميع المعاصي التي سلفت منه فقد هجر ما نهاه الله عنه فهذه هي الهجرة التي تجب ما قبلها وأما قوله عليه السلام والحج يجب ما قبله فقد جاء أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فهذا على الموازنة التي ربنا عز وجل عالم بمراتبها ومقاديرها وإنما نقف حيث وقفنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واستدركنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قاتل نفسه حرم عليه الجنة وأوجب له النار مع قوله من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم عليه النار وأوجب له الجنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قال الله تعالى ‏"‏ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ‏"‏ فصح أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله وحي من عند الله تعالى و قال عز وجل ‏"‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ‏"‏ فصح أن كل ما قال ه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عند الله تعالى وأنه لا اختلاف في شيء منه وأنه كله متفق عليه فإذ ذلك كذلك فواجب ضم هذه الأخبار بعضها إلى بعض فيلوح الحق حينئذ بحول الله وقوته فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم في القاتل حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار مبني على الموازنة فإن رجحت كبيرة قتله نفسه على حسناته حرم الله عليه الجنة حتى يقتص منه بالنار التي أوجبها الله تعالى جزاء على فعله وبرهان هذا حديث الذي أسلم وهاجر مع عمرو بن الحممة الدوسي ثم قتل نفسه لجراح جرح به فتألم به فقطع عروق يده فنزف حتى مات فرآه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حال حسنة إلا يده وذكر أنه قيل له لن يصلح منك ما أفسدت ف قال رسول الله صلى الله وسلم اللهم وليديه فاغفر ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة فهذا لا يختلف فيه مسلمان أنه ليس على ظاهره منفرداً لكن يضمه إلى غيره من الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين حاشا دين الإسلام ومعناه حينئذ أن الله عز وجل أوجب له الجنة ولا بد إما بعد الاقتصاص وإما دون الاقتصاص على ما توجبه الموازنة وحرم الله عليه أن يخلد فيها ويكون من أهلها القاطنين فيها على ما بينا قبل من قوله تعالى ‏"‏ لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ‏"‏ فنص الآية أنها في الكفار هكذا في نص الآية‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما الكفارة فإن الله تعالى قال‏:‏ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن المحال أن يحرم الله تعالى علينا أمراً ويفرق بين أحكامه ويجعل بعضه مغفوراً باجتناب بعض ومؤاخذاً به إن لم يجتنب البعض الآخر ثم لا يبين لنا المهلكات من غيرها فنظرنا في ذلك فوجدنا قوماً يقولون أن كل ذنب فهو كبيرة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ لأن نص القرآن مفرق كما قلنا بين الكبائر وغيرها وبالضرورة ندري أنه لا ي قال كبيرة إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها والكبائر أيضاً تتفاضل فالشرك أكبر مما دونه والقتل أكبر من غيره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وأنه لكبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فأخبر عليه السلام أنهما كبير وما هما بكبير وهذا بين لأنهما كبيران بالإضافة إلى الصغائر المغفورة باجتناب الكبائر وليسا بكبيرين بالإضافة إلى الكفر والقتل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبطل القول المذكور فنظرنا في ذلك فوجدنا معرفة الكبير من الذنوب مما ليس بكبير منها لا يعلم البتة إلا بنص وارد فيها إذ هذا من أحكام الله تعالى التي لا تعرف إلا من عنده تعالى فبحثنا عن ذلك فوجدنا الله تعالى قد نص بالوعيد على ذنوب في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ووجدنا ذنوباً أخر لم ينص عليها بوعيد فعلمنا يقيناً أن كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار أو توعد عليه رسوله صلى الله عليه وسلم بالنار فهو كبير وكل ما نص عليه رسول الله صلى الله وسلم باستعظامه فهو كبير كقوله عليه السلام اتقوا السبع الموبقات الشرك والسحر والقتل والزنا وذكر الحديث وكقوله عليه السلام عقوق الوالدين من الكبائر وكل ما لم يأت نص باستعظامه ولا جاء فيه وعيد بالنار فليس بكبير ولا يمكن أن يكون الوعيد بالنار على الصغائر على انفرادها لأنها مغفورة باجتناب الكبائر فصح ما قلناه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الموافاة

قال أبو محمد‏:‏ اختلف المتكلمون في معنى عبروا عنه بلفظ الموافاة وهم أنهم قالوا في إنسان مؤمن صالح مجتهد في العبادة ثم مات مرتداً كافراً وآخر كافر متمرد أو فاس ثم مات مسلماً تائباً كيف كان حكم كل واحد منهما قبل أن ينتقل إلى ما مات عليه عند الله تعالى فهذب هشام بن عمرو الفوطي وجميع الأشعرية إلى أن الله عز وجل لم يزل راضياً عن الذي مات مسلماً تائباً ولم يزل ساخطاً على الذي مات كافراً أو فاسقاً واحتجوا في ذلك بأن الله عز وجل لا يتغير علمه ولا يرضى ما سخط ولا يسخط ما رضي و قال ت الأشعرية الرضا من الله عز وجل لا يتغير منه تعالى صفات الذات لأين ولآن ولا يتغير إن وذهب سائر المسلمين إلى أن الله عز وجل كان ساخطاً على الكافر والفاسق ثم رضي الله عنهما إذا أسلم الكافر وتاب الفاسق وأنه كان تعالى راضياً عن المسلم وعن الصالح ثم سخط عليهما إذا كفر المسلم وفسق الصالح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ احتجاج الأشعرية ها هنا هو احتجاج اليهود في إبطال النسخ ولا فرق ونحن نبين بطلان احتجاجهم وبطلان قولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز وجل نتأيد أما قولهم عن علم الله عز وجل لا يتغير فصحيح ولكن معلوماته تتغير ولم نقل أن علمه يتغير ومعاذ الله من هذا ولم يزل علمه تعالى واحداً يعلم كل شيء على تصرفه في جميع حالاته فلم يزل يعلم أن زيداً سيكون صغيراً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم ميتاً ثم مبعوثاً ثم في الجنة أو في النار ولم يزل يعلم أن سيؤمن ثم يكفر أو أنه يكفر ثم يؤمن أو أنه يكفر ولا يؤمن أو أنه يؤمن ولا يكفر وكذلك القول في الفسق والصلاح ومعلوماته تعالى في ذلك متغيرة مختلفة ومن كابر هذا فقد كابر العيان والمشاهدات وأما قولهم أن الله تعالى لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط فباطل وكذب بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم ورضي لهم ذلك وسخط منهم خلافه وكذلك أحل لنا الخمر ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان والبغاء بلا صلاة وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك كله كما قال تعالى ‏"‏ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ‏"‏ ثم فرض علينا الصلاة والصوم وحرم علينا الخمر فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمر ورضي لنا خلاف ذلك وهذا لا ينكره مسلم ولم يزل الله تعالى عليماً أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا وأنه سيرضى منه ثم أنه سيحرمه ويسخطه وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة ثم أنه يحله ويرضاه كما علم عز وجل أنه سيحيى من أحياه مدة كذا وأنه يعز من أعزه مدة ثم يذله وهكذا المؤمن يموت مرتداً والكافر يموت مسلماً فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخطه فعل الكافر ما دام كافراً ثم أنه يرضى عنه إذا أسلم وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم وأفعال البر ثم أنه يسخط أفعاله إذا ارتد أو فسق ونص القرآن يشهد بذلك قال تعالى ‏"‏ ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ‏"‏ فصح يقيناً أن الله تعالى يرضى الشكر ممن شكره فيما شكره ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر كيف كان انت قال هذه الأحوال من الإنسان الواحد وقوله تعالى ‏"‏ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ‏"‏ فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير حابط ومن المحل أن يحبط عمل لم يكن محسوباً قط فصح أن عمل المؤمن الذي ارتد ثم مات كافراً أنه كان محسوباً ثم حبط إذا ارتد وكذلك قال الله تعالى ‏"‏ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ‏"‏ فصح أنه لا يمحو إلا ما كان قد كتبه ومن المحل أن يمحى ما لم يكن مكتوباً وهذا بطلان قولهم يقيناً ولله الحمد وكذلك نص قوله تعالى ‏"‏ أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ‏"‏ فهذا نص قولنا وبطلان قولهم لأن الله تعالى سمى أفعالهم الماضية سيئات والسيئات مذمومة عنده تعالى بلا شك ثم أخبر تعالى أنه أحالها وبدلها حسنات مرضية فمن أنكر هذا فهو مكذب لله تعالى والله تعالى مكذب له وكذلك قال الله تعالى أنه سخط أكل آدم من الشجرة وذهاب يونس مغاضباً ثم أخبر عز وجل أنه تاب عليهما واجتبى يونس بعد أن لامه ولا يشك كل ذي عقل أن اللائمة غير الاجتباء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نقول لهم أفي الكافر كفر إذا كان كافراً قبل أن يؤمن وفي الفاسق فسق قبل أن يتوب وفي المؤمن إيمان قبل أن يرتد أم لا فإن قالوا لا كابروا وأحالوا وإن قالوا نعم قلنا لهم فهل يسخط الله الكفر والفسق أو يرضى عنهما فإن قالوا بل يسخطهما تركوا قولهم وإن قالوا بل يرضى عن الكفر والفسق كفروا ونسألهم عن قتل وحشى حمزة رضي الله عنه إرضاء كان لله تعالى فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا بل ما كان إلا سخطاً سألناهم أيؤاخذه الله تعالى به إذا أسلم فمن قولهم لا وهكذا في كل حسنة وسيئة فظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

الكلام في من لم تبلغه الدعوة

ومن تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع فيما تاب عنه قال أبو محمد‏:‏ قال الله عز وجل ‏"‏ لأنذركم به ومن بلغ ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ‏"‏ فنص تعالى ذلك على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف والأصلح الأصم ومن كان في الفترة والمجنون فيقول المجنون يا رب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل ويقول الخرف والأصم والذي في الفترة أشياء ذكرها فيوقد لهم نار وي قال لهم ادخلوها فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بأرض الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً لانقطاع الطرق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ورأيت قوماً يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم من كان جاهلاً بها ولا من لم تبلغه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا باطل بل هي لازمة له لأن رسول الله صلى الله وسلم بعث إلى الإنس كلهم وإلى الجن كلهم وإلى كل من لم يولد إذ بلغ بعد الولادة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قال الله تعالى آمراً أن يقول ‏"‏ إني رسول الله إليكم جميعاً ‏"‏ وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه أحداً و قال تعالى ‏"‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ‏"‏ فأبطل سبحانه أن يكون أحد سدى والسدى هو المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهي فأبطل عز وجل هذا الأمر ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط وأن من بلغه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حيث ما كان من أقاصي الأرض ففرض عليه البحث عنه فإذا بلغته نذارته ففرض عليه التصديق به وأتباعه وطلب الدين اللازم له والخروج عن وطنه لذلك وإلا فقد استحق الكفر والخلود في النار والعذاب بنص القرآن وكل ما ذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج أن في حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يلزم من في أقاصي الأرض الإيمان به ومعرفة شرائعه فإن ماتوا في تلك الحال ماتوا كفاراً إلى النار ويبطل هذا قول الله عز وجل ‏"‏ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ‏"‏ وليس في وسع أحد علم الغيب فإن قالوا فهذه حجة الطائفة القائلة أنه لا يلزم أحداً شيء من الشرائع حتى تبلغه قلنا لا حجة لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم واحتمال بنيتهم إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفاً يعذبون به إن لم يفعلوه وإنما كلفوه تكليف من لا يعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن له أمراً من الحكم مجملاً ولم يبلغه نصه ففرض عليه اجتهاد نفسه في طلب ذلك الأمر وإلا فهو عاص لله عز وجل قال الله تعالى ‏"‏ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ‏"‏ وأما من تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع إلى ما تاب عنه فإنه إن كان توبته تلك وهو معتقد للعودة فهو عابث مستهزئ مخادع لله تعالى قال الله تعالى ‏"‏ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ عذاب أليم بما كانوا يكذبون ‏"‏ وأما من كانت توبته نصوحاً ثابت العزيمة في أن لا يعود فهي توبة صحيحة مقبولة بلا شك مسقطة لكل ما تاب عنه بالنص قال عز وجل ‏"‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ‏"‏ فإن عاد بعد ذلك إلى الذنب الذي تاب منه فلا يعود عليه ذنب قد غفره الله له أبداً فإن ارتد ومات كافراً فقد سقط عنه الكفر وغيره‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا تكون التوبة إلا بالندم والاستغفار وترك المعاودة والعزيمة على ذلك والخروج من مظلمة إن تاب عنها إلى صاحبها بتحلل أو إنصاف ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن يفجور المعروف بابن الأخشيد وهو أحد أركان المعتزلة وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة من الأتراك وولى أبوه الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي فرأيت له في بعض كتبه يقول أن التوبة هي الندم فقط وإن لم ينو مع ذلك ترك المراجعة لتلك الكبيرة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا أشنع ما يكون من قول المرجئة لأن كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على كل ذنب يعمله عالماً بأنه مسيء فيه مستغفر منه ومن كان بخلاف هذه الصفة لكن مستحسناً لما فعل غير نادم عليه فليس مسلماً فكل صاحب كبيرة فهو على قول ابن الأخشيد غير مؤاخذ بها لأنه تائب منها وهذا خلاف الوعيد فإن قال قائل فإنكم تقطعون على قبول إيمان المؤمن أفتقطعون على قبول توبة التائب وعمل العامل للخير إن كل ذلك مقبول وهل تقطعون على المكثر من السيئات أنه في النار قلنا وبالله تعالى التوفيق أن الأعمال لها شروط من توفية النية حقها وتوفية العمل حقه فلو أيقنا أن العمل وقع كاملاً كما أمر الله تعالى لقطعنا على قبول الله عز وجل له وأما التوبة فإذا وقعت نصوحاً فنحن نقطع بقبولها وأما القطع على مظهر الخير بأنه في الجنة وعلى مظهر الشر والمعاصي بأنه في النار فهذا خطأ لأننا لا نعلم ما في النفوس ولعل المظهر الخير مبطن للكفر أو مبطن على كباير لا نعلمها فواجب أن لا نقطع من أجل ذلك عليه بشيء وكذلك المعلن بالكبائر فإنه يمكن أن يبطن الكفر في باطن أمره فإذا قرب من الموت آمن فاستحق الجنة أو لعل له حسنات في باطن أمره تفيء على سيئاته فيكون من أهل الجنة فلهذا وجب أن لا نقطع على أحد بعينه بجنة ولا نار حاشا من جاء النص فيه من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم في الجنة وبأن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأهل بدر وأخل السوابق فإنا نقطع على هؤلاء بالجنة لأن الله تعالى أخبرنا بذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وحاشا من مات معلناً للكفر فإنا نقطع عليه بالنار ونقف فيمن عدا هؤلاء إذا أننا نقطع على الصفات فنقول من مات معلناً للكفر أو مبطناً له فهو في النار خالداً فيها ومن لقي الله تعالى راجح الحسنات على السيئات والكبائر أو متسايهما فهو في الجنة لا يعذب بالنار ومن لقي الله تعالى راجح الكبائر على الحسنات ففي النار ويخرج منها بالشفاعة إلى الجنة وبالله قال أبو محمد‏:‏ ورأيت بعض أصحابنا يذهب إلى شيء يسميه شاهد الحال وهو أن من كان مظهر الشيء من الديانات متحملاً للأذى فيه غير مستجلب بما يلقي من ذلك حالاً فإنه مقطوع على باطنه وظاهره قطعاً لا شك فيه كعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين ومن جرى مجراهم ممن قبلهم أو بعدهم فإن هؤلاء رضي الله عنهم رفضوا من الدنيا ما لو استعملوه لما حط من وجاهتهم شيئاً واحتملوا من المضض ما لو خففوه عن أنفسهم لم يقدح لهم ذلك فيهم عند أحد فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله عز وجل وعلى خيرهم وفضلهم وكذلك نقطع على أن عمر بن عبيد كان يدين بأبطال القدر بلا شك في باطن أمره وأن أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما كانا في باطن أمرهما يدينان الله تعالى بالقياس وأن داود بن علي كان في باطن الأمر يدين الله تعالى بإبطال القياس بلا شك وأن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يدين الله تعالى بالتدين بالحديث في باطن أمره بلا شك وبأن القرآن غير مخلوق بلا شك وهكذا كل من تناصرت أحواله وظهر جده في معتقد وترك المسامحة فيه واحتمل الأذى والمضض من أجله‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا قول صحيح لا شك فيه إذ لا يمكن البتة في بنية الطبائع أن يحتمل أحد أذى ومشقة لغير فائدة يتعجلها أو يتأجلها وبالله تعالى التوفيق ولا بد لكل ذي عقد من أن يتبين عليه شاهد عقده بما يبدو منه من مسامحة فيه أو صبر عليه وأما من كان بغير هذه الصفة فلا نقطع على عقده وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الشفاعة والميزان والحوض وعذاب القبر والكتبة

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج وكل من تبع أن لا يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها وذهب أهل السنة والأشعرية والكرامية وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة واحتج المانعون بقول الله عز وجل ‏"‏ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ‏"‏ وبقوله عز وجل ‏"‏ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ من يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض السنن دون بعض ولا على القرآن دون بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه عز وجل ‏"‏ لتبين للناس ما نزل إليهم ‏"‏ وقد نص الله على صحة الشفاعة في القرآن فقال تعالى ‏"‏ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً ‏"‏ فأوجب عزل وجل الشفاعة إلا من اتخذ عنده عهداً بالشفاعة وصحت بذلك الأخبار المتواترة المتناصرة بنقل الكواف لها قال تعالى ‏"‏ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ‏"‏ فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عز وجل ممن أذن له فيها ورضي قوله ولا أحد من الناس أولى بذلك من محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أفضل ولد آدم عليه السلام و قال تعالى ‏"‏ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وكم من ملوك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ‏"‏ فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقيناً أن الشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي غير الشفاعة التي أثبتها عز وجل وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار قال تعالى لا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا نعوذ بالله منها فإذ لا شك فيه فقد صح يقيناً أن الشفاعة التي أوجب الله عز وجل لمن أذن له واتخذ عنده عهداً ورضي قوله فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهما شفاعتان إحداهما الموقف ومسعه الحال وهو المقام المحمود الذي جاء النص في القرآن به في قوله ‏"‏ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ‏"‏ وهكذا جاء الخبر الثابت نصاً والشفاعة الثانية في إخراج أهل الكبائر من النار طبقة طبقة على ما صح في ذلك الخبر وأما قول الله تعالى ‏"‏ قل لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ولا تملك نفس لنفس شيئاً ‏"‏ فما خالفناهم في هذا أصلاً وليس هذا من الشفاعة في شيء فنعم لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً ولا رشداً ولا هدى وإنما الشفاعة رغبة إلى الله تعالى وضراعة ودعاء و قال بعض منكري الشفاعة أن الشفاعة ليست غلا في المحسنين فقط واحتجوا بقوله تعالى ‏"‏ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا حجة لهم فيه لأن من أذن الله في إخراجه من النار وأدخله الجنة وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه وهذا حق وفضل الله تعالى على من قد غفر له ذنوب بأن رجحت حسناته على كبائره أو بأن لم تكن له كبيرة أو بأن تاب عنها فهو مغن له عن شفاعة كل شافع فقد حصلت له الرحمة والفوز من الله تعالى وأمر به إلى الجنة ففيما ذا يشفع له وإنما الفقير إلى الشفاعة من غلبت كبائره حسناته فأدخل النار ولم يأذن تعالى بإخراجه منها إلا بالشفاعة وكذلك الخلق في كونهم في الموقف هم أيضاً في مقام شنيع فهم أيضاً محتاجون إلى الشفاعة وبالله تعالى التوفيق وبما صحت الأخبار من ذلك نقول‏.‏

وأما الميزان فقد أنكره قوم فخالفوا كلام الله تعالى وإقداماً وتنطع آخرون فقالوا هو ميزان بكفتين من ذهب وهذا إقدام آخر لا يحل قال الله عز وجل ‏"‏ ويقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأمور الآخرة لا تعلم إلا بما جاء في القرآن أو بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأت عنه عليه السلام شيء يصح في صفة الميزان ولو صح عنه عليه السلام في ذلك شيء لقلنا به فإذ لا يصح عنه عليه السلام في ذلك فلا يحل لأحد أن يقول على الله عز وجل ما لم يخبرنا به لكن نقول كما قال الله عز وجل ‏"‏ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وكفى بنا حاسبين ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ والوزن يومئذ الحق ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ‏"‏ فنقطع على أن الموازين توضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد قال تعالى عن الكفار ‏"‏ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ‏"‏ وليس هذا على أن لا توزن أعمالهم بل توزن لكن أعمالهم شائلة وموازينهم خفاف قد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول ‏"‏ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ فكنتم بها تكذبون ‏"‏ فأخبر عز وجل أن هؤلاء المكذبين بآياته خفت موازينهم والمكذبون بآيات الله عز وجل كفار بلا شك ونقطع على أن تلك الموازين أشياء يبين الله عز وجل بها لعباده مقادير أعمالهم من خير أو شر من مقدار الذرة التي لا تحس وزنها في موازيننا أصلاً فما زاد ولا ندري كيف تلك الموازين إلا أننا ندري أنها بخلاف موازين الدنيا وأن ميزان من تصدق بدينار أو بلؤلؤة أثفل ممن تصدق بكذآنة وليس هذا وزناً وندري أن إثم القاتل أعظم من إثم اللاطم وأن ميزان مصلي الفريضة أعظم من ميزان مصلي التطوع بل بعض الفرائض أعظم من بعض فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من صلى الصبح في جماعة كمن قام ليلة ومن صلى العتمة في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكلاهما فرض وهكذا جميع الأعمال فإنما يوزن عمل العبد خيره مع شره ولو نصح المعتزلة أنفسهم لعلموا أن هذا عين العدل وأما من قال بما لا يدري أن ذلك الميزان ذو كفتين فإنما قال ه قياساً على موازين الدنيا وقد أخطأ في قياسه إذ في موازين الدنيا ما لا كفة له كالقرطسون وأما نحن فإنما اتبعنا النصوص الواردة في ذلك فقط ولا نقول إلا بما جاء به قرآن أو سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ننكر إلا ما لم يأت فيهما ولا نكذب إلا بما فيهما إبطاله وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه وهو كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن ورد عليه من أمته ولا ندري لمن أنكره متعلقاً ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأما الصراط فقد ذكرناه في الباب الأول الذي قبل هذا وأنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضع الصراط بين ظهراني جهنم ويمر علهي الناس فمخدوج وناج ومكردس في نار جهنم وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم كمر الطرف فما دون ذلك إلى من يقع في النار وهو طريق أهل الجنة إليها من المحشر في الأرض إلى السماء وهو معنى قول الله تعالى ‏"‏ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً ‏"‏ وأما كتاب الملائكة لأعمالنا فحق قال الله تعالى ‏"‏ وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد وكل هذا ما لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام إلا أنه لا يعلم أحد من الناس كيفية ذلك الكتاب‏.‏

عذاب القبر قال أبو محمد ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى ‏"‏ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ‏"‏ وبقوله قال أبو محمد‏:‏ وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك قبر أو لم يقبر برهان ذلك قول الله تعالى ‏"‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏"‏ الآية وهذا قبل القيامة بلا شك وأثر الموت وهذا هو عذاب القبر و قال ‏"‏ إنما توفون أجوركم يوم القيامة ‏"‏ و قال تعالى في آل فرعون ‏"‏ النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ‏"‏ فهذا العرض المذكور هو عذاب القبر وإنما قيل عذاب القبر فأضيف إلى القبر لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع والغريق تأكله دواب البحر والمحرق والمصلوب والمعلق فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان لهؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مساءلة ونعوذ بالله من هذا بل كل ميت فلا بد له من فتنة وسؤال وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة فيوفون حينئذ أجورهم وينقلبون إلى الجنة أو النار وأيضاً فإن جسد كل إنسان فلا بد من العود إلى التراب يوماً ما كما قال الله تعالى ‏"‏ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ‏"‏ فكل من ذكرنا من مصلوب أو معلق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة فإنه يعود رماداً أو رجيعاً ويتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس أثر خروجها من الجسد فهو قبر لها إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثة وأحياناً ثلاثاً وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء و ‏"‏ الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ‏"‏ و ‏"‏ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه ‏"‏ وكذلك قوله تعالى ‏"‏ الله يتوفى الأنفس حين موتها ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ إلى أجل مسمى ‏"‏ فصح بنص القرآن أن روح من مات لا يرجع إلى جسده إلا إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسرى به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أهل الشقاء وأخير عليه السلام يوم بدر إذ خاطب القتلى وأخبر أنهم وجدوا ما توعدهم به حقاً قبل أن يكون لهم قبور فقال المسلمون يا رسول الله أتخاطب قوماً قد جيفوا فقال عليه السلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم فلم ينكر عليه السلام على المسلمين قولهم أنهم قد جيفوا وأعلمهم أنهم سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه عليه السالم لقلنا به فإذ لا يصح فلا يحل لأحد أن يقول وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوى تركه شعبة وغيره وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضاً عن الصحابة رضي الله عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد ابن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان بن عيينة عن منصور ابن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قال ت دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحاً قبل أن يصلب فقيل له هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق فمال إليها فعزاها و قال أن هذه الجثث ليست بشيء وأن الأرواح عند الله فقال ت أسماء وما يمنعني وقد أهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وحدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عون الله حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني ثنا أبو موسى محمد بن المثني الزمن ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي اسحق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود في قول الله عز وجل ‏"‏ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ‏"‏ قال ابن مسعود هي التي في البقرة ‏"‏ وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ‏"‏ فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم ولا مخلاف من الصحابة رضي الله عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان قال أبو محمد‏:‏ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى موسى عليه السالم قائماً في قبره يصلي ليلة الإسراء وأخبر أنه رآه في السماء السادسة أو السابعة وبلا شك إنما رأى روحه وأما جسده فموارى بالتراب بلا شك فعلى هذا أن موضع كل روح يسمى قبراً فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث كانت وبالله تعالى التوفيق‏.‏

مستقر الأرواح قال أبو محمد اختلف الناس في مستقر الأرواح وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فذهب قوم من الروافض إلى أن أرواح الكفار ببيرهونت وهو بئر بحضرموت وأن أرواح المؤمنين بموضع آخر أظنه الجابية وهذا قول فاسد لأنه لا دليل عليه أصلاً وما لا دليل عليه فهو ساقط ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكاناً آخر غير ما ادعاه هؤلاء وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وذهب عوام أصحاب الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها وهذا قول لا حجة له أصلاً تصححه الأخبر ضعيف لا يحتج بمثله لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث وما كان هكذا فهو ساقط أيضاً وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلاً ومن عجائب أصحاب هذه الم قال ة الفاسدة قولهم أن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفني وهكذا أبداً وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام وزاد بعضهم فقال إن صحت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا يتجزأ من الجسم فهو يعذب وهذا أيضاً حمق آخر ودعاوي في غاية الفساد وبلغني عن بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذب أو ينعم وتعلق بالحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الخبر صحيح إلا أنه لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن عجب الذنب يحيا ولا أنه يركب فيه حياة ولا أنه يعذب ولا ينتقم وهذا كله مفحم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما في الحديث أن عجب الذنب خاصة لا يأكله التراب فلا يحول تراباً وأنه منه ابتداء خلق المرء ومنه يبتدأ إنشاؤه ثانية فقط وهذا خارج أحسن خروج على ظاهره وأن عجب الذنب خاصة تتبدد أجزاؤه وهي عظام تحسها لا تحول تراباً وأن الله تعالى يبتدئ الإنشاء الثاني يجمعها ثم يركب تمام الخلق للإنسان عليه وأنه أول ما خلق من جسم الإنسان ثم ركب عليه سائره وإذ هذا ممكن لو لم يأت به نص فخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالتصديق من كل خبر لأنه عن الله عز وجل قال تعالى ‏"‏ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏"‏ و قال أبو بكر بن كيسان الأصم لا أدري ما الروح ولم يثبت شيء غير الجسد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هاتين الم قال تين في باب الكلام في الروح والنفس من كتابنا هذا بحول الله وقوته والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قال ه الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لا يتعداه فهو البرهان الواضحوهو أن الله تعالى قال ‏"‏ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ‏"‏ فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهي العاقلة الحساسة وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وماء ثم أقرها تعالى حيث شاء لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها عز وجل حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت لا تزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء كما قال تعالى ‏"‏ ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى ‏"‏ و قال عز وجل ‏"‏ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً ‏"‏ الآية وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح وهذا نص قولنا والحمد لله فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى بع عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه السلام وأرواح أهل السقاوة عن يساره عليه السلام وذلك عند منقطع العناصر وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه و قال على هذا أجمع أهل العلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهو قول جميع أهل الإسلام حتى خالف من ذكرنا وهذا هو قول الله عز وجل ‏"‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ‏"‏ ولا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور فتقوم الساعة ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد وهي الحياة الثانية ويحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين أبداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قول بعض الأشعرية معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المأخوذ في قول الله عز وجل ‏"‏ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ‏"‏ إن إذ هاهنا بمعنى إذا فقول في غاية السقوط لوجوه خمسة أولها أنه دعوى بلا دليل والثانية أن إذ بمعنى إذا لا يعرف في اللغة وثالثها أنه لو صح له تأويله هذا الفاسد وهو لا يصح لكان كلاماً لا يعقل ولا يفهم وإنما أورده عز وجل حجة علينا ولا يحتج الله عز وجل إلا بما يفهم لا بما لا يفهم لأن الله تعالى قد تطول علينا بإسقاط الأصر عنا ولا أصر أعظن من تكليفنا فهم ما ليس في بنيتنا فهمه ورابعها أنه لو كان كما ادعى لما كان على ظهر الأرض إلا مؤمن والعيان يبطل هذا لأننا نشاهد كثيراً من الناس لم يقولوا قط ربنا الله ممن نشأ على الكفر وولد عليه إلى أن مات وممن يقول بأن العالم لم يزل ولا محدث له من الأوائل والمتأخرين وخامسها أن الله عز وجل إنما أخبر بهذه الآية عما فعل ودلنا بذلك على أن الذكر يعود بعد فراق الروح للجسد كما كان قبل حلوله فيه لأنه تعالى أخبرنا أنه أقام علينا الحجة بذلك الإشهاد دليلاً كراهية أن نقول يوم القيامة أنا كنا نحن فيها عن هذا غافلين أي عن ذلك الإشهاد المذكور فصح أن ذلك الإشهاد قبل هذه الدار التي نحن فيها التي أخبرنا الله عز وجل فيها بذلك الخبر وقبل يوم القيامة أيضاً فبطل بذلك قول بعض الأشعرية وغيرها وصح أن قولنا هو نص الآية والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإنما أتى المخالفون منهم أنهم عقدوا على أقوال ثم راموا رد كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها وهذا هو الباطل الذي لا يحل ونحن ولله الحمد إنما أتينا إلى ما قال ه عز وجل وما صح عن رسول صلى الله عليه وسلم فقلنا به ولم نحكم في ذلك بطراً ولا هوى ولا رددناهما إلى قول أحد بل رددنا جميع الأقوال إلى نصوص القرآن والسنن والحمد لله رب العالمين كثيراً وهذا هو الحق الذي لا يحق تعديه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما أرواح الأنبياء عليهم السلام فهم الذين ذكر الله تعالى أنهم المقربون في جنات النعيم وأنهم غير أصحاب اليمين وكذلك أخبر عليهم السلام أنه رآهم في السموات ليلة أسرى به في سماء سماء وكذلك الشهداء أيضاً هم في الجنة لقول الله عز وجل ‏"‏ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ‏"‏ وهذا الرزق للأرواح بلا شك ولا يكون إلا في الجنة وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي روي نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش وروينا هذا الحديث مبيناً من طريق ابن مسعود رضي الله عنه وأنهم الشهداء وبهذا تتألف الأحاديث والآيات والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل كيف تخرج الأنبياء عليهم السلام والشهداء من الجنة إلى حضور الموقف يوم القيامة قيل له وبالله التوفيق لسنا ننكر شهادة القرآن والحديث الصحيح بدخول الجنة والخروج عنها قبل يوم القيامة فقد خلق الله عز وجل فيها آدم عليه السلام وحواء ثم أخرجهما منها إلى الدنيا والملائكة في الجنة ويخرجون منها برسالات رب العالمين إلى الرسل والأنبياء إلى الدنيا وكل ما جاء به نص قرآن أو سنة فلا ينكره إلا جاهل أو مغفل أو رديء الدين وأما الذي ينكر ولا يجوز أن يكون البتة فخروج روح من دخل الجنة إلى النار فالمنع من هذا إجماع من جميع الأمة متيقن مقطوع به وكذلك من دخلها يوم القيامة جزاء أو تفضلاً من الله عز وجل فلا سبيل إلى خروجه منها أبداً بالنص وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام على من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم فقال ت الأزارقة من الخوارج أما أطفال المشركين ففي النار وذهبت طائفة إلى أنهم يوقد لهم يوم القيامة نار ويؤمرون باقتحامها فمن دخلها منهم دخل الجنة ومن لم يدخلها منهم أدخل النار وذهب آخرون إلى الوقوف فيهم وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأما الأزارقة فاحتجوا بقول الله تعالى حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال ‏"‏ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً أنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ‏"‏ ويقول روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قلت يا رسول الله أين أطفالي منك قال في الجنة قال ت فأطفال من غيرك قال في النار فأعادت عليه فقال لها إن شئت أسمعتك تضاغيهم وبحديث آخر فيه الوائدة والموءودة في النار و قالوا إن كانوا عندكم في الجنة فهم مؤمنون لأنه لا يدخل الجنة الأنفس مسلمة فإن كانوا مؤمنين فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين وأن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين أبيه فتكون ردة وخروجاً عن الإسلام والكفر وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من أقاربه من المسلمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا كلما احتجوا به ما يعلم لهم حجة غير هذا أصلاً وكله لا حجة لهم فيه البتة أما قول نوح عليه السلام فلم يقل ذلك على كل كافر بل قال ذلك على كفار قومه خاصة لأن الله تعالى قال له ‏"‏ أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن ‏"‏ فأيقن نوح عليه السلام بهذا الوحي أنه لا يحدث فيهم مؤمن أبداً وإن كل من ولدوه إن ولدوه لم يكن إلا كافراً ولا بد وهذا هو نص الآية لأنه تعالى حكي أنه قال ‏"‏ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ‏"‏ وإنما أراد كفار وقته الذين كانوا على الأرض حينئذ فقط ولو كان للأزارقة أدنى علم وفقه لعلموا أن هذا من كلام نوح عليه السلام ليس على كل كافر لكن على قوم نوح خاصة لأن إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم كانا أبواهما كافرين مشركين وقد ولدا خير الأنس والجن من المؤمنين وأكمل الناس إيماناً ولكن الأزارقة كانوا أعراباً جهالاً كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الأسود بن سريع التميمي أنه عليه السلام قال أوليس خياركم أولاد المشركين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهل كان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم الذين يتولاهم الأزارقة كابن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وخديجة أم المؤمنين وغيرهم رضي الله عنهم إلا أولاد الكفار فهل ولد آباؤهم كفاراً وهل ولدوا إلا أهل الإيمان الصريح ثم آباء الأزارقة أنفسهم كوالدنا نافع ابن الأزرق وغيرهم من شيوخهم هل كانوا إلا أولاد المشركين ولكن من يضلل الله فلا هادي له وأما حديث خديجة رضي الله عنها فساقط مطرح لم يروه قط من فيه خير وأما حديث الوائدة فإنه جاء كما نذكره حدثنا يوسف بن عبد البر أنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التميمي قال سمعت داود بن أبي هند يحدث عن عامر الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا له أن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتصل الرحم فهل ينفعها من عملها ذلك شيء قال لا قلنا فإن أمنا وأدت أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الموءودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه اللفظة يعني لم تبلغ الحنث ليست بلا شك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه فلما أخبر عليه السلام بأن تلك الموءودة في النار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما أنها لم تبلغ الحنث وتصحيحها لأنها قد كانت بلغت الحنث بخلاف ظنها لا يجوز إلا هذا القول لأن كلامه عليه السلام لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه عز وجل بل كلامه عليه السلام يصدق بعضه بعضاً ويوافق لما أخبر به عز وجل ومعاذ الله من غير ذلك وقد صح أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن أطفال المشركين في الجنة قال الله تعالى ‏"‏ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ‏"‏ فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة فكان هذا مبين لأن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن تلك الموءودة في النار أخبار عن أنها قد كانت بغت الحنث بخلاف ظن أخويها وقد روي هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن عدي وليس هو دون المعتمر ولم يذكر فيه لم تبلغ الحنث ورواه أيضاً داود بن أبي هند عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر فأما حديث عبيدة فحدثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال أنا وهب بن ميسرة قال حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيدة ابن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا كانت تقرى الضيف وتصل الرحم في الجاهلية فهل ينفعها ذلك شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لنا في الجاهلية فهل ينفع ذلك أختنا شيئاً قال لا الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الإسلام فيعفوا الله عنها وأما حديث ابن أبي عدي فحدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري حدثنا أبو بدر عبد بن أحمد الهروي الأنصاري حدثنا أبو محمد سعيد الخليل بن أحمد السجستاني حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود ابن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال انطلقت أنا وأخي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله إن مليكة كانت تصل الرحم وتقرى الضيف وتفعل هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لها في الجاهلية فهل قال أبو محمد‏:‏ هكذا رويناه لها بالهاء على أنها أخت الوائدة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا حديث قد رويناه مختصراً كما حدثاه عبد الله ابن ربيع التميمي حدثنا عمر ابن عبد الملك الخولاني حدثنا محمد ابن بكر الوراق البصري حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثني أبي عن عامر الشعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوائدة والموءودة في النار قال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال أبي فحدثني أبو إسحاق بن عامر حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا مختصر وهو على ما ذكرنا أنه عليه السلام إنما عنى بذلك التي بلغت لا يجوز غير هذا لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من آبائهم فإنما قال ه عليه السلام في الحكم لا في الدين ولله تعالى أن يفرق بين أحكام عباده ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وأيضاً فلا متعلق لهم بهذا اللفظ أصلاً لأنه إنما فيه أنهم من آبائهم وهذا لا شك فيه أنهم توالدوا من آبائهم ولم يقل عليه السلام أنهم على دين آبائهم وأما قولهم ينبغي أن تصلوا على أطفال المشركين وتورثوهم وترثوهم وأن لا تتركونهم يلتزموا دين آبائهم إذا بلغوا فإنها ردة فليس لهم أن يعترضوا على الله تعالى فليس تركنا الصلاة عليهم يوجب أنهم ليسوا مؤمنين فهؤلاء الشهداء وهم أفاضل المؤمنين لا يصلى عليهم وأما انقطاع المواريث بيننا وبينهم فلا حجة في ذلك على أنهم ليسوا مؤمنين فإن العبد مؤمن فاضل لا يرث ولا يورث وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر إذا مات وكثير من الفقهاء يورثون الكافر مال العبد من عبيده يسلم ثم يموت قبل أن يباع عليه وكثير من الفقهاء يورثون المسلمين مال المرتد إذ مات كافراً مرتداً وقتل على الردة وهذا معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومسروق بن الأجدع وغيرهم من الأئمة رضي الله عنهم يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا ولله تعالى أن يفرق بين أحكام من شاء من عباده وإنما نقف حيث أوقفنا النص ولا مزيد وكذلك دفنهم في مقابر آبائهم أيضاً وكذلك تركهم يخرجون إلى أديان آبائهم إذا بلغوا فإن الله تعالى أوجب علينا أن نتركهم وذلك ولا نعترض على أحكام الله عز وجل ولا يسأل عما يفعل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود على الملة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه‏.‏

قال أبو محمد فبطل أن يكون لهم في شيء مما ذكرنا متعلق وإنما هو تشغيب موهوا به لأن كا ما ذكرنا فإنما هي أحكام مجردة فقط وليس في شيء من هذه الاستدلالات نص على أن أطفال المشركين كفار ولا على أنهم غير كفار وهذه النكتتان هما اللتان قصدنا بالكلام فقط وبالله تعالى التوفيق وأما من قال فيهم بالوقف فإنهم احتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الأطفال يموتون فقال عليه السلام الله أعلم بما كانوا عاملين وبقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ مات صبي من أبناء الأنصار فقال ت عصفور من عصافير الجنة فقال لها عليه السلام وما يدريك يا عائشة أن الله خلق خلقاً للنار وهم في أصلاب آبائهم‏.‏

قال أبو محمد وهذان الخبران لا حجة لهم في شيء منهما إلا أنهما إنما قال هما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة وقد قال تعالى آمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ‏"‏ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ‏"‏ قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخير وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه وما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي وكان هذا قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدر أو هو عليه السلام لا يقول إلا ما جاء به الوحي كما أمر الله عز وجل أن يقول ‏"‏ أن اتبع إلا ما يوحى إلي ‏"‏ فحكم كل شيء من الدين لم يأت به الوحي أن يتوقف فيه المرء فإذا جاء للبيان فلا يحل التوقف عن القول بما جاء به النص وقد صح الإجماع على أن ما علمت الأطفال قبل بلوغهم من قتل أو وطئ أجنبية أو شرب خمر أو قذف أو تعطيل صلاة أو صوم فإنهم غير مؤاخذين في الآخرة بشيء من ذلك ما لم يبلغوا وكذلك لا خلاف في أنه لا يؤاخذ الله عز وجل أحداً بما لم يفعله بل قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فمن المحال المنفي أن يكون الله عز وجل يؤاخذ الأطفال بما لم يعملوا مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بما عملوا ولا يختلف اثنان في أن إنساناً بالغاً مات مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بالزنا الذي لم يعمله وقد أكذب الله عز وجل من ظن هذا بقوله الصادق ‏"‏ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏"‏ فصح أنه لا يجزي أحد بما لم يعمل ولا مما لم يسن فصح أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أعلم بما كانوا عاملين به مما لم يعملوه بعد وفي هذا اختلفنا لا فيما عداه وإنما فيه أن الله تعالى يعلم ما لم يكن وما لا يكون لو كان كيف كان يكون فقط ونعم هذا حق لا يشك فيه مسلم فبطل أن يكون لأهل التوقف حجة في شيء من هذين الخبرين إذ لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بيان وأما من قال أنهم يعذبون بعذاب آبائهم فباطل لأن الله تعالى يقول ‏"‏ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ‏"‏ وأما من قال أنهم توقد لهم نار فباطل لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجانين وفيمن لا يبلغه ذكر الإسلام من البالغين على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد فلما بطلت هذه الأقاويل كلها وجب النظر فيما صح من النصوص من حكم هذه المسألة ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال ‏"‏ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ‏"‏ و قال عز وجل ‏"‏ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ‏"‏ فنص عز وجل على أن فطر الناس على الإيمان وأن الإيمان هو صبغة الله تعالى و قال عز وجل ‏"‏ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ‏"‏ فصح يقيناً أن كل نفس خلقها الله تعالى من بني آدم ومن الجن والملائكة فمؤمنون كلهم عقلاً مميزون فإذ ذلك كذلك فقد استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم حاشا من بدل هذا العهد وهذه الفطرة وهذه الصبغة وخرج عنها إلى غيرها ومات على التبديل وبيقين ندري أن الأطفال لم يغيروا شيئاً من ذلك فهم من أهل الجنة وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وروي عنه عليه السلام أنه قال على الملة فأباه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاً وهل يجدون فهيا من جدعاء حتى تكونوا أنتم الذي تجدعونها وهذا تفسير الآيات المذكورات حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق السكن حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث حدثنا الحسن بن علي حدثنا الحجاج بن المنهال قال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث أخذ الله العهد عليهم في أصلاب آبائهم حيث قال ‏"‏ ألست بربكم قالوا بلى ‏"‏ وقد صح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عياض بن حمار المجاشعي قال عن الله تعالى أنه قال خلقت عبادي حفناء كلهم فاجتالهم الشياطين عن دينهم فصح يقيناً أنه كل من مات قبل أن تجتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفاً وهذا حديث تدخل فيه الملائكة والجن والإنس عباد له عز وجل مخلوقين وأيضاً فإن الله عز وجل أخبر بقول إبليس له تعالى أن يغوي الناس فقال تعالى ‏"‏ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ‏"‏ فصح يقيناً أن الغواية داخلة على الإيمان وأن الأصل من كل واحد فهو الإيمان وكل مؤمن ففي الجنة وأيضاً فإن الله تعالى قال ‏"‏ فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏ وليست هذه صفة الصبيان فصح أنهم لا يدخلون النار ولا دار إلا الجنة أو النار فإذا لم يدخلوا النار فهم بلا شك في الجنة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا الكبيرة التي رآها أنه رأى إبراهيم عليه السلام في روضة خضراً مفتخر وفيها من كل نور ونعيم وحواليه من أحسن صبيان وأكثرهم فسأل عليه السلام عنهم فأخبر أنهم من مات من أولاد الناس قبل أن يبلغوا فقيل له يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين فارتفع الإشكال وصح بالثابت من السنن وصحيحها أن جميع من لم يبلغ من أطفال المسلمين والمشركين ففي الجنة ولا يحل لأحد تعدى ما صح بالقرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إذا قلتم أن النار دار جزاء فالجنة كذلك ولا جزاء للصبيان قلنا وبالله تعالى التوفيق إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة قد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط وأن الجنة دار جزاء وتفضل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم ولمن لا عمل له دار تفضل من الله تعالى مجرد وقد قال قوم أن الصبان هم خدم أهل الجنة وقد ذكر الله تعالى الوالدان المخلدين في غير موضع من كتابه وأنهم خدم أهل الجنة فلعلهم هؤلاء والله أعلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما المجانين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم كما ذكرنا يولدون على الملة حفناء مؤمنين ولم يغيروا ولا بدلوا فماتوا مؤمنين فهم في الجنة حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي بالثغري قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن المفرج القاضي حدثنا محمد بن أيوب السموط البرقي أنبأنا محمد بن عمر بن عبد الخالق البزاز حدثنا محمد بن المثني أبو موسى الزمن حدثنا معاذ بن هشام الدستواني حدثنا أبي عن قتادة عن الأسود بن سريع التميمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعرض على الله الأصم الذي لا يسمع شيئاً والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً ويقول الأحمق جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ويقول الذي مات في الفترة ما أتانا لك من رسول قال البزاز وذهب عني ما قال الرابع قال فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله إليهم ادخلوا النار فوا الذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلام‏.‏

الكلام في القيامة وتغيير الأجساد

اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيمة وعلى تكثير من أنكر ذلك ومعنى هذا القول أن لمكث الناس وتناسلهم في دار الابتلا التي هي الدنيا أمداً يعلمه الله تعالى فإذا انتهى ذلك الأمد مات كل من في الأرض ثم يحيى الله عز وجل كل من مات مذ خلق الله عز وجل الحيوان إلى انقضاء الأمد المذكور ورد أرواحهم التي كانت بأعيانها وجمعهم في موقف واحد وحاسبهم عن جميع أعمالهم ووفاهم جزاؤهم ففريق من الجن والإنس في الجنة وفريق في السعير وبهذا جاء القرآن والسنن قال تعالى ‏"‏ من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وإن الله يبعث من في القبور ‏"‏ و قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال ‏"‏ رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ‏"‏ إلى آخر الآية و قال تعالى ‏"‏ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ‏"‏ و قال تعالى فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبث مائة عام ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً ‏"‏ الآية و قال تعالى عن المسيح عليه السلام ‏"‏ وأحيي الموتى بإذن الله ‏"‏ ولا يمكن البتة أن يكون الإحيا المذكور في جميع هذه الآيات إلا رد الروح إلى الجسد ورجوع الحس والحركة الإرادية التي بعد عدمها منه لم يكن غير هذا البتة إلا أن أبا العاص حكم بن المنذر بن سعيد القاضي أخبرني عن إسماعيل بن عبد الله الرعيني أنه كان ينكر بعث الأجساد ويقول أن النفس حال فراقها الجسد تصير إلى معادها في الجنة أو النار ووقفت على هذا القول بعض العارفين بإسماعيل فذكر لي ثقاة منهم أنهم سمعوه يقول أن الله تعالى يأخذ من الأجساد جزء الحياة منها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تلبيس من القول لم يخرج به عن ما حكي لي عنه حكم بن المنذر لأنه ليس في الأجساد جزء الحياة إلا النفس وحدها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولم ألق إسماعيل الرعيني قط على أني قد أدركته وكان ساكناً معي في مدينة من مداين الأندلس تسمى نجاية مدة ولكنه كان مختفياً وكان له اجتهاد عظيم ونسك وعبادة وصلاة وصيام والله أعلم وحكم بن المنذر ثقة في قوله بعيد من الكذب وتبرأ منه حكم بن المنذر وكان قبل ذلك يجمعهما مذهب بن مسرة في القدر وتبرأ منه أيضاً إبراهيم بن سهل الأريواني وكان من روس المرية وتبرأ منه أيضاً صهره أحمد الطبيب وجماعة من المرية وتولته جماعة منهم وبلغني عنه أنه كان يحتج لقوله هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقف على ميت فقال أما هذا فقد قامت قيامته وبأنه عليه السلام كانت الأعراب تسأله عن الساعة فينظر إلى أصغرهم فيخبرهم أنه استوفى عن يمت حتى تقوم قيامتهم أو ساعتهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإنما عني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا قيام الموت فقط بعد ذلك إلى يوم البعث كما قال عز وجل ‏"‏ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ‏"‏ فنص تعالى على أن البعث يوم القيامة بعد الموت بلفظة ثم التي هي للمهلة وهكذا أخبر عز وجل عن قولهم يوم القيامة ‏"‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ‏"‏ وأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة وأنه يحيي العظام ويبعث من في القبور في مواضع كثيرة من القرآن وبرهان ضروري وهو أن الجنة والنار موضعان ومكانان وكل موضع ومكان ومساحة متناهية بحدوده بالبرهان الذي قدمنا على وجوب تناهي الإجسام وتناهى كل ما له عدد وبقول الله تعالى ‏"‏ جنة عرضها السماوات والأرض ‏"‏ فلو لم يكن لتولد الخلق نهاية لكانوا أبداً يحدثون بلا آخر وقد علمنا أن مصيرهم الجنة أو النار ومحال ممتنع غير ممكن أن يسع ما لا نهاية له فيما له نهاية من الأماكن فوجب ضرورة أن للخلق نهاية فإذ ذلك واجب فقد وجب تناهى عالم الذر والتناسل ضرورة وإنما كلامنا هذا مع من يؤمن بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وادعى الإسلام وأما من أنكر الإسلام فكلامنا معه على ما رتبناه في ديواننا هذا من النقض على أهل الإلحاد حتى تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فنرجع إليه بعد التنازع وبالله تعالى التوفيق وقد نص الله تعالى على أن العظام يعيدها ويحييها كما كانت أول مرة وأما اللحم فإنما هو كسوة كما قال ‏"‏ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ‏"‏ فأخبر عز جل أن عنصر الإنسان إنما هو العظام الذي انتقلت عن السلالة التي من طين إلى النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام وأن اللحم كسوة العظام وهذا أمر مشاهد لأن اللحم يذهب بالمرض حتى لا يبقى منه ما لا قدر له ثم يكثر عليه لحم آخر إذا خصب الجسم وكذلك أخبرنا عز وجل أنه يبدل الخلق في الآخرة فقال ‏"‏ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ‏"‏ وفي الآثار الثابتة أن جلود الكفار تغلظ حتى تكون نيفاً وسبعين ذراعاً وأن ضرسه في النار كأحد وكذلك نجد اللحم الذي في جسد الإنسان يتغذى به حيوان آخر فيستحيل لحماً لذلك الحيوان إذ ينقلب دوداً فصح بنص القرآن العظام هي التي تحيى يوم القيامة ومن أنكر ما جاء به القرآن فلا حظ له في الإسلام

 الكلام في خلق الجنة والنار

ذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أن الجنة والنار لم يخلقا بعد وذهب جمهور المسلمين إلى أنهما قد خلقتا وما نعلم لمن قال أنهما لم يخلقا بعد حجة أصلاً أكثر من أن بعضهم قال قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وذكر أشياء من أعمال البر من عملها غرس له في الجنة كذا وكذا شجرة وبقول الله تعالى حاكياً عن امرأة فرعون أنها قال ت ‏"‏ رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ‏"‏ قالوا ولو كانت مخلوقة لم يكن في الدعاء في استئناف البناء والغرس معنى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإنما قلنا أنهما مخلوقتان على الجملة كما أن الأرض مخلوقة ثم يحدث الله تعالى فيها ما يشاء من البنيان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والبرهان على أنهما مخلوقتان بعد أخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة ليلة الإسراء وأخبر عليه السلام أنه رأى سدرة المنتهى في السماء السادسة و قال تعالى ‏"‏ عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ‏"‏ فصح أن جنة المأوى هي السماء السادسة وقد أخبر الله عز وجل أنها الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة فقال تعالى ‏"‏ لهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون ‏"‏ فليس لأحد بعد هذا أن يقول أنها جنة غير جنة الخلد وأخبر عليه السالم أنه رأي الأنبياء عليهم السلام في السماوات سماء سماء ولا شك في أن أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الجنة فصح أن الجنات هي السماوات وكذلك أخبر عليه السلام أن الفردوس الأعلى من الجنة التي أمرنا الله تعالى أن نسأله إياها فوقها عرش الرحمن والعرش مخلوق بعد الجنة فالجنة مخلوقة وكذلك أخبر عليه السلام أن النار اشتكت إلى رباه فأذن لها بنفسين وأن ذلك أشد ما نجده من الحر والبرد وكان القاضي منذر بن سعيد يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول أنها ليست التي كان في آدم عليه السلام وامرأته واحتج في ذلك بأشياء منها أنه لو كانت جنة الخلد لما أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين واحتج أيضاً بأن جنة الخلد لا كذب فيها وقد كذب فيها إبليس و قال من دخل الجنة لم يخرج منها وآدم وامرأته عليهما السلام قد خرجا منها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كل هذا لا دليل له فيه أما قوله أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين فقد علمنا أن أكله من الشجرة لم يكن ظنه في صواباً ولا أكله لها صواباً وإنما كان ظناً ولا حجة فيما كان هذه صفته والله عز وجل لم يخبره بأنه مخلد في الجنة بل قد كان في علم الله تعالى أنه سيخرجه منها فأكل عليه السلام من الشجرة رجاء الخلد الذي لم يضمن له ولا تيقن به لنفسه وأما قوله أن الجنة لا كذب فيها وأن من دخلها لم يخرج منها وقد كذب فيها إبليس وقد خرج منها آدم وامرأته فهذا لا حجة له فيه وإنما تكون كذلك إذا كانت جزاء لأهلها كما أخبر عز وجل عنها حيث يقول ‏"‏ لا تسمع فيها لاغية ‏"‏ فإنما هذا على المستأنف لا على ما سلف ولا نص معه على ما ادعى ولا إجماع واحتج أيضاً بقول الله عز وجل لآدم عليه السلام ‏"‏ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ‏"‏ قال وقد عرى فيها آدم عليه السلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا يحجة فيه بل هو حجة عليه لأن الله عز وجل وصف الجنة التي أسكن فيها آدم بأنها لا يجاع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى وهذه صفة الجنة بلا شك وليس في شيء مما دون السماء مكان هذه صفته بلا شك بل كل موضع دون السماء فإنه لا بد أن يجاع فيه ويعرى ويظمأ ويضحى ولا بد من ذلك ضرورة فصح أنه إنما سكن المكان الذي هذه صفته وليس هذا غير الجنة البتة وإنما عرى آدم حين أكل من الشجرة فأهبط عقوبة له و قال أيضاً قال الله عز وجل ‏"‏ لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ‏"‏ وأخبر آدم أنه لا يضحى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا أعظم حجة عليه لأنه لو كان في المكان الذي هو فيه شمس لأضحى فيه ولا بد فصح أن الجنة التي أسكن فيها آدم كانت لا شمس فيها فهي جنة الخلد بلا شك وأيضاً فإن قوله عز وجل ‏"‏ اسكن أنت وزوجك الجنة ‏"‏ إشارة إلى بالألف واللام ولا يكون ذلك إلى على معهود ولا تنطلق الجنة هكذا إلا على جنة الخلد ولا ينطلق هذا الاسم على غيرها إلا بالإضافة وأيضاً فلو أسكن آدم عليه السلام جنة في الأرض لم كان في إخراجه منها إلى غيرها من الأرض عقوبة بل قد بين تعالى أنها ليست في الأرض بقوله تعالى ‏"‏ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏"‏ فصح يقيناً بالنص أنه قد أهبط من الجنة إلى الأرض فصح أنها لم تكن في الأرض البتة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في بقاء أهل الجنة والنار أبداً

قال أبو محمد‏:‏ اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها ولا للنار ولا لعذابها الأجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوماً من الروافض فأما جهم فقال أن الجنة وانلار يفنيان ويفنى أهلهما و قال أبو الهذيل أن الجنة والنار لا يفنيان ولا يفنى أهلهما إلا أن حركاتهم تفنى ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون و قال ت تلك الطائفة من الروافض أن أهل الجنة يخرجون من الجنة وكذلك أهل النار إلى حيث شاء الله‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما هذه الم قال ة ففي غاية الغثاثة والتعري من شيء يشغب به فكيف من إقناع أو برهان وما كان هكذا فهو ساقط وأما قول أبي الهذيل فإنه لا حجة له إلا أنه قال كلما قال أبو محمد‏:‏ فظن أبو الهذيل لجهله بحدود الكلام وطبايع الموجودات أن ما لم يخرج إلى الفعل فإنه يقع عليه العدد وهذا خطأ فاحش لأن ما لم يخرج إلى الفعل فليس شيئاً ولا يجوز أن يقع العدد إلا على شيء وإنما يقع العدد على ما خرج إلى الفعل من حركات أهل النار والجنة متى ما خرج فهو محدود متناه وهكذا أبداً وقد أحكمنا هذا المعنى في أول هذا الكتاب في باب إيجاب حدوث العالم وتناهي الموجودات فأغنى عن إعادته وبالله تعالى التوفيق فبطل ما موه به أبو الهذيل ولله الحمد ثم نقول أن قوله هذا خلاف للإجماع المتيقن وأيضاً فإن الذي فر منه في الحركات فإنه لازم له في مدد سكونهم وتنعمهم وتألمهم لأنه مقر بأنهم يبقون ساكنين متنعمين متألمين بالعذاب وبالضرورة ندري أن للسكون والنعيم والعذاب مدداً يعد كل ذلك كما تعد الحركة ومددها ولا فرق أيضاً فلو كان ما قال ه أبو الهذيل صحيحاً لكان أهل الجنة في عذاب واصب وفي صفة المخدور والمفلوج ومن أخذه الكابوس ومن سقى البنج وهذا غاية النكد والشقاء ونعوذ بالله من هذا الحال وأما جهم بن صفوان فإنه احتج بقول الله تعالى ‏"‏ وأحصى كل شيء عدداً ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ كل شيء هالك إلا وجهه ‏"‏ و قال كما لا يجوز أن يوجد شيء لم يزل غير الله تعالى فكذلك لا يجوز أن يوجد شيء لا يزال غير الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما نعلم له حجة غير هذا أصلاً وكل هذا لا حجة له فيه أما قوله تعالى ‏"‏ كل شيء هالك إلا وجهه ‏"‏ فإنما عنى تعالى الاستحالة من شيء إلى شيء ومن حال إلى حال وهذا عام لجميع المخلوقات دون الله تعالى وكذلك مدد النعيم في الجنة والعذاب في النار كلما فنيت مدة أحدث الله عز وجل أخرى وهكذا أبداً بلا نهاية ولا آخر يدل على هذا ما نذكره بعد أن شاء الله تعالى من الدلائل على خلود الجنة والنار وأهلها وأما قوله تعالى ‏"‏ وأحصى كل شيء عدداً ‏"‏ فإن اسم الشيء لا يقع إلا على موجود والإحصاء لا يقع على ما ذكرنا إلا على ما خرج إلى الفعل ووجد بعد وإذا لم يخرج من الفعل فهو لا شيء بعد ولا يجوز أن يعد لا شيء وكل ما خرج إلى الفعل من مدة بقاء الجنة والنار وأهلهما فمحصي بلا شك ثم يحدث الله تعالى لهم مدداً آخر وهكذا أبداً بلا نهاية ولا آخر و قالوا هل أحاط الله تعالى علماً بجميع مدة الجنة والنار أم لا فإن قلتم لا جهلتم الله وإن قلتم نعم جعلتم مدتها محاطاً بها وهذا هو التناهي نفسه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إن الله تعالى إنما يعلم بالأشياء على ما هي عليه لأن من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فهو جاهل به مخطئ في اعتقاده ظان للباطل وليس علماً ولا حقاً ولا هو عالم به وهذا ما لا شك فيه وعلم الله عز وجل هو الحق اليقين على ما هي معلوماته عليه فكل ما كان ذا نهاية فهو في علم الله تعالى ذو نهاية ولا سبيل إلى غير هذا البتة وليس للجنة والنار مدد غير متناهية محاط بها وإنما لهما مدد كل ما خرج منها إلى الفعل فهو محصي محاط بعدده وما لم يخرج إلى الفعل فليس بمحصي لكن علم الله تعالى أحاط أنه لا نهاية لهما وأما قوله كما لا يجوز أن يوجد شيء غير الله تعالى لا نهاية له لم يزل فإن هذه قضية فاسدة وقياس فاسد لا يصح والفرق محال في الوجود كما ذكرنا في الرد على من قال بأن العالم لم يزل فأغنى عن إعادته وليس كذلك قولنا لا يزال لأن إحداث الله تعالى شيئاً بعد شيء أبداً بلا غاية متوهم ممكن لا حوالة فيه فقياس الممكن المتوهم على الممتنع المستحيل الذي لا يتوهم باطل عند القائلين بالقياس فكيف عند من لا يقول به فإن قال قائل أن كل ما ماله أول فله آخر قلنا له هذه قضية فاسدة ودعوى مجزدة وما وجب هذا قط لا بقضية عقل ولا بخبر لأن كون الموجودات لها أوائل معلوم بالضرورة لأن ما وجد بعد فقد حصره عدد زمان وجوده وكل ما حصره عدد فلذلك العدد أول ضرورة وهو قولنا واحد ثم يتمادى العدد أبداً فيمكن الزيادة بلا نهاية وتمادي الموجود بخلاف المبدأ لأنه إذا أبقى وقتاً جاز أن يبقى وقتين وهكذا أبداً بلا نهاية وكل ما خرج من مدد البقاء إلى حد الفعل فذو نهاية با شك كذلك من العدد أيضاً ولم نقل أن بقاء الناس في هذه الدنيا له نهاية إلا من النص ولو أخبر الله تعالى بذلك لأمكن وجاز أن تبقى الدنيا أبداً بلا نهاية ولكان الله تعالى قادراً على ذلك ولكن النص لا يحل خلافه وكذلك لولا قال أبو محمد‏:‏ والبرهان على بقاء الجنة والنار بلا نهاية قول الله تعالى ‏"‏ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ‏"‏ وقوله تعالى في غير موضع من القرآن ‏"‏ خالدين فيها أبدًا ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ‏"‏ مع صحة الإجماع بذلك وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص لو أقام أهل النار في النار ما شاء الله أن يبقوا لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيها منها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا إنما هو في أهل الإسلام الداخلين في النار بكبائرهم ثم يخرجون منها بالشفاعة ويبقى ذلك المكان خالياً ولا يحل لأحد أن يظن في الصالحين الفاضلين خلاف القرآن وحاشا لهما من ذلك وبالله تعالى التوفيق تم كتاب الإيمان والوعيد وتوابعه بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

 لا إله إلى الله عدة للقائه الكلام في الإمامة والمفاضلة

قال الفقيه الإمام الأوحد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قال وا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه والقرآن والسنة قد ورد بإيجاب الإمام من ذلك قول الله تعالى ‏"‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ‏"‏ مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة وأيضاً فإن الله عز وجل يقول ‏"‏ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ‏"‏ فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في بنيتهم واحتمالهم وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم إنسان ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم إما لأنها ترد في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافاً مجرداً عليهم وهذا الذي لا بد منه ضرورة وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم حق ولا حد حتى قد ذهب الدين في أكثرها فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو إلى أكثر من واحد فإذ لا بد من أحد هذين الوجهين فإن الاثنين فصاعداً بينهما أو بينهم ما ذكرنا فلا يتم أمر البتة فلم يبق وجه تتم به الأمور إلا الإسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوي على الإنفاذ إلا أنه وإن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا من الظلم ما أمكنهم إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك وإلا فكف ما قدروا على كفه منه ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك ثم اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ولا يجوز إلا إمام واحد إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين في وقت وأكثر في وقت واحد واحتج هؤلاء بقول الأنصار أو من قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير واحتجوا أيضاً بأمر علي والحسن مع معاوية رضي الله عنهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضي الله عنهم ما ذكرنا لم يكن صواباً بل كان خطأ إذا أداهم إليه الاجتهاد وخالفهم فيه المهاجرون ولا بد إذا اختلف القائلان على قولين متنافين من أن يكون أحدهما حقاً والآخر خطأ وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز وجل الرد إليه عند التنازع إذ يقول تعالى ‏"‏ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ‏"‏ فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما و قال تعالى ‏"‏ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ‏"‏ فحرم الله عز وجل التفرق والتنازع وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا وأما من طريق النظر والمصلحة فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة وأكثر فإن منع من ذلك مانع كان متحكماً بلا برهان ومدعياً بلا دليل وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في كل عالم إمام أو في كل مدينة إمام أو في كل قرية إمام أو يكون كل أحد إماماً وخليفة في منزله وهذا هو الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا فصح أن قول الأنصار رضي الله عنهم وهلة وخطأ رجعوا عنه إلى الحق وعصمهم الله تعالى من التمادي عليه وأما أمر علي والحسن ومعاوية فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنذر بخارحة تخرج من طائفتين من أمة يقتلها أولي الطائفتين بالحق فكان قاتل تلك الطائفة علي رضي الله عنه فهو صاحب الحق بلا شك وكذلك أنذر عليه السلام بأن عماراً تقتله الفئة الباغية فصح أن علياً هو صاحب الحق وكان علي السابق إلى الإمامة فصح بعد أنه صاحبها وأن من نازعه فيها فمخطئ فمعاوية رحمه الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد ولا حجة في خطأ المخطئ فبطل قول هذه الطائفة وأيضاً فإن قول الأنصار رضي الله عنهم منا أمير يخرج على أنهم إنما أرادوا أن يلي وال منهم فإذا مات ولي من المهاجرين آخر وهكذا أبداً لا على أن يكون إمامان في وقت وهذا هو الأظهر من كلامهم وأما علي ومعاوية رضي الله عنهما فما سلم قط أحدهما للآخر بل كل واحد منهما يزعم أنه المحق وكذلك كان الحسن رضي الله عنه إلى أن أسلم الأمر إلى معاوية فإذ هذا كذلك فقد صح الإجماع على بطلان قول ابن كرام وأبي الصباح وبطل أن يكون لهم تعلق في شيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على قريش فذهب أهل السنة وجميع الشيعة وبعض المعتزلة وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش خاصة من كان من ولد فهر بن مالك وأنها لا تجوز فيمن كان أبوه من غير بني فهر بن مالك وإن كانت أمه من قريش ولا في حليف ولا في مولى وذهبت الخوارج كلها وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جايزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشياً كان أو عربياً أو ابن عبد و قال ضرار بن عمرو الغطفاني إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة فالواجب أن يقدم الحبشي لأنه قال أبو محمد‏:‏ وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك خاصة نقول بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الأئمة من قريش وعلى أن الإمامة في قريش وهذه رواية جاءت مجيء التواتر ورواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومعاوية وروي جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها ومما يدل على صحة ذلك إذعان الأنصار رضي الله عنهم يوم السقيفة وهم أهل الدار والمنعة والعدة والعدد والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحق لغيرهم في ذلك فإن قال قائل أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش يدخل في ذلك الحليف والمولى وابن الأخت لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مولي القوم منهم ومن أنفسهم وابن أخت القوم منهم فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الإجماع قد تيقن وصح على أن حكم الحليف والمولى وابن الأخت كحكم من ليس له حليف ولا مولى ولا ابن أخت فمن أجاز الإمامة في غير هؤلاء جوزها في هؤلاء ومن منعها من غير قريش منعها من الحليف والمولى وابن الأخت فإذا صح البرهان بأن لا يكون إلا في قريش لا فيمن ليس قرشياً صح بالإجماع أن حليف قريش ومولاهم وابن أختهم كحكم من ليس قرشياً وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ و قال قوم أن اسم الإمامة قد يقع على الفقيه العالم وعلى متولي الصلاة بأهل مسجد ما قلنا نعم لا يقع على هؤلاء إلا بالإضافة لا بالإطلاق في قال فلان إمام في الدين وإمام بني فلان فلا يطلق لأحدهم اسم الإمامة بلا خلاف من أحد من الأمة إلا على المتولي لأمور أهل الإسلام فإن قال قائل بأن اسم الإمارة واقع بلا خلاف على من ولي جهة من جهات المسلمين وقد سمي بالأمارة كل من ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جهة من الجهات أو سرية أو جيشاً وهؤلاء مؤمنون فما المانع من أن يوقع على كل واحد اسم أمير المؤمنين فجوابنا وبالله التوفيق أن الكذب محرم بلا خلاف وكل ما ذكرنا فإنما هو أمير لبعض المؤمنين لا لكلهم فلو سمي أمير المؤمنين لكان مسميه بذلك كاذباً لأن هذه اللفظة تقتضي عموم جميع المؤمنين وهو ليس كذلك وإنما هو أمير بعض المؤمنين فصح أنه ليس يجوز البتة أن يوقع اسم الإمامة مطلقاً ولا اسم أمير المؤمنين إلا على القرشي المتولي لجميع أمور المؤمنين كلهم أو الواجب له ذلك وإن عصاه كثير من المؤمنين وخرجوا عن الواجب عليهم من طاعته والمفترض عليهم من بيعته فكانوا بذلك فئة باغية حلالاً قتالهم وحربهم وكذلك اسم الخلافة بإطلاق لا يجوز أيضاً إلا لمن هذه صفته وبالله التوفيق واختلف القائلون بأن الإمامة لا تجوز إلا في صلبة قريش فقالت طائفة هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة و قالت طائفة لا تجوز الخلافة إلى في ولد العباس بن عبد المطلب وهو قول الراوندية و قالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد علي ابن أبي طالب ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب وأبو لهب والحارث والعباس وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس وكان له في ذلك تأليف مجموع وروينا كتاباً مؤلفاً لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا لولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأما هذه الفرق الأربع فما وجدنا لهم شبهة يستحق أن يشتغل بها إلا دعاوي كاذبة لا وجه لها وإنما الكلام مع الذين يرون الأمر لولد العباس أو لولد علي فقط لكثرة عددهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ احتج من ذهب إلى أن الخلافة لا تجوز إلى في ولد العباس فقط على أن الخلفاء من ولده وكل من له حظ من علم من غير الخلفاء منهم لا يرضون بهذا ولا يقولون به لكن تلك الطائفة قالت كان العباس عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه فإذا كان ذلك قال أبو محمد‏:‏ وهذا ليس بشيء لأن ميراث العباس رضي الله عنه لو وجب له لكان ذلك في المال خاصة وأما المرتبة فما جاء قط في الديانات أنها تورث فبطل هذا التمويه جملة ولله الحمد ولو جاز أن تورث المراتب لكان من ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكاناً ما إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ووارثه وهذا ما لا يقولونه فكيف وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة حاشا الروافض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل ‏"‏ وورث سليمان داود ‏"‏ وبقوله تعالى حاكياً عن زكريا عليه السلام أنه قال ‏"‏ فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا حجة فيه لأن الرواة حملة الأخبار وجميع التواريخ القديمة كلها وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلاً يوجب العلم أن داود عليه السلام كان له بنون غير سليمان عليه السلام فصح أنه ورث النبوة وبرهان ذلك أنهم كلهم مجمعون على أنه عليه السلام ولي مكان أبيه عليهما السلام وليس له إلا اثنتي عشرة سنة ولداود أربعة وعشرون ابناً كباراً وصغاراً وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا عليهما السلام وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قوله عليه السلام ‏"‏ يرثني ويرث من آل يعقوب ‏"‏ وهم مئوا ألوف يرث عنه النبوة فقط وأيضاً فمن المحال أن يرغب زكريا عليه السلام في ولد يحجب عصبته عن ميراث فإنما يرغب في هذه الخطة ذو الحرص على الدنيا وحطامها وقد نزه الله عز وجل مريم عليها السلام التي كانت في كفالته من المعجزات قال تعالى ‏"‏ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ إنك سميع الدعاء ‏"‏ وعلى هذا المعنى دعا ف قال ‏"‏ هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً ‏"‏ وأما من اغتر بقوله تعالى حاكياً عنه عليه السلام أنه قال ‏"‏ وإني خفت الموالي من ورائي ‏"‏ قيل له بطلان هذا الظن أن الله تعالى لم يعطه ولداً يكون له عقب فيتصل الميراث لهم بل أعطاه ولداً محصوراً لا يقرب النساء قال تعالى ‏"‏ وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ‏"‏ فصح ضرورة أنه عليه السلام إنما طلب ولداً نبياً لا ولداً يرث المال وأيضاً فلم يكن العباس محيطاً بميراث النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان يكون له ثلاثة أثمانه فقط وأما ميراث المكانة فقد كان العباس رضي الله عنه حياً قائماً إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم فما ادعي العباس لنفسه قط في ذلك حقاً لا حينئذ ولا بعد ذلك وجاءت الشورى فما ذكر فيها ولا أنكر هو ولا غيره ترك ذكره فيها فصح أنه رأى محدث فاسد لا وجه للاشتغال به والخلفاء من ولده والأفاضل منهم من غير الخلفاء لا يرون لأنفسهم بهذه الدعوى ترفعاً عن سقوطها ووهيها وبالله تعالى التوفيق ‏"‏ وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي بن أبي طالب أنه الخليفة بعده وأن الصحابة بعده عليه السلام اتفقوا على ظلمه وعلى كتمان نص النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء المسمون الروافض وطائفة قالت لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على علي لكنه كان أفصل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالأمر وهؤلاء هم الزيدية نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ثم اختلفت الزيدية فرقاً ف قالت طائفة أن الصحابة ظلموه وكفروا من خالفه من الصحابة وهم الجارودية و قالت أخرى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يظلموه لكنه طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنهما إماما هدى ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم وذكرت طائفة أن هذا كان مذهب الفقيه الحسن بن صالح بن حي الهمداني‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ وقد رأيت لهشام بن الحكم الرافضي الكوفي في كتابه المعروف بالميزان وقد ذكر الحسن بن حي وأن مذهبه كان أن الإمامة في جميع ولد فهر بن مالك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الذي لا يليق بالحسن بن حي غيره فإنه كان أحد أئمة الدين وهشام ابن الحكم أعلم به ممن نسب إليه غير ذلك لأن هشاماً كان جاره بالكوفة وأعرف الناس به وأدركه وشاهده والحسن بن حي رحمه الله يحتج بمعاوية رضي الله عنه وبابن الزبير رضي الله عنهما وهذا مشهور عنه في كتبه ورواياته من روي عنه وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع ولد علي بن أبي طالب من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة وجب سل السيف معه و قالت الروافض الإمامة في علي وحده بالنص عليه ثم في الحسن ثم في الحسين وادعوا نصاً آخر من النبي صلى الله عليه وسلم عليهما بعد أبيهما ثم علي بن الحسين لقول الله عز وجل ‏"‏ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ‏"‏ قال وا فولد الحسين أحق من أخيه ثم محمد بن علي بن الحسين ثم جعفر بن محمد بن علي بن الحسين وهذا مذهب جميع متكلميهم كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وداود المواري وداود الرقي وعلي بن منصور وعلي بن هيثم وأبي علي السكاك تلميذ هشام بن الحكم ومحمد بن جعفر بن النعمان شيطان الطاق وأبي ملك الحضرمي وغيرهم ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر و قالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر وهم قليل و قالت طائفة جعفر حي لم يمت و قال جمهور الرافضة بإمامة ابنه موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي بن موسى ثم علي بن محمد بن علي بن موسى ثم الحسن بن علي ثم مات الحسن عن غير عقب فافترقوا فرقاً وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن بن علي ولد فأخفاه وقيل بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل وهو الأشهر و قال بعضهم بل من جارية اسمها نرجس و قال بعضهم بل من جارية له اسمها سوسن والأظهر أن اسمها صقيل لأن صقيل هذه ادعت الحمل بعد الحسن بن علي سيدها فوقف ميراثه لذلك سبع سنين ونازعها في ذلك أخوه جعفر بن علي وتعصب لها جماعة من أرباب الدولة وتعصب لجعفر آخرون ثم انفش ذلك الحمل وبطل وأخذ الميراث جعفر أخوه وكان موت الحسن هذا سنة ستين ومائتين وزادت فتنة الروافض بصقيل هذه ودعواها إلى أن حبسها المعتضد بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها وقد عير بها أنها في منزل الحسن بن جعفر النوبختي الكاتب فوجدت فيه وحملت إلى قصر المعتضد فبقيت هنالك إلى أن ماتت في القصر في أيام المقتدر فهم إلى اليوم ينتظرون ضالة منذ مائة عام وثمانين عاماً وكانت طائفة قديمة قد بادت كان رئيسهم المختار بن أبي عبيد وكيسان أبا عمرة وغيرهما يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين محمد أخوه المعروف بابن الحنيفة ومن هذه الطائفة كان السيد الحميري وكثير عزة الشاعران وكانوا يقولون أن محمد ابن الحنيفة حي بجبل رضوي ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونا ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقها وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجة به سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه لأن من صدق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري فيصير الخصم يومئذ مكابراً منقطعاً أن ثبت على ما كان عليه إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا يوجب له فضلاً على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه السلام لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام كما ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة وإذا لم يكن علي نبياً كما كان هارون نبياً ولا كان خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل فقد صح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط وأيضاً فإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك ف قال المنافقون استقله فخلفه فلحق علي برسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى ذلك إليه ف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ أنت مني بمنزلة هارون من موسى يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختاراً استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام هارون عليه السلام أيضاً مختاراً لاستخلافه ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالاً سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلاً على غيره ولا ولاية الأمر بعده كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وعمدة ما احتجت به الإمامية أن قال وا لا بد من أن يكون إمام معصوم عنده جميع الشريعة ترجع الناس إليه في أحكام الدين ليكونوا مما تعبدوا به على يقين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا لا شك فيه وذلك معروف ببراهينه الواضحة واعلامه المعجزة وآياته الباهرة وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا تبيان دينه الذي ألزمنا إياه صلى الله عليه وسلم فكان كلامه وعهوده وما بلغ من كلام الله تعالى حجة نافذة معصومة من كل آفة إلى من بحضرته وإلى من كان في حياته غائباً عن حضرته وإلى كل من يأتي بعد موته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة من جن وإنس قال عز وجل ‏"‏ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ‏"‏ فهذا نص ما قلنا وإبطال اتباع أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة لتنفيذ الإمام عهود الله تعالى الواردة إلينا على من عند فقط لا لأن يأتي الناس ما لا يشاؤنه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدنا علي رضي الله عنه إذ دعي إلى التحاكم إلى القرآن أجاب وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق فإن كان علي أصاب في ذلك فهو قولنا وإن كان أجاب إلى الباطل فهذه غير صفته رضي الله عنه ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجوز بحضرة الإمام ل قال علي حينئذ كيف تطلبون تحكيم القرآن وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قال وا إذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من إمام يبلغ الدين قلنا هذا باطل ودعوى بلا برهان وقول لا دليل على صحته وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه وتبليغه فقط سواء في ذلك من كان بحضرته ومن غاب عنه ومن جاء بعده إذ ليس في شخصه صلى الله عليه وسلم إذا لم يتكلم بيان عن شيء من الدين فالمراد منه عليه السلام كلام باق أبداً مبلغ إلى كل من في الأرض وأيضاً فلو كان ما قال وا من الحاجة إلى إمام موجود أبداً لا ننقض ذلك عليهم بمن كان غائباً عن حضرة الإمام في أقطار الأرض إذ لا سبيل إلى أن يشاهد الإمام جميع أهل الأرض الذين في المشرق والمغرب من فقير وضعيف وامرأة ومريض ومشغول بمعاشه الذي يضيع إن أغفله فلا بد من التبليغ عن الإمام فالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من التبليغ عمن هو دونه وهذا ما لا انفكاك لهم منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ما أمروا قط في غير منازل سكناهم وما حكموا على قرية فما فوقها بحكم فما الحاجة إليهم لا سيما مذ مائة عام وثمانين عاماً فإنهم يدعون إماماً ضالاً لم يخلق كعنقاء مغرب وهم أولو فحش وقحة وبهتان ودعوى كاذبة لم يعجز عن مثلها أحد وأيضاً فإن الإمام المعصوم لا يعرف أنه معصوم إلا بمعجزة ظاهرة عليه أو بنص تنقله العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم على كل إمام بعينه واسمه ونسبه وإلا فهي دعوى لا يعجز عن مثلها أحد لنفسه أو لمن شاء ولقد يلزم كل ذي عقل سليم أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الجهل الغث البارد السخيف الذي ترتفع عقول الصبيان عنه وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وبرهان آخر ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين فما منهم أحد أشار إلى علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه ولا ادعى ذلك قط لا في ذلك الوقت ولا بعده ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت ولا بعده ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنيات والأنساب أكثرهم موتون في صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهد عاهده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعى إلا رواية واحدة واهية عن مجهولين إلى مجهول يكنى بالحمراء لا يعرف من هو في الخلق ووجدنا علياً رضي الله عنه تأخر عن البيعة ستة أشهر فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعاً مراجعاً غير مكره فكيف حل لعلي رضي الله عنه عند هؤلاء النوكى أن يبائع طايعاً رجلاً إما كافراً وإما فاسقاً جاحداً لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعينه على أمره ويجالسه في مجالسه ويواليه إلى أن مات ثم يبايع بعده عمر بن الخطاب مبادراً غير متردد ساعة فما فوقها غير مكره بل طائعاً وصحبه وأعانه على أمره وانكحه من ابنته فاطمة رضي الله عنها ثم أقبل ادخاله في الشورى أحد ستة رجال فكيف حل لعلي عند هؤلاء الجهال أن يشارك بنفسه في شورى ضالة وكفر ويغر الأمة هذا الغرور وهذا الأمر أدى أبا كامل إلى تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه في زعمه أعان الكفار على كفرهم وأيدهم على كتمان الديانة وعلى ما لا يتم الدين إلا به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه انه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت وهو الأسد الشجاع قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات يوم الجمل وصفين فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين وما الذي ألف بين بصار الناس على كتمان حق علي ومنعه ما هو أحق به مذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا إلى نفسه فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة وبذلوا دماءهم دونه ورأوه حينئذ صاحب الأمر والأولى بالحق ممن نازعه فما الذي منعه ومنعهم من الكلام وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام أو يوم السقيفة وأظرف من هذا كله بقاؤه ممسكاً عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر فما سئلها ولا أجبر عليها ولا كلفها وهو متصرف بينهم في أموره فلولا أنه رأى الحق فيها واستدرك أمره فبايع طالباً حظ نفسه في دينه راجعاً إلى الحق لما بايع فإن قالت الروافض أنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع إلى الباطل فهذا هو الباطل حقاً لا ما فعل علي رضي الله عنه ثم ولى علي رضي الله عنه فما غير حكماً من أحكام أبي بكر وعمر وعثمان ولا أبطل عهداً من عهودهم ولو كان ذلك عنده باطلاً لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه وقد ارتفعت التقية عنه وأيضاً فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة رضي الله عنه ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عن جميعهم وقعد علي رضي الله عنه في بيته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ليس معه أحد غير الزبير بن العوام ثم استبان الحق للزبير رضي الله عنه فبايع سريعاً وبقي علي وحده لا يرقب عليه ولا يمنع من لقاء الناس ولا يمنع أحد من لقائه فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر من أن يكون عن غلبة أو عن ظهور حقه إليهم فأوجب ذلك الانقياد لبيعته أو فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى ولا سبيل إلى قسم رابع بوجه من الوجوه فإن قال وا بايعوه بغلبة كذبوا لأنه لم يكن هنالك قتال ولا تضارب ولا سباب ولا تهديد ولا وقت طويل ينفسح للوعيد ولا سلاح مأخوذ ومحال أن يترك أزيد من ألفي فارس أنجاد أبطال كلهم عشيرة واحدة قد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم موطنين على الموت متعرضين مع ذلك للحرب مع قيصر الروم بمؤنة وغيرها ولكسرى والفرس ببصرى من يخاطبهم يدعوه إلى اتباعه وأن يكون كأحد من بين يديه هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب فمن المحال الممتنع أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا معه فقط لا يرجع إلى عشيرة كثيرة ولا إلى موال ولا إلى عصبة ولا مال فرجعوا إليه وهو عندهم مبطل وبايعوه بلا تردد ولا تطويل وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا خوف ولا ظهور الحق إليهم فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك دون طمع يتعجلونه من مال أو جاه بل فيما ترك العز والدنيا والرياسة وتسليم كل ذلك إلى رجل لا عشيرة له ولا منعة ولا حاجب ولا حرس على بابه ولا قصر ممتنع فيه ولا موالي ولا مال فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في الشجاعة ومعه جماعة من بني هاشم وبني المطلب من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالماً وعن منعه وزجره بل فد علم والله علي رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق وإن من خالفه على الباطل فأذعن للحق بعد أن عرضت له فيه كبوة كذلك الأنصار رضي الله عنهم وإذ قد بطل كل هذا فلم يبق إلا أن علياً والأنصار رضي الله عنهم إنما رجعوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى الله عليه لا لاجتهاد كاجتهادهم ولا لظن كظنونهم فإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار وزالت الرياسة عنهم فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي ومن المحال أن تتفق آراؤهم كلهم على معونة من ظلمهم وغصبهم حقهم إلا أن تدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة ثم لو أمكنت لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان وإن الناس كلهم نسوه وفي هذا إبطال الحقائق كلها وأيضاً فإن كان جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فمن أين وقع إلى الروافض أمره ومن بلغه إليهم وكل هذا عو هوس ومحال فبطل أمر النص على علي رضي الله عنه بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة ولذلك انحرفوا عنه قيل له هذا تمويه ضعيف كاذب لأنه إن ساغ لكم ذلك في بني عبد شمس وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني عامر لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلاً أو رجالاً فقتل من بني عامر بن لؤي رجلاً واحداً وهو عمرو بن ود وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالاً وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عقبة والعاص بن سهل بن العاص بلا شك وشارك في قتل عتبة بن ربيعة وقيل قتل عقبة بن أبي معيط وقيل قتله غيره وهو عاصم بن ثابت الأنصاري ولا مزيد فقد علم كل من له أقل علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل ولا لأحد منهم يوم السقيفة حل ولا عقد ولا رأي ولا أمر اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلاً إلى علي في ذلك الوقت عصبية للقرابة لا تديناً وكان ابنه يزيد وخالد بن سعيد بن العاص والحارث بن هشام ابن المغيرة والمخزومي مائلين إلى الأنصار تديناً والأنصار قتلوا أبا جهل بن هشام أخاه وقد كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي حين قصة عثمان وبعدها حتى قتله معاوية على ذلك فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة أو من بني عدي بن كعب حتى يظن أهل القحة أنهما حقدا عليه ثم أخبرونا من قتل من الأنصار أو من جرح منهم أو من أذى منهم ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها بعضهم متقدم وبعضهم مساو له وبعضهم متأخر عنه فأي حقد كان له في قلوب الأنصار حتى يتفقوا كلهم على جحد النص عليه وعلى إبطال حقه وعلى ترك ذكر اسمه جملة وإيثار سعد بن عبادة عليه ثم على إيثار أبي بكر عليه وعمر عليه والمسارعة إلى بيعته بالخلافة دونه وهو معهم وبين أظهرهم يرونه غدواً وعشياً لا يحول بينهم وبينه أحد ثم أخبرونا من قتل علي من أقارب أولاد المهاجرين من العرب من مضر وربيعة واليمن وقضاعة حتى يصفقوا كلهم على كراهية ولايته ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه إن هذه لعجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلاً ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له دونهم لو كان للروافض حياء أو عقل ولقد كان لأبي بكر رحمه الله ورضي الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي فما منعهم ذلك من بيعته وهو أسوأ الناس أثراً عند كفارهم ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي رضي الله عنه فليت شعري ما الذي أوجب أن ينسى آثار هؤلاء كلهم ويعادوا علياً من بينهم كلهم لولا قلة حياء الروافض وصفاقة وجوههم حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورافع بن خديج الأنصاري ومحمد بن مسلمة الأنصاري وزيد بن ثابت الأنصاري وأبي هريرة وأبي الدراء وجماعة غير هؤلاء من المهاجرين أنهم لم يبايعوا علياً إذ ولي الخلافة ثم بايعوا معاوية ويزيد ابنه من أدركه وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ حمق الرافضة وشدة ظلمة جهلهم وقلة حيائهم هورهم في الدمار والبوار والعار والنار وقلة المبالاة بالفضائح وليت شعري أي حماسة وأي كلمة حسنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو أحد منهم وإنما كان هؤلاء ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة فلما أصفق المسلمون على ما أصفقوا عليه كائناً من كان دخلوا في الجماعة وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير رضي الله عنه ومروان فإنهم قعدوا عنهما فلما انفرد عبد الملك بن مروان بايعه من أدركه منهم لا رضا عنه ولا عداوة لابن الزبير ولا تفضيلاً لعبد الملك علي ابن الزبير لكن لما ذكرنا وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية فلاحت نوكة هؤلاء المجانين والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا زيد بن حارثة قتل يوم بدر حنظلة بن أبي سفيان وهذا الزبير بن العوام قتل يوم بدر أيضاً عبيدة بن سعيد بن العاص وهذا عمر بن الخطاب قتل يومئذ العاص بن هشام بن المغيرة فهلا عاداهم أهل هؤلاء المقتولين وما الذي خص علياً أولياء من قتل دون سائر من قلنا لولا جنون الرافضة وعدم الحياء من وجوههم ثم لو كان ما ذكروه حقاً فما الذي كان دعا عمر إلى إدخاله في الشورى مع من أدخله فيها ولو أخرجه منها كما أخرج سعيد بن زيد أو قصد إلى رجل غيره فولاه ما اعترض عليه أحد في ذلك بكلمة فصح ضرورة بكل ما ذكرنا أن القوم أنزلوه منزلته غير عالين ولا مقصرين رضي الله عنهم أجمعين وأنهم قدموا الأحق فالأحق والأفضل فالأفضل وساووه بنظرائه منهم ثم أوضح برهان وأبين بيان في بطلان أكاذيب الرافضة أن علياً رضي الله عنه لما ادعي إلى نفسه بعد قتل عثمان رضي الله عنه سارعت طوائف المهاجرين والأنصار إلى بيعته فهل ذلك أحد من الناس أن أحداً منهم اعتذر إليه مما سلف من بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أو هل تاب أحد منهم من جحده للنص على إماماته أو قال أحد منهم لقد ذكرت هذا النص الذي كنت أنسيته في أمر هذا الرجل أن عقولاً خفي عليها هذا الظاهر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أن يهديها ثم مات عمر رضي الله عنه وترك الأمر شورى بين ستة من الصحابة علي أحدهم ولم يكن في تلك الأيام الثلاثة سلطان يخاف ولا رئيس يتوقى ولا مخافة من أحد ولا جند معد للتغلب أفترى لو كان لعلي رضي الله عنه حق ظاهر يختص به من نص عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من فضل بائن على من معه ينفرد به عنهم أما كان الواجب على علي أن يقول أيها الناس كم هذا الظلم لي وكم هذا الكتمان بحقي وكم هذا الجحد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم هذا الإعراض عن فضلي البائن على هؤلاء المقرونين لي فإذ لم يفعل لا يدري لماذا أما كان في بني هاشم أحد له دين يقول هذا الكلام أما العباس عمه وجميع العالمين على توقيره وتعظيمه حتى أن عمر توسل به إلى الله تعالى بحضرة الناس في الاستسقاء وأما أحد بنيه وأما عقيل أخوه وأما أحد بني جعفر أخيه أو غيرهم فإذ لم يكن في بني هاشم أحد يتقي الله عز وجل ولا يأخذه في قول الحق مادهنة أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين والأ صار وغيرهم واحد يقول يا معشر المسلمين قد زالت الرقبة وهذا علي له حق واجب بالنص وله فضل بائن ظاهر لا يمترى فيه فبايعوه فأمره بين أن أصفاق جميع الأمة أولها عن آخرها من برقة إلى أول خراسان ومن الجزيرة إلى أقصى اليمن إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل واتفاقهم على ظلمه ومنعه من حقه وليس هناك شيء يخافونه لإحدى عجائب المحال الممتنع وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك إذ صار الحق حقه وقتلوا أنفسهم دونه فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال ثم العجب إذ كان غيظهم عليه هذا الغيظ واتفاقهم على جحده حقه هذا الاتفاق كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه أم كيف أكرموه وبروه وأدخلوه في الشورى و قال هشام بن الحكم كيف يحسن الظن بالصحابة أن لا يكتموا النص على علي وهم قد اقتتلوا وقتل بعضهم بعضاً فهل يحسن بهم الظن في هذا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لو علم الفاسق أن هذا القول أعظم حجة عليه لم ينطق بهذا السخف لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من قاتل حين افترق الناس فكل ما لحق المقتتلين منهم من حسن الظن بهم أو من سوء الظن بهم فهو لاحق لعلي في قتاله ولا فرق بينه وبين سائر الصحابة في ذلك كله وبالله تعالى التوفيق فإن خصه متحكم كان كمن خص غيره منهم متحكماً ولا فرق وأيضاً فإن اقتتالهم رضي الله عنهم أوكد برهان على أنهم لم يغاروا على ما رأوه باطلاً بل قاتل كل فريق منهم على ما رأوه حقاً ورضي بالموت دون الصبر على خلاف ما عنده وطائفة منهم قعدت إذ لم تر الحق في القتال فدل على أنه لو كان عندهم نص على علي أو عند واحد منهم لأظهروه أو لأظهره كما أظهروا ما رأوا أن يبذلوا أنفسهم للقتال والموت دونه فإن قال وا قد أقررتم أنه لا بد من إمام فبأي شيء يعرف الإمام لا سيما وأنتم خاصة معشر أهل الظاهر لا بنص قرآن أو خبر صحيح وهذا أيضاً مما سألنا عنه أصحاب القياس والرأي‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا وبالله التوفيق أن رسول صلى الله عليه وسلم نص على وجوب الإمامة وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة وافترض علينا بنص قوله الطاعة للقرشي إماماً واحداً لا ينازع إذا قادنا بكتاب الله عز وجل فصح من هذه النصوص النص على صفة الإمام الواجب طاعته كما صح النص على صفة الشهود في الأحكام وصفة المساكين والفقراء الواجب لهم الزكاة وصفة من يؤم في الصلاة وصفة من يجوز نكاحها من النساء وكذلك سائر الشريعة كلها ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء إذ لم يكلفنا الله عز وجل ذلك فكل قرشي بالغ عاقل بادر إثر موت الإمام الذي لم يعهد إلى أحد فبايعه واحد فصاعداً فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر الكتاب باتباعها فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك أو أقيم عليه الحد والحق فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره منهم فإن قال وا قد اختلف الناس في تأويل القرآن والسنة ومنع من تأويلهما بغير نص آخر قلنا أن التأويل الذي لم يقم عليه برهان تحريف الكلم عن مواضعه وقد جاء النص بالمنع من ذلك وليس الاختلاف حجة وإنما الحجة في نص القرآن والسنن وما اقتضاء لفظهما العربي الذي خوطبنا به وبه ألزمتنا الشريعة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نسألهم فنقول لهم أن عمدة احتجاجكم في إيجاب إمامتكم التي تدعيها جميع فرقكم إنما هي وجهان فقط أحدهما النص عليه باسمه والثاني شدة الفاقة إليه في بيان الشريعة إذ علمها عنده لا عند غيره ولا مزيد فأخبروني بأي شيء صار محمد بن علي بن الحسين أولى بالإمامة من أخوته زيد وعمر وعبد الله وعلي والحسين فإن ادعوا نصاً من أبيه عليه أو من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الباقر لم يكن ذلك ببدع من كذبهم ولم يكونوا أولى بتلك الدعوى من الكيسانية في دعواهم النص على ابن الحنفية وإن ادعوا أنه كان من فضل من اخوته كانت أيضاً دعوى بلا برهان والفضل لا يقطع على ما عند الله عز وجل فيه بما يبدو من الإنسان فقد يكون باطنه خلاف ظاهره وكذلك يسألون أيضاً ما الذي جعل موسى بن جعفر أولى بالإمامة من أخيه محمد أو إسحاق أو علي فلا يجدون إلى غير الدعوى سبيلاً وكذلك أيضاً يسألون ما الذي خص علي بن موسى بالإمامة دون اخوته وهم سبعة عشر ذكراً فلا يجدون شيئاً غير الدعوى وكذلك يسألون ما الذي جعل محمد بن علي بن موسى أولى بالإمامة من أخيه علي بن علي وما الذي جعل علي بن محمد أولى بالإمامة من أخيه موسى بن محمد وما الذي جعل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى أحق بالإمامة من أخيه جعفر بن علي فهل هاهنا شيء غير الدعوى الكاذبة الذي لا حياء لصاحبها والتي لو ادعى مثلها مدع للحسن بن الحسن أو لعبد الله بن الحسن أو لأخيه الحسن بن الحسن أو لابن أخيه علي بن الحسن أو لمحمد بن عبد الله القائم بالمدينة أو لأخيه إبراهيم أو لرجل من ولد العباس أو من بني أمية أو من أي قوم من الناس كان لساواهم في الحماقة ومثل هذا لا يشتغل به من له مسكة من عقل أو منحة من دين ولو قلت أو رقعة من الحياء فبطل وجه النص وأما وجه الحاجة إليه في بيان الشريعة فما ظهر قط من أكثر أئمتهم بيان لشيء مما اختلف فيه الناس وما بأيديهم من ذلك شيء إلا دعاوي مفتعلة قد اختلفوا أيضاً فيها كما اختلف غيرهم من الفرق سواء سواء إلا أنهم أسوأ حالاً من غيرهم لأن كل من قلد إنساناً كأصحاب أبي حنيفة لأبي حنيفة وأصحاب مالك لمالك وأصحاب الشافعي للشافعي وأصحاب أحمد لأحمد فإن لهؤلاء المذكورين أصحاباً مشاهير نقلت عنهم أقوال صاحبهم ونقلوها هم عنه ولا سبيل إلى اتصال خبر عندهم ظاهر مكشوف يضطر الخصم إلى أن هذا قول موسى بن جعفر ولا أنه قول علي بن موسى ولا أنه قول محمد بن علي بن موسى ولا أنه قول علي بن محمد ولا أنه قول الحسن بن علي وأما من بعد الحسن بن علي فعدم بالكلية وحماقة ظاهرة وأما من قبل موسى بن جعفر فلو جمع كل ما روى في الفقه عن الحسن والحسين رضي الله عنهما لما بلغ عشر أوراق فما ترى المصلحة التي يدعونها في إمامهم ظهرت ولا نفع الله تعالى بها قط في علم ولا عمل لا عندهم ولا عند غيرهم ولا ظهر منهم بعد الحسين رضي الله عنه من هؤلاء الذين سموا أحداً ولا أمر منهم أحد قط بمعروف معلن وقد قرأنا صفة هؤلاء المخاذلين المنتمين إلى الإمامية القائلين بأن الدين عند أئمتهم فما رأينا إلا دعاوي باردة وارأ فاسدة كأسخف ما يكون من الأقوال ولا يخلو هؤلاء الأئمة الذين يذكرون من أن يكونوا مأمورين بالسكوت أو مفسوحاً لهم فيه فإن يكونوا مأمورين بالسكوت فقد أبيح للناس البقاء في الضلال وسقطت الحجة في الديانة عن جميع الناس وبطل الدين ولم يلزم فرض الإسلام وهذا فكر مجرد وهم لا يقولون بهذا أو يكونوا مأمورين بالكلام والبيان فقد عصوا الله إذ سكتوا وبطلت إمامتهم وقد لجأ بعضهم إذ سئلوا عن صحة دعواهم في الأئمة إلى أن ادعوا الإلهام في ذلك فإذ قد صاروا إلى هذا الشغب فإن لا يضيق عن أحد من الناس ولا يعجز خصومهم عن أن يدعوا أنهم ألهموا بطلان دعواهم قال هشام بن الحكم لا بد أن يكون في أخوة الإمام آفات يبين بها أنهم لا يستحقون الإمامة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه دعوى مردودة تزيد في الحماقة ولا ندري في زيد وعمرو وعبد الله والحسن وعلي بن علي بن الحسين آفات تمنع إلا أن الحسن أخا زيد ومحمد كان أعرج وما علمنا أن العرج عيب يمنع من الإمامة إنما هو عيب في العبيد المتخذين للمشي وما يعجز خصومهم أن يدعوا في محمد بن علي وفي جعفر بن محمد وفي سائر أئمتهم تلك الآفات التي ادعاها هشام لأخوتهم ثم أن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين فنسألهم من أي علم هذا الصغير جميع علم الشريعة وقد عدم توقيف أبيه له عليها لصغره فلم يبق إلا أن يدعوا له الوحي فهذه نبوة وكفر صريح وهم لا يبلغون إلى أن يدعوا له النبوة وأن يدعوا له معجزة تصحح قوله فهذه دعوى باطلة ما ظهر منها قط شيء أو يدعوا له الإلهام فما يعجز أحد عن هذه الدعوى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولو لم يكن من الحجة على أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويزين لكل أمة عملها إلا وجود من يعتقد هذه الأقوال السخيفة لكان أقوى حجة وأوضح برهان وإلا فما خلق الله عقلاً يسع فيه مثل هذه الحماقات والحمد لله على عظيم منته علينا وهو المسؤول منه دوامها بمنه آمنين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأيضاً فلو كان الأمر في الإمامة على ما يقول هؤلاء السخفاء لما كان الحسن رضي الله عنه في سعة من أن يسلمها لمعاوية رضي الله عنه فيعينه على الضلال وعلى إبطال الحق وهدم الدين فيكون شريكه في كل مظلمة ويبطل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوافقه على ذلك الحسين أخوه رضي الله عنهما فما نقض قط بيعة معاوية إلى أن مات فكيف استحل الحسن والحسين رضي الله عنهما إبطال عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما طائعين غير مكرهين فلما مات معاوية قام الحسين يطلب حقه إذ رأى أنها بيعة ضلالة فلولا أنه رأى بيعة معاوية حقاً لما سلمها له ولفعل كما فعل بيزيد إذ ولي يزيد هذا مالا يمتري فيه ذو إنصاف هذا ومع الحسن أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه فتالله لولا أن الحسن رضي الله عنه علم أنه في سعة من إسلامها إلى معاوية وفي سعة من أن لا يسلمها لما جمع بين الأمرين فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهي حقه وسلمها بعد ذلك لغير ضرورة وذلك له مباح بل هو الأفضل بلا شك لأن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خطب بذلك على المنبر بحضرة المسلمين وأراهم الحسن معه على المنبر و قال أن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين رويناه من طريق البخاري حدثنا صدقة أنبأنا ابن عيينة أنا موسى أنا الحسن سمع أبا بكرة يقول أنه سمع ذلك وشهده من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من أعلامه صلى الله عليه وسلم وإنذاره بالغيوب التي لا تعلم البتة إلا بالوحي ولقد امتنع زيادة وهو فقعة القاع لا عشيرة ولا نسب ولا سابقة ولا قدم فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة وحتى أرضاه وولاه فإن ادعوا أنه قد كان في ذلك عند الحسن عهد فقد كفروا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر أحداً بالعون على إطفاء نور الإسلام بالكفر وعلى نقض عهود الله تعالى بالباطل عن غير ضرورة ولا إكراه وهذه صفة الحسن والحسين رضي الله عنهما عند الروافض واحتج بعض الإمامية وجميع الزيدية بأن علياً كان أحق الناس بالإمامة لبينونة فضله على جميعهم ولكثرة فضائله دونهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا يقع الكلام فيه إن شاء الله تعالى في الكلام في المفاضلة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الكلام هاهنا في الإمامة فقط فنقول وبالله تعالى التوفيق عبكم أنكم وجدتم لعلي رضي الله عنه فضائل معلومة كالسبق إلى الإسلام والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعة العلم والزهد فهل وجدتم مثل ذلك للحسن والحسين رضي الله عنهما حتى أوجبتم لهما بذلك فضلاً في شيء مما ذكرنا على سعد بن أبي وقاس وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس هذا ما لا يقدر أحد على أن يدعي لهما فيه كلمة فما فوقها يعني مما يكونان به فوق من قد ذكرنا في شيء من هذه الفضائل فلم يبق إلا دعوى النص عليهما وهذا ما لا يعجز عن مثله أحد ولو استجازت الخوارج التوقح بالكذب في دعوى النص على عبد الله بن وهب الراسي لما كان إلا مثل الرافضة في ذلك سواء بسواء ولو استحلت الأموية أن تجاهر بالكذب في دعوى النص على معاوية لكان أمرهم في ذلك أقوى من أمر الرافضة لقوله تعالى ‏"‏ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل أنه كان منصوراً ‏"‏ ولكن كل أمة ما عدا الرافضة والنصارى فإنها تستحي وتصون أنفسها عما لا تصون النصارى والروافض أنفسهم عنه من الكذب الفاضح البارد وقلة الحياء فيما يأتون به ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكذلك لا يجدون لعلي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل على سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ولا على أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ولا على ابن عمه الحسن بن الحسن وكذلك لا يجدون لمحمد بن علي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل ولا ورع على عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ولا على محمد بن عمر وبن أبي بكر المنكدر ولا على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ولا على أخيه زيد بن علي ولا على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ولا على عمر بن عبد العزيز وكذلك لا يجدون لجعفر بن محمد بسوقا في علم ولا في دين ولا في عمل على محمد بن مسلم الزهري ولا على ابن أبي ذؤيب ولا على عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ولا على بيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر ولا على ابني عمه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وعلى بن الحسن بن الحسن بن الحسن بل كل من ذكرنا فوقه في العلم والزهد وكلهم أرفع محلاً في الفتيا والحديث لا يمنع أحد منهم من شيء من ذلك وهذا ابن عباس رضي الله عنه قد جمع فقه في عشرين كتاباً ويبلغ حديثه نحو ذلك إذا تقصى ولا تبلغ فتيا الحسن والحسين ورقتين ويبلغ حديثهما ورقة أو ورقتين وكذلك على بن الحسين إلا أن محمد بن علي يبلغ حديثه وفتياه جزأ صغيراً وكذلك جعفر بن محمد وهم يقولون أن الإمام عنده جميع علم الشريعة فما بال من ذكرنا أظهروا بعض ذلك وهو الأقل الأنقص وكتموا سائره وهو الأكثر الأعظم فإن كان فرضهم الكتمان فقد خالفوا الحق إذ أعلنوا ما أعلنوا وإن كان فرضهم البيان فقد خالفوا الحق إذ كتموا ما كتموا وأما من بعد جعفر بن محمد فما عرفنا لهم علماً أصلاً لا من رواية ولا من فتيا على قرب عدهم منا ولو كان عندهم من ذلك شيء لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر وعن غيره منهم ممن حدث الناس عنه فبطلت دعواهم الظاهرة الكاذبة اللائحة السخيفة التي هي من خرافات السمر ومضاحك السخفاء فإن رجعوا إلى ادعاء المعجزات لهم قلنا لهم أن المعجزات لا تثبت إلا بنقل التواتر لا بنقل الأحاد الثقات فكيف بولد الوقحا الكذابين الذين لا يدري من هم وقد وجدنا من يروي لبشر الحافي وشيبان الراعي ورابعة العدوية أضعاف ما يدعونه من الكذب للأئمتهم وأظهر وأفشى وكل ذلك حماقة لا يشتغل ذو دين ولا ذو عقل بها ونحمد الله على السلامة فإذ قد بطل ما يدعونه ولله تعالى الحمد فلنقل على الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبرهان وبالله تعالى نتأيد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قد اختلف الناس في هذا ف قالت طائفة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً ثم اختلفوا ف قال بعضهم لكن لما استخلف أبا بكر رضي الله عنه على الصلاة كان ذلك دليلاً على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمور و قال بعضهم لا ولكن كان ابينهم فضلاً فقدموه لذلك و قالت طائفة بل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على استخلاف أبي بكر بعده على أمور الناس نصاً جلياً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبهذا نقول لبراهين أحدها أطباق الناس كلهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ‏"‏ فقد أصفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو لا يجوز غير هذه البتة في اللغة بلا خلاف تقول استخلف فلا فلاناً يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه فإن قام مكانه دون أن يستخلفه هو لم يقل إلا خلف فلان فلاناً يخلفه فهو خالف ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضروريين أحدهما أنه لا يستحق أبو بكر هذا الاسم على الإطلاق في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقيناً أن خلافته المسمى هو بها هي غير خلافته على الصلاة والثاني أن كل من استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم في غزوة الخندق وعثمان ابن عفان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق فصح يقيناً بالضرورة التي لا محيد عنها أنها للخلافة بعده على أمته ومن الممتنع أن يجمعوا على ذلك وهو عليه السلام لم يستخلفه نصاً ولم لم يكن هاهنا إلا استخلافه إياه على الصلاة ما كان أبو بكر أولى بهذه التسمية من غيره ممن ذكرنا وهذا برهان ضروري نعارض به جميع الخصوم وأيضاً فإن الرواية قد صحت بأن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت أن رجعت ولم أجدك كأنها تريد الموت قال فأت أبا بكر وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر وأيضاً فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه الذي توفي فيه عليه السلام لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فاكتب كتاباً وأعهد عهداً لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وروي أيضاً ويأبي الله والنبيون إلا أبا بكر فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو ابلسوا أسفاً لاحتججنا بما روى اقتدروا باللذين من بعيد أبي بكر وعمر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولكنه لم يصح ويعيذنا من الاحتجاج بما لا يصح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج من قال لم يستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال أن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وأن لا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما روى عن عائشة رضي الله عنها من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف فمن المحال أن يعارض الإجماع من الصحابة الذي ذكرنا والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة رضي الله عنهما مما لا يقوم به حجة مما له وجه ظاهر من أن هذا الأثر خفي على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالاستئذان وغيره أو أنه أراد استخلافاً بعهد مكتوب ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر لم يكن بكتاب مكتوب وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك نصاً وقد يخرج كلامها على سؤال سائل وإنما الحجة في روايتها لا في قولها وأما من ادعى أنه إنما قدم قياساً على تقديمه إلى الصلاة فباطل بيقين لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق الإمامة في الخلافة إذ يستحق الإمامة في الصلاة اقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ولا يستحق الخلاف إلا قرشي فكيف والقياس كله باطل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله تعالى قال مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب ‏"‏ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ‏"‏ وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة ولم يغز عليه السلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات صلى الله عليه وسلم و قال تعالى أيضاً ‏"‏ سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ‏"‏ فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلق باب التوبة فقال تعالى ‏"‏ قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً ‏"‏ فأخبر تعالى أنهم سيدعوهم غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجب طاعة أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم وليس هذا بموجب تقليدهم في غير ما أمر الله تعالى بطاعتهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر بذلك إلا في دعائهم إلى قتال هؤلاء القوم وفيما يجب الطاعة فيه للأئمة جملة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأما ما أفتوا به باجتهادهم فما أوجبوا هم قط اتباع أقوالهم فيه فكيف أن يوجب ذلك غيرهم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأيضاً فإن هذا إجماع الأئمة كلها إذ ليس أحد من أهل العلم إلا وقد خالف بعض فتاوي هؤلاء الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم فصح ما ذكرنا والحمد لله رب العالمين‏.‏

فصل قال أبو محمد‏:‏ وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة ولا إمامة صبي لم يبلغ إلا الرافضة فإنها يجيز إمامة الصغير الذي لم يبلغ والحمل في بطن أمه وهذا خطأ لأن من لم يبلغ فهو غير مخاطب والإمام مخاطب بإقامة الدين وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال الباقلاني واجب أن يكون الإمام أفضل الأمة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ متيقن لبرهانين أحدهما أنه لا يمكن أن يعرف الأفضل إلا بالظن في ظاهر أمره وقد قال تعالى ‏"‏ إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ‏"‏ والثاني أن قريشاً قد كثرت وطبقت الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال ولا سبيل أن يعرف الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم بوجه من الوجوه ولا يمكن ذلك أصلاً ثم يكفي من بطلان هذا القول إجماع الأمة على بطلانه فإن جميع من أدرك من الصحابة رضي الله عنه من جميع المسلمين في ذلك العصر قد أجمعوا على صحة إمامة الحسن أو معاوية وقد كان في أفضل منهم بلا شك كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وابن عمر وغيرهم فلو كان ما قال ه الباقلاني حقاً لكانت إمامة الحسن ومعاوية باطلة وحاشا لله عز وجل من ذلك‏.‏

وأيضاً فإن هذا القول الذي قال ه هذا المذكور دعوي فاسدة ولا على صحتها دليل لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من قول صاحب ولا من قياس والعجب كله أن يقول أنه جائز أن يكون في هذه الأمة من أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث بعث إلى أن مات ثم لا يجيز أن يكون أحد أفضل من الإمام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا القول منه في النبي صلى الله عليه وسلم كفر مجرد ولا خفاء به وفيه خلاف لأهل الإسلام وإنما يجب أن يكون الإمام قرشياً بالغاً ذكراً مميزاً بريئاً من المعاصي الظاهرة حاكماً بالقرآن والسنة فقط ولا يجوز خلعه ما دام يمكن منعه من الظلم فإن لم يمكن إلا بإزالته ففرض أن يقام كل ما يوصل به إلى دفع الظلم لقول الله تعالى ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ وبالله تعالى التوفيق‏.‏

الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة

قال أبو محمد‏:‏ اختلف المسلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام فذهب بعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة وجميع الشيعة إلى أن أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقد روينا هذا القول نصاً عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين والفقهاء وذهبت الخوارج كلها وبعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة إلى أن أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر‏.‏

وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب وبهذا قال أبو عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد وعيسى بن حاضر قال عيسى وبعد جعفر حمزة رضي الله عنه‏.‏

وروينا عن نحو عشرين من الصحابة أن أكرم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وثلاث رجال لا يعد أحد عليهم بفضل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر وروينا عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها تذكرت الفضل ومن هو خير فقال ت ومن هو خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وروينا عن مسروق بن الأجدع وتميم بن حذلم وإبراهيم النخعي وغيرهم أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود قال تميم وهو من كبار التابعين رأيت أبا بكر وعمر فما رأيت مثل عبد الله بن مسعود وروينا عن بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وأنه أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما وبلغني عن محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري أنه كان يذهب إلى هذا القول‏.‏

قال داود بن علي الفقيه رضي الله عنه أفضل الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة الأولون من المهاجرين ثم الأولون من الأنصار ثم بعدهم منهم ولا نقطع على إنسان منهم بعينه أنه أفضل من آخر من طبقته ولقد رأينا من متقدمي أهل العمل ممن يذهب إلى هذا القول و قال لي يوسف بن عبد الله بن عبد البر النميري غير ما مرة أن هذا هو قوله ومعتقده‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والذي نقول به وندين الله تعالى عليه ونقطع على أنه الحق عند الله عز وجل أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ولا خلاف بين أحد من المسلمين في أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم لقول الله عز وجل ‏"‏ كنتم خير أمة أخرجت للناس ‏"‏ وإن هذه قاضية على قوله تعالى لبني إسرائيل ‏"‏ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏"‏ وإنها مبينة لأن مراد الله تعالى من ذلك عالم الأمم حاشا هذه الأمة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إن الكلام المهمل دون تحقيق المعنى المراد بذلك الكلام فإنه طمس للمعاني وصد عن إدراك الصواب وتعريج عن الحق وإبعاد عن الفهم وتخليط وعمي فنبدأ بعون الله تعالى وتأييده بتقسيم وجوه الفضل التي بها يستحق التفاضل فإذا استبان معنى الفضل وعلى ماذا تقع هذه اللفظة فبالضرورة نعلم حينئذ أن من وجدت فيه هذه الصفات أكثر فهو أفضل بلا شك فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أن الفضل ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما فضل اختصاص من الله عز وجل بلا عمل وفضل مجازاة من الله تعالى بعمل فأما فضل الاختصاص دون عمل فإنه يشترك فيه جميع المخلوقين من الحيوان الناطق والحيوان غير الناطق والجمادات والأعراض كفضل الملائكة في ابتداء خلقهم على سائر الخلق وكفضل الأنبياء في ابتداء خلقهم على سائر الجن والأنس وكفضل إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأطفال وكفضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق وكفضل ذبيحة إبراهيم عليه السلام على سائر الذبائح وكفضل مكة على سائر البلاد وكفضل المدينة بعد مكة على غيرها من البلاد وكفضل المساجد على سائر البقاع وكفضل الحجر الأسود على سائر الحجارة وكفضل شهر رمضان على سائر الشهور وكفضل يوم الجمعة وعرفة وعاشوراء والعشر على سائر الأيام وكفضل ليلة القدر على سائر الليالي وكفضل صلاة الفرض على النافلة وكفضل صلاة العصر وصلاة الصبح على سائر الصلوات وكفضل السجود على القعود وكفضل بعض الذكر على بعض فهذا هو فضل الاختصاص المجرد بلا عمل فأما فضل المجازاة بالعمل فلا يكون البتة إلا للحي الناطق من الملائكة والأنس والجن فقط وهذا هو القسم الذي تنازع الناس فيه في هذا الباب الذي نتكلم فيه الآن من أحق به فوجب أن ننظر أيضاً في أقسام هذا القسم التي بها يستحق الفضل فيه والتقدم فنحصرها ونذكرها بحول الله وقوته ثم ننظر حينئذٍ من هو أحق به وأسعد بالنسوق فيه فيكون بلا شك أفضل ممن هو أقل حظاً فيها بلا شك وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله تعالى نستعين إن العامل يفضل العامل في عمله بسبعة أوجه لا ثامن لها وهي المائية وهي عين العمل وذاته والكمية وهي العرض في العمل والكيفية والكم والزمان والمكان والإضافة فأما المائية فهي أن تكون الفروض من أعمال أحدهما موافاة كلها ويكون الآخر يضيع بعض فروضه وله نوافل أو يكون كلاهما وفي جميع فرضه ويعملان نوافل زائدة إلا أن نوافل أحدهما أفضل من نوافل الآخر كأن يكون أحدهما يكثر الذكر في الصلاة والآخر يكثر في الذكر في حال جلوسه وما أشبه هذا وكإنسانين قاتل أحدهما في المعركة والموضع المخوف وقاتل الآخر في الردء أو جاهد أحدهما واشتغل الآخر بصيام وصلاة تطوع أو يجتهدان فيصادف أحدهما ويحرمه الآخر فيفضل أحدهما الآخر في هذه الوجوه بنفس عمله أو بان ذات عمله أفضل من ذات عمل الآخر فهذا التفاضل في المائية من العمل وأما الكمية وهي العرض فإن يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله تعالى لا يمزج به شيئاً البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله إلا أنه ربما مزج بعمله شيئاً من حب البر في الدنيا وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه وربما مزجه بشيء من الرياء ففضله الأول بعرضه في عمله وأما الكيفية فأن يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقوقه ورتبه لا منتقصاً ولا متزيداً ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسننه وإن لم يعطل منه فرضاً أو يكون أحدهما يصفى عمله من الكبائر وربما أتي الآخر ببعض الكبائر ففضله الآخر بكيفية عمله وأما الكم فأن يستويا في أداء الفرض ويكون أحدهما أكثر نوافل ففضله هذا بكثرة عدد نوافله كما روي في رجلين أسلما وهاجرا أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استشهد أحدهما وعاش الآخر بعده سنة ثم مات على فراشه فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما في النوم وهو آخرهما موتاً في أفضل من حال الشهيد فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام كلاماً معناه فأين صلاته وصيامه بعده ففضل أحدهما الآخر بالزيادة التي زادها عليه في عدد أعماله وأما الزمان فكمن عمل في صدر الإسلام أو في عام المجاعة أو في وقت نازلة بالمسلمين وعمل غيره بعد قوة الإسلام وفي زمن رخاء وأمن فإن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في ذلك الوقت تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها وبذل الأموال الجسام بعد ذلك ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعو إلى أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهباً ننفقه نحن في سبيل الله عز وجل بعد ذلك قال الله تعالى ‏"‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا يكذب قول أبي هاشم محمد بن علي الجبائي وقول محمد بن الطيب الباقلاني فإن الجبائي قال جائز أن طال عمر امرئ أن يعمل ما يوازي عمل نبي من الأنبياء و قال الباقلاني جائز أن يكون في الناس من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث بعث بالنبوة إلى أن مات‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كفر مجرد وردة وخروج عن دين الإسلام بلا مرية وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره أنا لا ندرك أحداً من أصحابه وفي إخباره عليه السلام عن أصحابه رضي الله عنهم بأنه ليس مثلهم وإنه أتقاهم وأعلمهم بما يأتي وما يذر وكذلك قال ت الخوارج والشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله عز وجل على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم حاشا عليا والحسن والحسين وعمار بن ياسر والخوارج يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله تعالى وكلاب النار على عثمان وعلي وطلحة والزبير ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكذلك القليل من الجهاد والصدقة في زمان الشدائد أفضل من كثيرهما في وقت القوة والسعة وكذلك صدقة المرء بدرهم في زمان فقره وصحته يرجو الحياة ويخاف الفقر أفضل من الكبير يتصدق به في عرض غناه وفي وصيته بعد موته وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق درهم مائة ألف وهو إنسان كان له درهمان تصدق بأحدهما والآخر عمد إلى عرض ماله تصدق منه بمائة ألف وكذلك صبر المرء على أداء الفرائض في حال خوفه ومرضه وقليل تنقله في زمان مرضه وخوفه أفضل من عمله وكثير تنقله في زمان صحته وأمنه ففضل من ذكرنا غيرهم بزمان عملهم وكذلك من وفق لعمل الخير في زمان آخر أجله هو أفضل ممن خلط في زمان آخر أجله وأما المكان فكصلاة في المسجد الحرام أو مسجد المدينة فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما وتفضل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة درجة وكصيام في بلد العدو أو في الجهاد على صيام في غير الجهاد ففضل من عمل في المكان الفاضل غيره ممن عمل في غير ذلك المكان بمكان عمله وإن تساوى العملان وأما الإضافة فركعة من نبي أو ركعة مع نبي أو صدقة من نبي أو صدقة معه أو ذكر منه أو ذكر معه وسائر أعمال البر منه أو معه فقليل ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده ويبين ذلك ما قد ذكرنا آنفاً من قول الله عز وجل ‏"‏ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ‏"‏ وإخباره عليه السلام أم أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ نصف مد من أحد من الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبهذا قطعنا على أن كل عمل عملوه بأنفسهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا يوازي شيئاً من البر عمله ذلك الصاحب بنفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا ما عمله غير ذلك الصاحب بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان غير ما نقول لجاز أن يكون أنس وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن بسر وعبد الله بن الحارث بن جزء وسهل ابن سعد الساعدي رضي الله عنهم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ وعثمان بن مظعون وسائر السابقين من المهاجرين والأنصار المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين لأن بعض أولئك عبدوا الله عز وجل بعد موت أولئك بعضهم بعد موت بعض بتسعين عاماً فما بين ذلك إلى خمسين عاماً وهذا ما لا يقوله أحد يعتد به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبهذا قطعنا على أن من كان من الصحابة حين موت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من آخر منهم فإن ذلك المفضول لا يلحق درجة الفاضل له حينئذ أبداً وإن طال عمر المفضول وتعجل موت الفاضل وبهذا أيضاً لم نقطع على فضل أحد منهم رضي الله عنهم حاشا من ورد فيه النص من النبي صلى الله عليه وسلم ممن مات منهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بل نقف في هؤلاء على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذه وجوه الفضائل بالأعمال التي لا يفضل ذو عمل ذا عمل فيما سواها البتة نتيجة هذه الوجوه كلها وثمرتها ونتيجة فضل الاختصاص المجرد دون عمل أيضاً لا ثالث لهما البتة أحدهما إيجاب الله تعالى تعظيم الفاضل في الدنيا على المفضول فهذا الوجه يشترك فيه كل فاضل بعمل أو اختصاص مجرد بلا عمل من عرض أو جماد أو حي ناطق أو غير ناطق وقد أمرنا الله تعالى بتعظيم الكعبة والمساجد ويوم الجمعة والشهر الحرام وشهر رمضان وناقة صالح وإبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله والملائكة والنبيين على حميعهم صلوات الله وسلامه والصحابة أكثر تعظيمنا وتوقيرنا غير ما ذكرنا من المواضع والأيام والنوق والأطفال والكلام والناس هذا ما لا شك فيه وهذا خاصة كل فاضل لا يخلو منها فاضل أصلاً ولا يكون البتة إلا لفاضل والوجه الثاني هو إيجاب الله تعالى للفاضل درجة في الجنة أعلى من درجة المفضول إذ لا يجوز عند أحد من خلق الله تعالى أن يأمر بإجلال المفضول أكثر من إجلال الفاضل ولا أن يكون المفضول أعلى درجة في الجنة من الفاضل ولو جاز ذلك لبطل معنى الفضل جملة ولكان لفظاً لا حقيقة له ولا معنى تحية وهذا الوجه الثاني الذي هو علو الدرجة في الجنة هو خاصة لكل فاضل بعمل فقط من الملائكة والأنس والجن وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فكل مأمور بتعظيمه فاضل وكل فاضل فمأمور بتعظيمه وليس الإحسان والبر والتوقير والتذلل المفترض في الأبوين الكافرين من التعظيم في شيء فقد يحسن المرء إلى من لا يعظم ولا يهين كإحسان المرء إلى جاره وغلامه وأجيره ولا يكون ذلك تعظيماً وقد يبر الإنسان جاره والشيخ من أكرته ولا يسمى ذلك تعظيماً وقد يوقر الإنسان من يخاف ضره ولا يسمى ذلك تعظيماً وقد يتذلل الإنسان للمتسلط الظالم ولا يسمى ذلك تعظيماً وفرض قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم وأبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه و قال عز وجل ‏"‏ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏"‏ فقد صح بيقين أن ما وجب للأبوين الكافرين من بر وإحسان وتذلل ليس هو التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل لأن التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل هو مودة في الله ومحبة فيه وولاية له وأما البر الواجب للأبوين الكافرين والتذلل لهما والإحسان إليهما فكل ذلك مرتبط بالعداوة لله تعالى وللبراءة منه وإسقاط المودة كما قال الله تعالى في نص القرآن وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد يكون دخول الجنة اختصاصاً مجرداً دون عمل وذلك للأطفال كما ذكرنا قبل فإذا قد صح ما ذكرنا قبل يقيناً بلا خلاف من أحد في شيء منه فبيقين ندري أنه لا تعظيم يستحقه أحد من الناس في الدنيا بإيجاب الله تعالى ذلك علينا بعد التعظيم الواجب علينا للأنبياء عليهم السلام أوجب ولا أوكد مما ألزمنا الله تعالى من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى ‏"‏ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ‏"‏ فأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مسلم هذا سوى حق إعظامهن بالصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهن رضي الله تعالى عنهن مع ذلك حق الصحبة له كسائر الصحابة إلا أن لهن من الاختصاص في الصحبة ووكيد الملازمة له عليه السلام ولطيف المنزلة عنده عليه السلام والقرب منه والحظوة لديه ما ليس لأحد من الصحابة رضي الله عنهم فهن أعلى درجة في الصحبة من جميع الصحابة ثم فضلن سائر الصحابة بحق زائد وهو حق الأمومية الواجب لهن كلهن بنص القرآن فوجدنا الحق الذي به استحق الصحابة الفضل قد شاركنهم فيه وفضلنهم فيه أيضاً ثم فضلنهم بحق زائد وهو حق الأمومية ثم وجدناهن لا عمل من الصلاة والصدقة والصيام والحج وحضور الجهاد يسبق فيه صاحب من الصحابة إلا كان فيهن فقد كن يجهدن أنفسهن في ضيق عيشهن على الكد في العمل بالصدقة والعتق ويشهدن الجهاد معه عليه السلام وفي هذا كفاية بينة في أنهن أفضل من كل صاحب ثم لا شك عند كل مسلم وبشهادة نص القرآن إذ خيرهن الله عز وجل بين الدنيا وبين الدار الآخرة والله ورسوله فاخترن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة فهن أزواجه في الآخرة بيقين فإذ هن كذلك فهن معه صلى الله عليه وسلم بلا شك في درجة واحدة في الجنة في قصوره وعلى سرره إذ لا يمكن البتة أن يحال بينه وبينهن في الجنة ولا أن ينحط عليه السلام إلى درجة يسفل فيها عن أحد من الصحابة هذا ما لا يظنه مسلم فإذ لا شك في حصولهن على هذه المنزلة فبالنص والإجماع علمنا أنهن لم يؤتين ذلك اختصاصاً مجرداً دون عمل بل باستحقاقهن لذلك باختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة إذ أمره الله عز وجل أن يخيرهن فاخترن الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الناس ثم قد حصل لهن أفضل الأعمال في جميع الوجوه السبعة التي قدمنا آنفاً أنه لا يكون التفاضل إلا بها في الأعمال خاصة ثم قد حصل لهن على ذلك أوكد التعظيم في الدنيا ثم قد حصل لهن أرفع الدرجات في الآخرة فلا وجه من وجوه الفضل إلا ولن فيه أعلى الحظوظ كلها بلا شك ومارية أم إبراهيم داخلة معهن في ذلك لأنها معه عليه السلام في الجنة ومع انبها منه بلا شك فإذ قد ثبت كل ذلك على رغم الأبي فقد وجب ضرورة أن يشهد لهن كلهن بأنهن أفضل من جميع الخلق كلهن بعد الملائكة والنبيين عليهم السلام وكيف ومعنا نص النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا محمد بنا أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الرقى الصموت ثنا أحمد بن عمر وبن عبد الخالق البزاز ثنا أحمد بن عمر وحدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك قال عائشة قال من الرجال قال فأبوها حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي قال حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب ابن قيس حدثنا أحمد بن محمد الأشقر حدثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى بن خالد بن عبد الله هو الطحان عن خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى جيش ذات السلاسل قال فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك فقال عائشة قلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر فعد رجالاً فهذان عدلان أنس وعمر ويشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن عائشة أحب الناس إليه ثم أبوها وقد قال الله عز وجل عنه عليه السلام ‏"‏ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ‏"‏ فصح أن كلامه عليه السلام أنها أحب الناس إليه وحي أوحاه الله تعالى إليه ليكون كذلك ويخبر بذلك لا عن هوى له ومن ظن ذلك فقد كذب الله تعالى لكن لاستحقاقها لذلك الفضل في الدين والتقدم فيه على جميع الناس الموجب لأن يحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لجميع الناس فقد فضلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيها وعلى عمر وعلي وعلى فاطمة تفضيلاً ظاهراً بلا شك فإن قال قائل فقل إن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لكونه مع أبيه عليه السلام في الجنة في درجة واحدة قلنا له وبالله تعالى التوفيق إن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استحق تلك المنزلة بعمل كان منه وإنما هو اختصاص مجرد وإنما تقع المفاضلة بين الفاضلين إذا كان فضلهما واحداً من وجه واحد فتفاضلا فيه وأما إن كان الفضل من وجهين اثنين فلا سبيل إلى المفاضلة بينهما لأن معنى قول القائل أي هذين أفضل إنما هو أي هذين أكثر أوصافاً في الباب الذي اشتركا فيها ألا ترى أنه لا ي قال أيهما أفضل رمضان أو ناقة صالح ولا أيهما أفضل الكعبة أو الصلاة بل نقول أيهما أفضل مكة أو المدينة وأيهما أفضل رمضان أو ذو الحجة وأيهما أفضل الزكاة أم الصلاة وأيهما أفضل ناقة صالح أو ناقة غيره من الأنبياء فقد صح أن التفاضل إنما يكون في وجه اشترك فيه المسؤول عنهما فبسق أحدهما فيه فاستحق أن يكون أفضل وفضل إبراهيم ليس على عمل أصلاً وإنما هو اختصاص مجرد وإكرام لأبيه صلى الله عليه وسلم وأما نساؤه عليه السلام فكونهن وكون سائر أصحابه عليهم السلام في الجنة إنما هو جزاء لهن ولهم على أعمالهن وأعمالهم قال الله بعد ذكر الصحابة رضي الله عنهم ‏"‏ جزاء بما كانوا يعملون ‏"‏ و قال بعد ذكر الصحابة ‏"‏ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ‏"‏ و قال تعالى مخاطباً لنسائه عليه السلام ‏"‏ ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ‏"‏ وهذا نص قولنا ولله الحمد و قال تعالى ‏"‏ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ غرف من فوقها غرف مبنية ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وإن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى ‏"‏ فإن قال قائل فكيف تقولون في قوله عليه السلام لن يدخل الجنة أحد بعمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل قلنا نعم هذا حق موافق للآيات المذكورة وهكذا نقول أنه لو عمل الإنسان دهره كله ما استحق على الله تعالى شيئاً لأنه لا يجب على الله تعالى شيء إذ لا موجب للأشياء الواجبة غيره تعالى لأنه المبتدي لكل ما في العالم والخالق له فلولا أن الله تعالى رحم عباده فحكم بأن طاعتهم له يعطيهم بها الجنة لما وجب ذلك عليه فصح أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله مجرداً دون رحمة الله تعالى لكن يدخلها برحمة الله تعالى التي جعل بها الجنة جزاء على أعمالهم التي أطاعوه بها فاتفقت الآيات مع هذا الحديث والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذ لا شك في هذا كله فقد امتنع يقيناً أن يجازى بالأفضل من كان أنقص فضلاً وأن يجازي بالأنقص من كان أتم فضلاً وصح ضرورة أنه لا يجزى أحد من أهل الأعمال في الجنة إلا بما استحقه برحمة الله تعالى جزاء على عمله ولله تعالى أن يتفضل على من شاء بما شاء وجائز أن يقدم على ذوي الأعمال الرفيعة قال تعالى ‏"‏ يختص برحمته من يشاء ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‏"‏ فلا يجوز خلاف هذه النصوص لأحد لأن من خالفها كذب القرآن ولولا هذه النصوص لما أبعدنا أن يعذب الله تعالى على الطاعة له وأن ينعم على معصيته وأن يجازي الأفضل بالأنقص والأنقص بالأفضل لأن كل شيء ملكه وخلقه لا مالك لشيء سواه ولا معقب لحكمه ولا حق لأحد عليه لكن قد أمنا ذلك كله بأخبار الله تعالى أنه لا يجازي ذا عمل إلا بعمله وأنه يتفضل على من يشاء فلزم الإقرار بكل ذلك وبالله تعالى التوفيق فلو قال قائل أيما أفضل في الجنة وأعلى قدراً مكان إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مكان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قلنا مكان إبراهيم أعلى بلا شك ولكن ذلك المكان اختصاص مجرد لإبراهيم المذكور لم يستحقه بعمل ولا استحق أيضاً أن يقصر به عنه ومواضيع هؤلاء المذكورين جزاء لهم على قدر فضلهم وسوابقهم وكذلك نساؤه صلى الله عليه وسلم مكانهن جزاء لهن على قدر فضلهن وسوابقهن فلا ي قال أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من أبي بكر أو عمر ولا ي قال أيضاً أن أبا بكر وعمر أفضل من إبراهيم والمفاضلة واقعة بين الصحابة وبين نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أعمالهم وسوابهم لها مراتب متناسبة بلا شك فإن قال قائل أنهن لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصلن تلك الدرجة وإنما تلك الدرجة له عليه السلام قلنا وبالله تعالى التوفيق نعم ولا شك أيضاً في أن جميع الصحابة لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصلوا أيضاً على الدرج التي لهم فيها فإنما هي إذا على قولكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلتم ولا فرق وبقي الفضل والتقدم لهن كما كان في كل ذلك ولا فرق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما فضلهن على بنات النبي صلى الله عليه وسلم فبين بنص القرآن لا شك فيه قال الله عز وجل ‏"‏ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن فلا تخضعن بالقول ‏"‏ فهذا بيان قاطع لا يسع أحداً جهله فإن عارضنا معارض بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نسائها فاطمة بنت محمد قلنا له وبالله تعالى التوفيق في هذا الحديث بيان جلي لما قلنا وهو أنه عليه السلام لم يقل خير النساء فاطمة وإنما قال خير نسائها فخص ولم يعم وتفضيل الله عز وجل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم على النساء عموم لا خصوص لا يجوز أن يستثني منه أحد إلا من استثناه نص آخر فصح أنه عليه السلام إنما فضل فاطمة على نساء المؤمنين بعد نسائه صلى الله عليه وسلم فاتفقت الآية مع الحديث و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فهذا أيضاً عموم موافق الآية ووجب أن يستثني ما خصه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله نسائها من هذا العموم فصح أن نساءه عليه السلام افضل النساء جملة حاشا اللواتي خصهن الله تعالى بالنبوة كأم إسحاق وأم موسى وأم عيسى عليهم السلام وقد نص الله تعالى على هذا بقوله الصادق ‏"‏ يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ‏"‏ ولا خلاف بين المسلمين في أن جميع الأنبياء كل نبي منهم أفضل ممن ليس بنبي من سائر الناس ومن خالف هذا فقد كفر وكذلك أخبر عليه السلام فاطمة أنها سيدة نساء المؤمنين ولم يدخل نفسه صلى الله عليه وسلم في هذه الجملة بل أخبر عمن سواه وبرهان آخر وهو قول الله تعالى مخاطباً لهن ‏"‏ ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا فضل ظاهر وبيان لائح في أنهن أفضل من جميع الصحابة رضي الله عنهم وبهذه الآية صحة متيقنة لا يمتري فيها مسلم فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة وسائر الصحابة رضي الله عنهم إذا عمل الواحد منهم عملاً يستحق عليه مقداراً ما من الأجر وعملت امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك العمل بعينه كان لها مثل ذلك المقدار من الأجر فإذا كان نصيف الصحابى وفاطمة رضي الله عنهم يفي بأكثر من مثل جبل أحد ذهباً ممن بعده كان للمرأة من نسائه عليه السلام في نصيفها أكثر من مثلي جبلين اثنين مثل جبل أحد ذهباً وهذه فضيلة ليست لأحد بعد الأنبياء عليهم السلام إلا هن وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوعك كوعك رجلين من أصحابه لأن له على ذلك كفلين من الأجر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وليس بعد هذا بيان في فضلهن على كل أحد من الصحابة إلا من أعمى الله قلبه عن الحق ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد اعترض علينا بعض أصحابنا في هذا المكان بقول الله تعالى عن أهل الكتاب إذ آمنوا ‏"‏ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ‏"‏ قال فيلزم أنهم أفضل منا فقلت له أن هذه الآية والخبر الذي فيه ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر مؤمن أهل الكتاب والعبد الناصح ومعتق أمته ثم يتزوجها فيهما بيان الوجه الذي أجروا به مرتين وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالنبي الأول المبعوث بالكتاب الأول ونحن نؤمن بهذا كله كما آمنوا فنحن شركاء ذلك المؤمن منهم في ذينك الإيمانين وكذلك العبد الناصح يؤجر لطاعة سيده أجراً ولطاعة الله أجراً وكذلك معتق أمته ثم يتزوجها يؤجر على عتقه أجراً ثم على نكاحه إذا أراد به وجه الله تعالى أجراً ثانياً فصح بالنص يقيناً أن هؤلاء إنما يؤتون أجرهم مرتين في خاص من أعمالهم لا في جميع أعمالهم وليس في هذا ما يمنع من أن يؤجر غيرهم في غير هذه الأعمال أكثر من أجور هؤلاء وأيضاً فإنما يضاعف لهؤلاء على ما عمله أهل طبقتهم وليست المضاعفة لأجور نساء النبي صلى الله عليه وسلم مرتين من هذا في ورد ولا صدر لأن المضاعفة لهن إنما هي في كل عمل عملنه بنص القرآن إذ يقول تعالى ‏"‏ ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ‏"‏ فكل عمل عمله صاحب من الصحابة له فيه أجر فلكل امرأة منهن في مثل ذلك العمل أجران والمضاعفة لهن إنما تكون على ما عمله طبقتهن من الصحابة قد علمنا أن بين عمل الصاحب وعمل غيره أعظم مما بين أحد ذهباً ونصف مد شعير فيقع لكل واحدة منهن مثلا ذلك مرتين وهذا لا يخفى على ذي حس سليم فبطلت المعارضة التي ذكرناها والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واعترض علينا أيضاً بعض الناس في الحديث الذي فيه أن عائشة أحب الناس إليه ومن الرجال أبوها بأن قال قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأسامة بن زيد أن أباه أحب الناس إلي وأن هذا أحب الناس إلي بعده وصح أنه عليه السلام قال للأنصار أنكم أحب الناس إلي‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما هذا اللفظ الذي في حديث أسامة بن زيد أنه أحب الناس إليه عليه السلام فقد روي من طريق حماد بن سلمة عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه وأما الذي فيه ذكر أسامة وزيد رضي الله عنهما فإنما رواه عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله عن أبيه وعمر بن حمزة هذا ضعيف والصحيح من هذا الخبر هو ما رواه عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا مغمز فيه فذكر فيه أنه عليه السلام قال يعني لزيد بن حارثة إيم الله إن كان لخليق بالإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وأن هذا من أحب الناس إلي بعده وهذا يقضي على حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه لأنه مختصر من حديث عبد الله بن دينار وبهذا ينتفي التعارض بين الروايتين عن أبن عمر وعن أنس وعمرو وإلا فليس أحدهما أولى من الآخر وأما حديث الأنصار فرووه كما ذكره هشام بن زيد عن أنس ورواه عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أنتم من أحب الناس إلي وهو حديث واحد وزيادة العدل مقبولة فصح بزيادة من في الحديث من طريق العدول أن الأنصار وزياداً وأسامة رضي الله عنهم من جملة قوم هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا حق لا يشك فيه لأنهم من أصحابه وأصحابه أحب الناس إليه بلا شك وليس هكذا جوابه في عائشة رضي الله عنها إذ سئل من أحب الناس إليك فقال عائشة فقيل من الرجال قال أبوها لأن هذا قطع على بيان ما سأل عنه السائل من معرفة من المنفرد البائن عن الناس بمحبته عليه السلام واعترض علينا بعض الأشعرية بأن قال أن الله تعالى يقول ‏"‏ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ‏"‏ فصح أن محبته عليه السلام لمن أحب ليس فضلاً لأنه قد أحب عمه وهو كافر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فقلنا أن هذه الآية ليست على ما ظن وإنما مراد الله تعالى ‏"‏ إنك لا تهدي من أحببت ‏"‏ أي أحببت هداه برهان ذلك قوله تعالى ‏"‏ ولكن الله يهدي من يشاء ‏"‏ أي من يشاء هداه وفرض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أن نحب الهدى لكل كافر لا أن نحب الكافر وأيضاً فلو صح أن معنى الآية من أحببت كما ظن هذا المعترض لما كان علينا بذلك حجة لأن هذه آية مكية نزلت في أبي طالب ثم أنزل الله تعالى في المدينة ‏"‏ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ‏"‏ وأنزل الله تعالى في المدينة ‏"‏ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏"‏ وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أبا طالب فقد حرم الله تعالى عليه بعد ذلك ونهاه عن محبته وافترض عليه عداوته وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن العداوة والمحبة لا يجتمعان أصلاً والمودة هي المحبة في اللغة التي بها نزل القرآن بلا خلاف من أحد من أهل اللغة فقد بطل أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً غير مؤمن وقد صحت النصوص والإجماع على أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أحب فضيلة وذلك كقوله عليه السلام لعلي لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فإذ لا شك ولا خلاف في أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قال أهل الجهل والكذب فقد صح يقيناً أن كل من كان أتم حظاً في الفضيلة فهو أفضل ممن هو أقل حظاً في تلك الفضيلة هذا شيء يعلم ضرورة فإذا كانت عائشة أتم حظاً في المحبة التي هي أتم فضيلة فهي أفضل ممن حظه في ذلك أقل من حظها ولذلك لما قيل له عليه السلام من الرجال قال أبوها ثم عمر فكان ذلك موجباً لفضل أبي بكر ثم عمر في الفضل من أجل تقدمهما في المحبة عليهما وما نعلم نصاً في وجوب القول بتقديم ابن بكر ثم عمر على سائر الصحابة إلا هذا الخبر قال أبو محمد‏:‏ وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينكح له من النساء فذكر الحسب والمال والجمال والدين ونهي صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك بقوله فعليك بذات الدين تربت يداك فمن المحال الممتنع أن يكون يحض على نكاح النساء واختيارهن للدين فقط ثم يكون هو عليه السلام يخالف ذلك فيحب عائشة لغير الدين وكذلك قوله عليه السلام فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام لا يحل لمسلم أن يظن في ذلك شيئاً غير الفضل عند الله تعالى في الدين فوصف الرجل امرأته للرجال لا يرضه به إلا خسيس نذل ساقط ولا يحل لمن له أدنى مسكة من عقل أن يمر هذا بباله عن فاضل من الناس فكيف عن المقدس المطهر البائن فضله على جميع الناس صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولولا أنه بلغنا عن بعض من يصدر لنشر العلم من زماننا وهو المهلب بن أبي صفرة التميمي صاحب عبد الله بن إبراهيم الأصيل أن أشار إلى هذا المعنى القبيح وصرح به ما انطلق لنا بالإيمان إليه لسان ولكن المنكر إذا ظهر وجب على المسلمين تغييره فرضاً على حسب طاقتهم وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكذلك عرض الملك لها رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادتها في سرقة من حرير يقول له هذه زوجتك فيقول عليه السلام إن يكن من عند الله قال أبو محمد‏:‏ واعترض علينا مكي بن أبي طالب المقري بأن قال يلزم على هذا أن تكون امرأة أبي بكر أفضل من علي لأن امرأة أبي بكر أعلى من منزلة علي فهي أفضل من علي‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأجبناه بأن قلنا له وبالله تعالى نتأيد أن هذا الاعتراض ليس بشيء لوجوه أحدها أن ما بين درجة أبي بكر ودرجة علي في الفضل الموجب لعلو درجته في الجنة على درجة علي ليست من التباين بحيث هو ما بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وبين درجة أبي بكر في الفضل الموجب لعلو درجته عليه السلام على درجات سائر الصحابة رضي الله عنهم بل قد أيقنا أن درجة أقل رجل منا في الفضل أقرب نسبة من أعلى درجة لأعلى رجل من الصحابة من نسبة درجة أفضل الصحابة إلى درجة النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً فليس بين أبي بكر وعلي في المباينة في الفضل ما يوجب أن تكون امرأة أبي بكر التابعة له أفضل من علي بل منازل المهاجرين الأولين الذين أوذوا في سبيل الله عز وجل متقاربة وإن تفاضلت ثم كذلك أهل السوابق مشهداً مشهداً درجهم في الفضل ثم كذلك من أسلم بعد الفتح أيضاً ويزداد الأفضل فالأفضل من المشركين في المشاهد جزاء على ذلك فنقول أن امرأة أبي بكر المستحقة بعملها الكون معه في درجته مثل أم رومان لسنا ندري أهي أفضل أم علي لأنا لا نص معنا في ذلك والتفضيل لا يعرف إلا بنص وقد قال عليه السلام خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم أو كما قال عليه السلام فجعلهم طبقات في الخير والفضل فلا شك هم كذلك في الجزاء في الجنة وإلا فكان يكون الفضل لا معنى له و قال عز وجل ‏"‏ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏"‏ وأيضاً فلسنا نشك أن المهاجرات الأولات من نساء الصحابة رضي الله عنهم يشاركن الصحابة في الفضل ففاضلة ومفضولة وفاضل ومفضول ففيهن من يفضل كثيراً من الرجال وفي الرجال من يفضل كثيراً منهن وما ذكر الله تعالى منزلة من الفضل إلا وقرن النساء مع الرجال فيها كقوله تعالى ‏"‏ إن المسلمين والمسلمات ‏"‏ الآية حاشا الجهاد فإنه فرض على الرجال دون النساء ولسنا ننكر أن يكون لأبي بكر رضي الله عنه قصور ومنازل مقدمة على جميع الصحابة ثم يكون لمن لم تستأهل من نسائه تلك المنزلة منازل في الجنة دون منازل من هو أفضل منهن من الصحابة فقد نكح الصحابة رضي عنهم التابعيات بعد الصاحبات وعليهن فتكون تلك المنازل زائدة في فضل أزواجهن من الصحابة فينزلون إليهن ثم ينصرفون إلى منازلهن العالية بل قد صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال كلاماً معناه وأكثر نصه أنه عليه السلام زعيم بيت في ربض الجنة وفي وسط الجنة وفي أعلى الجنة لم فعل كذا أمراً وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصح نص ما قلنا من أن لمن دونه عليه السلام منازل عالية وآخر مسفلة عن تلك المنازل ينزلون إليها ثم يصعدون إلى الأعالي وهذا معبد عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين أحدهما أن جميع نسائه عليه السلام لهن حق الصحبة التي يشتركن فيها جميع الصحابة ويفضلنهم فيها بقرب الخاصة فليس في نسائه عليه السلام ولا واحدة يفضلها بالصحبة التي هي فضيلتهم التي بها بانوا عمن سواهم فقط وقد كفينا الباب والوجه الثاني أن تأخر بعض الصحابة عن بعضهم في بعض الأماكن موجود وإن كان ذلك المتأخر في بعض الأماكن متقدماً في مكان آخر فقد علمنا أن بلالاً عذب في الله عز وجل ما لم يعذب علي وأن علياً قاتل ما لم يقاتل بلال وأن عثمان أنفق ما لم ينفق بلال ولا علي فيكون المفضول منهم في الجملة متقدماً للذي فضله في بعض فضائله ولا سبيل أن يوجد هذا فيما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يتقدمه أحد من ولد آدم في شيء من الفضائل أولها عن آخرها ولا إلى أن يلحقه لاحق في شيء من الفضائل من بني آدم فلا سبيل إلى أن ينسفل النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة يوازيه فيها صاحب من الصحابة فكيف أن يعلو عليه الصاحب هذا أمر تقشعر منه جلود المؤمنين وقد استعظم أبو أيوب رضي الله عنه أن يسكن في غرفة على بيت يسكنه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يظن بأن هذا يكون في دار الجزاء فإذا كان العالي من الصحابة في أكثر منازله ينسفل أيضاً في بعضها عن صاحب آخر قد علاه في منازل أخر على قدر تفاضلهم في أعمالهم كما ذكرنا آنفاً فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصائمين يدعون من باب الريان وأن المجاهدين يدعون من باب الجهاد وأن المتصدقين يدعون من باب الصدقة وأن أبا بكر يرجو له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعي من جميع تلك الأبواب وقد يجوز أن يفضل أبا بكر رضي الله عنه غيره من الصحابة في بعض تلك الوجوه ممن انفرد بباب منها ولا يجوز أن يفضل أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أبواب البر فبطل هذا الاعتراض جملة والحمد لله رب العالمين واعترض أيضاً علينا مكي بن أبي طالب بأن قال إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى عليه السلام ومن كل واحد من الأنبياء عليهم السلام وكان عليه السلام أعلى درجة في الجنة من جميع الأنبياء عليهم السلام وكان نساؤه عليه السلام معه في درجته في الجنة فدرجتهن فيها أعلى من درجة موسى عليه السلام ومن درج سائر الأنبياء عليهم السلام فهن على هذا الحكم أفضل من موسى وسائر الأنبياء عليهم السلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأجبناه بأن هذا الاعتراض أيضاً لا يلزمنا ولله الحمد لأن الجنة دار ملك وطاعة وعلو منزلة ورياسة واتباع من التابع للمتبوع كما قال عز وجل ‏"‏ وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً ‏"‏ و قال تعالى عن موسى عليه السلام ‏"‏ وكان عند الله وجيهاً ‏"‏ وأخبر عز وجل عن جبريل صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فقال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ‏"‏ فقد علمنا أن ملك الدنيا غرور وأن ملك الآخرة هو الحقيقة وقد أخبر عليه السلام أنه رأى الأنبياء عليهم السلام مع اتباعهم فالنبي معه الواحد والاثنان والثلاثة والنفر والجماعة فأخبر عز وجل أن هنالك الملك الكبير والطاعة والوجاهة والاتباع والاستئمار وإنما عرض الله تعالى علينا في الدنيا من الملك طرفاً لنعلم به مقدار الملك الذي في دار الجزاء كما عرض علينا من اللذات والحرير والديباج والخمر والذهب والفضة والمسك والجواري والحلي وأعلمنا أن هذا كله خالصة لنا هنالك وكما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آخر من يدخل الجنة يزكو على أعظم ملك عرفه في الدنيا فيتمنى مثل ملكه فيعطيه الله تعالى مثل الدنيا عشر مرات‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلما صح ما ذكرنا وكانت الملائكة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها وكانت طبقة المرسلين النبيين طبقة واحدة والنبيون غير المرسلون طبقة واحدة لأنهم أيضاً يتفاضلون فيها وكل الصحابة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها فوجب بلا شك أن لا يكون اتباع الرسل من النساء والأصحاب كالمتبوعين الذين هم الرسل لأن بالضرورة نعلم أن تابع الأعلى ليس لاحقاً نظير متبوعه فكيف أن يكون أعلى منه كما أن التابعيات من نساء الصحابة رضي الله عنهم لا يلحقن نظراء أزواجهن من الصحابة إذ ليس هن معهم في طبقة وإنما ينظر بين أهل كل طبقة ومن هو في طبقته ونساء النبي صلى الله عليه وسلم طبقة واحدة مع الصحابة فصح التفاضل بينهم وليس واحدة منهن ولا منهم مع الأنبياء في طبقة فلم يجزان ينظر بينهم وقد أخبر عليه السلام أنه رأى ليلة الإسراء الأنبياء عليهم السلام في السموات سماء سماء وبالضرورة نعلم أن منزلة النبي الذي هو متبوع في سماء الدنيا أمره هناك مطاع أعلى من منزلة التابع في السماء السابعة للنبي الذي هناك وإذ صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل نبي يأتي مع أمته فنحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم فإن كان ما ألزمناه مكي لازماً لنا فيلزمه مثل ذلك فينا أيضاً أن نكون أفضل من الأنبياء وهذا غير لازم لما ذكرنا من أنه لا ينظر في الفضل إلا بين من كان من أهل طبقة واحدة فمن كان منهم أعلى منزلة من الآخر كان أفضل منه بلا شك وليس ذلك في الطباق المختلفة ألا ترى أن كون مالك خازن النار في مكان غير مكان خازن الجنة وغير مكان جبرائيل لا تحط درجته عن درجة من في الجنة من الناس الذين الملائكة جملة أفضل منهم لأن مالكا متبوع للنار ومقدم مطاع مفضل بذلك على التابعين والخدمة في الجنة بلا شك فبطل هذا الشغب ويجمع هذا الجواب باختصار وهو أن الرؤساء والمتبوعين في كل طبقة في الجنة أعلى من التابعين لهم ونساء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كلهم أتباع له عليه السلام وجميع الأنبياء متبوعون فإنما ينظر بين المتبوعين أيهم أفضل وينظر بين الأتباع أيهم أفضل ويعلم الفضل بعلو درجة كل فاضل من دونه في الفضل ولا يجوز أن ينظر بين الأتباع والمتبوعين لأن المتبوعين لا يكونون البتة أحط درجة من التابعين وبالله تعالى التوفيق‏.‏

فإن قال قائل فكيف يقولون في الحور العين أهن أفضل من الناس ومن الأنبياء كما قلتم في الملائكة‏.‏

فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الفضل لا يعرف إلا ببرهان مسموع من الله تعالى في القرآن أو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولم نجد الله تعالى نص على فضل الحور العين كما نص على فضل الملائكة وإنما نص على أنهن مطهرات حسان عرب أتراب يجامعن ويشاركن أزواجهن في اللذات كلها وأنهن خلقن ليلتذ بهن المؤمنون فإذا الأمر هكذا فإنما محل الحور العين محل من هن له فقط إن ذلك اختصاص لهن بلا عمل وتكليف فهن خلاف الملائكة في ذلك وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومما يؤكد قولنا قول الله تعالى أن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون وهذا النص إذ قد صح فقد وجب الإقرار به فلو عجزنا عن تفضيل بعض أقسام هذه الاعتراضات لما ألزمنا في ذلك نقصاً إذ لا يجوز الاعتراض على هذا النص وكلما صح بيقين فلا يجوز أن يعارض بيقين آخر والبرهان لا ببطله برهان وقد أوضحنا أن الجنة دار جزاء على أعمال المكلفين فأعلاهم درجة أعلاهم فضلاً ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أعلا درجة في الجنة من جميع الصحابة فهن أفضل منهن فمن أبي هذا فليخبرنا ما معنى الفضل عنده إذ لا بد أن يكون لهذه الكلمة معنى فإن قال لا معنى لها فقد كفانا مؤنته وإن قال إن لها معنى سألناه ما هو فإنه لا يجد غير ما قلنا وبالله تعالى التوفيق فكيف وقد أبينا بتأييد الله عز وجل لنا على كلما اعترض علينا به في هذا الباب ولاح الوجه في ذلك بيناً والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واستدركنا بياناً زائداً في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أن فاطمة سيدة نساء المؤمنين أو نساء هذه الأمة فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الواجب مراعاة ألفاظ الحديث وإنما ذكر عليه السلام في هذا الحديث السادة ولم يذكر الفضل وذكر عليه السلام في حديث عائشة الفضل نصاً بقوله عليه السلام ‏"‏ وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والسادة غير الفضل ولا شك أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء العالمين بولادة النبي صلى الله عليه وسلم لها فالسادة من باب الشرف لا من باب الفضل فلا تعارض بين الحديثين والحمد لله رب العالمين وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما وهو حجة في اللغة العربية كان أبو بكر خيراً وأفضل من معاوية وكان معاوية أسود من أبي بكر ففرق ابن عمر بين السادة والفضل والخير وقد علمنا أن الفضل هو الخير نفسه لأن الشيء إذا كان خيراً من شيء آخر فهو أفضل منه بلا شك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد قال قائل ممن يخالفنا في هذا قال الله عز وجل ‏"‏ وليس الذكر كالانثى ‏"‏ فقلنا وبالله تعالى التوفيق فأنت إذا عند نفسك أفضل من مريم وعائشة وفاطمة لأنك ذكر وهؤلاء أناث فإن قال هذا الحق بالنوكي وكفر فإن سئل عن معنى الآية قيل له الآية على ظاهرها ولا شك في أن الذكر ليس كالأنثى لأنه لو كان كالأنثى لكان أنثى والأنثى أيضاً ليست كالذكر لأن هذه أنثى وهذا ذكر وليس هذا من الفضل في شيء البتة وكذلك الحمرة غير الخضرة والخضرة ليست كالحمرة وليس هذا من باب الفضل فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل ‏"‏ وللرجال عليهن درجة ‏"‏ قيل له إنما هذا في حقوق الأزواج على الزوجات ومن أراد حمل هذه الآية على ظاهرها لزمه أن يكون كل يهودي وكل مجوسي وكل فاسق من الرجال أفضل من أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته وهذا كفر ممن قال ه بإجماع الأمة وكذلك قوله تعالى ‏"‏ أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ‏"‏ إنما ذلك في تقصيرهم في الأغلب عن المحاجة لقلة ذريتهم وليس في هذا ما يحط من الفضل عن ذوات الفضل منهن فإن اعترض معترض فقال الذي أمرنا بطاعتهم من خلفاء الصحابة رضي الله عنهم أفضل من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى ‏"‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ‏"‏ فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا خطأ من جهات إحداها أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من جملة أولي الأمر منا الذين أمرنا بطاعتهم فيما بلغن إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم كالأئمة من الصحابة سواء ولا فرق والوجه الثاني أن الخلافة ليست من قبل فضل الواحد في دينه فقط وجبت لمن وجبت له وكذلك الإمارة لأن الإمارة قد تجوز لمن غيره أفضل منه وقد كان عمر رضي الله عنه مأموراً بطاعة عمرو بن العاص إذ أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل فبطل أن تكون الطاعة إنما تجب للأفضل وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيراً ولم يؤمر أبا ذر وأبو ذر أفضل خير منهما بلا شك وأيضاً فإنما وجبت طاعة الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم في أوامرهم مذ ولوا لا قبل ذلك ولا خلاف في أن الولاية لم تزدهم فضلاً على ما كانوا عليه وإنما زادهم فضلاً عدلهم في الولاية لا الولاية نفسها وعدلهم داخل في جملة أعمالهم التي يستحقون الفضل بها ألا ترى أن معاوية والحسن إذ وليا كانت طاعتهما واجبة على سعد بن أبي وقاص وسعد أفضل منهما ببون بعيد جداً وهو حي معهما مأمور بطاعتهما وكذلك القول في جابر وأنس بن مالك وابن عمر رضي الله عنهم في وجوب طاعة عبد الملك بن مروان والذي بين جابر وأنس وابن عمر وبين عبد الملك في الفضل كالذي بين النور والظلمة فليس في وجوب طاعة الولاة ما يوجب لهم فضلاً في الجنة فإن اعترض معترض بقول الله تعالى ‏"‏ والذين أمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ‏"‏ فبيان اعتراضه ظاهر في آخر الآية وهو أن إلحاق الذرية بالأباء لا يقتضي كونهم معهم في درجة ولا هذا مفهوم من نص الآية بل إنما فيها إلحاقهم بهم فيما ساووهم فيه بنص الآية ثم بين تعالى ذلك ولم يدعنا في شك بقوله ‏"‏ كل امرئ بما كسب رهين ‏"‏ فصح أن كل واحد من الأباء والأبناء يجازى حسب ما كسب فقط وليس حكم الأزواج كذلك بل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم معه في قصوره وعلى سرره ملتذ بهن ومعهن جزاء لهن بما عملن من الخير وبصبرهن واختيارهن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة وهذه منزلة لا يحلها أحد بعد النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فهن أفضل من كل واحد دون الأنبياء عليهم السلام فإن شغب مشغب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل من إحداكن قلنا له وبالله تعالى التوفيق إن حملت هذا الحديث على ظاهره فيلزمك أن تقول أنك أتم عقلاً وديناً من مريم وأم موسى وأم إسحاق ومن عائشة وفاطمة فإن تمادى على هذا سقط الكلام معه ولم يبعد عن الكفر وإن قال لا سقط اعتراضه واعترف بأن من الرجال من هو أنقص ديناً وعقلاً من كثير من النساء فإن سأل عن معنى هذا الحديث‏.‏

قيل له قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه ذلك النقص وهو كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم وليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين والعقل في غير هذين الوجهين فقط إذ بالضرورة ندري أن في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال وأتم ديناً وعقلاً غير الوجوه التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً فصح يقيناً أنه إنما عبر عليه السلام ما قد بينه في الحديث نفسه من الشهادة والحيض فقط وليس ذلك مما ينقص الفضل فقد علمنا أن أبا بكر وعمر وعلياً لو شهدوا في زنا لم يحكم بشهادتهم ولو شهد به أربعة منا عدول في الظاهر حكم بشهادتهم وليس ذلك بموجب أننا أفضل من هؤلاء المذكورين وكذلك القول في شهادة النساء فليست الشهادة من باب التفاضل في ورد ولا صدر لكن يقفا فيها عند ما حده النص فقط ولا شك عند كل مسلم في أن صواحبه من نسائه وبناته عليهم السلام كخديجة وعائشة وفاطمة وأم سلمة أفضل ديناً ومنزلة عند الله تعالى من كل تابع أتى بعدهن ومن كل رجل يأتي في هذه الأمة إلى يوم القيامة فبطل الاعتراض بالحديث المذكور وصح أنه على ما فسرناه وبيناه والحمد لله رب العالمين‏.‏

وأيضاً فقول الله تعالى ‏"‏ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء مخرج لهن عن سائر النساء في كل ما اعترض به معترض مما ذكرناه وشبهه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن اعترض معترض بقول النبي صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وامرأة فرعون فإن هذا الكمال إنما هو الرسالة والنبوة التي انفرد بها الرجال وشاركهم بعض النساء في النبوة وقد يتفاضلون أيضاً فيها فيكون بعض الأنبياء أكمل من بعض ويكون بعض الرسل أكمل من بعض قال الله عز وجل ‏"‏ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ‏"‏ فإنما ذكر في هذا الخبر من بلغ غاية الكمال في طبقته ولم يتقدمه منهم أحد وبالله تعالى التوفيق فإن اعترض معترض بقوله عليه السلام لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة فلا حجة له في ذلك لأنه ليس امتناع الولاية فيهن بموجب لهن نقص الفضل فقد علمنا أن ابن مسعود وبلال وزيد ابن حارثة رضي الله عنهم لم يكن لهم حظ في الخلافة وليس بموجب أن يكون الحسن وابن الزبير ومعاوية أفضل منهم والخلافة جائزة لهؤلاء غير جائزة لأولئك ومنهم في الفضل ما لا يجهله المسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما أفضل نسائه فعائشة وخديجة رضي الله عنهما لعظم فضائلهما وإخباره عليه السلام أن عائشة أحب الناس إليه وأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وقد ذكر عليه السلام خديجة بنت خويلد فقال أفضل نسائها مريم بنت عمران وأفضل نسائها خديجة بنت خويلد مع سابقة خديجة في الإسلام وثباتها رضي الله عنها ولأم سلمة وسودة وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وحفصة سوابق في الإسلام عظيمة وأحمال للمشقات في الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والهجرة والغربة عن الوطن والدعاء إلى الإسلام والبلاء في الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكلهن بعد ذلك الفضل المبين رضوان الله عليهن أجمعين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه مسألة نقطع فيها على أننا المحققون عند الله عز وجل وأن من خالفنا فيها مخطئ عند الله عز وجل بلا شك وليست مما يسع الشك فيه أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن قال قائل هل قال هذا أحد قبلكم قلنا له وبالله تعالى التوفيق وهل قال غير هذا أحد من قبل يخالفنا الآن وقد علمنا ضرورة أن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من الفضل بلا شك فلا بد من البحث عنها فليقل مخالفنا في أي منزلة نضعهن أبعد جميع الصحابة كلهم فهذا ما لا يقوله أحد أم بعد طائفة منهم فعليه الدليل وهذا ما لا سبيل له إلى وجوده وإذ قد بطل هذان القولان أحدهما بالإجماع على أنه باطل والثاني لأنه دعوى لا دليل عليها ولا برهان فلم يبق إلا قولنا والحمد لله رب العالمين الموفق للصواب بفضله ثم نقول وبالله تعالى نستعين قد صح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس حين ولي بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الناس إني وليتكم ولست بخيركم فقد صح عنه رضي الله عنه أنه أعلن بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم أنه ليس بخيرهم ولم ينكر هذا القول منهم أحد فدل على متابعتهم له ولا خلاف أنه ليس في أحد من الحاضرين لخطبته إنسان يقول فيه أحد من الناس أنه خير من أبي بكر إلا علي وابن مسعود وعمرو أما جمهور الحاضرين من مخالفينا في هذه المسألة من أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والخوارج فإنهم لا يختلفون في أن أبا بكر أفضل من علي وعمر وابن مسعود وخير منهم فصح أنه لم يبق إلا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن قال قائل إنما قال أبو بكر هذا تواضعاً قلنا له هذا هو الباطل المتيقن لأن الصديق الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم لا يجوز أن يكذب وحاشا له من ذلك ولا يقول إلا الحق والصدق فصح أن الصحابة متفقون في الأغلب على تصديقه في ذلك فإذ ذلك كذلك وسقط بالبرهان الواضح أن يكون أحد من الصحابة رضي الله عنهم خيراً من أبي بكر لم يبق إلا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساؤه ووضح أننا لو قلنا أنه إجماع من جمهور الصحابة لم يبعد من الصدق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأيضاً فإن يوسف بن عبد الله النمري حدثنا قال حدثنا خلف بن قاسم ثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن علي الكندي حدثنا محمد بن العباس البغدادي ثنا إبراهيم ابن محمد البصري ثنا أبو أيوب سليمان بن داود الشاذكوني قال كان عمار بن ياسر والحسن ابن علي يفضلان علي بن أبي طالب على أبي بكر الصديق وعمر حدثنا أحمد بن محمد الخوزي ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير الطبري أن علي بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد فخطبهم عمار وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم إني أقول لكم ووالله إني لأعلم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة كما هي زوجته في الدنيا ولكن الله ابتلاكم بها لتطيعوها أو لتطيعوه فقال له مسروق أو أبو الأسود يا أبا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له فسكت عمار و قال له الحسن اعن نفسك عنا فهذا عمار والحسن وكل من حضر من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والكوفة يؤمئذٍ مملؤة منهم يسمعون تفضيل عائشة على علي وهو عند عمار والحسن أفضل من أبي بكر وعمر فلا ينكرون ذلك ولا يعترضونه أحوج ما كانوا إلى إنكاره فصح أنهم متفقون على أنها وأزواجه عليه السلام أفضل من كل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام ومما نبين أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقل وليتكم ولست بخيركم إلا محقاً صادقاً لا تواضعاً يقول فيه الباطل وحاشا له من ذلك ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي قال حدثنا أحمد بن محمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت الرفي أنا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البران ثنا عبد الملك ابن سعد ثنا عقبة بن خالد ثنا شعبة بن الحجاج ثنا الحريري عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ألست أحق الناس بها أو لست أول من أسلم ألست صاحب كداء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا أبو بكر رضي الله عنه يذكر فضائل نفسه إذ كان صادقاً فيها فلو كان أفضلهم لصرح به وما كتمه وقد نزهه الله تعالى عن الكذب فصح قولنا نصاً والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم وجب القول فيمن هو أفضل الصحابة بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد لمن فضل ابن مسعود أو عمر أو جعفر بن أبي طالب أو أبا سلمة أو الثلاثة إلا سهليين على جميع الصحابة حجة يعتمد عليها ووجدنا من يوقف لم يزد على أنه لم يلح له البرهان أنهم أفضل ولو لاح له ل قال به ووجدنا العدد والمعارضة في القائلين بأن علياً أفضل أكثر فوجب أن أتى بما شغبوا به ليلوح الحق في ذلك وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً والجهاد افضل الأعمال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله عز وجل باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير والثالث الجهاد باليد في الطعن والضرب فوجدنا الجهاد في اللسان لا يلحق فيه أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر أما أبو بكر فإن أكابر الصحابة رضي الله عنهم أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله تعالى بمكة جهراً وجاهد المشركين بمكة بيديه فضرب وضرب حتى ملوه فتركوه فعبد الله تعالى علانية وهذا أعظم الجهاد فقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين الذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا أصلاً وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر وبقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك عند كل مسلم أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده عليه السلام إنما كان في أكثر أعماله وأحواله القسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة وكان أقل عمله صلى الله عليه وسلم الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان عليه السلام أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويداً وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأفعال فقدمه عليه السلام ويشتغل به ووجدناه عليه السلام يوم بدر وغيره كان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك واستظهاراً برأيه في الحرب وأنساً بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك أيضاً وقد انفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا علياً رضي الله عنه لم ينفرد بالنسوق فيه بل قد شاركه في ذلك غيره شركة العنان كطلحة والزبير وسعد وممن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سعد ابن معاذ وسماك ابن خرسة وغيرهما ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموازرته في حين الحرب وقد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على البعوث أكثر مما بعث علياً وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثاً إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه وقد بعث قبله أبا بكر وعمر فلم يفتحاه فحصل أربع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا علياً في أقل أنواع الجهاد مع جماعة غيرهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج أيضاً من قال بأن علياً كان أكثرهم علماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كذب هذا القائل وإنما يعرف علم الصحابي لأحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما كثرة روايته وفتاويه والثاني كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له وهذه أكبر شهادات على الهلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولي أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعلي وعمرو ابن مسعود وأبي وغيرهم فآثره بذلك على جميعهم وهذا خلاف استخلافه عليه السلام إذا غزا لأن المستخلف في الفزوة لم يستخلف إلى على النساء وذو الأعذار فقط فوجب ضرورة أن نعلم أن أبا بكر أعلم الناس بالصلاة وشرايعها وأعلم المذكورين بها وهي عمود الدين ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد استعمله علىالصدقات فوجب ضرورة أن عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل وربما كان أكثر إذ قد استعمل عليه السلام أيضاً عليها غيره وهو عليه السلام لا يستعمل إلا عالماً بما استعمله عليه والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة وبرهان ما قلنا من تمام علم أبي بكر رضي الله عنه بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها والذي يلزم العلم به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ثم الذي من طريق عمر وأما من طريق علي فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه فوجدناه عليه السلام قد استعمل أبا بكر على الحج فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج وهذه دعايم الإسلام ثم وجدناه عليه السلام قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على البعوث في الجهاد إذ لا يستعمل عليه السلام على العمل إلا عالماً به فعند أبي بكر من الجهاد من العلم به كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا أكثر ولا أقل فإذ قد صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في علم الصلاة والزكاة والحج وساواه في علم الجهاد فهذه عمدة العلم ثم وجدناه عليه السلام قد ألزم نفسه في جلوسه ومآمرته وظعنه وإقامته أبا بكر مشاعد أحكامه عليه السالم وفتاويه أكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة أنه أعلم بها فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المتقدم فيها الذي لا يلحق أو المشارك الذي لا يسبق فبطلت دعواهم في العلم والحمد لله رب العالمين وأما الرواية والفتوى فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة أشهر ولم يفارق المدينة غلا حاجاً أو معتمراً ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك كله فقد روي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وأربعون حدثناً مسندة ولم يرو عن علي إلا خمس مائة وست وثمانون حديثناً مسندة يصح منها نحو خمسين وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة وكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى عنده لذهاب جمهور الصحابة رضي الله عنهم وكثر سماع أهل الأفاق منه مرة بصفين وأعواماً بالكوفة ومرة بالبصرة والمدينة فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقري على البلاد بلداً بلداً وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديث من عدد حديث وفتاوي من فتاوي علم كل ذي حظ من العلم إن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه وبرهان ذلك أن من عمر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً قليلاً قل النقل عنهم ومن طال عمره منهم كثر النقل عنهم إلا اليسير من اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس وقد عاش علي بعد عمر بن الخطاب سبعة عشر عاماً غير أشهر ومسند عمر خمسماية حديث وسبعة وثلاثون حديثاً يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء بسواء فكلما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعين حديثاً في هذه المدة الطويلة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديثناً أو حديثين وفتاوي عمر موازنة لفتاوي علي في أبواب الفقه فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديثاً إلى حديث وفتاوي إلى فتاوي علم كل ذي حس علماً ضرورياً أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي من العلم ثم وجدنا الأمر كل ما طال كثرت الحاجة إلى الصحابة فيما عندهم من العلم فوجدنا حديث عائشة رضي الله عنها ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلثماية مسند وأربع وسبعين مسنداً ووجدنا مسند بن عمر وأنس قريباً من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس لك واحد منهما أزيد من ألف وخمسماية ووجدنا لابن مسعود ثمان ماية مسند ونيف ولكل من ذكرنا حاشا أبا هريرة وأنس بن مالك من الفتاوي أكثر من فتاوي علي أو نحوها فبطل قول هذه الوقاح الجهال فإن عاندنا معاند في هذا الباب جاهل أو قليل الحيا لاح كذبه وجهله فإنا غير مهتمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعه فوق مرتبته لأننا لو انحرفنا عن علي رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج وقد نزهنا الله عز وجل عن هذا الضلال في التعصب ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الأفك في التعصب فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو الغالين فيهم هم المتهمون فيه إما له وإما عليه وبعد هذا كله وليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الاستدلال على كثرة العلم باستعمال النبي صلى الله عليه وسلم وبمن استعمله منهم على ما استعمله عليه من أمور الدين فإن قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل علياً على الأخماس وعلى القضا باليمن قلنا لهم نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لا قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمن وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل عليه السلام إلا عالماً بما يستعمله عليه وقد صح أن أبا بكر وعمر كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه السلام يعلم ذلك ومحال ذلك أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم ممن دونهما وقد استعمل عليه السلام أيضاً على القضاء باليمن مع علي معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم انفرد أبو بكر بالجهور الأغلب من العلم على ما ذكرنا‏.‏

و قال هذا القائل أن علينا كان إقرا الصحابة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه القحة المتجردة والبهتان لوجوه أولها أنه رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام قال يوم القوم اقرؤهم فإن استووا فافقهم فإن استووا فأقدمهم هجرة ثم وجدناه عليه السلام قد قدم أبا بكر على الصلاة مدة الأيام التي مرض فياه وعلي بالحضرة يراه النبي صلى الله عليه وسلم غدوة وعشية فما رأى لها عليه السلام أحداً أحق من أبي بكر بها فصح أنه كان اقرؤهم وأفقهم وأقدمهم هجرة وقد يكون من لم يجمع حفظ القرآن كله على ظهر قلب اقرأ ممن جمعه كله عن ظهر قلب فيكون ألفظ به وأحسنهم ترتيلاً هذا على أن أبا بكر وعمر وعلي لم يستكمل أحد منهم حفظ سوار القرآن كله ظاهراً إلا أنه قد وجب يقيناً بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر على الصلة وعلي حاضر إن أبا بكر أقرأ من علي وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقدم إلى الإمامة الأقل علماً بالقراة على الأقرأ أو الأقل فقهاً قال أبو محمد‏:‏ كذب هذا الأفك ولقد كان علي رضي الله عنه تقياً إلى أن الفاضل بتفاضل فيها أهلها وما كان أتقاهم لله إلا أبا بكر والبرهان على ذلك أنه لم يسوء قط أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمة ولا خالف إرادته عليه السلام في شيء قط ولا تأخر عن تصديقه ولا تردد عن الائتمار له يوم الحديبية إذ تردد من تردد وقد تظلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر إذ أراد علي نكاح ابنة أبي جهل بما قد عرف وما وجدنا قط لأبي بكر توقفاً عن شيء أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة عذره فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجاز له فعله وهي إذ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبا فوجده يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر تأخر فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن أقم مكانك فحمد الله تعالى أبو بكر على ذلك ثم تأخر فصار في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فلما سلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعك أن تثبت حين أمرتك فقال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنكر عليه السلام ذلك عليه وإذ قد صح بالبرهان الضروري الذي ذكرنا أن أبا بكر أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وجب أنه أخشاهم لله عز وجل قال الله عز وجل ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ والتقي هو الخشية لله عز وجل و قال قائلون علي كان أزهدهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كذب هذا الجاهل وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو غروب النفس عن حب الصوت وعن المال وعن اللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية ليس الزهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى فأما غروب النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر أسلم وله مال عظيم قيل أربعين ألف درهم فأنفقها كلها في ذات الله تعالى وعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عز وجل ولم يعتق عبيداً جلداً يمنعونه لكن كل معذب ومعذبة في الله عز وجل حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة ألف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق لبنيه منها درهم ثم أنفقها كلها في سبيل الله عز وجل حتى لم يبق له شيء في عبادة له قد خللها بعود إذا نزل افترشها وإذا ركب لبسها إذ تمول غيره من الصحابة رضي الله عن جميعهم واقتنوا الرباع الواسعة والضياع العظيمة من حلها وحقها إلا أن من آثر بذلك سبيل الله عز وجل أزهد ممن أنفق وأمسك ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من شهامة في المغازي والمقاسم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي ولا غيره إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسع من سواهم من الصحابة رضي الله عنهم في المباح الذي أحله الله عز وجل لهم إلا أن من أثر على نفسه فضل ولولا أن أبا ذر لم يكن له سابقة غيره لما تقدمه إلا من كان مثله فهذا هو الزهد في المال واللذات ولقد تلا أبو بكر عمر رضي الله عنهما في هذا الزهد فكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد سوى الخدم والعبيد وتوفي عن أربعة وعشرين ولداً من ذكر وأنثى وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم وماسيرهم هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار ومن جملة عقاره التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمراً سوى زرعها فأين هذا من هذا وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة والولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضل في الإسلام ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وله مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبة قديمة وهجرة سابقة وفضل ظاهر فما استعمل أبو بكر رضي الله عنه منهم أحداً على شيء من الجهات وهي بلاد اليمن كلها على سعتها وكثرة استعمالها وعمان وحضرموت والبحرين واليمامة والطايف ومكة وخيبر وسائر أعمال الحجاز ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلاً ولكن خشي المحاباة ويوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى ثم جرى عمر على مجراه في ذلك فلم يستعمل من بني عدي بن كعب أحداً على سعة البلاد وكثرتها وقد فتح الشام ومصر وجميع مملكة الفرس إلى خراسان إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ثم أسرع عزله وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من اتخاذ قريش لأن بني عدي لم يبق منهم أحد بمكة إلا هاجر وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذوي السوابق وأبي الجهم ابن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وابنه عبد الله بن عمر ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن وهو صاحب من الصحابة ولا استعمل عمر ابنه عبد الملك على الخلافة وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم وقد رضي له الناس وكان لذلك أهلاً ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد فما فعل ووجدنا علياً رضي الله عنه إذ ولي قد استعمل أقاربه عبد الملك بن عباس على البصرة وعبيد الله بن عباس على اليمن وخثعم ومعبدا ابني العباس على مكة والمدينة وجعدة بن نميرة وهو ابن أخته أم هاني بنت أبي طالب على خراسان ومحمد بن أبي بكر وهو ابن امرأته وأخو ولده على مصر ورضي ببيعة الناس للحسن ابنه بالخلافة ولسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة ولا استحقاق عبد الله بن العباس للخلافة فكيف أمارة البصرة لكنا نقول أن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون عليه وفي تأمير مثل طلحة بن عبد الله وسعيد بن زيد فلا شك في أنه أتم زهد أو أعرب عن جميع معاني الدنيا نفساً ممن أخذه منها أبيح له أخذه فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر أزهد من جميع الصحابة ثم عمر بن الخطاب بعده و قال هذا القائل وكان علي أكثرهم صدقة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه مجاهرة بالباطل لأنه لم يحفظ لعلي مشاركة ظاهرة بالمال وأما أمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق ماله في سبيل الله عز وجل فأشهر من أن تخفى على اليهود والنصارى فكيف على المسلمين ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا المعنى من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة وغنا في الإسلام بماله من علي رضي الله عنه و قالوا علي هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد قط وثنا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما السابقة فلم يقل قط أحد يعتد به أن علياًمات وله أكثر من ثلاث وستين سنة ومات بلا شك سنة أربعين من الهجرة فصح أنه كان حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وعشرين سنة وكانت مدة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في النبوة ثلاث عشرة سنة فبعث عليه السلام ولعلي عشرة أعوام فإسلام ابن عشرة أعوام ودعاؤه إليه إنما هو كتدريب المرء ولده الصغير على الدين لا أن عنده غناء ولا أن عليه إثماً إن أبى فإن أخذ الأمر على قول من قال أن علياً مات وله ثمان وخمسون سنة فإنه كان إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن خمسة أعوام وكان إسلام ابي بكر ابن ثمان وثلاثين سنة وهو الإسلام المأمور به من عند الله عز وجل وأما من لم يبلغ الحلم فغير مكلف ولا مخاطب فسابقة أبي بكر وعمر بلا شك أسبق من سابقة علي‏.‏

وأما عمر فإنه كان إسلامه تأخر بعد البعث بستة أعوام فإن عناءه كان أكثر من عناء أكثر من أسلم قبله ولم يبلغ على حد التكليف إلا بعد أعوام من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن أسلم كثير من الصحابة رجال ونساء بعد أن عذبوا في الله تعالى ولقوا فيه الألاقي وأما كونه لم يعبد وثناً فنحن وكل مولود في الإسلام لم يعبد قط وثناً وعمار والمقداد وسلمان وأبو ذر وحمزة وجعفر رضي الله عنهم قد عبدوا الأوثان أفترانا أفضل منهم من أجل ذلك معاذ الله من هذا فإنه لا يقوله مسلم فبطل أن يكون هذا يوجب لعلي فضلاً زائداً وإلا لكانت عائشة سابقة لعلي رضي الله عنهما في هذا الفضل لأنها كانت إذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بنت ثماني سنين وأشهر ولم تولد إلا بعد إسلام أبيها بسنين وعلي ولد وأبوه عابد وثن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنين وعبد الله بن عمر أيضاً أسلم أبوه وله أربع سنين لم يعبد قط وثناً فهو شريك لعلي في هذه الفضيلة‏.‏

و قال بعضهم علي كان أسوسهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا باطل لا خفاء به على مؤمن ولا كافر فقد دري القريب والبعيد والعالم والجاهل والمؤمن والكافر من سائر الإسلام إذ كفر من كفر من أهل الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأذعن الجميع للبقية وقبول ما ادعت إليه العرب حاشا أبا بكر فهل ثبت أحد ثبات أبي بكر على كلب العدو وشدة الخوف حتى دخلوا في الإسلام أفواجاً كما خرجوا منه أفواجاً وأعطوا الزكاة طائعين وكارهين ولم تهله جموعهم ولا تضافرهم ولا قلة أهل الإسلام حتى أنار الله الإسلام وأظهره ثم هل ناطح كسرى وقيصر على أسرة ملكها حتى أخضع حدود فارس والروم وصرع حدودهم ونكس راياتهم وظهر الإسلام في أقطار الأرض وذل الكفر وأهله وشبع جائع المسلمين وعز ذليلهم واستغنى فقيرهم وصاروا إخوة لا اختلاف بينهم وقرؤوا القرآن وتفقهوا في الدين إلا أبو بكر ثم ثنى عمر ثم ثلث عثمان ثم قد رأى الناس خلاف ذلك كله وافتراق كلمة المؤمنين وضرب المسلمين بعضهم وجوه بعض بالسيوف وشكت بعضهم قلوب بعض بالرماح وقتل بعضهم من بعض عشرات الألوف وشغلهم بذلك عن أن يفتح من بلاد الكفر قرية أو يذعر لهم سرب أو يجاهد منهم أحد حتى ارتجع أهل الكفر كثيراً مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم فلم يجتمع المسلمون إلى يوم القيامة فأين سياسة من سياسة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذ قد بطل كلما ادعاه هؤلاء الجهال ولم يحصلوا إلا على دعاوي ظاهرة الكذب لا دليل على صحة شيء منها وصح بالبرهان كما أوردنا أن أبا بكر هو الذي فاز بالقدح المعلى والسبق المبرز والحظ الأسنى في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والمشاركة والطاعة والسياسة فهذه وجوه الفضل كلها فهو بلا شك أفضل من جميع الصحابة كلهم بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولم يحتج عليهم بالأحاديث لأنهم لا يصدقون أحاديثنا ولا نصدق أحاديثهم وإنما اقتصرنا على البراهين الضرورية بنقل الكواف فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يقيناً فكيف والنص على خلافته صحيح وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه فوجبت إمامة عمر فرضاً بما ذكرنا وبإجماع أهل الإسلام عليهما دون خلاف من أحد قطعاً ثم أجمعت الأمة كلها أيضاً بلا خلاف من أحد منهم على صحة إمامة عثمان والدينونة بها وأما خلافة علي فحق لا بنص ولا بإجماع لكن ببرهان سنذكره إن شاء الله في الكلام في حروبه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن فضائل أبي بكر المشهورة قوله عز وجل ‏"‏ إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ‏"‏ فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه خصه باسم الصحبة له وبأنه ثانيه في الغار وأعظم من ذلك كله أن الله معهما وهذا ما لا يلحقه فيه أحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فاعترض في هذا بعض أهل القحة فقال قد قال الله عز وجل ‏"‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًااً ‏"‏ قال وقد حزن أبو بكر فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلو كان حزنه رضا لله عز وجل لما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه مجاهره بالباطل أما قوله تعالى في الآية لصاحبه وهو يحاوره قد أخبر الله تعالى بأن أحدهما مؤمن والآخر كافر وبأنهما مختلفان فإنما سماه صاحبه في المجاورة والمجالسة فقط كما قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيباً فلم يجعله أخاهم في الدين لكن في الدار والنسب فليس هكذا قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا بل جعله صاحبه في الدين والهجرة وفي الإخراج وفي الغار وفي نصرة الله تعالى لهما وإخافة الكفار لهما وفي كونه تعالى معهما فهذه الصحبة غاية الفضل وتلك الأخرى غاية النقص بنص القرآن‏.‏

وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غاية الرضا لله لأنه كان إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان الله معه وهو تعالى لا يكون مع العصاة بل عليهم وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيباً عليه لكان ذلك على محمد وموسى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيباً لأن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام ‏"‏ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ‏"‏ ثم قال تعالى عن السحرة أنهم قالوا لموسى ‏"‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ‏"‏ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه قد كان أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليه وأن موسى ومن اتبعه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك إذ رأى أمر السحرة حتى أوحى الله عز وجل إليه لا تخف فهذا أمر أشد من أمر أبي بكر وإذا لزم ما يقول هؤلاء الفساق أبا بكر وحاشا لله أن يلزمه من أن حزنه لو كان رضا لما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم أشد منه لموسى عليه السلام وأن إيجاسه الخيفة في نفسه لو كان رضا لله تعالى ما نهاه الله تعالى عنه ومعاذ الله من هذا بل إيجاس موسى الخيفة في نفسه لم يكن إلا نسيان الوعد المتقدم وحزن أبي بكر رضي الله عنه رضاً لله تعالى قبل أن ينهى عنه ولم يكن تقدم إليه نهي عن الحزن وأما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قال ‏"‏ ومن كفر فلا يحزنك كفره ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ولا يحزنك قولهم أن العزة لله جميعاً ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ‏"‏ ووجدناه عز وجل قد قال ‏"‏ ولقد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون ‏"‏ و قال ه أيضاً في الأنعام فهذا الله تعالى أخبرنا أنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنه الذي يقولون ونهاه عز وجل عن ذلك نصاً فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نهاه الله تعالى عنه كالذي أرادوا في حزن أبي بكر سواء سواء ونعم إن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله تعالى قبل أن ينهاه الله عز وجل وما حزن عليه السلام بعد أن نهاه ربه تعالى عن الحزن كما كان حزن أبي بكر طاعة لله عز وجل قبل أن ينهاه الله عز وجل عن الحزن وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه عليه السلام عن الحزن فكيف وقد يمكن أن يكون أبو بكر لم يحزن يمئذ لكن نهاه عليه السلام عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى لنبيه عليه السلام ‏"‏ ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً ‏"‏ فنهاه عن أن يطيعهم ولم تكن منه طاعة لهم وهذا إنما يعترض به أهل الجهل والسخافة ونعوذ بالله من الضلال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ برآءة من أبي بكر وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقرائتها عليهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا من أعظم فضائل أبي بكر لأنه كان أميراً على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه ولا يقفون إلا بوقوفه ولا يصلون إلا بصلاته وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك وسورة برآءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره في أمر الغار وخروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إلا أن تراجع الروافض إلى إنكار القرآن والنقص منه والزيادة فيه فهذا أمر يظهر فيه قحتهم وجهلهم وسخفهم إلى كل عالم وجاهل فإنه لا يمتري كافر ولا مؤمن في أن هذا الذي بين اللوحين من الكتاب هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وأخبرنا بأنه أوحاه الله تعالى إليه فمن تعرض هذا فقد أقر بعين عدوه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وما يعترض إمامة أبي بكر إلا زار علي رسول الله صلى الله عليه وسلم راد لأمره في تقديمه أبا بكر إلى الصلاة بأهل الإسلام مريد لإزالته عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولسنا من كذبهم في تأويلهم ‏"‏ ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ‏"‏ وإن المراد بذلك علي رضي الله عنه بل هذا لا يصح بل الآية على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فصح بما ذكرنا فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالبراهين المذكورة وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت و قال أبو بكر صدقت وقوله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وهذا الذي لا يصح غيره وأما أخوة علي فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر وهذا هو الذي لا يصح غيره ومنها غضبه صلى الله عليه وسلم على من خارج أبا بكر وعلى من أشار عليه بغير أبي بكر للصلاة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم إن أمن الناس علي في ماله أبو بكر وعمدتنا في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل من أحب الناس إليك يا رسول الله قال عائشة قيل فمن الرجال قال أبوها قيل ثم من يا رسول الله قال عمر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فقطعنا بهذا ثم وقفنا ولو زادنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لزدنا لكنا لا نقول في شيء من الدين إلا بما جاء به النص‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واختلف الناس فيمن أفضل أعثمان أم علي رضي الله عنهما‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والذي يقع في نفوسنا دون أن نقطع به ولا نخطئ من خالفنا في ذلك فهو أن عثمان أفضل من علي والله أعلم لأن فضائلهما تتقاوم في الأكثر فكان عثمان اقرء وكان أكثر فتيا ورواية ولعلي أيضاً حظ قوي في القراءة ولعثمان أيضاً حظ قوي في الفتيا والرواية ولعلي مقامات عظيمة في الجهاد بنفسه ولعثمان مثل ذلك بماله ثم انفرد عثمان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ليساره المقدسة عن يمين عثمان في بيعة الرضوان وله هجرتان وسابقة قديمة وصهر مكرم محمود ولم يحضر بدراً فألحقه الله عز وجل فيهم بأجره التام وسهمه فألحقه بمن حضرها فهو معدود فيهم ثم كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة لم تكن لعلي وسيرة في الإسلام هادية ولم يتسبب بسفك دم مسلم وجاءت فيه آثار صحاح وأن الملائكة تستحي منه وأنه ومن أتبعه على الحق والذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقوله عليه السلام لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذه صفة واجبة لكل مؤمن وفاضل وعهده عليه السلام أن علياً لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وقد صح مثل هذه في الأنصار رضي الله عنهم أنه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر وأما من كنت مولاه فعلي مولاه فلا يصح من طريق الثقات أصلاً وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونقول تفضل المهاجرين الأولين بعد عمر بن الخطاب قطعاً إلا أننا لا نقطع بفضل أحد منهم على صاحبه كعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون وعلي وجعفر وحمزة وطلحة والزبير ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وسعد وزيد بن حارثة وأبي عبيدة وبلال وسعيد بن زيد وعمار بن ياسر وأبي سلمة وعبد الله بن جحش وغيرهم من نظرائهم ثم بعد هؤلاء أهل العقبة ثم أهل بدر ثم أهل المشاهد كلها مشهداً مشهداً فأهل كل مشهد أفضل من أهل المشهد الذي بعده حتى بلغ الأمر إلى الحديبية فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإننا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون ماتوا على الإيمان والهدى والبر وكلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة لقول الله تعالى ‏"‏ والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ‏"‏ وكقوله عز وجل ‏"‏ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏"‏ قال أبو محمد‏:‏ فمن أخبرنا أن الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر ولإخباره عليه السلام أنه لا يدخل النار أحد شهد بدراً ثم نقطع على أن كل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية صادقة ولو ساعة فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أنهم لا يلحقون بمن أسلم قبل الفتح وذلك لقول الله عز وجل ‏"‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وعد الله لا يخلف الله وعده ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ‏"‏ فصح بالضرورة أن كل من أنفق قبل الفتح وقاتل فهو مقطوع على غيبه لتفضيل الله تعالى إياهم والله تعالى لا يفضل إلا مؤمناً فاضلاً وأما من أنفق بعد الفتح وقاتل فقد كان فيهم منافقون لم يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف نحن قال الله تعالى ‏"‏ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلهذا لم نقطع على كل امرئ منهم بعينه لكن نقول كل من لم يكن منهم من المنافقين فهو من أهل الجنة يقيناً لأنه قد وعدهم تعالى الحسنى كلهم وأخبر أنه لا يخلف وعده وإن من سبقت له الحسنى فهو مبعد من النار لا يسمع حسيسها ولا يحزنه الفزع الأكبر وهو فيما اشتهى خالد وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لقد خاب وخسر من رد قول ربه عز وجل أنه رضي عن المبايعين تحت الشجرة وعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وقد علم كل أحد له أدنى علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وعمار والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم من أهل هذه الصفة والخوارج والروافض قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البرئة منهم خلافاً لله عز وجل وعناداً له ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا قولنا في الصحابة رضي الله عنهم فأما التابعون ومن بعدهم فلا نقطع على غيبهم واحداً واحداً إلا من بان منه احتمال المشقة في الصبر للدين ورفض الدنيا لغير غرض استعجله إلا أننا لا ندري على ما ذا مات وإن بلغنا الغاية في تعظيمهم وتوقيرهم والدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان لهم لكن نتولاهم جملة قطعاً ونتولى كل إنسان منهم بظاهره ولا نقطع على أحد منهم بجنة ولا نار لكن نرجو لهم ونخاف عليهم إذ لا نص في إنسان منهم بعينه ولا يحل الإخبار عن الله عز وجل إلا بنص من عنده لكن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم القرن الذي بعثت فيهم ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم ومعنى هذا الحديث إنما هو كل قرن من هذه القرون التي ذكر عليه السلام أكثر فضلاً بالجملة من القرن الذي بعده لا يجوز غير هذا البتة وبرهان ذلك أنه قد كان في عصر التابعين من هوا أفسق الفاسقين كمسلم بن عقبة المري وحبيش بن دلحة القيني والحجاج بن يوسف الثقفي وقتلة عثمان وقتلة ابن الزبير وقتلة الحسين رضي الله عنهم ولعن قتلتهم ومن بعثهم فمن خالفنا قولنا في هذا الخبر لزمه أن يقول أن هؤلاء الفساق الأخابث أفضل من كل فاضل في القرن الثالث ومن بعده كسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومسعر بن كدام وشعبة ومنصور بن المعتمر ومالك والأوزاعي والليث وسفيان بن عيينة ووكيع وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وداود بن علي رضي الله عنهم وهذا ما لا يقوله أحد وما يبعد أن يكون في زماننا وفيمن يأتي بعدنا من هو أفضل رجل من التابعين عند الله عز وجل إذ لم يأت في المنع من ذلك نص ولا دليل أصلاً والحديث المأثور في أويس القرني لا يصح لأن مداره على اسيد بن جابر وليس بالقوى وقد ذكر شعبة أنه سأل عمرو بن مرة وهو كوفي قرني مرادي من أشرف مراد وأعلمهم بهم عن اويس القرني فلم يعرفه في قومه وأما الصحابة رضي الله عنهم فبخلاف هذا ولا سبيل إلى أن يلحق أقلهم درجة أحد من أهل الأرض وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وذهب بعض الروافض إلى أن لذوي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً بالقرابة فقط واحتج بقول الله تعالى ‏"‏ إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض ‏"‏ وبقوله عز وجل ‏"‏ قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ وأبعث فيهم رسولاً منهم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كله لا حجة فيه أما إخباره تعالى بأنه اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يعني كل مؤمن فقد قال ذلك بعض العلماء أو يعني مؤمني أهل بيت إبراهيم وعمران لا يجوز غير هذا لأن آزر ولد إبراهيم عليه السلام كان كافراً هدواً لله لم يصطفه الله تعالى إلا لدخول النار فإن أراد الوجه الذي ذكرنا لم نمانعه ولا ننازعه في أن موسى وهارون من آل عمران وآل إسماعيل وإسحاق ويوسف ويعقوب من آل إبراهيم مصطفون على العالمين فأي حجة هاهنا لبني هاشم فإن ذكروا الدعاء المأمور به وهو اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد فالقول في هذا كما قلنا ولا فرق وهذا دعاء لكل مؤمن وقد قال تعالى ‏"‏ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏"‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم صل على آل أبي أو في هذا الدعاء لهم بالصلاة على كل مؤمن ومؤمنة بلا خلاف وكذلك الدعاء في التشهد المفترض في كل صلاة من قول المصطفى السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهذا السلام على كل مؤمن ومؤمنة فاستوى بنوا هاشم وغيرهم في اطلاق الدعاء بالصلاة عليهم وبالسلام عليهم ولا فرق و قال تعالى ‏"‏ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ‏"‏ فوجبت صلوات الله تعالى على كل مؤمن صابر فاستوى في هذا كله بنوا هاشم وقريش والعرب والعجم من كان جميعهم بهذه الصفة وأيضاً فيلزم من احتج بقوله تعالى ‏"‏ إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ‏"‏ أن يقول إن من أسلم من الهارونيين من اليهود أفضل من بني هاشم وأشرف وأولى بالتقديم لأنه من آل عمران ومن آل إبراهيم وفيهم ورد النص‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فصح يقيناً أن الله عز جل إنما أراد بذلك الأنبياء عليهم السلام فقط وبين هذا بياناً جلياً قول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين من ذرية إبراهيم عليه السلام الظالمين من ذرية غيره و قال عز وجل إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا فخص الله تعالى بولاية إبراهيم عليه السلام من اتبع إبراهيم كائناً من كان فدخل في هذا كل مؤمن ومؤمنة ولا فضل وأما قول الله عز وجل ‏"‏ قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ‏"‏ فهذا حق على ظاهره وإنما أراد عليه السلام من قريش أن يودوه لقرابته منهم ولا يختلف أحد من الأمة في أنه عليه السلام لم يرد قط من المسلمين أن يودوا أبا لهب وهو عمه ولا شك في أنه عليه السلام أراد من المسلمين مودة بلال وعمار وصهيب وسلمان وسالم مولي أبي حذيفة وأما قوله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام ‏"‏ وابعث فيهم رسولاً منهم ‏"‏ فقد قال عز وجل ‏"‏ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ‏"‏ فاستوت الأمم كلها في هذه الدعوة بأن يبعث فيهم رسولاً منهم ممن هم قومه فإن احتج محتج بالحديث الثابت الذي فيه أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فمعناه ظاهر وهو أنه تعالى اختار كونه عليه السلام من بني هاشم وكون بني هاشم من قريش وكون قريش من كنانة وكون كنانة من بني إسماعيل كما اصطفى أن يكون موسى من بني لاوي وأن يكون بنوا لاوي من بني إسحاق عليه السلام وكل نبي من عشيرته التي هو منها ولا يجوز غير هذا البتة ونسأل من أراد حمل هذا الحديث على غير هذا المعنى أيدخل أحد من بني هاشم أو من قريش أو من كنانة أو من إسماعيل النار أم لا فإن أنكروا هذا كفروا وخالفوا الإجماع والقرآن والسنن وقد قال عليه السلام أبي وأبوك في النار وإن أبا طالب في النار وجاء القرآن بأن أبا لهب في النار وسائر كفار قريش في النار كذلك قال الله تعالى ‏"‏ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ‏"‏ فإذا أقر بأنه قد يدخل النار منهم من يستحق أن يدخلها صحت المساواة بينهم وبين سائر الناس‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويكذب هذا الظن الفاسد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً وأبين من هذا كله قول الله تعالى ‏"‏ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم "‏ وقوله تعالى ‏"‏ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ‏"‏ و قال تعالى وذكر عاداً وثموداً وقوم نوح وقوم لوط ثم قال ‏"‏ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ ‏"‏ فصح ضرورة أنه لا ينتفع أحد بقرابته من رسول الله صلى الله عليه ولا من نبي من الأنبياء والرسل عليهم السلام ولو أن النبي ابنه أو أبوه وأمه نبية وقد نص الله تعالى في ابن نوح ووالد إبراهيم وعم محمد على رسل الله الصلاة والسلام ما فيه الكفاية وقد نص الله تعالى على أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا فصح ضرورة أن بلال وصهبا والمقداد وعمار وسالماً وسلمان أفضل من العباس وبنيه عبد الله والفضل وقم ومعبد وعبيد الله وعقيل بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعهم بشهادة الله تعالى فإذ هذا لا شك فيه ولا جزاء في الآخرة إلا على عمل ولا ينتفع عند الله تعالى بالأرحام ولا بالولادات وليست الدنيا دار جزاء فلا فرق بين هاشمي وقرشي وعربي وعجمي وحبشي وابن زنجية والكرم والفوز لمن اتقى الله عز وجل حدثنا محمد بن سعيد بن بيان أنبأنا أحمد بن عبد الله البصير حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا عبد السلام ابن الخثن حدثنا محمد بن المثني حدثنا عبد الرحمن مهدي حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حسان بن فايد العبسي قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كرم الرجل دينه وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً‏.‏

رضي الله عنهم قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة أن علياً كان المصيب في حربه وكل من خالفه على خطاء و قالواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبو الهذيل وطوائف من المعتزلة أن علياً مصيب في قتاله معاوية وأهل النهر ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل و قالوا إحدى الطائفتين مخطئة ولا نعرف أيهما هي و قال ت الخوارج علي المصيب في قتاله أهل الجمل وأهل صفين وهو مخطئ في قتاله أهل النهر وذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجمهور الصحابة إلى الوقوف في علي وأهل الجمل وأهل صفين وبه يقول جمهور أهل السنة وأبو بكر بن كيسان وذهب جماعة من الصحابة وخيار التابعين وطوائف ممن بعدهم إلى تصويب محاربي علي من أصحاب الجمل وأصحاب صفين وهم الحاضرون لقتاله في اليومين المذكورين وقد أشار إلى هذا أيضاً أبو بكر بن كيسان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما الخوارج فقد أوضحنا خطاؤهم وخطاء أسلافهم فيما سلف من كتابنا هذا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم علي الحكمين فسنتكلم في ذلك إن شاء الله تعالى كما تكلمنا في سائر أحكامهم والحمد لله رب العالمين وأما من وقف فلا حجة له أكثر من أنه لم يتبين له الحق ومن لم يتبين له الحق فلا سبيل إلى مناظرته بأكثر من أن نبين له وجه الحق حتى يراه وذكروا أيضاً أحاديث في ترك القتال في الاختلاف سنذكر لكم جملتها إن شاء الله تعالى فلم يبق إلا الطائفة المصوبة لعلي في جميع حروبه والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الجمل وأهل صفين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ احتج من ذهب إلى تصويب محاربي علي يوم الجمل ويوم صفين بأن قال إن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً فالطلب بأخذ القود من قاتليه فرض قال عز وجل ‏"‏ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ قالوا ومن آوى الظالمين فهو إما مشارك لهم وإما ضعيف عن أخذ الحق منهم قالوا وكلا الأمرين حجة في إسقاط إمامته على من فعل ذلك ووجوب حربه قالوا وما أنكروا على عثمان إلا أقل من هذا من جواز إنفاذ أشياء بغير علمه فقد ينفذ مثلها سراً ولا يعلمها أحد إلا بعد ظهورها قالوا وحتى لو أن كل ما أنكر على عثمان يصح ما حل بذلك قتله بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام لأنهم إنما أنكروا عليه استيثاراً بشيء يسير من فضلات الأموال لم يجب لأحد بعينه فمنعها وتولية أقاربه فلما شكو إليه عزلهم وأقام الحد على من استحقه وأنه صرف الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم للحكم لم يكن حداً واجباً ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة وأنه ضرب عمارا خمسة أسواط ونفي أبا ذر إلى الربذة وهذا كله لا يبيح الدم قالوا وايوآء على المحدثين أعظم الأحداث من سفك الدم الحرام في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما دم الإمام وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم والمنع من غنفاذ الحق عليهم أشد من كل ما ذكرنا بلا شك قالوا وامتناع معاوية من بيعة علي كامتناع علي من بيعة أبي بكر فما حاربه أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكر أقدر على علي من علي على معاوية ومعاوية في تأخره عن بيعة علي أعذر وأفسح م قال اً من علي في تأخره عن بيعة أبي بكر لأن علياً لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها إما عليه وإما لا له ولا عليه وما تابعه فيهم إلا الأقل سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك وأيضاً فإن بيعة علي لم تكن على عهد من النبي صلى الله عليه وسلم كما كانت بيعة أبي بكر ولا عن إجماع من الأمة كما كانت بيعة عثمان ولا عن عهد من خليفة واجب الطاعة كما كانت بيعة عمر ولا بسوق بائن في الفضل على غيره لا يختلف ولا عن شورى فالقاعدون عنها بلا شك ومعاوية من جملتهم أعذر من علي في قعوده عن بيعة أبي بكر ستة أشهر حتى رآى البصيرة وراجع الحق عليه في ذلك قالوا فإن قلتم خفي على علي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قلنا لكم لم يخف عليه بلا شك تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى الصلاة وأمر علياً بأن يصلي ورآه في جماعة المسلمين فتأخره عن بيعة أبي بكر سعي منه في حطه عن مكان جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً لأبي بكر وسعي منه في فسخ نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تقديمه إلى الصلاة وهذا أشد من رد إنسان نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذنب ثم تاب منه وأيضاً فإن علياً قد تاب واعترف بالخطأ لأنه إذا بايع أبو بكر بعد ستة أشهر تأخر فيها عن بيعته لا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون مصيباً في تأخره فقد أخطأ إذ بايع أو يكون مصيباً في بيعته فقد أخطأ إذ تأخر عنها قالوا والممتنعون من بيعة علي لم يعترفوا قط بالخطأ على أنفسهم في تأخرهم عن بيعته قالوا فإن كان فعلهم خطأ فهو أخف من الخطأ في تأخر علي عن بيعة أبي بكر وإن كان فعلهم صواباً فقد برئوا من الخطأ جملة قالوا والبون بين طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعلي خفي جداً فقد كانوا في الشورى معه لا يبدو له فضل شفوق عليهم ولا على واحد منهم وأما البون بين علي وأبي بكر أبين وأظهر فهم من امتناعهم عن بيعته أعذر لخفاء التفاضل قالوا وهلا فعل علي في قتلة عثمان كما فعل بقتلة عبد الله بن خباب بن الارت فإن القصتين استويا في التحريم فالمصيبة في قتل عثمان في الإسلام وعند الله عز وجل وعلى المسلمين أعظم جرماً وأوسع خرقاً وأشنع إثماً وأهول فيقاً من المصيبة في قتل عبد الله بن خباب قالوا وفعله في طلب دم عبد الله بن خباب يقطع حجة من تأول على علي أنه يمكن أن يكون لا يرى قتل الجماعة بالواحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا كلما يمكن أن تحتج به هذه الطائفة قد تقصيناه ونحن إن شاء الله تعالى متكلمون على ما ذهبت إليه كل طائفة من هذه الطوائف حتى يلوح الحق في ذلك بعون الله تعالى وتأييده‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ نبدء بعون الله عز وجل بإنكار الخوارج للتحكيم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قالوا حكم على الرجال في دين الله تعالى والله عز وجل قد حرم ذلك بقوله ‏"‏ إن الحكم إلا لله ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما حكم علي رضي الله عنه قط رجلاً في دين الله وحاشاه من ذلك وإنما حكم كلام الله عز وجل كما افترض الله تعالى عليه وإنما اتفق القوم كلهم إذ رفعت المصاحف على الرماح وتداعوا إلى ما فيها على الحكم بما أنزل الله عز وجل في القرآن وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد غيره لأن الله تعالى يقول ‏"‏ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ‏"‏ فإنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى وعمرو رضي الله عنهما ليكون كل واحد منهما مدلياً بحجة من قدمه وليكونا متخاصمين عن الطائفتين ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن الذي لا يفهم لغط العسكرين أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم فصح يقيناً لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن وهذا الذي لا يجوز غيره ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعراباً قرؤا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء لا من أصحاب ابن مسعود ولا أصحاب عمر ولا أصحاب علي ولا أصحاب عائشة ولا أصحاب أبي موسى ولا أصحاب معاذ بن جبل ولا أصحاب أبي الدرداء ولا أصحاب سليمان ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند اقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم وأنهم أنكروا ما قام البرهان الذي أوردنا بأنه حق ولو لم يكن من جهلهم لأقرب عهدهم بخير الأنصار يوم السقيفة وإذعانهم رضي الله عنهم مع جميع المهاجرين لوجب الأمر في قريش دون الأنصار وغيرهم وأن عهدهم بذلك قريب منذ خمسة وعشرين عاماً وأشهر وجمهورهم أدرك ذلك بسنة وثبت عند جميعهم كثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا فرق لأن الذين نقلوا إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلوا إليهم القرآن والشرائع فدانوا بكل ذلك هم بأعيانهم لا زيادة فيهم ولا نقص نقلوا إليهم خبرة السقيفة ورجوع الأنصار إلى أن الأمر لا يكون إلا في قريش وهم يقرون ويقرؤن قوله تعالى ‏"‏ لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً ‏"‏ الآية وقوله تعالى ‏"‏ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏"‏ ثم أعماهم الشيطان وضلهم الله تعالى على علم فحلوا بيعة مثل علي واعرضوا عن مثل سعيد بن زيد وابن عمر وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل واعرضوا عن سائر الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا ووعدهم الله الحسنى وتركوا من يقرون بأن الله تعالى عز وجل علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ورضي عنهم وبايعوا الله وتركوا جميع الصحابة وهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الركع السجد المبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود المثني عليهم في التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل الذين غاظ الله بهم الكفار المقطوع على أن باطنهم في الخير كظاهرهم لأن الله عز وجل شهد بذلك فلم يبايعوا أحداً منهم وبايعوا شيث بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تداركه الله عز وجل ففر عنهم وتبين لهم ضلالتهم فلم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط فمن أضل ممن هذه سيرته واختياره ولكن حق لمن كان أحداً يمينه ذو خويصرة الذي بلغه ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمه والاستدراك ورأى نفسه أورع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وهو يقر أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وبه اهتدى وبه عرف الدين ولولاه لكان حماراً أو أضل ونعوذ بالله من الخذلان وأما الطائفة المصوبة للقاعدين فإن من لم يلح له الحق منهم فإنما يكلم حتى يبين له الحق فيلزمه المصير إليه فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه قد صح ووجب فرض الإمامة بما ذكرنا قبل في إيجاب الإمامة وإذ هي فرض فلا يجوز تضييع الفرض وإذ ذلك كذلك فالمبادرة إلى تقديم إمام عند موت الإمام فرض واجب وقد ذكرنا وجوب الايتمام بالإمام فإذ هذا كله كما ذكرنا فإذ مات عثمان رضي الله عنه وهو الإمام ففرض إقامة إمام ياتم به الناس لئلا يبقوا بلا إمام فإذ بادر علي فبايعه واحد من المسلمين فصاعداً فهو إمام قائم ففرض طاعته لا سيما ولم يتقدم ببيعته بيعة ولم ينازعه الإمامة أحد ما فهذا أوضح وواجب في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم أمرته للمؤمنين فهو الإمام بحقه وما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته وما ظهر منه قط إلا العدل والجد والبر والتقوى كما لو سبقت بيعة طلحة أو الزبير أو سعد أو سعيد أو من يستحق الإمامة لكانت أيضاً بيعة حق لازمة لعلي ولغيره ولا فرق فعلي مصيب في الدعاء إلى نفسه وإلى الدخول تحت أمامته وهذا برهان لا محيد عنه وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا شك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الاراغة والتدبير عليهم فبينوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يغترون من شن الحرب وإضرامه فكلتي الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة فهكذا كان الأمر وكذلك كان قتل عثمان رضي الله عنه إنما حاصره المصريون ومن لف لفهم يديرونه عن إسلام مروان إليهم وهو رضي الله عنه يأبى من ذلك ويعلم أنه إن أسلمه قتل دون تثبت فهو على ذلك وجماعات من الصحابة فهم الحسن والحسين أبناء علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم في نحو سبعماية من الصحابة وغيرهم معه في الدار يحمونه وينفلتون إلى القتال فيردعهم تثبتاً إلى أن تسوروا عليه من خوخة في دار ابن حزم الأنصاري جاره غيلة فقتلوه ولا خبر من ذلك عند أحد لعن الله من قتله والراضين بقتله فما رضي أحد منهم قط بقتله ولا علموا أنه يراد قتله لأنه لم يأت منه شيء يبيح الدم والحرام وأما قوله من قال أنه رضي الله عنه أقام مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت وأفك موضوع وتوليد من لا حياء في وجهه بل قتل عشية ودفن من ليلته رضي الله عنه شهد دفنه طائفة من الصحابة وهم جبير بن مطعم وأبو الجهم بن حذيفة وعبد الله بن الزبير ومكرم بن نيار وجماعة غيرهم هذا مما لا يتمادى فيه أحد ممن له علم بالأخبار ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برمي أجساد قتلا الكفار من قريش يوم بدر في القليب وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة وهم شر من وارته الأرض فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلاً ميتاً ملقى بين أظهرهم على مزبلة لا يوارونه ولا نبالي مؤمناً كان أو كافراً ولكن الله يأبى إلا أن يفضح الكذابين بألسنتهم ولو فعل هذا علي لكانت جرحة لأنه لا يخلو أن يكون عثمان كافراً أو فاسقاً أو مؤمناً فإن كان كافراً أو فاسقاً عنده فقد كان فرضاً على علي أن يفسخ أحكامه في المسلمين فإذا لم يفعل فقد صح أنه كان مؤمناً عنده فكيف يجوز أن ينسب ذو حياء إلى علي أنه ترك مؤمناًمطروحاً ميتاً على مزبلة لا يأمر بمواراته أم كيف يجوز أن يظن به أنه أنفذ أحكام كافراً أو فاسق على أهل الإسلام ما أحد أسوأ ثناء على علي من هؤلاء الكذبة الفجرة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن البرهان على صحة ما قلناه أن من الجهل الفاضح أن يظن ظان أن علياً رضي الله عنه بلغ من التناقض في أحكامه وإتباع الهوى في دينه والجهل أن يترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت ورافع بن خديج ومحمد بن مسلمة وكعب بن مالك وسائر الصحابة الذين لم يبايعوه فلا يجهزهم علياً وهم معه في المدينة وغيرها نعم والخوارج وهم يصيحون في نواحي المسجد بأعلا أصواتهم بحضرته وهو على المنبر في مسجد الكوفة لا حكم إلا الله لا حكم إلا الله فيقول لهم رضي الله عنه لكم علينا ثلاث لا نمنعكم المساجد ولا نمنعكم حقكم من الفيء ولا نبدؤكم بقتال ولم يبدءوهم بحرب حتى قتلوا عبد الله بن خباب ثم لم يقاتلهم بعد ذلك حتى دعاهم إلى أن يسلموا إليه قتلة عبد الله بن خباب فلما قالوا كلنا قتله قاتلهم حينئذ ثم يظن به مع هذا كله أنه يقاتل أهل الجهل لامتناعهم من بيعته هذا أفك ظاهر وجنون مختلف وكذب بحت بلا شك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده اداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول و قال له كبر كبر وروى الكبر الكبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة أبناء مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كان أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجراً واحداً وللعصيب أجرين ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء وفي الفروج والأنساب والأموال والشرائع التي يدان الله بها من تحريم وتحليل وإيجاب ويعذر المخطئين في ذلك ويرى ذلك مباحاً لليث والبتي وأبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وداوود وإسحاق وأبي ثور وغيرهم كزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وابن القاسم وأشهب وابن الماجشون والمزني وغيرهم فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل أو عمل عمل قوم لوط وغير هذا كثير وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه كبكر أنكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير إذنها ولا رضاها وغير هذا كثير وكذلك في الشرائع والأوامر والأنساب وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل والعلم والتقدم والاجتهاد كمعاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم وإنما اجتهدوا في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون وفي المفتيين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل الحر بالعبد وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر وفيهم من لا يراه فأي فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لولا الجهل والعمى والتخليط بغير علم وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس ذلك بموثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وإن له أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً وأيضاً في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن ماوقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولي الطائفتين بالحق فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج من أصحاب علي وأصحاب معاوية فقتلهم علي وأصحابه فصح أنهم أولي الطائفتين بالحق وأيضاً الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتل عمارا الفئة الباغية‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ المجتهد المخطي إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصداً الله تعالى نيته غير عالم بأنه مخطئ فهو فئة باغية وإن كان مأجوراً ولا حد عليه إذا ترك القتال ولا قود وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا محارب تلزمه المحاربة والقود وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطي وبيان ذلك قول الله تعالى ‏"‏ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم ‏"‏ فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية وقد سماهم الله عز وجل مؤمنين باعين بعضهم أخوة بعض في حين تقاتلهم وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم ولم يصفهم عز وجل بفسق من أجل ذلك التقاتل ولا بنقص إيمان وإنما هم مخطئون فقط باغون ولا يريد واحد منهم قتل آخر وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار ابن سبع السلمي شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطي فيه باغ عليه مأجور أجراً واحداً وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحداً ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنا بعد احصان ولا ارتد فيسوغ المحاربة تأويل بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم قال أبو محمد‏:‏ فإذ قد بطل هذا الأمر وصح أن علياً هو صاحب الحق فالأحاديث التي فيها التزام البيوت وترك القتال إنما هو بلا شك فيمن لم يلح له يقين الحق أين هو وهكذا نقول فإذا تبين الحق فقتال الفئة الباغية فرض بنص القرآن وكذلك إن كانت معاً باغيتين فقتالهما واجب لأن كلام الله عز وجل لا يعارض كلام نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه كله من عند الله عز وجل قال الله عز وجل ‏"‏ وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى ‏"‏ و قال عز وجل ‏"‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ‏"‏ فصح يقيناً أن كل ما قال ه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحي من عند الله عز وجل وإذ هو كذلك فليس شيء مما عند الله تعالى مختلفاً والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلم يبق إلا الكلام على الوجوه التي اعترض بها من رأى قتال علي رضي الله عنه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم إن أخذ القود واجب من قتلة عثمان رضي الله عنه المحاربين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم الساعين في الأرض بالفساد والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والإمامة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة فنعم وما خالفهم قط علي في ذلك ولا في البرآءة منهم ولكنهم كانوا عدداً ضخماً جماً لا طاقة له عليهم فقد سقط عن علي رضي الله عنه ما لا يستطيع عليه كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج ولا فرق قال الله تعالى ‏"‏ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ‏"‏ و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ولو أن معاوية بايع علياً لقوي به على أخذ الحق من قتلة عثمان فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم ولولا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذه على قتلة عبد الله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته وأما تأسي معاوية في امتناعه من بيعة علي بتأخر علي عن بيعة أبي بكر فليس في الخطأ أسوة وعلي قد است قال ورجع وبايع بعد يسير فلو فعل معاوية مثل ذلك لأصاب ولبايع حينئذ بلا شك كل من امتنع من الصحابة من البيعة من أجل الفرقة وأما تقارب ما بين علي وطلحة والزبير وسعد فنعم ولكن من سبقت بيعته وهو من أهل الاستحقاق والخلافة فهو الإمام الواجبة طاعته فيما أمر به من طاعة الله عز وجل سوآء كان هنالك من هو مثله أو أفضل كما سبقت بيعة عثمان فوجبت طاعته وإمامته على غيره ولو بويع هنالك حينئذ وقت الشورى علي أو طلحة أو الزبير أو عبد الرحمن أو سعد لكان الإمام وللزمت عثمان طاعته ولا فرق فصح أن علياً هو صاحب الحق والإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين وأوضح من هذا الأمر من أحكام الدين فربما رجع إذا استبان له وربما لم يستبن له حتى يموت عليه وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وهو المسئول العصمة والهداية لا إله إلا هو‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فطلب علي حقه فقاتل عليه وقد كان تركه ليجمع كلمة المسلمين كما فعل الحسن ابنه رضي الله عنهما فكان له بذلك فضل عظيم قد تقدم به إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من أمتي فغبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء ولا لوم عليه بل هو مصيب في ذلك وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في إمامة المفضول

قال أبو محمد‏:‏ ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من العتزلة وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب الباقلاني ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما الرافضة ف قال وا إن الإمام واحد معروف بعينه في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم الذي قد تقدم إفسادنا لها والحمد لله رب العالمين وما نعلم لمن قال أن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد حجة أصلاً لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب وما كان هكذا فهو أحق قول بالاطراح وقد قال أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعني أبا عبيدة وعمر وأبو بكر أفضل منهما بلا شك فما قال أحد من المسلمين أنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة وفي المسلمين عدد كثير كلهم أفضل منه بلا شك فصح بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضي الله عنهم على جواز إمامة المفضول ثم عهدهم عمر رضي الله عنه إلى ستة رجال ولا بد أن لبعضهم على بعض فضلاً وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته وفي هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول ثم مات علي رضي الله عنه فبويع الحسن ثم سلم الأمر إلى معاوية وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غيره أفضل بيقين لا شك فيه إلى أن حدث من لا وزن له عند الله تعالى فخرقوا الإجماع بآرائهم الفاسدة بلا دليل ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والعجب كله كيف يجتمع قول الباقلاني أنه لا تجوز الإمامة لمن غيره من الناس أفضل منه وهو قد جوز النبوة والرسالة لمن غيره من الناس أفضل منه فإنه صرح فيما ذكره عنه صاحبه أبو جعفر السمناني الأعمى قاضي الموصل بأنه جائز أن يكون في الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين بعث إلى أن مات‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما في خذلان الله عز وجل أحق من هاتين القضيتين لا سيما إذا اقترنتا والحمد لله على الإسلام فإن قال قائل كيف تحتجون هنا بقول الأنصار رضي الله عنهم في دعائهم إلى سعد بن عبادة وهو عندكم خطأ وخلاف للنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف تحتجون في هذا أيضاً بقول أبي بكر رضيت لكم أحد هذين وخلافة أبي بكر عندكم نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أين له أن يترك ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا وبالله تعالى التوفيق إن فعل الأنصار رضي الله عنهم انتظم حكمين أحدهما تقديم من ليس قرشياً وهذا خطأ وقد خالفهم فيه المهاجرون فسقطت هذه القضية والثاني جواز تقديم من غيره أفضل منه وهذا صواب وافقهم عليه أبو بكر وغيره فصار إجماعاً فقامت به الحجة وليس خطأ من أخطأ في قول وخالفه فيه من أصاب الحق بموجب أن لا يحتج بصوابه الذي وافقه فيه أهل الحق وهذا ما لا خلاف فيه وبالله تعالى التوفيق وأما أمر أبي بكر فإن الحق كله له بالنص وللمرء أن يترك حقه إذا رأى في تركه إصلاح ذات بين المسلمين ولا فرق بين عطية أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين منزلة صبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان فكان له أن يتجافى عنها لغيره إذ لم يمنعه من ذلك نص ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبرهان صحة قول من قال بأن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلا بنص أو إجماع أو معجزة تظهر فالمعجزة ممتنعة هاهنا بلا خلاف وكذلك الإجماع وكذلك النص وبرهان آخر وهو أن الذي كلفوا به من معرفة الأفضل ممتنع محال لأن قريشاً مفترقون في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس إلى أقصى اليمن وصحاري البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فما بين ذلك من البلاد فمعرفة أسمائهم ممتنع فكيف معرفة أحوالهم فكيف معرفة أفضلهم وبرهان آخر وهو أنا بالحس والمشاهدة ندري أنه لا يدري أحد فضل إنسان على غيره ممن بعد الصحابة رضي الله عنهم إلا بالظن والحكم بالظن لا يحل قال الله تعالى ذاماً لقوم ‏"‏ إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ما لهم بذلك من علم أن هم إلا يخرصون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ قتل الخراصون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ‏"‏ و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وأيضاً فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل فيكون الواحد أزهد ويكون الواحد أورع ويكون الآخر أسوس ويكون الرابع أشجع ويكون الخامس أعلم وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم فبطل معرفة الأفضل وصح أن هذا القول فاسد وتكليف ما لا يطاق وإلزام ما لا يستطاع وهذا باطل لا يحل والحمد لله رب العالمين ثم قد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلد النواحي وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل وأبا موسى وخالد بن الوليد وعلي عمان عمرو بن العاص وعلى نجران أبا سفيان وعلى مكة عتاب ابن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي ولا خلاف في أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة وابن مسعود وبلال وأبا ذر أفضل ممن ذكرنا فصح يقيناً أن الصفات التي يستحق بها الإمامة والخلافة ليس منها التقدم في الفضل وأيضاً فإن الفضائل كثيرة جداً منها الورع والزهد والعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة والصبر والصرامة وغير ذلك ولا يوجد أحد يبين في جميعها بل يكون بائناً في بعضها ومتأخراً في بعضها ففي أيها يراعي الفضل من لا يجيز إمامة المفضول فإن اقتصر على بعضها كان مدعياً بلا دليل وإن عم جميعها كلف من لا سبيل إلى وجوده أبداً في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذ لا شك في ذلك فقد صح القول في إمامة المفضول وبطل قول من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وذكر الباقلاني في شروط الإمامة أنها أحد عشر شرطاً وهذا أيضاً دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل فوجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه فوجدناها أن يكون صليبة من قريش لإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإمامة فيهم وأن يكون بالغاً مميزاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق وأن يكون رجلاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة وأن يكون مسلماً لأن الله تعالى يقول ‏"‏ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏"‏ والخلافة أعظم السبيل ولأمره تعالى باصغار أهل الكتاب وأخذهم بأداء الجزية وقتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا وأن يكون متقدماً لأمره عالماً بما يلزمه من فرائض الدين متقياً لله تعالى بالجملة غير معلن بالفساد في الأرض لقول الله تعالى ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ لأن من قدم من لا يتق الله عز وجل ولا في شيء من الأشياء أو معلناً بالفساد في الأرض غير مأمون أو من لا ينفذ أمراً أو من لا يدري شيئاً من دينه فقد أعان على الإثم والعدوان ولم يعن على البر والتقوى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد و قال عليه السلام يا أبا ذر إنك ضعيف لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم و قال تعالى ‏"‏ فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً ‏"‏ الآية فصح أن السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شيء فلا بد له من ولي ومن لا بد له من ولي فلا يجوز أن يكون ولياً للمسلمين فصح أن ولاية من لم يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز ولا ينعقد أصلاً ثم يستحب أن يكون عالماً بما يخصه من أمور الدين من العبادات والسياسة والأحكام مؤدياً للفرائض كلها لا يخل بشيء منها مجتنباً لجميع الكبائر سراً وجهراً مستتراً بالصغائر إن كانت منه فهذه أربع صفات يكره أن يلي الأمة من لم ينتظمها فإن ولي فولايته صحيحة ونكرهها وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة ومنعه مما لم يطع الله فيه واجب والغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقاً بالناس في غير ضعف شديداً في إنكار المنكر من غير عنف ولا تجاوز للواجب مستيقظاً غير غافل شجاع النفس غير مانع للمال في حقه ولا مبذر له في غير حقه ويجمع هذا كله أن يكون الإمام قائماً بأحكام القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يجمع كل فضيلة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والأحدب والذي لا يدان له ولا رجلان ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام ومن يعرض له الصرع ثم يفيق ومن بويع أثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلاً بل قال تعالى ‏"‏ كونوا قوامين بالقسط ‏"‏ فمن قام بالقسط فقد ادى ما أمر به ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة وبالله تعالى نتأيد‏.‏

 الكلام في عقد الإمامة

بماذا تصح قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن الإمامة لا تصح إلا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد وذهب آخرون إلى أن الإمامة إنما تصح بعقد أهل حضرة الإمام والموضع الذي فيه قرار الأئمة وذهب أبو علي بن عبد الوهاب الجبائي إلى أن الإمامة لا تصح بأقل من عقد خمس رجال ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوي وقد ذكر في فساد قول الروافض وقول الكيسانية ومن ادعى إمامة رجل بعينه وأنبأ أن كل ذلك دعاو لا يعجز عنها ذو لسان إذا لم يتق الله ولا استحياء من قال أبو محمد‏:‏ أما من قال أن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع وما هو أعظم الحرج والله تعالى لا يكلف نفساً و قال تعالى ‏"‏ وما جعل عليكم في الدين من حرج ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة إلى بلاد مهرة إلى عدن إلى أقاصي المصامدة إلى طنجة إلى الأشبونة إلى جزائر البحر إلى سواحل الشام إلى أرمينية وجبل القبج إلى اسبنجاب وفرغانة واسروسنه إلى أقاصي خراسان إلى الجوزجان إلى كابل المولتان فما بين ذلك من المدن والقرى ولا بد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد فبطل هذا القول الفاسد مع أنه لو كان ممكناً لما لزم لأنه دعوى بلا برهان وإنما قال تعالى ‏"‏ تعاونوا على البر والتقوى وكونوا قوامين بالقسط ‏"‏ فهذان الأمران متوجهان أحدهما إلى كل إنسان في ذاته ولا يسقط عنه وجوب القيام بالقسط انتظار غيره في ذلك وأما التعاون على البر والتقوى فمتوجه إلى كل اثنين فصاعداً لأن التعاون فعل من فاعلين وليس فعل واحد ولا يسقط عن الاثنين فرض تعاونهما على البر والتقوى انتظار ثالث إذ لو كان ذلك لما لزم أحداً قيا بقسط ولا تعاون على بر وتقوى إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبداً لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عن ذلك لعذر أو على وجه المعصية ولو كان هذا لكان أمر الله تعالى بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلاً فارغاً وهذا خروج عن الإسلام فسقط القول المذكور وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أن عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الذي فيه قرار الأئمة فإن أهل الشام كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام‏.‏

قال أو محمد‏:‏ وهو قول فاسد لا حجة لأهله وكل قول في الدين عرى عن ذلك من القرآن أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من إجماع الأمة المتيقن فهو باطل بيقين قال الله تعالى ‏"‏ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ‏"‏ فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقاً فيه فسقط هذا القول أيضاً وأما قول الجبائي فإنه تعلق فيه بفعل عمر رضي الله عنه في الشورى إذ قلدها ستة رجال وأمرهم أن يختاروا واحداً منهم فصار الاختيار منهم بخمسة فقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا ليس شيء لوجوه أولها أن عمر لم يقل أن تقليد الاختيار أقل من خمسة لا يجوز بل قد جاء عنه أنه قال إن مال ثلاثة منهم إلى واحد وثلاثة إلى واحد فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن ابن عوف فقد أجاز عقد ثلاثة ووجه ثان وهو أن فعل عمر رضي الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة وعمر كسائر الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز أن يخصه بوجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم والثالث أن أولئك الخمسة رضي الله عنهم قد تبرؤا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلاً للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك فقد صح إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بواحد فإن قال قائل إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلدوه قيل له إن كل هذا عندك اعتراضاً فالتزم مثله سواء سواء ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلدهم ذلك ولولا ذلك لم يجز عقدهم وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم فلو اختاروا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا بمن اختاروه ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم وهذا مما لا مخلص منه أصلاً فبطل هذا القول بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب النظر في ذلك على ما أوجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز وجل إذ يقول ‏"‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ‏"‏ فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إنما أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته والوجه الثاني إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعوا لي نفسه ولا منازع له ففرض أتباعه والانقياد لبيعته والتزام إمامته وطاعته كما فعل علي إذ قتل عثمان رضي الله عنهما وكما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما وقد فعل ذلك خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فأخذ خالد الراية عن غير أمره وصوب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بلغه فعله وساعد خالداً جميع المسلمين رضي الله عنهم أو أن يقوم كذلك عند ظهور منكر يراه فتلزم معاونته على البر والتقوى ولا يجوز التأخر عنه لأن لك معاونة على الإثم والعدوان وقد قال عز وجل ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ كما فعل زيد بن الوليد ومحمد بن هارون المهدي رحمهم الله والوجه الثالث أن يصير الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر رضي الله عنه عند موته وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ ولا يجوز التردد في الاختيار أكثر من ثلاث ليال للثبات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله من بات ليلة ليس في عنقه بيعة ولأن المسلمين لم يجتمعوا على ذلك أكثر من ذلك والزيادة على ذلك باطل لا يحل على أن المسلمين يومئذ من حين موت عمر رضي الله عنه قد اعتقدوا بيعة لازمة في أعناقهم لازمة لأحد أولئك الستة بلا شك فهم وإن لم يعرفوه بعينه فهو بلا شك واحد من أولئك الستة فبأحد هذه الوجوه تصح الإمامة ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده فالحق حق الأول وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فوابيعة الأول فالأول من جاء ينازعه فاضربوا عنقه كائناً من كان فلو قام اثنان فصاعداً معاً في وقت واحد ويئس من معرفة أيهما سبقت بيعته نظر أفضلهما وأسوسهما فالحق له ووجب نزع الآخر لقول الله تعالى ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ ومن البر تقليد الاسوس وليس هذا بيعة متقدمة يجب الوفاء بها ومحاربة من نازع صاحبها فإن استويا في الفضل قدم الأسوس نعم وإن كان أقل فضلاً إذا كان مؤدياً للفرائض والسنن مجتنباً للكبائر مستتراً بالصغائر لأن الغرض من الإمامة حسن السياسة والقوة على القيام بالأمور فإن استويا في الفضل والسياسة اقرع بينهما أو نظر في غيرهما والله عز وجل لا يضيق على عباده هذا الضيق ولا يوقفهم على هذا الحرج لقوله تعالى ‏"‏ وما جعل عليكم في الدين من حرج ‏"‏ وهذا أعظم الحرج وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال أبو محمد‏:‏ اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى ‏"‏ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ‏"‏ ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد أو باللسان إن قدر على ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلاً وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وبه قال ت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وممن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وبمن رأى القعود منهم إلا أن جميع القائلين بهذه الم قال ة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلاً فإن كان عدلاً وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل وقد روينا عن ابن عمر أنه قال لا أدري من هي الفئة الباغية ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضي الله عنهم غيره وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر المعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك قال وا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عن جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعدو حنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابن السخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز ابن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر الوراق ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه قال أبو محمد‏:‏ احتجت الطائفة المذكورة أولاً بأحاديث فيها انقاتلهم يا رسول الله قال لا ما صلوا وفي بعضها إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان وفي بعضها وجوب الضرب وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله وفي بعضها فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فاطرح ثوبك على وجهك وقل إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وفي بعضها كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وبقوله تعالى ‏"‏ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ‏"‏ الآية‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصي خبراً خبراً بأسانيدها ومعانيها في كتابنا الموسوم بالاتصال إلى فهم معرفة الخصال ونذكر منه إن شاء الله هاهنا جملاً كافية وبالله تعالى نتأيد أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى وإما أن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك برهان هذا قول الله عز وجل ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ وقد علمنا أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام ربه تعالى قال الله عز وجل ‏"‏ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ‏"‏ فصح أن كل ما قال ه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحي من عند الله عز وجل لا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض فإذا كان هذا كذلك فبيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن من أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين فالمسلم ماله للأخذ ظلماً وظهره للضرب ظلماً وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان وهذا حرام بنص القرآن ‏"‏ وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا وقصة ابني آدم فلا حجة في شيء منها أما قصة ابني آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا قال الله عز وجل ‏"‏ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ‏"‏ وأما الأحاديث فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكراً فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك من الإيمان شيء وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا طاعة في معصية إنما الطاعة في الطاعة وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وإنه عليه السلام قال من قتل دون ماله فهو شهيد والمقتول دون دينه شهيد والمقتول دون مظلمة شهيد و قال عليه السلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده فكان ظاهر هذه الأخبار معارضاً للآخر فصح أن إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى لا يمكن غير ذلك فوجب النظر في أيهما هو الناسخ فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهي عن القتال موافقة لمعهود الأصل ولما كانت الحال عليه في أول الإسلام بلا شك وكانت هذه الأحاديث الأخر واردة بشريعة زايدة وهي القتال هذا ما لا شك فيه فقد صح نسخ معنى تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه السلام بهذه الأخر بلا شك فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين ومن ادعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة فقد ادعى الباطل وقفا ما لا علم له به ف قال على الله ما لم يعلم وهذا لا يحل ولو كان هذا لما أخلا الله عز وجل هذا الحكم عن دليل وبرهان يبين به رجوع المنسوخ ناسخاً لقوله تعالى في القرآن تبياناً لكل شيء وبرهان آخر وهو أن الله عز وجل قال ‏"‏ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء ‏"‏ لم يختلف مسلمان في أن هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث فما كان موافقاً لهذه الآية فهو الناسخ الثابت وما كان مخالفاً لها فهو المنسوخ المرفوع وقد ادعى قوم أن هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص قال أبو محمد‏:‏ وهذا باطل متيقن لأنه قول بلا برهان وما يعجز مدع أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم وفي زمان دون زمان والدعوى دون برهان لا تصح وتخصيص النصوص بالدعوى لا يجوز لأنه قول على الله تعالى بلا علم وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً سأله عن من طلب ماله بغير حق ف قال عليه السلام لا تعطه قال فإن قاتلني قال قاتله قال فإن قتلته قال إلى النار قال فإن قتلني قال فأنت في الجنة أو كلاماً هذا معناه وصح عنه عليه السلام أنه قال المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه وقد صح أنه عليه السلام قال في الزكاة من سألها على وجهها فليعطها ومن سألها على غير وجهها فلا يعطها وهذا خبر ثابت رويناه من طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يبطل تأويل من تأول أحاديث القتال عن المال على اللصوص لا يطلبون الزكاة وإنما يطلبه السلطان فاقتصر عليه السلام معها إذا سألها على غير ما أمر به عليه السلام ولو اجتمع أهل الحق ما قاوا هم أهل الباطل نسأل الله المعونة والتوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وما اعترضوا به من فعل عثمان فما علم قط أنه يقتل وإنما كان يراهم يحاصرونه فقط وهم لا يرون هذا اليوم للإمام العدل بل يرون القتال معه ودونه فرضاً فلا حجة لهم في أمر عثمان رضي الله عنه و قال بعضهم إن في القيام إباحة الحريم وسفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الأستار وانتشار الأمر ف قال لهم الآخرون كلا لأنه لا يحل لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يهتك حريماً ولا أن يأخذ مالاً بغير حق ولا أن يتعرض من لا يقاتله فإن فعل شيئاً من هذا فهو الذي فعل ما ينبغي أن يغير عليه وأما قتله أهل المنكر قلوا أو كثروا فهذا فرض عليه وأما قتل أهل المنكر الناس وأخذهم أموالهم وهتكهم حريمهم فهذا كله من المنكر الذي يلزم الناس تغييره وأيضاً فلو كان خوف ما ذكروا مانعاً من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف لكان هذا بعينه مانعاً من جهاد أهل الحرب وهذا ما لا يقوله مسلم وإن ادعى ذلك إلى سبي النصارى نساء المسلمين وأولادهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وهتك حريمهم ولا خلاف بين المسلمين في أن الجهاد واجب مع وجود هذا كله ولا فرق بين الأمرين وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وي قال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف على أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا أو حمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة فإن قال وا لا يجوز القيام عليه قيل لهم أنه لا يدع مسلماً إلا قتله جملة وهذا أن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه وإن قال وا بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم قلنا لهم فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحداً وسبي من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة أو على أخذ مال أو على انتهاك بشرة بظلم فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا ما لا يجوز وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق ونسألهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به بنفسه أهو في سعة من إسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم فإن قال وا فرض عليه إسلام نفسه وأهله أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم وإن قال وا بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والواجب أن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الصلاة خلف الفاسق والجهاد معه والحج

ودفع الزكاة إليه ونفاذ أحكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك قال أبو محمد‏:‏ ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الصلاة إلا خلف الفاضل وهو قول الخوارج والزيدية والروافض وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة و قال آخرون إلا الجمعة والعيدين وهو قول لعض أهل السنة وذهبت طائفة الصحابة كلهم دون خلاف من أحد منهم وجميع فقهاء التابعين كلهم دون خلاف من أحد منهم وأكثر من بعدهم وجمهور أصحاب الحديثوهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة وداود وغيرهم إلى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة وغيرها وبهذا نقول وخلاف هذا القول بدعة محدثة فما تأخر قط أحد من الصحابة الذين أدركوا المختار بن عبيد والحجاج وعبيد الله بن زياد وحبيش بن دلجة وغيرهم عن الصلاة خلفهم وهؤلاء أفسق الفساق وأما المختار فكان متهما في دينه مظنوناً به الكفر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ احتج من يقول بمنع الصلاة خلفهم بقول الله تعالى ‏"‏ إنما يتقبل الله من المتقين ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ في قال لهم كل فاسق إذا نوى بصلاته رحمة الله تعالى فهو في ذلك من المتقين فصلاته متقبلة ولو لم يكن من المتقين إلا من لا ذنب له ما استحق أحد هذا الاسم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل ‏"‏ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ‏"‏ ولا يجوز القطع على الفاسق بأنه لم يرد بصلاته وجه الله تعالى ومن قطع بهذا فقد قفا ما لا علم له به و قال ما لا يعلم وهذا حرام و قال تعالى ‏"‏ ولا تقف ما ليس لك به علم ‏"‏ و قال عز وجل ‏"‏ وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ‏"‏ و قال بعضهم إن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا غاية الفساد لأنه قول بلا دليل بل البرهان يبطله لقوله تعالى ‏"‏ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ‏"‏ وقول تعالى ‏"‏ ولا تزر وازرة وزر أخرى ‏"‏ ودعوى الارتباط هاهنا قول بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من معقول وهم قد أجمعوا على أن طهارة الإمام لا تنوب عن طهارة المأموم ولا قيامه عن قيامه ولا قعوده عن قعوده ولا سجوده عن سجوده ولا ركوعه عن ركوعه ولا نيته عن نيته فما معنى هذا الارتباط الذي تدعونه إذاً وأيضاً فإن القطع عن سريرة الذي ظاهره الفضل لا يجوز وإنما هو ظن فاستوى الأمر في ذلك في الفاضل والفاسق وصح أنه لا يصلي أحد عن أحد وإن كل أحد يصلي عن نفسه و قال تعالى ‏"‏ أجيبوا داعي الله ‏"‏ فوجب بذلك ضرورة أن كل داع دعا إلى خير من صلاة أو حج أو جهاد أو تعاون على بر وتقوى ففرض إجابته وعمل ذلك الخير معه لقول الله تعالى ‏"‏ تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ وإن كل داع دعى إلى شر فلا يجوز إجابته بل فرض دفاعه ومنعه وبالله تعالى نتأيد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأيضاً فإن الفسق منزلة نقص عمن هو أفضل منه والذي لا شك فيه أن النسبة بين أفجر فاجر من المسلمين وبين أفضل الصحابة رضي الله عنهم أقرب من النسبة بين أفضل الصحابة رضي الله عنهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عرى أحد من تعمد ذنب وتقصير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما تفاضل المسلمون في كثرة الذنوب وقلتها وفي اجتناب الكبائر ومواقعتها وأما الصغائر فما نجا منها أحد بعد الأنبياء عليهم السلام وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وبهذا صح أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن استووا فأفقههم ندب لا فرض فليس لفاضل بعد هذا أن يمتنع من الصلاة خلف من هو دونه في القصوى من الغايات‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما دفع الزكاة إلى الإمام فإن كان الإمام القرشي الفاضل أو الفاسق لم ينازعه فاضل فهي جارية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ارضوا مصديقكم ولا يكون مصدقاً كل من سمى نفسه مصدقاً لكن من قام البرهان بأنه مصدق بإرسال الإمام الواجبة طاعته له وإما من سألها من هو غير الإمام المذكور أو غير مصدقه فهو عابر سبيل لا حق له في قبضها فلا يجزي دفعها إليه لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد وهكذا القول في الأحكام كلها من الحدود وغيرها إن أقامها الإمام الواجبة طاعته والذي لا بد منه فإن وافقت القرآن والسنة نفذت وإلا فهي مردودة لما ذكرنا وإن أقامها غير الإمام أو واليه فهي كلها مردودة ولا يحتسب بها لأنه أقامها من لم يؤمر بإقامتها فإن لم يقدر عليها الإمام فكل من قام بشيء من الحق حينئذ نفذ لأمر الله تعالى لنا بأن نكون قوامين بالقسط ولا خلاف بين أحد من الأمة إذ كان الإمام حاضراً متمكناً أو أميره أو واليه فإن من بادر إلى تنفيذ حكم هوالي الإمام فإنه إما مظلمة ترد وإما عزل لا ينفذ على هذا جرى عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع عماله في البلاد بنقل جميع المسلمين عصراً بعد عصر ثم عمل جميع الصحابة رضي الله عنهم وأما الجهاد فهو واجب مع كل إمام وكل متغلب وكل باغ وكل محارب من المسلمين لأنه تعاون على البر والتقوى وفرض على كل أحد الدعا إلى الله تعالى وإلى دين الإسلام ومنع المسلمين ممن أرادهم قال تعالى ‏"‏ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ‏"‏ الآية فهذا عموم لكل مسلم بنص الآية في كل مكان وكل زمان وبالله تعالى التوفيق تم كتاب الإمامة والمفاضلة بحمد الله تعالى وشكره‏.‏

 ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال

من أقوال أهل البدع المعتزلة والخوارج والمرجئية والشيع قال أبو محمد‏:‏ قد كتبنا في ديواننا هذا من فضايح الملل المخالفة لدين الإسلام الذي في كتبهم من اليهود والنصارى والمجوس ما لا بقية لهم بعدها ولا يمتري أحد وقف عليها إنهم في ضلال وباطل ونكتب إن شاء الله تعالى على هذه الفرق الأربعة من فواحش أقوالهم ما لا يخفى على أحد قراه أنهم في ضلال وباطل ليكون ذلك زاجراً لمن أراد الله توفيقه عن مضامتهم أو التمادي فيهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما لم يقله نصاً وإن آل قوله إليه إذ قد لا يلزم ما ينتجه قوله فيتناقض فاعلموا أن تقويل القائل كافراً كان أو مبتدعاً أو مخطئاً ما لا يقوله نصاً كذب عليه ولا يحل الكذب على أحد لكن ربما دلسوا المعنى الفاحش بلفظ ملتبس ليسهلوه على أهل الجهل ويحسن النظر بهم من أتباعهم وليبعد فهم تلك العظيمة على العامة من مخالفتهم كقول طوائف من أهل البدعة والضلالة لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال ولا على الظلم ولا على الكذب ولا على غير ما علم أنه يكون فأخفوا أعظم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تأنيس الأغمار من أتباعهم وتسكين الدهما من مخالفيهم فراراً عن كشف معتقدهم صراحاً الذي هو أنه تعالى لا يقدر على الظلم ولا له قوة على الكذب ولا به طاقة على المحال ولا بد لنا من إيضاح ما موهوه هكذا وإيراده بأظهر عباراته كشفاً لتمويههم وتقرباً إلى الله تعالى بهتك أستارهم وكشف أسرارهم وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

 ذكر شنع الشيعة

قال أبو محمد‏:‏ أهل الشنع من هذه الفرقة ثلاث طوايف أولها الجارودية من الزيدية ثم الإمامية من الرافضة ثم الغالية فأما الجارودية فإن طائفة منهم قال ت أن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ابن علي بن أبي طالب القائم بالمدينة علي ابن جعفر المنصور فوجه إليه المنصور عيسى بن موسى بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس فقتل محمد بن عبد الله بن الحسن رحمه الله ف قال ت هذه الطائفة أن محمداً المذكور حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً و قال ت طائفة أخرى منهم أنه يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القايم بالكوفة أيام المستعين فوجه إليه محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بأمر المستعين ابن عمة الحسن بن إسماعيل ابن الحسين وهو ابن أخي طاهر بن الحسين فقتل يحيى بن عمر رحمه الله ف قال ت الطائفة المذكورة أن يحيى بن عمر هذا حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً و قال ت طائفة منهم أن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القايم بالطالقان أيام المعتصم حي لم يمت ولا قتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً و قال ت الكيسايية وهم أصحاب المختار بن أبي عبيد وهم عندنا شعبة من الزيدية في سبيلهم أن محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية حي بجبال رضوي عن يمينه أسد وعن يساره نمر تحدثه الملائكة يأتيه رزقه غدواً وعشياً لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً و قال بعض الروافض الإمامية وهي الفرقة التي تدعي الممطورة أن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب حي لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً و قال ت طائفة منهم وهم الناووسية أصحاب ناوس المصري مثل ذلك في أبيه جعفر بن محمد و قال ت طائفة منهم مثل ذلك في أخيه إسماعيل بن جعفر و قال ت السبابية أصحاب عبد الله بن سبا الحميري اليهودي مثل ذلك في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزادوا أنه في السحاب فليت شعري في أي سحابة هو من السحاب والسحاب كثير في أقطار الهواء مسخر بين السماء والأرض كما قال الله تعالى و قال عبد الله بن سبا إذ بلغه قتل علي رضي الله عنه لو أتيتمونا بدماغه سبعين مرة ما صدقنا موته ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً و قال بعض الكيسانية بأن أبا مسلم السراج حي لم يمت وسيظهر ولا بد و قال بعض الكيسانية بأنه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حي بجبال أصبهان إلى اليوم ولا بد له من أن يظهر وعبد الله هذا هو القائم بفارس أيام مروان بن محمد وقتله أبو مسلم بعد أن سجنه دهراً وكان عبد الله هذا ردي الدين معطلاً مستصحباً للدهرية‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فصار هؤلاء في سبيل اليهود القائلين بأن ملكصيدق بن عامر بن ارفخشد بن سام ابن نوح والعبد الذي وجهه إبراهيم عليه السلام ليخطب ريقا بنت بنؤال بن ناخور بن تارخ علي إسحاق ابنه عليه السلام والياس عليه السلام وفنحاس بن العازار بن هارون عليه السلام أحياء إلى اليوم وسلك هذا السبيل بعض تركي الصوفية فزعموا أن الخضر والياس عليهما السلام حيان إلى اليوم وادعى بعضهم أنه يلقي الياس في الفلوات والخضر في المروج والرياض وأنه متى ذكر حضر على ذاكره‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن ذكر في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وفي ألف موضع في دقيقة واحدة كيف يصنع ولقد لقينا من يذهب إلى هذا خلقاً وكلمناهم منهم المعروف بابن شق الليل المحدث بطلبيره وهو مع ذلك من أهل العناية وسعة الرواية ومنهم محمد بن عبد الله الكاتب وأخبرني أنه جالس الخضر وكلمه مراراً وغيره كثير هذا مع سماعهم قول الله تعالى ‏"‏ ولكن رسول الله وخاتم النبيين ‏"‏ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي فكيف يستجيز مسلم أن يثبت بعده عليه السلام نبياً في الأرض حاشا ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآثار المسندة الثابتة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان وكفار برغواطه إلى اليوم ينتظرون صالح بن طريق الذي شرع لهم دينهم و قال ت القطيعية من الإمامية الرافضة كلهم وهم جمهور الشيعة ومنهم المتكلمون والنظارون والعدد العظيم بأن محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب حي لم يمت ولا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وهو عندهم المهدي المنتظر وبقول طائفة منهم أن مولد هذا الذي لم يخلق قط في سنة ستين ومائتين سنة موت أبيه و قال ت طائفة منهم بل بعد موت أبيه بمدة و قال ت طائفة منهم بل في حياة أبيه ورووا ذلك عن حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى وأنها شهدت ولادته وسمعته يتكلم حين سقط من بطن أمه ويقرأ القرآن وأن أمه نرجس وأنها كانت هي القابلة و قال جمهورهم بل أمه صقيل و قال ت طائفة منهم بل أمه سوسن وكل هذا هوس ولم يعب الحسن المذكور لا ذكراً ولا أنثى فهذا أول نوك الشيعة ومفتاح عظيماتهم وأخفها وإن كانت مهلكة ثم قال وا كلهم إذ سئلوا عن الحجة فيما يقولون حجتنا الإلهام وأن من خالفنا ليس لرشده فكان هذا طريقاً جداً وليت شعري ما الفرق بينهم وبين عيار مثلهم يدعي في إبطال قولهم الإلهام وأن الشيعة ليسوا رشدة أو أنهم نوكة أو أنهم جملة ذووا شعبة من جنون في رؤوسهم وما قولهم فيمن كان منهم ثم صار في غيرهم أو من كان في غيرهم فصار فيهم أتراه ينتقل من ولادة الغية إلى ولادة الرشدة ومن ولادة الرشدة إلى ولادة الغية فإن قال وا حكمه لما يموت عليه قيل لهم فلعلكم أولاد غية إذ لا يؤمن رجوع الواحد فالواحد منكم إلى خلاف ما هو عليه اليوم والقوم بالجملة ذووا أديان فاسدة وعقول مدخولة وعديموا حياء ونعوذ بالله من الضلال وذكر عمرو بن بحر الجاحظ وهو وإن كان أحد المجان ومن غلب عليه الهزل وأحد الضلال المضلين فإننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها وإن كان كثيراً لا يراد كذب غيره قال أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قال ا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق ويحك أما استحيت من الله أن تقول في كتابك في الإمامة أن الله تعالى لم يقل قط في القرآن ‏"‏ ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ‏"‏ قال ا فضحك والله شيطان الطاق ضحكاً طويلاً حتى كأنا نحن الذي أذنبنا قال النظام وكنا نكلم علي ابن ميتم الصابوني وكل من شيوخ الرافضة ومتكلميهم فنسأله أرأي أم سماع عن الأئمة فينكر أن يقوله برأي فتخبره بقوله فيها قبل ذلك قال فوالله ما رأيته خجل من ذلك ولا استحيا لفعله هذا قط ومن قول الإمامية كلها قديماً وحديثاً أن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير وبدل منه كثير حاشا علي بن الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن ابن علي ابن أبي طالب وكان إمامياً يظاهر بالاعتزال مع ذلك فإنه كان ينكر هذا القول ويكفر من قال ه وكذلك صاحباه أبو يعلي ميلاد الطوسي وأبو القاسم الرازي‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ القول بأن بين اللوحين تبديلاً كفر صحيح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم و قال ت طائفة من الكيسانية بتناسخ الأرواح وبهذا يقول السيد الحمري الشاعر لعنه الله ويبلغ الأمر بمن يذهب إلى هذا إلى أن يأخذ أحدهم البغل أو الحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على أن روح أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيه فأعجبوا لهذا الحمق الذي لا نظير له وما الذي خص هذا البغل الشقي أو الحمار المسكين بنقله الروح إليه دون سائر البغال والحمير وكذلك يفعلون بالعنز على أن روح أم المؤمنين رضي الله عنها فيها وجمهور متكلميهم كهشام ابن الحكم الكوفي وتلميذه أبي علي الصكاك وغيرهما يقول أن علم الله تعالى محدث وأنه لم يكن يعلم شيئاً حتى أحدث لنفسه علماًوهذا كفر صريح وقد قال هشام هذا في حين مناظرته لأبي الهذيل العلاف أن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه وهذا كفر صحيح وكان داود الجوازي من كبار متكلميهم يزعم أن ربه لحم ودم على صورة الإنسان ولا يختلفون في أن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين أفيكون في صفاقة الوجه وصلابة الخد وعدم الحياء والجرأة على الكذب أكثر من هذا على قرب العهد وكثرة الخلق وطائفة منهم تقول أن الله تعالى يريد الشيء ويعزم عليه ثم يبدو له فلا يفعله وهذا مشهور للكيسانية ومن الإمامية من يجيز نكاح تسع نسوة ومنهم من يحرم الكرنب لأنه إنما نبت على دم الحسين ولم يكن قبل ذلك وهذا في قلة الحياء قريب مما قبله وكما يزعم كثير منهم أن علياً لم يكن له سمى قبله وهذا جهل عظيم بل كان في العرب كثير يسمون هذا الاسم كعلي بن بكر بن وايل إليه يرجع كل بكري في العالم في نسبه وفي الأزد علي وفي بجيله علي وعيرها كل ذلك في الجاهلي مشهور وأقرب من ذلك عامر بن الطفيل يكني أبا علي ومجاهراتهم أكثر مما ذكرنا ومنهم طائفة تقول بفناء الجنة والنار وفي الكيسانية من يقول أن الدنيا لا تفنى أبداً ومنهم طائفة تسمى النحيلة نسبوا إلى الحسن بن علي بن ورصند النحلي كان من أهل نفطة من عمل قفصة وقسطيلية من كور أفريقية ثم نهض هذا الكافر إلى السوس في أقاصي بلاد المصامدة فأضلهم وأضل أمير السوس أحمد بن إدريس بن يحيى بن إدريس ابن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب فهم هنالك كثير سكان في ربض مدينة السوس معلنون بكفرهم وصلاتهم خلاف صلاة المسلمين لا يأكلون شيئاً من الثمار زبل أصله ويقولون أن الإمامة في ولد الحسن دون ولد الحسين ومنهم أصحاب أبي كامل ومن قولهم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم كفروا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إذ جحدوا إمامة علي وأن علياً كفر إذا سلم الأمر إلى أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم قال جمهورهم أن علياً ومن ابتعه رجعوا إلى الإسلام إذ دعى إلى نفسه قتل عثمان وإذ كشف وجهه وسل سيفه وأنه وإياهم كانوا قبل ذلك مرتدين عن الإسلام كفاراً مشركين ومنهم من يرد الذنب في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يبين الأمر بياناً رافعاً للأشكال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذا كفر صريح لا خفاء به فهذه مذاهب الإمامية وهي المتوسطة في الغوة من فرق الشيعة وأما الغالية من الشيعة فهم قسمان قسم أوجبت النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لغيره والقسم الثاني أوجبوا الإلهية لغير الله عز وجل فلحقوا بالنصارى واليهود وكفروا أشنع الكفر فالطائفة التي أوجبت النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فرق منهم الغرابية وقولهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب وأن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام بالوحي إلى علي فغلط جبريل بمحمد ولا لوم على جبريل في ذلك لأنه غلط و قال ت طائفة منهم بل تعمد ذلك جبريل وكفروه ولعنوه لعنهم الله‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهل سمع بأضعف عقولاً وأتم رقاعة من قوم يقولون أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يشبه علي بن أبي طالب فيا للناس أين يقع شبه ابن أربعين سنة من صبي ابن إحدى عشرة سنة حتى يغلط به جبريل عليه السلام ثم محمد عليه السلام فوق الربعة إلى الطول قويم القناة كث اللحية ادلج العينين ممتلي الساقي صلى الله عليه وسلم قليل شعر الجسد أفرع وعلي دون الرعبة إلى القصر منكب شديد الانكباب كأنه كسر ثم جبر عظيم اللحية قد ملئت صدره من منكب إلى منكب إذ التحي ثقيل العينين دقيق الساقين أصلع عظيم الصلع ليس في رأسه شعر إلا في مؤخره يسير كثير شعر اللحية فأعجبوا لحمق هذه الطبقة ثم لو جاز أن يغلط جبريل وحاشا لروح القدس الأمين كيف غفل الله عز وجل عن تقويمه وتنبيهه وتركه على غلطه ثلاثاً وعشرين سنة ثم أظرف من هذا كله من أخبرهم بهذا الخبر ومن خفرهم بهذه الخرافة وهذا لا يعرفه إلا من شاهد أمر الله تعالى لجبريل عليه السلام ثم شاهد خلافه فعلى هؤلاء لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة الناس أجمعين ما دام لله في عالمه خلق وفرقة قال ت بنبوة علي وفرقة قال ت بأن علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بم محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي والحسن بن محمد والمنتظر بن الحسن أنبياء كلهم وفرقة قال ت بنبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر فقط وهم طائفة من القرامطة وفرقة قال ت بنبوة علي وبنيه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية فقط وهم طائفة من الكيسانية وقد حام المختار حول أن يدعي النبوة لنفسه وسجع اسجاعاً وأنذر بالغيوب عن الله وأتبعه على ذلك طوائف من الشيعة الملعونة و قال بإمامة محمد بن الحنفية وفرقة قال ت بنبوة المغيرة بن سعيد مولى بجيلة بالكوفة وهو الذي أحرقه خالد بن عبد الله القسري بالنار وكان لعنه الله يقول أن معبوده صورة رجل على رأسه تاج وأن أعضاءه على عدد حرف الهجا الألف للساقين ونحو ذلك مما لا ينطلق لسان ذي شعبة من دين به تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً وكان لعنه الله يقول أن معبوده لما أراد أن يخلق الخلق تكلم باسمه الأكبر فوقع على تاجه ثم كتب بإصبعه أعمال العباد من المعاصي والطاعات فلما رأى المعاصي أرفض به عرقاً فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والثاني نير عذب ثم اطلع في البحر فرأى ظلمة فذهب ليأخذه فطار فأخذه فقلع عيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينيه الشمس وشمساً أخرى وخلق الكفار من البحر المالح وخلق المؤمنين من البحر العذب في تخليط لهم كثير وكان مما يقول أن الأنبياء لم يختلفوا قط في شيء من الشرايع وقد قيل أن جابر بن يزيد الجعفي الذي يروي عن الشعبي كان خليفة المغيرة ابن سعيد إذ حرقه خالد بن عبد الله القسري فلما مات جابر خلفه بكر الأعور الهجري فلما مات فوضوا أمرهم إلى عبد الله بن المغيرة رئيسهم المذكور وكان لهم عدد ضخم بالكوفة وآخر ما وقف عليه المغيرة ابن سعيد القول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وتحريم ماء الفرات وكل ماء نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة فبرئت منه عند ذلك القائلون بالإمامة في ولد الحسين وفرقة قال ت بنبوة بيان بن سمعان التميمي صلبه وأحرقه خالد بن عبد القسري مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد وجبن المغيرة بن سعيد عن اعتناق حزمة الحطب جبناً شديداً حتى ضم إليها قهراً وبادر بيان بن سمعان إلى الحزمة فاعتنقها من غير إكراه ولم يظهر منه جزع ف قال خالد لأصحابهما في كل شيء أنتم مجانين هذا كان ينبغي أن يكون رئيسكم لا هذا الفسل وكان بيان لعنه الله يقول أن الله تعالى يفنى كله حاشا وجهه فقط وظن المجنون أنه تعلق في كفره هذا بقول الله تعالى ‏"‏ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ‏"‏ ولو كان له أدنى عقل أو فهم لعلم أن الله تعالى إنما أخبر بالفناء عما على الأرض فقط بنص قوله الصادق ‏"‏ كل من عليها فان ‏"‏ ولم يصف عز وجل بالفناء غير ما على الأرض ووجه الله تعالى هو الله وليس هو شيئاً غيره وحاشا لله من أن يوصف بالتبعيص والتجزي هذه صفة المخلوقين المحدودين لا صفة من لا يحد ولا له مثل وكان لعنه الله يقول أنه المعني بقول الله تعالى ‏"‏ هذا بيان للناس ‏"‏ وكان يذهب إلى أن الإمام هو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية ثم هي في سائر ولد علي كلهم و قال ت فرقة منهم بنبوة منصور المستير العجلي وهو الملقب بالكسف وكان ي قال أنه المراد بقول الله عز وجل ‏"‏ وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً ‏"‏ وصلبه يوسف بن عمر بالكوفة وكان لعنه الله يقول أنه عرج به إلى السماء وأن الله تعالى مسح رأسه بيده و قال له ابني اذهب فبلغ عني وكان يمين أصحابه لا والكلة وكان لعنه الله يقول بأن أول من خلق الله تعالى عيسى بن مريم ثم علي بن أبي طالب وكان يقول بتواتر الرسل وأباح المحرمات من الزنا والخمر والميتة والخنزير والدم و قال إنما هم أسماء رجال وجمهور الرافضة اليوم على هذا أسقط الصلاة والزكاة والصيام والحج وأصحابه كلهمخناقون رضاخون وكذلك أصحاب المغيرة بن سعيد ومعناهم في ذلك أنهم لا يستحلون حمل السلاح حتى يخرج الذي ينتظرونه فهم قتلون الناس بالخنق وبالحجارة والخشبية بالخشب فقط وذكر هشام بن الحكم الرافضي في كتابه المعروف بالميزان وهو أعلم الناس بهم لأنه جارهم بالكوفة وجارهم في المذهب أن الكسفية خاصة يقتلون من كان منهم ومن خالفهم ويقولون نعجل المؤمن إلى الجنة والكافر إلى النار وكانوا بعد موت أبي منصور يؤدون الخمس مما يأخذون ممن خنقوه إلى الحسن بن أبي المنصور وأصحابه فرقتان فرقة قال ت أن الإمام بعد محمد بن علي بن الحسن صارت إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وفرقة قال ت بل إلى أبي النمصور الكسف ولا تعود في ولد علي أبداً و قال ت فرقة بنبوة بزيغ الحائك بالكوفة وإن وقع هذه الدعوة لهم في حايك لظريفة وفرقة قال ت بنبوة معمر بايع الحنطة بالكوفة و قال ت فرقة بنبوة عمير التبان بالكوفة وكان لعنه الله يقول لأصحابه لو شئت أن أعيد هذا التبن تبراً لفعلت وقدم إلى خالد بن عبد الله القسري بالكوفة فتجلد وسب خالداً فأمر خالد بضرب عنقه فقتل إلى لعنة الله وهذه الفرق الخمس كلها من فرق الخطابية و قال ت فرقة من أولئك شيعة بني العباس بنبوة عمار الملقب بخداش فظفر به أسد بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسري فقتله إلى لعنة الله والقسم الثاني من فرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبا الحميري لعنه الله أتوا إلى علي بن أبي طالب ف قال وا مشافهة أنت هو ف قال لهم ومن هو قال وا أنت الله فاستعظم الأمر وأمر بنار فأججت وأحرقهم بالنار فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار الآن صح عندنا أنه الله لأنه لا يعذب بالنار إلا الله وفي ذلك يقول رضي الله عنه‏:‏ لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناراً ودعوت قنبرا يريد قنبراً مولاه وهو الذي تولى طرحهم في النار نعوذ بالله من أن نفتتن بمخلوق أو يفتتن بنا مخلوق فيما جل أو دق فإن محنة أبي الحسن رضي الله عنه بين أصحابه رضي الله عنهم كمحنة عيسى صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من الرسل عليهم السالم وهذه الفرقة باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد يسمون العليانية منهم كان إسحاق بن محمد النخعي الأحمر الكوفي وكان من متكلميهم وله في ذلك كتاب سماه الصراط نقض عليه البهنكي والفياض لما ذكرنا ويقولون أن محمداً رسول علي و قال ت طائفة من الشيعة يعرفون بالمحمدية أن محمداً عليه السلام هو الله تعالى الله عن كفرهم ومن هؤلاء كان البهنكي والفياض بن علي وله في هذا المعنى كتاب سماه القسطاس وأبوه الكاتب المشهور الذي كتب لإسحاق بن كنداج أيام ولايته ثم لأمير المؤمنين المعتضد وفيه يقول البحتري القصيدة المشهورة التي أولها‏:‏ شط من مساكن الغرير مرارة وطوته البلاد والله حارة والفياض هذا لعنه الله قتله القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب لكونه من جملة من سعى به أيام المعتضد والقصة مشهورة وفرقة قال ت بإلاهية آدم عليه السلام والنبيين بعده نبياً نبياً إلى محمد عليه السلام ثم بإلاهية علي ثم بإلاهية الحسن ثم الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ووقفوا هاهنا وأعلنت الخطابية بذلك نهاراً بالكوفة في ولا ية عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فخرجوا صدر النهار في جموع عظيمة في أزراوردية محرمين ينادون بأعلى أصواتهم لبيك جعفر لبيك جعفر قال ابن عياش وغيره كأني أنظر إليهم يومئذ فخرج إليهم عيسى بن موسى فقاتلوه فقتلهم واصطلمهم ثم زادت فرقة على ما ذكرنا ف قال ت بإلاهية محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد وهم القرامطة وفيهم من قال بإلاهية أبي سعيد الحسن بن بهرام الجبائي وأبنائه بعده ومنهم من قال بإلاهية أبي القاسم النجار القائم باليمن في بلاد همدان المسمى بالمنصور و قال ت طائفة منهم بإلاهية عبيد الله ثم الولاة من ولده إلى يومنا هذا و قال ت طائفة بإلاهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد بالكوفة وكثر عددهم بها حتى تجاوزوا الألوف و قال وا هو إله وجعفر بن محمد إله إلا أن أبا الخطاب أكبر منه وكانوا يقولون جميع أولاد الحسن أبناء الله وأحباؤه وكانوا يقولون أنهم لا يموتون ولكنهم يرفعون إلى السماء وأشبه على الناس بهذا الشيخ الذي ترون ثم قال ت طائفة منهم بإلاهية معمر بائع الحنطة بالكوفة وعبدوه وكان من أصحاب أبي الخطاب لعنهم الله أجمعين و قال ت طائفة بإلاهية الحسن بن منصور حلاج القطن المصلوب ببغداد بسعي الوزير ابن حامد بن العباس رحمه الله أيام المقتدر و قال ت طائفة بإلاهية محمد بن علي بن السلمعان الكاتب المقتول ببغداد أيام الراضي وكان أم أصحابه أن يفسق الأرفع قدراً منهم به ليولج فيه النور وكل هذه الفرق ترى الاشتراك في النساء و قال ت طائفة منهم بإلاهية شباش المغيم في وقتنا هذا حياً بالبصرة و قال ت طائفة منهم بإلاهية أبي مسلم السراج ثم قال ت طائفة من هؤلاء بإلاهية المقنع الأعور القصار القائم بثار أبي مسلم واسم هذا القصار هاشم وقتل لعنه الله أيام المنصور وأعلنوا بذلك فخرج المنصور فقتلهم وأفناهم إلى لعنة الله و قال ت الرنودية بإلاهية أبي جعفر المنصور و قال ت طائفة منهم بإلاهية عبد الله ابن الخرب الكندي الكوفي وعبدوه وكان يقول بتناسخ الأرواح وفرض عليهم تسعة عشر صلاة في اليوم والليلة في كل صلاة خمسة عشر ركعة إلى أن ناظره رجل من متكلمي الصفرية وأوضح له براهين الدين فأسلم وصح إسلامه وتبرأ من كل ما كان عليه وأعلم أصحابه بذلك وأظهر التوبة فتبرأ منه جميع أصحابه الذين كانوا يعبدونه ويقولون بإلاهيته ولعنوه وفارقوه ورجعوا كلهم إلى القول بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب وبقي عبد الله بن الخرب على الإسلام وعلى مذهب الصفرية إلى أن مات وطائفته إلى اليوم تعرف بالحزبية ومن السابية القائلين بإلاهية علي وطائفة تدعى النصرية وقد غلبوا في وقتنا هذا على جند الأردن والشام وعلى مدينة طبرية خاصة ومن قولهم لهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم وسبهم بأقذع السب وقذفهم بكل بلية والقطع بأنها وابنيها رضي الله عنهم ولعن مبغضهم شياطين تصوروا في صورة الإنسان وقولهم في عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي رضي الله عنه عن علي ولعنة الله على ابن ملجم فيقول هؤلاء أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي أفضل أهل الأرض وأكرمهم في الآخرة لأنه خلص روح اللاهوت مما كان يتشبث فيه من ظلمة الجسد وكدره فأعجبوا لهذا الجنون واسألوا الله العافية من بلاد الدنيا والآخرة فهي بيده لا بيد أحد سواه جعل الله حظنا منها الأوفى واعلموا أن كل من كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن ينتمي إلى الإسلام فإنما عنصرهم الشيعة والصوفية فإن من الصوفية من يقول أن من عرف الله تعالى سقطت عنه الشرايع وزاد بعضهم واتصل بالله تعالى وبلغنا أن بنيسابور اليوم في عصرنا هذا رجلاً يكنى أبا سعيد أبا الخير هكذا معاً من الصوفية مرة يلبس الصوف ومرة يلبس الحرير المحرم على الرجال ومرة يصلي في اليوم ألف ركعة ومرة لا يصلي لا فرضية ولا نافلة وهذا كفر محض ونعوذ بالله من الضلال‏.‏

 ذكر شنع الخوارج

ذكر بعض من جمع م قال ات المنتمين إلى الإسلام أن فرقة من الأباضية رئيسهم رجل يدعى زيد بن أبي أبيسه وهو غير المحدث المشهور كان يقول أن في هذه الأمة شاهدين عليها هو أحدهما والآخر لا يدري من هو ولا متى هو ولا يدري لعله قد كان قبله وإن من كان من اليهود والنصارى يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى العرب لا إلينا كما تقول العيسوية من اليهود قال فإنهم مؤمنون أولياء الله تعالى وإن ماتوا على هذا العقد وعلى التزام شرائع اليهود والنصارى وإن دين الإسلام سيسنخ بنبي من العجم يأتي بدين الصابئين وبقرآن آخر ينزل عليه جملة واحدة‏.‏

قال أبو محمد إلا أن جميع الأباضية يكفرون من قال بشيء من هذه الم قال ات ويبرؤون منه ويستحلون دمه وماله و قال ت طائفة من أصحاب الحرث الأباضي أن من زنا أو سرق أو قذف فإنه يقام عليه الحد ثم يستتاب مما فعل فإن تاب ترك وإن أبى التوبة قتل على الردة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وشاهدنا الأباضية عندنا بالأندلس يحرمون طعام أهل الكتب ويحرمون أكل قضيب التيس والثور والكبش ويوجبون القضاء على من نام نهاراً في رمضان فاحتلم ويتيممون وهم على الآبار التي يشربون منها إلا قليلاً منهم و قال أبو إسماعيل البطيحي وأصحابه وهم من الخوارج أن لا صلاة واجبة إلا ركعة واحدة بالغداة وركعة أخرى بالعشي فقط ويرون الحج في جميع شهور السنة ويحرمون أكل السمك حتى يذبح ولا يرون أخذ الجزية من المجوس ويكفرون من خطب في الفطرة والأضحى ويقولون أن أهل النار في النار في لذة ونعيم وأهل الجنة كذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأصل أبي إسماعيل هذا من الأزارقة إلا أنه علي عن سائر الأزارقة وزاد عليهم و قال ت سائر الأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق بإبطال رجم من زنى وهو محصن وقطعوا يد السارق من المنكب وأوجبوا على الحائض الصلاة والصيام في حيضها و قال بعضهم لا ولكن تقضي الصلاة إذا ظهرت كما تقتضي الصيام وأباحوا دم الأطفال ممن لم يكن في عسكرهم وقتل النساء أيضاً ممن ليس في عسكرهم وبرئت الأزارقة ممن قعد هن الخروج لضعف أو غيره وكفروا من خالف هذا القول بعد موت أول من قال به منهم ولم يكفروا من خالفه فيه في حياته و قال وا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عسكرهم ويقتلونه إذا قال أنا مسلم ويحرمون قتل من انتمى إلى اليهود أو النصارى أو إلى المجوس وبهذا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين كما يمرق السهم من الرميه إذ قال عليه السلام أنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إذ أنذر بذلك وهو من جزئيات الغيب فخرج نصاً كما قال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد بادت الأزارقة إنما كانوا هل عسكر واحد أو لهم نافع بن الأزرق وآخرهم عبدة بن هلال العسكري واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة إلا أني أشك في صبيح مولى سوار بن الأسعر المازني مازن تميم أخرج برأي الأزارقة أيام هشام بن عبد الملك أم برأي الصفرية لأن أمره لم يطل أسر أثر خروجه وقتل و قال ت النجدات وهم أصحاب نجدة بن عويم الحنفي ليس على الناس أن يتخذوا إماماً إنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم و قال وا من ضعف عن الهجرة إلى عسكرهم فهو منافق واستحلوا دم القعدة وأموالهم و قال وا من كذب كذبة صغيرة أو عمل عملاً صغيراً فأصر على ذلك فهو كافر مشرك وكذلك أيضاً في الكبائر وأن من عمل من الكبائر غير مصر عليها فهو مسلم و قال وا جائز أن يعذب الله المؤمنين بذنوبهم لكن في غير النار وأما النار فلا و قال وا أصحاب الكبائر منهم ليسوا كفاراً وأصحاب الكبائر من غيرهم كفار وقد بادت النجدات و قال ت طائفة من الصفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر وكانوا يؤلون الحق بالباطل وقد بادت هذه الطائفة و قال ت الميمونية وهم فرقة من العجاردة فرقة من الصفرية بإجازة نكاح بنات البنات وبنات البنين وبنات بني الأخوة والأخوات وذكر ذلك عنهم الحسين بن علي الكراسي وهو أحد الأئمة في الدين والحديث ولم يبق اليوم من فرق الخوارج إلا الإباضية والصفرية فقط و قال ت طائفة من أصحاب البهيسية وهم أصحاب أبي بيهس وهم من فرق الصفرية إن كان صاحب كبيرة فيها حد فإنه لا يكفر حتى يرفع إلى الإمام فإذا أقام عليه الحد فحينئذ يكفر و قال ت الرشيدية وهم من فرق الثعالبة والثعالبة من فرق الصفرية أن الواجب في الزكاة نصف العشر مما سقي بالأنهار والعيون و قال ت العونية وهم طائفة من البيهسية التي ذكرنا آنفاً أن الإمام إذا قضي قضية جور وهو بخراسان أو بغيرها حيث كان من البلد ففي ذلك الحين نفسه يكفر هو وجميع رعيته حيث كانوا من شرق الأرض وغربها ولو بالأندلس واليمن فما بين ذلك من البلاد و قال وا أيضاً لو وقعت قطرة خمر ف يجب ماء بفلاة من الأرض فإن كل من خطر على ذلك الجب فشرب منه وهو لا دري ما وقع فيه كافر بالله تعالى قال وا إلا أن الله تعالى يوفق المؤمن لاجتنابه و قال ت الفضيلية من الصفرية من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بلسانه ولم يعتقد ذلك بقلبه بل اعتقد الكفر أو الدهرية أو اليهودية أو النصرانية فهو مسلم عند الله مؤمن ولا يضره إذ قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبه و قال ت طائفة من الصفرية أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث ففي حين بعثه في ذلك الوقت من ذلك اليوم لزم جميع أهل المشرق والمغرب الإيمان به وإن لم يعرفو جميع ما جاء به من الشرائع فمن مات منهم قبل أن يبلغه شيء من ذلك مات كافراً و قال ت العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد من الصفرية أن من بلغ الحلم من أولادهم وبناتهم فهم براء منه ومن دينه حتى يقر بالإسلام فيتولوه حينئذ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فعلى هذا إن قتله قاتل قبل أن يلفظ بالإسلام فلا قود ولا دية وإن مات لم يرث ولم يورث و قال ت طائفة من العجاردة لا نتولى الأطفال قبل البلوغ ولا نبرأ منهم لكن نقف قال أبو محمد‏:‏ والعجاردة هم الغالبون على خوارج خراسان كما أن النكار من الإباضية هم الغالبون على خوارج الأندلس و قال ت المكرمية وهم أصحاب أبي مكرم وهم من الثعالبة أصحاب ثعلبة وهو من الصفرية وإلى قول الثعالبة رجع عبد الله بن أباض فبرئ منه أصحابه فهم لا يعرفونه اليوم ولقد سألنا من هو مقدمهم في علمهم ومذهبهم عنهم فما عرفه أحد منهم وكان من قول المكرمية هولاء أن من أتى كبيرة فقد جهل الله تعالى فهو كافر ليس من أجل الكبيرة كفر كلن لأنه جهل الله عز وجل فهو كافر بجهله بالله تعالى و قال ت طائفة من الخوارج ما كان من المعاصي فيه حد كالزنا والسرقة والقذف فليس فاعله كافراً ولا مؤمناً ولا منافقاً وأما ما كان من المعاصي لأحد فيه فهو كفر وفاعله كافر و قال ت الحفصية وهم أصحاب حفص بن ابي المقدام من الأباضية من عرف الله تعالى وكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر وليس بمشرك وإن جهل الله تعالى أو جحده فهو حينئذ مشرك و قال بعض أصحاب الحرث الأباضي المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانوا موحدين لله تعالى أصحاب كبائر ومن حماقتهم قول بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد فإنه كان يقول كل ذنب صغير أو كبير ولو كان أخذ حبة خردل بغير حق أو كذبة خفيفة على سبيل المزاح فهي شرك بالله وفاعلها كافر مشرك مخلد في النار إلا أن يكون من أهل بدر فهو كافر مشرك من أهل الجنة وهذا حكم طلحة والزبير رضي الله عنهما عندهم ومن حماقاتهم قول عبد الله بن عيسى تلميذ بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد المذكور فإنه كان يقول أن المجانين والبهايم والأطفال ما لم يبلغوا الحلم فإنهم يألمون البتة لشيء مما ينزل بهم من العلل وحجته في ذلك أن الله تعالى لا يظلم أحداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لعمري لقد طرد أصل المعتزلة وأن من خالفه في هذه المتلوث في الحماقة متكسع في التناقض‏.‏

 ذكر شنع المعتزلة

قال أبو محمد‏:‏ قال ت المعتزلة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطغاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه أن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل ثم اختلفوا ف قال ت طائفة خلقها فاعلوها دون الله تعالى و قال ت طائفة هي أفعال موجودة لا خالق لها أصلاً و قال ت طائفة هي أفعال الطبيعة وهذا قول أهل الدهر بلا تكلف و قال ت المعتزلة كلها حاشا ضرار بن عمرو المذكور وحاشا أبا سهل بشر بن العمير البغدادي النخاس بالرقيق أن الله عز وجل لا يقدر البتة على لطف يلطف به للكافر حتى يؤمن إيماناً يستحق به الجنة والله عز وجل ليس في قوته أحسن مما فعل بنا وإن هذا الذي فعل هو منتهى طاقته وآخر قدرته التي لا يمكنه ولا يقدر على أكثر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا تعجيز مجرد للباري تعالى ووصف له بالنقص وكلهم لا نحاشى أحداً يقول أنه لا يقدر على المحال وعلى أن يجعل الجسم ساكناً متحركاً معاً في حال واحدة ولا على أن يجعل إنساناً واحداً في مكانين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تعجيز مجرد لله تعالى وإيجاب النهاية والإنقضاء لقدرته تعالى الله عن ذلك و قال أبو الهذيل بن مكحول العلاف مولى عبد القيس بصري أحد رؤساء المعتزلة ومتقدميهم أن لما يقدر الله تعالى عليه آخراً ولقدرته نهاية لو خرج إلى الفعل لم يقدر الله تعالى بعد ذلك على شيء أصلاً ولا على خلق ذرو فما فوقها ولا إحياء بعوضة ميتة ولا على تحريك ورقة فما فوقها ولا على أن يفعل شيئاً أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه حالة من الضعف والمهانة والعجز قد ارتفعت البق والبراغيث والدود مدة حياتها عنها وعن أن توصف بها وهذا كفر مجرد لا خفاء به يزعم أبو الهذيل أيضاً أن أهل الجنة وأهل النار تفنى حركاتهم حتى يصيروا جماداً لا يقدرون على تحريك شيء من أعضائهم ولا على البراح من مواضعهم وهم في تلك الحال متلذذون ومتألمون إلا أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يطئون بعد هذا أبداً وكان يزعم أيضاً أن لما يعلمه عز وجل آخر أو نهاية وكلا لا يعلم الله شيئاً سواه وادعى قوم من المعتزلة أنه تاب عن هذه الطوام الثلاث‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا يصح وإنما ادعوا ذلك حياء من هذه الكفرات الصلع لإمام إمام الضلالة وذكر عن أبي الهذيل أيضاً أنه قال أن الله عز وجل ليس خلافاً لخلقه والعجب أنه مع الإقدام العظيم ينكر الشبيه وهذا عين التشبيه لأنه ليس إلا خلاف أو مثل أو ضد فإذا بطل أن يكون خلافاً وضداً فهو مثل ولا بد تعالى الله عن هذا علواً كبيراً وكان أبو الهذيل يقول أن الله لم يزل عليماً وكان ينكر أن ي قال أن الله لم يزل سميعاً بصيراً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خلاف القرآن لأن الله عز وجل قال ‏"‏ وكان الله سميعاً بصيراً ‏"‏ كما قال ‏"‏ وكان الله عليماً حكيماً ‏"‏ وكلهم قال أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من مات كافراً فإنه لا يؤمن أبداً وأنه تعالى حكم و قال أن أبا لهب وامرأته سيصليان النار كافرين ثم قطعوا كلهم بأن أبا لهب وامرأته كانا قادرين على الإيمان وعلى أن لا تمسهما النار وأنهما كان ممكناً لهما تكذيب الله عز وجل وأنهما كانا قادرين على إبطال علم الله عز وجل وعلى أن يجعلاه كاذباً في قوله هذا نص قولهم بلا تأويل قال وكان إبراهيم بن سيار النظام أبو إسحاق البصري مولى بني بحير بن الحارث بن عباد الضبعي أكبر شيوخ المعتزلة ومقدمة علمائهم يقول أن الله تعالى لا يقدر على ظلم أحد أصلاً ولا على شيء من الشر وأن الناس يقدرون على كل ذلك وأنه تعالى لو كان قادراً على ذلك لكنا لا نأمن أن يفعله أو أنه قد فعله فكان الناس عنده أتم قدرة من الله تعالى وكان يصرح بأن الله تعالى لا يقدر على إخراج أحد من جهنم ولا إخراج أحد من أهل الجنة عنها ولا على طرح طفل من جهنم وأن الناس وكل واحد من الجن والملائكة يقدرون على ذلك فكان الله عز وجل عنده أعجز من كل ضعيف من خلقه وكان كل أحد من الخلق أتم قدرة من الله تعالى وهذا الكفر المجرد الذي نعوذ بالله منه ومن العجب اتفاق النظام والعلاف شيخي المعتزلة على أنه ليس يقدر الله تعالى من الخير على أصلح مما عمل فاتفقا على أن قدرته على الخير متناهية ثم قال النظام أنه تعالى لا يقدر على الشر جملة فجعله عديم قدرة على الشر عاجزاً عنه و قال العلاف بل هو قادر على الشر جملة فجعل ربه متناهي القدرة على الخير وغير متناهي القدرة على الشر فهل سمع بأخبث صفة من الصفة التي وصف بها العلاف ربه وهل في الموصوفين أخبث طبيعة من الموصوف الذي ادعى العلاف أنه ربه ونعوذ بالله مما ابتلاهم به وأما أبو المعتمر معمر بن عمرو العطار البصري مولى بني سليم أحد شيوخهم وأئمتهم فكان يقول بأن في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ولا يحصيها الباري تعالى ولا أحد أيضاً غيره ولا لها عنده مقدار ولا عدد وذلك أنه كان يقول أن الأشياء تختلف بمعان فيها وأن تلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها وتلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها وهكذا بلا نهاية أيضاً تكذيب واضح لله تعالى في قوله ‏"‏ وكل شيء عنده بمقدار ‏"‏ وفي قوله تعالى ‏"‏ وأحصى كل شيء عدداً ‏"‏ وتوافقه الدهرية في قولهم بوجود أشياء لا نهاية لها وعلى هذا طلبته المعتزلة بالبصرة عند السلطان حتى فر إلى بغداد ومات بها مختفياً عند إبراهيم بن السيد بن شاهك وكان معمر أيضاً يزعم أن الله عز وجل لم يخلق شيئاً من الألوان ولا طولاً ولا عرضاً ولا طعماً ولا رائحة ولا خشونة ولا أملاساً ولا حسناً ولا قبيحاً ولا صوتاً ولا قوة ولا ضعفاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشرواً ولا مرضاً ولا صحة ولا عافةي ولا سقماً ولا عمى ولا بكماً ولا بصراً ولا سمعاً ولا فصاحة ولا فساداً للثمار ولا صلاحها وإن كل ذلك فعل الأجسام التي وجدت فيها هذه الأعراض بطباعها فاعلموا أن هذا الفاسق قد أخرج نصف العالم عن خلق الله تعالى لأنه ليس للعالم شيء إلا الجواهر الحاملة والأعراض المحمولة فقط فالنصف الواحد عنده غير مخلوق لعنه الله من مكذب لله تعالى في نص قوله تعالى ‏"‏ خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ‏"‏ وقد عورض معمر بهذه الآية ف قال إنما أراد أنه خلق الإماتة والإحياء وذكر عنه أنه كان ينكر أن يكون الله عز وجل عالماً بنفسه وذلك لأن العالم إنما يعلم غيره ولا يعلم نفسه وكان يزعم أن النفس ليست جسماً ولا عرضاً ولا هي في مكان أصلاً ولا تماس شيئاً ولا قال أبو محمد‏:‏ وهذا قول أهل الإلحاد محضاً بلا تأويل يعني القائلين منهم بقدم النفس وأنها الخالقة للإنسان نعوذ بالله من الضلال وكان يقول أن الله تعالى لا يعلم نفسه ولا يجهلها لأن العالم غير المعلوم ومحال أن يقدر على الموجودات أو أن يعملها أو أن يجهلها و قال أبو العباس عبد الله بن محمد الأنباري المعروف بالناشي ولقبه شرسير في كتابه في الم قال ات أن الله تعالى عن كفره لا يقدر على أن يسوي بنان الإنسان بعد أن سبق في علمه أنه لا يسويها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تكذيب محض لله تعالى في قوله ‏"‏ أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه ‏"‏ ورأيت للجاحظ في كتابه البرهان لو أن سائلاً سأله و قال أيقدر الله على أن يخلق قبل الدنيا دنيا أخرى فجوابه نعم بمعنى أنه يخلق تلك الدنيا حين خلق هذه فتكون مثل هذه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا تعجيز منه للباري تعالى كما قدمنا إذ لم تحصل له تعالى قدرة على خلق دنيا قبل هذه إلا على الوجه الذي ذكره وأما على غيره فلا فإن قيل كيف تجيبون قلنا جوابنا نعم على الإطلاق فإن قيل لنا كيف يصح هذا السؤال وأنتم تقولون أنه لا يجوز أن ي قال أن قبل العالم شيئاً لأن قبل وبعد من الزمان ولا زمان هنالك قلنا معنى قولنا نعم أي أنه تعالى لم يزل قادراً على أن يخلق عالماً لو خلقه لكان له زمان قبل زمان هذا العالم وهكذا أبداً وبالله تعالى التوفيق وأما ضرار بن عمر فإنه كان يقول إن ممكناً أن يكون جميع من في الأرض ممن يظهر الإسلام كفاراً كلهم في باطن أمرهم لأن كل ذلك جائز على كل واحد منهم في ذاته ومن حماقات ضرار أنه كان يقول أن الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة وأن النار ليس فيها حر ولا في الثلج برد ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في العروق دم وإن كل ذلك إنما يخلقه الله عز وجل عند القطع والذوق والعصر واللمس فقط وأما أبو عثمان عمرو بن الجاحظ القصري الكناني صليبه وقيل بل مولى وهو تلميذ النظام وأحد شيوخ المعتزلة فإنه كان يقول أن الله تعالى لا يقدر على إفناء الأجسام البتة إلا أن يرققها ويفرق أجزائها فقط وأما إعدامها فلا يقدر على ذلك أصلاً وأما أبو معمر وثمامة بن أشرس النميري صليبه بصري أحد شيوخ المعتزلة وعلمائهم فذكر عنه أنه كان يقول أن العالم فعل الله عز وجل بطباعه تعالى الله عن هذا الكفر الشنيع علواً كبيراً وكان يزعم أن المقلدين من اليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان لا يدخلون النار يوم القيامة لكن يصيرون تراباً وإن كل من مات من أهل الإسلام والإيمان المحض والاجتهاد في العبادة مصراً على كبيرة من الكبائر كشرب الخمر ونحوها وإن كان لم يواقع ذلك إلا مرة في الدهر فإنه مخلد بين أطباق النيران أبداً مع فرعون وأبي لهب وأبي جهل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأي كفر أعجب من قول من يقول أن كثيراً من الكفار لا يدخلون النار وإن كثيراً من المسلمين لا يدخلون الجنة وكان ثمامة بن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاد المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وجميع مجانين الإسلام لا يدخلون الجنة أبداً لكن يصيرون تراباً وأما هشام بن عمرو الفوطي أحد شيوخ المعتزلة فكان يقول إذا خلق الله تعالى شيئاً فإنه لا يقدر على أن يخلق مثل ذلك الشيء أبداً لكن يقدر على أن يخلق غيره والغيران عنده لا يكونان مثلين وكان لا يجيز لأحد أن يقول حسبنا الله ونعم الوكيل ولا أن الله يعذب الكفار بالنار ولا أنه يحيي الأرض بالمطر ويرى هذا القول والقول بأن الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ضلالاً وإلحاداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا رد الله جهاراً وكان يقول لا يحل القول بشيء من هذا إلا عند قراءة القرآن فقط وكان يقول قولوا حسبنا الله ونعم المتوكل عليه وكان يقول قولوا أن الله يعذب الكفار في النار ويحيي الأرض عند نزول المطر وكان لا يجيز القول بأن الله ألف بين قلوب المؤمنين ولا أن القرآن عماً على الكافرين وكان يقول أن من هو الآن مؤمن عابد إلا أن في علم الله إنه يموت كافراً فإنه الآن عند الله كافر وإن من كان الآن كافراً مجوسياً أو نصرانياً أو دهرياً أو زنديقاً إلا أن في علم الله عز وجل أنه يموت مؤمناً فإنه الآن عند الله مؤمن وأما عبد بن سليمان تلميذ هشام الفوطي المذكور فكان يزعم أن الله تعالى لا يقدر على غير ما فعل من الصلاح ولا يجيز أن ي قال أن الله خلق المؤمنين ولا أنه خلق الكافرين ولكن ي قال خلق الناس وذلك زعم لأن المؤمن عنده إنسان وإيمان والكفار إنسان وكفر وأن الله تعالى إنما خلق عنده الإنسان فقط ولم يخلق الإيمان ولا الكفر وكان يقول أن الله تعالى لا يقدر على أن يخلق غير ما خلق وأنه تعالى لم يخلق المجاعة ولا القحط وكلهم يزعم أن الله تعالى لم يأمر الكفار قط بأن يؤمنوا في حال كفرهم ولا نهى المؤمنين قط عن الكفر في حال إيمانهم لأنه لا يقدر أحد قط على الجمع بين الفعلين المتضادين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهم مقرون أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من يؤمن بعد كفره فإنه لا يزال في كفره إلى أن يؤمن وأن من يكفر بعد إيمانه فإنه لا يزال في إيمانه حتى يكفر وأن من لا يؤمن من الكفار أبداً فإنه لا يزال في كفره إلى أن يموت وأن من لا يكفر من المؤمنين فإنه لا يزال في إيمانه إلى أن يموت وليس أحد من المأمورين يخرج عن أحد هذه الوجوه الأربعة ضرورة فإذا كان عندهم لم يؤمر قط كافر بالإيمان في حال كفره ولا نهى مؤمن عن الكفر في حال إيمانه فإن من لم يزل مؤمناً إلى أن مات لم ينهه الله عز وجل عن الكفر قط وأن من لم يزل كافراً إلى أن مات فإن الله لم يأمره قط بالإيمان وأن الله تعالى لم يأمر قط بالإيمان من آمن بعد كفره إلا حين آمن ولا نهى قط عن الكفر من كفر بعد إيمانه إلا حين كفر وهذا تكذيب مجرد لله تعالى في أمره الكفار وأهل الكتاب بالإيمان ونهيه المؤمنين عن الكفر وكان بشر بن المعتمر أيضاً يقول أن الله تعالى لم يخلق قط لوناً ولا طعماً ولا رائحة ولا مجسة ولا شدة ولا ضعفاً ولا عماً ولا بصراً ولا سمعاً ولا صمماً ولا جبناً ولا شجاعة ولا كشفاً ولا عجزاً ولا صحة ولا مرضاً وأن الناس يفعلون كل ذلك فقط وأما جعفر القصبي بايع القصب والأشج وهما من رؤسائهم فكانا يقولان أن القرآن ليس هو في المصاحف إنما في المصاحف شيء آخر وهو حكاية القرآن‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كفر مجرد وخلاف جميع أهل الإسلام قديماً وحديثاً وكان على الأسواري البصري أحد شيوخالمعتزلة يقول أن الله عز وجل لا يقدر على غير ما فعل وإن من علم الله تعالى أنه يموت ابن ثمانين سنة فإن الله لا يقدر على أن يميته قبل ذلك ولا أن يبقيه طرفة عين بعد ذلك وأن من علم الله تعالى من مرضه يوم الخميس مع الزوال مثلاً فإن الله تعالى لا يقدر على أن يبريه قبل ذلك لا بما قرب ولا بما بعد ولا على أن يزيد في مرضه طرفة عين فما فوقها وأن الناس يقدرون كل حين على إماتة من علم الله أن لا يموت إلا وقت كذا وأن الله لا يقدر على ذلك وهذا كفر ما سمع قط بأفظع منه وأما أبو غفار أحد شيوخ المعتزلة فكان يزعم أن شحم الخنزير ودماغه حلال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كفر صريح لا خفاء به وكان يزعم أن تفخيذ الرجال الذكور حلال وقد ذكر هذا عن ثمامة أيضاً وكل هذا كفر محض وأما أحمد ابن خابط والفضل الحربي البصريان وكانا تلميذين لإبراهيم النظام فكانا يزعمان أن للعالم خالقين أحدهما قديم وهو الله تعالى والآخر حادث وهو كلمة الله عز وجل المسيح عيسى بن مريم التي بها خلق العالم وكانا لعنهما الله يطعنان على النبي صلى الله عليه وسلم بالتزويج وأن أبا ذر كان أزهد منه وكان أحمد بن خابط يزعم أن الذي يجيء به يوم القيامة مع الملائكة صفاً صفاً في ظلل من الغمام إنما هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وإن الذي خلق آدم على صورته إنما هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وإن المسيح هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة وكان أحمد بن خابط لعنه الله يقول أن في كل نوع من أنواع الطير والسمك وسائر حيوان البر حتى البق والبراغيث والقمل والقرود والكلاب والفيران والتيوس والحمير والدور والوزغ والجعلان أنبياء الله تعالى رسالة إلى أنواعهم مما ذكرنا ومن سائر الأنواع وكان لعنه الله يقول بالتناسخ والكرور وأن الله تعالى ابتدا جميع الخلق فخلقهم كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أمرهم ونهاهم فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة فالعتال يبلتي بالريح كالغنم والإبل والبقر والدجاج وغير ذلك من البراغيث وكل ما يقتل في الأغلب وإن من كان منهم في فسقه وقتله للناس عفيفاً كوفي بالقوة على السفناد كالتيس والعصفور والكبش وغير ذلك من كان زانياً أوزانية كوفيا بالمنع من الجمال كالبغال والبغلات ومن كان جباراً كوفي بالمهانة كالدود والقمل وال يزالون كذلك حتى يقتص منهم ثم يردون فمن عصى منهم كرر أيضاً كذلك هكذا أبداً حتى يطيع طاعة لا معصية معها فينتقل إلى الجنة من وقته أو يعصي معصية لا طاعة معها فينتقل إلى جهنم من وقته وإنما حمله على القول بكل هذا لزومه أصل المعتزلة في العدل وطرده إياه ومشبه معه واعلموا أن كل من لم يقل من المعتزلة بهذا القول فإنه متناقض تارك لأصلهم في العدل وكان لعنه الله يقول أن للثواب دارين إحداهما لا أكل فيها ولا شرب وهي أرفع قدراً من الثانية والثانية فيها أكل وشرب وهي أنقص قدراً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا كله كفر محض وكان لهذا الكافر أحمد بن خابط تلميذ على مذهبه ي قال له أحمد بن سابوس كان يقول بقول معلمه في التناسخ ثم ادعى النبوة و قال أنه المراد بقول الله عز وجل ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وكان محمد بن عبد الله بن مرة بن نجيح الأندلسي يوافق المعتزلة في القدر وكان يقول أن علم الله وقدرته صفتان محدثتان مخلوقتان وأن لله تعالى علمين أحدهما أحدثه جملة وهو علم الكتاب وهو علم الغيب كعلمه أنه سيكون كفار ومؤمنون والقيامة والجزا ونحو ذلك والثاني علم الجزئيات وهو علم الشهادة وهو كفر زيد وإيمان عمر ونحو ذلك فإنه لا يعلم الله تعالى من ذلك شيئاً حتى يكون وذكر قول الله تعالى ‏"‏ عالم الغيب والشهادة ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا ليس كما ظن بل على ظاهره أنه يعلم ما تفعلون وإن أخفيتم ويعلم ما غاب عنكم مما كان أو يكون أو هو كائن‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإنما حمله على هذا القول طرده لأصول المعتزلة حقاً فإن من قال منهم إن الله تعالى لم يزل يعلم أن فلاناً لا يؤمن أبداً وأن فلاناً لا يكفر أبداً ثم جعل الناس قادرين على تكذيب كلام ربهم وعلى إبطال ما لم يزل وهذا تناقض فاحش لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان وكان من أصحابه جماعة يكفرون من قال أنه عز وجل لم يزل يعلم كل ما يكون قبل أن يكون وكان من أصحاب مذهبه رجل ي قال له إسماعيل بن عبد الله الرعيني متأخر الوقت وكان من المجتهدين في العبادة المنقطعين في الزهد وأدركته إلا أني لم ألقه ثم أحدث أقوالاً سبعة فبرئ منه سائر المرية وكفروه إلا من اتبعه منهم فمما أحدث قوله أن الأجساد لا تبعث أبداً وإنما تبعث الأرواح صح هذا عندنا عنه وذكر عنه أنه كان يقول أنه حين موت الإنسان وفراق روحه لجسده تلقى روحه الحساب ويصير إما إلى الجنة أو إلى النار وأنه كان لا يقر بالبعث إلا على هذا الوجه وأنه كان يقول أن العالم لا يفنى أبداً بل هكذا يكون الأمر بلا نهاية وحدثني الفقيه أبو أحمد المعارفي الطليطلي صاحبنا أحسن الله ذكره قال أخبرني يحيى بن أحمد الطبيب وهو ابن ابنة إسماعيل الرعيني المذكور قال أن جدي كان يقول أن العرش هو المدبر للعالم وأن الله تعالى أجل من أن يوصف بفعل شيء أصلاً وكان ينسب هذا القول إلى محمد بن عبد الله بن مسرة ويحتج بألفاظ في كتبه ليس فيها لعمري دليل على هذا القول وكان يقول لسائر المرية إنكم لن تفهموا عن الشيخ فبرئت منه المرية أيضاً على هذا القول وكان أحمد الطبيب صهره ممن برئ منه وتثبتت ابنته على هذه الأقوال متبعة لأبيها مخالفة لزوجها وابنها وكانت متكلمة ناسكة مجتهدة وواقفت أبا هارون بن إسماعيل الرعيني على هذا القول فأنكره وبرئ من قائله وكذب ابن أخيه فميا ذكر عن أبيه وكان مخالفوه من المرية وكثير من موافقيه ينسبون إليه القول باكتساب النبوة وأن من بلغ الغاية من الصلاح وطهارة النفس أدرك النبوة وأنها ليست اختصاصاً أصلاً وقد رأينا منهم من ينسب هذا القول إلى ابن مرة ويستدل على ذلك بألفاظ كثيرة في كتبه هي لعمري لتشير إلى ذلك ورأينا سائرهم ينكر هذا فالله أعلم ورأيت أنا من أصحاب إسماعيل الرعيني المذكور من يصفه بفهم منطق الطير وبأنه كان ينذر بأشياء قبل أن تكون فتكون وأما الذي لا شك فيه فإنه كان عند فرقته إماماً واجبة طاعته يؤدون إليه زكاة أموالهم وكان يذهب إلى أن الحرام قد عم الأرض وأنه لا فرق بين ما يكتسبه المرء من صناعة أو تجارة أم ميراث أو بين ما يكتسبه من الرفاق وإن الذي يحل للمسلم من كل ذلك قوته كيف ما أخذه هذا أمر صحيح عندنا عنه يقيناً وأخبرنا عنه بعض من عرف باطن أمورهم أنه كان يرى الدار دار كفر مباحة دماؤهم وأموالهم إلا أصحابه فقط وصح عندنا عنه أنه كان يقول بنكاح المتعة وهذا لا يقدح إيمانه ولا في عدالته لو قال ه مجتهداً ولم تقم عليه الحجة بنسخه لو سلم من الكفرات الصلع التي ذكرنا وإنما ذكرنا عنه ما جرى لنا من ذكره ولغرابة هذا القول اليوم وقلة القائلين به من الناس ورأيت لأبي هاشم عبد السلام ابن محمد بن عبد الوهاب الجنائي كبير المعتزلة وابن كبيرهم القطع بأن لله تعالى أحوالاً مختصة به وهذه عظيمة جداً إذ جعله حاملاً للأعراض تعالى الله عن هذا الأفك ورأيت له القطع في كتبه كثيراً يردد القول بأنه يجب على الله أن يزيح علل العباد في كل ما أمرهم به ولا يزال يقول في كتبه أن أمر كذا لم يزل واجباً على الله‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كلام تقشعر منه ذوائب المؤمن ليت شعري من الموجب ذلك على الله تعالى والحاكم عليه بذلك والملزم له ما ذكر هذا النذل لزومه للباري تعالى ووجوبه عليه فيا لله لمن قال أن الفعل أوجب ذلك على الله تعالى أو ذكر شيئاً دونه تعالى ليصرحن بأن الله تعالى متعبد للذي أوجب عليه ما أوجب محكوم عليه مدبر وأنه للكفر الصراح ولئن قال أنه تعالى هو الذي أوجب ذلك على نفسه فالإيجاب فعل فاعل لا شك فإن كان الله لم يزل موجباً ذلك على نفسه فلم يزل فاعلاً فالأفعال قديمة ولا بد لم تزل وهذه دهرية محضة وإن كان تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن موجباً له فقد بطل انتفاعه بهذا القول في أصله الفاسد لأنه قد كان تعالى غير واجب عليه ما ذكر ورأيت لبعض المعتزلة سوء الأسائل عنه أبا هاشم المذكور يقول فيه ما بال كل من بعثه النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الإسلام إلى اليمن والبحرين وعمان والملوك وسائر البلاد وكل من يدعو إلى مثل ذلك إلى يوم البعث لا يسمى رسول الله كما سمى محمد عليه السلام إذ أمره الملك عن الله عز وجل بالدعاء إلى الإسلام والأمر واحد والعمل سواء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأعجبوا لتلاعب إبليس بهذه الفرقة الملعونة وسلوا الله العافية من أن يكلكم إلى أنفسكم فحق لمن دينه أن ربه لا يقدر على أن يهديه ولا على أن يضله إن يتمكن الشيطان منه هذا التمكن ولعمري أن هذا السؤال لقد لزم أصل المعتزلة المضل لهم ولمن التزمه والمورد لجميعهم نار جهنم وهو قولهم أن التسمية موكولة إلينا لا إلا الله عز وجل ورأيت لهذا الكافر أبي هاشم كلاماً رد فيه بزعمه على من يقول أنه ليس لأحد أن يسمي الله عز وجل إلا بما سبى به نفسه ف قال هذا النذل لو كان هذا ولم يجز لأحد أن يسمي الله تعالى عز وجل إلا بما سمى به نفسه لكان غير جائز لله أن يسمي نفسه باسم حتى يسميه به غيره‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهل يأتي الممرور بأقبح من هذا الاستدلال وهل في التسمية أكثر من هذا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من أن يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك وكان أبو هاشم أيضاً يقول أنه لو طال عمر المسلم المحسن لجاز أن يعمل من الحسنات والخير أكثر مما عمل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لا والله ولا كرامة ولو عمر أحدنا الدهر كله في طاعات متصلة ما وازى عمل أمرء صحب النبي صلى الله عليه وسلم من غير المنافقين والكفار المجاهرين ساعة واحدة فما فوقها مع قوله صلى الله عليه وسلم أنه لو كان لأحدثنا مثل أحد ذهباً فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فمتى يطمع ذو عقل أن يدرك أحداً من الصحابة مع هذا البون الممتنع إدراكه قطعاً وكان أبو هاشم المذكور يقول أنه لا يقبل توبة أحد من ذنب عمله أي ذنب كان حتى يتوب من جميع الذنوب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وحقاً أقول لقد طرد أصل المعتزلة الذي أطبقوا عليه من إخراج المرء عن الإسلام جملة بذنب واحد عمله يصر عليه وإيجابهم الخلود في النار عليه بذلك الذنب وحده فلو كان هذا لكان أبو هاشم صادقاً إذ لا منفعة له عندهم في تركه كل ذنب وهو بذنب واحد يصر عليه خارج عن الإيمان مخلد بين أطباق النيران وما ينكر هذا عليه من المعتزلة إلا جاهل بأصولهم أو عامد للتناقض وكان يقول إن تارك الصلاة وتارك الزكاة عامداً لكل ذلك لم يفعل شيئاً ولا أذنب ولا عصي وأنه مخلد بين أطباق النيران أبداً على غير فعل فعله ولا على شيء ارتكبه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهل في التجوير لله على أصولهم وهل في مخالفة الإسلام جهاراً أكثر من هذا القول السخيف وكأن الذي حمله على قوله هذا قوله أنه ترك الفعل ليس فعلاً وجميع المعتزلة إلا هشام بن عمرو الفوطي يزعمون أن المعدومات أشياء على الحقيقة وأنها لم تزل وأنها لا نهاية لها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه دهرية بلا مطل وأشياء لا نهاية لها لم تزل غير مخلوقة وكان عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط من أكابر المعتزلة ببغداد ممن يقول أن الأجسام المعدومة لم تزل أجساماً بلا نهاية لها لا في عدد ولا في زمان غير مخلوقة و قال أبو محمد عبد الله الاسكافي أحد رؤساء المعتزلة أن الله تعالى لم يخلق الطنابير ولا المزامير ولا المعازف‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كان من تمام هذا الكفر أن يقول أن الله لم يخلق الخمر ولا الخنازير ولا مردة الشياطين و قال ت المعتزلة بأسرها حاشا بشر بن المعتمر وضرار ابن عمرو أنه لا يحل لأحد تمني الشهادة ولا أن يريدها ولا أن يرضاها لأنها تغليب كافر على مسلم وإنما يجب على المسلم قال أبو محمد‏:‏ وهذا خلاف دين الإسلام والقرآن والسنن والإجماع المتقين و قال وا كلهم حاشا ضراراً وبشراً أن الله لم يمت رسولاً ولا نبياً ولا صاحب نبي ولا أمهات المؤمنين وهو يدري أنهم لو عاشوا فعلوا خيراً لكن أمات كل من أمات منهم إذ علم أنه لو أبقاه طرفة عين لكفر أو فسق ولا بد هذا قولهم في أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة وخديجة نعم وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وموسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام فأعجبوا لهذه الضلالات الوحشية وكان الجعد وهو من شيوخهم يقول إذا كان الجماع يتولد منه الولد فأنا صانع ولدي ومدبره وفاعله لا فاعل له غيري وإنما ي قال إن الله خلقه مجازاً لا حقيقة فأخذ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي الطرف الثاني من الكفر ف قال إن الله تعالى خلق الحبل والموت وكل من فعل شيئاً فهو منسوب إليه فإن الله تعالى هو محبل النساء وهو أحبل مريم بنت عمران‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ يلزم ولا بد إذا كان أولادنا خلقاً لله عز وجل أن يضيفهم إليه فيقول هم أبناء الله والمسيح ابن الله ولا بد و قال أبو عمر وأحمد بن موسى بن احدير صاحب السكة وهو من شيوخ المعتزلة في بعض رسائله التي جرت بينه وبين القاضي منذر بن سعيد رحمه الله أن الله عاقل وأطلق عليه هذا الاسم و قال بعض شيوخ المعتزلة أن العبد إذا عصى الله عز وجل طبع على قلبه فيصير غير مأمور ولا منهي وأما حماقاتهم فإن أبا الهذيل العلاف قال من سرق خمسة دراهم أو قيمتها فهو فاس منسلخ من الإسلام مخلد أبداً في النيران إلا أن يتوب و قال بشر بن المعتمر أن من سرق عشرة دراهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد فإن سرق عشرة دراهم خرج عن الإسلام ووجب عليه الخلود إلا أن يتوب و قال النظام إن سرق مأتي درهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد وإن سرق مأتي درهم خرج عن الإسلام ولزمه الخلود إلا أن يتوب و قال أبو بكر أحمد بن علي بن أحور بن الأخشيد وهو أحد رؤسائهم الثلاثة الذين انتهت رياستهم إليهم وافترقت المعتزلة على مذاهبهم والثاني منهم أبو هاشم الجبائي والثالث عبد الله بن محمد بن محمود البلخي المعروف بالكعبي وكان والد أحمد بن علي المذكور أحد قواد الفراعنة وولي الثغور للمعتضد وللمكتفي فكان من قول أحمد المذكور أن من ارتكب كل ذنب في الدنيا وهكذا أبداً متى عاد لذلك الذنب أو لغيره من القتل فما دونه إلا أنه ندم أثر فعله له فقد صحت توبته وسقط عنه ذلك الذنب أبداً وهكذا أبداً متى عاد لذلك الذنب أو لغيره‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا قول لم يبلغه جماهير المرجئة وهو مع ذلك يدعي القول بإنفاذ الوعد والوعيد وما على أديم الأرض مسلم لا يندم على ذنبه و قال عبد الرحمن تلميذ أبي الهذيل أن الحجة لا تقوم في الأخبار إلا بنقل خمسة يكون فيهم ولي لله لا أعرفه بعينه وعن كل واحد من أولئك الخمسة خمسة مثلهم وهكذا أبداً و قال صالح تلميذ النظام أن من رأى رؤيا أنه بالهند أو أنه قتل أو أنه أي شيء رأى فإنه حق يقين كما رأى كما لو كان ذلك في اليقظة و قال عباد بن سليمان الحواس سبع و قال النظام الألوان جسم وقد يكون جسمان في مكان واحد وكان النظام يقول لا نعرف الأجسام بالأخبار أصلاً لكن كل من رأى جسماً سواء كان المرئي إنساناً أو غير إنسان فإن الناظر إليه اقتطع منه قطعة اختلطت بجسم الرائي ثم كل من أخبره ذلك الرائي عن ذلك الجسم فإن المخبر أيضاً أخذ من تلك القطعة قطعة وهكذا أبداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه قصة لولا أننا وجدناها عنه من طريق تلامذته المعظمين له ذكروها في كتبهم عنه ما عرفناهم على ذي مسكة من عقل فألزمه خصومه على هذا أن قطعاً من جبريل وميكائيل ومن النبي صلى الله عليه وسلم ومن موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام في نار جهنم وأن قطعاً من فرعون وإبليس وأبي لهب وأبي جهل في الجنة وكان يزعم أنه لا سكون في شيء من العالم أصلاً وأن كل سكون يعلم بتوسط البصر فهو حركة بلا شك وكان معمر يزعم أنه لا حركة في شيء من العالم وأن كل ما يسميه الناس حركة فهو سكون وكان عباد بن سليمان يقول أن الأمة إذا اجتمعت وصلحت ولم تتظالم احتاجت حينئذ إلى إمام يسوسها ويدبرها وإن عصت وفجرت وظلمت استغنت عن الإمام وكان أبو الهذيل يقول أن الإنسان لا يفعل شيئاً في حال استطاعته وإنما يفعل بالاستطاعة بعد ذهابها فألزمه خصومه أن الإنسان إنما يفعل إذا لم يكن مستطيعاً وأما إذا كان مستطيعاً فلا وإن الميت يفعل كل فعل في العالم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وحماقاتهم أكثر من ذلك نعوذ بالله من الخذلان‏.‏

 شنع المرجئية

قال أبو محمد‏:‏ غلاة المرجئية طائفتان إحداهما الطائفة القائلة بأن الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله عز وجل ولي له عز وجل من أهل الجنة وهذا قول محمد ابن كرام السجستاني وأصحابه وهو بخراسان وبيت المقدس والثانية الطائفة القائلة أن الإيمان عقد بالقلب ون أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل ولي لله عز وجل من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارث بن سريج التميمي أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما فأما الجهمية فبخراسان وأما الأشعرية فكانوا ببغداد والبصرة ثم قامت له سوق بصقلية والقيروان والأندلس ثم رق أمرهم والحمد لله رب العالمين فمن فضايح الجهمية وشنعهم قولهم بأن علم الله تعالى محدث مخلوق وأنه تعالى لم يكن يعلم شيئاً حتى أحدث لنفسه علماً علم به وكذلك قولهم في القدرة و قال أيضاً أن الجنة والنار يفنيان ويفنى كل من فيهما وهذا خلاف القرآن والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف إجماع أهل الإسلام والمتيقن و قال بعض الكرامية المنافقون مؤمنون من أهل الجنة وقد أطلق ذلك بالمرية محمد بن عيسى الصوفي الألبيري وكانت الفاظه تدل على أنه يذهب مذهبهم في التجسيم وغيره وكان ناسكاً متقللاً من الدنيا واعظاً مفوهاً مهذاراً قليل الصواب كثير الخطأ رأيته مرة وسمعته يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يلزمه زكاة مال لأنه اختار أن يكون نبياً عبداً والعبد لا زكاة عليه ولذلك لم يروث ولا ورث فأمسكت عن معارضته لأن العامة كانت تحضره فخشيت لغطهم وتشنيعهم بالباطل ولم يكن معي أحد إلا يحيى بن عبد الكثير بن وافد كنت أتيت أنا وهو معي متنكرين لنسمع كلامه وبلغتني عنه شنع منها القول بحلول الله فميا شاء من خلقه أخبرني عنه بهذا أبو أحمد الفقيه المعافري عن أبي علي المقري وكان على بنت محمد بن عيسى المذكور وغير هذا أيضاً ونعوذ بالله من الضلال و قال ت طائفة من الكرامية المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار و قال ت طائفة منهم أيضاً من آمن بالله وكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مؤمن كافر معاً ليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً إلى الإطلاق و قال مقاتل ابن سليمان وكان من كبار المرجئة لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلاً ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلاً وكان مقاتل هذا مع جهم بخراسان في وقت واحد وكان يخالفه في التجسيم كان جهم يقول ليس الله تعالى شيئاً ولا هو أيضاً لا شيء لأنه تعالى خالق كل شيء فلا شيء إلا مخلوق وكان مقاتل يقول إن الله جسم ولحم ودم على صورة الإنسان و قال ت الكرامية الأنبياء يجوز منهم كبائر المعاصي كلها حاشا الكذب في البلاغ فقط فإنهم معصومون منه وذكر لي سليمان بن خلف الباجي وهو من رؤوس الأشعرية أن فيهم من يقول أيضاً أن الكذب في البلاغ أيضاً جائز من الأنبياء والرسول عليهم السلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذا كفر محض وذكر عنهم محمد بن الحسن بن فورك الأشعري أنهم يقولون أن الله تعالى يفعل كما يفعل في ذاته وأنه لا يقدر على إفناء خلقه كله حتى يبقى وحده كما كان قبل أن يخلق و قال وا أيضاً أن كلام الله تعالى أصوات وحروف هجاء مجتمعة كلها أبداً لم تزل ولا تزال و قال وا أيضاً لا يقدر الله على غير ما فعل و قال وا أيضاً أنه متحرك أبيض اللون وذكر عنهم أنهم يقولون أنه تعالى لا يقدر على إعادة الأجسام بعد بلائها لكن يقدر على أن يخلق مثلها ومن حماقاتها أنهم يجيزون كون إمامين وأكثر في وقت واحد وأما الأشعرية ف قال وا أن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بها باللسان بلا تقية ولا حكاية والإقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم ف قال وا لكنه دليل على أن في قلبه كفراً فقلنا لهم وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل ف قال وا لا و قال ت الأشعرية أن إبليس قد فكر ثم أعلن بعصيان الله تعالى في السجود لآدم عليه السلام فإن إبليس من حينئذ لم يعرف أن الله تعالى حقاً ولا أنه خلقه من نار ولا أنه خلق آدم من تراب وطين ولا عرف أن الله أمره بالسجود لآدم بعدها قط ولا عرف بعد هذا قط أن الله كرم آدم ومن قولهم بأجمعهم أن إبليس لم يسأل الله قط أن ينظره إلى يوم البعث فقلنا لهم ويلكم إن هذا تكذيب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد للقرآن قال وا لنا إن إبليس إنما قال كل ذلك هازئاً مستهزئاً بلا معرفة ولا اعتقاد كان هذا أشنع كفر وأبرده بعد كفر الغالية من الرافضة و قال وا إن إبليس لم يكفر بمعصيته الله في ترك السجود لآدم ولا بقوله عن آدم أنا خير منه وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا خلاف للقرآن وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به و قال ت الأشعرية أيضاً أن فرعون لم يعرف قط أن موسى إنما جاء بتلك الآيات من عند الله حقاً وأن اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا قط أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ولا عرفوا أنه مكتوب في التوراة والإنجيل وأن من عرف ذلك منهم وكتمه وتمادى على إعلان الكفر ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ومن بني قريظة وغيرهم فإنهم كانوا مؤمنين عند الله عز وجل أولياء لله من أهل الجنة فقلنا لهم ويلكم هذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول ‏"‏ يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ‏"‏ و ‏"‏ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ‏"‏ و ‏"‏ فإنهم لا يكذبونك ‏"‏ ف قال وا لنا معنى أنهم وجدوا خطاً مكتوباً عندهم لم يفهموا معناه ولا دروا ما هو ونعم عرفوا صورته فقط ودروا أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب كما يعرف الإنسان جاره فقط فكان هذا كفراً بارداً أو تحريفاً لكلام الله تعالى عن مواضعه ومكابرة سمجة وحماقة ودفعاً للضرورة وقد تقصينا الرد على أهل هذه الم قال ة الملعونة في كتاب لنا رسمه كتاب اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين تقصينا فيه كلام رجل من كبارهم من أهل القيروان اسمه عطاف بن دوتاس في كتاب ألفه في نصر هذه الم قال ة وكان لشيخهم الأشعري في إعجاز القرآن قولان أحدهما كما يقول المسلمون أنه معجز النظم والآخر إنما هو المعجز الذي لم يفارق الله عز وجل قط والذي لم يزل غير مخلوق ولا نزل إلينا ولا سمعناه قط ولا سمعه جبريل ولا محمد عليهما السلام قط وأما الذي يقرأ في المصاحف ونسمعه فليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر صحيح وخلاف الله تعالى ولجميع أهل الإسلام و قال كبيرهم وهو محمد بن الطيب الباقلاني أن لله تعالى خمسة عشر صفة كلها قديمة لم تزل مع الله تعالى كلها غير الله وخلاف الله تعالى وكل واحدة منهن غير الأخرى منهن وخلاف لسائرها وإن الله تعالى غيرهن وخلافهن‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا والله أعظم من قول النصارى وأدخل في الكفر والشرك لأن النصارى لم يجعلوا مع الله تعالى إلا اثنين هو ثالثهما وهؤلاء جعلوا معه تعالى خمسة عشر هو السادس عشر لهم وقد صرح الأشعري في كتابه المعروف بالمجالس بأن مع الله تعالى أشياء سواه لم تزل كما لم يزل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا إبطال التوحيد علانية وإنما حملهم على هذا الضلال ظنهم أن ثبات علم الله تعالى وقدرته وعزته وكلامه لا يثبت إلا بهذه الطريقة المعلونة ومعاذ الله من هذا بل كل ذلك حق لم يزل غير مخلوق ليس شيء من ذلك غير الله تعالى ولا ي قال في شيء من ذلك هو الله تعالى لأن هذه تسمية له عز وجل وتسميته لا تجوز إلا بنص وقد تقصينا الكلام في هذا في صدر ديواننا هذا والحمد لله رب العالمين وإنما جعلنا هاهنا شنع أهل البدع تنفيراً عنهم وإيحاشا للأغمار من المسلمين من الأنس بهم ومن حسن الظن بكلامهم الفاسد ولقد قلت لبعضهم إذا قلتم أن مع الله تعالى خمسة عشر صفة كلها غيره وكلها لم تزل فما الذي أنكرتم على النصارى إذ قال وا أن الله ثالث ثلاثة ف قال لي إنما أنكرنا عليهم إذ جعلوا معه شيئين فقط ولم يجعلوا معه أكثر ولقد قال لي بعضهم اسم الله تعالى وهو قولنا الله عبارة تقع على ذات الباري وجميع صفاته لا على ذاته دون صفاته فقلت له أتعبد الله أم لا ف قال لي نعم فقلت له فإنما تعبد إذاً بإقرارك الخالق وغيره معه فيكفيك فنفر نفرة و قال معاذ الله من هذا ما أعبد إلا الخالق وحده فقت له فإنما تعبد إذاً بإقرارك بعض ما يسمى به الله فنفر أخرى و قال معاذ الله من هذا وأنا واقف في هذه المسألة و قال شيخ لهم قديم وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري أن صفات الله تعالى ليست باقية ولا فانية ولا قديمة ولا حديثة لكنها لم تزل غير مخلوقة هذا مع تصريحه بأن الله قديم باق ومن حماقات الأشعرية قولهم أن للناس أحوالاً ومعاثي لا معدومة ولا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا أزلية ولا محدثة ولا حق ولا باطل وهي علم العالم بأن له علماً ووجود الواجد لوجوده كلما يجد هذا أمر سمعناه منهم نصاً رأيناه في كتبهم فهل في الرعونة أكثر من هذا وهل يمكن الموسوس والمبرسم أن يأتي بأكثر من هذا ولقد حاورني سليمان بن خلف الباجي كبيرهم في هذه المسألة في مجلس حافل فقلت له هذا كما تقول العامة عندنا عنب لا من كرم ولا من دالية ومن هوسهم قولهم أن الحق غير الحقيقة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا أم في أي شرع وارد أم في أي طبيعة ظفروا به ف قال وا أن الكفر حقيقة وليس بحق وقلنا كلا بل وجوده عن حقيقة ومعناه باطل لا حق ولا حقيقة و قال وا كلهم إن الله حامل لصفاته في ذاته هذا نص قول أبي جعفر السمناني المكفوف قاضي الموصل وهو أكبر أصحاب الباقلاني ومقدم الأشعرية في وقتنا هذا و قال هذا السمناني أيضاً من سمي الله تعالى جسماً من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته فقد أصاب المعنى وأخطأ في التسمية فقط و قال هذا السمناني أن الله تعالى مشارك للعالم في الوجود وفي قيامه بنفسه كقيام الجواهر والأجسام وفي أنه ذو صفات قائمة به موجودة بذاته كما ثبت ذلك فيما هو موصوف بهذه الصفات من جملة أجسام العالم وجواهره هذا نص كلام السمناني حرفاً حرفاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما أعلم أحداً من غلاة المشبهة أقدم على أن يطلق ما أطلق هذا المبتدع الجاهل الملحد المتهور من أن الله تعالى مشارك للعالم حاشا لله من هذا و قال السمناني عن شيوخه من الأشعرية أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورته إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار وإجماع صفات الكمال فيه وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان الله تعالى كل ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا نص كلامه حرفاً حرفاً وهذا كفر صريح وشرك بواح إذ صرح بأن آدم على صفة الرحمن من اجتماع صفات الكمال فيهما فالله تعالى وآدم عنده مثلان مشتبهان في اجتماع صفات الكمال فيهما ثم لم يقنع بهذه السوءة حتى صرح بأن سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز وجل وحاشا لله من هذا لأن سجود الملائكة لله تعالى سجود عبادة وديانة لخالقهم وسجودهم لآدم سجود سلام وتحية وتشريف منهم لآدم وإكرام له بذلك كسجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام فقط ثم زاد اللعين كفراً على كفر بنصه أن الله تعالى جعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله تعالى ذلك وهذا شرك لا خفاء به كشرك النصارى في المسيح ولا فرق ونسأل الله تعالى العافية و قال هذا السمناني أن مذهب شيوخه أنهم لا يقولون أن الأمر بالشيء دال على كونه مراداً للآمر قديماً كان أو محدثاً ولا يدل النهي على كونه مكروهاً هذا نص كلامه وهذا خلاف الإسلام والإجماع والمعقول وتصريح بأن الله تعالى إذ أمر بالصلاة والزكاة والحج والصيام والجهاد وشهادة الإسلام فليس في ذلك دليل على أنه يريد شيئاً من ذلك وإذ نهى عن الكفر والزنا والبغي والسرقة وقتل النفس ظلماً فليس ذلك دليلاً على أنه يكره شيئاً من ذلك وما في الأقوال انتين من هذا القول و قال هذا السمناني أنه لا يصح القول بأن علم الله تعالى مخالف للعلوم كلها ولا أن قدرته مخالفة للقدر كلها لأنها كلها داخلة تحت قولنا ووصفنا للقدر والعلوم هذا نص كلامه وهذا بيان بأن دينهم أن علم الله تعالى وقدرته من نوع علمنا وقدرتنا وإذ الأمر كذلك عنده فعلمنا وقدرتنا عرضان فينا مخلوقان فوجب ضرورة أن علم الله تعالى وقدرته عرضان في الله مخلوقان إذ من الممتنع وقوع ما لم يزل مع المحدث المخلوق تحت حد واحد ونوع واحد ونص هذا السمناني ومحمد بن الحسن بن فورك في صدر كلامه في كتاب الأصول أن الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث قال وا ذلك في كلامهم في علم الله تعالى في تحديدهم لمعنى العلم بصفة يقع تحتها علم الله تعالى وعلوم الناس وهذا نص منهم على أن الله تعالى محدود واقع معنا تحت الحدود وهو علمه وقدرته وهو شر من قول جهم شيخهم في الحقيقة وأبين من قول كل مشبه في الأرض ونص هذا السمناني على أن العالم والقادر والمريد من الله تعالى وخلقه إنما كان محتاجاً إلى هذه الصفات لكونه موصوفاً بها لا لجوازها عليه هذا نص كلامه وهذا تصريح منهم بلا تكلف ولا تأويل بأن الله تعالى عن كفر هذا الأرعن محتاج إلى الصفات وهذا كفر ما يدري أن أحداً بلغه ونص هذا السمناني أيضاً على أن الله تعالى لما كان حياً عالماً كان موصوفاً بالحياة والعلم والقدرة والإرادة حتى لا يختلف الحال في ذلك في الشاهد والغائب هذا نص كلامه وهذا تصريح منه على أن الله تعالى حالا لم يخالفه فيها خلقه بل هو وهم فيها سواء ونصهذا السمناني على أنه إذا كانت الصفات الواجبة لله تعالى في كونه عالماً قادراً لا يغني وجوبها له عن ما هو مصحح لها من الحياة فيه كما لا يوجب غناه عما يوجب كونه عالماً قادراً عن القدرة والعلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا نص جلي على أن الله تعالى غير غني عن شيء هو غيره لأن الصفات عندهم هي غيره تعالى والله تعالى عندهم غير غني عنها تعالى الله وإذا لم يكن غنياً عنها فهو فقير إليها هكذا قال ت اليهود أن الله فقير تعالى الله عن هذا بل هو الغني جملة عما سواه وكل من دونه فقير إليه تعالى و قال السمناني إن قال قائل لم أنكرتم أن يكون الله مريداً لنفسه حسب ما قال ه النجار والجاحظ قيل له أنكرنا ذلك لما قدمنا ذكره من أن الواحد من الخلق مريد بإرادة ولا يخلو أن يكون حقيقة المريد من له الإرادة أو كونه مريداً وجود الإرادة له وأي الأمرين كان وجبت مساواة الغائب الشاهد في هذا الباب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا نص جلي على مساواة الله تعالى لخلقه عند هذا الجاهل وهذا أعظم في الكفر من قول كل مجسم لأن جميع المجسمين لم يقدم أحد منهم قط على القول بأن الله تعالى مساو لخلقه قبل هذه الفرقة الملعونة ثم العجب قطعهم بأن الله عز وجل غائب غير شاهد وحاشا الله عن هذا بل هو معنا وهو أقرب إلينا من حبل الوريد كما قال عز وجل أنه حاضر في العقول غير غائب و قال الباقلاني ما وجد في الله تعالى من التسميات فإنه يجوز إطلاقها عليه وإن لم يسم بذلك نفسه ما لم يرد شرع يمنع من ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا نص منه على أن هاهنا معاني توجد في الله تعالى مع الإلحاد في أسمائه إذ جاز تسميته بما لم يسم به عز وجل نفسه تعالى الله عن هذا علواً كبيراً و قال وا كلهم أن الله تعالى ليس له إلا كلام واحد وليس له كلمات كثيرة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا كفر مجرد لخلافه القرآن وتكذيب لله عز وجل في قوله ‏"‏ قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً ‏"‏ وإذ يقول تعالى ‏"‏ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ‏"‏ مع أن قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد قول أحمق لا يعقل ولا يقوم به برهان شرعي ولا تشكل في هاجس ولا يوجبه عقل إنما هو هذيان محض وي قال لهم لا يخلو القرآن عندهم من أنه كلام الله تعالى أو ليس هو كلام الله تعالى فإن قال وا ليس هو كلام الله تعالى كفروا من قرب وكفى الله تعالى مؤنتهم وإن قال وا هو كلام الله تعالى فالقرآن مائة سورة وأربعة عشر سورة فيها ستة آلاف آية ونيف كل سورة منها عند أهل الإسلام غير الأخرى وكل آية غير الأخرى فكيف يقول هؤلاء النوكى أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد أما هذا من الكفر البارد والقحة السمجة ونعوذ بالله من الضلال و قال وا كلهم إن القرآن لم ينزل به قط جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام وإنما نزل عليه بشيء آخر هو العبارة عن كلام الله وأن القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز وإن الذي نرى في المصاحف ونسمع من القراء ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن البتة ولا شيء منه كلام الله البتة بل شيء آخر وإن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا من أعظم الكفر لأن الله تعالى قال ‏"‏ بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ نزل به الروح الأمين على قلبك ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فأجره حتى يسمع كلام الله ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ‏"‏ و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحب أن أسمعه من غيري يعني القرآن و قال عليه السلام الذي يقرأ القرآن مع السفرة الكرام البررة ونهيه صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو إلى إجماع عامة المسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعالمهم على القول حفظ فلان القرآن وقرأ فلان القرآن وكتب فلان القرآن إلى آخر قل أعوذ برب الناس و قال السمناني أيضاً أن الباقلاني وشيوخه قال وا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أطلق القول بأن ما أنزل الله هو القرآن وهو كلام الله تعالى إنما هو على معنى قال أبو محمد‏:‏ وي قال لهم أخبرونا عن قولكم أن الكتاب في المصحف والقراءة المسموعة في المحارب كل ذلك عبارة عن القرآن ماذا تعنون بذلك وهذا هذا منكم إلا تمويه ضعيف وهل كل ما في المصحف إلا عبارة عن معانيه التي أرادها الله تعالى في شرع دينه من الصلاة والصيام والإيمان وغير ذلك وأخبار الأمم السالفة وصفة الجنة والنار والبعث وغير ذلك مما لا يختلف من أهل الإسلام أحد في أن المعبر عنه بذلك الكلام ليس هو كلام الله أصلاً لأن ذات الجنة وذات النار وحركات المصلي وعمل الحاج وعمل الصائم وأجسام عاد وأشخاص ثمود ليس شيء من ذلك كلام الله تعالى ولا قرآناً فثبت أن ليس هو القرآن ولا هو كلام الله إلا العبارة المسموعة فقط والكلام المقروء والخط المكتوب في المصحف بلا شك إذ لم يبق غير ذلك أو الكفر وتكذيب الله تعالى وتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن القرآن أنزل عليه وأننا نسمع كلام الله فأوهمتهم الضعفاء أن الذي هو كلام الله والقرآن عند جميع أهل الإسلام ليس هو القرآن ولا هو كلام الله ثم أوهمتموهم باستخفافكم أن حركات المتحركين وذات الجنة وذات النار هي كلام الله تعالى وهي القرآن فهل في الضلال والسخرية بضعفة المسلمين والهزء بآيات الله تعالى أكثر من هذا ولقد أخبرني علي بن حمزة المراوي الصقلي الصوفي أنه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله قال فأكبرت ذلك وقلت له ويحك هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى ف قال لي ويلك والله ما فيه إلا السخام والسواد وأما كلام الله فلا ونحو هذا من القول الذي هذا معناه وكتب إلي أبو المرحي بن رزوار المصري أن بعض ثقاة أهل مصر أخبره من طلاب السنن أن رجلاً من الأشعرية قال له مشافهة على من يقول أن الله قال قل هو أحد الله الصمد ألف لعنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ بل على من يقول إن الله عز ول لم يقلها ألف ألف لعنة تترى وعلى من ينكر أننا نسمع كلام الله ونقرأ كلام الله ونحفظ كلام الله ونكتب كلام الله ألف ألف لعنة تترى من الله عز وجل فإن قول هذه الفرقة في هذه المسألة نهاية الكفر بالله عز وجل ومخالفة للقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة جميع أهل الإسلام قبل حدوث هذه الطائفة الملعونة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ و قال ت الأشعرية كلها أن الله عز وجل لم يزل قائلاً لكل ما خلق أو يخلق في المستأنف كن إلا أن الأشياء لم تكن إلا حين كونها وهذا تكذيب منهم مكشوف لله عز وجل إذ يقول ‏"‏ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ‏"‏ فبين الله تعالى أنه لا يقول للشيء كن إلا إذا أراد تكوينه وأنه إذا قال له كن كان الشيء في الوقت بلا مهلة لأن هذا هو مقتضى الفاء في لغة العرب التي بها نزل القرآن فجمعوا إلى تكذيب الله عز وجل في خبريه جميعاً إيجاب أزلية العالم لأن الله تعالى إذا كان لم يزل قائلاً لما يكون كن فإن التكوين لم يزل وهذه دهرية محضة ثم قال السمناني بعد أسطر لأنه لو وجب وجود ما وجد في الوقت الذي وجد فيه لأجل قول الله تعالى كن لوجب لأجل قول غيره له كن لأن صفة الاقتضاء لا تختلف في ذلك بين القديم والمحدث‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا نص كلام هذا الفاسق الملحد حرفاً حرفاً وهذا كفر محض وحماقة لا خفاء بها أما الكفر فإبطاله أن وجود الأشياء في الأوقات التي وجدت فيها إنما وجدت لأجل قول الله تعالى لها كن وإيجابه أن الأشياء لم توجد في أحيان وجودها لقول الله تعالى لها كن وهذا تكذيب لله تعالى وصرف وخروج عن إجماع أهل الإسلام وكل من يصلي إلى القبلة قبلهم ومن الكفر الصريح أيضاً في هذا الكلام الملعون قوله أن صفة الاقتضاء في ذلك لا تختلف بين القديم والمحدث فسوى بين الله تعالى وخلقه وأما الحماقة فقوله لو وجدت الأشياء من أجل قول الله تعالى لها كن لوجب أن يوجد لأجل قول غيره لها كن فيا للمسلمين هل سمع في الحمق والرعونة وقلة الحياء أكثر من قول من سوى بين قول الله عز وجل كن للشيء إذا أراد تكوينه وبين قول غيره من الناس كن وهذا أخبث من قول الدهرية ونعوذ بالله من الضلال فلولا الخذلان ما انطلق بهذا النوك لسان من لا يقذف بالحجارة في الشوار وما شبهت بهذا الكلام إلا كلام النذل أبي هاشم الجبائي لو لم يجز لنا أن نسمي الله تعالى باسم حتى يأذن لنا في ذلك لوجب أن لا قال أبو محمد‏:‏ وهذه أقوال لو قال ها صبيان يسيل مخاطهم لأيس من فلاحهم وتالله لقد لعب الشيطان بهم كما شاء فإنا لله وإنا إليه راجعون و قال ت الأشعرية كلها إن الله لا يقدر على ظلم أحد البتة ولا يقدر على الكذب ولا على قول أن المسيح ابن الله حتى يقول قبل ذلك و قال ت النصارى وأنه لا يقدر على أن يقول عزير ابن الله حتى يقول قبل ذلك و قال ت اليهود وأنه لا يقدر على أن يتخذ ولداً وأنه لا يقدر البتة على إظهار معجزة على يدي كذاب يدعي النبوة فإن ادعى الإلهية كان الله تعالى قادراً على إظهار المعجزات على يديه وأنه تعالى لا يقدر على شيء من المحال ولا على إحالة الأمور عن حقائقها ولا على قلب الأجناس عن ماهيتها وأنه تعالى لا يقدر البتة على أن يقسم الجزء الذي لا يتجزأ ولا على أن يدعو أحداً إلى غير التوحيد هذا نص كلامهم وحقيقة معتقدهم فجعلوه تعالى عاجزاً متناهي القوة محدود القدرة يقدر مرة ولا يقدر أخرى ويقدر على شيء ولا يقدر على آخر وهذه صفة النقص وهم مع هذا يقولون أن الساحر يقدر على قلب الأعيان وعلى أن يمسخ إنساناً فيجعله حماراً على الحقيقة وعلى المشي في الهواء وعلى الماء فكان الساحر عندهم أقوى من الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وخشوا مبادرة أهل الإسلام لهم بالاصطلام فخنسوا عن أن يصرحروا بأن الله تعالى لا يقدر ف قال وا لا يوصف الله بالقدرة على شيء مما ذكرنا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا راحة لهم في هذا لأننا نقول لهم ولم لا نصفه بالقدرة على ذلك ألأنه يقدر على شيء من ذلك ولا له قدرة على كل ذلك أم لأنه لا يقدر على كل ذلك ولا له قدرة على شيء من ذلك ولا بد من أحدهما بضرورة العقل وهنا ضلت جبلتهم الضعيفة ولا بد لهم من القطع بأنه لا يقدر وبأنه لا قدرة له على ذلك وإذ قد صرحوا بهذا بالضرورة فأول العقل ومسموع اللغة كلاهما يوجبان أن من لا يقدر على شيء فهو عاجز عنه وأن من لا قدرة له على شيء فصفة العجز والضعف لاحقة به فلا بد لهم ضرورة من إطلاق اسم العجز على الله تعالى ووصفه بأنه عاجز وهذا حقيقة مذهبهم يقيناً إلا أنهم يخافون البوار إن أظهروه و قال هذا الباقلاني لا فرق بين النبي والساحر الكذاب المتنبي فيما يأتينا فيه إلا التحدي فقط وقول النبي لمن بحضرته هات من يعمل كعملي وهذا إبطال للنبوة مجرد و قال الباقلاني وابن فورك وأشياعهما من أهل الضلالة والجهالة ليس لله تعالى أسماء البتة وإنما له تعالى اسم واحد فقط ليس له اسم غيره وأن قول الله تعالى ‏"‏ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ‏"‏ إنما أراد أن يقول لله التسميات الحسنى فذروا الذين يلحدون في تسمياته ف قال لله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه قال وا وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد إنما أراد أن يقول تسعاً وتسعين قال أبو محمد‏:‏ ما في البرهان على قلة الحياء وفساد الدين واستسهال الكذب أكثر من هذا وليت شعري من أخبرهم عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأفك ثم ليت شعري إذ زعموا أن الله تعالى أراد أن يقول التسميات الحسنى ف قال الأسماء الحسنى لأي شيء فعل ذلك اللكنة أم غفلة أم تعمد لا ضلال عباده ولا سبيل والله إلى رابع فأعجبوا لعظيم ما حل بهؤلاء القوم من الدمار والتبار والكذب على الله عز وجل جهاراً وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا رهبة ونعوذ بالله من الضلال مع أن هذا قول ما سبقهم إليه أحد و قال وا كلهم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ليس هو رسول الله اليوم لكنه كان رسول الله‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فكذبوا القرآن في قول الله عز وجل ‏"‏ محمد رسول الله ‏"‏ وكذبوا الآذان وكذبوا الإقامة التي افترضها الله تعالى خمس مرات كل يوم وليلة على كل جماعة من المسلمين وكذبوا دعوة جميع المسلمين التي اتفقوا على دعاء الكفار إليها وعلى أنه لا نجاة من النار إلا بها وكذبوا جميع أعصار المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في أطباق جميعهم برهم وفاجرهم على الإعلان بلا إله إلا الله محمد رسول الله ووجب على قولهم هذا الملعون أنه يكذب المؤذنون والمقيمون ودعاة الإسلام في قولهم محمد رسول الله وأن الواجبأن تقولوا محمد كان رسول الله وعلى هذه المسألة قتل الأمير محمود بن سبكتكين مولى أمير المؤمنين وصاحب خراسان رحمه الله ابن فورك شيخ الأشعرية فأحسن الله جزاء محمود على ذلك ولعن ابن فورك وأشياعه وأتباعه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إنما حملهم على هذا الكفر الفاحش قول لهم آخر في نهاية الضلال والإنسلاخ من الإسلام وهي قولهم أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين وأن روح كل واحد منا الآن هو غير روحه الذي كان له قبل ذلك بطرفة عين وأن كل واحد منا يبدل أزيد من ألف ألف روح في كل ساعة زمانية وأن النفس إنما هو هذا الهواء الخارج بالتنفس حاراً بعد دخوله بارداً وأن الإنسان إذا مات فني روحه وبطل وأنه ليس لمحمد ولا لأحد من الأنبياء عند الله تعالى روح ثابتة تنعم ولا نفس قائمة تكرم وهذا خروج عن إجماع الإسلام فما قال بهذا أحد ممن ينتمي إلى الإسلام قبل أبي الهذيل العلاف ثم تلاه هؤلاء وهذا خلاف مجرد للقرآن وتكذيب لله عز وجل إذ يقول ‏"‏ أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون ‏"‏ وإذ يقول عز وجل ‏"‏ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ‏"‏ و قال عز وجل ‏"‏ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ‏"‏ ولقوله تعالى ‏"‏ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ‏"‏ وخلاف للسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقولة نقول التواتر من رؤيته صلى الله عليه وسلم الأنبياء عليهم السلام ليلة أسري به في السماء وما جرى له مع موسى عليه السلام في عدد الصلوات المفروضات وأن أرواح الشهداء نسمة تعلق في ثمار الجنة وما يلقى الروح عند خروجه من الفتنة والمسائلة وإخباره عليه السلام أنه رأى عن يمين آدم أسودة نسم بنيه من أهل الجنة وعن يساره اسودة نسم بنيه من أهل النار وسائر السنن المأثورة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم خجلوا من هذه العظيمة وتبرأ منهم إبليس الذي ورطهم فيها فشلوا ف قال وا في كتبهم فإن لم يكن هذا فإن الروح تنتقل عند خروجها من الجسم إلى جسم آخر هكذا نص الباقلاني في أحد كتبه وأظنه الرسالة المعروفة بالحرة وهذا مذهب التناسخ بلا كلفة و قال السمناني في كتابه أن الباقلاني وأصحابه قال وا أن كل ما جاء في الخبر من نقل أرواح الشهداء إلى حواصل طير خضر وأن روح الميت ترد إليه في قبره وما جرى مجرى ذلك من وصف الروح بالقرب والبعد والحركة والانت قال والسكون والعذاب فكل ذلك محمول على أقل جزء من أجزاء الميت والشهيد أو الكافر وإعادة الحياة في ذلك الجوء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا طريق من الهوس جداً وتطايب بالدين ولقد أخبرني ثقة من أصحابي أنه سمع بعض مقدميهم يقول أن الروح إنما تبقى في عجب الذنب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ابن آدم يأكله التراب الأعجب الذنب منه خلق وفيه يركب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا التأويل أقرب إلى الهزل منه إلى أقوال أهل الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان فإنما هذه ستائر دون مذهبهم الخبيث الذي ذكرنا آنفاً و قال وا كلهم أن النظر في دلائل الإسلام فرض وأنه لا يكون مسلماً حتى ينظر فيها وأن من شرط الناظر فيها أن يكون ولا بد شاكا في الله عز وجل وفي صحة النبوة ولا يصح النظر في دلائل النبوة ودلائل التوحيد لمن يعتقد صحتها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والله ما سمع سامع قط بادخل في الكفر من قول من أوجب الشك في الله تعالى وفي صحة النبوة فرضاً على كل متعلم لا نجاة له إلا به ولا دين لأحد دونه وأن اعتقاد صحة التوحيد لله تعالى وصحة النبوة باطل لا يحل فحصل من كلامهم أن من لم يشك في الله تعالى ولا في صحة النبوة فهو كافر ومن شك فيهما فهو محسن مؤد ما وجب عليه وهذه فضيحة وحماقة اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول ومن كل قائل به ثم لم يحدوا في أمد الاستدلال حداً فليت شعري على هذا القول الملعون هو ومعتقده والداعي إليه كيف يكون حال من قبل وصيتهم هذه التي هي وصية الشيطان الرجيم فتبين بالشك في الله تعالى وفي النبوة وامتد به أمد الاستدلال أياماً وأشهراً وساعات مات فيها أين مستقره ومصيره إلى النار والله خالداً مخلداً أبداً وبيقين ندري أن قائل هذه الأقوال مطالب للإسلام كائد له مرصد لأهله داعية إلى الكفر ونعوذ بالله من الضلال و قال وا كلهم أن إطعام رسول الله صلى الله عليه وسلم المئين والعشرات من صاع شعير مرة بعد مرة وسقيه الألف والألوف من ماء يسير ينبع من بين أصابعه وحنين الجذع ومجيء الشجرة وتكلم الذراع وشكوى البعير ومجيء الذئب ليس شيء من ذلك دلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوته لأنه عليه السلام لم يتحد الناس بذلك ولا يكون عندهم آية إلا ما تحدى به الكفار فقط وهذا تكذيب منهم للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله وهذا أيضاً قول افتروه خالفوا فيه جميع أهل الإسلام و قال وا كلهم ليس لشيء من الأشياء نصف ولا ثلث ولا ربع ولا سدس ولا ثمن ولا عشر ولا بعض وأنه لا يجوز أن ي قال الفرد عشر العشرة ولا أنه بعض الخمسة وحجتهم في ذلك أنه لو جاز أن ي قال ذلك لكان عشراً لنفسه وبعض نفسه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا جهل شديد لأنه إنما هو بعض من جملة يكون سائرها غيره وعشر جملة يكون سائرها غيره ونسوا أنفسهم ف قال وا بالجزء الذي لا يتجزأ ونسوا إلزام أنفسهم أن يكون جزءاً لنفسه وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول في القرآن فلها النصف فلامه الثلث فلامه السدس ولكم الربع ولهن الثمن بعضهم أولياء بعض وهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير مع مخالفتهم في ذلك جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم ومخالفة كل لغة والمعقول والطبائع و قال وا كلهم من قال أن النار تحرق أو تلفح أو أن الأرض تهتز أو تنبت شيئاً أو أن الخمر يسكر أو أن الخبز يشبع أو أن الماء يروي أو أن الله تعالى ينبت الزرع والشجر بالماء فقد ألحد وافترى و قال الباقلاني من آخر السفر الرابع من كتابه المعروف بالانتصار في القرآن نحن ننكر فعل النار للتسخين والإحراق وننكر فعل الثلج للتبريد وفعل الطعام والشراب للشبع والري والخمر للإسكار كل هذا عندنا باطل محال ننكره أشد الإنكار وكذلك فعل الحجر لجذب شيء أو رده أو حبسه أو إطلاقه من حديد أو غيره هذا نص كلامه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تكذيب منهم لله عز وجل إذ يقول ‏"‏ تلفح وجوههم النار ‏"‏ ولقوله تعالى ‏"‏ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ إنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم ‏"‏ الآية وقوله تعالى ‏"‏ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ‏"‏ وقد صككت بهذا وجه بعض مقدميهم في المناظرة فدهش وبلد وهو أيضاً تكذيب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول كل مسكر حرام وكل شراب أسكر حرام مع مخالفتهم لكل لغة ولكل ذي حس من مسلم وكافر ومكابرة العيان وإبطال المشاهدة ثم أظرف شيء احتجاجهم في هذه الطامة بأن الله عز وجل هو الذي خلق ذلك كله فقلنا لهم أوليس فعل كل حي مختار واختياره خلقاً لله عز وجل فلا بد من قولهم نعم في قال لهم فمن أين نسبتم الفعل إلى الأحياء وهي خلق الله تعالى ومنعتم من نسبة الفعل إلى الجمادات لأنه خلق الله تعالى ولافرق ولكنهم قوم لا يعقلون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وسمعت بعض مقدميهم يقول أن من كان على معاصي خمسة من زنا وسرقة وترك صلاة وتضييع زكاة وغير ذلك ثم تاب عن بعضها دون بعض فإن توبته تلك لا تقبل وقد نص السمناني على أن هذا قول الباقلاني وهو قول أبي هاشم الجبائي ثم قال السمناني هذا قول خارق للإجماع جملة وخلاف لدين الأمة هذا نص قول السمناني في شيخه وشهدوا على أنفسهم وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا القول مخالف للقرآن والسنن لأن الله تعالى يقول ‏"‏ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً ‏"‏ الآية و قال تعالى ‏"‏ إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ‏"‏ وبالضرورة يدري كل ذي مسكة من عقل أن التوبة من الزنا خير كثير فهذا الجاهل يقول أنه لا يراه صاحبه وأنه عمل ضائع عند الله عز وجل من مسلم مؤمن ومعاذ الله من هذا وسر هذا القول الملعون وحقيقته التي لا بد لقائله منه أنه لا معنى لمن أصر على الزنا أو شرب الخمر في أن يصلي ولا أن يزكي فقد صار يأمر بترك الصلاة الخمس والزكاة وصوم رمضان والحج فعلى هذا القول وقائله لعائن الله تتري ما دار الليل والنهار ونص السمناني عن الباقلاني شيخه أنه كان يقول أن الله تعالى لا يغفر الصغائر باجتناب الكبائر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأنا سمعت بعض مقدميهم ينكر أن يكون في الذنوب صغائر وناظرته بقول الله تعالى ‏"‏ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ‏"‏ وقلت بالضرورة يدري كل ذي فهم أنه لا كبائر إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها وهي السيئات المغفورة باجتناب الكبائر بنص كلام الله تعالى فقولك هذا خلاف للقرآن مجرد فخلط ولجأ إلى الحرد وهذا منهم تكذيب لله عز وجل ورد لحكمه بلا كلفة ومن شنعهم الممزوجة بالهوس وصفاقة الوجه قولهم أنه لا حر في النار ولا في الثلج برد ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة وإنما خلق الله تعالى ذلك عند اللمس والذوق وهذا حمق عتيق قادهم إليه إنكارهم الطبائع وقد ناظرناهم على ذلك هذا مع قول شيخهم الباقلاني أن لقشور العنب رائحة وللزجاج والحصا طعماً ورائحة وزادوا حتى بلغوا إلى أن قال وا أن للفلك طعماً ورائحة فليت شعري متى ذاقوه أو شموه أو من أخبرهم بهذا وهذا لا يعرفه إلا الله ثم الملائكة الذين هنالك ولكن من ذاق طعم الزجاج وشم رائحته فغير منكر أن يدعى مشاهدة الفلك ولمسه وشمه وذوقه ومن شنعهم قولهم أن من كان الآن على دين الإسلام مخلصاً بقلبه ولسانه مجتهداً في العبادة إلا أن الله عز وجل يعلم أنه لا يموت إلا كافراً فهو الآن عند الله كافراً وإن من كان الآن كافراً يسجد للنار وللصليب أو يهودياً أو زنديقاً مصر حين بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن في علم الله تعالى لا يموت غلا مسلماً فإنه الآن عند الله مسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما قال هذا مسلم قط قبل هشام الفوطي وهذه مكابرة للعيان وتكذيب لله عز وجل كأنهم ما سمعوا قط قول الله تعالى ‏"‏ ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ‏"‏ فسماهم مؤمنين ثم أبخر تعالى بأنهم كفروا وقوله تعالى ‏"‏ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ‏"‏ فجعل الإسلام ديناً لما كان عليه إذ كان عليه وإن ارتد معه ومات كافراً وقوله تعالى مخاطباً للمسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏"‏ ويلزمهم أن الذي يسلم أبوه ولا يسلم هو لأنه كان بالغاً ثم مات أبوه فلم يرثه لكفره ثم أسلم أن يفسخوا حكمهم ويورثوه من أبيه لأنه عندهم كان إذ مات أبوه مؤمناً عند الله تعالى ويلزمهم إن من كان صبياً ثم عاش حتى شاخ أنه لم يكن عند الله قط إلا شيخاً ولو جمع ما يدخل عليهم لقام منه سفر ضخم و قال وا كلهم أنه ليس على ظهر الأرض يهودي ولا نصراني يقر بقلبه أن الله حق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا تكذيب للقرآن على ما بينا قبل ومكابرة للعيان لأنا لا نحصي كم دخل في الإسلام منهم وصلح إيمانه وصار عدلاً وكلهم لا يختلف في أنه كان قبل إسلامه مقراً بالله عز وجل عالماً به كما هو بعد إسلامه لم يزد في توحيده شيء فكابروا العيان وكذبوا القرآن بحمق وقلة حياء لا نظير له و قال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن معنى قول الله تعالى ‏"‏ لا يرضى لعباده الكفر ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ لا يحب الفساد ‏"‏ إنما معناه لا يحب الفساد لأهل الصلاح ولا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا ولم يرد أنه لا يرضاه لأحد من خلقه ولا يحبه لأحد منهم ثم قال وإن كان قد أحب ذلك ورضيه لأهل الكفر والفساد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تكذيب لله تعالى مجرد ثم أيضاً أخبر بأن الكفار فعلوا من الكفر أمراً رضيه الله تعالى منهم وأحبه منهم فكيف يدخل هذا في عقل مسلم مع قوله تعالى ‏"‏ اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ‏"‏ وأعجبوا لظلمة جهله إذ لم يفرق بين إرادة الكفر والمشيئة والخلق له وبين الرضا والمحبة و قال أيضاً فيه أن أقل من سورة من القرآن ليس بمعجز أصلاً بل هو مقدور على مثله و قال أيضاً في السفر الخامس من الديوان المذكور أن قيل كيف تقولون أكان يجوز من الله أن يؤلف القرآن تأليفاً آخر غير هذا يعجز الخلق عن مقابلته قلنا نعم هو تعالى قادر على ذلك وعلى ما لا غاية له من هذا الباب وعلى أقدار كثيرة وأعداد لا يحصيها غيره إلا أن كان تأليف الكلام ونظم الألفاظ لا بد أن يبلغ إلى غاية وحد لا يحتمل الكلام أكثر منه ولا أوسع ولا يبقى وراء تلك الأعداد نص والأوزان شيء تتناوله القدرة قال ولنا في هذه المسألة نظر في تأليف الكلام ونظم الأجسام وتصوير الأشخاص هل يجب أن يكون نهاية لا يحتمل المؤلف والمنظوم فوقها ولا ما هو أكثر منها أم لا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هنا صرح بالشك في قدرة الله تعالى الها نهاية كما يقول أبو الهذيل أخوه في الضلالة والكفر أم لا نهاية لها كما يقول أهل الإسلام ونعوذ بالله من الضلال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولقد أخبرني بعض من كان يداخلهم وكان له فيهم سبب قوي وكان من أهل الفهم والذكاء وكان يزري في باطن أمره عليهم أنهم يقولون أن الله تعالى مذ خلق الأرض فإنه خلق جسماً عظيماً يمسكها عن أن تهوى هابطة فلما خلق ذلك الجسم أفناه في الوقت بلا زمان وخلق آخر مثله يمسكها أيضاً فلما خلقه أفناه إثر خلقه بلا زمان أيضاً وخلق آخر وهكذا أبداً أبداً بلا نهاية قال لي وحجتهم في هذا الوسواس والكذب على الله تعالى فيه مما لم يقله أحد قبلهم مما يكذبه الحس والمشاهدة أنه لابد للأرض من جسم ممسك والاهوت فلو كان ذلك الممسك يبقى وقتين أو مقدار طرفة عين لسقط هو أيضاً معها فهو إذا خلق ثم أفنى إثر خلقه ولم يقع لأن الجسم عندهم في ابتداء خلقه لا ساكن ولا متحرك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا احتجاج للحمق بالحمق وما عقل أحد قط جسماً لا ساكناً ولا متحركاً بل الجسم في ابتداء خلق الله تعالى له في مكان محيط به في جهاته ولا شك ساكن في مكانه ثم تحرك وكأنهم لم يسمعوا لقول الله تعالى ‏"‏ إن الله يمسك السماوات والأرض إن تزولا ‏"‏ فأخبر تعالى أنه يمسكها كما شاء دون تكلف ما لم يخبرنا الله تعالى به ولا جعل في العقول دليلاً عليه ولو أن قائل هذا الحمق وقف على الحق وطالع شيئاً من براهين الهيئة لخجل مما أتي به من الهوس ومن شنعهم قول هذا الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن أن تفسيم آيات القرآن وترتيب مواضع سوره شيء فعله الناس وليس هو من عند الله ولا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فقد كذب هذا الجاهل وأفك أتراه ما سمع قول الله تعالى ‏"‏ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ‏"‏ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في آية الكرسي وآية الكلالة والخبر أنه عليه السلام كان يأمر إذا نزلت الآية أن تجعل في سورة كذا وموضع كذا ولو أن الناس رتبوا سوره لما تعدوا أحد وجوه ثلاثة إما أن يرتبوها على الأول فالأول نزولاً أو الأطول فما دونه أو الأقصر فما فوقه فإذ ليس ذلك كذلك فقد صح أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يعارض عن الله عز وجل لا يجوز غير ذلك أصلاً ومن شنعهم قول الباقلاني في كتابه في مذاهب القرامطة قرب آخر الكتاب في باب ترجمته ذكر جمل م قال ات الدهرية والفلاسفة والثنوية قال الباقلاني فأما ما يستحيل بقاؤه من أجناس الحوادث وهي الأعراض فإنما يجب عدمها في الثاني من حال حدوثها من غير معدم ولا شيء يفنيها هذا نص كلامه و قال متصلاً بهذا الفصل وأما نحن فنقول أنها تفني الجواهر نعني بقطع الأكوان عنها من حيث لا يصح لها وجود لا في مكان ولا فيما يقدر تقدير المكان وإذا لم يلحق فيها شيء من الأكوان فعدم ما كان يخلق فيها منها أوجب عدمها هذا نص كلامه وهذا قول بإفناء الجواهر والأعراض وهو فناء وإعدام لا فاعل لهما وإن الله تعالى لم يفن الفاني ونعوذ بالله من هذا الضلال والإلحاد المحض و قال وا بأجمعهم ليس لله تعالى على الكفار نعمة دينية أصلاً و قال الأشعري شيخهم ولا له على الكفار نعمة دنيوية أصلاً وهذا تكذيب منه ومن أتباعه الضلال لله عز وجل إذ يقول ‏"‏ بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ‏"‏ وإذ يقول عز وجل ‏"‏ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين ‏"‏ وإنما خاطب تعالى بهذا كفاراً جحدواً نعمة الله تعالى تبكيتاً لهم وأما الدنيوية فكثير قال تعالى ‏"‏ قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ فلينظر الإنسان إلى طعامه ‏"‏ الآية ومثله من القرآن كثير و قال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن في باب مترجم بباب الدلالة على أن القرآن معجز للنبي صلى الله عليه وسلم وذكروا سؤال الملحدين عن الدليل على صحة ما ادعاه المسلمون من أن القرآن معجز ف قال الباقلاني ي قال لهم ما معنى وصف القرآن وغيره من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه معجز فإنما معناه أنه مما لا يقدر العباد عليه وأن يكونوا عاجزين على الحقيقة وإنما وصف القرآن وغيره من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام كعصى موسى وخروج الناقة من الصخرة وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بأنه معجز وإن لم يتعلق به عجز عاجز عنه على وجه التسمية بما يعجز عنه العاجز من الأمور التي صح عجزهم عنها وقدرتهم عليها لأنهم لم يقدروا على معارضات آيات الرسل غير عن عدم قدرتهم على ذلك فالعجز عنه تشبيهاً له بالمعجوز عنه قال الباقلاني ومما يدل على أن العرب لا يجوز أن تعجز عن مثل القرآن لأنه قد صح وثبت أن العجز لا يكون عجزاً إلا عن موجود فلو كانوا على هذا الأصل عاجزين عن مثل القرآن وعصى موسى وإحياء الموتى وخلق الأجسام والأسماع والأبصار وكشف البلوى والعاهات لوجب أن يكون ذلك المثل موجوداً فيهم ومنهم كما أنهم لو كانوا قادرين على ذلك لوجب أن يكون ذلك منهم ولما لم يكن ذلك كذلك ثبت أنه لا يجوز عجز العباد على الحقيقة عن مثل القرآن مع عدمه منهم وكونه غير موجود لهم ولا عن قلب عصى موسى حية ولا عن مثل ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أينتظر كفر بعد هذا الكفر في تصريحه أن العباد والعرب لا يجوز أن يعجزوا عن مثل القرآن ولا عن قلب العصا حية ولا يغتر ضعيف بقوله إنهم غير قادرين على ذلك فإنما هو على قوله المعروف من أن الله لا يقدر على غير ما فعل وظهر منه فقط ومن عظيم المحال قوله في هذا الفصل أنه لا يجوز أن يعجز العاجز إلا عما يقدر عليه مع أن هذا الكلام منه موجب أنهم إن عجزوا عن مثل القرآن قدروا عليه وما يمترى في أنه كان كائداً للإسلام ملحداً لا شك فيه فهذه الأقوال لا ينطلق بها لسان مسلم ومن أعظم البراهين على كفر الباقلاني وكيده للدين قوله في فصل آخر من الباب المذكور في الكتاب المذكور أنه لا يجب على من سمع القرآن من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم أن يبادر إلى القطع على أنه له آية أو أنه على يده ظهر ومن قبله نجم حتى يسأل أهل النواحي والأطراف ونقلة الأخبار ويتعرف حال المتكلمين بذلك اللسان في الآفاق فإذا علم بعد التثبت والنظر أنه لم يسبقه إلى ذلك أحد لزمه حينئذ اعتقاد نبوته‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا إنسان خاف معاجلة الأمة له بالرجم كما يرجم الكلب إن صرح بأن نوبة محمد صلى الله عليه وسلم باطل فصرح لهم بما يؤدي إلى ذلك من قرب إذا وجب بأن لا يقر أحد بنبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بأنه أتى بالقرآن ولا بأنه آية من آياته على صحة نبوته إلا حتى يسأل أهل النواحي والأطراف وينتظر الأخبار ويتعرف حال المتكلم بالعربية في الآفاق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأحال والله على عمل لا نهاية له ولو عمر الإنسان عمر نوح عليه الصلاة والسلام لأن سؤال أهل النواحي والأطراف لا ينقضي في ألف عام وانتظار الأخبار ليس له حد وليت شعري متى تصل المخدرة وطالب المعاش إلى طرف من هذا المحال لأن أهل النواحي هم من بين صدر الصين إلى آخر الأندلس إلى بلاد الزنج إلى بلد الص قال بة فما بين ذلك فلاح كفر هذا الجاهل الملحد وكيده للإسلام لكل من له أدنى حس مع ضعف كيده في ذلك قال الله تعالى ‏"‏ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏"‏ ويكفي من كل هزراتي به في هذا الفصل الملعون قائله أن من له علم قوي بالعربية والأخبار فيكفيه تيقن عجز العرب عن معارضته فمن بعدهم إلى اليوم وأنه من عنده ضرورة لأنه لم ينزل القرآن جملة فيمكن فيه الدعوى من أحد وإنما نزل مقطعاً في كل قصة تنزل فينزل فيها قرآن وهذه ضرورة موجبة أنه عند عليه الصلاة والسلام ظهر بوحي الله تعالى إليه وبما فيه من الغيوب التي قد ظهر إنذاره بها وأما من لا علم له باللغة والأخبار فيكفيه أخبار من يقع له العلم بخبره بأن العرب عجزت عن مثله وأنه أتى به مفصلاً عند حلول القصص التي أنزل الله تعالى فيها الآية والآيتين والكلمة والكلمتين من القرآن والتوراة حتى تم كما هو فهذا الحق وذلك الإلحاد المحض والكلام الغث السخيف ومن كفراتهم الصلع قول السمناني إذ نص على أن الباقلاني كان يقول أن جميع المعاصي كلها ألا نحاشى شيئاً منها مما يجب أن يستغفر الله منه جايز وقوعها من النبي صلى الله عليه وسلم حاشا الكذب في البلاغ فقط و قال الباقلاني وإذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلاً على أنه منسوخ إذ قد يفعله عاصياً لله عز وجل قال الباقلاني وليس على أصحابه فرضاً أن ينكروا ذلك عليه و قال السمناني في كتاب الإمامة لو لا دلالة العقل على وجوب كون النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً في البلاغ عن الله عز وجل لما وجب كونه معصوماً في البلاغ كما لا يجب فيما سواه من أفعاله وأقواله و قال أيضاً في مكان آخر منه وكذلك يجوز أن يكفر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أداء الرسال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ بالله الذي لا إله إلا هو إن كان قال هذا القول ناصراً له وداعياً إليه مسلم قط وما كان قائله إلا كافراً ملحداً فاعلموا أيها الناس أنه قد جوز على النبي صلى الله عليه وسلم الكفر والزنا واللياطة والبغاء والسرقة وجميع المعاصي وأي كيد للإسلام يالناس أعظم من هذا وأما صاحبه ابن فورك فإنه منع من هذا وأنكره وأجاز على النبي صلى الله عليه وسلم صغار المعاصي كقتل النساء وتعريضهن وتفخيذ الصبيان ونحو ذلك وأما شيخهما ابن مجاهد البصري ليس بالمقري فإنه منع من كل ذلك وحاشا الله أن يجوز النبي صلى الله عليه وسلم ذنب بعمد لا صغير ولا كبير لقول الله تعالى ‏"‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ‏"‏ ومن المحال أن يأمرنا الله تعالى أن نتأسي بعاص في معصيته صغرت أو كبرت وأعجبوا لاستخفاف هذا الملحد بالدين وبالمسلمين إذ يقول هاهنا أنه ليس فرضاً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكروا عليه عصيان ربه ومخالفة أمره الذي أمرهم به وهو يقول في نصره للقياس أن قياس من قاس من الصحابة وسكوت من سكت منهم عن إنكاره دليل على وجوب الحكم بالقياس لأنهم لا يقرون على منكر فأوجب إقرارهم على المنكر من النبي صلى الله عليه وسلم حاشا لله من هذا وأنكر إقراره على القياس لو كان منكراً فجمع بين هذه المناقضة والكذب في دعوى القياس على الصحابة ودعوى معرفة جميعهم بقياس من قاس منهم ودعوى أنهم لم ينكروه وهذه صفات الكذابين المتلاعبين بالدين ومن طوامهم ما حكاه السمناني عن الباقلاني أنه قال واختلفوا في وجوب كون النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أهل وقته في حال الرسالة وما بعدها إلى حين موته فأوجب ذلك قائلون وأسقطه آخرون و قال الباقلاني وهذا هو الصحيح وبه نقول‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا والله الكفر الذي لا خفاء به إذ جوز أن يكون أحد ممن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فما بعده أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنكرنا على أحمد بن خابط الدون هذا إذ قال أن أب ذر كان أزهد من النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع قول هذا المستخف الباقلاني الذي ذكره عنه السمناني في كتابه الكبير في كتاب الإمامة منه أن من شرط الإمامة أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ يا للعيارة بالدين يجوز عنه هذا الكافر أن يكون في الناس غير الرسل أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز عنده أن يلي الإمامة أحد يوجد في الناس أفضل منه ثم حمقه أيضاً في هذا حمق عتيق لأنه تكليف ما لا يطاق ولا سبيل إلى القطع بفضل أحد على أحد إلا بنص من الله عز وجل وكيف يحاط بالأفضل من قريش وهم مبثوثون من أقصى السند وكابل ومكران إلى الأشوته إلى سواحل البحر المحيط ومن سواحل بحر اليمن إلى ئغور أرمينية وأذربيجان فما بين ذلك اللهم العن من لا يستحق ومن العجب أن هذا النذل الباقلاني قطع بخلاف الإجماع على أبي حنيفة بإجازته القراة الفارسية وصرح بأن ترتيب الآيات في القرآن إجماع وقد أجاز مالك لمن قرأ عند غروب الشمس وطلوعها فجاءته آية سجدة أن يصل التي قبلها بالتي بعدها فمالك عنده مخالف للإجماع وقطع بأن الشافعي مخالف للإجماع في قوله ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ آية من أم القرآن وإن داود خالف الإجماع في قوله بإبطال القياس أفلا يستحي هذا الجاهل من أن يصف العلماء بصفته مع عظيم جهله بأن عاصماً وابن كثير وغيرهما من القراء وطائفة من الصحابة تقول بقول الشافعي الذي جعله خلافاً للإجماع وأنه لم يأت قط عن أحد من الصحابة إيجاب الحكم بالقياس من طريق تثبت وأنه قد قال بإنكاره ابن مسعود ومسروق والشعبي وغيرهم ولكن من يضلل الله فلا هادي له ومن عجائبه قوله أن العامي إذا أنزلت به النازلة ففرضه أن يسأل أفقه أهل بلده فإذا أفتاه فهو فرضه فإن نزلت به تلك النازلة ثانية لم يجز له أن يعمل بتلك الفتيا لكن يسأل ثانية إما ذلك الفقيه وإما غيره ففرضه أن يعمل بالفتيا الثانية وهكذا أبداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا تكليف ما لا يطاق إذ أوجب على كل أحد من العامة أن يسأل أبداً عن كل ما ينوبه في صلاته وصيامه وزكاته ونكاحه وبيوعه ويكرر السؤال عن كل ذلك كل يوم بل كل ساعة فهل في الحماقة أكثر من هذا ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

 ذكر شنع لقوم لا نعرف فرقهم

قال أبو محمد‏:‏ ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل و قال وا من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك واستباحوا بهذا نساء غيرهم و قال وا أننا نرى الله ونكلمه وكلما قذف في نفوسنا فهو حق ورأيت لرجل منهم يعرف بابن شمعون كلماً نصه أن الله تعالى ماية اسم وأن الموفي ماية هو ستة وثلاثون حرفاً ليس منها في حروف الهجاء شيء إلا واحد فقط وبذلك الواحد يصل أهل المقامات إلى الحق و قال أيضاً أخبرني بعض من رسم لمجالسة الحق أنه مد رجله يوماً فنودي ما هكذا مجالس الملوك فلم يمد رجله بعدها يعني أنه كان مديماً لمجالسة الله تعالى و قال أبو حاضر النصيبي من أهل نصيبين وأبو الصياح السمرقندي وأصحابهما أن الخلق لم يزالوا مع الله تعالى و قال أبو الصياح لا تحل ذبائح أهل الكتاب وخطأ فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتال أهل الردة وصوب قول الصحابة الذين رجعوا عنه في حربهم و قال أبو شعيب القلال أنه ربه جسم في صورة إنسان لحم ودم ويفرح ويحزن ويمرض ويفيق و قال بعض الصوفية أن ربه يمشي في الأزقة حتى أنه يمشي في صورة مجنون يتبعه الصبيان بالحجارة حتى تدموا عقبيه فاعلموا رحمكم الله أن هذه كلها كفرات صلع وأقوال قوم يكيدون الإسلام وصدق القائل‏:‏ شهدت بأن ابن المعلم هازل بأصحابه والباقلاني أهزل وما الجعل الملعون في ذاك دونه وكلهم في الأفك والكفر منزل وساع مع السلطان يسعى عليهم ومحترس من مثله وهو حارس واعلموا رحمكم الله أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله على أيديهم خيراً ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية ولا رفع للإسلام راية وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين ويفرقون كلمة المؤمنين ويسلون السيف على أهل الدين ويسعون في الأرض مفسدين أما الخوارج والشيعة فأمرهم في هذا أشهر من أن يتكلف ذكره ما توصلت الباطنية إلى كيد الإسلام وإخراج الضعفاء منه إلى الكفر الأعلى السنة الشيعة وأما المرجئية فكذلك إلا أن الحارث بن سريح خرج بزعمه منكراً للجور ثم لحق بالترك فقادهم إلى أرض الإسلام فأنهب الديار وهتك الأستار والمعتزلة في سبيل ذلك إلا أنه ابتلى بتقليد بعضهم المعتصم والواثق جهلاً وظناً أنهم على شيء وكانت للمعتصم فتوحات محمودة كبابل والمازيار وغيرهم فالله الله أيها المسلمون تحفظوا بدينكم ونحن نجمع لكم بعون الله الكلام في ذلك الزموا القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما مضى عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وأصحاب الحديث عصراً عصراً الذين طلبوا الأثر فلزموا الإثر ودعوا كل محدثة فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلاضة وكل ضلالة في النار وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في شنع المبتدعة أهل الأهواء والنحل المضلة والحمد لله رب العالمين‏.‏

الجزء الخامس

الفصل بكسر ففتح جمع فصلى بفتح فسكون كقصعة وقصع النخلة المنقولة من محلها إلى محل آخر لتثمر بسم الله الرحمن الرحيم

 المعاني التي يسميها أهل الكلام

اللطائف والكلام في السحر وفي المعجزات التي فيها إحالة الطبائع يجوز واحدها لغير الأنبياء أم لا قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عز وجل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان وجميع إحالة الطبائع وكل معجز للأنبياء عليهم السلام ورأيت لمحمد ابن الطيب الباقلاني أن الساحر يمشي على الماء على الحقيقة وفي الهواء ويقلب الإنسان حماراً على الحقيقة وإن كل هذا موجود من الصالحين على سبيل الكرامة وأنه لا فرق بين آيات الأنبياء وبين ما يظهر من الإنسان الفاضل ومن الساحر أصلاً إلا بالتحدي فإن النبي يتحدى الناس بأن يأتوا بمثل ما جاء هو به فلا يقدر أحد على ذلك فقط وان كل ما لم يتحد به النبي صلى الله عليه وسلم الناس فليست آية له وقطع بأن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على لسان متنبئ كاذب وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عينا ولا يحيل طبيعة إلا الله عز وجل لأنبيائه فقط سواء تحدوا بذلك أو لم يتحدوا وكل ذلك آيات لهم عليهم الصلاة والسلام تحدوا بذلك أم لا والتحدي لا معنى له وأنه لا يمكن وجود شيء من ذلك لصالح ولا لساحر ولا لأحد غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدعين للنبوة لكنه تعالى لا يفعل كما لا يفعل ما لا يريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره برهان ذلك قوله عز وجل ‏"‏ وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته ‏"‏ و قال عز وجل ‏"‏ وعلم آدم الأسماء كلها ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ‏"‏ فصح أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله عز وجل الترتيب الذي لا يتبدل وصح أن الله عز وجل أوقع كل اسم على مسماه فلا يجوز أن يوقع اسم من تلك الأسماء على غير مسماه الذي أوقعه الله تعالى عليه لأنه كان يكون تبديلاً لكلمات الله تعالى التي أبطل الله عز وجل أن تبدل ومنع من أن يكون لها مبدل ولو جاز أن تحال صفات مسمى منها التي بوجودها فيه استحق وقوع ذلك الاسم عليه لوجب أن يسقط عنه ذلك الاسم الذي أوقعه الله تعالى عليه فإذ ذلك كذلك فقد وجب أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله على ما هو عليه من فصوله الذاتية وأنواعه وأجناسه فلا يتبدل شيء منه قطعا إلا حيث قام البرهان على تبدله وليس ذلك إلا على أحد وجهين إما استحالة معهودة جارية على رتبة واحدة وعلى ما بنى الله تعالى عليه العالم من استحالة المني حيوانا والنوي والبزور شجرة ونباتا وسائر الاستحالات المعهودات وإما استحالة لم تعهد قط ولا نبي الله تعالى العالم عليها ولذلك قد صح للانبياء عليهم السلام شواهد لهم على صحة نبوتهم وجود ذلك بالمشاهدة ممن شهدهم ونقله إلى من لي يشاهدهم بالتواتر الموجب للعلم الضروري فوجب الإقرار بذلك وبقي ماعدا أمر الأنبياء عليهم السلام على الامتناع فلا يجوز البتة وجود ذلك لا من ساحر ولا من صالح بوجه من الوجوه لأنه لم يقم برهان بوجود ذلك ولا صح به نقل وهو ممتنع في العقل كما قدمنا ولو كان ذلك ممكنا لاستوى الممتنع والممكن والواجب وبطلت الحقائق كلها وامكن كل ممتنع ومن لحق هاهنا لحق بالسوفسطائية على الحقيقة ونسأل من جوز ذلك للساحر والفاضل هل يجوز لكل أحد غير هذين أ لا يجوز إلا لهذين فقط فان قال إن ذلك للساحر والفاضل فقط وهذا هو قولهم سألناهم عن الفرق بين هذين وبين سائر الناس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قال وا أن ذلك جائزاً أيضاً لغير الساحر والفاضل لحقوا بالسوفسطائية حقا ولم يثبتوا حقيقة وجاز تصديق من يدعي أنه يصعد إلى السماء ويرى الملائكة وانه يكلم الطير و يجتني من شجر الخروب التمر والعناب وان رجالا حملوا وولدوا وسائر التخليط الذي من صار إليه وجب أن يعامل بما هو أهله إن أمكن أو أن يعرض عنه لجنونه وقلة حيائه قال أبو محمد‏:‏ لا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي بن أبي طالب مرتين حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال‏:‏ فردت علينا الشمس والليل راغم بشمس لهم من جانب الخدر تطلع نضا ضوءها سبغ الدجنة وانطوى أبهجتها فوق السماء المرجع فوالله ما أدرى علي بدا لنا فردت له أم كان في القوم يوشع وكذلك دعوى النصارى لرهبانهم وقدمائهم فانهم يدعون لهم من قلب الأعيان أضعاف ما يدعيه هؤلاء وكذلك دعوى اليهود لأحبارهم ورؤوس المثايب عندهم ان رجلا منهم رحل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد وانه اثبت قرنين في رأس رجل مسلم من بنى الاسكندراني كان يسكن بقرطبة عند باب اليهود وهذا كله باطل موضوع وبنو الاسكندراني كانوا أقواماً أشرافاً معروفين لم يعرف لأحد منهم شيء من هذا والحماقة لا حد لها وهذا برهان كاف لمن نصح نفسه‏.‏

قال أبو محمد وأما السحر فانه ضروب منه ما هو من قبل الكواكب كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب ومن هذا الباب كانت الطلسمات وليست إحالة طبيعة ولا قلب عين ولكنها قوي ركبها الله عز وجل مدافعة لقوى اخر كدفع الحر للبرد ودفع البرد للحر وكقبل القمر للدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة للقمر ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا بأنفسنا أثارها ظاهرة إلى الآن من قرى لا تدخلها جرادة ولا يقع فيه برد وكسر قطة التي لا يدخلها جيش إلا أن يدخل كرها وغير ذلك كثير جدا لا ينكره إلا معاند وهي أعمال قد ذهب من كان يحسنها جملة وانقطع من العالم ولم يبق إلا آثار صناعاتهم فقط ومن هذا الباب كان ما تذكره الأوائل في كتبهم في المويسيقا وانه كان يؤلف به بين الطبائع وينافر به أيضاً بينها ونوع آخر من السحر يكون بالرقي وهو كلام مجموع من حروف مقطعه في طوالع معروفة أيضاً يحدث لذلك التركيب قوة تستثار بها الطبائع وتدافع قوى أخر وقد شاهدنا وجربنا من كان يرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول ظهوره فييبس يبدأ من يومه ذلك بالذبول ويتم يبسه في اليوم الثالث ويقلع كما تقلع قشرة القرحة إذا تم يبسها جربنا من ذلك مالا نحصيه وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد دفعا على إنسان واحد ولا ترقي الثاني فييبس الذي رقت ويتم ظهور الذي لم ترق ويلقي حامله منه أذى الشديد وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير فيندمل ما يفتح منها ويذبل ما لم ينفتح ويبرأ كل ذلك البرء التام كان لا يزال يفعل ذلك في الناس والدواب ومثل هذا كثير جدا وقد اخبرنا من خبره عندنا كمشاهدتنا لثقته وتجريبنا لصدقة وفضله انه شاهد ما لا يحصى نساء يتكلمن على الذي يمخضون الزبد من اللبن بكلام فلا يخرج من ذلك اللبن زبد ولا فرق بين هذين الوجهين وبين ملاقاة فضلة الصفراء بالسقمونيا وملاقاة ضعف القلب بالكندر وكل هذه المعاني جارية على رتبة واحدة من طلب علم ذلك أدركه ومنه ما يكون بالخاصة كالحجر الجاذب للحديد وما أشبه ذلك ومنه ما يكون لطف يد كحيل أبي العجائب التي شاهدها الناس وهي أعمال لطيفة لا تحيل طبعا أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذه الوجوه التي ذكرناها ليست من باب معجزات الأنبياء عليهم السلام ولا من باب ما يدعيه أهل الكذب للسحرة والصالحين لأن معجز الأنبياء هو خارج عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم لا يجري شيء من ذلك على قانون ولا على سنن معلوم لكن قلب عين وإحالة صفات ذاتية كشق القمر وفلق البحر واختراع طعام وماء وقلب العصا حية وإحياء ميت قد أرم وإخراج ناقة من صخرة ومنع الناس من أن يتكلموا بكلام مذكورا ومن أن يأتوا بمثله وما أشبه هذا من إحالة الصفات الذاتية التي بوجودها تستحق الأسماء‏.‏

ومنها تقوم الحدود وهذا بعينه هو الذي يدعيه المبطلون للساحر والفاضل قال أبو محمد‏:‏ وإنما يلوح الفرق جداً بين هذين السبيلين لأهل العلم بحدود الأسماء والمسميات وبطبائع العالم وانقسامه من مبدئه من أجناس أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاصه وما هو من أعراضه ذاتي وما هو منها غيري وما يسرع الاستحالة والزوال من الغيري منها وما يبطئ زواله منها وما يثبت منها ثبات الذاتي وان لم يكن ذاتياً والفرق بين البرهان وبين ما نظن أنه برهان وليس برهاناً والحمد لله على ما وهب وأنعم به علينا لا إله إلا هو حدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عبد البصير قال ثنا قاسم بن اصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثني ثنا عبد الرحمن ابن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن بشير بن عمرو قال ذكر الغيلان عند عمر بن الخطاب فقالوا انهم يتحولون فقال عمر انه ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له ولكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا فهذا عمر رضي الله عنه يبطل إحالة الطبائع وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين كثيرا وقد نص الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى ‏"‏ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ‏"‏ فاخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخييلا لا حقيقة له و قال تعالى ‏"‏ إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ‏"‏ فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له فإن قيل قد قال الله عز وجل ‏"‏ سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ‏"‏ قلنا نعم إنها حيل عظيمة وإثم عظيم إذ قصدوا بها معارضة معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم وانهم كادوا عيون الناس إذ أوهموهم أن تلك الحبال والعصي تسعي فاتفقت الآيات كلها والحمد لله رب العالمين وكان الذي قدر ممن لا يدري حيلهم من أنها تسعى ظنا أصله اليقين وذلك انهم رأوا صفة حيات رقط طوال تضطرب فسارعوا إلى الظن وقدروا أنها ذات حيات ولوا معنوا الظن وفتشوها لوقفوا على الحيلة فيها وأنها ملئت زئبقا ولد فيها تلك الحركات كما يفعل العجائبي الذي يضرب بسكينة في جسم إنسان فيظن من رآه ممن لا يدري حيلته أن السكين غاصب في جسد المضروب وليس كذلك بل كان نصاب السكين مثقوبا فقط فغاصت السكين في النصاب وكإدخاله خيطا في حلقة خاتم يمسك إنسان غير متهم طرفي الخيط بيديه ثم يأخذ العجائبي الخاتم الذي فيه الخيط بفيه وفي ذلك المقام أدخله تحت يده وكان في فيه خاتم أخرى يري من حضر حلقة الخاتم الذي في فيه يوهمهم انه قد أخرجه من الخيط ثم يرد فمه إلى الخيط ويرفع يديه وفمه فينظر الخاتم الذي كان فيه الخيط وكذلك سائر حيلهم وقد وقفنا على جميعها فهذا هو معنى قوله تعالى سحروا أعين الناس واسترهبوهم أي انهم أوهموا الناس فيما رأوا ظنونا متوهمة لا حقيقة لها ولو فتشوها للاح لهم الحق وكذلك قوله تعالى ‏"‏ فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ‏"‏ فهذا أمر ممكن يفعله النمام وكذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم فولد ذلك عليه مرضا حتى كان يظن انه فعل الشيء وهو لم يفعله فليس في هذا أيضا إحالة طبيعية ولا قلب عين وإنما هو تأثير بقوة لتلك الصناعة كما قلنا في الطلسمات والرقي فلا فرق ونحن نجد الإنسان يسب أو يقابل بحركة يغضب منها فيستحيل من الحلم إلى الطيش وعن السكون إلى الحركة والنزق حتى يقارب حال المجانين وربما أمرضه ذلك وقد قال عليه السلام إن من البيان لسحرا لأن من البيان ما يؤثر في النفس فيثيرها أو يسكنها عن ثورانها ويحيلها عن عزماتها وعلى هذا المعنى استعملت الشعراء ذكر سحر العيون لاستمالتها للنفوس فقط‏:‏ قال أبو محمد‏:‏ وي قال لمن قال أن السحر يحيل الأعيان ويقلب الطبائع أخبرونا إذا جاز هذا فأي فرق بين النبي صلى الله عليه وسلم والساحر ولعل جميع الأنبياء كانوا سحرة كما قال فرعون عن موسى عليه السلام ‏"‏ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ‏"‏ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ .

وإذا جاز أن يقلب سحرة موسى عليه السلام عصيهم وحبالهم حيات وقلب موسى عليه السلام عصاه حية وكان كلا الآمرين حقيقة فقد صدق فرعون بلا شك في انه ساحر مثلهم إلا انه أعلم منهم به فقط وحاشا لله من هذا بل كان فعل السحرة إلا من حيل أبي العجائب فقط فان لجئوا إلى ما ذكره الباقلاني من التحدي قيل لهم هذا باطل من وجوه أحدها إن اشتراط التحدي في كون آية النبي آية دعوى كاذبة سخيفة لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من حجة عقل ولا قال بهذا أحد قط قبل هذه الفرقة الضعيفة وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والهجنة قال الله عز وجل ‏"‏ قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين ‏"‏ فوجب ضرورة أن من لا برهان له على صحة قوله فهو كاذب فيها غير صادق وثانيها‏.‏

أنه لو كان ما قال وا لسقطت اكثر آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم كنبعان الماء من بين أصابعه وإطعامه المئين والعشرات من صاع شعير وعناق ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار وكتفله في العين فجاشت بماء غزير إلى اليوم وحنين الجذع وتكليم الذراع وشكوى البعير والذئب والأخبار بالغيوب وتمر جابر وسائر معجزاته العظام لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتحد بذلك كله أحداً ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من أصحابه رضى الله عنهم ولم يبق له آية حاشا القرآن ودعاء اليهود إلى تمنى الموت وشق القمر فقط وكفى نحسا بقول أدى إلى مثل هذا فان ادعوا انه عليه السلام تحدى بها من حصر وغاب وان تمادوا على أن كل هذه ليست معجزات ولا آيات أكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله والثالث وهو البرهان الدافع هو قول الله تعالى ‏"‏ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ‏"‏ وقوله ‏"‏ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ‏"‏ فسمى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء عليهم السلام آيات ولم يشترط عز وجل في ذلك تحديا من غيره فصح أن اشتراط التحدي باطل محض وسح أنها إذا ظهرت فهي آية كان هنالك تحد أو لم يكن وقد صح إجماع الأمة المتيقن على أن الآيات لا يأتي بها ساحر ولا غير نبي فصح أن المعجزات إذا هي آيات لا تكون لساحر ولا لأحد ليس نبيا والرابع أنه لو صح حكم التحدي لكان حجة عليه لأن التحدي عندهم يوجب أن لا يقدر على مثل ذلك أحد إذ لو أمكن أن يوجد مثل ذلك من أحد لكان قد بطل تحديه وقيل له قد وجد من يعمل مثل عملك هذا إما صالح وإما ساحر والخامس أنه لو كان ما قال وا وجاز ظهور معجزة من ساحر لا يتحدى بها أو فاضل لا يتحدى بها لامكن أن يتحدى لهما بها بعد موتهما من ضل فيهما كما فعات الغلاة بعلي رضي الله عنه فعلى كل حال قولهم ساقط والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما من ادعى أنه يشبه الساحر على العيون فيريهم ما لا يرى فان هذه الطائفة لم تكتف بالكفر بإبطال النبوات إذ لعل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم كان تشبيهاً على العيون لا حقيقة له حتى رامت إبطال الحقائق كلها أولها عن آخرها ولحقت بالسوفسطائية لحاقاً صحيحاً بلا تكلف وي قال لهم إذا جاز أن يشبه على العيون حتى يرى المشبه عليها ما لا حقيقة له وما لا تراه فما يدريكم لعلكم كلكم الآن مشبه على عيونكم ولعل بعض السحرة قد شبه عليكم فأراكم أنكم تتوضئون وتصلون وأنتم لا تعقلون شيئاً من ذلك ولعلكم تظنون أنكم تزوجتم وإنما في بيوتكم ضأن ولا معز ولعلكم الآن على ظهر البحر ولعل كل ما تعتقدون من الدين تشبيه عليكم وهذا كله لا مخلص لهم منه وقد عاب الله عز وجل من ذهب إلى هذا فقال ‏"‏ ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ‏"‏ فلو جاز أن يكون للسحر حقيقة ويشبه ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام وأمكن أن يشبه على البصر ما ذمهم الله عز وجل بأن قال وا شيئاً يمكن كونه لكنهم لما قال وا ما لا يمكن البتة وتعلقوا بذلك في دفع الحقائق عابهم الله تعالى بذلك وأنكره عليهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وليس غلط الحواس في بعض الأوقات من باب التشبيه عليها في شيء لأن أحدنا قد يرى شخصاً على بعد لا يشك فيه إلا أنه سارع فقطع أنه إنسان أو أنه فلان فقطع بظنه ولو أنه لم يعمل ظنه ولا قطع به لكان باقياً على ما أدرك من الحقيقة وهكذا في كل ما حكم فيه المرء بظنه وأما ذو الآفة كمن فيه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها فهو أيضاً كما ذكرنا وإنما الماء المطل على حدقته يوهمه أنه رأى شيئاً وقطع بذلك فإذا تثبت في كل ذلك لاح له الحق من الظن وكذلك من فسد مكان التخيل من دماغه فإن نفسه تظن ما يتوهمه فتقطع به ولو قوي تميزها لفرقت بين الحق والباطل وهكذا القول في إدراك السمع والذوق وهذا كله يجري على رتب مختلفة بمن أعمل ظنه وعلى رتب غير مختلفة في جمل هذه الأوقات بل هي ثابتة عند أهل التحقيق والمعرفة معروفة العلاج حتى يعود منها إلى صلاحه ما لم يستحكم فساده ولا يظن ظان أنه ممكن أن نكون في مثل حال هؤلاء إذ لو كان هذا لم نعرف شيئاً من العلوم على رتبه وأحكامه الجارية على سنن واحد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم بأي شيء يعرفون أنه لم يشبه على عيونكم فقد عرفناكم نحن بماذا نعرف أن حواسنا سليمة وأن عقولنا سليمة ما دامت سالمة وبماذا نعرف الحواس المدخولة والعقول المدخولة وغير المدخولة وهو إجراء ما أدرك بالحواس السليمة والعقول السليمة على رتب محدودة معلومة لا تبدل عن حدودها أبداً وأجرأ ما أدرك بالحواس الفاسدة والعقول المدخولة على غير رتب محدودة فإنهم لا يقدرون على فرق أصلاً وبالله تعالى التوفيق‏:‏ قال أبو محمد‏:‏ وكذلك ما ذكر عمن ليس نبياً من قلب عين أو إحالة طبيعة فهو كذب إلا ما وجد من ذلك في عصر نبي فإنه آية كذلك لذلك النبي وذلك الذي ظهرت عليه آية بمنزلة الجذع الذي ظهر فيه الحنين والذراع الذي ظهر فيه النطق والعصا التي ظهرت فيها الحياة وسواء كان الذي ظهرت فيه الآية صالحاً أو فاسقاً وذلك كنحو النور الذي ظهر في سوط عمر بن حممه الدوسي وبرهان ذلك أنه لم يظهر فيه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن قيل إذا أجزتم أن تظهر المعجزة في غير نبي لكن في عصر نبي لتكون آية لذلك النبي فهلا أجزتموه كذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لتكون آية له أيضاً ولا فرق بين الأمرين قلنا إنما أجزنا ذلك الشيء في الجماد وسائر الحيوان وفيمن شاء الله تعالى إظهار ذلك فيه من الناس ولا نخص بذلك فاضلاً لفضله ولا نمنع ذلك في فاسق لفسقه أو كافر وإنما ننكر على من خص بذلك الفاضل فجعلها كرامة له فلو جاز ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا شكل الأمر ولم نكن في أمن من دعوى من ادعى أنها آية لذلك الفاضل ولذلك الفاسق والإنسان من الناس يدعيها آية له ولو كان ذلك لكان إشكالاً في الدين وتلبيساً من الله تعالى على جميع عباده أولهم عن آخرهم وهذا خلاف وعد الله تعالى لنا وإخباره بأنه قد بين علينا الرشد من الغي وليس كذلك ما كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يكون إلا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وبإخباره وإنذاره فبدت بذلك أنها له لا للذي قال أبو محمد‏:‏ وأما الذي روي في ذلك عن الثلاثة أصحاب الغار وانفراج الصخرة ثلثاً ثلثاً عندما ذكروا من أعمالهم فلا تعلق لهم به لأن تكسير الصخرة ممكن في كل وقت ولكل أحد بلا إعجاز وما كان هكذا فجائز وقوعه بالدعاء وبغير الدعاء لكن وقع وفاقاً لتمنيه كمن دعا في موت عدوه أو تفريج همه أو بلوغ أمنيته في دنياه ولقد حدثني حكم بن منذر بن سعيد أن أباه رحمه الله كان في جماعة في سفرة في صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ونزلوا في ظل جبل ينتظرون الموت قال فأسندت رأسي إلى حجر ناتئ فتأذيت به فقلعته فاندفع الماء العذب من تحته فشربنا وتزودنا ومثل هذا كثير مما يفرج وحتى لو كانت معجزة لوجب بلا شك أن يكونوا أنبياء أو لنبي ممن في زمن نبي لابد مما قدمناه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا عجب أعجب من قول من يجيز قلب الأعيان للساحر وهو عندهم فاسق أو كافر ويجيز مثل ذلك للصالح وللنبي فقد جاز عندهم قلب الأعيان للنبي وللصالح وللفاسق وللكافر فوجب أن قلب الأعيان جائز من كل أحد وبؤساً لقول أدى إلى مثل هذا وهم يجيزون للمغيرة بن سعيد وبيان ومنصور الكشف وقلب الأعيان على سبيل السحر وقد جاء بعدهم من يدعي لهم النبوة بها فاستوى عند هؤلاء المخذولين النبي والساحر نعوذ بالله من الضلال المبين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فان اعترضوا بقول الله تعالى ‏"‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ أجيب دعوة الداع إذا دعان ‏"‏ فهذا حق وإنما هو بلا شك أنه في الممكنات التي علم الله تعالى أنها تكون لا فيما في علم الله تعالى أنها لا تكون ولا في المحال ونسألهم عمن دعا إلى الله تعالى في أن يجعله نبياً أو في أن ينسخ دين الإسلام أو بأن يجعل القيامة قبل وقتها أو يمسخ الناس كلهم قردة أو بأن يجعل له عيناً ثالثة أو بأن يدخل الكفار الجنة أو المؤمنين النار وما أشبه هذا فإن أجازوا كل هذا كفروا ولحقوا مع كفرهم بالمجانين وإن منعوا من كل هذا تركوا استدلالهم بالآيات المذكورة وصح أن الإجابة إنما تكون في خاص من الدعاء لا في العموم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة وخالد هلا شققت عن قلبه لتعلم أ قال ها متعوذا أم لا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلو جاز ظهور المعجزة على غير نبي على سبيل الكرامة لوجب القطع على ما في قلبه وأنه ولي الله تعالى وهذا لا يعلم من أحد بعد الصحابة رضى الله عنهم الذين ورد فيهم النص وأما قول الباقلاني أن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على يد كذاب فهو داخل في جملة تعجيزه الباري تعالى وهو أيضاً تعجيز سخيف داخل في جملة المحال وذلك أنه جعل الله تعالى قادراً على إظهار الآيات على كل ساحر فإن علم أنه يقول أنه نبي لم يقدر على أن يظهرها عليه وهذا قول في غاية الفساد لأن من قدر على شيء لم يجز أن يبطل قوته عليه علمه بأن ذلك الذي يظهر فيه الفعل يقول أنا نبي ولا يتوهم هذا ولا يتشكل في العقل ولا يمكن البتة وإنما هم قوم أهملوا حكم الله تعالى عليهم وأطلقوا حكمهم عليه تعالى وما في الكفر أسمج من هذا ولا أطم ولا أبرد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ورأيت للباقلاني في فصل من كلامه أن الناس ليسوا عاجزين عن مثل هذا القرآن ولا قادرين عليه ولا هم عاجزون عن الصعود إلى السماء ولا عن إحياء الموتى ولا عن خلق الأجسام ولا اختراعها ولا قادرين على ذلك هذا نص كلامه دون تأويل منا عليه ثم قال إن القدرة لا تقع إلا حيث يقع العجز‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذا هوس لا يأتي به إلا الممرور وأطم من ذلك احتجاجه بأن العجز لا يقع إلا حيث تقع القدرة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا الكذب أم في أي عقل وجد هذا السخف وما شك ذو علم باللغة من الخاصة والعامة في بطلان قوله وفي أن العجز ضد القدرة وأن ما قدر الإنسان عليه فلم يعجز عنه في حين قدرته عليه وأن ما عجز عنه فلم يقدر عليه في حين عجزه عنه وإن نفي القدرة إثبات للعجز وأن نفي العجز إثبات للقدرة ما يجهل هذا عامي ولا خاصي أصلاً وهو أيضاً معروف بأول العقل والعجب أن يأتي بمثل هذه الدعاوي السخيفة بغير دليل أصلاً لكن حماقات وضلالات يطلقها هذا الجاهل وأمثاله من الفساق في دين الله تعالى فيتلقفها عنهم من أضله الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان وقد قال الله تعالى ‏"‏ واعلموا أنكم غير معجزي الله ‏"‏ فاقتضى هذا أنهم مقدور عليهم لله تعالى و قال تعالى ‏"‏ ليس بمعجز في الأرض ‏"‏ فوجب أنه مقدور عليه و قال تعالى ‏"‏ والله على كل شيء قدير ‏"‏ فصح أنه غير عاجز وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏

 الكلام في الجن ووسوسة الشيطان

وفعله في المصروع قال أبو محمد‏:‏ لم ندرك بالحواس ولا علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضاً بضرورة العقل لكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها وهو عز وجل يخلق ما يشاء ولا فرق بين أن يخلق خلقاً عنصرهم التراب والماء فيسكنهم الأرض والهواء والماء وبين أن يخلق خلقا عنصرهم النار والهواء فيسكنهم الهواء والنار والأرض بل كل ذلك سواء وممكن في قدرته لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عز وجل على وجود الجن في العالم وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وأجمع المسلمون كلهم على ذلك نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود حاشا السامرة فقط فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلا يخرجهم به عن هذا الظاهر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال قال تعالى ‏"‏ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهم يروننا ولا نراهم قال الله تعالى ‏"‏ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ‏"‏ فصح أن الجن قبيل إبليس قال الله عز وجل ‏"‏ إلا إبليس كان من الجن ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإذ أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام فذلك معجزة لهم كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان ولولا ذلك لأصبح موثقا يراه أهل المدينة أو كما قال عليه السلام وكذلك في رواية عن أبي هريرة الذي رأى إنما هي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهم أجسام رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم وعنصرهم النار كما أن عنصرنا التراب وبذلك جاء القرآن قال الله عز وجل ‏"‏ والجان خلقناه من قبل من نار السموم ‏"‏ والنار والهواء عنصران لا ألوان لهما وإنما حدث اللون في النار المشتعلة عندنا لامتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان والأدهان وغير ذلك ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ولو لم يكونوا أجساما صافية رقاقا هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس وصح النص بأنهم يوسوسون في صدور الناس وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فوجب التصديق بكل ذلك حقيقة وعلمنا أن الله عز وجل جعل لهم قوة يتوصلون بها إلى قذف ما يوسوسون به في النفوس برهان ذلك قول الله تعالى ‏"‏ من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ‏"‏ ونحن نشاهد الإنسان يرى من له عنده ثار فيضطرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته ويرى من يحب فيثور له حال أخرى ويبتهج وينبسط ويرى من يخاف فتحدث له حال أخرى من صفرة ورعشة وضعف نفس ويشير إلى إنسان آخر بإشارات يحل بها طبائعه فيغضبه مرة ويخجله أخرى ويفزعه ثالثة ويرضيه رابعة وكذلك يحيله أيضا بالكلام إلى جميع هذه الأحوال فعلمنا أن الله عز وجل جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف فيها بما يستدعونها إليه نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ومن شرار الناس وهذا هو جريه من ابن آدم مجرى الدم كما قال الشاعر‏:‏ قال أبو محمد‏:‏ وأما الصرع فان الله عز وجل قال ‏"‏ الذي يتخبطه الشيطان من المس ‏"‏ فذكر عز وجل تأثير الشيطان في المصروع إنما هو بالمماسة فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئا ومن زاد على هذا شيئا فقد قال ما لا علم له به وهذا حرام لا يحل قال عز وجل ‏"‏ ولا تقف ما ليس لك به علم ‏"‏ وهذه الأمور لا يمكن أن تعرف البتة إلا بخبر صحيح عنه صلى الله عليه وسلم ولا خبر عنه عليه السلام بغير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه كما جاء في القرآن يثير به طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم فيحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا أجنحت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات أو كما قال عليه السلام مما هذا معناه بلا شك فقد قلنا أنه عليه السلام لا يقول إلا الحق وأن كلامه كله على ظاهره إلا أن يأتي نص بأن هذا النص ليس على ظاهره فنسمع ونطيع أي يقوم بذلك برهان من ضرورة حس أو أول عقل فنعلم أنه عليه السلام إنما أراد ما قد قام بصحته البرهان لا يجوز غير ذلك وقد علمنا يقينا أن الشمس في كل دقيقة طالعة على أفق من الآفاق مرتفعة على آخر مستوية على ثالث زائلة عن رابع جانحة للغروب على خامس غاربة على سادس هذا ما لاشك فيه عند كل ذي علم بالهيئة فإذ ذلك كذلك فقد صح يقينا أنه عليه السلام إنما عني بذلك أفقا ما دون سائر الآفاق لا يجوز غير ذلك إذ لو أراد كل أفق لكان الإخبار بأنه يفارقها كذبا وحاشا له من ذلك فإذ لا شك في هذا كله فلا مرية أنه عليه الصلاة والسلام إنما عني به أفق المدينة إذ هو الأفق الذي أخبر أهله بهذا الخبر فأنبأهم بما يقارن الشمس في تلك الأحوال وما يفارقها من الشيطان والله أعلم بذلك القرآن ما هو لا نزيد على هذا إذ لا بيان عندنا فيما بينه إلا أنه ليس شيء من ذلك بممتنع أصلاً فصح بما ذكرنا أن أول الخبر خاص كما وصفنا وأن نهيه عن الصلاة في الأوقات قصة أخرى وقضية ثانية وحكم غير الأول فهو على عمومه في كل زمان وكل مكان إلا ما قام البرهان على تخصيصه من هذا الحكم بنص آخر كما بينا في غير هذا الكتاب في كتب الصلاة من تآليفنا والحمد لله رب العالمين كثيرا‏.‏

 الكلام في الطبائع

قال أبو محمد‏:‏ ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة و قال وا ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في العالم طبيعة أصلاً و قال وا إنما حدث حر النار جملة وبرد الثلج عند الملامسة قال وا ولا في الخمر طبيعة إسكار ولا في المني قوة يحدث بها حيوان ولكن الله عز وجل يخلق منه ما شاء وقد كان ممكنا أن يحدث من مني الرجال جملا ومن مني الحمار إنسانا ومن زريعة الكزبر نخلا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلاً وقد ناظرت بعضهم في ذلك فقلت له إن اللغة التي نزل بها القرآن تبطل قولكم لأن من لغة العرب القديمة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة والبحيرة والغريزة والسجية والسيمة والجبلة بالجيم ولا يشك ذو علم في أن هذه الألفاظ استعملت في الجاهلية وسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكرها قط ولا أنكرها أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا أحد ممن بعدهم حتى حدث من لا يعتد به وقد قال امرؤ القيس‏:‏ وإن كنت قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل و قال حميد بن ثور الهلالي الكندي‏:‏ لكل امرئ يا أم عمرو طبيعة وتفرق ما بين الرجال الطبائع و قال النابغة‏:‏ لهم سيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير عوازب و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارود إذ أخبره أن فيه الحلم والأناة فقال له الجارود الله جبلني عليهما يا رسول الله أم هما كسب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل الله جبلك عليهما ومثل هذا كثير وكل هذه الألفاظ أسماء مترادفة بمعنى واحد عندهم وهو قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه فاضطرب ولجأ إلى أن قال أقوال بهذا في الناس خاصة فقلت له وأني لك بالتخصيص وهذا موجود بالحس وببديهة العقل في كل مخلوق في العالم فلم يكن عنده تمويه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن سموا ما تأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة لأنهم جعلوا امتناع شق القمر وشق البحر وامتناع إحياء الموتى وإخراج ناقة من صخرة وسائر معجزاتهم إنما هي عادات فقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ معاذ الله من هذا ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجاز أصلاً لأن المادة في لغة العرب والدأب والدين والديدان والهجري ألفاظ مترادفة على معنى واحد وهي في أكثر استعمال الإنسان له مما لا يؤمن تركه إياه ولا ينكر زواله عنه بل هو ممكن وجود غيره ومثله بخلاف الطبيعة التي الخروج عنها ممتنع فالعادة في استعمال العرب العامة التلحي وحمل القناة وتحمل بعض الناس القلنسوة وكاستعمال بعضهم حلق الشعر وبعضهم توفيره‏.‏

تقول وقد دارت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني و قال آخر ومن عاداته الخلق الكريم‏.‏

و قال آخر‏:‏ قد عود الطير عادات وثقن بها فهن يصحبنه في كل مرتحل و قال آخر عودت كندة عادات فصبرا لها‏.‏

و قال آخر‏:‏ وشديد عادة منتزعه‏.‏

فذكر أن انتزاع العادة يشتد إلا أنه ممكن غير ممتنع بخلاف إزالة الطبيعة التي لا سبيل إليها وربما وضعت العرب لفظة العادة مكان لفظة الطبيعة كما قال حميد بن ثور الهلالي‏:‏ سلي الربع إن يممت يا أم سالم وهل عادة للربع أن يتكلما قال أبو محمد‏:‏ وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة خلقها الله عز وجل فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبدا ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكنا له التصرف في العلوم والصناعات إن لم يعترضه آفة وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك وكطبيعة البر أن لا ينبت شعيرا ولا جوزا وهكذا كل ما في العالم والقوم مقرون بالصفات وهي الطبيعة نفسها لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي به لا يتوهم زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت خلاً وبطل اسم الخمر عنها وكصفات الخبز واللحم التي إذا زالت عنها صارت زبلا وسقط اسم الخبز واللحم عنهما وهكذا كل شئ له صفة ذاتية فهذه هي الطبيعة ومن الصفات المحمولة في الموصوف ما لو توهم زواله عنه لم يبطل حامله ولا فارقه اسمه وهذا القسم ينقسم أقساما ثلاثة فأحدها ممتنع الزوال كالغطس والقصر والزرق وسواد الزنجي ونحو ذلك إلا أنه لو توهم زايلا لبقي الإنسان إنسانا بحاله وثانيها بطيء لزوال كالمرودة وسواد الشعر وما أشبه ذلك وثالثها سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل وكمدة الهم ونحو ذلك فهذه هي حقيقة الكلام في الصفات وما عدا ذلك فطريق السوفسطائية الذين لا يحققون حقيقة ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

 نبوة النساء

قال أبو محمد‏:‏ هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظيم فيه إلا عندنا بقرطبة وفي زماننا فإن طائفة ذهبت إلى إبطال كون النبوة في النساء جملة وبدعت من قال ذلك وذهبت طائفة إلى القول بأنه قد كانت في النساء نبوة وذهبت طائفة إلى التوقف في ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلاً إلا أن بعضهم نازع في ذلك بقول الله قال أبو محمد‏:‏ وهذا أمر لا ينازعون فيه ولم يدع أحد أن الله تعالى أرسل امرأة وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة فوجب طلب الحق في ذلك بأن ينظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عز وجل فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الأنباء وهو الإعلام فمن أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون أو أوحي إليه منبئا له بأمر ما فهو نبي بلا شك وليس هذا من باب الإلهام الذي هو طبيعة كقول الله تعالى ‏"‏ وأوحى ربك إلى النحل ‏"‏ ولا من باب الظن والتوهم الذي لا يقطع بحقيقته إلا مجنون ولا من باب الكهانة التي هي من استراق الشياطين السمع من السماء فيرمون بالشهب الثواقب وفيه يقول الله عز وجل ‏"‏ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ‏"‏ وقد انقطعت الكهانة بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من باب النجوم التي هي تجارب تتعلم ولا من باب الرؤيا التي لا يدري أصدقت أم كذبت بل الوحي الذي هو النبوة قصد من الله تعالى إلى إعلام من يوحي إليه بما يعلمه به ويكون عند الوحي به إليه حقيقة خارجة عن الوجوه المذكورة يحدث الله عز وجل لمن أوحى به إليه علما ضروريا بصحة ما أوحي به كعلمه بما أدرك بحواسه وبديهة عقله سواء لا مجال للشك في شيء منه إما بمجئ الملك به إليه وإما بخطاب يخاطب به في نفسه وهو تعليم من الله تعالى لمن يعلمه دون وساطة معلم فإن أنكروا أن يكون هذا هو معنى النبوة فليعرفونا ما معناها فإنهم لا يأتون بشيء أصلاً فإذ ذلك كذلك فقد جاء القرآن بأن الله عز وجل أرسل ملائكة إلى نساء فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى فبشروا أم إسحاق بإسحاق عن الله تعالي قال عز وجل ‏"‏ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ‏"‏ فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن الله عز وجل بالبشارة لها بإسحاق ثم يعقوب ثم بقولهم لها أتعجبين من أمر الله ولا يمكن البتة أن يكون هذا الخطاب من ملك لغير نبي بوجه من الوجوه ووجدناه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم عيسى عليهما السلام بخطابها و قال لها ‏"‏ إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ‏"‏ فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح ورسالة من تعالى إليها وكان زكريا عليه السلام يجد عندها من الله تعالى رزقا واردا تمنى من أجله ولدا فاضلا ووجدنا أم موسى عليهما الصلاة والسلام قد أوحى الله إليها بإلقاء ولدها في اليم وأعلمها أنه سيرده إليها ويجعله نبيا مرسلا فهذه نبوة لا شك فيها وبضرورة العقل يدري كل ذي تمييز صحيح أنها لو لم تكن واثقة بنبوة الله عز وجل لها لكانت بإلقائها ولدها في اليم برؤيا تراها أو بما يقع في نفسها أو قام في هاجستها في غاية الجنون والمرار الهائج ولو فعل ذلك أحدنا لكان غاية الفسق أو في غاية الجنون مستحقا لمعاناة دماغه في البيمارستان لا يشك في هذا أحد فصح يقينا أن الوحي الذي ورد لها في إلقاء ولدها في اليم كالوحي الوارد على إبراهيم في الرؤيا في ذبح ولده لكنه ذبح ولده لرؤيا رآها أو ظن وقع في نفسه لكان بلا شك فاعل ذلك من غير الأنبياء فاسقا في نهاية الفسق أو مجنونا في غاية الجنون هذا ما لا يشك فيه أحد من الناس فصحت نبوتهن بيقين ووجدنا الله تعالى قد قال وقد ذكر من الأنبياء عليهم السلام في سورة كهعيص ذكر مريم في جملتهم ثم قال عز وجل ‏"‏ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏"‏ وهذا هو عموم لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم وليس قوله عز وجل وأمه صديقة بمانع من أن تكون نبية فقد قال تعال ‏"‏ يوسف أيها الصديق ‏"‏ وهو مع ذلك نبي رسول وهذا ظاهر وبالله تعالى التوفيق ويلحق بهن عليهن السلام في ذلك امرأة فرعون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون أو كما قال عليه الصلاة والسلام والكمال في الرجال لا يكون إلا لبعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن من دونهم ناقص عنهم بلا شك وكان تخصيصه صلى الله عليه وسلم مريم وامرأة فرعون تفضيلا لهما على سائر من أوتيت النبوة من النساء بلا شك إذ من نقص عن منزلة آخر ولو بدقيقة فلم يكمل فصح بهذا الخبر أن هاتين المرأتين كملتا كمالا لم يلحقهما فيه امرأة غيرهما أصلاً وإن كن بنصوص القرآن نبيات وقد قال تعالى ‏"‏ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ‏"‏ فالكامل في نوعه هو الذي لا يلحقه أحد من أهل نوعه فهم من الرجال الرسل الذين فضلهم الله تعالى على سائر الرسل ومنه نبينا وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام بلا شك للنصوص الواردة بذلك في فضلهما على غيرهما وكمل من النساء من ذكر عليه الصلاة والسلام‏.‏

 الكلام في الرؤيا

قال أبو محمد‏:‏ ذهب صالح تلميذ النظام إلى أن الذي يري أحدنا في الرؤيا حق كما هو وأنه من رأى أنه بالصين وهو بالأندلس فإن الله عز وجل اخترعه في ذلك الوقت بالصين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا القول في غاية الفساد لأن العيان والعقل يضطران إلى كذب هذا القول وبطلانه أما العيان فلأننا نشاهد حينئذ هذا النائم عندنا وهو يرى نفسه في ذلك الوقت بالصين وأما من طريق العقل فهو معرفتنا بما يرى الحالم من المحالات من كونه مقطوع الرأس حيا وما أشبه ذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا قص عليه رؤيا فقال لا تخبر بتلعب الشيطان بك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والقول الصحيح في الرؤيا هو أنها أنواع فمنها ما يكون من قبل الشيطان وهو ما كان من الأضغاث والتخليط الذي لا ينضبط ومنها ما يكون من حديث النفس وهو ما يشتغل به المرء في اليقظة فيراه في النوم من خوف عدو أو لقاء حبيب أو خلاص من خوف أو نحو ذلك ومنها ما يكون من غلبة الطبع كرؤية من غلب عليه الدم للأنوار ولزهر والحمرة والسرور ورؤية من غلب عليه الصفراء للنيران ورؤية صاحب البلغم للثلوج والمياه وكرؤية من غلب عليه السوداء الكهوف والظلم والمخاوف ومنها ما يريه الله عز وجل نفس الحالم إذا صفت من أكدار الجسد وتخلصت من الأفكار الفاسدة فيشرف الله تعالى به على كثير من المغيبات التي لم تأت بعد وعلى قدر تفاضل النفس في النقاء والصفاء يكون تفاضل ما يراه في الصدق وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبق بعده من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له وأنها جزء من ستة وعشرين جزأ من النبوة إلى جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة إلى جزء من سبعين جزأ من النبوة وهذا نص جلي على ما ذكرنا من تفاضلها في الصدق والوضوح والصفاء من كل تخليط وقد تخرج هذه النسب والأقسام على أنه عليه السلام إنما أراد بذلك رؤيا الأنبياء عليهم السلام فمنهم من رؤياه جزء من ستة وعشرين جزأ من أجزاء نبوته وخصائصه وفضائله ومنهم من رؤياه جزء من ستة وأربعين جزأ من نبوته وخصايصه وفضايله ومنهم من رؤياه جزء من سبعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وهذا هو الأظهر والله أعلم ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل بتكلف وأما رؤيا غير الأنبياء فقد تكذب وقد تصدق إلا أنه لا يقطع على صحة شيء منه إلا بعد ظهور صحته حاشا رؤيا الأنبياء فإنها كلها وحي مقطوع على صحته كرؤيا إبراهيم عليه السلام ولو رأى ذلك غير نبى في الرؤيا فأنفذه في اليقظة لكان فاسقا عابثا أو مجنونا ذاهب التمييز بلا شك وقد تصدق رؤيا الكافر ولا تكون حينئذ جزأ من النبوة ولا مبشرات ولكن إنذارا له أو لغيره ووعظا وبالله تعالي التوفيق‏.‏

 الكلام في أي الخلق أفضل

قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلا أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة وذهبت طائفة تنتسب إلى الإسلام أن الصالحين غير النبيين أفضل من الملائكة وذهب بعضهم إلى أن الولي أفضل من النبي وأنه يكون في هذه الأمة من هو أفضل من عيسى بن مريم ورأيت الباقلاني يقول جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين بعث إلى أن مات ورأيت لأبي هاشم الجبائى أنه لو طال عمر إنسان من المسلمين في الأعمال الصالحة لأمكن أن يوازي عمل النبي صلى الله عليه وسلم كذب لعنه الل‏.‏

ه قال أبو محمد‏:‏ ولولا أنه استحيا قليلا مما لم يستحي من نظيره الباقلاني ل قال ما يوجبه هذا القول من أنه كان يزيد فضلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه الأقوال كفر مجرد لا تردد فيه وحاشا لله تعالى من أن يكون أحد ولو عمر عمر الدهر يلحق فضل صاحب فكيف فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نبي من الأنبياء عليهم السلام فكيف يكون أفضل من رسول الله صلى لله عليه وسلم هذا ما لا تقبله نفس مسلم كأنهم ما سمعوا قول الله عز وجل ‏"‏ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ‏"‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فكيف يلحق أبدا من أن تصدق هو بمثل جبل أحد ذهبا وتصدق الصاحب بنصف مد من شعير كان نصف مد الشعير لا يلحقه في الفضل جبل الذهب فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم قال أهل الحق أن الملائكة أفضل من كل خلق حلقه الله تعالى ثم بعدهم الرسل من النبيين عليهم السلام ثم بعدهم الأنبياء غير الرسل عليهم السلام ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رتبنا قبل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجن له من الفضل ما لسائر الصحابة بعموم قوله صلى الله عليه وسلم دعوا إلي أصحابي وأفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم أما فضل الملائكة على الرسل من غير الملائكة فلبراهين منها قول الله عز وجل أمراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ‏"‏ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ‏"‏ فلو كان الرسول أرفع من الملك أو مثله ما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول الذي إنما قال ه منحطا عن الترفع بأن يظن أنه عنده حزائن الله أو أنه يعلم الغيب أو أنه ملك منزل لنفسه المقدسة في مرتبته التي هي دون هذه المراتب بلا شك إذ لا يمكن البتة أن يقول هذا عن مراتب هو أرفع منها وأيضا فأن الله عز وجل ذكر محمدا الذي هو أفضل الرسل بعد الملائكة وذكر جبريل عليهما السلام وكان التباين من الله عز بينهما تبايناً بعيدا وهو أنه عز وجل قال ‏"‏ إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ‏"‏ فهذه صفة جبريل عليه السلام ثم ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ وما صاحبكم بمجنون ‏"‏ ثم زاد تعالى بيانا رافعا للإشكال جملة فقال ‏"‏ ولقد رآه بالأفق المبين ‏"‏ فعظم الله تعالى من شأن أكرم الأنبياء والرسل بأن رأى جبريل عليه السلام ثم قال ‏"‏ ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى ‏"‏ فأمتن الله تعالى كما ترى على محمد صلى الله عليه وسلم بأن أراه جبريل مرتين وإنما يتفاضل الناس كما قدمنا بوجهين فقط أحدهما الاختصاص المجرد وأعظم الاختصاص الرسالة والتعظيم فقد حصل ذلك للملائكة قال تعالى ‏"‏ جاعل الملائكة رسلا ‏"‏ فهم كلهم رسل الله ثم اختصهم تعالى بأن ابتدأهم في الجنة وحوالي عرشه في المكان الذي وعد رسله ومن اتبعهم بأن نهاية كرامتهم مصيرهم إليه وهو موضع خلق الملائكة ومحلهم بلا نهاية مذ خلقوا وذكرهم عز وجل في غير موضع من كتابه فأثنى على جميعهم ووصفهم بأنهم لا يفترون ولا يسأمون ولا يعصون الله فنفي عنهم الزلل والفترة والسآمة والسهو وهذا أمر لم ينفه عز وجل عن الرسل صلوات الله عليهم بل السهو جائز عليهم وبالضرورة نعلم من عصم من السهو أفضل ممن لم يعصم منه وأن من عصم من العمد كالأنبياء عليهم السلام أفضل ممن لم يعصم ممن سواهم فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل ‏"‏ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ‏"‏ قيل له ليس هذا معارضا لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فإن كل آية فإنما تحمل على مقتضاها وموجب لفظها ففي هذه الآية إن بعض الملائكة رسل وهذا حق لا شك فيه وليس إخبارا عن سائرهم بشيء لا بأنهم رسل ولا بأنهم ليسوا رسلا فلا يحل لأحد أن يزيد في الآية ما ليس فيها ثم في الآية الأخرى زيادة على ما في هذه الآية وإخبار بأن جميع الملائكة رسل ففي تلك الآية بعض ما في هذه الآية وفي هذه الآية كل ما في تلك وزيادة ففرض قبول كل ذلك كما أن الله عز وجل إذ ذكر في كهعيص من ذكر من النبيين فقال ‏"‏ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏"‏ وقد قال تعالى ‏"‏ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ‏"‏ أفترى الرسل الذين لم يقصصهم الله تعالى عليه جملة أو في هذه السورة خاصة لم ينعم عليهم معاذ الله من هذا فما يقوله مسلم والوجه الثاني من أوجه الفضل هو تفاضل العاملين بتفاضل منازلهم في أعمال الطاعة والعصمة من المعاصي والدنيات وقد نص الله تعالى على أن الملائكة لا يفترون من الطاعة ولا يسأمون منها ولا يعصون البتة في شيء أمروا به فقد صح أن الله عز وجل عصمهم من الطبائع الناقصة الداعية إلى الفتور والكسل كالطعام والتغوط وشهوة الجماع والنوم فصح يقينا أنهم أفضل من الرسل الذين لم يعصموا من الفتور والكسل ودواعيهما‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج بعض المخالفين في هذا بأن قال قال الله عز وجل ‏"‏ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ‏"‏ قال وا فدخل في العالمين الملائكة وغيرهم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه الآية قد صح البرهان بأنها ليست على عمومها لأنه تعالى لم يذكر فيها محمدا صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في أنه أفضل الناس قال الله تعالى ‏"‏ كنتم خير أمة أخرجت للناس ‏"‏ فإن قال أن آل إبراهيم هم آل محمد قيل له فنحن إذا أفضل من جميع الأنبياء حاشا آل عمران وآدم ونوحا فقط وهذا لا يقوله مسلم فصح يقينا أن هذه الآية ليست على عمومها فإذ لاشك في ذلك فقد صح أن الله عز وجل إنما أراد بها عالمي زمانهم من الناس لا من الرسل ولا من النبين نعم ولا من عالمي غير زمانهم أننا بلا شك أفضل من آل عمران فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة وبالله تعالى التوفيق وصح أنها مثل قوله تعالى ‏"‏ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين ‏"‏ ولا شك في أنهم لم يفضلوا على الرسل ولا على النبيين ولا على أمتنا ولا على الصالحين من غيرهم فكيف على الملائكة ونحن لا ننكر إزالة للنص عن ظاهره وعمومه ببرهان من نص آخر أو إجماع متيقن أو ضرورة حس وإنما ننكر ونمنع من إزالة النص عن ظاهره وعمومه بالدعوى فهذا هو الباطل الذي لا يحل في دين ولا يصح في إمكان العقل وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وذكر بعضهم قول الله عز وجل ‏"‏ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ‏"‏ قال أبو محمد‏:‏ وهذا مما لاحجة لهم فيه أصلاً لأن هذه الصفة تعم كل مؤمن صالح من الإنس ومن الجن نعم وجميع الملائكة عموما مستويا فإنما هذه لآية تفضيل الملائكة والصالحين من اإنس والجن على سائر البرية وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا أعظم حجة عليهم لأن السجود المأمور به لا يخلو من أن يكون سجود عبادة وهذا كفر ممن قال ه ولا يجوز أن يكون الله عز وجل يأمر أحداً من خلقه بعبادة غيره وإما ان يكون سجود تحية وكرامة وهو كذلك بلا خلاف من أحد من الناس فإذ هو كذلك فلا دليل أدل على فضل الملائكة على آدم من أن يكون الله تعالى بلغ الغاية في إعظامه وكرامته بأن تحييهم الملائكة لأنهم لو كانوا دونه لم يكن له كرامة ولا مزية في تحيتهم له وقد أخبر الله عز وجل يوسف عليه السلام فقال ‏"‏ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ‏"‏ وكانت رؤياه هي التي ذكر الله عز وجل عنه إذ يقول ‏"‏ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وليس في سجود يعقوب عليه السلام ليوسف ما يوجب أن يوسف أفضل من يعقوب واحتجوا أيضا بأن الملائكة لم يعلموا أسماء الأشياء حتى أنبأهم بها آدم على جميعهم السلام بتعليم الله عز وجل آدم إياها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عز وجل يعلم من هو أنقص فضلا وعلما في الجملة أشياء لا يعلمها من هو أفضل منه وأعلم منه بما عدا تلك الأشياء فعلم الملائكة ما لا يعلمه آدم وعلم آدم أسماء الأشياء ثم أمره بأن يعلمها الملائكة كما خص الخضر عليه السلام بعلم لم يعلمه موسى عليه السلام حتى اتبعه موسى عليه السلام ليتعلم منه وعلم أيضا موسى عليه السلام علوما لم يعلمها الخضر وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الخضر قال لموسى عليه السلام إنى على علم من علم الله لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله لا أعلمه أنا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولي في هذا أن الخضر أفضل من موسى عليه السلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد قال بعض الجهال إن الله تعالى جعل الملائكة خدام أهل الجنة يأتونهم بالتحف من عند ربهم عز وجل قال تعالى ‏"‏ تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما خدمة الملائكة لأهل الجنة وإقبالهم إليهم بالتحف فشيء ما علمناه قط ولا سمعناه إلا من القصاص بالخرافات والتكاذيب وإنما الحق من ذلك ما ذكره الله عز وجل في النص الذي أوردنا وهو ولله الحمد من أقوى الحجج في فضل الملائكة على من سواهم ويلزم هذا المحتج إذ كان إقبال الملائكة بالبشارات إلى أهل الجنة دليلا على فضل أهل الجنة عليهم أن يكون إقبال الرسل إلينا مبشرين ومنذرين بالبشارات من عند الله عز وجل دليلا على أننا أفضل منهم وهذا كفر مجرد ولكن الحقيقة هي أن الفضل إذ كان للأنبياء عليهم السلام على الناس بأنهم رسل الله اليهم ووسائط بين ربهم تعالى وبينهم فالفضل واجب للملائكة على الأنبياء والرسل لكونهم رسل الله تعالى إليهم ووسائط بينهم وبين ربهم تعالى وأما تفضل الله تعالى على أهل الجنة بالأكل والشرب والجماع واللباس والآلات والقصور فإنما فضلهم الله عز وجل من ذلك بما يوافق طباعهم وقد نزه الله سبحانه الملائكة عن هذه الطبائع المستدعية لهذه اللذات بل أبانهم وفضلهم بل جعل طبائعهم لا تلتذ بشئ من ذلك إلا بذكر الله عز وجل وعبادته وطاعته في تنفيذ أوامره تعالى فلا منزلة أعلى من هذه وعجل لهم سكنى المحل الرفيع الذي جعل تعالى غاية إكرامنا الوصول إليه بعد لقاء الأمرين في التعب في عمارة هذه الدنيا النكدة وفي كلف الأعمال ففي ذلك المكان خلق الله عز وجل الملائكة منذ ابتدأهم وفيه خلدهم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ و قال بعض السخفاء أن الملائكة بمنزلة الهواء والرياح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كذب وقحة وجنون لأن الملائكة بنص القرآن والسنن وإجماع جميع من يقر بالملائكة من أهل الأديان المختلفة عقلا متعبدون منهيون مأمورون وليس كذلك الهواء والرياح لكنها لا تعقل ولا هي متكلفة متعبدة بل هي مسخرة مصرفة ولا اختيار لها قال تعالى ‏"‏ والسحاب المسخر بين السماء والارض ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام ‏"‏ وذكر تعالى الملائكة فقال ‏"‏ بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ويستغفرون لمن في الأرض ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ‏"‏ فقرن تعالى نزول الملائكة برؤيته تعالى وقرن تعالى إتيانه بإتيان الملائكة فقال عز وجل ‏"‏ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ‏"‏ واعلم أن إعراب الملائكة هاهنا بالرفع عطفا على الله عز وجل لا على الغمام ونص تعالى على أن آدم عليه الصلاة والسلام إنما أكل من الشجرة ليكون ملكا أو ليخلد كما قص تعالى علينا إذ يقول عز وجل ‏"‏ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبيقين ندري أن آدم عليه السلام لولا يقينه بأن الملائكة أفضل منه وطمعه بأن يصير ملكا لما قبل من أبليس ما غره به من أكل الشجرة التي نهاه الله عز وجل عنها ولو علم آدم أن الملك مثله أو دونه لما حمل نفسه على مخالفة أمر الله تعالى لينحط عن منزلته الرفيعة إلى الدون هذا ما لايظنه ذو عقل أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ و قال عز وجل ‏"‏ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ‏"‏ فقوله عز وجل بعد ذكر المسيح ولا الملائكة المقربون بلوغ الغاية في علو درجتهم على المسيح عليه السلام لأن بنية الكلام ورتبته إنما هي إذا أراد القائل نفي صفة ما عن متواضع عنها أن يبدأ بالأدني ثم بالأعلى وإذا أراد نفي صفة ما عن مترفع عنها أن يبدأ بالأعلى ثم بالأدني فنقول في القسم الأول ما يطمع في الجلوس بين يدي الخليفة خازنه ولا وزيره ولا أخوه ونقول في القسم الثاني ما ينحط إلى الأكل في السوق وال ولا ذو مرتبة ولا متصاون من التجار أو الصناع لا يجوز البتة غير هذا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة من نور وخلق الإنسان من طين وخلق الجن من نار‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا يجهل فضل النور على الطين وعلى النار أحد إلا من لم يجعل الله له نورا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ربه في أن يجعل في قلبه نورا فالملائكة من جوهر دعا أفضل البشر ربه في أن يجعل في قلبه منه وبالله تعالى التوفيق وفي هذا كفاية لمن عقل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ و قال عز وجل ‏"‏ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ‏"‏ فإنما فضل الله تعالى بنص كلامه عز وجل بني آدم على كثير ممن خلق لا على كل من خلق وبلا شك أن بنى آدم يفضلون على الجن وعلى جميع الحيوان الصامت وعلى ما ليس حيوانا فلم يبق خلق يستثني من تفضيل الله تعالى بني آدم عليه إلا الملائكة فقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل رسول قبله فالثابت عنه عليه السلام أنه قال فضلت على الأنبياء بست وروي بخمس وروي بأربع وروي بثلاث رواه جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وبقوله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وإنه عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وأنه عليه السلام أكثر الأنبياء اتباعا وأنه ذو الشفاعة التي يحتاج إليها يوم القيامة فيها النبيون فمن دونهم أماتنا الله على ملته ولا خالف بنا عنع وهو أيضاً عليه السلام خليل الله وكليمه‏.‏

الكلام في الفقر والغنى

قال أبو محمد‏:‏ اختلف قوم في أي الأمرين أفضل الفقر أم الغنى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا سؤال فاسد لأن تفاضل العمل والجزاء في الجنة إنما هو العامل لا الحالة محمولة فيه إلا أن يأتي نص بتفضيل الله عز وجل حالا على حال وليس هاهنا نص في فضل إحدى هاتين الحالتين على الأخرى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإنما الصواب أن ي قال أيما أفضل الغني أم الفقير والجواب هاهنا هو ما قال ه الله تعالى إذا يقول ‏"‏ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ‏"‏ فإن كان الغني أفضل عملا من الفقير فالغنى أفضل وإن كان الفقير أفضل عملا من الغنى فالفقير أفضل وإن كان عملهما متساويا فهما سواء قال عز وجل ‏"فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ‏"‏ وقد استعاذ النبي صلى الله عليه ومن فتنة الفقر وفتنة الغنى وجعل الله عز وجل الشكر بإزاء الغنى والصبر بإزاء الفقر فمن أبقى الله عز وجل فهو الفاضل غنيا كان أو فقيرا وقد اعترض بعضهم ها هنا بالحديث الوارد أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بكذا وكذا خريفا ونازع الآخرون بقول الله عز وجل ‏"‏ ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والغنى نعمة إذا قام بها حاملها بالواجب عليه فيها وأما فقراء المهاجرين فهم كانوا أكثر وكان الغني فيهم قليلا والأمر كله منهم وفي غيرهم راجع إلى العمل بالنص والإجماع على أنه تعالى لا يجزي بالجنة على فقر ليس معه عمل خير ولا على غنى ليس معه عمل خير وبالله التوفيق‏.‏

 الكلام في الاسم والمسمى

قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن الاسم هو المسمي و قال آخرون الاسم غير المسمى واحتج من قال أن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى ‏"‏ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ‏"‏ ويقرأ أيضا ذو الجلال والإكرام قال ولا يجوز أن ي قال تبارك غير الله فلو كان الاسم غير المسمى ما جاز أن ي قال تبارك اسم ربك وبقوله تعالى ‏"‏ سبح اسم ربك الأعلى ‏"‏ فقالوا ومن الممتنع أن يأمر الله عز وجل بأن يسبح غيره وبقوله عز وجل ‏"‏ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ‏"‏ و قال وا الاسم مشتق من السمو وأنكروا على من قال أنه مشتق من الوسم وهو العلامة وذكروا قول لبيد ‏"‏ إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر و قال وا قال سيبويه الأفعال أمثلة احدث من لفظ أحداث الأسماء قال وا وإنما أراد المسمين هذا كل ما احتجوا به قد تقصيناه لهم ولا حجة لهم في شئ منه أما قول الله عز وجل تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام وذو الجلال فحق ومعنى تبارك تفاعل من البركة والبركة واجبة لاسم الله عز وجل الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء ونحن نتبرك بالذكر له وبتعظيمه ونجله ونكرمه فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى وله الإكرام من الله تعالى ومنا حيثما كان من قرطاس أو في شيء منقوش فيه أو مذكور بالألسنة ومن لم يجل اسم الله عز وجل كذلك ولا إكرامه فهو كافر بلا شك فالآية على ظاهرها دون تأويل فبطل تعلقهم بها جملة ولله تعالى الحمد وكل شيء نص الله تعالى عليه أنه تبارك فذلك حق ولو نص تعالى بذلك على أي شئ كان من خلقه كان واجبا لذلك الشيء وأما قوله تعالى ‏"‏ سبح اسم ربك الأعلى ‏"‏ فهو على ظاهره دون تأويل لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عز وجل هو تنزيه الشئ عن السوء وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقا به ووجه آخر وهو أن معني قوله تعالى ‏"‏ سبح اسم ربك الأعلى ‏"‏ ومعنى قوله تعالى ‏"‏ إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ‏"‏ معنى واحد وهو أن يسبح الله تعالى باسمه ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص ولا فرق بين قوله تعالى ‏"‏ فسبح باسم ربك العظيم ‏"‏ وبين قوله ‏"‏ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏"‏ والحمد بلا شك هو غير الله وهو تعالى نسبح بحمده كما نسبح باسمه ولا فرق فبطل تعلقهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما قوله تعالى ‏"‏ ما تعبدون من دونه إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ‏"‏ فقول الله عز وجل حق على ظاهره ولهذه الآية وجهان كلاهما صحيح أحدهما أن معنى قوله عز وجل ‏"‏ ما تعبدون من دونه إلا أسماء أي إلا أصحاب أسماء برهان ‏"‏ هذا قوله تعالى إثر ذلك متصلا بها سميتموها أنتم وآباؤكم فصح يقينا أنه تعالى لم يعن بالأسماء هاهنا ذوات المعبودين لأن العابدين لها لم يحدثوا قط ذوات المعبودين بل الله تعالى توحد بإحداثها هذا ما لا شك فيه والوجه الثاني أن أؤلئك الكفار إنما كانوا يعبدون أوثانا من حجارة أو بعض المعادن أو من خشب وبيقين ندري انهم قبل أن يسموا تلك الجمل من الحجارة ومن المعادن ومن الخشب باسم اللات والعزي ومناة وهبل وود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وبعل قد كانت ذواتها بلا شك موجودات قائمة وهم لا يعبدونها ولا تستحق عندهم عبادة فلما أوقعوا عليها هذه الأسماء عبدوها حينئذ فصح يقينا أنهم لم يقصدوا بالعبادة إلا الأسماء كما قال الله تعالى لا الذوات المسميات فعادت الآية حجة عليهم وبرهانا على أن الاسم غير المسمي بلا شك وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن الاسم مشتق من السمو وقول بعض من خالفهم انه مشتق من الوسم فقولان فاسدان كلاهما باطل افتعله أهل النحو لم يصح قط عن العرب شيئا منهما وما اشتق لفظ الاسم قط من شيء بل هو اسم موضوع مثل حجر وجبل وخشبة وسائر الأسماء لا اشتقاق لها وأول ما تبطل به دعواهم هذه الفاسدة أن ي قال لهم قال الله عز وجل ‏"‏ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ‏"‏ فصح أن من لا برهان له على صحة دعواه فليس صادقا في قوله فهاتوا برهانكم على أن الاسم مشتق من السمو أو من الوسم وإلا فهي كذبة كذبتموها على العرب وافتريتموها عليهم أو على الله تعالى الواضع للغات كلها وقول عليه تعالى أو على العرب بغير علم وإلا فمن أين لكم أن العرب اجتمعوا فقالوا نشتق لفظة اسم من السمو أو من الوسم والكذب لا يستحله مسلم ولا يستسهله فاضل ولا سبيل لهم إلى برهان أصلاً بذلك وأيضا فلو كان الاسم مشتقا من السمو كما تزعمون فتسمية العذرة والكلب والجيفة والقذر والشرك والخنزير والخساسة رفعة لها وسمو لهذه المسميات وتباً لكل قول أدى إلى هذا الهوس البارد وأيضاً فهبك أنه قد سلم لهم قولهم أن الاسم مشتق من السمو أي حجة في ذلك على أن الاسم هو المسمى بل هو حجة عليهم لأن ذات المسمي ليست مشتقة أصلاً ولا يجوز عليها الاشتقاق من السمو ولا من غيره فصح بلا شك أن ما كان مشتقا فهو غير ما ليس مشتقا والاسم بإقرارهم مشتق والذات المسماى غير مشتقة فالاسم غير الذات المسماة وهذا يليح لكل من نصح نفسه أن المحتج بمثل هذا السفه عيار مستهزيء بالناس متلاعب بكلامه ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا قول يؤدي من اتبعه وطرده إلى الكفر المجرد لأنهم قطعوا أن الاسم مشتق من السمو وقطعوا أن الاسم هو الله نفسه فعلى قولهم المهلك الخبيث أن الله يشتق و أن ذاته نفسها مشتقة وهذا ما لا ندري كافرا بلغه والحمد لله على ما من به من الهدي وأيضا فإن الله تعالي يقول ‏"‏ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ‏"‏ إلى قوله تعالى ‏"‏ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلا يخلو أن يكون الله عز وجل علم آدم الاسماء كلها كما قال عز وجل إما بالعربية وإما بلغة أخرى أو بكل لغة فإن كان عز وجل علمه الأسماء بالعربية فإن لفظة اسم من جملة ما علمه لقوله تعالي الأسماء كلها ولأمر تعالى آدم بأن يقول للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء فلا يجوز أن يخص من هذا العموم شيء أصلاً بل هو لفظ موقف عليه كسائر الأسماء ولا فرق وهو من جملة ما علمه الله تعالى آدم عليه السلام إلا أن يدعوا أن الله تعالى لشتقه فالقوم كثيرا ما يستسهلون الكذب على الله تعالى والإخبار عنه بما لا علم لهم به فصح يقينا أن لفظة الاسم لا اشتقاق لها وإنما هي اسم مبتدأ كسائر الأسماء والأنواع والأجناس وأن كان الله تعالى علم آدم الأسماء كلها بغير العربية فإن اللغة العربية موضوعة للترجمة عن تلك اللغة بدل كل اسم من تلك اللغة اسم من العربية موضوع للعبارة عن تلك الألفاظ وإذا كان هذا فلا مدخل للاشتقاق في شيء من الأسماء أصلاً لا لفظة اسم ولا غيرها وإن كان تعالى علمه الأسماء بالعربية وبغيرها من اللغات العربية فلفظة اسم من جملة ما علمه وبطل أن يكون مشتقا أصلاً والحمد لله رب العالمين فبطل قولهم في اشتقاق الاسم وعاد حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق وأما بيت لبيد فإنه يخرج على وجهين أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله تعالى قال ى تعالى ‏"‏ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ‏"‏ ولبيد رحمه الله مسلم صحيح الصحبة للنبى صلى الله عليه وسلم و معناه ثم اسم الله عليكما حافظ لكما والوجه الثاني أنه أراد بالسلام التحية ولبيد لا يقدر هو ولا غيره على إيقاع التحية عليهما وإنما يقدر لبيد وغيره على إيقاع اسم التحية والدعاء بها فقط فأي الأمرين كان فاسم السلام في بيت هو غير معنى السلام فالاسم في ذلك البيت غير المسمى ولا بد ثم لو صح ما يدعونه على لبيد ولو صح لكان قول عائشة رحمها الله ورضي الله عنها إنما أهجر اسمك بيانا أن الاسم غير المسمى وأن اسمه عليه السلام غيره لأنها أخبرت أنها لا تهجره وإنما تهجر اسمه رضوان الله عليها وهى ليست في الفصاحة دون لبيد وهي أولى بان تكون حجة من لبيد فكيف وقول لبيد حجة عليهم لا لهم والحمد الله رب العالمين وقد قال رؤبة - باسم الذي في كل سورة سمر - ورؤبة ليس دون لبيد في الفصاحة وذات الباري تعالى ليست في كل سورة وإنما في السورة اسم الله تعالى فلا شك أن الذي في السورة غير الذي ليس فيها و قال أبو ساسان حصين بن المنذر ابن الحارث بن وعلة الرقاشي لابنه غياظ‏:‏ وسميت غياظا ولست بغياظ عدوا ولكن الصديق تغيظ فصرح بأن الاسم غير المسمي تصريحا لا يحتمل التأويل بخلاف ما ادعوه على لبيد وأما قول سيبويه أن الأفعال أمثلة أحدث من لفظ إحداث الأسماء فلا حجة لهم فيه فبيقين ندري أنه أراد إحداث أصحاب الأسماء برهان ذلك قوله في غير ما موضع من كتابه أمثلة الأسماء من الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي والسباعي وقطعه بأن السداسى والسباعي من الأسماء مزيدان ولا بد وأن الثلاثي من الأسماء أصلي ولا بد وأن الرباعي والخماسي من الأسماء يكونان أصليين كجعفر وسفرجل ويكونان مزيدين وأن الثنائى من الأسماء منقوص مثل يد ودم ولو تتبعنا قطعه على أن الأسماء هي الأبنية المسموعة الموضوعة ليعرف بها المسميات لبلغ أزيد من ثلثمائة موضع أفلا يستحي من يدري هذا من كلام سيبويه اطلاقا لعلمه بأن مراده لا يخفى على أحد قرأ من من كتابه ورقتيين ونعوذ بالله من قلة الحياء وأول سطر في كتاب سيبويه بعد البسملة هذا باب علم ما الكلم من العربية فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فالاسم رجل وفرس فهذا بيان جلي من سيبويه ومن كل من تكلم في النحو قبله وبعده على أن الأسماء هي بعض الكلام وان الاسم هو كلمة من الكلم ولا خلاف بين أحد له حس سليم في أن المسمي ليس كلمة ثم قال بعد أسطر يسيرة والرفع والجر والنصب والجزم بحروف الإعراب وحروف الإعراب الأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين وهذا منه بيان لا إشكال فيه أن الأسماء غير الفاعلين وهي التي تضارعها الأفعال التي في أوائلها الزوائد الأربع وما قال قط من يرمي بالحجارة أن الأفعال تضارع المسمين ثم قال والنصب في الأسماء رأيت زيدا والجر مررت بزيد والرفع هذا زيد وليس في الأسماء جزم لتمكنها وإلحاق التنوين وهذا كله بيان أن الأسماء هي الكلمات المؤلفة من الحروف المقطعة لا المسمون بها ولو تتبع هذا في أبواب الجمع وأبواب التصغير والنداء والترخيم وغيرها لكثر جداً وكاد يفوت التحصيل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فسقط كل ما شغب به القائلون بأن الاسم هو المسمى وكل قول سقط احتجاج أهله وعري عن البرهان فهو باطل ثم نظرنا فيما احتج به القائلون أن الاسم غير المسمى فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى ‏"‏ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ‏"‏ قال وا والله عز وجل واحد والأسماء كثيرة وقد تعالى الله عن أن يكون اثنين أو أكثر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة قال وا ومن قال أن خالقه أو معبوده تسعة وتسعون فهو شر من النصارى الذين لم يجعلوه إلا ثلاثة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا برهان ضروري لازم ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني ولمحمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني أنه ليس لله تعالى إلا اسم واحد فقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا معارضة وتكذيب لله عز وجل وللقرآن ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع العالمين ثم عطفا فقال ا معنى قول الله عز وجل ولله الأسماء الحسنى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لله تسعة وتسعين اسما إنما هو التسمية لا الأسماء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكان هذا التقسيم أدخل في الضلال من ذلك الإجمال ويقال لهم فعلى قولكم هذا أراد الله تعالى أن يقول لله التسميات الحسنى فقال الأسماء الحسنى وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول أن لله تسعة وتسعين تسمية فقال تسعة وتسعين اسما أعن غلط وخطأ قال الله تعالى ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم أم عن عمد ليضل بذلك أهل الاسلام أم عن جهل باللغة التي تنبهتما لها أنتما ولا بد من أحد هذه الوجوه ضرورة لا محيد عنها وكلها كفر مجرد ولا بد لهم من أحدها أو ترك ما قال وه من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا ودعواهم في ذلك ظاهر الكذب بلا دليل ولا يرضي بهذا لنفسه عاقل‏.‏

الاسم على المسمى فهي شىء ثالث غير الاسم وغير المسمى فذات الخالق تعالى هي الله المسمى والتسمية هي تحريكنا عضل الصدر واللسان عند نطقنا بهذه الحروف وهي غير الحروف لأن الحروف هي الهواء المندفع بالتحريك فهو المحرك بفتح الراء والإنسان هو المحرك بكسر الراء والحركة هي فعل المحرك في دفع المحرك وهذا أمر معلوم بالحس مشاهد بالضرورة متفق عليه في جميع اللغات واحتجوا أيضا بقول الله تعالى ‏"‏ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ‏"‏ وهذا نص لا يحتمل تأويلا في أن الاسم هو الياء والحاء والياء والألف ولو كان الاسم هو المسمي لما عقل أحد معنى قوله تعالى لم نجعل له من قبل سميا ولا فهم ولكان فارغا حاشا لله من هذا ولا خلاف في أن معناه لم يعلق هذا الاسم على أحد قبله وذكروا أيضا قول الله عز وجل عن نفسه هل تعلم له سميا وهذا نص جلي على أن أسماء الله تعالى التي اختص بها لا تقع على غيره ولو كان ما يدعونه لما عقل هذا اللفظ أحد أيضا حاشا لله من هذا واحتجوا أيضا بقول الله تعالى مبشرا برسوله يأتي من بعدي اسمه أحمد وهذا نص على أن الاسم هو الألف والحاء والميم والدال إذا اجتمعت واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين إلى قوله قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم الآية وهذا نص جلى على أن الأسماء كلها غير المسميات لأن المسميات كانت أعيانا قائمة وذوات ثابته تراها الملائكة وإنما جهلت الأسماء فقط التي علمها الله آدم وعلمها آدم الملائكة وذكروا قول الله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى وهذا ما لا حيلة لهم فيه لأن لفظة الله هي غير لفظة الرحمن بلا شك وهي بنص القرآن أسماء الله تعالى والمسمى واحد لا يتغاير بلا شك وذكروا قول الله عز وجل ‏"‏ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ‏"‏ وهذا بيانا أيضا جلي مجمع عليه من أهل الإسلام أن الذي عنده التذكية فهو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة مثل الله والرحمن والرحيم وسائر أسمائه عز وجل واحتجوا من الإجماع بأن جميع أهل الإسلام لا نحاشى منهم أحدا قد أجمعوا على القول بأن من حلف باسم من أسماء الله عز وجل فحنث فعليه الكفارة ولا خلاف في أن ذلك لازم فيمن قال والله أو والرحمن أو والصمد أو أي اسم من أسماء الله عز وجل حلف بها فما أسخف عقولا يدخل فيها تخطئة ما جاء به الله عز وجل في القرآن وما قال ه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه أهل الإسلام وما أطبق عليه أهل الأرض قاطبة من أن الاسم هو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة وتصويب الباقلاني وابن فورك في أن ذلك ليس هو الاسم وإنما هو التسمية والحمد لله الذى لم يجعلنا من أهل هذه الصنعة المرذولة ولا من هذه العصابة المخذولة واحتجوا أيضا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت كلبك فذكرت اسم الله فكل فصح أن اللفظ المذكور هو اسم الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن له أسماء وهي احمد ومحمد والعاقب والحاشر والماحي فيالله وياللمسلمين أيجوز أن يظن ذو مسكة عقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس ذوات تبارك الذي يخلق ما لا نعلم وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تسموا بأسمي ولا تكنوا بكنيتى فصح أن الاسم هو الميم والحاء والميم والدال بيقين لا شك فيه واحتجوا بقول عائشة رضى الله عنها بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لها عليه السلام إذا كنت راضية عني قلت لا ورب محمد وإذا كنت ساخطة قلت لا ورب إبراهيم قال ت أجل والله يارسول الله ما أهجر إلا اسمك فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ذلك القول فصح أن اسمه غيره بلا شك لأنها لم تهجر ذاته وإنما هجرت اسمه واحتجوا أيضا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن وأصدق الأسماء همام والحارث وروى أكذبهما خالد ومالك وهذا كله يبين أن الاسم غير المسمى فقد يسمى عبد الله وعبد الرحمن من يبغضه الله عز وجل وقد يسمى من يكون كذابا الحارث وهماماويسمى الصادق خالد ومالكا فهم بخلاف أسمائهم واحتجوا أيضا بأن قال وا قد اجتمعت الأمم كلها على أنه إذا سئل المرء ما اسمك قال فلان وإذا قيل له كيف سميت ابنك وعبدك قال سميته فلانا فصح أن تسميته هي اختياره وإيقاعه ذلك الاسم على المسمى وأن الاسم غير المسمى واحتجوا من طريق النظر بأن قال وا انتم تقولون أن اسم الله تعالى هو الله نفسه ثم لا تبالون بأن تقولوا أسماء الله تعالى مشتقة من صفاته فعليم مشتق من علم وقدير مشتق من قدرة وحي من حياة فإذا اسم الله هو الله واسم الله مشتق فالله تعالى على قولكم مشتق وهذا كفر بارد وكلام سخيف ولا مخلص لهم منه فصحت البراهين المذكورة من القرآن والسنن والإجماع والعقل واللغة والنحو على أن الاسم غير المسمى بلا شك ولقد أحسن أحمد بن جدار ما شاء أن يحسن إذ يقول‏:‏ هيهات يا أخت آل بما غلطت في الاسم والمسمى لو كان هذا وقيل سم مات إذا من يقول سما قال أبو محمد‏:‏ وأخبرني أبو عبد الله السائح القطان أنه شاهد بعضهم قد كتب الله في سحاة وجعل يصلى إليها قال فقلت له ما هذا قال معبود قال فنفخت فيها فطارت فقلت له قد طار معبودك قال فضربني‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وموهوا فقالوا فأسماء الله عز وجل إذا مخلوقة إذ هي كثيرة وإذ هى غير الله تعالى قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق أن كنتم تعنون الأصوات التي هي حروف الهجاء والمداد المخطوط به في القراطيس فما يختلف مسلمان في أن كل ذلك مخلوق وإن كنتم تريدون الإيهام والتمويه بإطلاق الخلق على الله تعالى فمن أطلق ذلك فهو كافر بل أن أشار مشير إلى كتاب مكتوب فيه الله أو بعض أسماء الله تعالى أو إلى كلامه إذ قال يا الله أو قال بعض أسمائه عز وجل فقال هذا مخلوق أو هذا ليس ربكم أو تكفرون بهذا لما حل لمسلم إلا أن يقول حاشا الله من أن يكون مخلوقا بل هو ربي وخالقي أؤمن به ولا أكفر به ولو قال غير هذا لكان كافرا حلال الدم لأنه لا يمكن أن يسأل عن ذات الباري تعالى ولا عن الذي هو ربنا عز وجل وخالقنا والذي هو المسمى بهذه الأسماء ولا إلى الذي يخبر عنه ولا إلى الذي يذكر إلا بذكر اسمه ولا بد فلما كان الجواب في هذه المسألة يموه أهل الجهل بإيصال ما لا يجوز إلى ذات الله تعالى لم يجز أن يطلق الجواب في ذلك البتة إلا بتقسيم كما ذكرنا وكذلك لو كتب إنسان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أو نطلق بذلك ثم قال لنا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ليس رسول الله وتؤمنون بهذا أن تكفرون به لكان من قال ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أكفر به كافرا حلال الدم بإجماع أهل الاسلام ولكن نقول بل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن به ولا يختلف اثنان في الصوت المسموع والخط المكتوب ليس هو الله ولا رسول الله وبالله تعالى التوفيق فإن قال وا أن أحمد بن حنبل وأبا زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبا حاتم محمد بن إدريس النظلي الراويين رحمهما الله تعالى إن الاسم هو المسمي قلنا لهم هؤلاء رضي الله عنهم وإن كانوا من أهل السنة ومن أئمتنا فليسوا معصومين من الخطأ ولا أمرنا الله عز وجل بتقليدهم واتباعهم في كل ما قال وه وهؤلاء رحمهم الله أراهم اختيار هذا القول قولهم الصحيح أن القرآن هو المسموع من القرآن المخطوط في المصاحف نفسه وهذا قول صحيح ولا يوجب أن يكون الاسم هو المسمى على ما قد بينا في هذا الباب وفي باب الكلام في القرآن والحمد لله رب العالمين وإنما العجب كله ممن قلب الحق وفارق هؤلاء المذكورين حيث أصابوا وحيث لا يحل خلافهم وتعلق بهم حيث وهموا من هؤلاء المنتمين إلى الأشعرية القائلين بأن القرآن لم ينزل قط إلينا ولا سمعناه قط ولا نزل به جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الذي في المصاحف هو شيء آخر غير القرآن ثم أتبعوا هذه الفكرة الصلعاء بأن قال وا إن اسم الله هو الله وأنه ليس إلا اسم واحد وكذبوا الله تعالى ورسوله في أن لله أسماء كثيرة تسعة وتسعين ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولو أن إنساناً يشير إلى كتاب مكتوب فيه الله فقال هذا ليس ربي وأنا كافر بهذا لكان كافراً ولو قال هذا المداد ليس ربي وأنا كافر بربوبية هذا الصوت لكان صادقاً وهذا لا ينكر وإنما نقف حيث وقفنا ولو أن إنساناً قال محمد رسول الله رحمه الله لم يبعد من الاستخفاف فلوا قال اللهم أرحك محمد وآل محمد لكان محسناً ولو أن إنساناً يذكر من أبويه العضو المستور باسمه لكان عاقاً أتى كبيرة وإن كان صادقاً وبالله تعالى التوفيق‏.‏

والكلام في هل يعقل الفلك والنجوم أم لا قال أبو محمد‏:‏ زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع ولا تذوق ولا تشم وهذه دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل مردود عند كل طائفة بأول العقل إذ ليست أصح من دعوى أخرى تضادها وتعارضها وبرهان صحة الحكم بأن الفلك والنجوم لا تعقل أصلاً هو أن حركتها أبداً على رتبة واحدة لا تتبدل عنها وهذه صفة الجماد المدبر الذي لا اختيار له فقالوا الدليل على هذا أن الأفضل لا يختار إلا الأفضل للعمل فقلنا لهم ومن أين لكم بأن الحركة أفضل من السكون الاختياري لأننا وجدنا الحركة حركتين اختيارية واضطرارية ووجدنا السكون سكونين اختيارياً واضطرارياً فلا دليل على أن الحركة الاختيارية أفضل من السكون الاختياري ثم من لكم بأن الحركة الدورية أفضل من سائر الحركات يميناً أو يساراً أو أمام أو وراء ثم من لكم بأن الحركة من شرق إلى غرب كما يتحرك الفلك الأكبر أفضل من الحركة من غرب إلى شرق كما تتحرك سائر الأفلاك وجميع الكواكب فلاح أن قولهم مخرقة فاسدة ودعوى كاذبة مموهة و قال بعضهم لما كنا نحن نعقل وكانت الكواكب تدبرنا كانت أولى بالعقل والحياة منا فقلنا هاتان دعوتان مجموعتان في نسق أحدهما القول بأنها تدبرنا فهي دعوى كاذبة بلا برهان على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى والثاني الحكم بأن من تدبرنا أحق بالعقل والحياة منا فقد وجدنا التدبير يكون طبيعياً ويكون اختيارياً فلو صح أنها تدبرنا لكان تدبيراً طبيعياً كتدبير الغذاء لنا وكتدبير الهواء والماء لنا وكل ذلك ليس حياً ولا عاقلاً بالمشاهدة وقد أبطلنا الآن أن يكون تدبير الكواكب لنا اختيارياً بما ذكرنا من جريها على حركة واحدة ورتبة واحدة لا تنتقل عنها أصلاً وأما القول بقضايا النجوم فإنا نقول في ذلك لائحاً ظاهراً إن شاء الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما معرفة قطعها في أفلاكها وآناء ذلك ومطالعها وأبعادها وارتفاعاتها واختلاف مراكز أفلاكها فعلم حسن صحيح رفيع يشرف به الناظر فيه على عظيم قدرة الله عز وجل وعلى يقين تأثيره وصنعته واختراعه تعالى للعالم بما فيه وفيه الذي يضطر كل ذلك إلى الإقرار بالخالق ولا يستغني عن ذلك في معرفة القبلة وأوقات الصلاة وينتج من هذا معرفة رؤية الأهلة لفرض الصوم والفطر ومعرفة الكسوفين برهان ذلك قول الله تعالى ‏"‏ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ والسماء ذات البروج ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ لتعلموا عدد السنين والحساب ‏"‏ وهذا نفس ما قلنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأما القضاء بها فالقطع به خطأ لما نذكره إن شاء الله تعالى وأهل القضاء ينقسمون قسمين أحدهما القائلون بأنها والفلك عاقلة مميزة فاعلة مدبرة دون الله تعالى أو معه وأنها لم تزل فهذه الطائفة كفار مشركون حلال دماؤهم وأموالهم بإجماع الأمة وهؤلاء عني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول أن الله تعالى قال أصبح من عبادي كافر بي مؤمن بالكواكب وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه القائل مطرنا بنوء كذا وكذا وأما من قال بأنها مخلوقة وأنها غير عاقلة لكن الله عز وجل خلقها وجعلها دلائل على الكوائن‏.‏

فهذا ليس كافراً ولا مبتدعاً وهذا هو الذي قلنا فيه أنه خطأ لأن قائل هذا إنما يحيل على التجارب فما كان من تلك التجارب ظاهراً إلى الحس كالمد والجزر الحادثين عند طلوع القمر واستوائه وأفوله وامتلائه ونقصانه وكتأثير القمر في قتل الدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه وكتأثيره في القرع والقثاء المسموع لنموها مع القمر صوت قوي وكتأثيره في الدماغ والدم والشعر وكتأثير الشمس في عكس الحر وتصعيد الرطوبات وكتأثيرها في أعين السنانير غدوة ونصف النهار وبالعشي ونصف الليل وسائر ما يوجد حساً فهو حق لا يدقعه ذو حس سليم وكل ذلك خلق الله عز وجل فهو خلق القوي وما يتولد عنها ويوجد بها كما قال تعالى ‏"‏ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏"‏ وأما ما كان من تلك التجارب خارجاً عما ذكرنا فهو دعاوي لا تصح لوجوه أحدها أن التجربة لا تصح إلا بتكرر كثير موثوق بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به كاضطرارنا إلى الإقرار بأن الإنسان إن بقي ثلاث ساعات تحت الماء مات وإن ادخل يده في النار احترق ولا يمكن هذا في القضاء بالنجوم لأن النصب الدالة عندهم على الكائنات لا تعود إلا في عشرات آلاف من السنين لا سبيل إلى أن يصح منها تجربة ولا إلى أن تبيقي دورة تراعي تكرار تلك الأدوار وهذا برهان مقطوع به على بطلان دعواهم في صحة القضايا بالنجوم وبرهان آخر وهو ان شروطهم في القضاء لا تمكنهم الإحاطة بها أصلاً من معرفة مواقع السهام ومطارح الشعاعات وتحقيق الدرج النيرة والغيمة والمظلمة والآثار والكواكب البنيانية وسائر شروطهم التي يقرون أنه لا يصح القضاء إلا بتحقيقها وبرهان ثالث وهو أنه ما دام يشتغل المعدل في تعديل كوكب زل عنه سائر الكواكب ولو دقيقة ولا بد وفي هذا فساد القضاء بإقرارهم وبرهان رابع وهو ظهور اليقين بالباطل في دعواهم إذ جعلوا طبع زحل البرد واليبس وطبع المريخ الحر واليبس وطبع القمر البرد والرطوبة وهذه الصفات إنما هي للعناصر التي دون فلك القمر وليس شيء منها في الأجرام العلوية لأنها خارجة عن محل حوامل هذه الصفات والأعراض لا تتعدى حواملها والحوامل لا تتعدى مواضعها التي رتبها الله فيها وبرهان خامس وهو ظهور كذبهم في قسمتهم الأرض على البروج والدراري ولسنا نقول في المدن التي يمكنهم فيها دعوى أن بناءها كان في طالع كذا ونصه كذا لكن في الأ قال يم والقطع من الأرض التي لم يتقدم كون بعضها كون بعض كذبهم فيما عليه بنوا قضاياهم في النجوم وكذلك قسمتهم أعضاء الجسم والفلزات على الدراري أيضاً وبرهان سادس أننا نجد نوعاً وأنواعاً من أنواع الحيوان قد فشا فيها الذبح فلا تكاد يموت شيء منها إلا مذبوحاً كالدجاج والحمام والضان والمعز والبقر التي لا تموت منها حتف أنفه إلا في غاية الشذوذ ونوعاً وأنواعاً لا تكاد تموت إلا حتف أنوفها كالحمير والبغال وكثير من السباع وبالضرورة يدري كل أحد أنها قد تستوي أوقات ولادتها فبطل قضاؤها بما يوجب الموت الطبيعي وبما يوجب الكرهى لاستواء جميعها في الولادات واختلافها في أنواع المنايا وبرهان سابع وهو أننا نرى الخصافا شيئاً في سكان الاقليم الأول وسكان الاقليم السابع ولا سبيل إلى وجوده البتة في سكان سائر الأ قال يم ولا شك ولا مرية في استوائهم في أوقات الولادة فبطل يقيناً قضاؤهم بما يوجب الخصا وبما لا يوجبه بما ذكرنا من تساويهم في أوقات التكون والولادة واختلافهم في الحكم ويكفي من هذا أن كلامهم في ذلك دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل مع اختلافهم فيما يوجبه الحكم عندهم والحق لا يكون في قولين مختلفين وأيضاً فإن المشاهدة توجب أننا قادرون على مخالفة أحكامهم متى أخبرونا بها فلو كانت حقاً وحتماً وما قدر أحد على خلافها وإذا أمكن خلافها فليست حقاً فصح أنها تخرص كالطرق بالحصا والضرب بالحب والنظر في الكتف والزجر والطيرة وسائر ما يدعي أهله فيه تقديم المعرفة بلا شك وما يخص ما شاهدناه وما صح عندنا مما حققه حذاقهم من التعديل في الموالد والمناجات وتحاول السنين ثم قضوا فيه فاخطؤا وما تقع أصابتهم من خطئهم إلا في جزء يسير فصح أنه تحرص لا حقيقة فيه لا سيما دعواهم في إخراج الضمير فهو كله كذب لمن تأمله وبالله تعالى التوفيق وكذلك قولهم في القرانات أيضاً ولو أمكن تحقيق تلك التجارب في كل ما ذكرنا لصدقناها وما يبدوا منها ولم يكن ذلك علم غيب لأن كل ما قام عليه دليل من خط أو كتف أو زجر أو تطير فليس غيباً لو صح وجه كل ذلك وإنما الغيب وعلمه هو أن يخبر المرء بكائنة من الكائنات دون صناعة أصلاً من شيء مما ذكرنا ولا من غيره فيصيب الجزئي والكلي وهذا لا يكون إلا لنبي وهو معجزة حينئذٍ وأما الكهانة فقد بطلت بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا من أعلامه وآياته وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في خلق الله تعالى للشيء

أهو المخلوق نفسه أم غيره وهل فعل الله من دون الله تعالى هو المفعول أم قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن خلق الشيء هو غير الشيء المخلوق واحتج هؤلاء بقول الله عز وجل ‏"‏ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ‏"‏ قال أبو محمد‏:‏ ولا حجة لهم في هذه الآية لأن الإشهاد هاهنا هو الإحضار بالمعرفة وهذا حق لأن الله تعالى لم يحضرنا عارفين ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء أنفسنا ووجدنا من قال أن خلق الشيء هو الشيء نفسه يحتج بقول الله تعالى هذا خلق الله وهذه إشارة إلى جميع المخلوقات فقد سمي الله تعالى جميع المخلوقات كلها خلقاً له وهذا برهان لا يعارض‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نسأل من قال أن خلق الشيء هو غير الشيء فنقول له أخبرنا عن خلق الله تعالى لما خلق أمخلوق هو أيضاً أم غير مخلوق فلا بد من أحد الأمرين فإن قال وا هو غير مخلوق أوجبوا بإزاء كل مخلوق شيئاً موجوداً غير مخلوق وهذا مضاهاة لقول الدهرية والبرهان قد قام بخلاف هذا و قال تعالى ‏"‏ خلق كل شيء فقدره تقديراً ‏"‏ وإن قال وا بل خلقه تعالى لما خلق قلنا فخلقه تعالى لذلك الخلق أبخلق أم بغير خلق فإن قال وا بغير خلق قيل لهم من أين قلتم أن خلقه للأشياء بمخلق هو غير المخلوق وقلتم في خلقه لذلك الخلق أنه بغير خلق وهذا تخليط وإن قال وا بل خلقه بخلق سألناهم الخلق هو أم بخلق هو غيره وهكذا أبداً فإن وقفوا في شيء من ذلك فقالوا خلقه هو هو سألناهم عن الفرق بين ما قال وا أن خلقه هو غيره وبين ما قال وا أن خلقه هو هو وإن تماد وأخرجوا إلى وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وقد قطع بهذا معمر بن عمرو العطار أحد رؤساء المعتزلة وسنذكر كلامه بعد هذا إن شاء الله تعالى متصلاً بهذا الباب وبالله تعالى نتأيد وأيضاً فإن الجميع مطبقون على أن الله عز وجل خلق ما خلق بلا معاياة فإذ لا شك في ذلك فقد صح يقيناً أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين ما خلق ولا ثالث في الوجود غير الخالق والمخلوق وخلق الله تعالى ما خلق حق موجود وهو بلا شك مخلوق وهو بلا شك ليس هو الخالق فهو المخلوق نفسه بيقين لا شك فيه إذ لا ثالث هاهنا أصلاً وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل من دون الله تعالى فعله هو مفعوله نفسه لا غير لأنه لا يفعل أحد دون الله تعالى إلا حركة أو سكوناً أو تأثيراً أو معرفة أو فكرة أو إرادة ولا مفعول لشيء دون الله تعالى إلا ما ذكرنا فهي مفعولات الفاعلين وهي أفعال الفاعلين ولا فرق وما عدا هذا فإنما هو مفعول فيه كالمضروب والمقتول أو مفعول به كالسوط والإبرة وما أشبه ذلك أو مفعول له كالمطاع والمخدوم أو مفعول من أجله كالمكسوب والمحلوب فهذه أوجه المفعولات‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما سائر أفعال الله تعالى فبخلاف ما قلنا في الخلق بل هي غير المفعول فيه أوله أو به أو من أجله وذلك كالأحياء فهو غير المحيا بلا شك وكلاهما مخلوق لله تعالى وخلقه تعالى لكل ذلك هو المخلوق نفسه كما قلنا وكالا ماتة فهي غير الممات ولو كان غير هذا وكان الأحياء هو المحيا والإماتة هي الممات وبيقين ندري أن المحيا هو الممات نفسه لوجب أن يكون الأحياء هو الإماتة وهذا محال وكالإبقاء فهو غير المبقي للبرهان الذي ذكرنا وبيقين ندري أن الشيء غير أعراضه التي هي قائمة به وقتاً وفانية عنه تارة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في البقاء والفناء

والمعاني التي يدعيها معمر والأحوال التي تدعيها الأشعرية وهل المعدوم شيء أم ليس شيئاً ومسئلة الأجزاء وهل يتجدد خلق الله للأشياء أم لا يتجدد قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى أن البقاء والفناء صفتان للباقي والفاني لا هما الباقي ولا الفاني ولا هما غير الباقي والفاني‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا قول في غاية الفساد لأن القضية الثانية بنقيض الأولى والأولى بنقيض الثانية لأنه إذا قال ليست هي فقد أوجب أنها غيره وإذا قال ليست غيره فقد أوجب أنه هو وهذا تناقض ظاهر وأيضاً فإنه لا فرق بين قول القائلين ليس هو هو ولا غيره وبين قوله هو هو وهو غيره والمعنى في تلك القضيتين سواء وأيضاً فلو كان البقاء ليس هو الباقي ولا هو غيره والفناء ليس هو الفاني ولا هو غيره فالباقي هو الفاني نفسه والباقي ليس هو الباقي ولا غيره وهذا مزيد من الجنون ومن التناقض وذهب معمر إلى أن الفناء صفة قائمة بغير الفاني‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تخبيط لا يعقل ولا يتوهم ولا يقوم عليه دليل أصلاً وما كان هكذا فهو باطل والحقيقة في ذلك ظاهرة وهي أن البقاء هو وجود الشيء وكونه ثابتاً قائماً مدة زمان ما فإذ هو قائم كذلك فهو صفة موجودة في الباقي محمولة فيه قائمة به موجودة بوجوده فانية بفنائه وأما الفناء فهو عدم الشيء وبطلانه جملة وليس هو شيئاً أصلاً والفناء المذكور ليس موجوداً البتة في شيء من الجواهر وإنما هو عدم العرض فقط كحمرة الخجل إذا ذهبت عبر عن المعنى المراد بالإخبار عن ذهابها بلفظة الفناء كالغضب يفنى ويعقبه رضاً وما أشبه ذلك لو شاء الله عز وجل أن يعدم الجواهر لقدر على ذلك ولكنه لم يوجد ذلك إلى الآن ولا جاء به نص فيقف عنده فالفناء عدم كما قلنا‏.‏

 الكلام في المعدوم أهو شيء أم لا

قال أبو محمد‏:‏ وقد اختلف الناس في المعدوم أهو شيء أم لا فقال أهل السنة وطوائف من المرجئة كالأشعرية وغيرهم ليس شيئاً وبه يقول هشام بن عمرو الغوطي أحد شيوخ المعتزلة و قال سائر المعتزلة المعدوم شيء و قال عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط أحد شيوخ المعتزلة أن المعدوم جسم في حال عدمه إلا انه ليس متحركاً ولا ساكناً ولا مخلوقاً ولا محدثاً في حال عدمه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتج من قال بأن المعدوم شيء بان قال وا قال عز وجل إن زلزلة الساعة شيء عظيم فقالوا فقد أخبر الله عز وجل بأنها شيء وهي معدومة ومن الدليل على أن المعدوم شيء أنه يخبر عنه ويوصف ويتمنى ومن المحال أن يكون ما هذه صفته ليس شيئاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما قول الله عز وجل ‏"‏ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏ فإن هذه القصة موصولة بقوله تعالى ‏"‏ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ‏"‏ فإنما تم الكلام عند قوله يوم ترونها فصح أن زلزلة الساعة يوم ترونها شيء عظيم وهذا هو قولنا ولم يقل تعالى قط أنها الآن شيء عظيم ثم أخبر تعالى بما يكون يومئذ من هول المرضعات ووضع الأحمال وكون الناس سكارى من غير خمر فبطل تعلقهم بالآية وما نعلم أنهم شغبوا بشيء غيرها وأما قولهم أن المعدوم يخبر عنه ويوصف ويتمنى ويسمى فجهل شديد وظن فاسد وذلك أن قولنا في شيء يذكر أنه معدوم ويخبر عنه أنه معدوم ويتمنى به إنما هو أن يذكر اسم ما فذلك الاسم موجود بلا شك يعرف ذلك بالحس كقولنا العنقاء وابن آوى وحبين وعرس ونبوة مسيلمة وما أشبه ذلك ثم كل اسم يتعلق به ويوجد ملفوظاً أو مكتوباً فإنه ضرورة لا بد له من أحد وجهين أما أن يكون له مسمى وإما أن يكون ليس له مسمى فإن كان له مسمى فهو موجود وهو شيء حينئذ وإن كان ليس له مسمى فأخبارنا بالعدم وتمنينا للمريض بالصحة إنما هو إخبار عن ذلك الاسم الموجود أنه ليس له مسمى ولا تحته شيء وتمن منا لأن يكون تحته مسمى فهكذا هو المر لا كما ظنه أهل الجهل فصح أن المعدوم لا يخبر عنه ولا يتمنى ونسألهم عمن قال ليت لي ثوباً أحمر وغلاماً أسود أخبرونا هل الثوب المتنى به عندكم أحمر أم لا فإن أثبتوا معنى وهو ثوباً أحمر أثبتوا عرضاً محمولاً فيه وهو الحمرة فوجب أن المعدوم يحمل الأعراض وإن قال وا لم يتمن شيئاً أصلاً صدقوا وصح أن المعدوم لا يتمنى لأنه ليس شيئاً ولا فرق بين قول القائل تمنيت لا شيء وبين قوله لم أتمن شيأ بل هما متلايمان بمعنى واحد وهذا أيضاً يخرج على وجه آخر وهو أنه لا يتمنى إلا شيأ موجود في العالم كثوب موجود او غلام موجود واما من اخرج لفظة التمني لما ليس في العالم فلم يتمن شيأ وأما قولهم يوصف فطريق عجب جداً لأن معنى قول القائل يوصف إخبار بأن له صفة محمولة فيه موجودة به فليت شعري كيف يحمل المعدوم الصفات من الحمرة والخضرة والقوة والطول والعرض إن هذا لعجيب جداً فظهر فساد ما موهوا به والحمد قال أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وإذ قد عرا قولهم عن الدليل فقد صح أنه دعوى كاذبة ثم نقول وبالله التوفيق من البرهان على أن المعدوم اسم لا يقع على شيء أصلاً قول الله عز وجل وقد خلقتك من قبل ولم تك شيأ وقوله تعالى هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيأ مذكوراً وقوله وخلق كل شيء فقدره تقديرا و قال عز وجل إنا كل شيء خلقناه بقدر فيلزمهم ولا بد إن كان المعدوم شيأ أن يكون مخلوقاً بعد وهم لا يختلفون في أن المخلوق موجود وقد وجد وقتاً من الدهر فالمعدوم على هذا موجود وقد كان موجوداً وهذا خلاف قولهم وهذا غاية البيان في أن المعدوم ليس شيئاً‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ ونسألهم ما معنى قولنا شيء فلا يجدون بداً من أن يقولوا أنه الموجود وأن يقولوا هو كل ما يخبر عنه فإن قال وا هو الموجود صاروا إلى الحق وإن قال وا هو كل ما يخبر عنه قلنا لهم إن المشركين يخبرون عن شريك الله عز وجل قال تعالى ‏"‏ أين شركائي ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا معدوم لا مدخل له في الحقيقة واسم لا مسمى تحته فإن قال وا إن شركاء الله تعالى أشياء كانوا قد أفحشوا وأيضاً فإنه قد اتفقت جميع الأمم لا نحاشي أن المعدوم ليش شيئاً أو لا شيء أو ما يعبر به في كل لغة عن شيء ومن لا شيء إلا أن المعنى واحد فلو كان المعدوم شيئاً لكان ما أجمعوا عليه بلا شيء وليس شيئاً ولم يكن شيئاً باطلاً وهذا رد على جميع أهل الأرض مذ كانوا إلى أن يفنى العالم فصح أن الموجود هو الشيء فإذ هو الشيء فبضرورة العقل أن اللاشيء هو المعدوم ثم نسألهم أتقولون أن المعدوم عظيم أو صغير أو حسن أو قبيح أو طويل أو قصير أو ذو لون في حال عدمه فإن أبوا من هذا تناقض قولهم وسئلوا عن الفرق بين قولهم أنه شيء وبين قولهم أنه حسن او قبيح أو صغير أو كبير وكيفقالوا أنه شيء ثم قال وا أنه ليس حسناً ولا قبيحاً ولا صغيراً وكبيراً فإن قال وا نعم أوجبوا أن المعدوم يحمل الأعراض والصفات وهذا تخليط ناهيك به وسئلوا فيماذا يحمل الصفات أفي ذاته أو فيما ذا فإن قال وا في ذاته أوجبوا أنه له ذاتاً وهذه صفة الموجود ضرورة وإن قال وا بل يحمل الصفات في غيره كان ذلك أيضاً عجباً زائداً لا خفاء به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونسألهم هل الإيمان موجود من أبي جهل أو معدوم فإن قولهم بلا شك أنه معدوم منه‏.‏

فنسألهم عن إيمان أبي جهل المعدوم حسن هو أم قبيح‏.‏

فإن قال وا لا حسن ولا قبيح قلنا لهم أيكون يعقل إيمان ليس حسناً هذا عظيم جداً‏.‏

وإن قال وا بل هو حسن أوجبوا أنه حاصل للحسن وكذلك نسألهم عن الكفر المعدوم من الأنبياء عليهم السلام أقبيح هو أم لا‏.‏

فإن قال وا لا أوجبوا كفراً ليس قبيحا‏.‏

وإن قال وا بل هو قبيح أوجبوا أن المعدوم يحمل الصفات ونسألهم عن ولد العقيم المعدوم منه أصغير هو أم كبير أم عاقل أم أحمق‏.‏

فإن منعوا من وجود شيء من هذه الصفات له كان عجباً أن يكون ولد لا صغير ولا كبير ولا حي ولا ميت وإن وصفوه بشيء من هذه الصفات أتوا بالزيادة من المحال ونسألهم عن الأشياء المعدومة ألها عدد أم لا عدد لها‏.‏

فإن قال وا لا عدد لها كانوا قد أتوا بالمحال إذ أقروا بأشياء لا عدد لها‏.‏

وإن قال وا بل لها عدد كان ذلك عجباً جداً أو محالاً لا خفاء به وسألناهم عن الأولاد المعدومين من العاقر والعقيم كم عددهم‏.‏

ونسألهم عن الأشياء المعدومة أهي في العالم ومن العالم أم ليست في العالم ولا من العالم فإن قال وا هي في العالم ومن العالم سألناهم عن مكانها فإن حددوا لها مكاناً سخفوا ما شاؤا وإن قال وا لا مكان لها قيل لهم وكيف يكون شيء في العالم لا مكان له فيه ولا حامل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويلزمهم أن المعدومات إذا كانت أشياء لا عدد لها ولا نهاية ولا مبدأ فإنها لم تزل وهذه دهرية محققة وكفر مجرد أن تكون أشياء لا تحصى كثرة لم تزل مع الله تعالى ونعوذ بالله من مثل هذا الهوس‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد ادعوا أن المعدوم يعلم وهذا جهل منهم بحدود الكلام لا سيما ممن أقر بأن المعدوم لا شيء وادعى مع ذلك أنه يعلم فألزمناهم على ذلك أنهم يعلمون لا شيء وأن الله تعالى يعلم لا شيء فجسر بعضهم على ذلك فقلنا لهم إن قولك علمت لا شيء وعلم الله تعالى لا شيء ملائم لقولك لم أعلم شيئاً ولقولك لم يعلم الله تعالى شيئاً لا فرق بين معنى القضيتين البتة بل هما واحد وإن اختلفت العبارتان وإذ هو كذلك فقد صح أن المعدوم لا يعلم فإن ألزمنا على هذا وسألنا هل يعلم الله تعالى الأشياء قبل كونها أم لا قلنا لم يزل الله تعالى يعلم أن ما يخلقه أبداً إلى ما لا نهاية له فإنه سيخلقه ويرتبه على الصفات التي يخلقها فيها إذا خلقه وأنه سيكون شيئاً إذا كونه ولم يزل عز وجل يعلم أن ما لم يخلق بعد فليس هو شيئاً حتى يخلقه ولم يزل تعالى يعلم أنه لا شيء معه وأنه ستكون الأشياء أشياء إذا خلقها لأنه تعالى إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علمها على خلاف ما هي عليه فلم يعلمها بل جهلها وليس هذا علماً بل هو ظن كاذب وجهل وبرهان هذا قول الله عز وجل ‏"‏ ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ‏"‏ ولو في لغة العرب التي خاطبنا الله تعالى بها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح أنه تعالى لم يسمعهم لأنه لم يعلم فيهم خيراً أو لا خير فيهم فصح أن المعدوم لا يعلم أصلاً ولو علم لكان موجوداً وإنما يعلم الله تعالى أن لفظة المعدوم لا مسمى لها ولا شيء تحتها ويعلم عز وجل الآن أن الساعة غير قائمة وهو الآن تعالى لا يعلمها قائمة بل يعلم أنه سيقيمها فتقوم فتكون قيامة وساعة ويوم جزاء ويوم بعث وشيئاً عظيماً حين يخلق كل ذلك لا قبل أن يخلقه فأما علمه تعالى بأنه سيقيمها فتقوم فهو موجود حق فهذا معنى إطلاق العلم على ما لم يكن بعد من المعدومات كما أننا لا نعلم الآن الشمس طالعة طلوعها في غد بل نعلم أنها ستطلع غداً وكذلك لا نعلم موت الأحياء الآن بل نعلم أن الله تعالى سيخلق موتهم فنعلمه موتاً لهم إذا خلقه لا قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق و قال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين فهذا نص جلى على أن المعدوم لا يعلم لأن الله تعالى أخبر أنه لا يدخل الجنة من لا يعمله الله تعالى مجاهداً ولا صابراً فصح أن من لم يجاهد ولا صبر فلم يعلمه الله تعالى قط مجاهداً ولا صابراً ولا علم له جهاداً ولا صبراً وإنما علمه غير مجاهد وغير صابر ولم يزل تعالى يعلم أن من كان منهم سيجاهد وسيصبر فإنه لم يزل يعلم أن سيجاهد وسيصبر فإذا جاهد وصبر علمه حينئذ صابراً مجاهداً والعلم لا يستحيل لأنه ليس شيئاً غير الباري تعالى وإنما استحال المعلوم فقط‏.‏

ثم نسألهم هل يعلم الله تعالى لحية الأطلس وقنا الأفطس أم لا يعلم ذلك وهل يعلم الله تعالى أولاد العقيم وإيمان الكافر وكفر المؤمن وكذب الصادق وصدق الكاذب أم لا يعلم شيئاً من ذلك‏.‏

فإن قال وا إن الله تعالى يعلم كل ذلك كانوا قد وصفوا الله تعالى باجهل وأنه يعلم الأشياء بخلاف ما هي عليه‏.‏

وإن قال وا أنه تعالى لا يعلم للعقيم أولاداً وإنما يعلمه لا ولد له ولا يعلم لحية الكلام في المعاني على معمر قال أبو محمد‏:‏ وأما معمر ومن اتبعه فقالوا أنا وجدنا المتحرك والساكن فأيقنا أن معنى الحدث في المتحرك به فارق الساكن في صفته وإن معنى حدث في الساكن به أيضاً فارق المتحرك في صفته وكذلك علمنا أن في الحركة معنى به فارقت السكون وإن في السكون معنى به فارق الحركة وكذلك علمنا أن في ذلك المعنى الذي به خالفت الحركة السكون معنى به فارق المعنى الذي به فارقه السكون وهكذا أبداً أوجبوا أن في كل شيء في هذا العالم من جوهر أو عرض أي شيء كان معاني فارق كل معنى منها كل ما عداه في العالم وكذلك أيضاً في تلك المعاني لأنها أشياء موجودة متغايرة وأوجبوا بهذا وجود أشياء في زمان محدود في العالم لا نهاية لعددها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه جملة كل ما شغبوا به إلا أنهم فصلوها ومدوها في الكفر والكافر والإيمان والمؤمن وفي غير ذلك مما هو المعنى الذي أوردناه بعينه ولا زيادة فيه أصلاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا ليس شيئاً لأننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق العالم كله قسمان جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد ولا ثالث في العالم غير هذين القسمين هذا أمر يعرف بضرورة العقل وضرورة الحس فالجواهر مغايرة بعضها لبعض بذواتها التي هي أشخاصها يعني بالغيرية فيها وتختلف أيضاً بجنسها وهي أيضاً مفترق بعضها من بعض بالعرض المحمول في كل حامل من الجواهر وأما الأعراض فمغايرة للجواهر بذواتها بالغيرية فيها وكذلك هذه أيضاً بعضها مغاير لبعض بذواتها وبعضها مفارق لبعض بذواتها وإن كان بعض الأعراض أيضاً قد تحمل الأعراض كقولنا حمرة مشرقة وحمرة كذرة وعمل سيئ وعمل صالح وقوة شديدة وقوة دونها في الشدة ومثل هذا كثير إلا أن كل هذا يقف في عدد متناه لا يزيد وهذا أمر يعلم بالحس والعقل فالمتحرك يفارق الساكن هذا بحركته وهذا بسكونه والحركة تفارق السكون بذاتها ويفارقها السكون بذاته وبالنوعية والغيرية والحركة إلى الشرق تفارق الحركة إلى الغرب بكون هذه إلى الشرق وبكون هذه إلى الغرب بذاته وبالغيرية فقط وهكذا في كل شيء فكل شيئين وقعا تحت نوع واحد مما يلي الأشخاص فإنهما يختلفان بغيريتهما فإن كانا وقعا تحت نوعين فإنهما يختلفان بالغيرية في الشخص وبالغيرة في النوع أيضاً والغيرية أيضاً لها نوع جامع لجميع أشخاصها إلا أن كل ذلك واقف عند حد من العدد لا يزيد ولا بد ثم نسألهم خبرونا عن المعاني التي تدعونها في حركة واحدة أيما أكثر أهي أم المعاني التي تدعونها في حركتين فإن أثبتوا قلة وكثرة تركوا مذهبهم وأوجبوا النهاية في المعاني التي نفوا النهاية عنها وإن قال وا إلا قلة ولا كثرة هاهنا كابروا وأتوا بالمحال الناقض أيضاً لأقوالهم لأنهم إذا أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين معنيين وهكذا أبداً فوجبت الكثرة والقلة ضرورة لا محيد عنها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلم يكن لهم جواب أصلاً إلا أن بعضهم قال أخبرونا أليس الله تعالى قادراً على أن يخلق في جسم واحد حركات لا نهاية لها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجواب أهل الإسلام في هذا السؤال نعم وأما من عجز ربه فأجابوا بلا فسقط هذا السؤال عنهم وكان سقوط الإسلام عنهم بهذا الجواب أشد من سقوط سؤال أصحاب معمر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فتمادى سؤالهم لأهل الحق فقالوا فأخبرونا أيما أكثر ما يقدر الله تعالى عليه من خلق الحركات في جسمين أو ما يقدر عليه من خلق الحركات في جسم واحد فكان جواب أهل الحق في ذلك أنه لا يقع عدد على معدوم ولا يقع العدد إلا على موجود معدود والذي يقدر الله تعالى عليه ولم يفعله فليس هو بعد شيئاً ولا له عدد ولا هو معدود ولا نهاية لقدرة الله تعالى وأما ما يقدر عليه تعالى ولم يفعله فلا ي قال فيه أن له نهاية ولا أنه لا نهاية له وأما كل ما خلق الله تعالى فله نهاية بعد وكذا كل ما يخلق فإذا خلقه حدثت له نهاية حينئذ لا قبل ذلك وأما المعاني التي تدعونها فإنكم تدعون أنها موجودة قائمة فوجب أن يكون لها نهاية فإن نفيتم النهاية عنها لحقتم بأهل الدهر وكلمناكم بما كلمناهم به مما قدر ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق ثم لو تثبت لكم هذه العبارة من قول القائل أن ما يقدر الله تعالى عليه لا نهاية لعدده وهذا لا يصح بل الحق في هذا أن نقول أن الله تعالى قادر على أن يخلق ما لا نهاية له في وقت ذي نهاية ومكان ذي نهاية ولو شاء أن يخلق ذلك في وقت غير ذي نهاية وكان غير ذي نهاية لكان قادراً على كل ذلك لما وجب من ذلك إثبات ما ادعيتم من وجود معان في وقت واحد لا نهاية لها إذ ليس هاهنا عقل يوجب ذلك ولا خبر يوجب ذلك وإنما هو قياس منكم إذ قلتم لما كان قادراً على أن يخلق ما لا نهاية له قلنا أنه قد خلق ما لا نهاية له فهذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان القياس حقاً لكان هذا منه باطلاً لأنه بزعمكم قياس موجود على معدوم وقياس وتشبيه لما قد خلقه بزعمكم على ما لم يخلقه وهذا في غاية الفساد ولا فرق بينكم في هذا القياس الفاسد وبين من يقول أن في بلد كذا قوماً يشمون من عيونهم ويسمعون من أنوفهم ويذوقون من آذانهم ويبصورون من ألسنتهم فإذا كذب في ذلك وسئل برهاناً على دعواه قال أتقرون أن الله قادر على خلق ذلك فقلنا له نعم قال فهذا دليل على صحة دعواي بل أنتم أسوأ حالاً لأن هذا أخبر عن متوهم لو كان كيف كان يكون فأنتم أتخبرون عن غير متوهم في النفس ولا متشكل في العقل وهو إقراركم بوجود معان لا نهاية لعددها في وقت واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبطل هذا القول الفاسد والحمد لله رب العالمين وكان يكفي من بطلانها أنها دعوى لا برهان على صحتها وهي دعوى فاسدة غير ممكنة بل هي محال لا يتوهم ولا يتشكل وبالله تعالى التوفيق‏.‏

الكلام في الأحوال مع الأشعرية

ومن وافقهم قال أبو محمد وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا أن هاهنا أحوالاً ليست حقاً ولا باطلاً ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي موجودة ولا معدومة ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء و قالوا من هذا علم العالم بأن له علماً ووجوده لوجوده و قالوا فإن قلتم أن لكم علماً بأن لكم علماً بالباري تعالى وبما تعلمونه وأن لكم وجوداً لوجودكم ما تجدونه سألناكم ألكم علم بعلمكم بأن لكم علماً وهل لكم وجود لوجودكم وجودكم ما تجدونه فإن أقررتم بذلك لزمكم أن تسلسلوا هذا أبداً إلى ما لا نهاية له ودخلتم في قول أصحاب معمر والدهرية‏.‏

وإن منعتم من ذلك سئلتم عن صحة الدليل على صحة منعكم ما منعتم من ذلك وصحة إيجابكم ما أوجبتم من ذلك وكذلك قالوا في قدم القديم وحدث المحدث وبقاء الباقي وفناء الفاني وظهور الظاهر وخفاء الخافي وقصد القاصد ونية الناوي وزمان الزمان وما أشبه ذلك‏.‏

و قالوا لو كان للباقي بقاء ولبقاء الباقي بقاء وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له قالوا فهذا يوجب وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال وهكذا قالوا في قدم القديم وقد قدمه وقدم قدم قدمه إلى ما لا نهاية له وفي حدوث المحدث وحدث حدثه وحدث حدث حدثه إلى ما لا نهاية له وهكذا قالوا في زمان الزمان وزمان زمان الزمان إلى ما لا نهاية وفي فناء الفاني وفناء فنائه وفناء فناء فنائه إلى ما لا نهاية له وكذلك ظهور الظاهر وظهور ظهوره وظهور ظهور ظهوره إلى ما لا نهاية له وكذلك القصد والقصد إلى القصد والقصد إلى القصد إلى القصد وهكذا إلا ما لا نهاية له وكذلك النية والنية للنية والنية للنية للنية إلى ما لا نهاية له وكذلك تحقيق الحق وتحقيق تحقيق الحق إلى ما لا نهاية له‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أفكار السوء إذا ظن صاحبها أنه يدقق فيها فهي أضر عليه لأنها تخرجه إلى التخليط الذي ينسبونه إلى السوفسطائية وإلى الهذيان المحض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وللكلام في هذا أبين من أن يشكل على عامي فكيف على فهم فكيف على عالم والحمد لله ونحن نتكلم على هذا إن شاء الله عز وجل كلاماً ظاهراً لائحاً لا يخفى على ذي حس سليم وبالله تعالى نتأيد فنقول وبالله تعالى التوفيق‏.‏

أما العدم فإنه من صفات الزمن ومن فيه تقول ملك أقدم من ملك وزمان أقدم من زمان وشيخ أقدم من شيخ أي أنه متقدم بزمانه عليه والزمان متقدم بذاته على الزمان ليس في العالم قدم قديم الأزماني هذا هو حكم اللغة التي لا يوجد فيها غيره أصلاً فالقدم هو التقدم والتقدم متقدم بنفسه على غيره فقط لأن القدم موجود معلوم وهي صفة المتقدم فلا يجوز إنكاره وأما قدم القديم فباطل لأنه لم يأت به نص ولا قام بوجوده دليل وما كان هكذا فهو باطل وأما وجود الموجود فبضرورة الحس أن الموجود حق وأنه يقتضي واجداً وأن الواجد يقتضي وجوداً لما وجد هو فعل الواجد وصفته فهو حق لما ذكرنا ووجود الواجد يوجد بذاته لا بوجود هو غيره لأن وجود الوجود لم يأت به نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما الباري عز وجل فإنه يجد نفسه ويعلمها ويجد ما دونه ويعلمه بذاته لا بوجود هو غيره ولا بعلم هو غيره فقط وكذلك العالم منا يقتضي علماً ولا بد هو فعل العالم وصفته المحمولة فيه عرضاً بيقين ويزيد ويذهب ويثبت أطواراً هذا ما لا شك فيه والعالم منا يعلم أنه يحمل علماً بعلمه ذلك لا بعلم هو غير علمه لأن العالم بالعلم لم يوجب وجوده نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وكذلك الباقي مثاله بلا شك والبقاء هو اتصال وجوده مدة بعد مدة وهذا معنى صحيح لا يجوز أن ينكره عاقل فإما بقاء البقاء فلم يأت بإيجاب وجود نص ولا قام به برهان وما كان هكذا فهو باطل ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالبقاء ولا أنه باق كما لا يوصف بالخلد ولا بأنه خالد ولا بالدوام ولا بأنه دائم ولا بالثبات ولا بأنه ثابت ولا بطول العمر ولا بطول المدة لأن الله عز وجل لم يسم نفسه بشيء من ذلك لا في القرآن ولا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قال ه قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا قام به برهان بل البرهان قام ببطلان ذلك لأن كل ما ذكرنا من صفات المخلوقين ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين إلا أن يأتي نص بأن يسمي باسم ما فيوقف عنده ولأن كل ما ذكرنا أعراض فيما هو فيه والله تعالى لا يحمل الأعراض وأيضاً فإنه عز وجل لا في زمان ولا يمر عليه زمان ولا هو متحرك ولا ساكن لكن ي قال لم يزل الله تعالى ولا يزال وأما الفناء فإنه مدة للعدم تعدها أجزاء الحركات والسكون ولا يجوز أن تكون للمدة مدة لكنها مدة في نفسها ولنفسها فالقول بالزمان حق لأنه محسوس معلوم وأما القول بزمان الزمان فهو شيء لم يأت به نص ولا قام بحصته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما ظهور الظاهر فهو متيقن معلوم والظهور صفة الظاهر وفعله تقول ظهر يظهر ظهوراً والظهور معلوم ظاهر بنفسه ولا يجوز أن ي قال أن للظهور ظهوراً لأنه لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما خفاء الخافي فهو عدم ظهوره والعدم ليس شيئاً كما قدمنا وأما القصد إلى الشي والنية له فإنما هما فعل القاصد والناوي وإرادتهما الشيء والقول بهما واجب لأنهما موجودات بالضرورة يجدهما كل أحد من نفسه ويعلمهما من غيره علماً ضرورياً وأما القصد إلى القصد والنية للنية فباطل لأنه لم يأت به نص ولا أوجبهما دليل وما كان هكذا فهو باطل والقول به لا يجوز فهذا وجه البيان فيما خفي عليهم حتى أتوا فيه بهذا التخليط والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نقول لهم أخبرونا إذا قلتم هذه أحوال أهي معان ومسميات مضبوطة محدودة متميز بعضها من بعض أم ليست معاني أصلاً ولا لها مسميات ولا هي مضبوطة ولا محدودة متميز بعضها من بعض فإن قالوا ليست معاني ولا محدودة ولا مضبوطة ولا متيزاً بعضها من بعض ولا لتك الأسماء مسميات أصلاً قيل له فهذا هو معنى العدم حقاً فلم قلتم أنها ليست معدومة ثم لم سميتموها أحوالاً وهي معدومة ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية وتسميتكم هذه المعاني أحوالاً ليست تسمية شريعة ولا لغوية ولا مصطلحاً عليها لبيان ما يقع عليه فهي باطل محض بيقين فإن قالوا هي معان مضبوطة ولها مسميات محدودة متميزة بعضها من بعض قيل لهم هذه صفة الموجودة ولا بد فلم قلتم أنها ليست موجودة وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وي قال لهم أيضاً هذه الأحوال التي تقولون أمعقولة هي أم غير معقولة فإن قالوا هي معقولة كانوا قد أثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها عقلت فهي موجودة ولا بد والعدم ليس معقولاً لكنه لا معنى لهذه اللفظة أصلاً وبالله تعالى التوفيق وي قال لهم أيضاً هل الأحوال في اللغة وفي المعقول إلا صفات لذي حال وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى ي قال هذا حال فلان اليوم وكيف كانت حالك بالأمس وكيف يكون الحال غداً فإذا الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حق مخلوقة ولا بد فظهر فساد قولهم وأنه من أسخف الهذيان والمحال الممتنع الذي لا يرضي به عاقل وي قال لهم أيضاً قبل كل شيء وبعده فمن أين سميتم هذا الاسم يعني الأحوال ومن أين قلتم لا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا حق ولا باطل ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معدومة ولا موجودة ولا هي أشياء ولا غير أشياء أي دليل حداكم على هذا الحكم أقرآن أم سنة أم إجماع أو قول متقدم أم لغة أم ضرورة عقل أم دليل إقناعي أم قياس فهاتوه ولا سبيل إليه فلم يبق إلا الهذر والهوس وقلة المبالاة بما يكتبه اللكان ويسأل عنه رب العالمين والتهاون باستخفاف أهل العقول لمن قال بهذا الجنون ولا مزيد ونعوذ بالله من الخذلان وما ينبغي لهم بعد هذا أن ينكروا على من أتى بما لا يعقل ككون الجسم في مكانين والجسمين في مكان واحد وكون شيء قائماً قاعداً وكون أشياء غير متناهية في وقت واحد فإن قالوا هذا كفر قيل لهم بل الكفر ما جئتم به لأنه إبطال الحقائق كلها والعجب كل العجب أنهم لا يجوزون قدرة الله تعالى على ما هو محال عندهم وقد أتوا في هذا الفصل بعين المحال ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلامهم في هذه المسألة كلام ما سمع بأسخف منه ولا قول السوفسطائية ولا قول النصارى ولا قول الغالية على أن هذه الفرق أحمق الفرق أقوالاً أما السوفسطائية فإنهم قطعوا على أن الأشياء باطل لا حق أو أنها حق عند من هي عنده حق وباطل عند من هي عند باطل وأما النصارى والغالية فإن كانت هاتان الفرقتان قد أتتا بالعظائم فإنهم قطعوا بأنها حق وأما هؤلاء المخاذيل فإنهم أتوا بقول حققوه وأبطلوه ولم يحققوه وأبطلوه ولم يحققوه ولا أبطلوه كل ذلك معاً في وقت واحد من وجه واحد وهذا لا يأتي به إلا مبرسم أو مجنون أو ماجن يريد أن يضحك من معه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونحن نتكلف بيان هذا التخليط التي أتوا به وإن كان مكتفياً بسماعه ولكن التزيد من إبطال الباطل ما أمكن حسن فنقول وبالله تعالى التوفيق أن قولهم لا هي حق ولا هي باطل فإن كل ذي حس سليم يدري أن كل ما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن باطلاً فهو حق هذا لا يعقل غيره فكيف وقد قال الله تعالى ‏"‏ فماذا بعد الحق إلا الضلال ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ليحق الحق ويبطل الباطل ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ خلق كل شيء فقدره ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏"‏ و قال ‏"‏ فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهؤلاء قوم ينتمون إلى الإسلام ويصدقون القرآن ولولا ذلك ما احتججنا عليهم فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل وليس إلا علم أو جهل وهو عدم العلم وليس إلا وجود أو عدم إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء ولا على مخلوق فقد أكذبهم الله عز وجل في دعواهم ولا يشك ذو حس سليم أن ما لم يكن باطلاً فهو حق وما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن معلوماً فهو مجهول وما لم يكن مجهولاً فهو معلوم وما لم يكن شيئاً فهو لا شيء وما لم يكن لا شيء فهو شيء وما لم يكن موجوداً فهو معدوم وما لم يكن معدوماً فهو موجوداً وما لم يكن مخلوقاً فهو غير مخلوق وما لم يكن غير مخلوق فهو مخلوق هذا كله معلوم ضرورة ولا يعقل غيره فإذ هذا كذلك ولا فرق بين ما قال وه في هذه القضية وبين القول اللازم لهم ضرورة وهو أن تلك الأحوال معدومة موجودة معاً حق باطل معاً معلومة مجهولة معاً مخلوقة غير مخلوقة معاً شيء لا شيء معاً وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه لأنهم إذ قالوا ليست حقاً فقد أوجبوا أنها باطل وإذ قالوا ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق وهكذا في سائر ما قال وه فأعجبوا لعقول وسع هذا فيها وسخموا به ورقهم وعجب آخر وهو قال أبو محمد‏:‏ ولم يخلصوا من هذا من قول معمر في وجوب وجود أشياء لا نهاية لها أو أن يصيروا إلى قولنا في إبطال هذه التي يسمونها أحوالاً وإعدامها جملة وما نعلم هوساً إلا وقد انتظمته هذه الم قال ة ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

مسألة أخرى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قال ت الأشعرية ليس في العالم شيء له بعض أصلاً ولا شيء له نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس ولا سدس ولا سبع ولا ثمن ولا تسع ولا عشر ولا جزء أصلاً واحتجوا في هذا بأن قالوا يلزم من قال أن الواحد عشر العشر وجزء من العشرة وبعض العشرة أن يقول ولا بد أن الواحد عشر من نفسه وجزء من نفسه وبعض نفسه وأنه جزء لغيره عشر لغيره لأن العشرة تسعة وواحد فلو كان الواحد عشر العشرة وبعضاً للعشرة وجزأ للعشرة لكان عشراً لنفسه وللتسعة التي هي غيره ولكان جزأ بعضاً لنفسه وللتسعة التي هي غيره‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خبط شديد أول ذلك أنه رد على الله تعالى مجرد وتكذيب للقرآن وخلاف اللغة بل لجميع اللغات ومكابرة للعقول وللحواس قال تعالى ‏"‏ وإذا خلا بعضهم إلى بعض ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فلأمه الثلث فلامه السدس فلها النصف ولهن الربع ولهن الثمن ‏"‏ فقد كذبوا القرآن نصاً ثم هذا موجود في كل طبيعة في كل لغة ومحسوس بالحواس ثم ي قال لهم لا فرق بينكم وبين من صحح ولم ينكر كون الشيء بعض نفسه وبعض غيره وجزأ لنفسه وجزأ لغيره وعشر نفسه وعشر غيره واحتج في تصحيح ذلك بالحجة التي رمتم بها إبطال ذلك ولا مزيد وكلاكما متكسع في ظلمة الخطأ ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ليس الأمر كما ظننتم بل الأسماء موضوعة للتفاهم وللتميز بعض المسميات من بعض فالعشرة اسم للعشرة أفراد مجتمعات في العدد كذلك لتسعة وواحد ولثمانية اثنين ولسبعة وثلاثة ولستة وأربعة وخمسة وخمسة قال تعالى ‏"‏ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ‏"‏ وهكذا جميع الأعداد لا ينكر ذلك إلا مخذول منكر للمشاهدة فبالضرورة ندري أن كل جزء من تلك الجملة فهو بعض لها وعشر لها وقسم منها لنسبة ما ولا ي قال هو جزء لنفسه ولا جزء لغيره ولا أنه بعض لنفسه ولا أنه بعض لغيره ولا عشر لنفسه ولا عشر لغيره ومثل هذا البلق الذي هو اسم لاجتماع السواد والبياض معاً فالبياض بلا شك بعض البلق والسواد بعض البلق وليس البياض جزأ لنفسه وللسواد ولا بعضاً لنفسه وللسواد وكل واحد منهما جزء للبلق وكذلك الإنسان اسم للجملة المجتمعة من أعضائه ولا شك في أن العين بعض الإنسان وجزء من الإنسان ولا يحتمل أن ي قال العين بعض نفسها وبعض الأذن واليد ولا أن ي قال الأذن جزء لنفسها وللعين والأنف وهكذا في سائر الأعضاء فعلى قول هؤلاء النوكى يلزمهم أن لا تكون العين بعض الإنسان وأن يقولوا أن العين بعض نفسها وبعض الأذن ومن أبطل الأبعاض والأجزاء فقد أبطل الجمل لأن الجمل ليست شيئاً البتة غير أبعاضها ومن أبطل الجمل فقد بطل الكل والجزء وأبطال العالم بكل ما فيه وإذا بطل العالم بطل الدين والعقل وهذه حقيقة السفسطة وما نعلم في الأقوال أحمق من هذه المسألة ومن التي قبلها نعوذ بالله من الخذلان‏.‏

 الكلام في خلق الله عز وجل للعالم

في كل وقت وزيادته في كل دقيقة قال أبو محمد‏:‏ وذكر عن النظام أنه قال أن الله تعالى يخلق كل ما خلق في وقت واحد دون أن يعدمه وأنكر عليه القول بعض أهل الكلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقول النظام هاهنا صحيح لأننا إذا أثبتنا أن خلق الشيء هو الشيء نفسه فخلق الله تعالى قائم في كل موجود أبداً ما دام ذلك الموجود موجوداً وأيضاً فإنا نسألهم ما معنى قولكم خلق الله تعالى أمر كذا فجوابهم أن معنى خلقه تعالى أخرجه من العدم إلى الوجود فنقول لهم أليس معنى هذا القول منكم أنه أوجده ولم يكن موجود أفلا بد من قولهم نعم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق فالخلق هو الإيجاد عندكم بلا شك فأخبرونا أليس الله تعالى موجداً لكل موجود أبداً مدة وجوده فإن أنكروا ذلك أحالوا وأوجبوا أن الأشياء موجودة وليس الله تعالى موجداً لها الآن وهذا تناقض وإن قالوا نعم فإن الله تعالى موجد لكل موجود أبداً ما دام موجوداً قلنا لهم هذا هو الذي أنكرتم بعينه قد أقررتم به لأن الإيجاد هو الخلق نفسه والله تعالى موجد لكل ما يوجد في كل وقت أبداً وإن لم يفنه قبل ذلك والله تعالى خالق لكل مخلوق في كل وقت وإن لم يفنه قبل ذلك وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى ‏"‏ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ‏"‏ وصح البرهان بأن الله تعالى خلق التراب والماء الذي يتغذى آدم وبنوه بما استحال عنهما وصارت فيه دماء وأحاله الله تعالى منياً فثبت بهذا يقيناً أن جميع أجساد الحيوان والنوامى كلها متفرقة ثم جمعها الله تعالى فقام منها الحيوان والنوامى و قال عز وجل ‏"‏ ثم أنشأناه خلقاً آخر ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ خلقاً من بعد خلق ‏"‏ فصح أن في كل حين يحيل الله تعالى أحوال مخلوقاته فهو خلق جيد والله تعالى يخلق في كل حين جميع العالم مستأنفاً دون أن يفنيه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الحركة والسكون

قال أبو محمد‏:‏ ذهبت طائفة إلى أن لا حركة في العالم وأن كل ذلك سكون واحتجوا بأن قالوا وجدنا الشيء ساكناً في المكان الأول ساكناً في المكان الثاني وهكذا أبداً فعلمناه أن كل ذلك سكون وهذا قول منسوب إلى معمر بن عمرو العطار مولى بني سليم أحد رؤساء المعتزلة وذهبت طائفة إلى أنه لا سكون أصلاً وإنما هي حركة اعتماد وهذا قول ينسب إلى إبراهيم ابن سيار النظام واحتج غير النظام من أهل هذه الم قال ة بأن قالوا السكون إنما هو عدم الحركة والعدم ليس شيئاً و قال بعضهم هو ترك الحركة وترك الفعل ليس فعلاً ولا هو معنى وذهبت طائفة إلى إبطال الحركة والسكون معاً و قالوا إنما يوجد متحرك وساكن فقط وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وذهبت طائفة إلى أن الجسم في أول خلق الله تعالى ليس ساكناً ولا متحركاً وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون إلا أنها قال ت أن الحركات أجسام وهو قول هشام بن الحكم شيخ الإمامية وجهم بن صفوان السمرقندي وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون وأن كل ذلك أعراض وهذا هو الحق فأما من قال بنفي الحركة وأن كل ذلك سكون فقولهم يبطل بأننا قد علمنا بأن السكون إنما هو إقامة في المكان وأن الحركة نقلة عن ذلك المكان وزوال عنه ولا شك في أن الزوال عن الشيء هو غير الإقامة فيه فإذا الأمر كذلك فواجب أن يكون لهذين المعنيين المتغايرين لكل واحد منهما اسم غير اسم الآخر كما هما متغايران فاتفق في اللغة أن يسمى أحدهما حركة ويسمى الآخر سكوناً وأما قولهم أن كل حركة فهي سكون في المكان الثاني فليس كذلك لأن السكون إقامة لا نقلة فيها فإذا وجدت نقلة متصلة لا إقامة فيها فهي غير الإقامة التي لا نقلة فيها ونوع آخر له أيضاً أشخاص غير أشخاص النوع الآخر وبيقين ندري أن الشيء المتحرك من مكان إلى مكان فإنه وإن جاوز كل مكان يمر عليه فإنه غير واقف ولا مقيم هذا ما لا شك فيه يعرف ذلك بضرورة الحس فصح أن الحركة معنى وأن السكون معنى آخر وأما من قال أن السكون حركة اعتماد فاحتجاج لا يعقل فلا وجه للاشتغال به وأما حجة من احتج بأن السكون عدم الحركة والعدم ليس شيئاً فليس كما قال لأنه عقب الحركة إقامة موجودة ظاهرة فهي وإن كان معها بوجودها عدمت الحركة فليست هي عدماً كما أن القيام معنى صحيح موجود وأن كان قد عدمت معه سائر الحركات والأعمال من القعود والاتكاء والاضطجاع وي قال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل الحركة ليست معنى لأنها عدم السكون فهذا ما لا انفكاك عنه وكذلك من قال أيضاً أن المرض ليس معنى لأنه عدم الصحة والصحة ليست معنى لأنها عدم المرض ومثل هذا كثير جداً وفي هذا إبطال الحقائق كلها وأما من قال أن الترك ليس معنى فخطأ لأن كل من دون الله تعالى فإنه إن ترك معنى ما وفعلاً ما فلا بد له ضرورة من فعل آخر ومعنى آخر هذا أمر يوجد بالمشاهدة والحس لا يمكن غير ذلك فصح أن ترك من دون الله تعالى لفعل ما هو أيضاً فعل صحيح بوجوده منه سمي تاركاً لما ترك وليس الله تعالى كذلك بل لم يزل غير فاعل ولم يكن بذلك فاعلاً للترك لأن ترك الإنسان للفعل كما بينا عرض موجود فيه وهو حامل له ولو كان لترك الله تعالى للفعل معنى لكان قائماً به تعالى معاذ الله من هذا من أن يكون عز وجل حاملاً لعرض فلو كان أيضاً قائماً بنفسه لكان جوهراً والترك ليس جوهراً ولو كان قائماً بغيره عز وجل لكان تعالى فاعلاً له غير تارك فصح الفرق وبالله تعالى التوفيق وأما من أبطل الحركة والسكون معاً فقول فاسد أيضاً لأنه أثبت المتحرك والساكن مع ذلك وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن من تحرك سكن فإن تلك العين المتحركة ثم الساكنة هي عين واحدة وذات واحدة لم تتبدل ذاتها وإنما تبدل عرضها المحمول فيها فبالضرورة ندري أنه حدث فيه أو له أو منه معنى من أجله استحق أن يسمى متحركاً وأنه حدث فيه أو له أو منه أيضاً معنى من أجله استحق أن يسمى ساكناً ولولا ذلك لم يكن بأن يسمى متحركاً أحق به منه بأن يسمى ساكناً هذا أمر محسوس مشاهد فذلك المعنى هو الحركة أو السكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب ونفى الحركة والسكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب والأكل والقيام وهذه سفسطة صحيحة وبالله تعالى التوفيق وأما من قال أن الجسم في أول خلق الله عز وجل ليس ساكناً ولا متحركاً فكلام فاسد أيضاً لأنه لا يتوهم ولا يعقل معنى ثالث ليس حركة ولا سكوناً هذا شيء لا يتشكل في النفس ولا يثبته عقل ولا سمع وأيضاً فلأنه قول لا دليل عليه فهو باطل ولا شك في أن الله تعالى إذا خلق الجسم فإنما يخلقه في زمان ومكان فإذ لا شك في ذلك فالجسم في أول حدوثه ساكن في المكان الذي خلقه الله تعالى فيه ولو طرفة عين ثم إما يتصل سكونه فيه فتطول إقامته فيه وإما أن ينتقل عنه فيكون متحركاً عنه فإن قال قائل بل هو متحرك لأنه خارج عن العدم إلى الوجود قيل له هذا منك تسمية فاسدة لأن الحركة في اللغة وهي التي يتكلم عليها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان والعدم ليس مكاناً ولم يكن المخلوق شيئاً قبل أن يخلقه الله تعالى فحال خلقه هي أول أحواله التي لم يكن هو قبلها فكيف أن يكون له حال قبلها فلم ينتقل أصلاً بل ابتداه الله تعالى الآن وأما الجسم الكلي الذي هو جرم العالم جملة وهو الفلك الكلي فكل جزء منه مقدر مفروض فإن أجزائه المحيطة به من أربع جهات والجزء الذي يليه في جهة عمق الفلك هو مكانه ولا مكان له في الصفحة التي لا تلي الأجزاء التي ذكرنا والله تعالى يمسكه بقوته كما شاء ولا يلاقيه من صفحته العليا شيء أصلاً ولا هنالك مكان ولا زمان ولا خلاء ولا ملا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ورأيت بعض النوكى ممن ينتمي إلى الكلام قولاً ظريفاً وهو أنه قال أن الله تعالى إذ خلق الأرض خلق جرماً عظيماً يمسكها لئلاً تتحدر سفلاً فحين خلق ذلك الجرم أعدمه وخلق آخر وهكذا أبداً بلا نهاية لأنه زعم لو أبقاه وقتين لاحتاج إلى مسك وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له كأن هذا الأنوك لم يسمع قول الله تعالى ‏"‏ إن الله يمسك السماوات والأرض إن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ‏"‏ فصح أن الله تعالى يمسك الكل كما هو دون عمد لا زيادة ولا جرم آخر ولو أن هؤلاء المخاذيل إذ عدموا العلم تمسكوا باتباع القرآن والسكوت عن الزيادة والخبر عن الله بما لا علم لهم به لكان أسلم لهم في الدين والدنيا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من الضلال وأما من قال أن الحركات أجسام فخطأ لأن الجسم في اللغة موضوع للطويل العريض العميق ذي المساحة وليست الحركة كذلك فليست جسماً ولا يجوز أن يوقع عليها اسم جسم إذ لم يأت ذلك في اللغة ولا في الشريعة ولا أوجبه دليل وأوضح أنها ليست جسماً فهي بلا شك عرض وأما من قال أن الحركة ترى فقول فاسد لأنه قد صح إن البصر لا يقع في هذا العالم إلا على لون في ملون فقط وبيقين ندري أن الحركة لا لون لها فإذ لا لون لها فلا سبيل إلى أن ترى وإنما علمنا كون الحركة لأننا رأينا لون المتحرك في مكان ما ثم رأيناه في مكان آخر علمنا أن ذلك الملون قد انتقل عن مكان إلى مكان بلا شك وهذا المعنى هو الحركة أو بأن يحس الجسم قد انتقل من مكان إلى مكان فيدري حينئذ من لامسه وإن كان أعمى أو مطبق العينين أنه تحرك وبرهان ما قلنا أن الهواء لما لم يكن له لون لم يره أحد وإنما يعلم تموجه وتحركه بملاقاته فإنه منتقل وهو هبوب الرياح وكذلك أيضاً علمنا حركة الصوت بإحساسنا الصوت يأتي من مكان ما وكذلك القول في الحركة في المشموم من الطيب والنتن وحركة المذوق فبطل قولاً من قال أن الحركات ترى وصح أن الحركة ليست لوناً ولا لها لون ولو كان لأمكن لآخر أن يدعي أنه يسمع الحركة وهذا خطأ لأنه لا يسمع إلا الصوت ولأمكن لآخر أن يدعي أن الحركة تلمس وهذا خطأ وإنما يلمس المجسة من الخشونة والإملاس أو غير ذلك من المجسات والحق من هذا إنما هو أن الحركة تعرف وتوجد بتوسط كل ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والحركات النقلية المكانية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما حركة ضرورية أو اختيارية فالاختيارية هي فعل النفوس الحية من الملائكة والإنس والجن وساير الحيوان كله وهي التي تكون إلى جهات شتى على غير رتبة معلومة الأوقات وكذلك السكون الاختياري والحركة الضرورية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما طبيعة وأما قسرية والاضطرارية هي الحركة الكائنة ممن ظهرت منه عن غير قصد منه إليها وأما الطبيعة فهي حركة كل شيء غير حي مما بناه الله عليه كحركة الماء إلى وسط المركز وحركة الأرض كذلك وحركة الهواء والنار إلى مواضعها وحركة الأفلاك والكواكب دوراً وحركة عروق الجسد النوابض والسكون الطبيعي هو سكون كل ما ذكرنا في عنصره وأما القسرية فهي حركة كل شيء دخل عليه ما يحيل حركته عن طبيعته أو عن اختياره إلى غيرها كتحريك المرء قهراً وتحريكك الماء علواً والحجر وكذلك وكتحريك النار سفلاً والهواء وكذلك وكتصعيد الهواء والماء وكعكس الشمس لحر النار والسكون القسري هو توقيف الشيء في غير عنصره أو توقيف المختار كرهاً وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في التولد

قال أبو محمد‏:‏ تنازع المتكلمون في معنى عبروا عنه بالتولد وهو أنهم اختلفوا فيمن رمى سهماً فجرح به إنساناً أو غيره وفي حرق النار وتبريد الثلج وساير الآثار الظاهرة من الجمادات ف قال ت طايفة ما تلود من ذلك عن فعل إنسان أو حي فهو فعل الإنسان والحي واختلفوا فيما تولد من غير حي ف قال ت طائفة هو فعل الله و قال ت طائفة ما تولد من غير حي فهو فعل الطبيعة و قال آخرون كل ذلك فعل الله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهؤلاء مبطلون للحقائق غائبون عن موجبات العقول‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والأمرأ بين من أن يطول فيه الخطاب والحمد لله رب العالمين والصواب في ذلك أن كل ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو أثر من جسم فهو خلق الله عز وجل فكل ذلك فعل الله عز وجل بمعنى أنه خلقه وكل ذلك مضاف بنص القرآن وبحكم اللغة إلى ما ظهرت منه من حي أو جماد قال تعالى ‏"‏ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ‏"‏ فنسب عز وجل الاهتزاز والإنبات والربو إلى الأرض و قال ‏"‏ تلفح وجوههم النار ‏"‏ فأخبر تعالى أن النار تلفح و قال تعالى ‏"‏ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ‏"‏ فأخبر عز وجل أن الماء يشوي الوجوه و قال تعالى ‏"‏ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ‏"‏ فسمى تعالى المخطئ قاتلاً وأوجب عليه حكماً وهو لم يقصد قتله قط لكنه تولد عن فعله و قال تعالى ‏"‏ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ‏"‏ فأخبر تعالى أن الكلم والعمل عرض من الأعراض و قال تعالى ‏"‏ أفإن مات أو قتل انقلبتم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ على شفا جرف هار فانهار به ‏"‏ ولم تختلف أمة ولا لغة في صحة قول القائل مات فلا وسقط الحائط فنسب الله تعالى وجميع خلقه الموت إلى الميت والسقوط إلى الحائط والانهيار إلى الجرف لظهور كل ذلك منها ليس في القرآن ولا في السنن ولا في العقول شيء غير هذا الحكم ومن خالف هذا فقد اعترض على الله تعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأمم وعلى جميع عقولهم وهذه صفة من عظمت مصيبته بنفسه ومن لا دين له ولا عقل ولا حياء ولا علم وصح بكل ما ذكرنا أن إضافة كل أثر في العالم إلى الله تعالى هي على غير إضافته إلى من ظهر منه وإنما إضافته إلى الله تعالى لأنه خلقه وأما إضافته إلى من ظهر منه أو تولد عنه فلظهوره منه اتباعاً للقرآن ولجميع اللغات ولسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل هذه الإخبارات وكلتا هاتين الإضافتين حق لا مجاز في شيء من ذلك لأنه لا فرق بين ما ظهر من حي مختار أو من حي مختار في أن كل ذلك ظاهر مما ظهر منه وأنه مخلوق لله تعالى إلا أن الله تعالى خلق في الحي اختياراً لما ظهر منه ولم يخلق الاختيار فيما ليس حياً ولا مريداً فما تولد عن فعل فاعل فهو فعل الله عز وجل لمعنى أنه خلقه وهو فعل ما ظهر منه بمعنى أنه ظهر منه قال الله تعالى ‏"‏ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ‏"‏ وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في المداخلة والمجاورة والكمون

قال أبو محمد‏:‏ ذهب القائلون بأن الألوان أجسام إلى المداخلة ومعنى هذه اللفظة أن الجسمين يتداخلان فيكونان جميعاً في مكان واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا كلام فاسد لما سنبينه إن شاء الله تعالى في باب الكلام في الأجسام والأعراض من ديواننا هذا وبالله التوفيق من ذلك أن كل جسم فله مساحة وإذا كان كذلك فله مكان زائد وإذ له مكان بقدر مساحته ولا بد فإن كل جسم زيد عليه جسم آخر فإن ذلك الجسم الزائد يحتاج إلى مكان زائد من أجل مساحته الزائدة هذا أمر يعلم بالمشاهدة فإن اختلط الأمر على من لم يتمرن في معرفة حدود الكلام من أجل ما يرى في الأجسام المتخلخلة من تخلل الأجسام المايعة لها فإنما هذا لأن في خلال أجزاء تلك الأجسام المتخلخلة خروقاً صغاراً مملوءة هواء فإذا صب عليها الماء أو مائع ما ملأ تلك الخروق وخرج عنها الهواء الذي كان فيها وهذا ظاهر للعين محسوس خروج الهواء عنها بنفاخات وصوت من كل ما يخرج عنه الهواء مسرعاً والذي ذكرنا فإنه إذا تم خروج الهواء عنها وزيد في عدد المائع ربا واحتاج إلى مكان زائد وأما الذي ذكرنا قبل فإنه في الأجسام المكتنزة كماء صب على ماء أو دهن على دهن أو دهن على ماء وهكذا في كل شيء من هذه الأنواع وغيرها فصح يقيناً أن الجسم إنما يكون في الجسم على سبيل المجاورة كل واحد في حيز غير حيز الآخر وإنما تكون المداخلة بين الأعراض والأجسام وبين الأعراض والأعراض لأن العرض لا يشغل مكاناً فيجد اللون والطعم والمجسة والرائحة والحر والبرد والسكون كل ذلك مداخل للجسم ومداخل بعضه بعضاً ولا يمكن أن يكون جسم واحد في مكانين ولا جسمان في مكان واحد ذم أن المجاورة بين الجسمين تنقسم ثلاثة أقسام أحدها أن يخلع أحد الجسمين كيفياته ويلبس كيفية الآخر كنقطة رميتها في دم خل أو دن مرق أو في لبن أو في مداد أو شيء يسير من بعض هذه في بعض أو من غيرها كذلك فإن الغالب منها يسلب المغلوب كيفياته الذاتية والغيرية ويذهبها عنه ويلبسا معاً كيفيات آخر كما الزاج إذا جاور العفص وكجسم الجير إذا جاور جسم الزرنيخ وكسائر المعاجن كلها والدقيق والماء وغير ذلك والثالث أن لا يخلع واحد منهما عن نفسه كيفية من كيفياته لا الذاتية ولا الغيرية بل يبقى كل واحد منهما كما كان كزيت أضيف إلى ماء وكحجر إلى حجر وثوب إلى ثوب فهذا حقيقة الكلام في المداخلة والمجاورة وأما الكمون فإن طائفة ذهبت إلى أن النار كامنة في الحجر وذهبت طائفة إلى إبطال هذا و قال ت أنه لا نار في الحجر أصلاً وهو قول ضرار بن عمرو‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل طائفة منهما فإنها تفرط على الأخرى فيما تدعى عليها فضرار ينسب إلى مخالفيه أنهم يقولون بأن النخلة بطولها وعرضها وعظمها كامنة في النواة وأن الإنسان بطوله وعرضه وعمقه وعظمه كامن في المني وخصومه ينسبون إليه أنه يقول ليس في النار حر ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في الإنسان دم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا القولين جنون محض ومكابرة للحواس والعقول والحق في ذلك أن في الأشياء ما هو كامن كالدم في الإنسان والعصير في العنب والزيت في الزيتون والماء في كل ما يعتصر منه وبرهان ذلك أن كل ما ذكرنا إذا خرج مما كان كامناً فيه ضمر الباقي لخروج ما خرج وخف وزنه لذلك عما كان عليه قبل خروج الذي خرج ومن الأشياء ما ليس كامناً كالنار في الحجر والحديد لكن في حجر الزناد والحديد الذكر قوة إذا تضاغطا احتدم ما بينهما من الهواء فاستحال ناراً وهكذا يعرض لكل شيء منحرق فإن رطوباته تستحيل ناراً ثم دخاناً ثم هواء إذ في طبع النار استخراج ناريات الأجسام وتصعيد رطوباتها حتى يفني كل ما في الجسم من الناريات والمائيات عنه بالخروج ثم لو نفخت دهرك على ما بقي من الأرضية المحضة وهي الرماد لم يحترق ولا اشتعل إذ ليس فيه نار فتخرج ولا ماء فيتصعد وكذلك دهن السراج فإنه كثير الناريات بطبعه فيستحيل بما فيه من المائية اليسيرة دخاناً هوائياً وتخرج ناريته حتى يذهب كله وأما القول في النوى والبزور والنطف فإن في النواة وفي البزر وفي النطفة طبيعة خلقها في كل ذلك الله عز وجل وهي قوة تحتذب الرطوبات الواردة عليها من الماء والزبل ولطيف التراب الواد كل ذلك على النواة والبزر فتحيل كل ذلك إلى ما في طبعها إحالته إليه فيصير عوداً ولحاء وورقاً وزهراً وثمراً وخوصاً وكرماً ومثل الدم الوارد على النطفة فتحيله طبيعته التي خلقها الله تعالى فيه لحماً ودماً وعظماً وعصباً وعروقاً وشرائين وعضلاً وغضاريف وجلداً وظفراً وشعراً وكل ذلك خلق الله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلا أنه ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في الزيتون زيت ولا في العنب عصير ولا في الإنسان دم وهذا أمر ناظرنا عليه من لاقيناه منهم والعجب كل العجب قولهم هذا التخليط وإنكارهم ما يعرف بالحواس وضرورة العقل ثم هم يقولون مع هذا أن للزجاج والحصا طعماً ورائحة وأن لقشور العنب رائحة وأن للفلك طعماً ورائحة وهذا إحدى عجائب الدنيا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وما وجدنا لهم في ذلك حجة غير دعواهم أن الله تعالى خلق كل حر نجده في النار عند مسنا إياها وكذلك خلق البرد في الثلج عند مسنا إياه وكذلك خلق الزيت عند عصر الزيتون والعصير عند عصر العنب والدم عند القطع والشرط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذا تعلقوا من هذا بحواسهم فمن أين قالوا أن للزجاج طعماً ورائحة للفلك طعماً ورائحة وهذا موضع تشهد الحواس بتكذيبهم في أحدهما ولا تدرك الحواس الآخر وي قال لهم لعل الناس ليس في الأرض منهم أحد وإنما خلفهم الله عند رؤيتكم لهم ولعل بطونكم لا مضارين فيها ورؤوسكم لا أدمغة فياه لكن الله عز وجل خلق كل ذلك عند الشدخ والشق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقول الله تعالى يكذبهم إذ قال تعالى ‏"‏ يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ‏"‏ فلولا أن النار تحرق بحرها ما كان يقول الله عز وجل ‏"‏ قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ‏"‏ فصح أن الحر في النار موجود وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نار جهنم أشد حراً من نارنا هذه سبعين درجة و قال تعالى ‏"‏ وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ‏"‏ فأخبر أن الشجرة تنبت بها و قال تعالى ‏"‏ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ‏"‏ فصح أن السكر والعصير الحلال مأخوذ من الثمر والأعناب ولو لم يكونا فيهما ما أخذا منهما وقد أطبقت الأمة كلها على إنكار هذا الجنون وعلى القول هذا أحلى من العسل وأمر من الصبر وأحر من النار ونحمد الله على السلامة‏.‏

 الكلام في الاستحالة

قال أبو محمد‏:‏ احتج الحنيفيون ومن وافقهم في قولهم أن النقطة من البول والخمر تقع في الماء فلا يظهر لها فيه أثر أنها باقية فيه بجسمها إلا أن أجزاءها دقت وخفيت عن أن تحس وكذلك الحبر يرمى في اللبن فلا يظهر له فيه اثر وكذلك الفضة اليسير تذاب في الذهب فلا يظهر لها فيه أثر وهكذا كل شيء قالوا لو أن ذلك المقدار من الماء يحيل ماء النقطة من الخمر تقع فيه لكان أكثر من ذلك المقدار أقوى على الإحالة بلا شك ونحن نجد كلما زدنا نقط الخمر وقلتم أنتم قد استحالت ماء ونحن نزيد فلا يلبث أن تظهر الخمر وهكذا في كل شيء قالوا فظهرت صحة قال أبو محمد‏:‏ فقلنا لهم أن الأمور إنما هي على ما رتبها الله عز وجل وعلى ما توجد عليه لا على قضاياكم المخالفة للحس ولا ينكر أن يكون مقدار ما يفعل فعلاً ما فإذا كثر لم يفعل ذلك الفعل كالمقدار من الدواء ينفع فإذا زيد فيه أو نقص منه لم ينفع ونحن نقر معكم بما ذكرتم ولا ننكره فنقول أن مقداراً ما من الماء يحيل مقداراً ما مما يلقى فيه من الخل أو الخمر أو العسل ولا يحيل أكثر منه مما يلقى فيه ونحن نجد الهواء يحيل الماء هواء حتى إذا كثر الهواء المستحيل من الماء لم يستحل من الماء بل أحال الهواء ماء وهكذا كلما ذكرتم وإنما العمدة هاهنا على ما شهدت به أوائل العقول والحواس من أن الأشياء إنما تختلف باختلاف طبائعها وصفاتها التي منها تقوم وحدودها وبها تختلف في اللغات أسماؤها فللماء صفات وطبائع إذا وجدت في جرم ما سمى ماء فإذا عدمت منه لم يسم ماء ولم يكن ماء وهكذا كل ما في العالم ولا نحاشي شيئاً أصلاً ومن المحال أن تكون حدود الماء وصفاته وطبعه في العسل أو في الخمر وهكذا كل شيء في العالم فأكثره يستحيل بعضه إلى بعض فأي شيء وجدت فيه حدود شيء ما سمي باسم ما فيه تلك الحدود إذا استوفاها كلها فإن لم يستوف إلا بعضها وفارق أيضاً شيئاً من صفاته الذاتية فهو حينئذ شيء غير الذي كان وغير الذي مازج كالعسل الملقى في الأبارج ونقطة مداد في لبن وما أشبه ذلك وهذه رتبة العالم في مقتضى العقول وفيما تشاهد الحواس والذوق والشم واللمس ومن دفع هذا خرج عن المعقول ويلزم الحنيفيين من هذا اجتناب ماء البحر لأن فيه على عقولهم عذرة وبول لا ورطوبات ميتة وكذلك مياه جميع الأنهار أولها عن آخرها نعم وماء المطر أيضاً ونجد الدجاج يتغذى بالميتة والدم والعذرة والكبش يسقي خمراً أن ذلك كله قد استحال عن صفات كل ذلك وطبعه إلى لحم الدجاج والكبش فحل عندنا وعندهم ولو كثر تغذيها به حتى تضعف طبيعتها عن إحالته فوجد في خواصها وفيها صفة العذرة والميتة حرم أكله وهذا هو الذي أنكروه نفسه وهو مقرون معنا في أن الثمار والبقول تتغذى بالعذرة وتستحيل فيها مدة أنها قد حلت وهذا هو الذي أنكروه نفسه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الطفرة

قال أبو محمد‏:‏ نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النظام أنه قال أن المار على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها ولا حاذاها ولا حل فيها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا عين المحال والتخليط إذا إن كان هذا على قوله في أنه ليس في العالم إلا جسم حاشا الحركة فقط فإنه وإن كان قد أخطأ في هذه القصة فكلامه الذي ذكرنا خارج عليه خروجاً صحيحاً لأن هذا الذي ذكرنا ليس موجود البتة غلا حاسة البصر فقط وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب التي في الأفلاك البعيدة بلا زمان كما يقع على أقرب ما يلاصقه من الألوان لا تفاضل بين الأدراكين في المدة أصلاً فصح ضرورة أن خلا البصر لو قطع المسافة التي بين الناظر وبين الكواكب ومر عليها لكان ضرورة بلوغه إليها في مدة أطول من مدة مروره على المسافة التي ليس بينه وبين من يراه فيها إلا يسير أو أقل فصح يقيناً أن البصر يخرج من الناظر ويقع على كل مرئي قرب أو بعد دون أن يمر في شيء من المسافة التي بينهام ولا يحلها ولا يحازيها ولا يقطعها وأما في سائر الأجسام فهذا محال ألا ترى أنك تنظر إلى الهدم وإلى ضرب القصار بالثوب في الحجر من بعد فتراه ثم يقيم سويعة وحينئذ تسمع صوت ذلك الهدم وذلك الضرب فصح يقيناً أن الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها وأن البصر لا يقطعها ولا ينتقل فيها فإذا صح البرهان بشيء ما لم يعترض عليها إلا عديم عقل أو عديم حياء أو عديم علم أو عديم دين وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الإنسان

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في هذا الاسم على ما يقع فذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على الجسد دون النفس وهو قول أبي الهذيل العلاف وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على النفس دون الجسد وهو قول إبراهيم النظام وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع عليهما معاً كالبلق الذي لا يقع إلا على السواد والبياض معاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ واحتجت الطائفة التي ذكرنا بقول الله عز وجل ‏"‏ خلق الإنسان من صلصال كالفخار ‏"‏ وبقول الله تعالى ‏"‏ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى ‏"‏ وبآيات أخر غير هذه وهذه بلا شك صفة للجسد لا صفة للنفس لأن الروح إنما تنفخ بعد تمام خلق الإنسان الذي هو الجسد واحتجت الطائفة الأخرى بقوله تعالى ‏"‏ إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً ‏"‏ وهذا بلا خلاف صفة النفس لا صفة الجسد لأن الجسد موات والفعالة هي النفس وهي المميزة الحية حاملة لهذه الأخلاق وغيرها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا هذين الاحتجاجين حق وليس أحدهما أولى بالقول من الآخر ولا يجوز أن يعارض أحدهما بالآخر لأن كليهما من عند الله عز وجل وما كان من عند الله فليس بمختلف قال تعالى ‏"‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ‏"‏ فإذ كل هذه الآيات حق فقد ثبت أن للإنسان اسم يقع على النفس دون الجسد ويقع أيضاً على الجسد دون النفس ويقع أيضاً على كليهما مجتمعين فنقول في الحي هذا إنسان وهو مشتمل على جسد وروح ونقول للميت هذا إنسان وهو جسد لا نفس فيه ونقول أن الإنسان يعذب قبل يوم القيامة وينعم يعني النفس دون الجسد وأما من قال أنه لا يقع إلا على النفس والجسد معاً فخطأ يبطله الذي ذكرنا من النصوص التي فيها وقوع اسم الإنسان على الجسد دون النفس وعلى النفس دون الجسد وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الجواهر والأعراض

وما الجسم وما النفس قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في هذا الباب فذهب هشام بن الحكم إلى أنه ليس في العالم غلا جسم وأن الألوان والحركات أجسام واحتج أيضاً بأن الجسم إذا كان طويلاً عريضاً عميقاً فمن حيث وجدته وجدت اللون فهي فوجب الطول والعرض والعمق للون أيضاً فإذا وجب ذلك للون فاللون أيضاً طويل عريض عميق وكل طويل عريض عميق جسم فاللون جسم وذهب إبراهيم بن سيار النظام إلى مثل هذا سواء سواء غلا الحركات فإنه قال هي خاصة أعراض وذهب ضرار بن عمرو إلى أن الأجسام مركبة من الأعراض وذهب سائر الناس إلى أن الأجسام هي كل ما كان طويلاً عريضاً عميقاً شاغلاً لمكان وإن كل ما عداه من لون أو حركة أو مذاق أو طيب أو محبة فعرض وذهب بعض الملحدين إلى نفي الأعراض ووافقهم على ذلك بعض أهل القبلة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما الجسم فمتفق على وجوده وأما الأعراض فإثباتها بين واضح بعون الله تعالى وهو أننا لم نجد في العالم غلا قائماً بنفسه حاملاً لغيره أو قائماً بغيره لا بنفسه محمولاً في غيره ووجدنا القائم بنفسه شاغلاً لمكان يملأه وجدنا الذي لا يقوم بنفسه لكنه محمول في غيره لا يشغل مكاناً بل يكون الكثير منها في مكان حاملها القائم بنفسه هذه قسمة لا يمكن وجود شيء في العالم بخلافها ولا وجود قسم زائد على ما ذكرنا فإذ ذلك كذلك فبالضرورة علمنا أن القائم بنفسه الشاغل لمكانه هو نوع آخر غير القائم بغيره الذي لا يشغل مكاناً فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الجنسين اسم يعبر عنه ليقع التفاهم بيننا فاتفقنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل لمكانه جسماً واتفقنا على أن سمينا ما لا يقوم بنفسه عرضاً وهذا بيان برهان مشاهد ووجدنا الجسم تتعاقب عليه الألوان والجسم قائم بنفسه فبينا نراه أبيض صار أخضر ثم أحمر ثم أصفر كالذي نشاهده في الثمار والأصباغ فبالضرورة نعلم أن الذي عدم وفني من البياض والخضرة وسائر الألوان هو غير الذي بقي موجوداً لم يفن وأنهما جميعاً غير الشيء الحامل لهما لأنه لو كان شيء من ذلك هو الآخر لعدم بعدمه فدل بقاؤه بعده على أنه غيره ولا بد إذ من المحال الممتنع أن يكون الشيء معدوماً موجوداً في حالة واحدة في مكان واحد في زمان واحد وأيضاً فإن الأعراض هي الأفعال من الأكل والشرب والنوم والجماع والمشي والضرب وغير ذلك فمن أنكر الأعراض فقد أثبت الفاعلين وأبطل الأفعال ونفى الفاعلين وكل الطائفتين مبطلة لما يشاهد بالحواس ويدرك بالعقل سوفسطائيون حقاً لأن من الأعراض ما يدرك بالبصر وهو اللون إذا ما لا لون له لا يدرك بالشم كالنتن والطيب ومنها ما يدرك بالذوق كالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة ومنها ما يدرك باللمس كالحر والبرد ومنها ما يدرك السمع كحسن الصوت وقبحه وجهارته وجفوته ومنها ما يدرك بالعقل كالحركة والحمق والعقل والعدل والجوار والعلم والجهل فظهر فساد قول مبطلي الأعراض الأعراض يقيناً والحمد لله رب العالمين فإذ قد صح كل ما ذكرنا فإنما الأسماء عبارات وتمييز للمسميات ليتوصل بها المخاطبون إلى تفاهم مراداتهم من الوقوف على المعاني وفصل بعضها من بعض ليس للأسماء فائدة غير هذه فوجب ضرورة أن يوقع على القائم بنفسه الشاغل لمكانه الحامل لغيره أسماء تكون عبارة عنه وأن يوقع أيضاً على القائم بغيره لا بنفسه المحمول الذي لا يشغل مكاناً اسماً آخر يكون أيضاً عبارة عنه لينفصل بهذين الاسمين كل واحد من ذينك المسميين عن الآخر وإن لم يكن هذا وقع التخليط وعدم البيان واصطلحنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل للمكان جسماً واتفقنا على أن سمينا القائم بغيره لا بنفسه عرضاً لأنه عرض في الجسم وحدث فيه هذا هو الحق المشاهد بالحس المعروف بالعقل وما عدا هذا فهذيان وتخليط لا يعقله قائله فكيف غيره فصح بهذا كله وجود الأعراض وبطلان قول من أنكرها وصح أيضاً بما ذكرنا أن حد اللون والحركة وكل ما لا يقوم بنفسه هو غير حد القائم بنفسه فإذ ذلك كذلك فلا جسم إلا القائم بنفسه وكل ما عداه فعرض فلاح بهذا صحة قول من قال بذلك وبطل قول هشام والنظام وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأما احتجاج هشام بوجود الطول والعرض والعمق الذي توهمها في اللون فإنما هو طول الجسم الملون وعرضه وعمقه فقط وليس للون طول ولا عرض ولا عمق وكذلك الطعم والمجسة والرائحة وبرهان ذلك أنه لو كان للجسم طول وعرض وعمق وكان للون طول غير طول الملون الحامل له وعرض آخر غير عرض الحامل له وعمق آخر غير عمق الملون الحامل له لاحتاج كل واحد منهما ذراع وعرضه ذراع وعمقه ذراع ثم يسعان جميعاً في واحد ليس هو إلا ذراع في ذراع فقط ويلزمه مثل هذا في الطعم والرائحة والمجسة لأن كل هذه الصفات توجد من كل جهة من جهات الجسم الذي هي فيه كما يوجد اللون ولا فرق وقد يذهب الطعم حتى يكون الشيء لا طعم له الرائحة والطعم والمجسة لا للون ولا للطعم مكان ولا للرائحة ولا للمجسة وقد نجد جسماً طويلاً عريضاً عميقاً لا لون له وهو الهواء ساكنه ومتحركه وبالضرورة ندري أنه لو كان له لون لم يزد ذلك في مساحته شيئاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن بلغ الجهل بصاحبه إلى أن يقول ليس الهواء جسماً سألناه عما في داخل الزق المنفوخ ما هو وعما يلقي الذي يجرى فرساً جواداً بوجهه وجسمه فإنه لا شك في أنه جسم قوي متكثر محسوس وبرهان آخر وهو أن كل أحد يدري أن الطول والعرض والعمق لو كان لكل واحد منهما طول وعرض وعمق لاحتاج كل واحد منهما أيضاً إلى طول آخر وعرض آخر وعمق آخر وهكذا مسلسلاً إلى ما لا نهاية له وهذا باطل فبطل قول إبراهيم وهشام وبالله تعالى التوفيق وأما قول ضرار أن الأجسام مركبة من الأعراض فقول فاسد جداً لأن الأعراض قد صح كما ذكرنا أنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا تقوم بنفسها وصح أن الأجسام ذات أطوال وعروض وأعماق وقائمة بأنفسها ومن المحال أن يجتمع ما لا طول له ولا عرض ولا عمق مع مثله فيتقوم منها ما له طول وعرض وعمق وإنما غلط فياه من توهم أن الأجسام مركبة من السطوح وأن السطوح مركبة من الخطوط والخطوط مركبة من النقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ على كل حال لأن السطوح المطلقة فإنما هي تناهي الجسم وانقطاعه في تماديه من أوسع جهاته وعدم امتداده فقط وأما الخطوط المطلقة فإنما هي تناهي جهة السطح وانقطاع تماديها وأما النقط فهي تناهي جهات الجسم من أحد نهاياته كطرف السكين ونحوه فكل هذه الأبعاد إنما هي عدم التمادي ومن المحال أن يجتمع عدم فيقوم منه موجود وإنما السطوح المجسمة والخطوط المجسمة والنقط المجسمة فإنما هي أبعاض الجسم وأجزاؤه ولا تكون الأجزاء أجزاء إلا بعد القسمة فقط على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وذهب قوم من المتكلمين إلى إثبات شيء سموه جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً وقد ينسب هذا القول إلى بعض الأوائل وحد هذا الجوهر عند من أثبته أنه واحد بالذات قابل للمتضادات قائم بنفسه يحمل من كل عرض عرضاً واحداً فقط كاللون والطعم والرائحة والمجسة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا هذين القولين والقول الذي اجتمعا عليه في غاية الفساد والبطلان أو لا أنها كلها دعاوي مجردة لا يقوم على صحة شيء منها دليل أصلاً لا برهاني ولا إقناعي بل البرهان العقلي والحسي يشهدان ببطلان كل ذلك وليس يعجز أحد أن يدعى ما شاء وما كان هكذا فهو باطل محض وبالله تعالى نتأيد وأما نحن فنقول أنه ليس في الوجود إلا الخالق وخلقه وأنه ليس الخلق إلا جوهراً حاملاً لأعراضه وأعراضاً محمولة في الجوهر لا سبيل إلى تعدي أحدهما عن الآخر فكل جوهر جسم وكل جسم جوهر وهما اسمان معناهما واحد ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونجمع إن شاء الله تعالى كل شيء أوقعت عليه هتان الطائفتان اسم جوهر لا جسم ولا عرض ونبين إن شاء الله تعالى فساد كل ذلك بالبراهين الضرورية كما فعلنا في سائر كلامنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ حققنا ما أوقع عليه بعض الأوائل ومن قلدهم اسم جوه و قالوا أنه ليس جسماً ولا عرضاً فوجدناهم يذكرون الباري تعالى والنفس والهيولى والعقل والصورة وعبر بعضهم عن الهيولى بالطينة وبعضهم بالخميرة والمعنى في كل ذلك واحد إلا أن بعضهم قال المراد بذلك الجسم متعرياً من جميع أعراضه وأبعاده وبعضهم قال المراد بذلك الشيء الذي منه كون هذا العالم ومنه تكون على حسب اختلافهم في الخالق أو في إنكاره وزاد بعضهم في الجوهر الخلا والمدة اللذين لم يزالا عندهم يعنى بالخلا المكان المطلق لا المكان المعهود ويعني بالمدة الزمان المطلق لا الزمان المعهود‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه أقوال شيء منها لمن ينتمي إلى الإسلام وإنما هي للمجوس والصابئين والدهرية والنصاري في تسميتهم الباري تعالى جوهراً فإنهم سموه في أمانتهم التي لا يصح عندهم دين لملكي ولا لنسطوري ولا ليعقوبي ولا لهاروني إلا باعتقادها وإلا فهو كافر بالنصرانية قطعاً حاشا تسميته الاباري تعالى جوهراً فإنه للمجسمة أيضاً وحاشا القول بأن النفس جوهر لا جسم فإنه قد قال به العطار أحد رؤساء المعتزلة وأما المنتمون إلى الإسلام فإن الجوهر الذي ليس جسماً ولا عرضاً ليس هو عندهم شيئاً إلى الأجزاء الصغار التي لا تتجزأ إليها تنحل الأجسام بزعمهم وقد ذكر هذا عن بعض الأوائل أيضاً فهذه ثمانية أشياء كما ذكرنا لا نعلم أحداً سمي جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً وغيرها إلا أن قوماً جهالاً يظنون في القوي الذاتي أنها جواهر وهذا جهل منهم لأنها بلا خلاف محمولة فيما هي غير قائمة بنفسها وهذه صفة العرض لا صفة الجوهر بلا خلاف‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأما الخلا والمدة فقد تقدم إفسادنا لهذا القول في صدر ديواننا بالبراهين الضرورية وفي كتابنا الموسوم بالتحقيق في نقض كتاب العلم الإلهي لمحخمد بن زكريا الطيب وحللنا كل دعوى أوردها هو وغيره في هذا المعنى بأبين شرح والحمد لله رب العالمين كثيراً وأثبتنا في صدر كتابنا هذا وهنالك أنه ليس في العالم خلا البتة وأنه كله كرة مصمتة لا تخلل فيها وأنه وليس وراءها خلاء لا ملاء ولا شيء البتة وأن المدة ليست للأمد أحدث الله الفلك بما فيه من الأجسام الساكنة والمتحركة وأعراضها وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزرافة وسارقة الماء والآلة التي تدخل في إحليل من به أسر البول براهين ضرورية بتحقيق أن لا خلاء في العالم أصلاً وأن الخلاء عند القائلين به إنما هو مكان لا تمكن فيه وهذا محال بما ذكرنا لأنه لو خرج الماء من الثقب الذي في أسفل سارقة الماء وقد شد أعلاها لبقي مكانه خالياً بلا متمكن فيه فإذا لم يمكن ذلك أصلاً ولا كان فيه بنية العالم وجوده وقف الماء باقياً لا ينهرق حتى إذا فتح أعلاها ووجد الهواء مدخلاً خرج الماء وانهرق لوقته وخلفه الهواء وكذلك الزرافة والآلة المتخذة لمن به أسر البول فإنه إذا حصلت تلك في داخل الإحليل وأول المثانة ثم جبذ الزر المغلق ليقها إلى خارج اتبعه البول ضرورة وخرج إذ لم يخرج لبقي ثقب الآلة خالياً لا شيء فيه وهذا باطل ممتنع وقد بينا في صدر كتابنا كما اعترض به الملحدون المخالفون لنا في هذا المكان فأغني عن إعادته فإن قال قائل فالماء الذي اخترعه له والثريد الذي اخترع له من أين اخترعه وهي أجسام محدثة والعالم عندكم ملأ لا خلا فيه ولا تخلخل ولا يكون الجسمان في مكان واحد قلنا وبالله تعالى التوفيق لا يخلو هذا من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون الله عز وجل أحال أجزاء من الهوى ماء وتمراً وثريداً فالله أعلم أي ذينك كان والله على كل شيء قدير فسقط قولهم في الخلا والمدة والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما الصورة فكيفية بلا شك وهي تخليط الجواهر وتشكلها إلا أنها قسمان أحدهما ملازم كالصورة الكلية لا تفارق الجواهر البتة ولا توجد دونها ولا تتوهم الجواهر عارية عنها والآخر تتعاقب أنواعه وأشخاصه على الجواهر كانت قال الشيء عن تثليث إلى تربيع ونحو ذلك فصح أنها عرض بلا شك وبالله تعالى التوفيق وأما العقل فلا خلاف بين أحد له عقل سليم في أنه عرض محمول في النفس وكيفية برهان ذلك أنه يقبل الأشد والأضعف فنقول عقل أقوى من عقل وأضعف من عقل وله ضد وهو الحمق ولا خلاف في الجواهر أنها لا ضد لها وإنما التضاد في بعض الكيفيات فقط وقد اعترض في هذا بعض من يدعي له علم الفلسفة ف قال ليس في العقل ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه فقلت للذي ذكر لي هذا البحث أن هذه سفسطة وجهل لو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه ولا لشيء من الكيفيات ضد ولكن لوجودها ضد وهو عدمها فيبطل التضاد من جميع الكيفيات وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل ولا فرق بين وجود الضد للعقل وبين وجوده للعلم ولسائر الكيفيات وهي باب واحد كله وإنما هي صفات متعاقبة كلها موجودة فالعقل موجود ثم يعقبه الحمق وهو موجود كما أن العلم موجود ويعقبه الجهل وكما أن النجدة موجودة ويعقبها الجبن وهو موجود وهذا أمر لا يخفى على من له أقل تمييز وكذلك الجواهر لا تقبل الأشد والأضعف في ذواتها وهذا أيضاً قول كل من له أدنى فهم من الأوايل والعقل عند جميعهم هو تمييز الفضائل من الرذائل واستعمال الفضائل واجتناب الرذائل والتزام ما يحسن به المغبة في دار البقاء وعالم الجراء وحسن السياسة فيما يلزم المرء في دار الدنيا وبهذا أيضاً جاءت الرسل عليهم السلام قال الله عز وجل ‏"‏ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ‏"‏ فصح أن العقل هو الإيمان وجميع الطاعات و قال تعالى عن الكفار ‏"‏ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ‏"‏ ومثل هذا في القرآن كثير فصح أن العقل فعل النفس وهو عرض محمول فيها وقوة من قواها فهو عرض كيفية بلا شك وإنما غلط من غلط في هذا لأنه رأى لبعض الجهال المخلطين من الأوائل أن العقل جوهر وأن له فلكاً فعول على ذلك من لا علم له وهذا خطأ كما أوردنا وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن لفظة العقل عربية أتى بها المترجمون عبارة عن لفظة أخرى يعبر عنها في اليونانية أو في غيرها من اللغات عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية هذا ما لا خفاء به عند أحد ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبرة بها عن عرض وكان مدعى خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهتاً بلا شك ولقد قال بعض النوكي الجهال لو كان العقل عرضاً لكانت الأجسام أشرف منه فقلت للذي أتاني بهذا وهل للجوهر شرف إلا بأعراضه وهل شرف جوهر قط إلا بصفاته لا بذاته هل يخفى هذا على أحد ثم قلنا ويلزمهم هذا نفسه على قولهم السخيف في العلم والفضائل أن لا يخالفوننا في أنها أعراض فعلي مقدمتهم السخيفة يجب أن تكون الأجسام كلها اشرف منها وهذا كما ترى وأما الهيولى فهو الجسم نفسه الحامل لأعراضه كلها وإنما أفردته الأوائل بهذا الاسم إذ تكلموا عليه مفرداً في الكلام عليه عن سائر أعراضه كلها من الصورة وغيرها مفصولاً في الكلام عليه خاصة عن أعراضه وإن كان لا سبيل إلى أن يوجد خلياً عن أعراضه ولا متعرياً منها أصلاً ولا يتوهم وجوده كذلك ولا يتشكل في النفس ولا يتمثل ذلك أصلاً بل هو محال ممتنع جملة كما أن الإنسان الكلي وجميع الأجناس والأنواع ليس شيء منها غير أشخاصه فقط فهي الأجسام بأعيانها إن كان النوع نوع أجسام وهي أشخاص الأعراض إن كان النوع نوع أعراض ولا مزيد لأن قولنا الإنسان الكلي يزيد النوع إنما معناه أشخاص الناس فقط لا أشياء أخر وقولنا الحمرة الكلية إنما معناه أشخاص الحمرة حيث وجدت فقط فبطل بهذا تقدير من ظن من أهل الجهل أن الجنس والنوع والفصل جواهر لا أجسام وبالله تعالى التوفيق لكن الأوائل سمتها وسمت الصفات الأوليات الذاتيات جوهريات لا جواهر وهذا صحيح لأنها منسوبة إلى الجواهر لملازمتها لها وأنها لا تفارقها البتة ولا يتوهم مفارقتها لها وبالله تعالى التوفيق فبطل قولهم في الخلا والمدة والصورة والعقل والهيولى والحمد لله رب العالمين وأما الباري تعالى فقد أخطأ من سماه جوهراً من المجسمة ومن النصارى لأن لفظة الجوهر لفظة عربية ومن أثبت الله عز وجل ففرض عليه إذ أقر أنه خالقه وإلاهه ومالك أمره ألا يقدم عليه في شيء إلا بعهد منه تعالى وإلا يخبر عنه إلا بعلم متيقن ولا علم ههنا إلا ما أخبر به عز وجل فقط فصح يقيناً أن تسمية الله عز وجل جوهراً والأخبار عنه بأنه جوهر حكم عليه تعالى بغير عهد منه وأخبار عنه تعالى بالكذب الذي لم يخبر قط تعالى به عن نفسه ولا سمي به نفسه وهذا إقدام لم يأتنا قط به برهان بإباحته وأيضاً فإن الجوهر حامل لأعراض ولو كان الباري تعالى حاملاً لعرض لكان مركباً من ذاته وأعراضه وهذا باطل وأما النصارى فليس لهم أن يتسوروا على اللغة العربية فيصرفوها عن موضعها فبطل أن يكون تعالى جوهراً لبراءته عن حد الجوهر وبطل أن يسمي جوهراً لأنه تعالى لم يسم نفسه به وبالله تعالى التوفيق فبطل قول من سمي الله تعالى جوهراً وأخبر عنه أنه تعالى جوهر ولله تعالى الحمد فلم يبق إلا النفس والجزء الذي لا يتجزأ ونحن إن شاء الله تعالى نتكلم فيهما كلاماً مبيناً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في النفس فذكر عن أبي بكر عبد الرحمن ابن كيسان الأصم إنكار النفس جملة و قال لا أعرف إلا ما شاهدته بحواسي و قال جالينوس وأبو الهذيل محمد ابن الهذيل العلاف النفس عرض من الأعراض ثم اختلفا ف قال جالينوس هي مزاج مجتمع متولد من تركيب أخلاط الجسد و قال أبو الهذيل هي عرض كسائر أعراض الجسم و قال ت طائفة النفس هي النسيم الداخل الخارج بالتنفس فهي النفس و قالوا والروح عرض وهو الحياة فهو غير النفس وهذا قول الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية و قال ت طائفة النفس جوهر ليست جسماً ولا عرضاً ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا هي في مكان ولا تتجزأ وأنها هي الفعالة المدبرة وهي الإنسان وهو قول بعض الأوائل وبه يقول معمر بن عمر والعطار أحد شيوخ المعتزلة وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالميعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان عاقلة مميزة مصرفة للجسد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبهذا نقول والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما قول أبي بكر ابن كيسان فإنه يبطله النص وبرهان العقل أما النص فبقول الله تعالى ‏"‏ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الآية ‏"‏ فصح أن النفس موجودة وأنها غير الجسد وأنها الخارجة عند الموت‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما البرهان العقلي فإننا نرى المرء إذا أراد تصفية عقله وتصحيح رأيه أو فك مسألة عويصة عكس ذهنه وأفرد نفسه عن حواسها الجسدية وترك استعمال الجسد جملة وتبرأ منه حتى أنه لا يرى من بحضرته ولا يسمع ما ي قال أمامه فحينئذ يكون رأيه وفكره أصفى ما كان فصح أن الفكر والذكر ليسا للجسد المتخلى منه عند إرادتهما وأيضاً فالذي يراه النائم مما يخرج حقاً على وجهه وليس ذلك غلا إذا تخلت النفس عن الجسد فبقي الجسد كجسد الميت ونجده حينئذ يرى في الرؤيا ويسمع ويتكلم ويذكر وقد بطل عمل بصره الجسدي وعمل أذنيه الجسدي وعمل ذوقه الجسدي وكلام لسانه الجسدي فصح يقيناً أن العقل المبصر السامع المتكلم الحساس الذائق هو شيء غير الجسد فصح أنه المسمى نفساً إذ لا شيء غير ذلك وكذلك ما تتخيله نفس الأعمى والغائب عن الشيء مما قد رآه قبل ذلك فيتمثله ويراه في نفسه كما هو فصح يقيناً أن ههنا متمثلاً مدركاً غير الجسد إذ لا أثر للجسد ولا للحواس في شيء مما ذكرنا البتة ومنها أنك ترى المريد يريد بعض الأمور بنشاط فإذا اعترضه عارض ما كسل والجسم بحسبه كما كان لم يتغير منه شيء فعلمنا أن ههنا مريداً للأشياء غير الجسد ومنها أخلاق النفس من الحلم والصبر والحسد والعقل والطيش والخرق والنزق والعلم والبلادة وكل هذا ليس لشيء من أعضاء الجسد فإذ لا شك في ذلك فإنما هو كله للنفس المدبرة للجسد ومنها ما يرى من بعض المحصرين ممن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حينئذ أحد ما كان ذهناً وأصح ما كان تميزاً وأفضل طبيعة وأبعد عن كل لغو وأنطق بكل حكمة وأصحهم نظراً وجسده حينئذ في غاية الفساد وبطلان القوى فصح أن المدرك للأمور المدبر للجسد الفعال المميز الحي هو شيء غير الجسد وهو الذي يسمى نفساً وصح أن الجسد مؤذ للنفس وأنها مذ حلت في الجسد كأنها وقعت في طين مخمر فأنساها شغلها بها كلما سلف لها وأيضاً فلو كان الفعل للجسد لكان فعله متمادياً وحياته متصلة في حال نومه وموته ونحن نرى الجسد حينئذ صحيحاً سالماً لم ينتقض منه شيء من أعضائه وقد بطلت أفعاله كلها جملة فصح أن الفعل والتمييز إنما كان لغير الجسد وهو النفس المفارقة وإن الفعال الذاكر قد باينه وتبرأ منه وأيضاً فإننا نرى أعضاء الجسد تذهب عضواً عضواً بالقطع والفساد والقوى باقية بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت ونجد الذهن والتدبير والعقل وقوي النفس باقية أوفر ما كان فصح ضرورة أن الفعال العالم الذاكر المدبر المريد هو غير الجسد كما ذكرنا وأن الجسد موات فبطل قول ابن كيسان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أنها مزاج كما قال جالينوس فإن كل ما ذكرنا مما أبطلنا به قول أبي بكر بن كيسان فإنه يبطل أيضاً قول جالينوس وأيضاً فإن العناصر الأربعة التي منها تركب الجسد وهي التراب والماء والهواء والنار فإنها كلها موات بطبعها ومن الباطل الممتنع والمحال الذي لا يجوز البتة أن يجتمع موات وموات وموات وموات فيقوم منها حي وكذلك محال أن تجتمع بوارد فيقوم منها حار أو حوار فيجتمع منها بارد أو حي وحي وحي فيقوم منها موات فبطل أن تكون النفس مزاجاً وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أنها عرض فقط وقول من قال إنما النفس النسيم الداخل والخارج من الهواء وأن الروح هو عرض وهو الحياة فإن كلى هذين القولين يبطلان بكل ما ذكرنا إبطال قول الأصم بن كيسان وأيضاً فإن أهل هذين القولين ينتمون إلى الإسلام والقرآن يبطل قولهم نصاً قال الله تعالى ‏"‏ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ‏"‏ فصح ضرورة أن الأنفس غير الأجساد وأن الأنفس هي المتوفاة في النوم والموت ثم ترد عند اليقظة وتمسك عند الموت وليس هذا التوفي للأجساد أصلاً وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن العرض لا يمكن أن يتوفى فيفارق الجسم الحامل له ويبقى كذلك ثم يرد بعضه ويمسك بعضه هذا ما لا يكون ولا يجوز لأن العرض يبطل بمزايلته الحامل له وكذلك لا يمكن أن يظن ذو مسكة من عقل أن الهواء الخارج والداخل هو المتوفي عند النوم وكيف ذلك وهو باق في حال النوم كما كان في حال اليقظة ولا فرق وكذلك قوله تعالى ‏"‏ والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون ‏"‏ فإنه لا يمكن أن يعذب العرض ولا الهواء وأيضاً فإن الله عز وجل يقول ‏"‏ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ‏"‏ الآية‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذه آية ترفع الأشكال جملة وتبين أن النفس غير الجسد وإنما هي العاقلة المخاطبة المكلفة لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن الأجساد حين أخذ الله عليها هذا العهد كانت مبددة في التراب والماء والهواء والنار ونص الآية يقتضي ما قلنا فكيف وفيها نص أن الأشهاد إنما وقع على النفوس وما أدري كيف تنشرح نفس مسلم بخلاف هذه النصوص وكذلك أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى عند سماء الدنيا ليلة أسري به عن يمين آدم وعن يساره نسم بنيه فأهل السعادة عن يمينه وأهل الشقاوة عن يساره عليه السلام ومن الباطل أن تكون الأعراض باقية هنالك أو أن يكون النسيم هنالك وهو هواء مترد في الهواء‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولو كان ما قال ه أبو الهذيل والباقلاني ومن قلدهما حقاً لكان الإنسان يبدل في كل ساعة ألف ألف روح وأزيد من ثلاثة مائة ألف نفس لأن العرض عندهم لا يبقى وقتين بل يفنى ويتجدد عندهم أبداً فروح كل حي على قولهم في كل وقت غير روحه التي كانت قبل ذلك وهكذا تتبدل أرواح الناس عندهم بالخطاب وكذلك بيقين يشاهد كل أحد أن الهواء الداخل بالتنفس ثم يخرج هو غير الهواء الداخل بالتنفس الثاني فالإنسان يبدل على قول الأشعرية أنفساً كثيرة في كل وقت ونفسه الآن غير نفسه آنفاً وهذا حمق لا خفاء به فبطل قول الفريقين بنص القرآن والسنة والإجماع والمشاهدة والمعقول والحمد لله رب العالمين هذا مع تعريهما من الدليل جملة وأنها دعوى فقط وما كان هكذا فهو باطل وقد صرح الباقلاني عند ذكره لما يعترض في أرواح الشهداء وأرواح آل فرعون ف قال هذا يخرج على وجهين بأن يوضع عرض الحياة في أقل جزء من أجزاء الجسم و قال بعض من شاهدناه منهم توضع الحياة في عجب الذنب واحتج بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ابن آدم يأكله التراب الأعجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة وفي رواية منه خلق وفيه يركب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه من المحتج بهذا الخبر لأنه ليس في الحديث لا نص ولا دليل ولا إشارة يمكن أن يتأول على أن عجب الذنب يحيا وإنما في الحديث أن عجب الذنب لا يأكله التراب وأنه من خلق الجسد وفيه يركب فقط فظهر تمويه هذا القائل وضعفه والحمد لله رب العالمين قال الباقلاني وأما أن يخلق لتلك الحياة جسد آخر فلا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا مذهب أصحاب التناسخ بلا مؤونة واحتج لذلك بالحديث المأثور أن نسمة المؤمن طير يعلف من ثمار الجنة ويأوي إلى قناديل تحت العرش وفي بعضها أنها في حواصل طير خضر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا حجة لهم في هذا الخبر لأن معنى قوله عليه السلام طائر يعلف هو على ظاهره لا على ظن أهل الجهل وإنما أخبر عليه السلام أن نسمة المؤمن طائر بمعنى أنها تطير في الجنة فقط لا أنها تنسخ في صور طير فإن قيل أن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال أتتك كتابي فاستخففت بها فقيل له أتؤنث الكتاب ف قال أوليس صحيفة وكذلك النسمة روح فتذكر لذلك وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها والحديثان معاً حديث واحد وخبر واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولم يحصل من هذين الوجهين الفاسدين إلا على دعوى كاذبة بلا دليل يشبه الهزل أو على كفر مجرد في المصير إلى قول أصحاب التناسخ وعلى تحريف الحديث عن وجهه ونعوذ بالله من الخذلان فبطل هذان القولان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أن النفس جوهر لا جسم من الأوائل ومعمر وأصحابه فإنهم موهوا بأشياء إقناعيات فوجب إيرادها ونقضها ليظهر البرهان على وجه الإنصاف للخصم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قالوا لو كان النفس جسماً لكان بين تحريك المحرك رجله وبين إرادته تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وثقله إذ النفس هي المحركة للجسد والمريدة لحركته قالوا فلو كان المحرك للرجل جسماً لكان لا يخلوا إما أن يكون حاصلاً في هذه الأعضاء وإما جائياً إليها فإن كان جائياً إليها احتاج إلى مدة ولا بد وإن كان حاصلاً فيها فنحن إذا قطعنا تلك العصبة التي بها تكون الحركة لم يبق منها في العضو الذي كان يتحرك شيء أصلاً فلو كان ذلك المحرك حاصلاً فيه لبقي منه شيء في ذلك العضو‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا لا معنى له لأن النفس لا تخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن تكون مجللة لجميع الجسد من خارج كالثوب وإما أن تكون متخللة بجميعه من داخل كالماء في المدرة وإما أن تكون في مكان واحد من الجسد وهو القلب أو الدماغ وتكون قوها منبثة في جميع الجسد فأي هذه الوجوه كان فتحريكها لما يريد تحريكه من الجسد يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقي في البعد بلا زمان وإذا قطعت العصبة لم ينقطع ما كان من جسم النفس مخللاً لذلك العضو إن كانت متخللة لجميع الجسد من داخل أو مجللة له من خارج بل يفارق العضو الذي يبطل حسه في الوقت وينفصل عنه بلا زمان وتكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء الذي ملئ ماء وأما أن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من الجسد فلا يلزم على هذا القسم أن يسلب من العضو المقطوع بل يكون فعلها حينئذ في تحريكها الأعضاء كفعل حجر المغنطيس في الحديد وإن لم يلصق به بلا زمان فبطل هذا الإلزام الفاسد والحمد لله رب العالمين و قالوا لو كانت النفس جسماً لوجب أن نعلم ببعضها أو قال أبو محمد‏:‏ وهذا سؤال فاسد تقسيمه والجواب وبالله تعالى التوفيق أنها لا تعلم إلا بكلها أو ببعضها لأن كل بسيط غير مركب من طبائع شتى فهو طبيعة واحدة وما كان طبيعة واحدة فقوته في جميع أبعاضه وفي بعض أبعاضه سواء كالنار تحرق بكلها وببعضها ثم لا ندري ما وجه هذا الاعتراض علينا بهذا السؤال ولا ما وجه استدلالهم منه على أنها غير جسم ولو عكس عليهم في إبطال دعواهم أنها جوهر لا جسم لما كان بينهم وبين السائل لهم بذلك فرق أصلاً و قالوا أن من شأن الجسم أنك إذا زدت عليه جسماً آخر زاد في كميته وثقله قالوا فلو كانت النفس جسماً ثم داخلت الجسم الظاهر لوجب أن يكون الجسد حينئذ أثقل منه دون النفس ونحن نجد الجسد إذا فارقته النفس أثقل منه إذا كانت النفس فيه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا شغب فاسد ومقدمة باطلة كاذبة لأنه ليس كل جسم كما ذكروا من أنه إذا أزيد عليه جسم آخر كان أثقل منه وحده وإنما يعرض هذا في الأجسام التي تطلب المركز والوسط فقط يعني التي في طبعها أن تتحرك سفلاً وترسب من المائيات والأرضيات وأما التي تتحرك بطبعها علواً فلا يعرض ذلك فيها بل الأمر بالضد وإذا أضيف جسم منها إلى جسم ثقيل خففه فإنك ترى أنك لو نفخ زقا من جلد ثور أو جلد بعير لو أمكن حتى يمتلئ هو آثم وزنته فإنك لا تجد على وزنه زيادة على مقدار وزنه لو كان فارغاً أصلاً وكذلك ما صمد من الزقاق ولو أنه ورقة سوسنة منفوخة ونحن نجسد الجسم العظيم الذي إذا أضفته إلى الجسم الثقيل خففه جداً فإنك لو رميت الزق غير المنفوخ في الماء الرسب فإذا نفخته ورميت به خف وعام ولم يرسب وكذلك يستعمله العائمون لأنه يرفعهم عن الماء ويمنعهم من الرسوب وهكذا النفس مع الجسد وهو باب واحد كلى لأن النفس جسم علوي فلكي أخف من الهواء وأطلب للعلو فهي تخفف الجسد إذا كانت فيه فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين و قالوا أيضاً لو كانت النفس جسماً لكانت ذات خاصية إما خفيفة وإما ثقيلة وإما حارة وإما باردة وإما لينة وإما خشنة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ نعم هي خفيفة في غاية الخفة ذاكرة عاقلة مميزة حية هذه خواصها وحدودها التي بانت بها عن سائر الأجسام المركبات مع سائر أعراضها المحمولة فيها من الفضائل والرذائل وأما الحر واليبس والبرد والرطوبة واللين والخشونة فإنما هي من أعراض عناصر الأجرام التي دون الفلك خاصة ولكن هذه الأعراض المذكورة مؤثرة في النفس اللذة أو الألم فهي منفعلة لكل ما ذكرنا وهذا يثبت أنها جسم قالوا إنما من كان الأجسام فكيفياته محسوسة وما لم تكن كيفياته محسوسة فليس بجسم وكيفيات النفس إنما هي الفضائل والرذائل وهذان الجنسان من الكيفيات ليسا محسوسين فالنفس ليست جسماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا شغب فاسد ومقدمة كاذبة لأن قولهم أن ما لا تحس كيفياته فليس جسماً دعوى كاذبة لا برهان عليها أصلاً لا عقلي ولا حسي وما كان هكذا فهو قول ساقط مطروح لا يعجز عن مثله أحد ولكنا لا نقنع بهذا دون أن نبطل هذه الدعوى ببرهان حسي ضروري بعون الله تعالى وهو أن الفلك جسم وكيفياته غير محسوسة وأما اللون اللازوردي الظاهر فإنما يتولد فيما دونه من امتزاج بعض العناصر ووقع خط البصر عليها وبرهان ذلك تبدل ذلك اللون بحسب العوارض المولدة له فمرة تراه أبيض صافي البياض ومرة ترى فيه حمرة ظاهرة فصح أن قولهم دعوى مجردة كاذبة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن الجسم تتفاضل أنواعه في وقوع الحواس عليه فمنه ما يدرك لونه وطعمه وريحه ومنه ما لا يدرك منه إلا المجسة فقط كالهواء ومنها النار في عنصرها لا يقع عليها شيء من الحواس أصلاً بوجه من الوجوه وهي جسم عظيم المساحة محيط بالهواء كله فوجب من هذا أن الجسم كل ما زاد لطافة وصفاء لم تقع عليه الحواس وهذا حكم النفس وما دون النفس فأكثره محسوس للنفس لا حس البتة إلا للنفس ولا حساس إلا هي فهي حساسة لا محسوسة ولم يجب قط لا بعقل ولا بحس أن يكون كل حساس محسوساً فسقط قولهم جملة والحمد لله رب العالمين و قالوا أن كل جسم فإن لا يخلو من أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت بعضها والنفس لا تقع تحت كل الحواس ولا قال أبو محمد‏:‏ وهذه مقدمة فاسدة كما ذكرنا آنفاً لأن ما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبر كالهواء وكالنار في عنصرها وإن ما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالهواء والنار والحصى والزجاج وغير ذلك وما عدم الطعم لم يدرك بالذوق كالهواء والنار والحصا والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن والنفس عادمة اللون والطعم والمجسة والرائحة فلا تدرك بشيء من الحواس بل هي المدركة لكل هذه المدركات وهي الحساسة لكل هذه المحسوسات فهي حساسة لا محسوسة وإنما تعرف بآثارها وبراهين عقلية وسائر الأجسام والأعراض محسوسة لا حساسة ولا بد من حساس لهذه المحسوسات ولا حساس لها غير النفس وهي التي تعلم نفسها وغيرها وهي القابلة لأعراضها التي تتعاقب عليها من الفضائل والزرئل المعلومة بالعقل كقبول سائر الأجرام لما يتعاقب عليها من الأعراض بالعقل والنفس هي المتحركة باختيارها المحركة لسائر الأجسام هي مؤثرة فيها تألم وتلتذ وتفرح وتحزن وتغضب وترضى وتعلم وتجهل وتحب وتكره وتذكر وتنسي وتنتقل وتحل فبطل قول هؤلاء أن كل جسم فلا بد من أن يقع تحت الحواس أو تحت بعضها لأنها دعوى لا دليل عليها وكل دعوى عريت من دليل فهي باطلة و قالوا كل جسم فإنه لا محالة يلزمه الطول والعرض والعمق والسطح والشكل والكم والكيف فإن كانت النفس جسماً فلا بد أن تكون هذه الكيفيات فيها أو يكون بعضها فيها فأي الوجهين كان فهي إذا محاط بها وهي مدركة بالحواس أو من بعضها ولا نرى الحواس تدركها فليست جسماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا كله صحيح وقضايا صادقة حاشا قضية واحدة ليست فيها وهي قولهم وهي مدركة من الحواس أو من بعضها فهذا هو الباطل المقحم بلا دليل وسائر ذلك صحيح وهذه القضية الفاسدة دعوى كاذبة وقد تقدم أيضاً إفسادنا لها آنفاً مع تعريها عن دليل يصححها ونعم فالنفس جسم طويل عريض عميق ذات سطح وخط وشكل ومساحة وكيفية يحاط بها ذات مكان وزمان لأن هذه خواص الجسم ولا بد والعجب من قلة حياء من أقحم مع هذا فهي إذاً مدركة بالحواس وهذا عين الباطل لأن حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس لا يقع شيء منها لا على الطول ولا على العرض ولا على العمق ولا على السطح ولا على الشكل ولا على المساحة ولا على الكيفية ولا على الخط وإنما تقع حاسة البصر على اللون فقط فإن كان في شيء مما ذكرنا لون وقعت عليه حاسة البصر وعلمت ذلك الملون بتوسط اللون وإلا فلا وإنما تقع حاسة السمع على الصوت فإن حدث في شيء مما ذكرنا صوت وقعت عليه حاسة السمع حينئذ وعلمت ذلك المصوت بتوسطه وإلا فلا وإنما تقع حاسة الشم على الرائحة فإن كان في شيء مما ذكرنا رائحة وقعت عليها حينئذ حاسة الشم وعلمت حامل الرائحة بتوسط الرائحة وإلا فلا وإن كان لشيء مما ذكرنا طعم وقعت عليه حينئذ حاسة الذوق وعلمت المذوق بتوسط الطعم وإلا فلا وإن كل في شيء مما ذكرنا مجسة وقعت عليه حاسة اللمس حينئذ وعلمت الملموس بتوسط المجسة وإلا فلا و قالوا أن من خاصة الجسم أن يقبل التجزي وإذا جزئ منه الجزء الصغير والكبير ولم يكن الجزء الصغير كالجزء الكبير فلا يخلوا حينئذ من أحد أمرين إما أن يكون كل جزء منها نفساً فيلزم من ذلك أن لا تكون النفس نفساً واحدة بل تكون حينئذ أنفساً كثيرة مركبة من أنفس وإما أن لا يكون كل جزء منها نفساً فيلزم أن لا تكون كلها نفساً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما قولهم أن خاصة الجسم احتمال التجزي فهو صدق والنفس محتملة للتجزي لأنها جسم من الأجسام وأما قولهم أن الجزء الصغير ليس كالكبير فإن كانوا يريدون في المساحة فنعم وأما في غير ذلك فلا وأما قولهم أنها إن تجزأت فإما أن يكون كل جزء منها نفساً وإلزامهم من ذلك أنها مركبة من أنفس فإن القول الصحيح في هذا أن النفس محتملة للتجزي بالقوة وإن كان التجزي بانقسامها غير موجود بالفعل وهكذا القول في الفلك والكواكب كل ذلك محتمل للتجزي بالقوة وليس التجزي موجوداً في شيء منها بالفعل وأما قولهم أنها مركبة من أنفس فشغب فاسد لأننا قد قدمنا في غير موضع أن المعاني المختلفة والمسميات المتغايرة يجب أن يوقع على كل واحد منها اسم يبين به عن غيره وإلا فقد وقع الأشكال وبطل التفاهم وصرنا إلى قول السوفسطائية المبطلة لجميع الحقائق ووجدنا العالم ينقسم قسمين أحدهما مؤلف من طبائع مختلفة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم مركباً والثاني مؤلف من طبيعة واحدة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم بسيطاً ليقع التفاهم في الفرق بين هذين القسمين ووجدنا القسم الأول لا يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالإنسان الجزئي فإنه متألف من أعضاء لا يسمى شيء منها إنساناً فإذا تألف سمي المتألف منها إنساناً ووجدنا القسم الثاني يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالأرض والماء والهواء وكالنار وكالفلك فهو فلك وكل جزء من النفس نفس وليس ذلك موجباً أن تكون الأرض مؤلفة من أرضين ولا أن يكون الهواء مؤلفاً من أهوية ولا أن يكون الفلك مؤلفاً من أفلاك ولا أن تكون النفس مؤلفة من أنفس وحتى لو قيل ذلك بمعنى أن كل بعض منها يسمى نفساً وكل بعض من الفلك يسمى فلكاً فما كان في ذلك ما يعترض به على أنها جسم كسائر الأجسام التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق و قالوا أيضاً طبع ذات الجسم أن يكون غير متحرك والنفس متحركة فإن كانت هذه الحركة التي فيها من قبل الباري تعالى فقد وجدنا لها حركات فاسدة فكيف يضاف ذلك إلى الباري تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الكلام في غاية الفساد والهجنة ولقد كان ينبغي لمن ينتسب إلى العلم إن كان يدري مقدار سقوط هذه الاعتراضات وسخفها أن يصون نفسه عن الاعتراض بها لرذالتها وإن كان لا يدري رذالتها فكان الأولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم فأما قوله أن طبع ذات الجسم أن تكون غير متحركة فقول ظاهر الكذب والمجاهرة لأن للأفلاك والكواكب أجساماً وطبعها الحركة الدايمة المتصلة أبداً إلى أن يحيلها خالقها عن ذلك يوم القيامة وأن للعناصر دون الفلك أجساماً وطبعها الحركة إلى مقرها والسكون في مقرها وأما النفس فلأنها حية كان طبعها السكون الاختياري والحركة الاختيارية حيناً وحيناً هذا كله لا يجهله أحد به ذوق وأما قولهم أن لها حركات ردية فكيف تضاف إلى الباري تعالى فإنما كان بعض حركات النفس ردياً بمخالفة النفس أمر باريها في تلك الحركات وإنما أضيفت إلى الباري تعالى لأنه خلقها فقط على قولنا أو لأنه تعالى خلق تلك القوى التي بها كانت تلك الحركات فسقط إلزامهم الفاسد والحمد لله رب العالمين و قالوا أيضاً أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير واحتمال الإنقسام أبداً بلا غاية ليس شيء منها إلا هكذا أبداً فهي محتاجة إلى من يربطها ويشدها ويحفظها ويكون به تماسكها قالوا والفاعل لذلك النفس فلو كانت النفس جسماً لكانت محتاجة إلى من يربطها ويحلها فيلزم من ذلك أن تحتاج إلى نفس أخرى والأخرى إلى أخرى والأخرى كذلك إلى ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا أفسد من كل قول سبق من تشغيباتهم لأن مقدمته مغشوشة فاسدة كاذبة أما قولهم أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير على الإطلاق كذب لأن الفلك جسم لا يقبل الاستحالة وإنما تجب الاستحالة والتغيير في الأجسام المركبة من طبائع شتى بخلعها كيفياتها ولباسها كيفيات أخرى وبانحلالها إلى عناصرها هكذا مدة ما أيضاً ثم تبقى غير منحلة ولا مستحيلة وأما النفس فإنها تقبل الاستحالة والتغيير في أعراضها فيتغير ويستحيل من علم إلى جهل ومن جهل إلى علم ومن حرص إلى قناعة ومن بخل إلى جود ومن رحمة إلى قسوة ومن لذة إلى ألم هذا كله موجود محسوس وأما أن تستحيل في ذاتها فتصير ليست نفساً فلا وهذا الكوكب هو جسم ولا يصير غير كوكب والفلك لا يصير غير فلك وأما قوله أن الأجسام محتاجة إلى ما يشدها ويربطها ويمسكها فصحيح وأما قوله أن النفس هي الفاعلة لذلك فكذب ودعوى بلا دليل عليها إقناعي ولا برهاني بل هو تمويه مدلس ليجوز باطله على أهل الغفلة وهكذا قول الدهرية وليس كذلك بل النفس من جملة الأجسام المحتاجة إلى ما يمسكها ويشدها ويقيمها وحاجتها إلى ذلك كحاجة سائر الأجسام التي في العالم ولا فرق والفاعل لكل ذلك في النفس وفي سائر الأجسام والممسك لها والحافظ لجميعها والمحيل لما استحال منها فهو المبدى للنفس ولكل ما في العالم من جسم أو عرض والمتمم لكل ذلك هو الخالق الباري المصور عز وجل فبعض أمسكها بطبائعها التي خلقها فيها وصرفها فضبطها لما هي فيه وبعض أمسكها برباطات ظاهرة كالعصب والعروق والجلود لا فاعل لشيء من ذلك دون الله تعالى وقد قدمنا البراهين على كل ذلك في صدر كتابنا هذا فأغني عن ترداده والحمد لله رب العالمين و قالوا أيضاً كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فإن كانت النفس جسماً فهي متنفسة أي ذات نفس وإما لا متنفسة أي لا ذات نفس فإن كانت لا متنفسة فهذا خطأ لأنه يجب من ذلك أن تكون النفس لا نفساً وإن كان متنفسة أي ذات نفس فهي محتاجة إلى نفس وتلك النفس إلى أخرى والأخرى إلى أخرى وهذا يوجب ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه مقدمة صحيحة ركبوا عليها نتيجة فاسدة ليست منتجة على تلك المقدمة وأما قولهم أن كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فصحيح وأما قولهم أن النفس إن كانت غير متنفسة وجب من ذلك أن تكون النفس لا نفساً فشغب فاسد بارد لا يلزم لأن معنى القول بأن الجسم ذو نفس إنما هو أن بعض الأجسام أضيفت غليه نفس حية حساسة متحركة بإرادة مدبرة لذلك الجسم الذي استضافت إليه ومعنى القول بأن هذا الجسم غير ذي نفس إنما هو أنه لم يستضف إليه نفس فالنفس الحية هي المتحركة المدبرة وهي غير محتاجة إلى جسم مدبر لها ولا محرك لها فلم يجب أن يحتاج إلى نفس ولا أن تكون ليست نفساً ولا فرق بينهم في قولهم هذا وبين من قال أن الجسم يحتاج إلى جسم كما قالوا أنه يجب أن تحتاج النفس إلى نفس أو قال يجب أن يكون الجسم لا جسماً كما قالوا يجب أن تكون النفس لا نفساً وهذا كله هوس وجهل والحمد لله رب العالمين و قالوا لو كانت النفس جسماً لكان الجسم نفساً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا من الجهل المفرط المظلم ولو كان لقائل هذا الجنون أقل علم بحدود الكلام لم يأت بهذه الغثاثة لأن الموجبة الكلية لا تنعكس البتة انعكاساً مطرداً إلى موجبة جزئية لا كلية وكلامهم هذا بمنزلة من قال لما كان الإنسان جسماً وجب أن يكون الجسم إنساناً ولما كان الكلب جسماً وجب أن يكون الجسم كلباً وهذا غاية الحمق والقحة لكن صواب القول في هذا أن يقول لما كانت النفس جسماً كان بعض الأجسام نفساً ولما كان الكلب جسماً وجب أن يكون بعض الأجسام كلباً وهذا هو العكس الصحيح المطرد اطراداً صحيحاً أبداً وبالله تعالى التوفيق و قالوا أيضاً إن كانت النفس جسماً فهي بعض الأجسام وإذا كانت كذلك فكلية الأجسام أعظم مساحة منها فيجب أن تكون أشرف منها‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ من عدم الحياء والعقل لم يبال بما نطق به لسانه وهذه قضية في غاية الحمق لأنها توجب أن الشرف إنما هو بعظم الأجسام وكثرة المساحة ولو كان كذلك لكانت القضية والبلية وكان الحمار والبغل وكدس العذرة أشرف من الإنسان المنباء والفيلسوف لأن كل ذلك أعظم مساحة منه ولكانت الغرلة أشرف من ناظر العين والآلية أشرف من القلب والكبد والدماغ والصخر أشرف من اللؤلؤة وأف لكل علم أدى إلى مثل هذا نعم فإن كثيراً من الأجسام أعظم مساحة من النفس وليس ذلك موجباً أنها اشرف منها مع أن النفس الرذلة المضربة عما أوجبه التمييز وعن طاعة ربها إلى الكفر به فكل شيء في العالم أشرف منها ونعوذ بالله من الخذلان و قالوا إن كانت النفس جسماً آخر مع الجسم فالجسم نفس وشيء آخر وإذا كان كذلك فالجسم أتم وإذا كان أتم فهو أشرف‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا جنون مردد لأنه ليس بكثرة العدد يجب الفضل والشرف ولا بعموم اللفظ يجب الشرف بل قد يكون الأقل والأخص أشرف ولو كان ما قال وه لوجب أن تكون الأخلاق جملة شرف من الفضائل خاصة لأن الأخلاق فضائل وشيء آخر فهي أتم فهي على حملهم السخيف أشرف وهذا ما لا يقوله ذو عقل وهم يقرون أن النفس جوهر والجوهر نفس وجسم فالجوهر أشرف من النفس لأنه نفس وشيء آخر وقد قالوا أن الحي يقع تحت النامي فيلزمهم أن النامى أشرف من الحي لأنه حي وشيء آخر وهذا تخليط وحماقة ونعوذ بالله من الوسواس و قالوا أيضاً كل جسم يتغذى والنفس لا تتغذى فهي غير جسم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إن كان هؤلاء السخفاء إذ اشتغلوا بهذه الحماقات كانوا سكارى بل سكر الجهل والسخف أعظم من سكر الخمر لأن سكر الخمر سريع الإفاقة سكر الجهل والسخف بطيء الإفاقة أتراهم إذ قالوا كل جسم فهو متغذ ألم يروا الماء والأرض والهواء والكواكب والفلك وإن كل هذه أجسام عظام لا تتغذى وإنما يتغذى من الأجسام النوامي فقط وهي أجساد الحيوان السكان في الماء والأرض والشجر والنبات فقط فإذا كان عند هؤلاء النوكى ما لا يتغذى ليس جسماً فالأرض والحجارة والكواكب والفلك والملائكة ليس كل ذلك جسماً وكفى بهذا جنوناً وخطأ ونحمد الله على السلامة و قالوا لو كانت النفس جسماً لكانت لها حركة لأن لكل جسم حركة ونحن لا نرى للنفس حركة فبطل أن تكون جسماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه دعوى كاذبة وقد تناقضوا أيضاً فيها لأنها قد قالوا قبل هذا بنحو ورقة في بعض حججهم أن الأجسام غير متحركة والنفس متحركة وهنا قلبوا الأمر فظهر جهلهم وضعف عقولهم وأما قولهم لا نرى لها حركة فمخرقة وليس كل ما لا يرى يجب أن ينكر إذا قام على صحته دليل ويلزمهم إذ أبطلوا حركة النفس لأنهم لا يرونها أن يبطلوا النفس جملة لأنهم أيضاً لا يرونها ولا يسمونها ولا يلمسونها ولا يذوقونها وحركة النفس معلومة بالبرهان وهو أن الحركة قسمان حركة اضطرار وحركة اختيار فحركة الاضطرار هي حركة كل جسم غير النفس هذا ما لا يشك فيه فبقيت حركة الاختيار وهي موجودة يقيناً وليس في العالم شيء متحرك بها حاشا النفس فقط فصح أن النفس هي المتحركة بها فصح ضرورة أن للنفس حركة اختيارية معلومة بلا شك وإذ لا شك في أن كل متحرك فهو جسم وقد صح أن النفس متحركة فالنفس جسم فهذا هو البرهان الضروري التام الصحيح لا تلك الوساوس والأهذار ونحمد الله على نعمه عز وجل و قالوا لو كانت النفس جسماً لوجب أن يكون اتصالها بالجسم إما على سبيل المجاورة وإما على سبيل المداخلة وهي الممازجة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فبعد هذا ماذا ونعم فإن النفس متصلة بالجسم على سبيل المجاورة ولا يجوز سوى ذلك إذ لا يمكن أن يكون اتصال الجسمين إلا بالمجاورة وأما اتصال المداخلة فإنما هي بين العرض والعرض والجسم والعرض على ما بينا قبل و قالوا أيضاً إن كانت النفس جسماً فكيف يعرف الجسم بمماسة أو بغير مماسة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لأجسام كلها حاشا النفس موات لا علم لها ولا حس ولا تعلم شيئاً وإنما العلم والحس للنفس فقط فهي تعلم الأجسام والأعراض وخالق الأجسام والأعراض الذي هو خلقها أيضاً بما فيها من صفة الفهم وطبيعة التمييز وقوة العلم التي وضعها فيها خالقها عز وجل وسؤالهم بارد و قالوا أيضاً أن كل جسم بدأ في نشوة وغاية ينتهي إليها وأجود ما يكون الجسم إذا انتهى إلى غايته فإذا أخذ في النقص ضعف وليست الأنفس كذلك لأننا نرى أنفس المعمرين اكثر ضياء وأنفذ فعلاً ونجد أبدانهم أضعف من أبدان الأحداث فلو كانت النفس جسماً لنقص فعلها بنقصان البدن فإذا كان هذا كما ذكرنا فليست النفس جسماً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه مقدمة فاسدة الترتيب أما قولهم أن الجسم أجود ما يكون إذ انتهى إلى غايته فخطأ إذا قيل على العموم وإنما ذلك في النوامي فقط وفي الأشياء التي تستحيل استحالة ذبولية فقط كالشجر وأصناف أجساد الحيوان والنبات وأما الجبال والحجارة والأرض والبحار والهواء والماء والأفلاك والكواكب فليس لها غاية إذا بلغتها أخذت في الانحطاط وإنما يستحيل بعض ما يستحيل من ذلك على سبيل التفتت كحجر كسرته فانكسر ولو ترك لبقي ولم يذبل ذبول الشجر والنبات وأجسام الحيوان وكذلك النفس لا تستحيل استحالة ذبول ولا استحالة تفتت وإنما تستحيل أعراضها كما ذكرنا فقط ولا نماء له وكذلك الملائكة والفلك والكواكب والعناصر الأربعة لا نماء لها وكل ذلك باق على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها إذ خلق كل ذلك والنفس كذلك منتقلة من عالم الابتداء إلى عالم الانتهاء إلى عالم البرزخ إلى عالم الحساب إلى عالم الجزاء فتخلد فيه أبداً بلا نهاية وهي إذا تخلصت من رطوبات الجسد وكدره كانت أصفي نظراً وأصح علماً كما كانت قبل حلولها في الجسد نسأل الله خير ذلك المنقلب بمنه آمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا ما موهوا به من كل نطيحة ومتردية قد تقصيناه لهم وبينا أن كله فساد وحماقات وتقصيناه بالبراهين الضرورية والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذا بطل كل ما شغب به من يقول أن النفس ليست جسماً وسقط هذا القول لتعريه عن الأدلة جملة فنحن إن شاء الله تعالى نوضح بعون الله عز وجل وقوته البراهين الضرورية على أنها جسم وبالله تعالى نتأيد وذلك بعد أن نبين بتأييد الله عز وجل شغبين يمكن أن يعترض بهما إن قال قائل أتنمو النفس فإن قلتم لا قلنا نحن نجدها تنشأ من صغر إلى كبر وترتبط بالجسد بالغذاء وإذا انقطع الغذاء انحلت عن الجسد ونجدها تسوء أخلاقها ويقل صبرها بعدم الغذاء فإذا تغذت اعتدلت أخلاقها وصلحت‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لا تتغذى ولا تنمو أما عدم غذائها فالبرهان القائم أنها ليست مركبة من الطبائع الأربع وأنها بخلاف الجسد هذا هو البرهان على أنها لا تتغذى وهو أن ما تركب من العناصر الأربعة فلا بد له من الغذاء ليستخلف ذلك الجسد أو تلك الشجرة أو ذلك النبات من رطوبات ذلك الغذاء أو أرضياته مثل ما تحلل من رطوباته بالهواء والحر وليست هذه صفة النفس إذ لو كانت لها هذه الصفة لكانت من الجسد أو مثله ولو كانت من الجسد أو مثله لكانت مواتاً كالجسد غير حساسة فإذ قد بطل أن تكون مركبة من طبائع العناصر بطل أن تكون متغذية نامية وأما ارتباطها بالجسد من أجل الغذاء فهو أمر لا يعرف كيفيته إلا خالقها عز وجل الذي هو مدبرها إلا أنه معلوم أنه كذلك فقط وهو كطحن المعدة للغذاء لا يدري كيف هو وغير ذلك مما يوجد الله عز وجل يعلمه ومن البرهان على أن النفس لا تتغذى ولا تنمو إن البرهان قد قام على أنها كانت قبل تركيب الجسد على آباد الدهور وأنها باقية بعد انحلاله وليس هنالك في ذينك العالمين غذاء يولد نماءً أصلاً وأما ما ظنوه من نشأتها من صغر إلى كبر فخطأ وإنما هو عودة من النفس إلى ذكرها الذي سقط عنها بأول ارتباطها بالجسد فإن سأل سائل أتمون النفس قلنا نعم لأن الله تعالى نص على ذلك ف قال ‏"‏ كل نفس ذائقة الموت ‏"‏ وهذا الموت إنما هو فراقها للجسد فقط برهان ذلك قول الله تعالى ‏"‏ أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ‏"‏ فصح أن الحياة المذكورة إنما هي ضم الجسد إلى النفس وهو نفخ الروح فيه وأن الموت المذكور إنما هو التفريق بين الجسد والنفس فقط وليس موت النفس مما يظنه أهل الجهل وأهل الإلحاد من إنها تعدم جملة بل هي موجودة قائمة كما كانت قبل الموت وقبل الحياة الأولى ولا أنها يذهب حسها وعلمها بل حسها بعد الموت أصح ما كان وعلمها أتم ما كان وحياتها التي هي الحس والحركة الإرادية باقية بحسبها أكمل ما كانت قط قال عز وجل ‏"‏ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ‏"‏ وهي راجعة إلى البرزخ حيث رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به عن الميمنة من آدم عليه السلام ومشئمته إلى أن تحيا ثانية بالجمع بينها وبين جسدها يوم القيامة وأما أنفس الجن وسائر الحيوان فحيث شاء الله تعالى ولا علم لنا إلا ما علمنا ولا يحل لأحد أن يقول بغير علم وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فلنذكر الآن البراهين الضرورية على أن النفس جسم من الأجسام فمن الدليل على أن النفس جسم من الأجسام انقسامها على الأشخاص فنفس زيد غير نفس عمرو فلو كانت النفس واحدة لا تنقسم على ما يزعم الجاهلون القائلون أنها جوهر لا جسم لوجب ضرورة أن تكون نفس المحب هي نفس المبغض وهي نفس المحبوب وأن تكون نفس الفاسق الجاهل هي نفس الفاضل الحكيم العالم ولكانت نفس الخائف هي نفس المخوف منه ونفس القاتل هي نفس المقتول وهذا حمق لا خفاء به فصح أنها نفوس كثيرة متغايرة الأماكن مختلفة الصفات حاملة لأعراضها فصح أنها جسم بيقين لا شك فيه وبرهان آخر هو أن العلم لا خلاف في أنه من صفات النفس وخواصها لا مدخل للجسد فيه أصلاً ولا حظ فلو كانت النفس جوهراً واحداً لا تتجزئ نفوساً لوجب ضرورة أن يكون علم كل أحد مستوياً لا تفاضل فيه لأن النفس على قولهم واحدة وهي العالمة فكان يجب أن يكون كلما علمه زيد يعلمه عمرو لأنه نفسهما واحدة ندهم غير منقسمة ولا متجزئة فكان يلزم ولا بد أن يعلم جميع أهل الأرض ما يعلمه كل عالم في الدنيا لأن نفسهم واحدة لا تنقسم وهي العالمة وهذا ما لا انفكاك منه البتة فقد صح بما ذكرنا ضرورة أن نفس كل أحد غير نفس غيره وأن أنفس الناس أشخاص متغايرة تحت نوع نفس الإنسان وإن نفس الإنسان الكلية نوع تحت جنس النفس الكلية التي يقع تحتها نفس جميع الحيوان وإذ هي أشخاص متغايرة ذات أمكنة متغايرة حاملة لصفات متغايرة فهي أجسام ولا يمكن غير ذلك البتة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن العالم كله محدود معروف أجسام وأعراض ولا مزيد فمن ادعى أن ههنا جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً فقد ادعى ما لا دليل عليه البتة ولا يتشكل في العقل ولا يمكن توهمه وما كان هكذا فهو باطل مقطوع على بطلانه وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن النفس لا تخلوا من أن تكون خارج الفلك أو داخل الفلك فإن كانت خارج الفلك فهذا باطل إذ قام البرهان على تناهي جرم العالم فليس وراء النهاية شيء ولو كان وراءها شيء لم تكن نهاية فوجب ضرورة أنه ليس خارج الفلك الذي هو نهاية العالم شيء لا خلاء ولا ملاء وإن كانت في الفلك فهي ضرورة أما ذات مكان وأما محمولة في ذي مكان لأنه ليس في العالم شيء غير هذين أصلاً ومن ادعى أن في العالم شيئاً ثالثاً فقد ادعى المحال والباطل وما لا دليل له عليه وهذا لا يعجز عنه أحد وما كان هكذا باطل بيقين وقد قام الدليل على أن النفس ليست عرضا لأنها عالمة حساسة والعرض ليس عالماً ولا حساساً وصح أنها حاملة لصفاتها لا محمولة فإذ هي حاملة متمكنة فهي جسم لا شك فيه إذ ليس إلا جسم حامل أو عرض محمول وقد بطل أن تكون عرضاً محمولاً فهي جسم حامل وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فلا تخلو النفس من أن تكون واقعة تحت جنس أولاً فإن كانت لا واقعة تحت جنس فهي خارجة عن المقولات وليس في العالم شيء خارج عنها ولا في الوجود شيء خارج عنها إلا خالقها وحده لا شريك له وهم لا يقولون بهذا بل يوقعونها تحت جنس الجوهر فإذ هي واقعة تحت جنس الجوهر فإنا نسألهم عن الجوهر الجامع للنفس وغيرها إله طبيعة أم لا فإن قالوا لا ندري ما الطبيعة قلنا لهم إله صفة محمولة فيه لا يوجد دونها أم لا فلا بد من نعم وهذا هو معنى الطبيعة وإن قالوا بل له طبيعة وجب ضرورة أن يعطى كل ما تحته طبيعة لأن الأعلى يعطي لكل ما تحته اسمه وحدوده عطاء صحيحاً والنفس تحت الجوهر فالنفس ذات طبيعة بلا شك وإذ صح أن لها طبيعة فكل ما له طبيعة فقد حصرته الطبيعة وما حصرته الطبيعة فهو ذو نهاية محدودة وكل ذي نهاية فهو إما حامل وإما محمول والنفس بلا شك حاملة ولأعراضها من الأضداد كالعلم والجهل والذكاء والبلادة والنجدة والجبن والعدل والجور والقسوة والرحمة وغير ذلك واقعاً تحت جنس فهو نوع من أنواع ذلك الجنس وكل نوع فهو مركب من جنسه الأعلى العام له من أنواعه ومركب أيضاً مع ذلك من فصله الخاص به المميز له من سائر الأنواع الواقعة معه تحت جنس واحد فإنه موضوع وهو جنسه القابل لصورته وصورة غيره وله محمول وهو صورته التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع ومحمول فهو مركب والنفس نوع للجوهر فهي مركبة من موضوع ومحمول وهي قائمة بنفسها فهي جسم ولا بد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه براهين ضرورية حسية عقلية لا محيد عنها وبالله تعالى التوفيق وهذا قول جماعة من الأوائل ولم يقل ارسطاطاليس أن النفس ليست جسماً على ما ظنه أهل الجهل وإنما نفى أن تكون جسماً كدراً وهو الذي لا يليق بكل ذي علم سواه ثم لو صح أنه قال ها لكانت وهلة ودعوى لا برهان عليها وخطأ لا يجب اتباعه عليه وهو يقول في مواضع من كتبه اختلف أفلاطون والحق كلاهما إلينا حبيب غير أن الحق أحب إلينا وإذا جاز أن يختلف أفلاطون والحق فغير نكير ولا بديع أن يختلف ارسطاطاليس والحق وما عصم إنسان من الخطأ فكيف وما صح قط أنه قال ه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إنما قال أن النفس جوهر لا جسم من ذهب إلى أنه هي الخالقة لما دون الله تعالى على ما ذهب إليه بعض الصائبين ومن كني بها عن الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكلا القولين سخف وباطل لأن النفس والعقل لفظتان من لغة العرب موضوعتان فيها لمعنيين مختلفين فأحالتهما عن موضوعهما في اللغة سفسطة وجهل وقلة حياء وتلبيس وتدليس‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسماً ممن ينتمي إلى الإسلام بزعمه فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة فأما القرآن فإن الله عز وجل قال ‏"‏ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ كل امرئ بما كسب رهين ‏"‏ فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجزية المخطئة و قال تعالى ‏"‏ إن النفس لأمارة بالسوء ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ‏"‏ فصح أن الأنفس منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة فيعذب ومنها ما يرزق وينعم فرحاً ويكون مسروراً قبل يوم القيامة ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله قد تقطعت أوصالها وأكلتها السباع والطير وحيوان الماء فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان ولا شك في أن العرض لا يلقي العذاب ولا يحس فليست عرضاً وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به فصح ضرورة أنها جسم وأما من السنن فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة وقوله صلى الله عليه وسلم أنه رأي نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها وقوله عليه السلام أن نفس المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن وهذه صفة الأجسام ضرورة وأما عن الإجماع فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن نفس العباد منقولة بعد خروجها عن الأجساد إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب وهذه صفة الأجسام ومن خالف هذا فزعم أن الأنفس تعدم أو أنها تنتقل إلى أجسام أخر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال بخرقه الإجماع ومخالفته القرآن والسنن ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد ذكرنا في باب عذاب القبر أن الروح والنفس شيء واحد ومعني قول الله تعالى ‏"‏ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ‏"‏ إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظماً ثم لحماً ثم أمشاجاً وليس الروح كذلك وإنما قال الله تعالى أمر إله بالكون كن فكان فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد وقد يقع الروح أيضاً على غير هذا فجبريل عليه السلام الروح الأمين والقرآن روح من عند الله وبالله تعالى التوفيق فقد بطل قولهم في النفس وصح أنها جسم ولم يبق إلا الكلام في الجزء الذي قال أبو محمد‏:‏ ذهب جمهور المتكلمين إلى أن الأجسام تنحل إلى أجزاء صغار لا يمكن البتة أن يكون لها جزء وأن تلك الأجزاء جواهر لا أجسام لها وذهب النظام وكل من يحسن القول من الأوائل إلى أنه لا جزء وإن دق إلا وهو يحتمل التجزي أبداً بلا نهاية وأنه ليس في العالم جزؤ لا يتجزء وإن كل جزء انقسم الجسم إليه فهو جسم أيضاً وإن دق أبداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وعمدة القائلين بوجود الجزء الذي لا يتجزأ خمس مشاغب وكلها راجعة بحول الله وقوته عليهم ونحن إن شاء الله تعالى نذكرها كلها ونتقصي لهم كل ما موهوا به ونرى بعون الله عز وجل بطلان جميعها بالبراهين الضرورية ثم نرى بالبراهين الصحاح صحة القول بأن كل جزء فهو يتجزأ أبداً وأنه ليس في العالم جزؤ لا يتجزأ أصلا كما فعلنا بسائر الأقوال والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأول مشاغبهم أن قالوا أخبرونا إذا قطع الماشي المسافة التي مشي فيها فهل قطع ذا نهاية أو غير ذي نهاية فإن قلتم قطع غير ذي نهاية فهذا محال وإن قلتم قطع ذا نهاية فهذا قولنا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن القوم أتوا من أحد وجهين إما أنهم لم يفهموا قولنا فتكلموا بجهل وهذا لا يرضاه ذو ورع ولا ذو عقل ولا حياء وإما أنهم لما عجزوا عن معارضة الحق رجعوا إلى الكذب والمباهتة وهذه شر من الأولى وفي أحد هذين القسمين وجدنا كل من ناظرناه منهم في هذه المسألة وهكذا عرض لنا سواء مع المخالفين لنا في القياس المدعين لتصحيحه فإنهم أيضاً أحد رجلين إما جاهل بقولنا فهو يقو لنا ما لا نقوله وليتكلم في غير ما اختلفنا فيه وإما مكابر ينسب إلينا ما لا نقوله مباهتة وجراءة على الكذب وعجزاً عن معارضة الحق من أننا ننكر اشتباه الأشياء وأننا ننكر قضايا العقول وأننا ننكر استواء حكم الشيئين فيما أوجبه لهما ما اشتبها فيه وهذا كله كذب علينا بل نقر بذلك كله ونقول به وإنما ننكر أن نحكم في الدين لشيئين بتحريم أو إيجاب أو تحليل من أجل أنهما اشتبها في صفة من صفاتهما فهذا هو الباطل البحث والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه‏.‏

ونقول على هذا السؤال الذي سألونا عنه أننا لم نرفع النهاية عن الأجسام كلها من طريق المساحة بل نثبتها ونعرفها ونقطع على أن كل جسم فله مساحة أبداً محدودة ولله الحمد وإنما نفينا النهاية عن قدرة الله تعالى على قسمة كل جزء وإن دق وأثبتنا قدرة الله تعالى على ذلك وهذا هو شيء غير المساحة ولم يتكلف القاطع بالمشي أو بالذرع أو بالعمل قسمة ما قطع ولا تجزئته وإنما تكلف عملاً أو مشى في مساحة معدومة بالميل أو بالذراع أو بالشبر أو الإصبع أو ما شابه ذلك وكل هذا له نهاية ظاهرة وهذا غير الذي نفينا وجود النهاية فيه فبطل إلزامهم والحمد لله كثيراً ثم نعكس هذا الاعتراض عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق نحن القائلون بأن كل جسم فله طول وعرض وعمق وهو محتمل للانقسام والتجزئ وهذا هو إثبات النهاية لكل جزء انقسم الجسم إليه من طريق المساحة ضرورة وأنتم تقولون أن الجسم ينقسم إلى أجزاء ليس لشيء منها عرض ولا طول ولا عمق ولا مساحة ولا يتجزأ وليست أجساماً وأن الجسم هو تلك الأجزاء نفسها ليس هو شيء غيرها أصلاً وإن تلك الأجزاء ليس لشيء منها مساحة فلزمكم ضرورة إذ الجسم هو تلك الأجزاء ليست أجساماً وأن الجسم هو تلك الأجزاء وليس هو غيرها وكل جزء من تلك الأجزاء لا مساحة له إن الجسم لا مساحة له وهذا أمر يبطله العيان وإذا لم تكن له مساحة والمساحة هي النهاية في ذرع الأجسام فلا نهاية لما قطعه القاطع من الجسم على قولهم وهذا باطل والاعتراض الثاني إن قالوا لا بد أن يلي الجرم من الجرم الذي يليه جزء ينقطع ذلك الجرم فيه قالوا وهذا إقرار بجزء لا يتجزأ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه فاسد لأننا لم ندفع النهاية من طريق المساحة بل نقول أن لكل جرم نهاية وسطحاً ينقطع تماديه عنده وإن الذي ينقطع به الجرم إذا جزئ فهو متناه محدود ولكنه محتمل للتجزئ أيضاً وكل جزئ فذلك الجزء وهو الذي يلي الجرم الملاصق له بنهايته من جهته التي لاقاه منها لا ما ظنوا من أن حد الجرم جزء منه وهو وحده الملاصق للجرم الذي يلاصقه بل هو باطل بما ذكرنا لكن الجزء وهو الملاصق للجرم بسطحه فإذا جزء كان الجزء الملاصق للجرم بسطحه هو الملاصق له حينئذ بسطحه لا الذي خر عن ملاصقته وهكذا أبداً والكلام في هذا كالكلام في الذي قبله ولا فرق والاعتراض الثالث إن قالوا هل ألف أجزاء الجسم إلا الله تعالى فلا بد من نعم قالوا فهل يقدر الله على تفريق أجزاء حتى لا يكون فيها شيء من التأليف ولا تحتمل تلك الأجزاء التجزئ أم لا يقدر على ذلك قالوا فإن قلتم لا يقدر عجزتم ربكم تعالى وإن قلتم يقدر فهذا إقرار منكم بالجزء الذي لا يتجزأ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا هو من أقوى شبههم التي شغبوا بها وهو حجة لها عليهم والجواب أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أن سؤالكم سؤال فاسد وكلام فاسد ولم تكن قط أجزاء العالم متفرقة ثم جمعها الله عز وجل ولا كانت له أجزاء مجتمعة ثم فرقها الله عز وجل لكن الله عز وجل خلق العالم بكل ما فيه بأن قال له كن فكان أو بأن قال لكل جرم منه إذا أراد خلقه كن فكان ذلك الجرم ثم إن الله تعالى خلق جميع ما أراد جمعه من الأجرام التي خلقها مفترقة ثم جمعها وخلق تفريق كل جرم من الأجرام التي خلقها مجتمعة ثم فرقها فهذا هو الحق لا ذلك السؤال الفاسد الذي أجملتموه وأوهمتم به أهل الغفلة أن الله تعالى ألف العالم من أجزاء خلقها متفرقة وهذا باطل لأنه دعوى بلا برهان عليها ولا فرق بين من قال أن الله تعالى ألف أجزاء العالم وكانت متفرقة وبين من قال بل الله تعالى فرق العالم أجزاء وإنما كان جزأ واحداً وكلاهما دعوى ساقطة لا برهان عليها لا من نص ولا من عقل بل القرآن جاء بما قلناه نصاً قال تعالى ‏"‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ‏"‏ ولفظة شيء تقع على الجسم وعلى العرض فصح أن كل جسم صغر أو كبر وكل عرض في جسم فإن الله تعالى إذا أراد خلقه قال له كن فكان ولم يقل عز وجل قط أنه ألف كل جرم من أجزاء متفرقة فهذا هو الكذب على الله عز وجل حقاً فبطل ما ظنوا أنهم يلزموننا به ثم نقول لهم أن الله تعالى قادر على أن يخلق جسماً لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضاً جسماً لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضاً قائماً بنفسه ولكنه تعالى لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه لأنهما مما رتبه الله عز وجل محالاً في العقول والله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشي شيئاً منها إلا أنه تعالى لا يفعل كل ما يقدر عليه وإنما يفعل ما يشاء وما سبق في علمه أنه يفعله فقط وبالله تعالى التوفيق‏.‏

ثم نعطف هذا السؤال نفسه عليهم فنقول لهم هل يقدر الله عز وجل على أن يقسم كل جزء وينقسم كل قسم من أقسام الجسم أبداً بلا نهاية أم لا فإن قالوا لا يقدر على ذلك عجزوا ربهم حقاً وكفروا وهو قولهم دون تأول ولا إلزام ولكنهم يخافون من أهل الإسلام فيملحون ضلالتهم بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ جملة‏.‏

وإن قالوا إنه تعالى قادر على ذلك صدقوا ورجعوا إلى الحق الذي هو نفس قولنا وخلاف قولهم جملة ونحن لا نخالفهم قط في أن أجزاء طحين الدقيق لا يقدر مخلوق في العالم على تجزئة تلك الأجزاء وإنما خالفناهم في أن قلنا نحن أن الله تعالى قادر على ما لا نقدر نحن عليه من ذلك و قالوا هم بل هو غير قادر على ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وقولهم في تناهي القدرة على قسمة الله تعالى الأجزاء هو القول بأن الله تعالى يبلغ من الخلق إلى مقدار ما ثم لا يقدر على الزيادة عليه ويبقي حسيراً عاجزاً تعالى الله عن هذا الكفر ولعمري أن أبا الهذيل شيخ المثبتين للجزء الذي لا يتجزأ ليحن إلى هذا المذهب حنيناً شديداً وقد صرح بأن لما يقدر الله عليه كمالاً وآخراً لو خرج إلى الفعل لم يكن الله تعالى قادراً بعده على تحريك ساكن ولا تسكين متحرك ولا على فعل شيء أصلاً ثم تدارك كفره ف قال ولا يخرج ذلك الآخر أبداً إلى حد الفعل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ في قال له ما المانع من خروجه والنهاية حاصرة له والفعل قائم فلا بد مع طول الزمان من البلوغ إلى ذلك الآخر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ نعوذ بالله من الضلال والاعتراض الرابع هو إن قالوا أيما أكثر أجزاء الجبل أو أجزاء الخردلة وأيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الخردلتين قالوا فإن قلتم بل أجزاء الخردلتين وأجزاء الجبل صدقتم وأقررتم بتناهي التجزي وهو القول بالجزء الذي لا يتجزأ وإن قلتم ليس أجزاء الجبل أكثر من أجزاء الخردلة ولا أجزاء الخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة كابرتم العيان لأنه لا يحدث في الخردلة جزء إلا ويحدث في الخردلتين جزآن وفي الجبل أجزاء وادعوا علينا أننا نقول أن في كل جسم أجزاء لا نهاية لعدده و قالوا أن عمدة حجتكم على الدهرية هو هذا المعنى نفسه في إلزامكم إياهم وجوب القلة والكثرة في عدد الأشخاص وأوقات الزمان وإيجابكم أن كل ما حصره العدد فذو نهاية وإنكاركم على الدهرية وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لعددها قالوا ثم نقضتم كل ذلك في هذا المكان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هو الذي قلنا أنهم إما لم يفهموا كلامنا في هذه المسألة فقولونا ما لا نقوله بظنونهم الكاذبة وأما أنهم عرفوا قولنا فحرفوه قلة حياء واستحلال الكذب وجراءة على عمل الفضيحة لهم في كذبهم وعجزاً منهم عن كسر الحق ونصر الباطل فاعلموا أن كل ما نسبوه غلينا من قولنا أن من قطع مكاناً أو شيئاً بالمشي أو بالجملتين فإنما قطع ما لا نهاية له فباطل ما قلناه قط بل ما قطع إذا ذا نهاية بمساحته وزمانه وأما احتجاجنا على الدهرية بما ذكروا فصحيح هو حجتنا على الدهرية وأما ادعاؤهم أننا نقضنا ذلك في هذا المكان فباطل والفرق بين ما قلناه من أنل كل جزء فهو يتجزأ أبداً بلا نهاية وبين ما احتججنا به على الدهرية من إيجاب النهاية بوجود القلة والكثرة في أعداد الأشخاص والأزمان وإنكارنا عليهم وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لها بل هو حكم واحد وباب واحد وقول واحد ومعنى واحد وذلك أن الدهرية أثبتت وجود أشخاص قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لعددها ووجود أزمان قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وهكذا قلنا في كل جزء خرج إلى أحد الفعل فإنها متناهية العدد بلا شك ولم نقل قط أن أجزائه موجودة منقسمة لا نهاية لعددها بل هذا باطل محال ثم إن الله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص وفي الأزمان وفي قسمة الجزء أبداً بلا نهاية لكن كل ما خرج إلى الفعل أو يخرج من الأشخاص أو الأزمان أو تجزئة الأجزاء فكل ذلك متناه بعدده إذا خرج وهكذا أبداً وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزئ إذا خرج وهكذا أبداً وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزئ فليس شيئاً ولا هو عدداً ولا معدوماً ولا يقع عليه عدد ولا هو شخص بعد ولا زمان ولا جزؤ وكل ذلك عدم وإنما يكون جزء إذا جزئ بقطع أو برسم مميز لا قبل أن يجزئ وبهذا تتبين غناثة سؤالهم في أيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الجبر أو أجزاء الخردلتين لأن الجبل إذا لم يجزأ والخردلة إن لم تجزأ والخردلتان إذا لم تجزئا فلا أجزاء لها أصلاً بعد بل الخردلة جزء واحد والجبل جزء واحد والخردلتان كل واحدة منهما جزء فإذا قسمت الخردلة على سبعة أجزاء وقسم الجبل جزأين وقسمت الخردلتان جزأين جزأين فالخردلة الواحد بيقين أكثر أجزاء من الجبل والخردلتين لأنها صارت سبعة أجزاء ولم يصر الجبل والخردلتان إلا ستة أجزاء فقط فلو قسمت الخردلة ستة أجزاء لكانت أجزاؤها وأجزاء الجبل والخردلتين سواء ولو قسمت الخردلة خمسة أجزاء وكانت أجزاء الجبل والخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقع التجزيء في شيء إلا إذا قسم لا قبل ذلك فإن كانوا يريدون في أيهما يمكننا التجزئة أكثر في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحدة فهذا ما لا شك فيه أن التجزيء أمكن لنا في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحد لأن الخردلة الواحدة عن قريب تصغر أجزاؤها حتى لا نقدر نحن على قسمتها ويتمادى لنا الأمر في الجبل كثيراً حتى أنه يفنى عمر أحدنا قبل أن يبلغ تجزئته إلى أجزاء تدق عن قسمتنا وأما قدرة الله عز وجل على قسمة ما عجزنا نحن عن قسمته من ذلك فباقية غير متناهية وكل ذلك عليه هين سواء ليس بعضه أسهل عليه من بعض بل هو قادر على قسمة الخردلة أبداً بلا نهاية وعلى قسمة الفلك كذلك ولا فرق وبالله تعالى التوفيق ونزيد بياناً فنقول أن الشيء قبل أن يجزأ فليس متجزئاً فإذا جزء بنصفين أو جزأين فهو جزءان فقط فإذا جزء على ثلاثة أجزاء فقط فهو ثلاثة أجزاء وهكذا أبداً وأما من قال أو ظن أن الشيء قبل أن ينقسم وقبل أن يتجزأ أنه منقسم بعد ومتجزئ بعد فوسواس وظن كاذب لكنه محتمل الانقسام والتجزؤ وكل ما قسم وجزأ فكل جزء ظهر منه فهو معدود متناه وكذلك كل جسم فطوله وعرضه متناهيان بلا شك والله تعالى قادر على الزيادة فيهما أبداً بلا نهاية إلا أن كل ما زاده تعالى في ذلك وأخرجه إلى حد الفعل فهو متناه ومعدود ومحدود وهكذا أبداً وكذلك الزيادة في أشخاص العالم وفي العدد فإن كل ما خرج إلى حد الفعل من الأشخاص ومن الأعداد فذو نهاية والله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص أبداً بلا نهاية والزيادة في العدد ممكنة أبداً بلا نهاية إلا أن كل ما خرج من الأشخاص والأعداد إلى الفعل صحبته النهاية ولا بد ثم نعكس هذا السؤال عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أتفضل عندكم قدرة الله تعالى على قسمة الجبل على قدرته على قسمة الخردلة وهل تأتى حال يكون الله فيها قادراً على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة أم لا فإن قالوا بل قدرة الله تعالى على قسمة الجبل أتم من قدرته على قسمة الخردلة وأقروا بأنه تأتى حال يكون الله تعالى فيها قادراً على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة كفروا وعجزوا ربهم وجعلوا قدرته محدثة متفاضلة متناهية وهذا كفر مجرد وإن أبوا من هذا و قالوا إن قدرة الله تعالى على قسمة الجبل والخردلة سواء وأنه لا سبيل إلى وجود حال يقدر الله تعالى فيها على تجزئة أجزاء الجبل ولا يقدر على تجزئة أجزاء الخردلة صدقوا ورجعوا إلى قولنا الذي هو الحق وما عداه ضلال وباطل والحمد لله رب العالمين والاعتراض الخامس هو أن قالوا هل لأجزاء الخردلة كل أم ليس لها كل وهل يعلم الله عدد أجزائها أم لا يعلمه فإن قلتم لا كل لها نفيتم النهاية عن المخلوقات الموجودات وهذا كفر وإن قلتم إن الله تعالى لا يعلم عدد أجزائها كفرتم وإن قلتم أن لها كلاً وإن الله تعالى يعلم أعداد أجزائها أقررتم بالجزء الذي لا يتجزأ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه لائح ينبغي التنبيه عليه لئلا يجوز على أهل الغفلة وهو أنهم أقحموا لفظة كل حيث لا يوجد كل وسألوا هل يعلم الله تعالى عدد ما لا عدد له وهم في ذلك كمن سأل هل يعلم الله تعالى عدد شعر لحية الأحلس أم لا وهل يعلم جميع أولاد العقيم أم لا وهل يعلم كل حركات أهل الجنة والنار أم لا فهذه السؤالات كسؤالهم ولا فرق وجوابنا في ذلك كله أن الله عز وجل إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علم الشيء على ما هو عليه فقد علمه حقاً وأما من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فلم يعلمه بل جهله وحاشا لله من هذه الصفة فما لا كل له ولا عدد له فإنما يعمله الله عز وجل أن لا عدد له ولا كل وما علم الله عز وجل قط عدداً ولا كلاً إلا لما له عدد وكل لا لما لا عدد له ولا كل وكذلك لم يعلم الله عز وجل قط عدد شعر لحية الأطلس ولا علم قط ولد العقيم فكيف أن يعرف لهم كلاً وكذلك لم يعلم الله عز وجل قط عدد أجزاء الجبل ولا الخردلة قبل أن يجزئا لأنهما لا جزء لهما قبل التجزئة وإنما علمهما غير متجزئين وعلمهما محتملين للتجزيء فإذا جزئا علمهما حينئذ متجزئين وعلم حينئذ عدد أجزائهما ولم يزل تعالى يعلم أنه يجزئ كل ما لا يتجزأ ولم يزل يعلم عدد الأجزاء التي لا تخرج في المستأنف إلى حد الفعل ولم يزل يعلم عدد ما يخرج من الأشخاص بخلقه في الأبد إلى حد الفعل أو لم يزل يعلم أنه لا أشخاص زائدة على ذلك ولا أجزاء لما لم ينقسم بعد وكذلك ليس للخردلة ولا للجبل قبل التجزيء أجزاء أصلاً وإذ ذلك كذلك فلا كل هاهنا ولا بعض فهذا بطلان سؤالهم والحمد لله رب العالمين ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الشخص الفرد من خردلة أو وبرة أو شعرة أو غير ذلك إذا جزأنا كل ذلك جزئين أو أكثر متى حدثت الأجزاء أحين جزئت أم قبل أن تجزء فإن قالوا قبل أن تجزئ ناقضوا أسمج مناقضة لأنهم أقروا بحدوث أجزاء كانت قبل حدوثها وهذا سخف وإن قالوا إنما حدثت لها الأجزاء حين جزئت لا قبل ذلك سألناهم متى علمها الله تعالى متجزئة حين حدث فيها التجزيء أم قبل أن يحدث فيها التجزيء فإن قالوا ب حين حدث فيها الجزيء صدقوا وأبطلوا قولهم في أجزاء الخردلة وإن قالوا بل علم أنها متجزئة وأن لها أجزاء قبل حدوث التجزيء فيها جهلوا ربهم تعالوا إذا خبروا أنه يعلم الشيء بخلاف ما هو قال أبو محمد‏:‏ هذا كل ما موهوا به لم ندع لهم منه شيئاً إلا وقد أوردناه وبينا أنه كله لا حجة لهم في شيء منه وأنه كله عائد عليهم وحجة لنا والحمد لله رب العالمين ثم نبتدئ بحول الله تعالى وقوته بإيراد البراهين الضرورية على أن كل جسم في العالم فإنه متجزئ محتمل للتجزئة وكل جزء من جسم فهو أيضاً جسم محتمل للتجزيء وهكذا أبداً وبالله تعالى نتأيد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ي قال لهم وبالله تعالى نستعين أخبرونا عن هذا الجزء الذي قلتم أنه لا يتجزأ أهو في العالم أم ليس في العالم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا ليس هو في العالم صدقوا وأبطلوه إلا أنهم يلزمهم قول فاحش وهو أنهم يقولون أن جميع العالم مركب من أجزاء لا تتجزأ والكل ليس هو شيئاً غير تلك الأجزاء فإن كانت تلك الأجزاء ليست في العالم فالعالم عدم ليس في العالم وهذا تخليط كما ترى وإن قالوا بل هو في العالم قلنا لهم لا يخلوا إن كان في كرة العالم من أن يكون إما قائماً بنفسه حاملاً وإما أن يكون محمولاً غير قائم بنفسه لا بد ضرورة من أحد الأمرين إذ ليس العالم كله إلا على هذين القسمين فإن كان محمولاً غير قائم بنفسه فهو عرض من الأعراض وإن كان حاملاً قائماً بنفسه ذا مكان فهو جسم وثم ي قال لهم أخبرونا عن الجزء الذي ذكرتم أنه لا يتجزأ وهو على قولكم في مكان لأنه بعض من أبعاض الجسم هل الملاقي منه للمشرق هو الملاقي للمغرب أم غيره وهل المحازي منه للسماء هو المحازى منه للأرض أم هو غيره فإن قالوا كل ذلك واحد والملاقي منه للمشرق هو الملاقي منه للمغرب والمحازى للسماء هو المحازى منه للأرض أتوا بإحدى العظائم وجعلوا جهة المشرق منه هي جهة المغرب وجعلوا السماء والأرض منه في جهة واحدة وهذا حمق لا يبلغه إلا الموسوس ومكابرة للعيان لا يرضاها لنفسه سالم البنية وإن قالوا بل الملاقي منه للمشرق هو غير الملاقي منه للمغرب وأن السماء والأرض منه في جهتين متقابلتين فوق وأسفل صدقوا وهكذا جهة الجنوب والشمال فإذ ذلك كذلك بلا شك فقد صح أنه ذو جهات ست متغايرة وهذا إقرار منهم بأنه ذو أجزاء إذ قطعوا بأن الملاقي منه للمغرب غير الملاقى منه للمشرق ومن للتبعيض وبطل قولهم من قرب والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإن أرادوا إلزامنا مثل هذا في العرض قلنا ليس للعرض جهة ولا له مكان ولا يقوم بنفسه ولا يحاذى شيئاً وإنما يحاذى الأشياء حامل العرض لا العرض إذ لو ارتفع العرض لبقي حامله مالئاً لمكانه كما كان محاذياً من جميع جهاته ما كان يحاذى حين حمله للعرض سواء سواء ولو ارتفع في قولكم الجزاء الذي لا يتجزأ لبقي مكانه خالياً منه وقد أوضحنا أن عرضين وأعراضاً تكون في جسم واحد في جهة واحدة منه وهم يختلفون في أن جزئين كل واحد منهما لا يتجزأ فلا يمكن البتة أن يكونا جميعاً في مكان واحد بل لكل واحد منهما عندهم مكاناً غير مكان الآخر وبرهان آخر وهو أنهم يقولون أن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق إذا أضفتم إلى الجزء الذي لا يتجزأ عندكم جزءاً آخر مثله لا يتجزأ أليس قد حدث لهما طول فلا بد من قولهم نعم لا يختلفون في ذلك ولو أنهم قالوا لا يحدث لهما طول للزمهم مثل ذلك في إضافة جزء ثالث ورابع وأكثر حتى يقولوا أن الأجسام العظام لا طول لها ويحصلوا في مكابرة العيان فنقول لهم إذا قلتم أن جزءاً لا يتجزأ لا طول له إذا ضم إليه جزء آخر لا يتجزأ ولا طول له فأيهما يحدث له طول فقولوا لنا هل يخلو هذا الطول الحادث عندكم من أحد ولثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن يكون هذا الطول لأحدهما دون الآخر أو لا لواحد منهما أو لكليهما فإن قلتم ليس هذا الطول لهما ولا لواحد منهما فقد أوجبتم طولاً لا لطويل وطولاً قائماً بنفسه والطول عرض والعرض لا يقوم بنفسه وصفة والصفة لا يمكن أن توجد إلا في موصوف بها ووجود طول لا لطويل مكابرة ومحال وإن قلتم أن ذلك الطول هو لأحد الجزأين دون الآخر فقد أحلتم وأتيتم بما لا شك بالحس وضرورة العقل في بطلانه ولزمكم أن الجزء الذي لا يتجزأ له طول وإذا كان له طول فهو بلا شك يتجزأ وهذا ترك منكم لقولكم مع أنه أيضاً محال لأنه يجب من هذا أن يتجزأ ولا يتجزأ وإن قلتم أن ذلك الطول للجزأين معاً صدقتم وأقررتم بالحق في أن كل جزء منهما فله حصته من الطول والحصة من الطول طول بلا شك وإذا كان كل واحد منهما له طول فلكل واحد منهما له طول فكل واحد منهما يتجزأ وهذا خلاف قولكم أنه لا يتجزأ وهذا برهان ضروري أيضاً لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونقول لهم أيما أطول جزآن لا يتجزأ كل واحد منهما وقد ضم أحدهما إلى الآخر ثم أحدهما غير مضموم إلى الآخر فلا يجوز أن يقول أحد إلا أن الجزأين المضمومين أطول من أحدهما غير مضموم إلى الآخر فإذ ذلك كذلك فمن المحال الممتنع الباطل أن ي قال في شيء هذا أطول من هذا إلا وفي الآخر طول دون طول ما هو أطول منه فقد صح ضرورة أن الطول موجود لكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ وإذا كان له طول فهو منقسم بلا خلاف من أحد منا ومنهم وهكذا القول في عرضهما أن ضم أحدهما إلى الآخر وفي عمقهما كذلك ولا بد من أن يكون لكل واحد منهما حصة من العرض والعمق وإذ ذاك كذلك ضرورة فكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ فلا بد من أن يكون له طول وعرض وعمق وإذ ذلك كذلك فهو جسم يتجزأ ولا بد وهذا أيضاً برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وقد رام أبو الهذيل التخلص من هذا الإلزام فبعد ذلك عليه لأنه رام محالاً ف قال أن الطول الحادث للجزأين عند اجتماعهما إنما هو كالاجتماع الحادث لهما ولم يكن لهما ولا لأحدهما إذ كانا منفردين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تمويه ظاهر لأن الاجتماع هو ضم أحدهما إلى الآخر نفسه ليس هو شيئاً آخر ولم يكونا قبل الضم والجمع مضمومين ولا مجتمعين وليس معنى الطول والعرض والعمق كذلك بل هو شيء آخر غير الضم والجمع وإنما هو صفة للطويل مضموماً كان إلى غيره أو غير مضموم ولا يوجب الجمع والضم طولاً لم يكن واجباً قبل الضم والجمع فلم يزد أبو الهذيل على أن قال لما اجتمعا صارا مجتمعين وصارا طويلين وهذه دعوى فاسدة ونظر منحل لأن قوله لما اجتمعا صارا مجتمعين صحيح لا شك فيه وقوله وصارا طويلين دعوى مجردة من الدليل جملة وما كان هكذا فهو باطل وأيضاً فإن الاجتماع لما حدث بينهما بطل معنى آخر كان موجوداً فيهما وهو الافتراق الذي هو ضد الاجتماع فأخبرونا إذا حدث الطول بزعمكم فأي شيء هو المعنى الذي ذهب بوجود الطول وعاقبة الطول ولا سبيل لهم إلى وجوده فصح أن الطول كان موجوداً في كل جزء على انفراده وكذلك العرض والعمق ثم لم اجتمعا زاد الطول والعرض والعمق وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق وهذا هو الذي تشهد له الحواس والمشاهدة والعقل والحمد لله رب العالمين وبرهان آخر وهو أن الجرم إن كان أحمر فكل جزؤ من أجزائه أحمر بلا شك فإن قالوا ليس أحمر قلنا لهم فلعله أخضر أو أصفر أو غير ذي لون وهذا عين المحال لأن الكل قد بينا أنه ليس هو شيئاً غير أجزائه فلو كان لون أجزائه غير لونه كله لكان لونه غير لونه وهذا محال فإذ لا شك فيما ذكرنا فالجزؤ الذي يدعون أنه لا يتجزأ هو ذو لون بلا شك وإذ هو ذو لون فهو جسم لا يعقل غير ذلك فهو يتجزى‏.‏

قال أو محمد‏:‏ و قال ت الأشعرية ههنا كلاما ظريفاً وهو أنهم قالوا هو ذو لون واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كل ملون فهو ذو لون واحد لا ذو ألوان كثيرة إلا أن يكون أبلق أو موشى برهان آخر أن وجود شيء في العالم قائم بنفسه ليس جسماً ولا عرضاً ولا قابلاً للتجزئ ولا طول ولا عرض ولا عمق فهو محال ممتنع إذ هذا المذكور ليس هو شيئاً غير الباري تعالى وجل تعالى أن يكون له في العالم شبه وبهذا بان عز وجل عن مخلوقاته ولم يكن له كفواً أحد وليس كمثله شيء برهان آخر‏.‏

قال أو محمد‏:‏ كل شيء يحتمل أن يكون له أجزاء كثيرة فبالضرورة ندري أنه يحتمل أن يتجزأ إلى أٌل منها هذا ما لا تختلف العقول والإحساس فيه كشيء احتمل أن يقسم على أربعة أقسام فلا شك أنه يحتمل أن يقسم على ثلاثة وعلى اثنين وهكذا في كل عدد ومن دافع في هذا فإنما يدافع الضرورة ويكابر العقل فلوا أقمت خطا من ثلاثة أجزاء كل جزء منها لا يتجزأ على قولهم أو يعمل ذلك الخط من عشرة أجزاء وكذلك ومن ألف جزءٍ كذلك أو مما زاد فإنه لا يختلف أحد في أن الخط الذي هو من ثلاثة أجزاء فإنه ينقسم أثلاثاً في موضعين وأن الذي هو أربعة أجزاء فإنه ينقسم أرباعاً في ثلاثة مواضع وأن الذي من ألف جزؤ فإنه ينقسم أعشاراً وبنصفين وإذ لا شك في هذا فبيقين لا محيد عنه يدري كل ذي حس سليم ولو أنه عالم أو جاهل أن ما انقسم أثلاثاً فإنه ينقسم نصفين مستويين وما انقسم أرباعاً فإنه ينقسم أثلاثاً مستوية وإن ما كان من الخطوط فله أعشار وأخماس ونصف وأثلاث وأسداس وأسباع متساوية فإذ لا شك في هذا فإن القسمة لا بد أن تقع في نصف جزءٍ منها أو في أقل من نصفه فصح أن كل جسم فهو يتجزأ ضرورة وإن الجزء الذي لا يتجزأ باطل معدوم من العالم وهذا ما مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ بلا شك نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين لا يلتقيان أبداً ولو مدا عمر العالم أبداً بلا نهاية وأنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين قام منهما مربع بلا شك فإذا أخرجت من زاوية ذلك المربع خطاً منحدراً من هنالك إلى الخط الأسفل فإن تلك الخطوط المخرجة من الضلع الذي ذكرنا وتلك الخطوط المخرجة من الزاوية لا تمر مع الخط الأعلى أبداً لأنها غير موازية له فإذ ذلك كذلك فذلك الضلع منقسم أبداً لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية برهان آخر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبالضرورة ندري أن كل مربع متساوي الأضلاع فإن الخط القاطع من الزاوية العليا إلى الزاوية السفلى التي لا يوازيها يقوم منه في المربع مثلثان متساويان وأنه لا شك أطول من كل ضلع من أضلاع ذلك المربع على انفراده فنسألهم عن مائة جزءٍ لا يتجزأ رتبت متلاصقة عشرة عشرة فبالضرورة نجد فيها ما ذكرنا فبيقين نعلم حينئذ أن كل جزءٍ من الأجزاء المذكورة لولا أن له طولاً وعرضاً لما كان الخط المار بها القاطع للمربع القائم منها على مثلثين متساويين أطول من الخط المار بكل جهة من جهات ذلك المربع على استواء وموازاة للخطوط الأربعة المحيطة بذلك المربع وهو أطول منه بلا شك فصح ضرورة أن لكل جزء منها طولاً وعرضاً وأن ما له طول وعرض فهو متجزء بلا شك فصح أيضاً بما ذكرنا أن كل جزءٍ مر عليه الخط المذكور فقد انقسم برهان آخر وأيضاً فإننا لو أقمنا خطاً من أجزاء لا تتجزأ على قولهم مستقيماً ثم أدرناه حتى يلتقي طرفاه ويصير دائرة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الخط إذا أدير حتى يلتقي طرفاه فإن ما قابل من أجزائه مركز الدائرة أضعف مما يقابل منها خارج الدائرة فإذ ذلك كذلك فهذا لازم في هذا الخط المدار بلا شك وإذ لا شك في هذا فقد فضل أحد طرفي الجزء الذي لا يتجزأ عندهم فضلة على طرفه الآخر وهكذا كل جزءٍ من تلك الأجزاء بلا شك فصح ضرورة أنه محتمل للانقسام ولا بد وبالله تعالى التوفيق برهان آخر نسألهم عن دائرة قطرها أحد عشر جزءاً لا يتجزأ كل واحد منها عندهم أو أي عدد شئت على الحساب فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ولا خلاف في أن هذا ممكن فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط ماراً على مركزها لا يقع البتة إلا في أنصاف تلك الأجزاء فصح ضرورة أنها لا تتجزأ ولو لم يمر ذلك الخط على أنصافها لما قسم الدائرة بنصفين وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو أن نسألهم عن الجزء الذي لا يتجزأ الذي يحققونه إذا وضع على سطح زجاجة ملساء مستوية هل له حجم زائد على سطحها أم لا حجم له زائد على سطحها فإن قالوا لا حجم له زائداً على سطحها أعدموه ولم يجعلوا له مكاناً ولا جعلوه متمكناً أصلاً فنسألهم عن جزئين جعلا كذلك فلا بد من قولهم أن لهما حجماً فنسألهم عن ذلك الحجم ألهما معاً أم لأحدهما فأي ذلك قالوا أثبتوا ولا بد الحجم لهما وللجزء الذي هو أحدهما وإذا كان للجزء الذي لا يتجزأ حجم زائد فالذي لا شك فيه أن له ظلاً وإذا صح يقيناً أن له ظلاً فلا شك في أن الظل يزيد وينقص ويمتد ويتقلص ويذهب إذا سامتته الشمس فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن ظله ينقص حتى يكون أقل من قدره وإذ ذلك فقد ظهر ووجب أن له تجزياً ومقداراً وبرهان آخر وهو أننا نسألهم عن جزؤ لا يتجزأ من الحديد أو من الذهب وجزؤ لا يتجزأ من خيط قطن هل ثقلهما ووزنهما سواء أم الذي من الذهب أو الحديد أثقل من الذي من القطن فإن قالوا ثقلهما ووزنهما سواء كابروا ولزمهم هذا في ألف جزؤ كذلك من الذهب أنهما ليستا أثقل من ألف جزؤ من القطن مجتمعة كانت الأجزاء أو متفرقة وهذا جنون ومكابرة وأن قالوا بل الذي من الذهب أوزن وأثقل صدقوا وأوجبوا أن له تجزياً يتفاضل الوزن ضرورة ولا بد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذه براهين ضرورية قاطعة بأن كل جزء فهو يتجزأ أبداً بلا نهاية وأن جزاء لا يتجزأ ليس في العالم أصلاً ولا يمكن وجوده بل هو من المحال الممتنع وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما أبو الهذيل فخلط في هذا الباب وحق لمن رام نصر الباطل أن يخلط ف قال وأنه الجزؤ الذي لا يتجزأ ذو حركة وسكون يتعاقبان عليه وأن يشغل مكاناً لا يسع فيه معه غيره وأنه أقرب إلى السماء من مكانه الذي هو عليه من الأرض وهذا غاية التناقص إذ ما كان هكذا فله مساحة بلا شك وهو ذو جهات ست فللمساحة أجزاء من نصف وثلث وأقل وأكثر وما كان ذا جهات فالذي منه في كل جهة غير الذي منه في الجهة الأخرى بلا شك وما كان هذا فهو محتمل للتجزي بلا شك وما عدا هذا فوسواس نعوذ بالله منه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ في تخليطهم هذا اختلافاً ظريفاً أيضاً فأجمعوا أنه إذا ضم جزؤ لا يتجزء إلى جزؤ لا يتجزأ فصار اثنين فقد حدث لهما طول ثم اختلفوا متى يصير جسماً له طول وعرض وعمق ف قال بعضهم إذ صار جزئين صار جسماً وهو قول الأشعرية و قال بعضهم إذا صارا أربعة أجزاء و قال بعضهم بل إذا صارا ستة أجزاء واتفقوا على أنه إذا صارا ثمانية أجزاء فقد صار جسماً له طول وعرض وعمق وكل هذا تخليط ناهيك به وجهل شديد كان الأولى بأهله أن يتعلموا قبل أن يتكلموا بهذه الحماقات برهان ذلك أنهم لم يختلفوا أنهم إذا صفوا أربعة أجزاء لا يتجزأ وتحتها أربعة أجزاء لا يتجزأ فإنه قد صار عندهم الجميع من هذه الأجزاء جسماً طويلاً عيضاً عميقاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا الذي طابت نفوسهم عليه وأنست عقولهم إليه في الثمانية وسهل على بعضهم دون بعض في ثلاثة أجزاء تحتها ثلاثة أجزاء وفي جزئين تحتها جزآن ومنعوا كلهم من ذلك في جزؤ على جزؤ حاشا الأشعرية فإنه بعينه موجود على أصولهم المخذولة وأقوالهم المرذولة في جزؤ على جزؤ على جزؤ سواء سواء بعينه وذلك أن أربعة أجزاء على أربعة جزاء فإنما الحاصل منها جزؤ على جزء فقط من كل جهة فإذا جعلوا الأربعة على الأربعة طولاً فإنما جعلوه في جزؤ إلى جنب جزؤ كذلك فعلوا في العرض وكذلك فعلوا في العمق وإذ هو كذلك والطول عندهم يوجد في جزء إلى جنب جزء والعرض يوجد جنب الطول لأن العرض لا يكون أكثر من الطول أصلاً والعمق موجود فيهما أيضاً فظهر أن لكل جزء منها طولاً وعرضاً وعمقاً قال أبو محمد‏:‏ فإذا قد بطل قولهم في الجزء الذي لا يتجزأ وفي كل ما أوجبوه أنه جوهر لا جسم ولا عرض فقد صح أن العالم كله حامل قائم بنفسه ومحمول لا يقوم بنفسه ولا يمكن وجود أحدهما متخلياً فالمحمول هو العرض والحامل هو الجوهر وهو الجسم سمه كيف شئت ولا يمكن في الوجود غيرهما وغير الخالق لهما تعالى وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ و قال هؤلاء الجهال أن العرض لا يبقى وقتين وأنه لا يحمل عرضاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد كلمناهم في هذا وتقرينا كتبهم فما وجدنا لهم حجة في هذا أصلاً أكثر من أن بعضهم قال لو بقي وقتين لشغل مكاناً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه حجة فقيرة إلى حجة ودعوى كاذبة نصر بها دعوى كاذبة ولا عجب أكثر من هذا ثم لو صحت لهم للزمهم هذا بعينه فيما جوزوه من بقاء العرض وقتاً واحداً وي قال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال لو بقي العرض وقتاً واحداً لشغل مكاناً وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا فرق في اقتضاء المكان بين بقاء وقت واحد وبين بقاء وقتين فصاعداً فإن أبطلوا بقاءه وقتاً لزمهم أنه ليس باقياً أصلاً وإذا لم يكن باقياً فليس موجوداً أصلاً وإذ لم يكن موجوداً فهو معدوم فحصلوا من هذا التخليط على نفي الأعراض ومكابرة العيان وي قال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل يبقى وقتين ولا يبقى ثلاثة أوقات إذ لو بقي ثلاثة أوقات لشغل مكاناً وكل هذا هوس وليس من أجل البقاء وجب اقتضاء الباقي المكان لكن من أجل أنه طويل عريض عميق فقط ولا مزيد وقد قال بعضهم أن الشيء في حين خلق الله تعالى له ليس باقياً ولا فانياً وهذه دعوى في الحمق كما سلف لهم ولا فرق وهي مع ذلك لا تعقل ولا يتمثل في الوهم أن يكون في الزمان أو في العالم شيء موجود ليس باقياً ولا فانياً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولا عجب أعجب من حمق من قال أن بياض الثلج وسواد القار وخضرة البقل ليس شيء منها الذي كان آنفاً بل يفني في كل حين ويستعيض ألف ألف بياض وأكثر وألف ألف خضرة وأكثر هذه دعوى عارية من الدليل إلا أنها جمعت السخف مع المكابرة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والصحيح من هذا هو ما قلناه ونقوله أن الأعرض تنقسم أقساماً فمنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله لإنفساد ما هو فيه لو أمكن ذلك كالصورة الكلية أو كالطول والعرض والعمق ومنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله إلا بإنفساد حامله كالاسكار في الخمر ونحو ذلك فإنها إن لم تكن مسكرة لم تكن خمراً وهكذا كل صفة يجدها ما هي عليه ومنها ما لا يزول إلا بفساد حامله إلا أنه لو توهم زائلاً لم يفسد حامله كزرق الأزرق وفطس الأفطس فلو زالا لبقي الإنسان إنساناً بحسبه ومنها ما يبقى مدداً طوالاً وقصاراً وربما زايل ما هو فيه كسواد الشعر وبعض الطعوم والخشونة والاملاس في بعض الأشياء والطيب والنتن في بعضها والسكون والعلم وكبعض الألوان التي تستحيل ومنها ما يسرع الزوال كحمرة الخجل وكمدة الهم وليس من الأعراض شيء يفني بسرعة حتى لا يمكن أن يضبط مدة بقائه إلا الحركة فقط على أنها بضرورة العقل والحسن ندري أن حركة الجزء من الفلك التي تقطع بنصفين من شرق إلى غرب أسرع من حركة الجزء منه الذي حوالي القطبين لأن كل هذين الجزأين يرجع إلى مكانه الذي بدأ منه في أربع وعشرين ساعة وبين دائريهما في الكبر ما لا يكون مساحة خط دائرة أو خط مستقيم أكثر منه في العالم وبيقين يدري أن حركة المذعورة في طيرانها أسرع من حركة السلحفاة في مشيها وأن حركة المنساب في الحدور أسرع من حركة الماء الجاري في مسيل النهر وأن حركة العصر في الجري أسرع من حركة الماشي فصح يقيناً أن في خلال الحركات أيضاً بقاء إقامة يتفاضل في مدته لأن الحركات كلها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان فللمتحرك مقابلة ولا بد لكل جرم مر عليه ففي تلك المقابلات يكون التفاضل في السرعة أو في البطئ إلا أنه لا يحس أجزاؤه ولا تضبط دقائقه إلا بالعقل فقط الذي به يعرف زيادة الظل والشمس ولا يدرك ذلك بالحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما فإنه حينئذ يعرف بحس البصر كما لا يدرك بالحواس نماء النامي إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكما يعرف بالعقل لا بالحس أن لكل خردلة جزءاً من الأث قال فلا يحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكذلك الشبع والري وكثير من أعراض العالم فتبارك خالق ذلك هو الله أحسن الخالقين وأما قولهم أن العرض لا يحمل العرض فكلام فاسد مخالف للشريعة وللطبيعة وللعقل وللحواس ولإجماع جميع ولد آدم لأننا لا نختلف في أن نقول حركة سريعة وحركة بطيئة وحمرة مشرقة وخضرة أشد من خضرة وخلق حسن وخلق مسيء و قال تعالى ‏"‏ إن كيدكن عظيم ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فصبر جميل ‏"‏ وحسبك فساداً بقول أدى إلى هذا ومن أحال على العيان والحس والمعقول وكلام الله تعالى فقد فاز قدحه وخسرت صفقة من خالفه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولسنا نقول أن عرضاً يحمل عرضاً إلى ما لا نهاية له بل هذا باطل ولكن كما وجد وكما خلق الباري تعالى ما خلق ولا مزيد وما عدا هذا فرقة دين وضعف عقل وقلة حياء ونعوذ بالله من هذه الثلاث وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

الكلام في المعارف

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في المعارف ف قال قائلون المعارف كلها باضطرار إليها و قال آخرون المعارف كلها باكتساب لها و قال آخرون بعضها باضطرار وبعضها باكتساب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والصحيح في هذا الباب أن الإنسان يخرج إلى الدنيا ليس عاقلاً لا معرفة له قال أو محمد‏:‏ فحركاته كلها طبيعية كأخذه الثديين حين ولادته وتصرفه تصرف البهائم على حسبها في تألمها وطربها حتى إذا كبر وعقل وتقوت نفسه الناطقة وأنست بما صارت فيه وسكنت إليه وبدت رطوباته تجف بدأت بتمييز الأمور في الدار التي صارت فيها فيحدث الله تعالى لها قوة على التفكر واستعمال الحواس في الاستدلال وأحدث الله لها الفهم بما تشاهد وما تخبر به فطريقه إلى بعض المعارف اكتساب في أول توصله إليها لأنه بأول فهمه ومعرفته عرف أن الكل أكثر من الجزء وأن جسماً واحداً لا يكون في مكانين وأنه لا يكون قاعداً قائماً معاً وهو إن لم يحسن العبارة عن ذلك فإن أحواله كلها تقتضي تيقنه كل ما ذكرنا وعرف أولاً صحة وما أدرك بحواسه ثم انتجت له بعد ذلك سائر المعارف بمقدمات راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو بعد فكل ما ثبت عندنا ببرهان وإن كان بعيد الرجوع إلى ما ذكرنا فمعرفة النفس به اضطرارية لأنه لو رام جهده أن يزيل عن نفسه المعرفة بما ثبت عنده هذا الثبات لم يقدر فإذ هذا لا شك فيه فالمعارف كلها باضطرار إذ ما لم يعرف بيقين فإنما عرف بظن وما عرف ظناً فليس علماً ولا معرفة هذا ما لا شك فيه إلا أن يتطرق إلى طلب البرهان بطلب وهذا الطلب هو الاستدلال ولو شاء أن لا يستدل لقدر على ذلك فهذا الطلب وحده هو الاكتساب فقط وأما ما كان مدركاً بأول العقل وبالحواس فليس عليه استدلال اًلاً بل من قبل هذه الجهات يبتدي كل أحد بالاستدلال وبالرد إلى ذلك فيصح استدلاله أو يبطل وحد العلم بالشيء وهو المعرفة به أن نقول العلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد وهو اعتقاد الشيء على ما هو عليه وتيقنه به وارتفاع الشكوك عنه ويكون ذلك إما بشهادة الحواس وأول العقل وأما ببرهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس أو أول العقل وإما بإنفاق وقع له في مصادفة اعتقاد الحق خاصة بتصديق ما افترض الله عز وجل عليه اتباعه خاصة دون استدلال وأما علم الله تعالى فليس محدوداً أصلاً ولا يجمعه مع علم الخلق حد فلا حس ولا شيء أصلاً وذهبت الأشعرية إلى أن علم الله تعالى واقع مع علمنا تحت حد واحد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ فاحش إذ من الباطل أن يقع ما لم تزل النهايات وعلم الله تعالى ليس هو غير الله تعالى على ما بيننا قبل وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قال ت طوائف منهم الأشعرية وغيرهم من اتفق له اعتقاد شيء على ما هو به عن غير دليل لكن بتقليد أو تميل بإرادته فليس عالماً به ولا عارفاً به ولكنه معتقد له و قال وا كل علم ومعرفة اعتقاد وليس كل اعتقاد علماً ولا معرفة لأن العلم والمعرفة بالشيء إنما يعبر بهما عن تيقن صحته قال وا وتيقن الصحة لا يكون إلا ببرهان قال وا وما كان بخلاف ذلك فإنما هو ظن ودعوى لا تيقن بها إذ لو جاز أن يصدق قول بلا دليل لما كان قول أولى من قول ولكانت الأقوال كلها صحيحة على تضادها ولو كان ذلك لبطلت الأقوال ولبطلت الحقائق كلها لأن كل قول يبطل كل قول سواه فلو صحت الأقوال كلها لبطلت كلها لأنه لو كان يكون كل قول صادقاً في إبطاله ما عداه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فنقول وبالله تعالى التوفيق إن التسمية والحكم ليس إلينا وإنما هما إلى خالق اللغات وخالق الناطقين بها وخالق الأشياء ومرتبها كما شاء لا إله إلا هو قال عز وجل منكراً على من سمى من قبل نفسه ‏"‏ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ‏"‏ و قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم فنهي الله عز وجل كل أحد عن أن يقول ما ليس له به علم ووجدناه عز وجل يقول في غير موضع من القرآن ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فأخوانكم في الدين ‏"‏ فخاطب الله تعالى بهذه النصوص وبغيرها وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مؤمن في العالم إلى يوم القيامة وبيقين ندري أنه قد كان في المؤمنين على عهده عليه السلام ثم من بعده عصراً عصراً إلى يوم القيامة المستدل وهم الأقل وغير المستدل كمن أسلم من الزنج ومن الروم والفرس والآماء وضعفة النساء والرعاة ومن نشأ على الإسلام بتعليم أبيه أو سيده إياه وهم الأكثر والجمهور فسماهم عز وجل مؤمنين وحكم لهم بحكم الإسلام وهذا كله معروف بالمشاهدة والضرورة و قال تعالى ‏"‏ آمنوا بالله ورسوله ‏"‏ و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به فصح يقيناً أنهم كلهم مأمورون بالقول بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأن كل من صد عنه فهو كافر حلال دمه وماله فلو لم يؤمن بالقول بالإيمان إلا من عرفه من طريق الاستدلال لكان كل من لم يستدل ممن ذكرنا منهياً عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وعن القول بتصديقه لأنه عند هؤلاء القوم ليسوا عالمين بذلك وهذا خلاف القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتماع الأمة المتيقن أما القرآن والسنة فقد ذكرناهما وأما إجماع الأمة فمن الباطل المتيقن أن يكون الاستدلال فرضاً لا يصح أن يكون أحد مسلماً إلا به ثم يغفل الله عز وجل أن يقول لا تقبلوا من أحد أنه مسلم حتى يستدل أتراه نسي تعالى ذلك أو تعمد عز وجل ترك ذكر ذلك إضلالاً لعباده وبترك ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم إما عمداً أو قصداً إلى الضلال والإضلال أو نسياناً لما اهتدى له هؤلاء ونبهوا إليه وهم من هم بلادة وجهلاً وسقوطاً هذا لا يظنه إلا كافر ولا يحققه إلا مشرك فما قال قط رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قرية أو حلة أو حي ولا لراع ولا لراعية ولا للزنج ولا للنساء لا أقبل إسلامكم حتى أعلم المستدل من غيره فإذا لم يقل عليه السلام ذلك فالقول به واعتقاده افك وضلال وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقبوله من كل أحد دون ذكر استدلال ثم هكذا جيلاً فجيلاً حتى حدث من لا قدر له فإن قال وا قد قال الله عز وجل ‏"‏ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ‏"‏ قلنا نعم وهذا حق وإنما قال ه الله عز وجل لمن خالف الحق الذي أمر عز وجل الجن والأنس باتباعه وهكذا القول إن كل من قال قولاً خالف فيه ما أمر الله عز وجل باتباعه فسواء استدل بزعمه أو لم يستدل هذا مبطل غير معذور إلا من عذره الله عز وجل فيما عذره فيه كالمجتهدين من المسلمين يخطأ قاصداً إلى الحق فقط ما لم يقم عليه الحجة فيعاند وأما من اتبع الحق فما كلفه الله عز وجل قط برهاناً والبرهان قد ثبت بصحة كل ما أمر الله تعالى به فسواء علمه فتبع الرسول صلى الله عليه وسلم بعلمه حسبه أنه عالم بالحق معتقد له موقن به وإن جهل برهانه الذي قد علمه غيره وهذا خلق الله عز وجل الإيمان والعلم في نفسه كما خلقه في نفس المستدل ولا فرق قال تعالى ‏"‏ إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ‏"‏ فسماهم داخلين في دينه وإن كانوا أفواجاً وما شرط الله عز وجل قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك باستدلال بل هذا شرط من شرط ذلك ممن قذفه إبليس في قلبه وعلى لسانه ليخرجه إلى تكفير الأمة ولا عجب أعجب من اطباق هذه الطائفة الضالة المخذولة على أنه لا يصح لأحد إيمان حتى يستدل على ذلك ولا يصح لأحد استدلال حتى يكون شاكا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم غير مصدق بها فإذا كان ذلك صح له الاستدلال وإلا فليس مؤمناً فهل سمع أحمق أو أدخل في الحمق والكفر من قول من قال لا يؤمن أحد حتى يكفر بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم وإن من آمن بهما ولم يكفر بهما قط فهو كافر مشرك نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال بهذا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذان طريقان لا ثالث لهما كل طريق منها تنقسم قسمين أحدهما من اتبع الذي أمره الله عز وجل باتباعه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مؤمن عالم حقاً سواء استدل أو لم يستدل لأنه فعل ما أمره الله تعالى به ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما من لم يتبع قط غيره عليه الصلاة والسلام ووافق الحق بتوفيق الله عز وجل فهذا له في كل عقد اعتقده أجران وأما أن يكون حرم موافقه الحق وهو مريد في أمره ذلك اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا معذور مأجور أجراً واحداً ما لم تقم عليه الحجة فيعاندها وهذا نص قوله عليه السلام في الحاكم المجتهد المصيب والمخطي والطريق الثاني من اتبع غير الذي أمره الله باتباعه فهذا سواء استدل أو لم يستدل هو مخطي ظالم عاص لله تعالى وكافر على حسب ما جاءت به الديانة في أمره ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما أصاب ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غير قاصد إلى اتباعه عليه الصلاة والسلام فيه والآخر لم يصبه فكلاهما لا خير فيه وكلاهما آثم غير مأجور وكلاهما عاص لله عز وجل أو كافر على حاسب ما جاءت به الديانة من أمره لأنهما جميعاً تعديا حدود الله عز وجل فيما أمرهم به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال تعالى ‏"‏ ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ‏"‏ ولا ينتفع بإصابته الحق إذ لم يصبه من الطريق التي لم يجعل الله طلب الحق وأخذه إلا من قبلها وقد علمنا أن اليهود والنصارى يوافقون الحق في كثير كإقرارهم بنبوة موسى عليه السلام وكتوحيد بعضهم لله تعالى فما انتفعوا بذلك إذ لم يعتقدوه اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك من قلد فقيهاً فاضلاً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عقده أنه لا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إن وافق قوله قول ذلك الفقيه فهذا فاسق بلا شك إن فعله غير معتقد له وهو كافر بلا شك إن اعتقده بقلبه أو نطق به بلسان لمخالفته قول الله تعالى ‏"‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏"‏ فنفي الله عز وجل عن أهل هذه الصفة الإيمان وأقسم على ذلك ونحن ننفي ما نفي الله عز وجل عمن نفاه عنه ونقسم على ذلك ونوقن أننا على الحق في ذلك وأما من قلد فقيهاً فاضلاً و قال إنما اتبعه لأنه اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مخطي لأنه فعل من ذلك ما لم يأمره الله تعالى به ولا يكفر لأنه قاصد إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطي للطريق في ذلك ولعله مأجور بنيته أجراً واحداً ما لم تقع الحجة عليه بخطاء فعله فإن ذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث فتنة القبر وأما المنافق أو المرتاب فإنه ي قال له ما قولك في هذا الرجل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا حق على ظاهره كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقول هذا إلا المنافق أو المرتاب لا المؤمن الموقن بل المؤمن الموقن ذكر في هذا الحديث أنه يقول هو عبد الله ورسوله أتانا بالهدى والنور أو كلاماً هذا معناه فإنما أخبر عليه السلام عن موقن ومرتاب لا عن مستدل وغير مستدل وكذلك نقول أن من قال في نفسه أو بلسانه لولا أني نشأت بين المسلمين لم أكن مسلماً وإنما اتبعت من نشأت بينهم فهذا ليس مؤمناً ولا موقناً ولا متبعاً لمن أمره الله تعالى باتباعه بل هو كافر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإذا كان قد يستدل دهره كله من لا يوفقه الله تعالى للحق وقد يوفق من لا يستدل يقيناً لو علم أن أباه أو أمه أو ابنه أو امرأته أو أهل الأرض يخالفونه فيه لاستحل دماءهم كلهم ولو خير بين أن يلقي في النار وبين أن يفارق الإسلام لاختار أن يحرق بالنار على أن يقول مثل هذا قلنا فإذ هو موجود فقد صح أن الاستدلال لا معنى له وإنما المدار على اليقين والعقد فقط وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإنما يضطر إلى الاستدلال من نازعته نفسه غليه ولم يسكن قلبه إلى اعتقاد ما لم يعرف برهانه فهذا يلزمه طلب البرهان حينئذ ليقي نفسه ناراً وقودها الناس والحجارة فإن مات شاكا قبل أن يصح عنده البرهان مات كافراً مخلداً في النار أبداً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نرجع إلى ما كنا فيه هل المعارف باضطرار أم باكتساب فنقول وبالله تعالى التوفيق أن المعلوات قسم واحد وهو ما عقد عليه المرء قلبه وتيقنه ثم هذا ينقسم قسمين أحدهما حق في ذاته قد قام البرهان على صحته والثاني لم يقم على صحته برهان وأما ما لم يتيقن المرء صحته في ذاته فليس عالماً به ولا له به علم وإنما هو ظان له وأما كل ما علمه المرء ببرهان صحيح فهو مضطر إلى علمه به لأنه لا مجال للشك فيه عنده وهذه صفة الضرورة وأما الاختيار فهو الذي إن شاء المرء فعله وإن شاء تركه‏.‏

قال أبو محمد فعلمنا بحدوث العالم وأن له بكل ما فيه خالقاً واحداً لم يزل لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء والعلم بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة كل ما أتى به مما نقله إلينا الصحابة كلهم رضي الله عنهم ونقله عنهم الكواف كافة بعد كافة حتى بلغ إلينا أو نقله المتفق على عدالته عن مثله وهكذا حتى بلغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كله علم حق متيقن مقطوع على صحته عند الله تعالى لأن الأخذ بالظن في شيء من الدين لا يحل قال الله تعالى ‏"‏ إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ‏"‏ و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث و قال تعالى ‏"‏ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ‏"‏ فصح أن الدين محفوظ لما ضمن الله عز وجل حفظه فنحن على يقين أنه لا يجوز أن يكون فيه شك وقد أمر الله تعالى بقبول خبر الواحد العدل ومن المحال أن يأمر الله عز وجل بأن نقول عليه ما لم يقل وهو قد حرم ذلك أو أن نقول عليه ما لا نعلم أنه تعالى قد حرم ذلك بقوله ‏"‏ وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون ‏"‏ فكل ما أمرنا الله عز وجل بالقول به فنحن على يقين من أنه من الدين وأن الله تعالى قد حماه من كل دخل وكذلك أخذنا بالزايد من الاثنين المتعارضين ومن الخبرين الثابتين المتعارضين وقد علمنا صحة أن الحق في فعلنا ذلك علم ضرورة متيقن ولا أعجب ممن يقول أن خبر الواحد لا يوجب العلم وإنما هو غالب ظن ثم نقطع به ونقول أنه قد دخلت في الدين دواخل لا تميز من الحق وأنه لا سبيل إلى تمييز ما أمر الله تعالى به في الدين مما شرعه الكذابون هذا أمر نعوذ بالله منه ومن الرضاء به‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما ما اجتمعت عليه الجماعات العظيمة من أرايهم مما لم يأت به نص عن الله عز وجل ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل عند الله بيقين لأنه شرع في الدين ما لم يأذن به الله عز وجل و قال على الله تعالى ما لم يقله وبرهان ذلك أنه قد يعارض ذلك قول آخر قال ته جماعات مثل هذه والحق لا يتعارض والبرهان لا يناقضه برهان آخر وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم الأحكام في أصول فأغني عن ترداده والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فكل من كان من أهل الملل المخالفة فبلغته معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وقامت عليه البراهين في التوحيد فهو مضطر إلى الإقرار بالله تعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من قام على شيء ما أي شيء كان عنده برهان ضروري صحيح وفهمه فهو مضطر إلى التصديق به سواء كانت من الملل أو من النحل أو من غير ذلك وإنما أنكر الحق في ذلك أحد ثلاثة إما غافل معرض عما صح عنده من ذلك مشتغل عنه بطلب معاشه أو بالتزيد من مال أو جاه أو صوت أو لذة أو عمل يظنه صلاحاً أو إيثاراً للشغل بما يتبين له من ذلك عجزاً وضعف عقل وقلة تمييز لفضل الإقرار بالحق أو مسوف نفسه بالنظر كحال كل طبقة من الطبقات الذين نشاهدهم في كل مكان وكل زمان وأما مقلد لأسلافه أو لمن نشأ بينهم قد شغله حسن الظن بمن قلد أو استحسانه لما قلد فيه وغمر الهوى عقله عن التفكير فيما فهم من البرهان قد حال ما ذكرناه بينه وبين الرجوع إلى الحق وصرف الهوى وناظر قلبه عن التفكير فيما يتبين له من البرهان ونفر عنه وأوحشه منه فهو إذا سمع برهاناً ظاهراً لا مدفع فيه عنده ظنه من الشيطان وغالب نفسه حتى يعرض عنه و قال ت له نفسه لا بد أن هاهنا برهاناً يبطل به هذا البرهان الذي أسمع وإن كنت أنا لا أدريه وهل خفي هذا على جميع أهل ملتي وأهل نحلتي أو مذهبي أو على فلان وفلان وفلان ولا بد أنه قد كان عندهم ما يبطلون به هذا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا عام في أكثر من يظن أنه عالم في كل ملة وكل نحلة وكل مذعب وليس واحد من هاتين الطائفتين إلا والحجة قد لزمته وبهرته ولكنه غلب وساوس نفسه وحماقاتها على الحقايق اللايحة له ونصر ظنه الفاسد على يقين قلبه الثابت وتلاعب الشيطان به وسخر منه فأوهمه لشهوته لما هو فيه أن هاهنا دليلاً يبطل به هذا البرهان وأنه لو كان فلان حياً أو حاضراً لأبطل هذا البرهان وهذا أعظم ما يكون من السخافة لما لا يدري ولا سمع به وتكذيب لما صح عنده وظهر إليه ونعوذ بالله من الخذلان والثالث منكر بلسانه ما قد تيقن صحته بقلبه إما استدامة لرياسة أو استدرار مكسب أو طمعاً في أحدهما لعله يتم له أو لا يتم ولو تم له لكان خاسر الصفقة في ذلك أو أثر غروراً ذاهباً عن قريب على فوزاً لا بد أو يفعل ذلك خوف أذى أو عصبية لمن خالف ما قد قام البرهان عنده أو عداوة لقايل ذلك القول الذي قام به عنده البرهان وهذا كله موجود في جمهور الناس من أهل كل ملة وكل نحلة وأهل قال أبو محمد‏:‏ وي قال لمن قال ممن ينتمي إلى الإسلام أن المعارف ليست باضطرار وإن الكفار ليسوا مضطرين إلى معرفة الحق في الربوبية والنبوة وأخبرونا عن معجزات الأنبياء عليهم السالم هل رفعت الشك جملة عن كل من شاهدها وحسمت عللها وفصلت بين الحق والباطل فصلاً تاماً أم لا فإن قال وا نعم أقروا بأن كل من شاهدها مضطر إلى المعرفة بأنها من عند الله تعالى حق شاهد بصدق من أتى بها ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا ولله الحمد وأن قال وا لا بل الشك باق فيها ويمكن أن تكون غير شاهدة بأنهم محقون قطع بأن الأنبياء عليهم السلام لم يأتوا ببرهان وإن الشك باق في أمرهم وأن حجة الله تعالى لم تقع على الكفار ولا لزمهم قط له تعالى حجة وأن الأنبياء عليهم السلام إنما أتوا بشيء ربما قام في الظن أنه حق وربما لم يقم وهذا كفر مجرد من دان به أو قال ه وهكذا نسألهم في البراهين العقلية على آيات التوحيد وفي اكواف الناقلة أعلام الأنبياء عليهم السلام حتى يقروا بالحق بأن حجج الله تعالى بكل ما ظهرت وبهرت واضطرت الكفار كلهم إلى تصديقها والمعرفة بأنها حق أو يقولوا أنه لم تم لله حجة على أحد ولا تبين قط لأحد تعين صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما نحن في الإقرار بذلك على ظن إلا أنه من الظنون قوي وقد يمكن أن يكون بخلاف ذلك ومن قال بهذا فهو كفر مجرد محض شرك لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن أنكر أن يكون الكفار وكل مبطل مضطرين إلى تصديق كل ما قام به برهان بعد بلوغه إليهم و قال أن ما اضطر المرء إلى معرفته فلا سبيل له إلى إنكاره أريناه كذب قوله في تكوين الأرض والأفلاك ومدار الشمس والقمر والنجوم وتناهي مسافة كل ذلك وأكثر الناس على إنكار هذا ودفعه الحق في ذلك وكذلك من دان بالقياس والرأي أو دليل الخطاب وسمع البراهين في إبطالها فهو مضطر إلى معرفة بطلان ما هو عليه مكابر لعقله في ذلك مغالط لنفسه مغالب ليقينه مغلب لظنونه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وعلم الملائكة عليهم السلام وعلم النبيين عليهم السلام بصحة ما جاءتهم به الملائكة وأوحي إليهم به وأروه في منامهم علم ضروري كساير ما أدركوه بحواسهم وأوايل عقولهم وكعلمهم بأن أربعة أكثر من اثنين وأنا النار حارة والبقل أخضر وصوت الرعد وحلاوة العسل ونتن الحلتيت وخشونة القنفذ وغير ذلك ولو لم يكن الأمر كذلك لكان عند الملائكة والنبيين شكاً في أمرهم وهذا كفر ممن أجازه إلا أن الملائكة لا علم لهم بشيء إلا هكذا ولا ظن لهم أصلاً لأنهم لا يخطئون ولا ركبوا من طبايع متخالفة كما ركب الإنسان فإن قال قائل فإذ العلم كله باضطرار فعل الله تعالى في النفوس فكيف يوجر الإنسان أو يعذب على فعل الله تعالى فيه قلنا نعم لا شيء في العالم إلا خلق الله تعالى وقد صحح البرهان بذلك على ما أوردنا في كلامنا في خلق الأفعال في ديواننا والحمد لله رب العالمين وما نقل حافظ نصاً ولا برهان عقل بالمنع من أن يعذبنا الله تعالى ويؤجرنا على ما خلق فينا والله تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهو يسألون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكيف ينكر أهل الغفلة أن يكون قوم يخالفون ما هم إلى المعرفة به مضطرون وهم يشاهدون السوفسطائية الذين يبطلون الحقائق جملة وكما يعتقد النصارى وهم أمم لا يحصي عددهم إلا خالقهم ورازقهم ومضلهم لا إله إلا هو وفيهم علماء بعلوم كثيرة وملوك لهم التدابير الصائبة والسياسات المعجبة والآراء المحكمة والفطنة في دقائق الأمور وبرص بغوامضها وهم مع ذلك يقولون أن واحداً ثلاثة وثلاثة واحد وأن أحد الثلاثة أب والثاني ابن والثالث روح وأن الأب هو الابن وليس هو الابن والإنسان هو الإله وهو غير إله وإن المسيح إله تام وإنسان تام وهو غيره وإن الأول الذي لم يزل هو الحدث الذي لم يكن ولا هو هو‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وليس في الجنون أكثر من هذا واليعقوبية منهم وهم مئين ألوف يعتقدون أن الباري تعالى عن كفرهم ضرب بالسياط واللطام وصلب ونحر ومات وسقى الحنظل وبقي العالم ثلاثة أيام بلا مدبر وكأصحاب الحلول وغالية الرافضة الذين يعتقدون في رجل جالس معهم كالحلاج وابن أبي العز أنه الله والإله عندهم قد يبول ويسلح ويجوع فيأكل ويعطش فيشرب ويمرض فيسوقون إليه الطبيب ويقلع ضرسه إذا ضرب عليه ويتضرر إذا أصابه دمل ويجامع ويحتجم ويفتصد وهو الله الذي لم يزال ولا يزال خالق هذا العالم كله ورازقه ومحصيه ومدبره ومدبر الأفلاك المميت المحيي العالم بما في الصدور ويصبرون في جنب هذا الاعتقاد على السجود والمطابق وضرب السياط وقطع الأيدي والأرجل والقتل والصلب وهتك الحريم وفيهم قضاة وكتاب وتجاورهم اليوم ألوف وكما يدعي طوائف اليهود وطوائف من المسلمين أن ربهم تعالى جسد في صورة الإنسان لحم ودم يمشي ويقعد كالأشعرية الذين يقولون أن هاهنا أحوالاً لا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معلومة ولا مجهولة ولا حق ولا باطل وأن النار ليست حارة والثالج ليس بارداً وكما يقول بعض الفقهاء وأتباعه أن رجلاً واحداً يكون ابن رجلين وابن امرأتين كل واحد منهما أمه وهو ابنها بالولادة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أترى كل من ذكرنا لا تشهد نفسه وحسه ولا يقر عقله بأن كل هذا باطل بلى والذي خلقهم ولكن العوارض التي ذكرنا قبل سهلت عليهم هذا الاختلاط وكرهت عليهم الرجوع إلى الحق والإذعان له‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما العناد فقد شاهدناه من كل رأيناه في المناظرة في الدين وفي المعاملات في الدنيا أكثر من أن يحصي ممن يعلم الحق يقيناً ويكابر على خلافه ونعوذ بالله من الخذلان ونسأله قال أبو محمد‏:‏ لا يدرك الحق من طريق البرهان إلا من صفى عقله ونفسه من الشواغل التي قدمنا ونظر من الأقوال كلها نظراً واحداً واستوت عنده جميع الأقوال ثم نظر فيها طالباً لما شهدت البراهين الراجعة رجوعاً صحيحاً غير مموه ضرورياً إلى مقدمات مأخوذة من أوايل العقل والحواس غير مسامح في شيء من ذلك فهذا مضمون له بعون الله عز وجل الوقوف على الحقائق والخلاص من ظلمة الجهل وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأما ما نقله اثنان فصاعداً نوقن أنهما لم يجتمعا ولا تساررا فأخبرا بخبر واحد راجع إلى ما أدركه بالحواس من أي شيء كان فهو حق بلا شك مقطوع على حيته والنفس مضطرة إلى تصديقه وهذا قول أحد الكافة وأولها إذ لا يمكن البتة اتفاق اثنين في توليد حديث واحد لا يختلفان فيه عن غير تواطؤ وأما إذا تواطأت الجماعة العظيمة فقد تجتمع على الكذب وقد شاهدنا جماعات يشكرون ولاتهم وهم كاذبون إلا أن هذا لا يمكن أن يتفقوا على ظنه أبداً ومن أنكر ما تنقله الكافة لزمه أن لا يصدق أنه كان في الدنيا أحد قبله لأنه لا يعرف كون الناس إلا بالخبر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد يضطر خبر الواحد في بعض الأوقات إلى التصديق يعرف ذلك من تدبر أمور نفسه كمتذر بموت إنسان لدفنه وكرسالة من عند السلطان يأتي بها بريد وككتاب وارد من صديق بديهة وكمخبر يخبرك أن هذا دار فلان وكمنذر بعرس عند فلان وكرسول من عند القاضي والحاكم وسائر ذلك من أخبار بأن هذا فلان بن فلان ومثل هذا كثير جداً وهذا لا ينضبط بأكثر مما يسمع ومن راعى هذا المعنى لم يمض له يوم واحد قطعاً حتى يشاهد في منزله وخارج منزله من خبر واحد ما يضطر إلى تصديقه ولا بد كثيراً جداً وأما في الشريعة فخبر الواحد الثقة موجب للعلم وبرهان شرعي قد ذكرناه في كتابنا الأحكام لأصول الأحكام وقد ادعى المخالفون أن ما اتفقت عليه أمتنا بآرائها فهي معصومة بخلاف سائر الأمم ولا برهان على هذا و قال النظام أن خبر التواتر لا يضطر لأن كل واحد منهم يجوز عليه الغلط والكذب وكذلك يجوز على جميعهم ومن المحال أن يجتمع ممن يجوز عليه الكذب وممن يجوز عليه الكذب من لا يجوز عليه الكذب ونظر ذلك بأعمى وأعمى وأعمي فلا يجوز أن يجتمع مبصرون‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا تنظير فاسد لأن الأعمى ليس فيه شيء من صحة البصر وليس كذلك المخبرون لأن كل واحد منهم كما يجوز عليه الكذب كذلك يجوز عليه الصدق ويقع منه وقد علم بضرورة العقل أن اثنين فصاعداً إذا فرق بينهما لم يمكن البتة منهما أن يتفقا على توليد خبر كاذب يتفقان في لفظه ومعناه فصح أنهما إذا أخبرا بخبر فاتفقا فيه أنهما أخبرا عن علم صحيح موجود عندهما ومن أنكر هذا لزمه أن لا يصدق بشيء من البلاد الغائبة عنه ولا بالملوك السالفين ولا بالأنبياء وهذا خروج إلى الجنون بلا شك أو إلى المكابرة في الحس وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل كيف أجزتم ههنا إطلاق اسم الضرورة والاضطرار ومنعتم من ذلك في أفعال االفاعلين عند ذكركم الاستطاعة وخلق الله تعالى أفعال العباد وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في عباده قلنا أن الفرق بين الأمرين في ذلك لائح وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله لو اختار تركه وممكن منه ذلك وليس ممكناً منه اعتقاد خلاف ما تيقنه بأن يرفع عن نفسه تحقيق ما عرف أنه حق فهكذا أوقعناها هنا اسم الاضطرار ومنعنا منه هنالك وبالله تعالى نتأيد‏.‏

 الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة

قال أبو محمد‏:‏ ذهب قوم إلى القول بتكافؤ الأدلة ومعنى هذا أنه لا يمكن نصر مذهب على مذهب ولا تغليب م قال ة على م قال ة حتى يلوح الحق من الباطل ظاهراً بيناً لا إشكال فيه بل دلائل كل م قال ة فهي مكافئة لدلائل سائر الم قال ات و قال وا كلما ثبت بالجدل فإنه بالجدل ينقض وانقسم هؤلاء إلى أقسام ثلاثة فيما أنتجه لهم هذا الأصل فطائفة قال ت بتكافؤ الأدلة جملة في كل ما اختلف فيه فلم تحقق الباري تعالى ولا أبطلته ولا أثبتت النبوة ولا أبطلتها وهكذا في جميع الأديان والأهواء لم تثبت شيئاً من ذلك ولا أبطلته إلا أنهم قال وا إننا نوقن أن قال أبو محمد‏:‏ وكان إسماعيل بن يونس الأعور الطبيب اليهودي تدل أقواله ومناظراته دلالة صحيحة على أنه كان يذهب إلى القول لاجتهاده في نصر هذه الم قال ة وإن كان غير مصرح بأنه يعتقدها و قال ت طائفة أخرى بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري تعالى فأثبتت الخالق تعالى وقطعت بأنه حق لكل ما دونه بيقين لا شك فيه ثم لم تحقق النبوة ولا أبطلتها ولا حققت دين ملة ولا أبطلته لكن قال ت أن هذه الأقوال قولاً صحيحاً بلا شك إلا أنه غير ظاهر إلى أحد ولا بين ولا كلفه الله تعالى أحداً وكان إسماعيل بن القراد الطبيب اليهودي يذهب إلى هذا القول يقيناً وقد ناظرنا عليه مصرحاً به وكان يقول إذا دعوناه إلى الإسلام وحسمنا شكوكه ونقضنا علله الانت قال في الملل تلاعب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد ذكر لنا عن قوم من أهل النظر والرياسة في العلم هذا القول إلا أننا لم يثبت ذلك عندنا عنهم وطائفة قال ت بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري عز وجل ودون النبوة فقطعت أن الله عز وجل حق وأنه خالق وأن النبوة حق وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ثم لم يغلب قولاً من أقوال أهل القبلة على قول بل قال وا أن فيها قولاً هو الحق بلا شك إلا أنه غير بين إلى أحد ولا ظاهر وأما الأقوال التي صاروا إليها فيما يثبتوا عليها منها فطائفة لزمت الحيرة و قال ت لا ندري ما نعتقد ولا يمكننا أخذ م قال ة لم يصح عندنا دون غيرها فنكون مغالطين لأنفسنا مكابرين لعقولنا لكنا لا ننكر شيئاً من ذلك ولا نثبته وجمهور هذه الطائفة مالت إلى اللذات وأمراح النفوس في الشهوات كيف ما مالت إليه بطبايعها وطايفة قال ت على المرء فرض لموجب العقل ألا يكون سداً بل يلزمه ولا بد أن يكون له دين يرد جربه عن الظلم والقبائح و قال وا من لا دين له فهو غير مأمور في هذا العالم على الإساد وقتل النفوس غيلة وجهراً وأخذ الأموال خيانة وعصياً والتعدي على الفروج تحيلاً وعلانية وفي هذا هلاك العالم بأسره وفساد البنية وانحلال النظام وبطلان العلوم والفضايل كلها التي تقتضي العلوم بلزومها وهذا هو الفساد الذي توجب العقول التحرز منه واجتنابه قال وا فمن لا يدن له فواجب على كل من قدر على قتله أن يسارع إلى قتله وإراحة العالم منهوتعجيل استكفاف ضره لأنه كالأفعى والعقرب أو أضر منهما ثم انقسم هؤلاء قسمين فطايفة قال ت فإذ الأمر كذلك فوجب على الإنسان لزوم الدين الذي نشأ عليه أو ولد عليه لأنه هو الدين الذي تخيره الله له في مبدأ خلقه ومبدأ نشئته بيقين وهو الذي أثبته الله عليه فلا يحل له الخروج عما رتبه الله تعالى فيه وابتداه عليه أي دين كان وهذا كان قول إسماعيل بن القداد وكان يقول من خرج من دين إلى دين فهو وقاح متلاعب بالأديان عاص لله عز وجل المتعبد له بذلك الدين وكان يقول بالمسألة الكلية ومعنى ذلك ألا يبقى أحد دون دين يعتقده على ما ذكرنا آنفاً و قال ت طائفة لا عذر للمرء في لزوم دين أبيه وجده أو سيده وجاره ولا حجة له فيه لكن الواجب على كل أحد أن يلزم ما اجتمعت الديانات بأسرها والعقول بكليتها على صحته وتفضيله فلا يقتل أحداً ولا يزني ولا يلوط ولا يبغ ولا يسع في إفساد حرمة أحد ولا يسرق ولا يغصب ولا يظلم ولا يجر ولا يجن ولا يغش ولا يغتب ولا ينم ولا يسفه ولا يضرب أحداً ولا يستطيل عليه ولكن يرحم الناس ويتصدق ويؤدي الأمانة ويؤمن الناس شره ويعين المظلوم ويمنع منه فهذا هو الحق بلا شك لأنه المتفق عليه من الديانات كلها ويتوقف عما اختلفوا فيه ليس علينا غير هذا لأنه لم يلح لنا الحق في شيء منه دون غيره‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذه أصولهم ومعاقدهم وأما احتجاجهم في ذلك فهو أنهم قال وا وجدنا الديانات والآراء والم قال ات كل طائفة تدعي أنها إنما اعتقدت ما اعتقدته عن الأوايل وبراهين باهرة وكل طائفة منها تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة نظر المناظر وقدرته على البيان والتحلل والتشعب لهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالاً بينهم قال وا فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلية ولو كان لما أشكل على أحد ولم يختلف الناس في ذلك كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لايح قال وا ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعاندوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قال وا فلما بطل هذا صح أن كل طائفة إنما تتبع إماماً نشأت عليه وإماماً يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبيت ولا يقين قال وا وهذا مشاهد من أهل كل ملة وإن كان فيها ما لا شك في سخافته وبطلانه و قال وا أيضاً إنا نرى الجماعة الكثيرة قد طلبوا علم الفلسفة وتبحروا فيها ووسموا أنفسهم بالوقوف على الحقائق وبالخروج عن جملة العامة وبأنهم قد اشرفوا على الصحيح بالبراهين وميزوه من الشغب والإقناع ونجد آخرين قد تمهروا في علم الكلام وأفنوا فيه دهرهم ورسخوا فيه وفخروا بأنهم قد وقفوا على الدلايل الصحاح وميزوها من الفاسدة وأنهم قد لاح لهم الفرق بين الحق والباطق بالحجج والإنصاف ثم نجدهم كلهم يعني جميع هاتين الطائفتين فلسفيهم وكلاميهم في أديانهم التي يقرون أنها نجاتهم أو هلكتهم مختلفين كاختلاف العامة وأهل الجهل بل أشد اختلافاً فمن يهودي يموت على يهدويته ونصراني يتهالك على نصرانيته وتثليثه ومجوسي يستميت على مجوسيته ومسلم يستقتل في إسلامه ومناني يستهلك في مانونيته ودهري ينقطع في دهريته قد استوى العامى المقلد من كل طائفة في ذلك مع المتلكم الماهر المستدل بزعمه ثم نجد أهل هذه الأديان في فرقهم أيضاً كذلك سواء سواء فإن كان يهودياً فاما رباني يتقد غيظاً على سائر فرق دينه وأما صابئي يلعن سائر فرق دينه وأما عيسوي يسخر من سائر فرق دينه وأما سامري يبرأ من سائر فرق دينه وإن كان نصرانياً فإما ملكي يتهالك غيظاً على سائر فرق دينه وأما نسطوري يقد أسفاً على سائر فرق دينه وأما يعقوبي يسخط على سائر فرق دينه وإن كان مسلماً فإما خارجي يستحل دماء سائر أهل ملته وأما معتزلي يكفر سائر فرق ملته وأما شيعي لا يتولى سائر فرق ملته وأما مرجئي لا يرضى عن سائر فرق ملته وأما سني ينافر فرق ملته قد استوى في ذلك العامي والمقلد الجاهل والمتكلم بزعمه المستدل وكل امرئ من متكلمي الفرق التي ذكرنا يدعي أنه إنما أخذ ما أخذ وترك ما ترك ببرهان واضح ثم هكذا نجدهم حتى في الفتيا إما حنيفي يجادل عن حنيفيته وإما مالكي يقاتل عن مالكيته وإما شافعي يناضل عن شافعيته وإما حنبلي يضارب عن حنبليته وإما ظاهري يحارب عن ظاهريته وإما متحير مستدل فهنالك جاء التحازب حتى لا يتفق اثنان منهم على مائة مسألة إلا في الندرة وكل امرئ ممن ذكرنا يزرى على الآخرين وكلهم يدعي أنه أشرف على الحقيق وهكذا القائلون بالدهر أيضاً متباينون متنابذون مختلفون فيما بينهم فمن موجب أن العالم لم يزل وأن له فاعلاً لم يزل ومن موجب أزلية الفاعل وأشياء أخر معه وأن سائر العالم محدث ومن موجب أزلية الفاعل وحدوث العالم أمبطل للنبوات كلها كما اختلف سائر أهل النحل أو لا فرق قال وا فصح أن جميعهم إما متبع للذي نشأ عليه والنحلة التي تربي عليها وإما متبع لهواه قد تخيل له أنه الحق فهم على ما ذكرنا دون تحقيق قال وا فلو كان للبرهان حقيقة لما اختلفوا فيه هذا الاختلاف ولبان على طول الأيام وكرور الزمان ومرور الدهور وتداول الأجيال له وشدة البحث وكثرة ملاقاة الخصوم ومناظراتهم وإفنائهم الأوقات وتسويدهم القراطيس واستنفاذ وسعهم وجهدهم أين الحق فيرتفع الإشكال بل الأمر واقف بحسبه أو متزيد في الاختلاف وحدوث التجاذب والفرق قال وا وأيضاً فإنا نرى المرء الفهم العالم النبيل المتيقن في علوم الفلسفة والكلام والحجاج المستنفذ لعمره في طلب الحقائق المؤثر للبحث عن البرهان على كل ما سواه من لذة أو مال أو جاه المستفرغ لقوته في ذلك النافر عن التقليد يعتقد م قال ة ما ويناظر عنها ويحاجج دونها ويدافع أمامها ويعادي من خالفها مجداً في ذلك موقناً بصوابه وخطأ من خالفه منافراً له مضللاً أو مكفراً فيبقى كذلك الدهر الطويل والأعوام الجمة ثم أنه تبدو له بادية عنها فيرجع أشد ما كان عداوة لما كان ينصر ولا هل تلك الم قال ة التي كان يدين بصحتها وينصرف يقاتل في إبطالها ويناظر في إفسادها ويعتقد من ضلالها وضلال أهلها الذي كان يعتقد من صحتها ويعجب الآن من نفسه أمس وربما عاد إلى ما كان عليها أو خرج إلى قول ثالث قال وا فدل هذا على فساد الأدلة وعلى تكافؤها جملة وإن كل دليل فهو هادم الآخر كلاهما يهدم صاحبه و قال وا أيضاً لا يخلو من حقق شيئاً من هذه الديانات أو الم قال ات من أن يكون صح له أو لم يصح له ولا سبيل إلى قسم ثالث قال وا فإن كان لم يصح له بأكثر من دعواه أو من تقليده مدعياً فليس هو أولى من غيره بالصواب وإن كان صح له فلا يخو من أن يكون صح بالحواس أو ببعضها أو بضرورة العقل وبديهته أو صح له بدليل ما غير هذين ولا سبيل إلى قسم رابع فإن كان صح له بالحواس أو ببعضها أو بضرورة العقل وبديهته فيجب أن لا يختلف في ذلك أحد كما لم يختلفوا فيما أدرك بالحواس وبديهة العقل من أن ثلثة أكثر من اثنين وأنه لا يكون المرء قاعداً قائماً معاً بالعقل فلم يبق إلا أن يقولوا أنه صح لنا بدليل غير الحواس فنسألهم عن ذلك الدليل بماذا صح عندكم بالدعوى فلستم بأولى من غيركم في دعواه أم بالحواس ويدهة العقل فكيف خولفتم فيه هذا ولا يختلف في مدركاته أحد أم بدليل غير ذلك وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له قال وا وهذا ما لا مخلص لهم منه قال وا ونسألهم أيضاً عن علمهم بصحة ما هم عليه أيعلمون أنهم يعلمون ذلك أم لا فإن قال وا لا نعلم ذلك أحالوا وسقط قولهم وكفونا مؤونتهم لأنهم يقرون أنهم لا يعلمون أنهم يعلمون ما علموا وهذا هوس وإفساد لما يعتقدونه وإن قال وا بل نعلم ذلك سألناهم أبعلم علموا ذلك أم بغير علم وهكذا أبداً وهذا يقتضي أن يكون للعلم علم ولعلم العلم علم إلى ما لا نهاية له وهذا عندهم محال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذا كل ما موهوا به ما نعلم لهم شغباً غير ما ذكرنا ولا لهم متعلق سواه أصلاً قال أبو محمد‏:‏ وكل هذا الذي موهوا به منحل بيقين ومنتقض بأبين برهان بلا كثير كلفة ولم نجد أحداً من المتكلمين السالفين أورد باباً خالصاً في النقض على هذه الم قال ة ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما موهوا به بالبراهين الواضحة وبالله تعالى التوفيق وذلك بعد أن نبين فساد معاقد هذه الطوائف المذكورة إن شاء الله عز وجل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فنقول وبالله تعالى نتأيد أما الطائفة المتحيرة فقد شهدت على أنفسها بالجهل وكفت خصومها مؤنتها في ذلك وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ولا من لم يتبين له الشيء غباراً على من تبين له بل من علم فهو الحجة على من جهل هذا هو الذي لا يشك أحد فيه في جميع العلوم والصناعات وكل معلوم يعلمه قوم ويجهله قوم ولا أحمق ممن يقول لما جهلت أنا أمر كذا ولم أعرفع علمت أن كل أحد جاهل به كجهلي وهذه صفة هؤلاء القوم نفسها ولو ساغ هذا لأحد لبطلت الحقائق وجميع المعارف وجميع الصناعات إذ لكل شيء منها من يجهله من الناس نعم ومن لا يتحجج فيه ولا يفهمه وإن طلبه هذا أمر مشاهد بالحواس فهم قد أقروا بالجهل وندعي نحن العلم بحقيقة ما اعترفوا بجهلهم به فالواجب عليهم أن ينظروا في براهين المدعين للمعرفة بما جهلوه نظراً صحيحاً متقصي بغير هوى فلا بد يقيناً من أن يلوح حقيقة قول المحق وبطلان قول المبطل فتزول عنهم الحيرة والجهل حينئذ فسقطت هذه الم قال ة بيقين والحمد لله رب العالمين‏.‏

وأما من قطع بأن ليس هاهنا مذهب صحيح أصلاً فإن قوله ظاهر الفساد بيقين لا إشكال فيه لأنهم أثبتوا حقيقة وجود العالم بما فيه وحقيقة ما يدرك بالحواس وبأول العقل وبديهته ثم لم يصححوا حدوثه ولا أزليته ولا أبطلوا حدوثه وأزليته معاً ولم يصححوا أن له خالقاً ولا أنه لا خالق له وأبطوا كلا الأمرين وأبطوا النبوة وأبطوا إبطالها فقد خرجوا يقيناً إلى المحال وإلى أقبح قول السوفسطائية وفارقوا بديهة العقل وضرورته التي قد حققوها وصدقوا موجبها إذ لا خلاف بين أحد له مسكة عقل في أن كل ما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن باطلاً فإنه حق وإن اثنين قال أحدهما في قضية واحدة في حكم واحد قال نعم والآخر لا فأحدهما صادق بلا شك والآخر كاذب بلا شك هذا يعلم بضرورة العقل وبديهته وأما قول قائل هذا حق باطل معاً من وجه واحد في وقت واحد وقول من قال لا حق ولا باطل فهو بين باطل معلوم بضرورة العقل وبديهته فواجب بإقرارهم أن من قال أن العالم لم يزل و قال الآخر هو محدث أن أحدهما صادق بلا شك وكذلك من أثبت النبوة ومن نفاها فظهر بيقين وضرورة العقل يقيناً فساد هذه الم قال ة إلا أن يبطلوا الحقائق ويلحقوا بالسوفسطائية فيكلمون حينئذ بما تلك به السوفسطائية مما ذكرناه قبل وبالله تعالى التوفيق وأما من مال إلى اللذات جملة فإنه إن كان من إحدى هاتين الطائفتين فقد بطل عقده وصح يقيناً أنه على ضلال وخطأ وباطل وفساد في أصل معتقده الذي أداه إلى الإنهماك وإذا بطل شيء بيقين فبيقين قد بطل ما تولد منه وإن مال إلى أحد الأقوال الآخر فكلها مبطل للزوم اللذات والإنهماك فصح ضرورة بطلان هذه الطريقة وإن صار إلى تحقيق الدهرية كلم بما تلكم به الدهرية مما قد أوضحناه والحمد لله وأما من قال بإلزام المرء دين سلفه والدين الذي نشأ عليه فخطأ لا خفاء به لأننا نقول لمن قال بوجوب ذلك ولزومه أخبرنا من أوجبه ومن ألزمه فالإيجاب والإلزام يقتضي فاعلاً ضرورة ولا بد منها فمن ألزم ما ذكرتم من أن يلزم المرء دين سلفه أو الدين الذي نشأ عليه الله ألزم ذلك جميع عباده أم غير الله تعالى أوجب ذلك إما إنسان وإما عقل وإما دليل فإن قال بل ما ألزم ذلك إلى من دون الله تعالى قيل له إن من دون الله تعالى معصي مخالف مرفوض لا حق له ولا طاعة إلى من أوجب الله عز وجل له فيلزم طاعته لأن الله أوجبها لا لأنها واجبة بذاتها وليس من أوجب شيئاً دون الله تعالى بأولى من آخر أبطل ما أوجب هذا وأوجب بطلانه وفي هذا كفاية لمن عقل ولا ينقاد للزوم من دون الله تعالى إلا جاهل مغرور كالبهيمة تقاد فتنقاد ولا فرق وإن قال إن العقل ألزم ذلك قيل له أنك تدعي الباطل على العقل إذا دعيت عليه ما ليس في بنيته لأن العقل لا يوجب شيئاً وإنما العقل قوة تميز النفس بها الأشياء على ما هي عليه فقط ويعرف ما صح وجوبه مما أوجبه من تلزم طاعته مما لم يصح وجوبه مما لم يوجبه من يجب طاعته ليس في العقل المراد به المتميز شيء غير هذا أصلاً وأيضاً فإن قائل هذا مجاهر بالباطل لأنه لا يخلو إن يكون يزعم أن العقل أوجب ذلك ببديهته أو ببرهان راجع إلى البديهة من قرب أو من بعد فإن ادعى أن العقل يوجب ذلك ببديهته كابر الحس ولم ينتفع بهذا أيضاً لأنه لا يعجز عن التوقح بمثل هذه الدعوى أحد في أي شيء شاء وإن ادعى أنه أوجب ذلك برهان راجع إلى العقل كلف المجيء به ولا سبيل إليه أبداً فإن قال أن الله عز وجل أوجب ذلك سئل الدليل على صحة هذه الدعوى التي أضافها إلى الباري عز وجل وهذا ما لا سبيل إليه لأن ما عند الله عز وجل من إلزام لا يعرف البتة إلا بوحب من عنده تعالى إلى رسول من خلقه يشهد له تعالى بالمعجزات وأما بما يضعه الله عز وجل في العقول وليس في شيء من هذين دليل على صحة دعوى هذا المدعي وأما احتجاجه بأنه هو الدين الذي اختراه الله عز وجل لكل أحد وأنشأه عليه فلا حجة له في هذا لأننا لم نخالفه في أن هذا درب على هذا الدين وخلقه الله عز وجل مع من دربه عليه بل نقر بهذا كما نقر بأن الله خلقه في مكان ما في صناعة ما وعلى معاش ما وعلى خلق ما وليس في ذلك دليل عند أحد من العالم على أنه لا يجوز له فراق ذلك الخلق إلى ما هو خير منه ولا على أنه لزمه لزوم المكان الذي خلق فيه والصناعة التي نشأ عليها والقوت الذي كبر عليه بل لا يختلف اثنان في أن له مفارقة ذلك المكان وتلك الصناعة وذلك المعاش إلى غيرها وأن فرضاً عليه لزوال عن كل ذلك إذ كان مذموماً إلى المحمود من كل ذلك وأيضاً فإن جميع الأديان التي أوبجها كلها هذا القائل وحقق جميعها فكل دين منها فيه إنكار غيره منها وأهل كل دين منها تكفر سائر أهل تلك الأحيان وكلهم يكذب بعضهم بعضاً وفي كل دين منها تحريم التزام غيره على كل أحد فلو كان كل دين منها لازماً أن يعتقده من نشاء عليه لكان كل دين منها حقاً وإذا كان كل دين منها حقاً منها يبطل سائرها وكل ما أبطله الحق فهو باطل بلا شك فكل دين منها باطل بلا شك فوجب ضرورة على قول هذا القائل أن جميع الأديان باطل وأن جميعها حق فجميعها حق باطل معاً فبطل هذا القول بيقين لا شك فيه والحمد لله رب العالمين وأما من قال أني ألزم فعل الخير الذي اتفقت الديانات والعقول على أنه فضل وأجتنب ما اتفقت الديانات والعقول على أنه قبيح فقول فاسد مموه مضمحل أول ذلك أنه كذب ولا اتفقت الديانات ولا العقول على شيء من ذلك بل جميع الديانات إلا الأقل منها مجموعون على قتل من خالفهم وأخذ أموالهم وكل دين لا نحاشي ديناً قاتل بأحكام هي عند سائرها ظلم وأما المنانية فإنها وإن لم تقل بالقتل فإنها تقول بترك النكاح الذي هو مباح عند سائر الديانات ويقولون بإباحة اللياطة والسحق وسائر الديانات محرمة لذلك فما اتفقت الديانات على شيء أصلاً ولا على التوحيد ولا على إبطاله لكن اتفقت الديانات على تخطئته وتكفيره والبراءة منه إذا لم يعتقد ديناً فبيناه بطلب موافق جميع الديانات حصل على مخالفة جميعها وهكذا فليكن السعي المضلل وكذلك طبائع جميع الناس مؤثرة للذات كارهة لما يتلزمه أهل الشرائع والفلاسفة فبطل تعلقهم بشيء مجمع عليه ولم يحصل إلا على طمع خائب مخالفاً لجميع الديانات غير متعلق بدليل لا عقلي ولا سمعي وقد قلنا أن العقول لا توجب شيئاً ولا تقبحه ولا تحسنه وبرهان ذلك أن جميع أهل العقول إلا يسيراً فإنهم أصحاب شرايع وقد جاءت الشرائع بالقتل وأخذ المال وضرب الإنسان وذبح الحيوان فما قال قط أصحاب العقول أنها جاءت بخلاف ما في العقول ولا ادعى ذلك إلا أقل الناس ومن ليس عقله عياراً على عقل غيره ولو كان ذلك واجباً في العقول لوجده سائر أهل العقول كما قال وا هم سواء سواء فصح أن دعواهم على العقول كاذبة في باب التقبيح والتحسين مجلة وهذا أكسر عام لنفس أقوالهم والحمد لله رب العالمين‏.‏

ثم نذكر إن شاء الله تعالى البراهين على إبطال حججهم الشغبة المموه بها وبالله تعالى نتأيد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أما احتجاجهم بأن قال وا وجدنا أهل الديانات والآراء والم قال ات كل طائفة تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالاً بينهم فصح أنه ليس ههنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ولا اختلف الناس فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوا بحواسهم وبداية عقولهم وكما هم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لائح واللائح الحق على مرور الزمان وكثرة البحث وطول المناظرات قال وا ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس ظاراً فيعادنوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قال وا فلما بطل هذا صح أن كل طائفة تتبع أما ما نشأت عليه وأما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين قال وا وهذا مشاهد من كل ملة ونحلة وأن كان فيها ما لا يشك في بطلانه وسخافته‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هذه جمل نحن نبين كل عقد منها ونوفيها حقاً من البيان بتصحيح أو إفساد بما لا يخفي على أحد صحته وبالله تعالى التوفيق أما قولهم أن كل طائفة من أهل الديانات والآراء يناظر فينتصف وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على قدر قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب والتمويه فقول صحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه على ما ادعوه من تكافؤ الأدلة أصلاً لأن غلبة الوقت ليست حجة ولا يقنع بها عالم مخقق وإن كانت له ولا يلتفت إليها وإن كانت عليه وإنما نحتج بها ويغضب منها أهل المحرفة والجهال وأهل الصياح والتهويل والتشنيع القانعون بأن ي قال غلب فلان فلاناً وأن فلاناً لنظار جدال ولا يبالون بتحقيق حقيقة ولا بإبطال باطل فصح أن تغالب المتناظرين لا معنى له ولا يجب أن يعتد به لا سيما تجادل أهل زماننا الذين أمالهم نوب معدودة لا يتجاوزونها بكلمة وإما أن يغلب الصليب الرأس بكثرة الصياح والتوقح والتشنيع والجعات وأما كثير الهدر قوي على أن يملأ المجلس كلاماً لا يتحصل منه معنى وأما الذي يعتقده أهل التحقيق الطالبون معرفة الأمور على ما هي عليه فهو أن يبحثوا فيما يطلبون معرفته على كل حجة احتج بها أهل فرقة في ذلك الباب فإذا نقضوها ولم يبقوا منها شيئاً تأملوها كلها حجة حجة فميزوا الشغبي منها والأقناعي فأطرحوهما وفتشوا البرهاني على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم بالتقريب في مائية البرهان وتمييزه مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وفي كتابنا هذا وفي كتابنا الموسوم بالأحكام في أصول الأحكام فإن من سلك تلك الطريق التي ذكرنا وميز في المبداء ما يعرف بأول التمييز والحواس ثم ميز ما هو البرهان مما ليس برهاناً ثم لم يقبل إلا ما كان برهاناً راجعاً رجوعاً صحيحاً ضرورياً إلى ما أدرك بالحواس أو ببديهة التمييز وضرورة في كل مطلوب يطلبه فإن سارع الحق يلوح له واضحاً ممتازاً من كل باطل دون إشكال والحمد لله رب العالمين وأما من لم يفعل ما ذكرنا ولم يكن وكده إلا نصر المسألة الحاضرة فقط أو نصر مذهب قد الفه قبل أن يقوده إلى اعتقاده برهان فلم يجعل غرضه إلا طلب أدلة ذلك المذهب فقط فبعيد عن معرفة الحق من الباطل ومثل هؤلاء غروا هؤلاء المخاذيل فظنوا أن كل بحث ونظر مجراهما هذا المجرى الذي عهدوه ممن ذكرنا فضلوا ضلالاً بعيداً وأما قولهم فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ولما اختلف الناس فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل ما عليه برهان لايح فقول أيضاً مموه لأنه كله دعوى فاسدة بلا دليل وقد قلنا قبل في إبطال هذه الأقوال كلها بالبرهان بما فيه كفاية وهذا لا يمكن فيه تفصيل كل برهان على كل مطلوب لكن نقول جملة أن من عرف البرهان وميزه وطلب الحقيقة غير مايل بهوى ولا ألف ولا نفار ولا كسل فمضمون له تمييز الحق وهذا كمن سأل عن البرهان على أشكال أقليدس فإنه لا أشكال في جوابه عن جميعها بقول مجمل لكن ي قال له سل عن شكل شكل تخبر ببرهانه أو كمن سأل ما النحو وأراد أن يوقف على قوانينه جملة فإن هذا لا يمكن بأكثر من أن ي قال له هو بيان حركات وحروف يتوصل باختلافها إلى معرفة مراد المخاطب باللغة العربية ثم لا يمكن توقيفه على حقيقة ذلك ولا إلى إثباته جملة إلا بالأخذ معه في مسألة مسألة وهكذا في هذا المكان الذي نحن فيه لا يمكن أن نبين لك برهانها بحول الله تعالى وقوته ثم نقول لمن قال من هؤلاء أن ههنا قولاً صحيحاً واحداً لا شك فيه أخبرنا من أين عرفت ذلك ولعل الأمر كما يقول من قال أن جميع الأقوال كلها حق فإن قال لا لأنها لو كانت حقاً لكان محالاً ممتنعاً لأن فيها إثبات الشيء وإبطاله معاً ولو كان جميعها باطلاً لكان كذلك أيضاً سواء سواء وهو محال ممتنع لأنه فيه أيضاً إثبات إثبات الشيء وإبطاله معاً ولو كان جميعها باطلاً لكان كذلك أيضاً سواء سواء وهو محال ممتنع لأن فيه أيضاً إثبات الشيء وإبطاله معاً وإذا ثبت إثبات الشيء بطل إبطاله بلا شك وإذا بطل إثباته ثبت إبطاله بلا شك فإذ قد بطل هذان القولان بيقين لم يبق بلا شك إلا أن فيه حقاً بعينه وباطلاً بعينه قلنا له صدقت وإذا الأمر كما قلت فإن هذا العقل الذي عرفت به في تلك الأقوال قولاً صحيحاً بلا شك به تميز ذلك القول الصحيح بعينه مما ليس بصحيح لأن الصحيح من الأقوال يشهد له العقل والحواس ببراهين ترده إلى العقل وإلى الحواس رداً صحيحاً وأما الباطل فينقطع ويقف قبل أن يبلغ إلى العقل وإلى الحواس وهذا بين والحمد لله رب العالمين‏.‏

وأما من أبطل أن يكون في الأقوال كلها قول صحيح فقد أخبرنا أنه مبطل للحقائق كلها متناقض لأنه يبطل الحق والباطل معاً وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو كان ههنا قول صحيح لما أشكل على أحد ولا اختلف فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم ولا في الحساب فإن هذا قول فاسد لأن أشكال الشيء على من أشكل عليه إنما معناه أنه جهل حقيقة ذلك الشيء فقط وليس جهل من جهل حجة على من علم برهان هذا أنه ليس في العالم شيء إلا ويجهله بعض الناس كالمجانين والأطفال ومن غمرة الجهال والبلدة ثم يتزيد الناس في الفهم فيفهم طائفة شيئاً لا تفهمه المجانين وتفهم أخرى ما لا تفهمه هؤلاء وهكذا إلى أرفع مراتب العلم فكلما اختلف فيه فقد واقف على الحقيقة فيه من فهمه وإن كان خفي على غيره هذا أمر مشاهد محسوس في جميع العلوم وآفة ذلك ما قد ذكرنا قبل وهو إما قصور الفهم والبلادة وإما كسل عن تقصي البرهان وإما لألف أو نفار قعدا بصاحبهما عن الغاية المطلوبة أو تعدياها وهذه دواعي الاختلاف في كل ما اختلف فيه فإذا ارتفعت الموانع لاح البرهان بيقين فبطل ما شغبوا به والحمد لله رب العالمين‏.‏

وأما قولهم كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وفي الحساب وفيما أدركوه ببداية عقولهم فقول غير مطرد والسبب في انقطاع اطراده هو أنه ليس في أكثر ما يدرك بالحواس وبداية العقول شيء يدعو إلى التنازع ولا إلى تقليديتها لك في نصره أو إبطاله وكذلك في الحساب حتى إذا صرنا إلى ما فيه تقليد مما يدرك بالحواس أو بأوائل التمييز وجد فيه من التنازع والمكابرة والمدافعة وجحد الضرورات كالذي يوجد فيما سواه كمكابرة النصارى واستلاكهم في أن المسيح له طبيعتان ناسوتية ولاهوتية ثم منهم من يقول أن تلك الطبيعتين صارتا شيئاً واحداً وصار اللاهوت ناسوتاً تاماً محدثاً مخلوقاً وصار الناسوت ألهاً تاماً خالقاً غير مخلوق ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج العرض بالجوهر ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج البطانة والظهارة وهذا حمق ومحال يدرك فساده بأول العقل وضرورته وكما تهالكت المنانية على أن الفلك في كل أفق من العالم لا يدور إلا كما يدور الرحى وهذا أمر يشاهد كذبه بالعيان وكما تهالكت اليهود على أن النيل الذي يحيط بأرض مصر وزويلة ومعادن الذهب وأن الفرات المحيط بأرض الموصل مخرجهما جميعاً من عين واحدة من المشرق وهذا كذب يدرك بالحواس وكما تهالكت المجوس على أن الولادة من إنسان وأن مدينة واقفة من بنيان بعض ملوكهم بين السماء والأرض وكتهالك جميع العامة على أن السماء مستوية كالصحيفة لا مقبية مكورة وأن الأرض كذلك أيضاً وأن الشمس تطلع على جميع الناس في جميع الأرض في ساعة واحدة وتغرب عنهم كذلك وهذا معلوم كذبه بالعيان وكتهالك الأشعرية وغيرهم ممن يدعي العلم والتوفيق فيه أن النار لا حر فيها وأن الثلج لا برد فيه وأن الزجاج والحصا لهما طعم ورائحة وأن الخمر لا يسكر وأن ههنا أحوالاً لا معدومة ولا موجودة ولا هي حي ولا هي باطل ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي معلومة ولا مجهولة وهذا كله معلوم كذبه وبطلانه بالحواس وبأول العقل وضرورته وتخليط لا يفهمه أحد ولا يتشكل في وعم أحد ولو أننا شاهدنا أكثر من ذكرنا لما صدقنا أن من له مسكة عقل ينطلق لسانه بهذا الجنون وكتهالك طوائف على أن اسمين يقعان على مسميين كل واحد من ذينك المسميين لا ههو الآخر ولا هو غيره وكالسوفسطائية المنكرة للحقائق وأما الحساب فقد اختلف له في أشياء من التعديل ومن قطع الكواكب وهل الحركة لها أو لأفلاكها وأما الذي لا يخلو وقت من وجوده فخطأ كثير من أهل الحساب في جمع الأعداد الكثيرة حتى يختلفوا اختلافاً ظاهراً حتى إذا حقق النظر يظهر الحق من الباطل وهذا نفس ما يعرض في كل ما يدرك بالحواس فظهر بطلان تمويههم وتشبيهم جملة والحمد لله رب العالمين وصح ما أنكروه من أن كثيراً من الناس يغيبون عن اعتقاد ما شهدت له الحواس وينكرون أوائل العقول ويكابرون الضرورات أما أنهم كسلوا عن طلب البرهان وقطعوا بظنونهم وأما لأنهم زلوا عن طريق البرهان وظنوا أنهم عليه وأما لأنهم ألفوا ما مالت إليه أهواؤهم لألف شيء ونفار عن آخر وأما قولهم وللاح الحق على مرور الأزمان وكثرة البحث وطول المناظرات في قال لهم وبالله تعالى التوفيق نعم قد لاح الحق وبان ظن الباطل وأن كان كل طائفة تدعيه فإن من نظر على الطريق التي وصفنا صح عنده المحق المدعي من المبطل وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعادنوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخر بلا معنى فقول فاسد لأنا قد رأيناهم أتوا أشياء بدا الحق فيها إلى الانس فعانده كثير منهم وبذلوا مهجعهم فيه وكأنهم ما شاهدوا الأمر الذي ملأ الأرض من المقاتلين الذين يعرفون بقلوبهم ويقرون بألسنتهم أنهم على باطل يقتتلون ويعترفون بأنهم بلغوا مهجهم ودماءهم وأموالهم وأديانهم ويوتمون أولادهم ويرملون نساءهم في قتال عن سلطان غائب عن ذلك القتال لا يرجون زيادة درهم ولا يخاف كل امرئ منهم في ذاته تقصيراً به لو لم يقاتل أو لم يروا كثيراً من الناس يأكلون أشياء يوقنون بأنهم يستضرون بها ويكثرون شرب الخمر وهم يقرون أنها قد آذنتهم وأفسدت أمزجتهم وأنها تؤديهم إلى التلاف وهم يقرون مع ذلك أنهم عاصون لله تعالى وكم رأينا من الموقنين بخلود العاصي في النار المحقيين لذلك يقر على نفسه أنه يفعل ما يخلد به في النار فإن قال وا أن هؤلاء يستلذون ما يفعلون من ذلك قلنا لهم أن استلذاذ من يدين بشيء ما يبصره لما يدين به وتعصبه له أشد من استلذاذ الأكل والشرب لما يدري أنه يبلغه من ذلك نقول لهم أخبرونا عن قولكم هذا أنه ليس ههنا قول سطعت حجته ولو كان لما اختلف الناس فيه أحق وهي هذه القضية التي قطعتم بها وهل قولك هذا ظاهر الحجة متيقن الحقيقة أم لا فإن قال وا لا أقروا بأن قولهم لم تصح حجته ولا لاح برهانه وأنه ليس حقاً ما قال وه وإن قال وا بل هو حق قد لاحق حجته قلنا لهم فكيف خولفتم في شيء لاحت حجته حتى صار أكثر أهل الأرض يعمون عماً لا شك فيه عندكم وعن ما لاح الحق فيه حتى اعتقدوا فيكم الضلال والكفر وإباحة الدم وهذا هو نفس ما أنكروا قد صرحوا أنه حق والحمد لله رب العالمين وأما احتجاجهم بانت قال من ينتقل من مذهب إلى مذهب وتهالكه في إثباته ثم تهالكه في إبطاله ورومهم أن يفسدوا بهذا جميع البراهين فليس كما ظنوا لأن كل متنقل من مذهب إلى مذهب فلا يخلو ضرورة من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون انتقل من خطأ إلى خطأ أو من خطأ إلى صواب أو من صواب إلى خطأ وأي ذلك كان فإنما أتى في الانت قال ين الاثنين الذين هما إلى الخطأ من أنه لم يطلب البرهان طلباً صحيحاً بل عاجزاً عنه بأحد الوجوه التي قدمنا قبل وأما الانت قال إلى الصواب فإنه وقع عليه بحد صحيح وطلب صحيح أو بحد وبحث وهذا يعرض فيما يدرك بالحواس كثيراً فيرى الإنسان شخصياً من بعيد فيظنه فلاناً ويحلف عليه ويكابر ويجرد ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن وقد يشم الإنسان رائحة يظنها من بعض الروائح ويقطع على ذلك ويحلف عليه مجداً ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن وهكذا في الذوق أيضاً وقد يعرض هذا في الحساب فقد يغلط الحاسبون في جمع الأعداد الكثيرة فيقول أحدهم أن الجميع من هذه الأعداد كذا وكذا ويخالفه غيره في ذلك حتى إذا بحثوا بحثاً صحيحاً صح الأمر عندهم وقد يعرض هذا للإنسان فيما بين يديه يطلب الشيء بين متاه طلباً مردداً المرة بعد المرة فلا يجده ولا يقع عليه وهو بين يديه ونصب عينيه ثم يجده في أقرب مكان منه وقد يكتب الإنسان مستملياً أو يقرأ فيصحف ويزيد وينقص وليس هذا بموجب ألا يصح شيء بإدراك الحواس أبداً ولا إلا يصح وجود الإنسان شيئاً افتقده أبداً ولا ألا يصح جمع الأعداد أبداً ولا ألا يصح حرف مكتوب ولا كلمة مقروءة أبداً لا مكان وجود الخطأ في بعض ذلك لكن التثبيت الصحيح يليح الحق من الباطل وهكذا كل شيء أخطأ فيه ولا بد من برهان يليح الحق فيه من الباطل ولا يظن جاهل أن هذه المعاني كلها حجة لمبطلي الحقائق بل هي برهان عليهم لائح قاطع لأن كل ما ذكرنا لا يختلف حس أحد في أن كل ذلك إذا فتش تفتيشاً صحيحاً فإنه يقع اليقين والضرورة بأن الوهم فيها غير صحيح وأن الحق فيها ولا بد فبطل تعلقهم بمن رجع من مذهب إلى مذهب ولم يحصلوا إلا على أن قال وا أنا نرى قوماً يخطئون فقلنا لهم نعم ويصيب آخرون فإقرارهم بوجود الخطأ موجب ضرورة أن ثم صواباً لأن الخطأ هو مخالفة الصواب فلو لم يكن صواباً لم يكن خطأ ولو لم يكن برهان لم يكن شغب مخالف للبرهان ثم نعكس استدلالهم عليهم فنقول لهم وبالله تعالى نتأيد فإذ قد وجدتم من يعتقد ما أنتم عليه ثم يرجع عنه فهلا قلتم أن مذهبكم هذا كالأقوال الأخر التي أبطلتموها من أجل هذا الظن الفاسد في الحقيقة وهو في ظنكم صحيح فهو لكم لازم لأنكم صححتموه ولا يلزمنا لأننا لا نصححه ولا صححه برهان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وبهذا الذي قلنا يبطل ما اعترضوا به من اختلاف المدعين الفلسفة والمنتحلين

الكلام في مذاهبهم وما ذكروه من اختلاف المختارين أيضاً في اختيارهم لأننا لم ندع أن طبائع الناس سليمة من الفساد لكنا نقول أن الغالب على طبائع الناس الفساد فإن المنصف لنفسه أولاً ثم لخصمه ثانياً الطالب بالبرهان على حقيقة العارف به فدليل برهاننا على هذا ما وجدناه من اختلاف الناس واختلافهم كثيراً دليل على كثرة الخطاء منهم وقد وضحنا أن وجود الخطاء يقتضي ضرورة وجود الصواب منهم ولا بد وليس اختلافهم دليلاً على أن لا حقيقة في شيء من أقوالهم ولا على امتناع وجود السبيل إلى معرفة الحق وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بأنه لا يخلو من حقق شيئاً من الديانات والم قال ات والآراء من أن يكون صح له بالحواس أو بالعقل أو ببعضها أو ببديهة العقل وضرورته أو بدليل من الأدلة غير هذين وأنه لو صح بالحواس أو بالعقل لم يختلف فيه وإلزامهم في الدليل مثل ذلك إلى آخر كلامهم فهذا كله مقرر قد مضي الكلام فيه وقد أريناهم أنه قد يختلف الناسفيما يدرك بالحواس وببديهة العقل كاختلافهم في الشخص يرونه ويختلفون فيه ما هو وفي الصوت يسمعونه بينهم فيما هو ويختلفون فيه وكأقوال النصارى وغيرهم مما يعلم بضرورة العقل فساده ثم نقول لهم أن أول المعارف هو ما أدرك بالحواس وببديهة العقل وضرورته ثم ينتج براهين راجعة من قرب أو من بعد إلى أول العقل أو إلى الحواس فما صححته هذه البراهين فهو حق وما لم تصححه هذه البراهين فهو غير صحيح ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق قولكم هذا بأي شيء علمتموه بالعقول أم بالحواس أو بدليل غيرهما فإن علمتموه بالحواس أو العقول فكيف خولفتم فيه وإن كنتم عرفتموه بدليل فذلك الدليل بما عرفتموه أبالحواس أم بالعقول أم بدليل آخر وهكذا أبداً وكل سؤال أفسد حكم نفسه فهو فاسد وعلى أن هذا لهم لازم لأنهم صححوه ومن صحح شيئاً لزمه ونحن لم نصحح هذا السؤال فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه بما دفعه عنا وأما هم فلا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم نسألهم عن علمهم بما يدعون صحته أتعلمونه أم لا فإن قال وا لا نعلمه بطل قولهم إذا قروا بأنهم لا يعلمونه وإن قال وا بل نعلمه سألناهم أبعلم علمتم علمكم بذلك أم بغير علم وهكذا أبداً فهذا أمر قد أحكمنا بيان فساده في باب أفردناه في ديواننا هذا على أصحاب معمر في قولهم بالمعاني وعلى الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة في قولهم بالأحوال وإنما كلامنا هذا مع من يقول بتكافؤ الأدلة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا السؤال نفسه مردوده عليهم كما هو ونسألهم أتعلمون صحة مذهبكم هذا أم لا فإن قال وا لا أقروا بأنهم لا يعلمون صحته وفي هذا إبطاله والله وإنما هو ظن لا حقيقة وإن قال وا بل نعلمه سألناهم أبعلم تعلمونه أم بغير علم وهكذا أبداً إلا أن أن السؤال لازم لهم لأنهم صححوه ومن صحح شيئاً لزمه وأما نحن فلم نصححه فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه في بابه بأننا نعلم صحة علمنا بعلمنا ذلك بعينه لا بعلم آخر ونعقل أن لنا عقلاً بعقلنا ذلك بنفسه وإنما هو سؤال من يبطل الحقائق كلها لا من يقول بتكافؤ الأدلة فبطل كل ما موهوا به والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثم نقول لهم أنتم قد أثبتم الحقائق وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها وهم السوفسطائية وعلمتم أنهم مخطئون في ذلك ببراهين وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها ما أبطلتموه أو شككتم فيه من أن في مذاهب الناس مذهباً صحيحاً ظاهر الصحة فإذا سأل عنها أجيب بها في مسألة مسألة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وي قال لمن قال لكل ذي ملة أو نحلة أو مذهب لعلك مخطئي وأنت تظن أنك مصيب لأن هذا ممكن في كثير من الأقوال بلا شك أخبرنا أفي الناس من فسد دماغه وهو يظن أنه صحيح الدماغ فإن أنكر ذلك كابر ودفع المشاهدات وإن قال هذا ممكن قيل له لعلك أنت الآن كذلك وأنت تظن أنك سالم الدماغ فإن قال لا لأن هاهنا براهين تصحح أني سالم الذهن قيل له وهاهنا براهين تصحح الصحيح من الأقوال وتبينه من الفاسد فإن سأل عنها أجبت بها في مسألة مسألة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذا قد بطل بيقين أن تكون جميع أقوال الناس صحيحة لأن في هذا أن يكون الشيء باطلاً وحقاً معاً وبطل أن تكون كلها باطلاً لأن في هذا أيضاً إثبات الشيء وضده معاً لأن الأقوال كلها إنما هي نفي شيء يثبته آخر من الناس فلو كان كلا الأمرين باطلاً لبطل النفي في الشيء وإثباته معاً وإذا بطل إثباته صح نفيه وإذا بطل نفيه صح إثباته فكان يلزم من هذا أيضاً أن يكون الشيء حقاً باطلاً معاً ثبت بيقين أن في الأقوال حقاً وباطلاً وإذ هذا لا شك فيه فبالضرورة نعرف أن بين الحق والباطل فرقاً موجوداً وذلك الفرق هو البرهان فمن عرف البرهان عرف الحق من الباطل وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فإنكم محيلون علي براهين تقولون أن ذكرها جملة لا يمكن وتأمرون بالجد في طلبها فما الفرق بينكم وبين دعاة الإسماعيلية والقرامطة الذين يحيلون على مثل هذا قلنا لهم الفرق بيننا وبينهم برهانان واضحان أحدهما أن القوم يأمرون باعتقاد أقوالهم وتصديقهم قبل أن يعرفوا براهينهم ونحن لا نفعل هذا بل ندعوا إلى معرفة البراهين وتصحيحها قبل أن نصدق فيما نقول والثاني أن القوم يكتمون أقوالهم وبراهينهم معاً ولا يبيحونها للسبر والنظر ونحن نهتف بأقوالنا وبراهيننا لكل أحد وندعوا إلى سبرها وتقييسها وأخذها إن صحت ورفضها إن لم تصح والحمد لله رب العالمين ولسنا نقول إننا لا نقدر أن نحد براهيننا بحد جامع مبين لها بل نقدر على ذلك وهو أن البرهان المفرق بين الحق والباطل في كل ما اختلفوا فيه أن يرجع رجوعاً صحيحاً متيقناً إلى الحواس أو إلى العقل من قرب أو من بعد رجوعاً صحيحاً لا يحتمل ولا يمكن فيه إلا ذلك العمل فهو برهان وهو حق متيقن وإن لم يرجع كما ذكرنا إلى الحواس أو إلى العقل فليس برهاناً ولا ينبغي أن تشتغل به فإنما هو دعوى كاذبة وبالله تعالى التوفيق وبهذا سقط القياس والتقليد لأنه لا يقدر القائلون بهما على برهان في تصحيحهما يرجع إلى الحواس أو إلى العقل رجوعاً متيقناً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونحن نقول قولاً كافياً بعون الله وقوته وهو أن أول كل ما اختلف فيه من غير الشريعة ومن تصحيح حدوث العالم وأن له محدثاً واحداً لم يزل ومن تصحيح النبوة ثم تصحيح نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن براهين كل ذلك راجعة رجوعاً صحيحاً ضرورياً إلى الحواس وضرورة العقل فما لم يكن كذا فليس بشيء ولا هو برهاناً وإن كان ما اختلف فيه من الشريعة بعد صحة جملها فإن براهين كل ذلك راجعة إلى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى إذ هو المبعوث إلينا بالشريعة فما لم يكن هكذا فليس برهاناً ولا هو شيئاً وفي أول ديواننا هذا باب في ماهية البراهين الموصلة إلى معرفة الحقيقة في كل ما اختلف الناس فيه فإذا أضيف إلى هذا ارتفع الإشكال والحمد لله رب العالمين‏.‏

 الكلام في الألوان

قال أبو محمد‏:‏ الأرض غبراء وفيها حمراء بيضاء وصفراء وخضراء وسوداء وموشاة والماء كله أبيض إلا أن يكتسب لوناً بما استضاف إليه لفرط صفائه فيكتسى لون إنائه أو ما هو فيه وإنما قلنا أنه أبيض لبراهين أحدها أنه إذا صب في الهواء بهرق ظهر أبيض صافي البياض والثاني في أنه إذا جمد فصار ثلجاً أو برداً ظهر أبيض شديد البياض وأما الهواء فلا لون له أصلاً ولذلك لا يرى لأنه لا يرى إلا اللون وقد زعم قوم أنه إنما لا يرى لانطباقه على البصر وهذا فاسد جداً وبرهان أن المرء يغوص في الماء الصافي ويفتح عينيه فيه فيرى الماء وهو منطبق على بصره لا حائل بينهما ولا يرى الهواء في تلك الحال وإن استلقي على ظهره في الماء وهذا أمر مشاهد وأما الذي يرى عند دخول خط ضياء الشمس من كوة فإنما هو أن الأجسام تنحل منها أبداً أجزاء صغار وهي التي تسمي الهباء فإذا انحصر خط ضياء الشمس وقع البصر على تلك الأجزاء الصغار وهي متكاثفة جداً ولونها الغبرة فهي التي ترى لا ما سواها ومن تأمل هذا عرفه يقيناً وإن البيوت مملوءة من هذا الضياء المنحل من الأرض والثياب والأبدان وسائر الأجرام ولكن لدقتها لا ترى إلا أن انحصر خط الشمس فيرى ما في ذلك الانحصار منها فقط وأم النار فلا ترى أيضاً لأنه لا لون لها في فلكها وأم المرئية عندنا في الحطب والفتيلة وسائر ما يحترق فإنما هي رطوبات ذلك المحترق يستحيل هواء فيه نارية فتكتسب ألواناً بمقدار ما تعطيها طبيعتها فتراها خضراء ولازوردية وحمراء وبيضاء وصفراء وبالله تعالى التوفيق وهذا يعرض للرطوبات المتولد منها دائرة قوس قزح‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أجمع جميع المتقدمين بعد التحقيق بالبرهان على أنه لا يرى إلا الألوان وإن كل ما يرى فليس إلا لوناً وحدوا بعد ذلك البياض بأنه لون يفرق البصر وحدوا السواد بأنه لون قال أبو محمد‏:‏ وهذا حد وقعت فيه مسامحة وإنما خرجوه على قول العامة في لون السواد ومعنى يجمع البصر أنه يقبضه في داخل الناظر ويمنع من انتشاره ومن تشكل المرئيات وإذ هذا معنى القبض بلا شك فهو معنى منع البصر والإدراك وكفه ومن هذا سمى المكفوف مكفوفاً فإذا السواد يمنع البصر من الانتشار ويقبضه عن الانبساط ويكفه عن الإدراك وهذا كله معنى واحد وإن اختلفت العبارات في بيانه فالسواد بلا شك غير مرئي إذ لو رؤى لم يقبض خط البصر إذ لا رؤية إلا بامتداد البصر فإذ هو غير مرئي فالسواد ليس لوناً إذ اللون مرئي ولا بد ما لم ير فليس لوناً وهذا برهان عقلي ضروري وبرهان آخر حسي وهو أن الظلمة إذا أطبقت فلا فرق حينئذ بين المفتوح العينين السالم الناظرين وبين الأعمى المنطبق والمسدود العينين سداً أو كفاً فإذ ذلك كذلك فالظلمة لا ترى ومن الباطل الممتنع أن تكون ترى الظلمة وبالحس نعلم أن المنطبق العينين فيها بمنزلة واحدة من عدم الرؤية ومع المفتوح العينين فيها والظلمة هي السواد نفسه فمن ادعى أنهما متفاير إن فقد كابر العينان وادعى ما لا يأتي عليه بدليل أبداً ونحن نجد أن لو فتح في حائط بيت مغلق كوتان ثم جعل على أحدهما ستر أسود وتركت الأخرى مكشوفة لما فرق الناظر من بعد بينهما أصلاً ولو جعل على أحدهما ستر أحمر أو أصفر أو أبيض لتبين ذلك للناظر يقيناً من بعد أو قرب وهذا بيان أن السواد والظلمة سواء وبرهان أخر حسي وهو أن خطوط البصر إذ استوت فلا بد من أن تقع على شيء ما لم تقف فيه مانع من تماديها ونحن نشاهد من بين يديه ظلمة أو هو فيها لا يقع بصره على حائط إن كان في الظلمة وسواء كان فيها حائط مانع من تمادي خط البصر أو لم يكن فصح يقيناً أن الظلمة لا ترى بل هي مانعة من الرؤية والظلمة هي السواد والسواد هو الظلمة لم يختلف قط في هذا اثنان لا بطبيعة ولا بشريعة ولا في معنى الله ولا بالمشاهدة فقد صح أن السواد لا يرى أصلاً وأنه ليس لوناً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإنما وقع الغلط على من ظن أن السواد يرى لأنه أحس بوقوع خطوط البصر على ما حوالي الشيء الأسود من سائر الألوان فعلم بتوسط إدراكه ما حوالي الأسود أن بين تلك النهايات شيئاً خارجاً عن تلك الألوان فقدر أنه يراه ومن هاهنا عظم غلط جماعة ادعوا بظنونهم من الجهة التي ذكرنا أنهم يرون الحركات والسكون في الأجرام والأمر في كل ذلك وفي الأسود واحد ولا فرق فإن قال قائل أنه إن كان في جسم الأسود زيادة ناتئة سوداء كسائر جسده رأيناها فلو لم تر لم تعلم بنتوء تلك الهيئة الناتئة له على سطح جسده قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا أيضاً وهم لأنه لما لم يمتد خط البصر عند قبض تلك الهيئة الناتئة له وامتدت سائر الخطوط إلى أبعد من تلك المسافة وعلمت النفس بذلك توهم من لم يحقق أن هذه رؤية وليست كذلك وتوهموا أيضاً أنهم يرون السواد ممازحاً لحمرة أو لغبرة أو لخضرة أو لصفرة أو لزرقة فإذا كان هذا هكذا فإن البصر يرى ما في ذلك السطح من هذه الألوان على حسب قوتها وضعفها فقط فيتوهمون من ذلك أنهم رأوا السواد ويتوهمون أيضاً أنهم يرونه لأنهم قال وا نحن نميز الأسود البراق البصيص واللمعان من الأسود الأكدر الغليظ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا مكان ينبغي أن نتثبت فيه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الأملاس هو استواء أجزاء السطح والخشونة هي تباين أجزاء السطح وقد نجد أملس لماعاً وأملس كدراً فإذ ذلك كذلك فالبصيص واللمعان شيء أخير غير استواء أجزاء السطح وإذ هو كذلك وهو مرئي فالبصيص بلا شك لون آخر محمول في الملون بالحمرة أو الصفرة أو سائر الألوان وفيما عري من جميع الألوان سواء فإذا قلنا أسود لماع فإنما نريد أنه ليس فيه من الألوان إلا اللمعان فقط فهو لون صحيح وقد عرى من الحمرة ومن الصفرة ومن البياض والخضرة والزرقة ومما تولد من امتزاج هذه الألوان ولعل الكدرة أيضاً لون آخر مرئي كاللمعان وهي أيضاً غير سائر الألوان فهذا ما لا يوجد ما يمنع منه بل الدليل يثبت أن الكدرة أيضاً لون لون وهو وقوع البصر عليها وهو لا يقع إلا على لون ومن أبى من هذا كلفناه أن يحد لنا اللمعان والكدرة فإنه لا يقدر على شيء أصلاً غير ما قلنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فإنا نرى الثوب الأسود يستبين نسج خيوطه ونتوء ما نتأ منها وانخفاض ما انخفض فلولا أنه يرى ما علم ذلك كله فالجواب وبالله تعالى التوفيق أنا قد علمنا أن خطوط البصر تخرج من الناظر ولها مساحة ما وبعضها أطول من بعض بلا شك لأن الخطوط الخارجة من البصر إلى السماء أطول من الخطوط الخارجة من البصر إلى الجليس لك بلا شك فلما خرجت خطوط البصر إلى الثوب المذكور انقطع تمادي بعضها أكثر من تمادي البعض فبالحس علمنا هذا لا لأن بصرنا وقع على لون أصلاً وأيضاً فإن النور هو اللون الذي طبعه بسط قوة الناظر واستخراج قوى البصر حتى أنه إذا وافق ناظراً ضعيف البنية بطبعه أو بعرض اجتلب جميعه واستلبه كله أو اقتطفه فعلى قدر قوة النور في اللون المرئي وضعفه فيه يكون وقوع البصر عليه هذا أمر مشاهد بالعيان فكلما قل النور في اللون كان وقوع البصر عليه أضعف وكانت الرؤية له أقل حتى إذا عدم النور جملة ولم يبق منه شيء فقد بطل بالضرورة أن يمتد خطوط البصر إليه وأن يقع الناظر عليه إذ لا نور فيه ولا يختلف ذو حس في العالم في أن السواد المحض الخالص ليس فيه شيء من النور فإذ لا شك في هذا فلا شك في أنه لا يرى وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن جبلاً ذا لون ما وأرضاً ذات لون ما وفيهما غاران مظلمان لا شك أن كل ناظر إليهما فإنه لا يرى إلا ما حول الغارين وأنه لا يرى ما ضمه خط الغارين فإذ هذه كلها براهين ضرورية مشاهدة حسية عقلية فالبرهان لا يعارضه برهان أصلاً والبرهان لا يعارض بالدعوى ولا بالظنون والحمد لله رب العالمين وأما من كلام الله تعالى فالله يقول ‏"‏ ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ‏"‏ فصح يقيناً أن الظلمة مانعة من النظر والرؤية جملة وهو السواد بلا شك فهو لا يرى ولا خلاف في أن البصر القليل يداوى بالثوب الأسود والقعود في الظلمة وليس ذلك غلا لمنعه من امتداد خط بصره فيكل بامتداده وبالله تعالى التوفيق فإن قيل السواد غير الظلمة قلنا إنا نجد الأرمد الشديد الرمد متى صار في بيت مظلم شديد الانطباق لا يدخله شيء من الضوء أمكنه فتح عينيه بحسب طاقته ولم يألم بالنظر إليه ومتى جعلناه في بيت مضيء وعلى وجهه وعينيه ثوب كثيف جداً أسود أمكنه فتح عينيه حسب طاقته ولم يألم بالنظر إليه وكانت حاله في تغطية وجهه بذلك الثوب كحاله في الظلمة التامة سواء سواء وكذلك يعرض للصحيح البصر في الحالتين المذكورتين ولا فرق ومتى جعلنا على بصر الأرمد ثوباً أبيض ألم ألماً شديداً كلله إذا نظر في الضوء ولا فرق فإن جعلنا على وجهه ثوباً أصفر ألم دون ذلك وإن كان أحمر ألم دون ذلك فإن كان أخضر ألم دون ذلك على قدرهما في اللون من ممازجة البياض له فصح أن السواد والظلام شيء واحد و قال بعض أصحابنا السواد غير الظلمة وهو لا يرى الآن الزنجي والغراب والثوب ليس شيء من ذلك أسود وكل ذلك يرى ولون كل ما ذكرنا لون غير السواد إلا أنه باسم السواد مجازاً و قال بعضهم السواد اسم مشترك يقع على الظلمة ويقع على لون الزنجي والغراب والثوب فكل ظلام سواد وليس كل سواد ظلاماً فإن عنيت بالسواد لون الزنجي والغراب والثوب فهو يرى وهو غير الظلمة وإن عنيت بالسواد الظلمة فهو لا يرى و قال بعضهم الظلمة لا ترى وليست سواداً أصلاً والسواد شيء آخر غير الظلمة وهو لون يرى و قال بعضهم الظلمة والسواد شيء واحد وكلاهما يرى وأقروا بأن الأعمى والأكمة والمفقوء العينين والمطبق العينين يرى الظلمة‏.‏

 الكلام في المتوالد والمتولد

قال أبو محمد‏:‏ الحيوان كله ينقسم أقساماً ثلاثة متوالد ولا بد ولا يتولد ومتولد ولا بد لا يتوالد وقسم ثالث يتوالد ويتولد أيضاً فأما المتولد المتوالد فكبنات ردان فإنها تتولد وقد رأيناها تتسافد وكالجعلان فإنها تتولد وقد رأيناها تتسافد وكثير من الحيوان المتولد في النبات وقد رأيناه يتسافد ومثل القمل فإنا قد شاهدناه يخرج من تحت الجلد يانا ويحدث في الرؤوس وقد يتوالد وقد نجد بعضه إذا قطع مملوء بيضاً وأما المتولد الذي لا يتوالد فالحيوان المتولد في أصول أشفار العينين وأصول شعر الشارب واللحية والصدر والعانة وهو ذو أرجل كثيرة لا يفارق موضعه وما علمناه يتوالد أصلاً ومثل الصفار المتولد في البطن وشحمة الأرض وكل هذا لا نعلمه يتوالد البتة وقد شاهدنا ضفادع صغاراً تتولد من ليلتها فتصبح مناقع المياه منها مملوءة ومنها الثلماندرية وهو حيوان كبير يشبه الجراذين الصغار بطيئة الحركة وحيوانات كثيرة منها صغير مفرط الصغر يكاد لصغره لا يتجزأ مثلما كثيراً رأيناه في الدوى والدفاتر وهو سريع المشي جداً ومنها السوس المتولد في الباقلا والدود المتولد في الجراحات وفي الحمص والبلوط وفي التفاح وبين الحشيش وبين الصنوبر وفي الكنف وهي ذوات الأذناب والحباحب المتولد في الخضر وهو في غاية الحسن ومنه ما يضيء بالليل كأنه شرارة نار والدود ذوات الأرجل الكثيرة لذاراريح وهذا كثير لا يحصيه لا خالقه عز جل ومنها الضفادع والحجازب فقد صح عندنا يقيناً لا مجال للشك فيه أنها تتولد في منافع المياه دويبات صغار ملس شديدة السواد ذوات أذناب تمشي عندنا ثم صح عندنا كذلك أنها تكبر فتقطع أذنابها وتتبدل ألوانها وتستحيل أشكالها وتعظم فتصير ضفادع ثم تزيد كبراً واستحالة ألوان فتصير حجازب‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قد رأيتها في جميع تنقلها كما وصفنا وقد عرض علينا في منافع المياه خطوط ظاهرة قيل لنا أنها بيض الضفادع وأما الذباب فقد شاهدناها عياناً تتناكح والأنثى منها هي الكبار والذكور هي الصغار وشاهدنا البراغيث تتناكح أيضاً والكبار هي الأنثى والذكور هي الصغار نشاهد ذلك بأن الأعلى هو الصغير أبداً ونجد الأنثى مملوءة بيضاً إذا وضعت فتلقي في قال أبو محمد‏:‏ وقد رأينا ذباباً صغيراً جداً وذباباً كباراً مفرط الكبر وشاهدنا بأبصارنا الدور الطويل الذنب المتولد في الكنف وزبول البقر والغنم يستحيل فيصير فراشاً طياراً مختلف الألوان بديع الخلقة من ابيض وأصفر فاقع وأخضر ولازوردي منقط ولا ندري كيف الحال في العقارب والعناكب والرتيلات والبقوقات والدبر إلا أننا ندري أن دود الحرير يتوالد يتسافد الذكور منها والأناث وتبيض ثم تحضن بيضها هذا ما لا خلاف فيه وما رأى أحد قط دود حرير يتولد من غير بيضه وكذلك النمل فإنه يتوالد وقد رأينا بيضه والعرب تسميه المازن وكذلك النحل يتوالد ويوجد في مواضع من بنائه في تضاعيف القبر الذي فيه العسل وكذلك الجراد والعرب تسميه بيضة الصرد‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وما رأى أحد قط نحلاً يتولد ولا نملاً يتولد ولا جراداً يتولد إلا في أكذوبات لا تصح وأما سائر الحيوان فمتوالد ولا بد من مني أو بيض فكل ذي أذن بارزة يلد طائراً كان أو غير طائر كالخفاش وغيره وكل ما ليس له أذن بارزة فهو يبيض طائراً كان أو غير طائر كالحيات والجراذين والوزغ وغير ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فطلبنا أن نحد حداً يجمع ما يتولد دون ما يتوالد أو ما يتوالد دون ما يتولد فلم نجد إلا أننا رأينا كل ذي عظم وفقارات لا سبيل البتة إلى أن يوجد من غير تناكح كحيوان البحر الذي له العظم والفقارات ورأينا ما لا عظم له ولا فقار فمنه ما يتولد ولا يتوالد ومنه ما يتولد ويتوالد معاً وكل ذلك خلق الله عز وجل يخلق ما يشاء كما شاء لا إلى إلا هو وليست القدرة في الخلق في خلق ما خلقه الله عز وجل حيواناً ذا أربع أو ذا ريش من بيضة أو من مني بأعظم من القدرة من خلقها من تراب دون توسط بيضة ولا مني ولا البرهان عن الصنع والابتداء في إحداهما بأوضح منه في الآخر بل كل ذلك برهان على ابتداء الخلقة وعلى عظيم القدرة من الباري لا إله إلا هو‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد ادعى قوم أنه يتولد في الثلج حيوان ويتولد في النار حيوان وهذا كذب وباطل وإنما قاسوه على تولد حيوان ما في الأرض والماء والقياس باطل لأنه دعوى بلا برهان وما لا برهان له فليس بشيء وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وإذا حصلت الأمر فالحيوان لا يتولد من الماء وحده ولا من الأرض وحدها ولكن مما يجتمع من الأرض والماء معاً فتبارك الله أحسن الخالقين لا معقب لحكمه لا إله غيره عز وجل‏.‏

تم السفر الثالث بتمام جميع الديوان من الفصل في الملل والآراء والنحل بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه‏.‏

تم الكتاب بحمد الله .. مع تحيات إخوانكم في شبكة مشكاة الإسلامية www.almeshkat.com

===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المعجب في اخبار المغرب

    كتاب المعجب في اخبار المغرب  1 . المعجب في تلخيص أخبار المغرب تأليف : عبد الواحد بن علي المراكشي دراسة وتحقيق : الدكتور صلاح الدين ا...