Translate

الأربعاء، 23 مارس 2022

1.المجلد الاول في الملل والنحل لابن حزم

 

الفصل في الملل والأهواء والنحل

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه

الحمد لله كثيراً وصلى الله على عبده ورسوله خاتم أنبيائه بكرةً وأصيلاً وسلم تسليماً أما بعد فإن كثيراً من الناس كتبوا في افتراق الناس في دياناتهم ومقالاتهم كتباً كثيرة جداً فبعض أطال وأسهب وأكثر وهجر واستعمل الأغاليط والشغب فكان ذلك شاغلاً عن الفهم قاطعاً دون العلم وبعض حذف وقصر وقلل واختصر واضرب عن كثير من قوي معارضات أصحاب المقالات فكان في ذلك غير منصف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة وظالماً لخصمه في أن لم يوفه حق اعتراضه وباخساً حق من قرأ كتابه إذ لم يغنه عن غيره وكلهم إلا تحلة القسم عقد كلامه تعقيداً يتعذر فهمه على كثير من أهل الفهم وحلق على المعاني من بعد حتى صار ينسي آخر كلامه أوله وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد معانيهم فكان هذا منهم غير محمود في عاجله وآجله‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه فجمعنا كتابنا هذا مع استخارتنا الله عز وجل في جمعه وقصدنا به قصد إيراد البراهين المنتجة عن المقدمات الحسية أو الراجعة إلى الحس من قرب أو من بعد على حسب قيام البراهين التي لا تخون أصلاً مخرجها إلى ما أخرجت له وأن لا يصح منه إلا ما صححت البراهين المذكورة فقط‏.‏

إذ ليس الحق إلا ذلك وبالغنا في بيان اللفظ وترك التعقيد راجين من الله تعالى على ذلك الأجر الجزيل وهو تعالى ولي من تولاه ومعطي من استعطاه لا إله إلا هو وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه فنقول وبالله التوفيق رؤس الفرق المخالفة لدين الإسلام ست ثم تتفرق كل فرقة من هذه الفرق الست على فرق وسأذكر جماهيرها إن شاء الله عز وجل‏.‏

فالفرق الست التي ذكرناها على مراتبها في البعد عنا أولها مبطلو الحقائق وهم الذين يسميهم المتكلمون السوفسطائية ثم القائلون بإثبات الحقائق إلا أنهم قالوا إن العالم لم يزل وأنه لا محدث له ولا مدبر ثم القائلون بإثبات الحقائق وإن العالم لم يزل وإن له مدبراً لم يزل ثم القائلون بإثبات الحقائق فبعضهم قال إن العالم لم يزل وبعضهم قال هو محدث واتفقوا على أنه له مدبرين لم يزالوا وأنهم أكثر من واحد واختلفوا في عددهم ثم القائلون بإثبات الحقائق وأن العالم محدث وأن له خالقاً واحداً لم يزل وأبطلوا النبوات كلها ثم القائلون بإثبات الحقائق وأن العالم محدث وأن له خالقاً واحداً لم يزل وأثبتوا النبوات إلا أنهم خالفوا في عبضها فأقروا ببعض الأنبياء عليهم السلام وأنكروا بعضهم‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه وقد تحدث في خلال هذه الأقوال آراء هي منتجة من هذه الرؤس مركبة منها فمنها ما قد قالت به طوائف من الناس‏.‏

مثل ما ذهبت إليه فرق من الأمم من القول بتناسخ الأرواح أو القول بتواتر النبوات في كل وقت أو إن في كل نوع من أنواع الحيوان أنبياء‏.‏

ومثل ما قد ذهب إليه جماعة من القائلين به وناظرتهم عليه من القول بأن العالم محدث وأن له مدبراً لم يزل إلا أن النفس ولامكان المطلق وهو الخلاء والزمان المطلق لم يزل معه‏.‏

قال أبو محمد وهذا قول قد ناظرني عليه عبد الله بن خلف ابن مروان الأنصاري وعبد الله بن محمد السلمي الكاتب ومحمد بن علي بن أبي الحسين الأصبحي الطبيب وهو قول يؤثر عن محمد بن زكريا الرازي الطبيب ولنا عليه فيه كتاب مفرد في نقض كتابه في ذلك وهو المعروف بالعلم الإلهي‏.‏

ومثل ما ذهب إليه قوم من أن الفلك لم يزل وأنه غير الله تعالى وأنه هو المدبر للعالم الفاعل له إجلالاً بزعمهم لله عن أن يوصف بأنه فعل شيئاً من الأشثياء وقد كنى بعضهم عن ذلك بالعرش

ومنا ما لا نعلم أن أحداً قال به إلا أنه مما لا يؤمن أن يقول به قائل من المخالفين عند تضييق الحجيج عليهم فيلجئون إليها فلا بد إن شاء الله تعالى من ذكر ما يقتضيه مساق الكلام منها وذلك مثل القول بأن العالم محدث ولا محدث له فلا بد بحول الله تعالى من إثبات المحدث بعد الكلام في إثبات الحدوث وبالله تعالى التوفيق والعون لا إله إلا هو‏.‏

 باب مختصر جامع في ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق

في كل ما اختلف فيه الناس وكيفية إقامتها

قال أبو محمد رضي الله عنه هذا باب قد أحكمناه في كتابنا الموسوم بالتقريب في حدود الكلام وتقصيناه هنالك غاية التقصي والحمد لله رب العالمين إلا أننا نذكر ههنا جملة كافية فيه لتكون مقدمة لما يأتي بعده مما اختلف الناس فيه يرجع إليها إن شاء الله تعالى‏.‏

فنقول وبالله التوفيق إن الإنسان يخرج إلى هذا العالم ونفسه قد ذهب ذكرها جملة في قول من يقول أنها كانت قبل ذلك ذاكرة أولاً ذكر لها البتة في قول من يقول أنها حدثت حينئذ أو أنها مزاج عرض إلا أنه قد حصل أنه لا ذكر للطفل حين ولادته ولا تمييز إلا ما لسائر الحيوان من الحس والحركة الإرادية فقط فتراه يقبض رجليه ويمدهما ويقلب أعضاءه حسب طاقته ويألم إذا أحس البرد أو الحر أو الجوع وإذا ضرب أو قرص وله سوى ذلك مما يشاركه فيه الحيوان والنوامي مما ليس حيواناً من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه ولنمائه فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه من سائر الأعضاء بفمه دون سائر أعضائه كما تأخذ عروق الشجر والنبات رطوبات الأرض والماء لبقاء أجسامها على ما هي عليه ولنمائها‏.‏

فإذا قويت النفس على قول من يقول أنها مزاج أو أنها حدثت حينئذ أو أخذت يعاودها ذكرها وتمييزها في قول من يقول أنها كانت ذاكرة قبل ذلك وأنها كالمفيق من مرض فأول ما يحدث لها من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان فهم ما أدركت بحواسها الخمس‏.‏

كعلمها أن الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها والرائحة الرديئة منافرة لطبعها‏.‏

وكعلمها أن الأحمر مخالف للأخضر والأصفر والأبيض والأسود‏.‏

وكالفرق بين الخشن والأملس المكتنز والمتهيل واللزج والحار والبارد والدفي‏.‏

وكالفرق بين الحلو والحامض والمر والمالح والعفص والزاعق والتفه والعذب والحريف‏.‏

وكالفرق بين الصوت الحاد والغليظ والرقيق والمطرب والمفزع‏.‏

قال أبو محمد فهذه إدراكات الحواس لمحسوساتها والإدراك السادس علمها بالبديهيات‏.‏

فمن ذلك علمها بأن الجزء أقل من الكل فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سر وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء وإن كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادان فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود علماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً‏.‏

ومن ذلك علمه بأن لا يكون جسم واحد في مكانين فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسراً بكى وقال كلاماً معناه دعني أذهب علماً منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد‏.‏

ومن ذلك علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد فإنك تراه ينازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه علماً منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه إذ يعلم أن مادام في المكان ما يشغله فإنه لا يسعه وهو فيه‏.‏

وإذا قلت له ناولني ما في هذا الحائط وكان لا يدركه قال لست أدركه وهذا علم منه بأن الطويل زائد على مقدار ما هو أقصر منه وتراه يمشي إلى الشيء الذي يريد ليصل إليه وهذا علم منه بأن ذا النهاية يحصر ويقطع بالعدو وإن لم يحسن العبارة بتحديد ما يدري من ذلك‏.‏

ومنها علمه بأنه لا يعلم الغيب أحد وذلك أنه إذا سألته عن شيءٍ لا يعرفه أنكر ذلك وقال لا أدري‏.‏

ومنها فرقة بين الحق والباطل فإنه إذا أخبر بخبر تجده في بعض الأوقات لا يصدقه حتى إذا تظاهر عنده بمخبر آخر وآخر صدقه وسكن إلى ذلك‏.‏

ومنها علمه بأنه لا يكون شيءٌ إلا في زمان فإنك إذا ذكرت له أمراً ما قال متى كان وإذا قلت له لم تفعل كذا وكذا قال ما كنت أفعله وهذا علم منه بأنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في زمان‏.‏

ويعرف أن للأشياء طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها فتراه إذا رأى شيئاً لا يعرفه قال أي شيء هذا فإذا شرح له سكت‏.‏

ومنها علمه بأنه لا يكون فعل إلا لفاعل فإنه إذا رأى شيئاً قال من عمل هذا ولا يقنع البتة بأنه انعمل دون عامل وإذا رأى بيد آخر شيئاً قال من أعطاك هذا‏.‏

ومنها معرفته بأنه في الخبر صدقاً وكذباً فتراه يكذب بعض ما يخبر به ويصدق بعضه ويتوقف في بعضه هذا كله مشاهد من جميع الناس في مبدأ نشأتهم‏.‏

قال أبو محمد فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل وههنا أيضاً أشياء غير ما ذكرنا إذا فتشت وجدت وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره وليس يدري أحد كيف وقع العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه ولا يشك ذو تمييز صحيح في أن هذه الأشياء كلها صحيحة لا امتراء فيها وإنما يشك فيها بعد صحة علمه بها من دخلت عقله آفة وفسد تمييزه أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضاً آفة دخلت على تمييزه‏.‏

كالآفة الداخلة على من به هيجان الصفراء فيجد العسل مراً‏.‏

ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها‏.‏

وكسائر الآفات الداخلة على الحواس‏.‏

قال أبو محمد فهذه المقدمات التي ذكرناها هي الصحيحة التي لاشك فيها ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلاً إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه‏.‏

وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم وصغارهم في أقطار الأرض إلا من غالط حسه وكابر عقله فيلحق بالمجانين لأن الاستدلال على الشيء لا يكون إلا في زمان ولابد ضرورة يعلم ذلك بأول العقل لأنه قد علم بضرورة العقل أنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في وقت وليس بين أول أوقات تمييز النفس في هذا العالم وبين إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة لا دقيقة ولا جليلة ولا سبيل على ذلك فصح أنها ضرورات أوقعها الله في النفس ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات ولا يصح شيءٌ إلا بالرد إليها فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط‏.‏

إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ومن بعد فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفهم القوي الفهم والتمييز‏.‏

وليس ذلك مما يقدح في أن ما رجع إلى مقدمة من المقدمات التي ذكرنا حق كما أن تلك المقدمة حق لا فرق بينهما في أنهما حق وهذا مثل الأعداد فكلما قلت الأعداد سهل جمعها ولم يقع فيها غلط حتى إذا كثرت الأعداد وكثر العمل في جمعها صعب ذلك حتى يقع فيها الغلط إلا مع الحاسب الكافي المجيد وكلما قرب من ذلك وبعد فهو كله حق ولا تفاضل في شيء من ذلك ولا تعارض مقدمة مما ذكرنا مقدمة أخرى منها ولا يعارض ما يرجع إلى مقدمة أخرى منها رجوعاً صحيحاً وهذا كله يعلم بالضرورة‏.‏

ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعارض صح ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبراً كاذباً طويلاً فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر عالماً بالغيب لأن هذا هو علم الغيب نفسه وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه وذلك كذلك بلا شك فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعداً مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه فبالضرورة يعلم أنه حق متيقن مقطوع به على غيبه وبهذا علمنا صحة موت من مات وولادة من ولد وعزل من عزل وولاية من ولي مرض من مرض وأفاق من أفاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عنا والوقائع والملوك والأنبياء عليهم السلام ودياناتهم والعلماء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لاشك عند أحمد يوفي عقله حقه في شيء مما نقل من ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 باب الكلام على أهل القسم الأول وهم مبطلو الحقائق

وهم السوفسطائية قال أبو محمد ذكر من سلف من المتكلمين أنهم ثلاثة أصناف‏.‏

فصنف منهم نفى الحقائق جملة‏.‏

وصنف منهم شكوا فيها‏.‏

وصنف منهم قالوا هي حق عند من هي عنده حق وهي باطل عند من هي عنده باطل وعمدة ما ذكر من اعتراضهم فهو اختلاف الحواس في المحسوسات كإدراك البصر من بعدٍ عنه صغيراً ومن قربٍ منه كبيراً وكوجود من به حمى صفراء حلو المطاعم مراً وما يرى في الرؤيا مما لا يشك فيه رائيه أنه حق من أنه في البلاد البعيدة‏.‏

قال أبو محمد وكل هذا لا معنى له لأن الخطاب وتعاطي المعرفة إنما يكون مع أهل المعرفة وحسن العقل شاهد بالفرق بين ما يخيل إلى النائم وبين ما يدركه المستيقظ إذ ليس في الرؤيا من استعمال الجري على الحدود المستقرة في الأشياء المعروفة وكونها ابداً على صفة واحدة ما في اليقظة وكذلك يشهد الحس أيضاً بأن تبدل المحسوس عن صفته اللازمة له تحت الحس إنما هو لآفة في حس الحاس له لا في المحسوس عن صفته اللازمة له تحت الحس إنما هو لآفة في حس الحاس له لا في المحسوس جار كل ذلك على رتبة واحدة لا تتحول وهذه هي البداية والمشاهدات التي لا يجوز أن يطلب عليها برهان إذ لو طلب على كل برهان برهان لاقتضى ذلك وجود موجودات لا نهاية لها ووجود أشياء لا نهاية لها محال لا سبيل إليه على ما سنبينه إن شاء الله تعالى والذي يطلب على البرهان برهاناً فهو ناطق بالمحال لأنه لا يفعل ذلك إلا وهو مثبت لبرهان ما فإذا وقفنا عند البرهان الذي ثبت لزمه الإذعان له فإن كان لا يثبت برهاناً فلا وجه لطلبه ما لا يثبته لو وجده والقول بنفي الحقائق مكابرة للعقل والحس‏.‏

ويكفي من الرد عليهم أن يقال لهم قولكم أنه لا حقيقة للأشياء حق هو أم باطل فإن قالوا هو حق أثبتوا حقيقة ما وإن قالوا ليس هو حقاً أقروا ببطلان قولهم وكفوا خصمهم أمرهم ويقال للشكاك منهم وبالله تعالى التوفيق أشككم موجود صحيح منكم أم غير صحيح ولا موجود فإن قالوا هو موجود صحيح منا أثبتوا أيضاً حقيقة ما وإن قالوا هو غير موجود نفوا الشك وأبطلوه وفي إبطال الشك إثبات الحقائق أو القطع على إبطالها وقد قدمنا بعون الله تعالى إبطال قول من أبطلها فلم يبق إلا الإثبات‏.‏

ويقال وبالله التوفيق لمن قال هي حق عند من هي عنده حق وهي باطل عند من هي عنده باطل أن الشيء لا يكون حقاً باعتقاد من اعتقد أنه حق كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً سواءً اعتقد أنه حق أو اعتقد أنه باطل ولو كان غير هذا لكان الشيء معدوماً موجوداً في حال واحدة في ذاته وهذا عين المحال وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق فمن جملة تلك الأشياء التي تعتقد أنها حق من يعتقد أن الأشياء حق بطلان قول من قال أن الحقائق باطل وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة إذ حسه يشهد بخلافها وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المنقطعين على سبيل الشغب وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 باب الكلام على من قال بأن العالم لم يزل وأنه لا مدبر له

قال أبو محمد رضي الله عنه لا يخلو العالم من أحد وجهين إما أن يكون لم يزل أو أن يكون محدثاً لم يكن ثم كان فذهبت طائفة إلى أنه لم يزل وهم الدهرية وذهب سائر الناس إلى أنه محدث فنبتدىء بحول الله تعالى وقوته بإيراد كل حجة شغب بها القائلون بأن العالم لم يزل وتوفية اعتراضهم بها ثم نبين بحوله تعالى نقضها وفسادها فإذا بطل القول بأن العالم لم يزل وجب القول بالحدوث وصح إذ لا سبيل إلى وجه ثالث لكنا لا نقنع بذلك حتى نأتي بالبراهين الظاهرة والنتائج الموجبة والقضايا الضرورية على إثبات حدوث العالم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

فمما اعترضوا به أن قالوا لم نر شيئاً حدث إلا من شيء أو في شيء فمن ادعى غير ذلك فقد ادعى ما لا يشاهد ولم يشاهد وقالوا أيضاً لا يخلو محدث الأجسام الجواهر والأعراض وهي كل ما في العالم إن كان العالم محدثاً من أن يكون إحداثه لأنه أو إحداثه لعلة‏.‏

فإن كان لأنه فالعالم لم يزل لأن محدثه لم يزل وإذ هو علة خلقه فالعلة لا تفارق المعلول وما لم يفارق من لم يزل فهو أيضاً لم يزل إذ هو مثله بلا شك فالعالم لم يزل‏.‏

وإن كان أحدثه لعلة فتلك العلة لا تخلو من أحد وجهين إما أن تكون لم تزل وإما أن تكون محدثة فإن كانت لم تزل فمعلولها لم يزل فالعالم لم يزل وإن كانت تلك العلة محدثة لزم في حدوثها ما لزم في حدوث سائر الأشياء من أنه أحدثها لأنه أو لعلة فإن كان لعلة لزم ذلك أيضاً علة العلة وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود محدثات لا أوائل لها قالوا وهذا قولنا قالوا وإن كان أحدثها لأنه فهذا يوجب أن العلة لم تزل كما بينا آنفاً‏.‏

وقالوا أيضاً إن كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه وإما أن يكون خلافها من جميع الوجوه وإما أن يكون مثلها من بعض الوجوه وخلافها من بعض الوجوه‏.‏

قالوا فإن كان مثلها من جميع الوجوه لزم أن يكون محدثاً مثلها وهكذا في محدثة أيضاً ابداً‏.‏

وإن كان مثلها في بعض الوجوه لزمه أيضاً من مماثلتها في ذلك البعض ما يلزمه من مماثلته لها في جميع الوجوه من الحدوث إذ الحدوث اللازم للبعض كلزومه للكل ولا فرق‏.‏

وإن كان خلافها من جميع الوجوه فمحال أن يفعلها لأن هذا هو حقيقة الضد والمناقض إذ لا سبيل إلى أن يفعل الشيء خلافه من جميع الوجوه كما لا تفعل النار التبريد وقالوا أيضاً لا يخلو إن كان للعالم فاعل من أن يكون فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعاً أو لا لشيء من ذلك‏.‏

قالوا فإن كان فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فهو محل للمنافع والمضار وهذه صفة المحدثات عندكم فهو محدث مثلها‏.‏

قالوا وإن كان فعله طباعاً فالطباع موجبة لما حدث بها ففعله لم يزل معه‏.‏

قالوا وإن كان فعله لا لشيء من ذلك فهذا لا يعقل وما خرج عن المعقول فمحال وقالوا أيضاً لو كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلاً لتركها قالوا وتركها لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضاً وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض لم تزل موجودة‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه فهذه المشاغب الخمس هي كل ما عول عليه القائلون بالدهر قد تقصيناها لهم ونحن إن شاء الله نبدأ بحول الله وقوته في مناظرتهم فننقضها واحداً واحداً‏.‏

 إفساد الاعتراض الأول

قال أبو محمد رضي الله عنه يقال وبالله التوفيق والعون لمن قال لم نر شيئاً حدث إلا من شيء أو في شيء هل تدرك حقيقة شيء عندكم من غير طريق الرؤية والمشاهدة أو لا يدرك شيء من الحقائق إلا من طريق الرؤية فقط فإن قالوا إنه قد تدرك الحقائق من غير طريق الرؤية والمشاهدة تركوا استدلالهم وأفسدوه إذ قد أوجبوا وجود أشياء من غير طريق الرؤية والمشاهدة وقد نفوا ذلك قبل هذا فإذا صاروا إلى الاستدلال نوظروا في ذلك إلا أن دليلهم هذا على كل حال قد بطل بحمد الله تعالى‏.‏

فإن قالوا لا بل لا يدرك شيء إلا من طريق المشاهدة قيل لهم فهل شاهدتم شيئاً قط لم يزل فلابد من نعم أو لا فإن قالوا لا صدقوا وأبطلوا استدلالهم وإن قالوا نعم كابروا وادعوا ما لا سبيل إلى مشاهدته إذ مشاهدة قائل هذا القول للأشياء هي ذات أول بلا شك وذو الأول هو غير الذي لم يزل لأن الذي لم يزل هو الذي لا أول له ولا سبيل إلى أن يشاهد ما له أول ما لا أول له مشاهدة متصلة فبطل هذا الاستدلال على كل وجه والحمد لله رب العالمين‏.‏

 إفساد الاعتراض الثاني

قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال لا يخلو من أن يفعل لأنه أو لعلة هذه قسمة ناقصة وينقص منها القسم الثالث وهو لأنه فعل لا لأنه ولا لعلة أصلاً لكن كما شاء لأن كلا القسمين المذكورين أولاً وهما أنه فعل لأنه أو لعلة قد بطلا بما قدمنا هنالك إذ العلة توجب إما الفعل أو الترك وهو تعالى يفعل ولا يفعل فصح بذلك أنه لا علة لفعله أصلاً ولا لتركه البتة فبطل هذا الشغب والحمد لله رب العالمين‏.‏

فإن قالوا إن ترك الباري تعالى في الأزل فعل منه للترك ففعله الذي هو الترك لم يزل قلنا وبالله تعالى التوفيق إن ترك الباري تعالى الفعل ليس فعلاً أصلاً على ما نبين في فساد الاعتراض الخامس إن شاء الله تعالى‏.‏

 إفساد الاعتراض الثالث

قال أبو محمد رضي الله عنه يقال لمن قال لو كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه أو من بعض الوجوه لا من كلها أو خلافها من جميع الوجوه إلى انقضاء كلامهم بل هو تعالى خلافها من جميع الوجوه وإدخالكم على هذا الوجه أنه حقيقة الضد والنقيض والضد لا يفعل ضده كما لا تفعل النار التبريد إدخال فاسد لأن الباري تعالى لا يوصف بأنه ضد لخلقه لأن الضد هو ما حمل حمل التضاد والتضاد هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس واحد فإذا وقع أحد الضدين ارتفع الآخر وهذا الوصف بعيد عن الباري تعالى وإنما التضاد كالخضرة والبياض اللذين يجمعهما اللون أو الفضيلة والرذيلة اللتين يجمعهما الكيفية والخلق ولا يكون الضدان إلا عرضين تحت جنس واحد ولابد وكل هذا منفي عن الخالق عز وجل فبطل بالضرورة أن يكون عز وجل ضداً لخلقه‏.‏

وأيضاً فإن قولهم لو كان خلافاً لخلقه من جميع الوجوه لكان ضداً لهم فاسد إذ ليس كل خلاف ضداً فالجوهر خلاف العرض من كل وجه حاشا الحدوث فقط وليس ضداً له ويقال أيضاً لمن قال هذا القول هل تثبت فاعلاً وفعلاً على وجه من الوجوه أو تنفي أن يوجد فاعل وفعل البتة فإن نفي الفاعل والفعل البتة كابر العيان لإنكاره الماشي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن ومن دفع بهذا كان في نصاب من لا يكلم وإن أثبت الفعل والفاعل فيما بينا قيل له هل يفعل الجسم إلا الحركة والسكون فلابد من نعم والحركة والسكون خلاف الجسم وليسا ضداً له إذ ليسا معه تحت جنس واحد أصلاً وإنما يجمعها وإياه الحدوث فقط فلو كان كل خلاف ضداً لكان الجسم فاعلاً لضده وهو الحركة أو السكون وهذا هو نفس ما أبطلوا فصح بالضرورة أنه ليس كل خلاف ضداً وصح أن الفاعل يفعل خلافه ولابد من ذلك فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين‏.‏

 إفساد الاعتراض الرابع

قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال لا يخلو من أن يكون محدث الأجسام أحدثها لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعاً أو لا لشيءٍ من ذلك إلى انقضاء كلامهم‏.‏

أما الفعل لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فإنما يوصف به المخلوقون المختارون‏.‏

وأما فعل الطباع فإنما يوصف به المخلوقون غير المختارين وكل صفات المخلوقين فهي منفية عن الله تعالى الذي هو الخالق لكل ما دونه‏.‏

وأما القسم الثاني وهو أنه فعل لا لشيءٍ من ذلك فهذا هو قولنا ثم نقول لمن قال إن الفعل لا لشيءٍ من ذلك أمر غير معقول ماذا تعني بقولك غير معقول أتريد أنه لا يعقل حساً أو مشاهدة أم تقول أنه لا يعقل استدلالاً فإن قلت إنه لا يعقل حساً ومشاهدة قلنا لك صدقت كما أن أزلية الأشياء لا تعقل حساً ومشاهدة وإن قلت إنه لا يعقل استدلالاً كان ذلك دعوى منك مفتقرة إلى دليل والدعوى إذا كانت هكذا فهي ساقطة فالاستدلال بها ساقط فكيف والفعل لا لشيءٍ من ذلك متوهم ممكن غير داخل في الممتنع وما كان هكذا فالمانع منه مبطل والقول به يعقل فسقط هذا الاعتراض ثم نقول لما كان الباري تعالى بالبراهين الضرورية خلافاً لجميع خلقه من جميع الوجوه كان فعله خلافاً لجميع أفعال خلقه من جميع الوجوه وجميع خلقه لا تفعل إلا طباعاً أو لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة فوجب أن يكون فعله تعالى بخلاف ذلك وبالله التوفيق‏.‏

 إفساد الاعتراض الخامس

قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال إن ترك الفاعل أن يفعل الأجسام لا يخلو أن يكون جسماً أو عرضاً إلى منتهى كلامهم إن هذه قسمة فاسدة بينة العوار وذلك أن الجسم هو الطويل العريض العميق وترك الفعل ليس طويلاً ولا عريضاً ولا عميقاً فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسماً والعرض هو المحمول في الجسم وترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس محمولاً فليس عرضاً فترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس هو جسماً ولا عرضاً وإنما هو عدم والعدم ليس معنى ولا هو شيئاً وترك الله تعالى للفعل ليس فعلاً البتة بخلاف صفة خلقه لأن الترك من المخلوق للفعل فعل برهان ذلك إن ترك المخلوق للفعل لا يكون إلا بفعل آخر منه ضرورة كتارك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون وتارك الأكل لا يكون إلا باستعمال آلات الأكل في مقاربة بعضها بعضاً أو في مباعدة بعضها بعضاً وبتعويض الهواء وغيره من الشيء المأكول وكتارك القيام لا يكون إلا باشتغاله بفعل آخر من قعود أو غيره فصح أن فعل الباري تعالى بخلاف فعل خلقه وإن تركه للفعل ليس فعلاً أصلاً فبطل استدلالهم وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه فإذ قد بطل جميع ما تعلقوا به ولم يبق لهم شغب أصلاً بعون الله وتأييده فنحن مبتدئون بتأييده عز وجل في إيراد البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم بعد أن لم يكن وتحقيق أن له محدثاً لم يزل لا إله إلا هو‏.‏

برهان أول

قال أبو محمد رضي الله عنه فنقول وبالله التوفيق إن كل شخص في العالم وكل عرض في شخص وكل زمان فكل ذلك متناه ذو أول نشاهد ذلك حساً وعياناً لأن تناهي الشخص ظاهر بمساحته بأول جرمه وآخره وأيضاً بزمان وجوده وتناهي العرض المحمول ظاهر بين بتناهي الشخص الحامل له وتناهي الزمان موجود باستئناف ما يأتي منه بعد الماضي وفناء كل وقت بعد وجوده واستئناف آخر يأتي بعده إذ كل زمان فنهايته الآن وهو حد الزمانين فهو نهاية الماضي وما بعده ابتداء للمستقبل وهكذا أبداً يفنى زمان ويبتدىء آخر وكل جملة من جمل الزمان فهي مركبة من أزمنة متناهية ذات أوائل كما قدمنا وكل جملة أشخاص فهي مركبة من أجزاءٍ متناهية بعددها وذوات أوائل كما قدمنا وكل مركب من أجزاءٍ متناهية ذات أوائل فليس هو شيئاً غير أجزائه إذ الكل ليس هو شيئاً غير الأجزاء التي ينحل إليها وأجزاؤه متناهية كما بينا ذات أوائل فالجمل كلها بلا شك متناهية ذات أوائل والعالم كله إنما هو أشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولاتها ليس العالم كله شيئاً غير ما ذكرنا وأشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولاتها ذوات أوائل كما ذكرنا فالعالم كله متناه ذو أول ولا بد فغن كانت أجزاؤه كلها متناهية ذات أو بالمشاهدة والحس وكان هو غير ذي أول وقد أثبتنا بالضرورة والعقل والحس أنه ليس هو شيئاً غير أجزائه فهو ذو أول لا ذو أول وهذا عين المحال ويجب من ذلك أيضاً أن لأجزائه أوائل محسوسة وأجزاؤه ليست غيره وهو غير ذي أول فأجزاؤه إذن لها أول ليس لها أول وهذا محال وتخليط فصح بالضرورة أن للعالم أولاً إذ كل أجزائه لها أول وليس هو شيئاً غير أجزائه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

برهان ثان

قال أبو محمد رضي الله عنه فنقول كل موجود بالفعل فقد حصره العدد وأحصته طبيعته ومعنى الطبيعة وحدها هو أن تقول الطبيعة هي القوة التي في الشيء فتجري بها كيفيات ذلك الشيء على ما هي عليه وإن أوجزت قلت هي قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه وحصر العدد وإحصاء الطبيعة نهاية صحيحة إذ ما لا نهاية له فلا إحصاء له ولا حصر له إذ ليس معنى الحصر والإحصاء إلا ضم ما بين طرفي المحصي المحصور والعالم موجود بالفعل وكل محصور بالعدد محصي بالطبيعة فهو ذو نهاية فالعالم كله ذو نهاية وسواء في ذلك ما وجد في مدة واحدة أو مدد كثيرة إذ ليست تلك المدد إلا مدة محصاة إلى جنب مدة محصاة فهي مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أشياء فهو تلك الأشثياء التي ركب منها فهي كلها مدد محصاة كما قدمنا في الدليل الأول فصح من كل ذلك أن ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده بالفعل وما لم يوجد إلا بعد ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده أبداً لأن وقوع البعدية فيه هو وجود نهاية له وما لا نهاية له فلا بعد له فعلى هذا لا يوجد شيءٌ بعد شيءٍ أبد الأبد والأشياء كلها موجودة بعضها بعد بعض فالأشياء كلها ذات نهاية وهذان الدليلان قد نبه الله تعالى عليهما وحصرهما بحجته البالغة إذ يقول وكل شيءٍ عنده بمقدار‏.‏

برهان ثالث

قال أبو محمد رضي الله عنه ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه إذ معنى الزيادة إنما هو أن تضيف إلى ذي النهاية شيئاً من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته فإن كان الزمان لا أول له يكون به متناهياً في عدده الآن فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئاً وفي شهادة الحس أن كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى زماننا هذا الذي هو وقت ولاية هشام المعتمد بالله هو أكثر من كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن هذا صحيحاً فيجب إذن أنه إذا دار زحل دورة واحدة في كل ثلاثين سنة وزحل لم يزل يدور دار الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة إحدى عشرة ألف دورة غيرة خمسين دورة والفلك لم يزل يدور وإحدى عشرة ألف غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك فإذن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له بنحو إحدى عشرة ألف مرة وهذا محال لما قدمنا ولأن ما لا نهاية له فلا يمكن البتة أن يكون عدد أكثر منه بوجه من الوجوه فوجبت في الزمان من قبل ابتدائه ضرورة ولا مخلص منها‏.‏

ويجب أيضاً من ذلك أن الحس يوجب ضرورة أن أشخاص الإنس مضافة إلى أشخاص الخيل أكثر من أشخاص الإنس مفردة عن أشخاص الخيل ولو كانت الأشخاص لا نهاية لها لوجب أن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له وهذا محال ممتنع لا يتشكل في العقل ولا يمكن وأيضاً فلا شك في أن الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة جزء للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا وبلا شك أيضاً في أن الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كل للزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ولما بعده إلى وقتنا أفلا يخلو الحكم في هذه القضية من أحد ثلاثة أوج لا رابع لها أما أن يكون الزمان مذ كان موجوداً إلى وقتنا هذا أكثر من الزمان مذ كان إلى عصر الهجرة فالكل أقل من الجزء والجزء أكثر من الكل وهذا هو الاختلاط وعين المحال إذ لا يخيل على أحد أن الكل أكثر من الجزء وهذا ما لا شك فيه ببديهة العقل وضرورة الحس وإن كان مساوياً له فالكل مساو للجزء وهذا عين المحال والتخليط وإن كان أكثر منه وهذا هو الذي لا شك فيه فالزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ذو نهاية ومعنى الجزء إنما هو إبعاض الشيء ومعنى الكل إنما هو جملة تلك الأبعاض فالكل والجزء واقعان في كل ذي أبعاض والعالم ذو أبعاض هكذا توجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها فالعالم كل لإبعاضه وإبعاضه أجزاء له والنهاية كما قدمنا لازمة لكل ذي كل وذي أجزاء والزمان إنما هو مدة بقاء الجرم ساكناً أو متحركاً ولو فارقه لم يكن الجرم موجوداً ولا كان الزمان أيضاً موجوداً والجزء والزمان موجودان فكلاهما لم يفارق صاحبه والزمان ذو أول والجرم ذو أول وهذا مما لا انفكاك له البتة وأما ما لم يأت بعد من زمان أو شخص أو عرض فليس كل ذلك شيئاً فلا يقع على شيء من ذلك عدد ولا نهاية ولا يوصف بشيء أصلاً لأنه لا وجود له بعد فإذا وجد لزمه حينئذ مالزم سائر ما قد وجد من أجناسه وأنواعه من النهاية والعدد وغير ذلك من الصفات‏.‏

وأيضاً فلا شك في أن ما وقع من الزمان ووجد من الزماان إلى يومنا هذا مساو لما من يومنا هذا إلى ما وقع من الزمان معكوساً وواجب فيه الزيادة بما يأتي من الزمان والمساوى لا يقع إلا في ذي نهاية فالزمان متناه ضرورة وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني في هذا البرهان فأراد أن يعكسه علي في بقاء الباري عز وجل ووجودنا إياه فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط لأن الباري تعالى ليس في زمان ولا له مدة لأن الزمان إنما هو حركة كل ذي الزمان وانتقاله من مكان إلى مكان أو مدة بقائه ساكناً في مكان واحد والباري تعالى ليس متحركاً ولا ساكناً ولاشك أنه ليس في زمان ولا له مدة ولا هو في مكان أصلاً وليس هو جرماً ولا جوهراً ولا عرضاً ولا عدداً ولا جنساً ولا نوعاً ولا فصلاً ولا متحركاً ولا ساكناً وإنما هو تعالى حق في ذاته وجود مطلق بمعنى أنه معلوم لا إله غيره واحد لا واحد في العالم سواه مخترع للموجودات كلها دونه لا يشبه شيئاً من خلقه بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه وقد نبه الله على هذا الدليل وحصره في قوله تعالى‏.‏

يزيد في الخلق ما يشاء‏.‏

برهان رابع

قال أبو محمد رضي الله عنه إن كان العالم لا أول له ولا نهاية له فالإحصاء منا له بالعدد والطبيعة إلى ما لا نهاية له من أوائل العالم الماضية محال لا سبيل إليه إذ لو أحصى ذلك كله لكان له نهاية ضرورة فإذا لا سبيل إليه فكذلك أيضاً هو محال أن تكون الطبيعة والعدد أحصيا ما لا نهاية له من أوائل العالم الخالية حتى يبلغا إلينا وإذا كان ذلك محالاً فالعدد والطبيعة إذاً لم يبلغا إلينا وقد تيقنا وقوع العدد والطبيعة في كل ما خلا من العالم حتى بلغا إلينا بلا شك فإذاً قد أحصى العدد والطبيعة كل ما خلا من أوائل العالم إلى أن بلغا إلينا فكذلك الإحصاء منا إلى أولية العالم صحيح موجود ضرورة بلا شك وإذ ذلك كذلك فللعالم أول ضرورة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

برهان خامس

قال أبو محمد لا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد أول ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان وهكذا أبداً ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن ثان ولو لم يكن ثان لم يكن ثالث ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود وفي وجودنا جميع الأشياء التي في العالم معدودة إيجاب أنها ثالث بعد ثان وثان بعد أول وفي صحة هذا وجوب أول ضرورة وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل وعلى الذي قبله وحصرهما في قوله تعالى وأحصى كل شيء عدداً وأيضاً فالآخر والأول من باب المضاف فالآخر آخر للأول والأول أول للآخر ولو لم يكن أول لم يكن آخر ويومنا هذا بما فيه آخر لكل موجود قبله إذ ما لم يأت بعد فليس شيئاً ولا وقع عليه بعد شيء من الأوصاف فله أول ضرورة‏.‏

قال أبو محمد وقد أخبرني بعض أصدقائنا وهو محمد بن عبد الرحمن بن عقبة رحمه الله تعالى أنه عارض بهذا البرهان بعض الملحدين وهو عبد الله بن عبد الله بن شنيف فعارضه الملحد في قوله بخلود الجنة والنار وأهلهما فقال له ابن عقبة إنما أخذنا خلود داري الجزاء وخلود أهلهما بلا نهاية على غير هذا الوجه لكن على أن الله تعالى ينشىء لكل ذلك بقاء محدوداً وحركات حادثة ولذات مترادفة أبداً وقتاً بعد وقت إلا أن الأول والآخر جاريان حادثان في كل موجود من ذلك وإذا ثبت الأول فغير ممتنع تمادي الزمان حيناً بعد حين أبداً بلا نهاية وهذا مثل العدد فإنه لو لم يكن له أول لم يقدر أحد على عد أي شيء أبداً فالعدد له أول ضرورة يعرف ذلك بالحس والمشاهدة وهو قولنا واحد فإن هذا مبدأ العدد الذي لا عدد قبله ثم الأعداد يمكن فيها لزيادة أبداً لا بد لا إلى غاية لكن كلما خرج منه جزء إلى حد الوجود وحد الفعل فله نهاية وهكذا أبداً سرمداً وبالله تعالى التوفيق فانقطع الشنيفي ولم يكن عنده إلا الشغب‏.‏

قال أبو محمد وقد قال بعض اهل الإلحاد في هذه البراهين التي أوجبنا بها استحالة وجود موجودات لا أوائل لها أتقولون أن الله تعالى يوف أهل الجنة ما وعدهم من النعيم الذي لا آخر له ولا نهاية أم لا يوفيهم ما وعدهم من ذلك‏.‏

فإن قلتم أنه تعالى يوفيهم إياه دخل عليكم كل ما أدخلتموه علينا في هذه البراهين ولا فرق‏.‏

وإن قلتم أنه تعالى لا يوفيهم ذلك ألزمتموه خلف الوعد وهو كفر عندكم‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه هذه شغيبة قد طال ما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق وهي منفسخة من وجهين أحدها أن تعلق المرء بما يقول خصمه ضعف وإنما يلزم المرء أن يخلص قوله مجرداً ولا أسوة له في تناقض خصمه بل لعل خصمه لا يقول ذلك الثاني إن المسؤل بها إن كان جهمياً سقط عنه هذا السؤال المذكور‏.‏

وأما نحن فعلينا بحول الله تعالى بيان فساد هذا الاعتراض وتمويهه فنقول وبالله التوفيق إن من شغب أهل السفسطة إدخال كلمة لا يوبه لها يجعلونها مقدمة وهي كذب فيموهون بها على الجهال وما يبنون عليها وهذا الاعتراض من هذا الباب وذلك أنهم أرادوا إلزامنا بأن الله عز وجل وعد أهل الجنة أن يوفيهم نعيماً لا نهاية له وهذا خطأ وكذب وما وعدهم الله عز وجل قط بأن يوفيهم نعيماً لا نهاية له وهذا خطأ وكذب وما وعدهم الله عز وجل قط بأن يوفيهم ذلك النعيم ولو وعدهم بذلك لكان ذلك النعيم إذا استوفي بطل وفني وانقضى وإنما وعدهم تعالى بنعيم لا نهاية له وكل ما ظهر ووجد من ذلك النعيم فهو محصور ذو نهاية وما لم يخرج إلى حد الفعل فهو عدمٌ يعد ولا يقع عليه عدد ولا صفة وهكذا أبداً فقد ظهر أن لفظة يوفيهم هي الشغيبة الفاسدة التي موهوا بها فإذا أسقطها المعترض من كلامه سقط اعتراضه جملة وصحت القضية وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إن الله تعالى يقول وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص قلنا هذا لا يخلوا من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون أراد بذلك نصيبهم من الجزاء أو يكون أراد نصيبهم من مساحة الجنة‏.‏

فإن كان عنى عز وجل بذلك نصيبهم من الجزاء بالعقاب والنعيم فهو صحيح لأن كل ما خرج من ذلك إلى حد الوجود فهو مستوفى بيقين وهكذا أبداً وإن كان تعالى عنى بذلك نصيب كل واحد من الجنة والنار فهذا صحيح لأن كل مكان منها متناه من جهة المساحة وإنما نفينا التوفية التي توجب الانقضاء بلا زيادة فيها وقد قال عز وجل فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وقال تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وهاتان الآيتان تبينان أن الأجر المستوفي هو ما يعطونه من مساحة الجنة وكل ما خرج إلى الوجود من النعيم لا يزال تعالى يزيدهم من فضلهه كما قال تعالى بغير حساب فهذا لا يستوفي أبداً لأنه لا نهاية له ولا كل ولو استوفي لم يمكن أن تكون فيه زيادة إذ بالضرورة يعلم أن ما استوفى فلا زيادة فيه وما تمكن الزيادة فيه فلم يستوف بعد والله تعالى قد نص على أن بعد تلك التوفية زيادة فصح أنها توفية لشيء محدود متناه وأن ما لا نهاية له فلا يستوفى أبداً فقد ثبت بكل ما ذكرنا أن العالم ذو أول‏.‏

وإذا كان ذو أول فلا بد ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وإما أن يكون حدث بغير أن يحدثه غيره وبغير أن يحدث هو نفسه وإما أن يكون أحدثه غيره فإن كان هو أحدث ذاته فلا يخلو من أحد أربعة أوجه لا خامس لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وهو معدوم وهي موجودة أو أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة أو أحدثها وكلاهما موجود أو أحدثها وكلاهما معدوم وكل هذه الأربعة الأوجه محال ممتنع لا سبيل إلى شيء منها لأن الشيء وذاته هي وهو هي وكل ما ذكرنا من الوجوه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته وهذا محال وباطل بالمشاهدة والحس فهذا وجه قد بطل ثم نقول وإن كان خرج عن العدم إلى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته أو يخرجه غيره فهو أيضاً محال لأنه لا حال أولى بخروجه إلى الوجود من حال أخرى ولا حال أصلاً هنالك فإذاً لا سبيل إلى خروجه وخروجه مشاهد متيقن فحال الخروج غير حال اللا خروج وحال الخروج هي علة كونه وهذا لازم في تلك الحال أعني إن حال الخروج يلزم في حدوثها مثل ما لزم في حدوث العالم من أن تكون أخرجت أنفسها أو أخرجها غيرها أو أخرجت بغير هذين الوجهين وهكذا في كل حال فإن تمادي الكلام وجب بما قدمناه إلا نهاية واللا نهاية في العالم من مبدأه باطل ممتنع محال فإذاً قد بطل أن يخرج العالم بنفسه وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره فقد ثبت‏.‏

الوجه الثالث ضرورة إذ لم يبق غيره البتة فلابد من صحته وهو أن العالم أخرجه غيره من العدم إلى الوجود وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن الفلك بكل ما فيه ذو آثار محمولة فيه من نقلة زمانية وحركة دورية في كون كل جزء من أجزائه في مكان الذي يليه والأثر مع المؤثر من باب المضاف فإن لم يكن أثرٌ لم يكن مؤثرٌ وإن لم يكن مؤثرٌ أثرها ولا سبيل إلى أن يكون الفلك أو شيء مما فيه هو المؤثر لأنه يصير هو المؤثر والمؤثر فيه مع أن المؤثر والأثر من باب المضاف أيضاً ومعنى قولنا إن المؤثر والأثر والمؤثر فيه من باب المضاف إنما هو أن الأثر والمؤثر فيه يقتضيان مؤثراً ولابد ولم يرد أن الباري تعالى يقع تحت الإضافة فلابد ضرورة من مرثر ليس مؤثراً فيه وليس هو شيئاً مما في العلام فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى فصح بهذا أن العالم كله محدث وإن له محدثاً هو غيره هذا إلى ما نراه ويشاهد بالحواس من آثار الصنعة التي لا يشكل فيها ذو عقل‏.‏

ومن بعض ذلك تراكيب الأفلاك وتداخلها ودوام دورانها على اختلاف مراكزها ثم أفلاك تداويرها والبون بين حركة أفلاك التداوير والأفلاك الحاملة لها ودوران الأفلاك كلها من غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب وإدارته لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك فحدث من ذلك حركتان متعارضتان في حركة واحدة فبالضرورة نعلم أن لها محركاً على هذه الوجوه المختلفة‏.‏

ثم تراكيب أعضاء الإنسان والحيوان من إدخال العظام المحدبة في المقعرة وتركيب العضل على تلك المداخل والشد على ذلك بالعصب والعروق صناعة ظاهرة لاشك فيها لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط‏.‏

ومن ذلك ما يظهر في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ووبره وشعره وظفره وقشره على رتبة واحدة ووضع واحد لا تخالف فيه كإصباغ الحجل والشفانين اليمام والسمان والبزاة وكثير من الطير والسلاحف والحشرات والسمك لا يختلف تنقيطه البتة ولا تكون أصباغه موضوعة إلا وضعاً واحداً كأذناب الطواويس وفي السمك والجراد والحشرات نوعاً واحداً كالذي يصوره المصور بيننا‏.‏

منها ما يأتي مختلفاً كأصباغ الدجاج والحمام والبط وكثير من الحيوان فبالضرورة والحس نعلم أن لذلك صانعاً مختاراً يفعل ذلك كله كما شاء ويحصيه إحصاء لا يضطرب أبداً عما شاء من ذلك وليس يمكن البتة في حس العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطاً لا تفاوت فيه من فعل طبيعة ولابد لها من صانع قاصد إلى صنعة كل ذلك ومن دري ما الطبيعة علم أنها قوة موضوعة في الشيء تجري بها صفاته على ما هي عليه فقط وبالضرورة يعلم أن لها واضعاً ومرتباً وصانعاً لأنها لا تقوم بنفسها وإنما هي محمولة على ذي الطبيعة‏.‏

ومنها ما نرى في ليف النخل والدوم من النسج المصنوع يقيناً بنيرين وسدى كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط يقيناً بنيرين وسدى كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط وليس هذا البتة من فعل طبيعة ولا بنسج ناسج ولا بناء ولا صانع أصباغ مرتبة بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة لكنه قادر على ما يشاء هذا أمر معلوم بضرورة العقل وأوله يقيناً كما نعلم أن الثلاثة أكثر من الاثنين فصح أنه خالق أول واحد حق لا يشبه شيئاً من خلقه البتة لا إله إلا هو الواحد الأول الخالق عز وجل .

باب الكلام على من قال أن العالم لم يزل وله مع ذلك فاعل لم يزل

قال أبو محمد رضي الله عنه قد أفسدنا بحول الله وقوته بالبراهين التي قدمنا هذه المقالة ولكن بقي لهم اعتراض وجب إيراده تقصياً لكل ما موهوا به قال أبو محمد رضي الله عنه اعتمد أهل هذه المقالة على أن قالوا إن علة فعل الباري تعالى إنما هو جوده وحكمته وقدرته وهو تعالى لم يزل جواداً حكيماً قادراً فالعالم لم يزل إذ علته لم تزل فهذا فاسد البتة بالدلالة التي قدمنا التي تضطر إلى المعرفة والتيقن بحدوث العالم ثم نقول أنه إنما يلزم هذا من أقر بهذه المقدمة أعني أن للعالم علة وأما نحن فإنا نقول أنه لا علة لتكوين الله عز وجل كل ما كونه وأنه لا شيء غير الخالق وخلقه ثم نقول على علم هؤلاء قولاً كافياً إن شاء الله تعالى وهو أن المفعول هو المنتقل من العدم إلى الوجود بمعنى من ليس إلى شيء فهذا هو المحدث ومعنى المحدث هو ما لم يكن ثم كان وهم يقولون أنه الذي لم يزل وهذا هو خلاف المعقول لأن الذي لم يكن ثم كان هو غير الذي لم يزل فالعالم إذاً هو غير نفسه وهذا عين المحال وبالله تعالى التوفيق فإن قال لنا قائل لما كان الباري تعالى غير فاعل على قولكم ثم صار فاعلاً فقد لحقته استحالة وتعالى الله عن ذلك قلنا له وبالله التوفيق هذا السؤال راجع عليكم إذ صححتموه فهو لكم لازم لا لنا إذ لم نصححه وذلك أنه إن كان عندكم الفعل منه بعد أن كان غير فاعل يوجب الاستحالة على الفاعل تعالى فإن فعله لما أحدث من الإعراض عندكم بعد أن كان غير محدث لها وإعدامه ما أعدم منها بعد أن كان غير معدم لها موجب عليه الاستحالة فأجيبوا عن سؤالكم الذي صححتموه ولا جواب لكم إلا بإفساده‏.‏

وأما نحن فنقول إن الاستحالة ليست ما ذكرتم وإنما معنى الاستحالة أنه حدوث شيء في المستحيل لم يكن فيه قبل ذلك صار به مستحيلاً عن صفته المحمولة عليه إلى غيرها وهذا المعنى منفي عن الله تعالى أي أنه تعالى يجل عن أن يكون حاملاً لصفة عليه بل بذاته لم يفعل إن كان غير فاعل وبذاته فعل إن فعل ولا علة لما فعل ولا علة لما لم يفعل وأيضاً فإن الذي لم يزل هو الذي لا فاعل له ولا مخرج له من عدم إلى وجود فلو كان العالم لم يزل لكان لا محرج له ولا فاعل له وقد أقر أهل هذه المقالة بأن العالم لم يزل وإن له فاعلاً لم يزل يفعل وهذا عين المحال والتخليط والفساد وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 باب الكلام على من قال أن للعالم خالقاً لم يزل

وأن النفس والمكان المطلق هو الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل موجودة وأنها غير محدثة

قال أبو محمد رضي الله عنه النفس عند هؤلاء جوهر قائم بنفسه حامل لأعراضه لا متحرك ولا منقسم ولا متمكن أي لا في مكان‏.‏

وقد ناظرني قوم من أهل الرأي ورأيته كالغالب على ملحدي أهل زماننا فألزمتهم إلزامات لم ينفكوا منها أظهرت بطلان قولهم بعون الله تعالى وقوته‏.‏

ولم نر أحداً ممن تكلم قبلنا ذكر هذه الفرقة فجمعت ما ناظرتهم به وأضفت إليه ما وجبت إضافته إليه مما فيه تزييف قولهم وما توفيقنا إلا بالله وهذا الزمان والمكان عندهم هما غير المكان المعهود عندنا وغير الزمان المعهود عندنا‏.‏

لأن المكان المعهود عندنا هو المحيط بالمتمكن فيه من جهاته أو من بعضها وهو ينقسم قسمين إما مكان يتشكل المتمكن فيه بشكله كالبر أو الماء في الخابية وما أشبه ذلك وإما مكان يتشكل هو بشكل المتمكن فيه كالماء لما حل فيه من الأجسام وما أشبهه‏.‏

والزمان المعهود عندنا هو مدة وجود الجرم ساكناً أو متحركاً أو مدة وجود العرض في الجسم ويعمه أن نقول هو مدة وجود الفلك وما فيه من الحوامل والمحمولات‏.‏

وهم يقولون أن الزمان المطلق والمكان المطلق هما غير ما حددنا آنفاً من الزمان والمكان ويقولون أنهما شيئان متغايران ولقد كان يكفي من بطلان قولهم إقرارهم بمكان غير ما يعهد وزمان غير ما يعهد بلا دليل على ذلك ولكن لابد من إيراد البراهين على إبطال دعواهم في ذلك بحول الله وقوته فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن هذا الخلاء الذي أثبتم وقلتم أنه كان موجوداً قبل حدوث الفلك وما فيه هل بطل بحدوث الفلك ما كان منه في مكان الفلك قبل أن يحدث الفلك أو لم يبطل‏.‏

فإن قالوا لم يبطل وبذلك أجابني بعضهم فيقال لهم فإن كان لم يبطل فهو انتقل عن ذلك المكان بحدوث الفلك في ذلك المكان أو لم ينتقل فإن قالوا لم ينتقل وهو قولهم قيل لهم فإذ لم يبطل ولا انتقل فأين حدث الفلك وقد كان في موضعه قبل حدوثه عندكم معنى ثابت قائم بنفسه موجود وهل حدث الفلك في ذلك المكان المطلق الذي هو الخلاء أم في غيره فإن كان حدث في غيره فههنا إذاً مكان آخر غير الذي سميتموه خلاء وهو إما مع الذي ذكرتم في حيز واحد أم هو في حيز آخر فإن كان معه في حيز واحد فالفلك فيه حدث ضرورة وقد قلتم أنه لم يحدث فيه فهو إذاً حادث فيه غير حادث فيه وهذا تناقض ومحال‏.‏

وإن كان في حيز آخر فقد أثبتم النهاية للخلاء إذ الحيز الآخر الذي حدث فيه الفلك ليس هو في ذلك الخلاء وهذا ينطوي فيه بالضرورة نهاية الخلاء الذي ذكرتم فهو متناهٍ لا متناهٍ وهذا تناقض وتخليط وإذا بطل أن يكون غير متناهٍ وثبت أنه متناه فهو المكان المعهود المضاف إلى المتمكن فيه وهذا هو المكان الذي لا يعرف ذو عقل سواه‏.‏

وإن كان الفلك حدث فيه والفلك ملاء بلا شك ولم ينتقل الخلاء عندكم ولا بطل فالفلك إذاً خلاءٌ وملاءٌ معاً في مكان واحد وهذا محال وتخليط‏.‏

فإن قالوا بطل بحدوث الفلك ما كان منه في موضع الفلك قبل حدوث الفلك أو قالوا انتقل فقد أوجبوا له النهاية ضرورة إما من طريق الوجود بالبطلان إذ لا يفسد ويبطل إلا ما كان حادثاً لا ما لم يزل وإما من طريق المساحة بالنقلة إذ لو لم يجد أين ينتقل لم تكن له نقلة إذ معنى النقلة إنما هو تصيير الجرم إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك أو إلى صفة لم يكن عليها قبل ذلك ووجوده مكاناً ينتقل غليه موجب أنه لم يكن في ذلك المكان الذي انتقل إليه قبل انتقاله إليه وهذا هو إثبات النهاية ضرورة فهذا هو الذي أبطلوا‏.‏

ويلزمهم في ذلك أيضاً أن يكون متحيزاً ضرورة لأن الذي بطل منه هو غير الذي لم يبطل والذي انتقل هو غير الذي لم ينتقل وهو إذا كان ذلك فإما هو جسم ذو أجزاء وإما هو محمول في جسم فهو ينقسم بانقسام الجسم وقد أثبتنا النهاية للجسم في غير هذا المكان من كتابنا هذا بما فيه البيان الضروري والحمد لله رب العالمين وأيضاً فإن كان لم يبطل فالذي كان منه في موضع الفلك ثم لم يبطل ولا انتقل لحدوث الفلك فيه فهو والفلك إذاً موجودان في حيز واحد معاً فهو إذاً ليس مكاناً للفلك لأن المكان لا يكون مع المتمكن فيه في مكان واحد وهذا يعرف بأولية العقل ولو كان ذلك لكان المكان مكاناً لنفسه ولما كان واحد منهما أولى بأن يكون مكاناً للآخر من الآخر بذلك ولا كان أحدهما أولى أيضاً بأن يكون متمكناً في الآخر من الآخر فيه وكل هذا فاسد ومحال بالضرورة وأيضاً فإن الخلاء عندهم مكان لا متمكن فيه والفلك عندهم موجود في الخلاء إذ لا نهاية للبخلاء عندهم من طريق المساحة فإذا كان الفلك متمكناً في الخلاء عندهم والخلاء عندهم مكان لا متمكن فيه فالخلاء إذاً مكان فيه متمكن ليس فيه متمكن وهذا محال وتخليط وهذا بعينه لازم في قولهم إن ذلك الجزء من الخلاء لم ينتقل لحدوث الفلك فيه‏.‏

فإن قالوا انتقل فإنما صار إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك خلاء ولا ملاء فقد ثبت عدم الخلاء والملاء فيما فوق الفلك ضرورة وهذا خلاف قولهم‏.‏

وإن قالوا بطل لزمهم أيضاً أنه قد عدته المدد ضرورة فإذا عدته المدد فقد تناهى من أوله بالمبدأ ضرورة فإن قالوا بل لم يحدث الفلك في شيء من ذلك المكان الذي هو الخلاء فقد أثبتوا حيزاً آخر ومكاناً للفلك غير الخلاء الشامل عندهم وإذا كان ذلك فقد تناهى كلا المكانين من جهة تلاقيهما ضرورة وإذا تناهيا من جهة تلاقيهما لزمتهما المساحة ووجب تناهيهما التناهي ذرعهما ضرورة ويسألون أيضاً عن هذا الخلاء الذي هو عندهم مكان لا متمكن فيه هل له مبدأ متصل بصفحات الفلك الأعلى أم لا مبدأ له من هنالك ولابد من أحد الأمرين ضرورة فإن قالوا لا مبدأ له وهو قولهم قيل لهم إن قول القائل مكان إنما يفهم منه ما يتمثل في النفس من المقصود بهذه اللفظة وموضعها في اللغة لتكون عبارة للتفاهم عن المراد بها أنها ساحة ولابد للساحة من الذرع ضرورة ولابد للذرع من مبدأ لأنه كمية والكمية أعداد مركبة من الآحاد فإن لم يكن له مبدأ من واحد اثنين ثلاثة لم يكن عدد وإذا لم يكن عدد لم يكن ذرع أصلاً وإذا لم يكن ذرع لم تكن مساحة ولا انفساح ولا مسافة وكل هذه ألفاظ واقعة إما على ذرع المذروع وإما على مذروع بالذرع ضرورة‏.‏

فإن قالوا له مبدأ من هنالك وجبت له النهاية ضرورة لحصر العدد لمساحته بوجود المبدأ له ويسألون أيضاً أمماس هذا الفلك أم غير مماس وبائن عنه أم غير بائن فإن قالوا لا مماس ولا بائن فهذا أمر لا يعقل بالحس ولا يتشكل في النفس ولا يقوم على صحته برهان أبداً إلا في الأعراض المحمولة في الأجسام وهم لا يقولون أن الخلاء عرض محمول في جسم وكل دعوى لم يقم عليها دليل فهي باطلة مردودة وإن أثبتوا المماسة أو المباينة وجب عليهم ضرورة إثبات النهاية له كما لزم بإثبات المبدأ إذ النهاية منطوية في ذكر المبدأ والمماسة والمباينة ضرورة لاشك فيها وبالله التوفيق ويسألون أيضاً عن هذا الخلاء الذي يذكرون والزمان الذي يثبتون أمحمولان هما أم حاملان أم أحدهما محمول والثاني حامل أم كلاهما لا حامل ولا محمول فأيهما أجابوا فيه فإنه حامل بلا شك في أن محموله غيره إذ لا يكون الشيء حاملاً لنفسه فله إذاً محمول لم يزل وهو غير الزمان فإن قالوا ذلك كلموا بما قدمنا قبل على أهل الدهر القائلين بأزلية العالم‏.‏

وأيضاً فإن كان المكان حاملاً فلا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون حاملاً لجرم متمكن فيه وهذا يوجب النهاية له لوجوب نهاية الجرم المتمكن فيه بالدلالة التي قدمنا في إثبات نهايات الأجرام وإما أن يكون حاملاً لكيفياته فإن كان حاملاً لكيفياته فهو مركب من هيولاه وأعراضه وجنسه وفصوله وبالضرورة يعلم كل ذي حسن سليم أن كل مركب فهو متناه بالجرم والزمان بالدلائل التي قدمنا ولا سبيل إلى حمل ثالث وأيهما قالوا فيه أنه محمول فإنه يقتضي حاملاً ويعكس الدليل الذي ذكرنا آنفاً سواءً بسواءٍ وأيهما قالوا فيه أنه حامل محمول وجب كل ما ذكرنا فيه أيضاً بعكسه وأيهما قالوا فيه لا حامل ولا محمول فلا يخلو من أن يكون باقياً أو يكون بقاءً فإن كان باقياً فهو مفتقر إلى بقاءٍ وهو مدته إذ لا باقي إلا ببقاء وإن كان بقاء فلا بد له من باق به وهو من باب الإضافة والمدة وهي البقاء إنما هي محمولة وناعتة للباقي بها ضرورة هذا الذي لا يقوم في العقل سواه ولا يقوم برهان إلا عليه ويسألون أيضاً عن هذا الزمان الذي يذكرون هل زاد في مدة اتصاله مذ حدث الفلك إلى يومنا هذا أو لم يزد ذلك في أمده فإن قالوا لم يزد ذلك في أمده كانت مكابرة لأنها مدة متصلة بها مضافة إليها وعدد زائد على عدد فإن قالوا زاد ذلك في أمده سئلوا متى كانت تلك المدة أطول أقبل الزيادة أم هي وهذه الزيادة معاً فإن قالوا هي والزيادة معاً فقد أثبتوا النهاية ضرورة إذ ما لا نهاية له فلا يقع فيه زيادة ولا نقص ولا يكون شيء مساوياً له ولا أكثر منه ولا أنقص منه ولا يكون هو أيضاً مفصلاً أصلاً فلا يكون مساوياً لنفسه كما هو ولا أكثر من نفسه ولا أقل منها فإن قالوا ليست هي والزيادة معها أطول منها قبل الزيادة فقد أثبتوا أن الشيء وغيره معه ليس أكثر منه وحده وهذا باطل وهم يقولون أن الخلاء والزمان المطلق شيآن متغايران فيقال لهم فإذا هما كذلك فبأي شيء انفصل بعضهما من بعض فإن قالوا انفصل بشيء ما وذكروا في ذلك أي شيء ذكروه فقد أثبتوا لهما التركيب من جنسهما وفصلهما وأيضاً فجعلهم لهما شيئين إيقاع منهم للعدد عليهما وكل عدد فهو متناه محصور وكل محصور فقد سلكته الطبيعة وكل ما سلكته الطبيعة فهو متناه ضرورة‏.‏

فإن أرادوا ألزامنا في الباري تعالى مثل ما ألزمناهم في هذا السؤال فقالوا أيما أكثر الباري تعالى وحده أم الباري وخلقه معاً قلنا هذا سؤال فاسد بالبرهان الضروري لأن هذا البرهان إنما هو على وجوب حدوث الزمان وما لم ينفك من الزمان وعلى حدوث النوامي وأيضاً فإن الباري تعالى ليس عدداً ولا بعض عدد وليس هو أيضاً معدوداً ولا بعضاً لمعدود لأن واحداً ليس عدداً بالبرهان الذي نورده في الباب الذي يتلو هذا الباب إن شاء الله تعالى ولا واحد على الحقيقة إلا الله عز وجل فقط فهو الذي لا يتكثر البتة ولا ينضاف إلى سواه إذ لا يجمعه مع شيء سواه عدد ولا صفة البتة لأن كل ما وقع عليه اسم واحد مما دونه تعالى فإنما هو مجاز لا حقيقة لأنه إذا قسم استبان أنه كان كثيراً لا واحداً فلذلك وقع العدد على الأجرام والأعداد المسماة آحاداً في العالم وأما الواحد في الحقيقة فهو الذي ليس كثيراً أصلاً ولا يتكثر بوجه من الوجوه فلا يقع عليه عدد بوجه من الوجوه لأنه يكون حينئذ واحداً لا واحداً كثيراً لا كثيراً وهذا تخليط ومحال وممتنع لا سبيل إليه فلا يجوز أن يضاف الواحد الأول إلى شيء مما دونه لا في عدد ولا كمية ولا في جنس ولا في صفة ولا في معنى من المعاني أصلاً وبالله تعالى التوفيق‏.‏

فإن ذكر ذاكر قول الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا فمعنى قوله تعالى هو رابعهم وهو سادسهم إنما هو فعل فعله فيهم وهو أن ربعهم بإحاطته بهم لا بذاته وسدسهم بإحاطته لا بذاته أو قد يربعهم بملك يشرف عليهم ويسدسهم كذلك وبرهان هذا القول أن الله تبارك وتعالى إنما عنى بهذه الآية بلا خلاف بل بضرورة العقل من كل سامع أنه لا تخفى عليه نجواهم وهذا نص الآية لأنه تعالى افتتحها بذكر نجوى المتناجين وإنما أراد عز وجل علمه بنجواهم لا أنه معدود معهم بذاته إلى ذواتهم حاشى لله من ذلك إذ من المحال الممتنع الخارج عن رتبة الأعداد والمعدودين أن يكون الله عز وجل معدوداً بذاته مع ثلاثة بالهند ومع ثلاثة بالسند ومع ثلاثة بالعراق ومع ثلاثة بالصين في وقت واحد لأنه لو كان ذلك لكان الذين هو رابعهم بالهند مع الثلاثة الذين هو رابعهم بالصين ثمانية كلهم لأنهم أربعة وأربعة بلا شك فكأن تعالى حينئذ يكون اثنين وأكثر وهذا محال وكذلك إذا كان بذاته سادساً لخمسة ههنا فهم ستة ورابعاً لثلاثة هنالك فهم أربعة فهم كلهم بلا شك عشرة فهو إذاً اثنان وكذلك قوله تعالى في الآية نفسها إلا هو معهم أينما كانوا إنما أضاف تعالى الأينية إليهم لا إلى نفسه تعالى معناه أينما كانوا فهو تعالى معهم بإحاطته إذ محال أن يكون بذاته في مكانين فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين كثيراً وليس قول القائل الله ورسوله والله وعمرو مما يعترض به علينا لأننا لم نمنع من ضم اسمه تعالى إلى اسم غيره معه لأن الاسم كلمة مركبة من حروف الهجاء وإنما منعنا من أن تعد ذاته تعالى مع شيء غيره إذ العدد إنما هو جمع شيء إلى غيره في قضية ما والله تعالى لا يجمعه وخلقه شيء أصلاً فصح انتفاء العدد عنه تعالى وإذا صح انتفاء العدد عنه صح أنه ليس معدوداً البتة والحمد لله رب العالمين ويسألون أيضاً هذا الزمان والمكان اللذان يذكران أهما واقعان تحت الأجناس والأنواع أم لا وهل هما واقعان تحت المقولات العشر أم لا فإن قالوا لا فقد نفوهما أصلاً وأعدموهما البتة إذ لا مقول من الموجودات إلا هو واقع تحتها وتحت الأجناس والأنواع حاشى الحق الأول الواحد الخالق عز وجل الذي علم بضرورة الدلائل ووجب بها خروجه عن الأجناس والأنواع والمقولات وبالجمة شاؤا أو أبوا فالخلاء والزمان المطلق اللذان يذكران إن كانا موجودين فهما واقعان تحت جنس الكمية والعدد ضرورة فإذا كان ذلك كذلك فهذا الزمان الذي ندريه نحن وهم وذلك الزمان الذي يدعونه هما واقعان جميعاً تحت جنس متى وكذلك المكان الذي يدعونه واقع مع المكان الذي نعرفه نحن وهم تحت جنس أين وبالضرورة يجب أن ما لزم بعض ما تحت الجنس مما يوجبه له الجنس فإنه لازم لكل ما تحت ذلك الجنس وإذ لا شك في هذا فهما مركبان والنهاية فيهما موجودة ضرورة إذ المقولات كلها كذلك‏.‏

وأيضاً فإن المكان لابد له من مدة يوجد فيها ضرورة فنسألهم هل تلك المدة هي الزمان الذي يدعونه أم هي غيره فإن كانت هي هو فهو زمان للمكان فهو محمول في المكان فهو ككل زمان لذي الزمان فلا فرق وإن كانت غيره فههنا إذن زمان ثالث غير مدة ذلك المكان وغير الزمان الذي ندريه نحن وهم وهذه وساوس لا يعجز عن ادعائها كل من لم يبال بما يقول ولا استحيا من فضيحة ويقال لهم إذ ليس المكان الذي تدعونه والزمان الذي تدعونه واقعين مع المكان المعهود والزمان المعهود تحت جنس وحدٍ واحد فلم سميتموه مكاناً وزماناً وهلا سميتموهما باسمين مفردين لهما ليبعدا بذلك عن الإشكال والتلبيس والسفسطة بالتخليط بالأسماء المشتركة فإن كانا مع الزمان والمكان المعهودين تحت حد واحد فقد بطلت دعواكم زماناً ومكاناً غير الزمان والمكان المعهودين بالضرورة وبالله التوفيق ويسألون أيضاً عن هذا الزمان والمكان غير المعهودين أهما داخل الفلك أم خارجه فإن قالوا هما داخل الفلك فالخلاء إذاً هو الملاء والمكان إذاً في المتمكن يعني في داخله وهذا محال والزمان إذن هو الذي لا يعرف غيره وإن قالوا هما خارج الفلك أوجبوا لهما نهاية ابتداء مما هو خارج الفلك وإن قالوا لا خارج ولا داخل فهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ولا برهان على صحتها فهي باطل فإن قالوا أنتم تقولون هذا في الباري تعالى قلنا لهم نعم لأن البرهان قد قام على وجوده فلما صح وجوده تعالى قام البرهان بوجوب خلافه لكل ما في العالم على أنه لا داخل ولا خارج وأنتم لم يصح لكم برهان على وجود الخلاء والزمان الذي تدعونه فصار كلامكم كله دعوى وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه ولم نجد لهم سؤالاً أصلاً ولا أتونا قط بدليل فنورده عنهم ولا وجدنا لهم شيئاً يمكن الشغب به في أزلية الخلاء والمدة فنورده عنهم وإن لم ينتبهوا وإنما هو قال أبو محمد رضي الله عنه ومما يبطل به الخلاء الذي سموه مكاناً مطلقاً وذكروا أنه لا يتناهى وأنه مكان لا متمكن فيه برهان ضروري لا انفكاك منه وأطرف شيء أنه برهانهم الذي موهوا به وشغبوا بإيراده وأرادوا به إثبات الخلاء وهو أننا نرى الأرض والماء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق ونحو ذلك طباعها السفل أبداً وطلب الوسط والمركز وأنها لا تفارق هذا الطبع فتصعد إلا بقسر يغلبها ويدخل عليها كرفعنا الماء والحجر قهراً فإذا رفعناهما ارتفعا فإذا تركناهما عادا إلى طبعهما بالرسوب ونجد النار والهواء طبعهما الصعود والبعد عن المركز والوسط ولا يفارقان هذا الطبع إلا بحركة قسراً تدخل عليهما يرى ذلك عياناً كالزق المنفوخ والإناء المجوف المصوب في الماء فإذا زالت تلك الحركة القسرية رجعا إلى طبعهما ثم نجد الإناء المسمى سارقة الماء يبقي الماء فيها صعداً ولا ينسفك وتجد الزراقة ترفع التراب والزئبق والماء ونجد إذا حفرنا بئراً امتلأ هواء وسفل الهواء حينئذ ونجد المحجمة تمص الجسم الأرضي إلى نفسها فليس كل كل هذا إلا لأحد وجهين لا ثالث لهما إما عدم الخلاء جملة كما نقول نحن وإما لأن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فنظرنا في قولهم أن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فوجدناه دعوى بلا دليل فسقط ثم تأملناه أخرى فوجدناه عائداً عليهم لأنه إذا اجتذبت الأجسام ولابد فقد صار ملأً فالملأ حاضر موجود والخلاء دعوى لا برهان عليها فسقطت وثبت عدم الخلاء‏.‏

ثم نظرنا في قولنا فوجدناه يعلم بالمشاهدة وذلك أننا لم نجد لا بالحس ولا بتوهم العقل بالإمكان مكاناً يبقى خالياً قط دون متمكن فصح الملأ بالضرورة وبطل الخلاء إذ لم يقم عليه دليل ولا وجد قط وبالله تعالى التوفيق‏.‏

ثم نقول لهم إن كان خارج الفلك خلاء على قولكم فلا يخلو من أن يكون من جنس هذا الخلاء الذي تدعون أنه يجتذب الأجسام بطبعه أو يكون من غير جنسه ولابد من أحد هذين الوجهين ضرورة ولا سبيل إلى ثالث البتة فإن قالوا هو من جنسه وهو قولهم فقد أقروا بأن طبع هذا الخلاء الغالب بجميع الطبائع هو أن يجذب المتمكنات إلى نفسه فيمتلىء بها حتى أنه يحيل قوى العناصر عن طباعها فوجب أن يكون ذلك الخلاء الخارج عن الفلك لذلك أيضاً ضرورة لأن هذه صفة طبعه وجنسه فوجب بذلك ضرورة أن يكون متمكناً فيه ولابد وإذا كان هذا وذلك الخلاء عندهم لا نهاية له فالجسم الماليء له أيضاً لا نهاية له وقد قدمنا البراهين الضرورية أنه لا يجوز وجود جسم لا نهاية له فالخلاء باطل ولو كان ذلك أيضاً لكان ملأ لا خلاء وهذا خلاف قولهم‏.‏

فإن قالوا بل ذلك الخلاء هو من غير جنس هذا الخلاء‏.‏

يقال لهم فبأي شيء عرفتموه وبما استدللتم عليه وكيف وجب أن تسموه خلاء وهو ليس خلاء وهذا مخلص منه وبالله تعالى التوفيق وهم في هذا سواء ومن قال أن في مكان خارج من العالم ناساً لا يحدون بحد الناس ولا هم كهؤلاء الناس أو من قال أن في خارج الفلك ناراً غير محرقة ليست من جنس هذه النار وكل هذا حمق وهوس‏.‏

 الكلام على من قال أن فاعل العالم ومدبره أكثر من واحد

قال أبو محمد رضي الله عنه افترق القائلون بأن فاعل العالم أكثر من واحد فرقاً ثم ترجع هذه الفرق إلى فرقتين فإحدى الفرقتين تذهب إلى أن العالم غير مدبريه وهم القائلون بتدبير الكواكب السبعة وأزليتها وهم المجوس فإن المتكلمين ذكروا عنهم أنهم يقولون أن الباري عز ول لما طالت وحدته استوحش فلما استوحش فكر فكرة سوءٍ فتجسمت فاستحالت ظلمة فحدث منها اهرمن وهو إبليس فرام البارىء تعالى إبعاده عن نفسه فلم يستطع فتحرز منه بخلق الخيرات وشرع اهرمن في خلق الشر ولهم في ذلك تخليط كثير‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا أمر لا تعرفه المجوس بل قولهم الظاهر هو أن الباري تعالى وهو أوورمن وإبليس وهواهر من وكام وهو الزمان وجام وهو المكان وهو الخلاء أيضاً ونوم وهو الجوهر وهو أيضاً الهيولي وهو أيضاً الطينة والخميرة خمسة لم تزل وإن اهرمن هو فاعل الشرور وإن اورمن فاعل الخير وإن نوم هو المفعول فيه كل ذلك‏.‏

وقد أفردنا في نقض هذه المقالة كتاباً في نقض كلام محمد بن زكريا الرازي الطبيب في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي‏.‏

والمجوس يعظمون الأنوار والنيران والمياه إلا أنهم يقرون بنبوة زرادشت ولهم شرائع يضيفونها إليه ومنهم المزدقية وهم أصحاب مزدق الموبذ وهم القائلون بالمساواة في المكاسب والنساء والخرمية أصحاب بابك وهم فرقة من فرق المزدقية وهم أيضاً سر مذهب الإسماعيلية ومن كان على قول القرامطة وبني عبيد وعنصرهم‏.‏

وقد يضاف إلى جملة من قال إن مدبر العالم أكثر من واحد الصابئون وهم يقولون بقدم الأصلين على ما قدمنا من نحو قول المجوس إلا أنهم يقولون بتعظيم الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ويصورونها في هياكلهم ويقربون الذبائح والدخن ولهم صلوات خمس في اليوم والليلة تقرب من صلوات المسلمين ويصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلاتهم الكعبة البيت الحرام ويعظمون مكة والكعبة ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرائب ما يحرم على المسلمين وعلى نحو هذه الطريقة تفعل الهند بالبددة في تصويرها على أسماء الكواكب وتعظيمها وهو كان أصل الأوثان في العرب والدقاقرة في السودان حتى آل الأمر مع طول الزمان إلى عبادتهم إياها وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث وبدلوا شرائعه بما ذكرنا فبعث الله عز وجل إليهم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام الذي نحن عليه الآن وتصحيح ما أفسدوه بالحنيفة السمحة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى فبين لهم كما نص في القرآن بطلان ما أحدثوه من تعظيم الكواكب وعبادتها وعبادة الأوثان فلقي منهم ما نصه الله في كتابه وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء ومنهم اليوم بقايا بحران وهم قليل جداً فهذه فرقة‏.‏

ويدخل في هذه الفرقة من وجه ويخرج منها وجه آخر النصارى فأما الوجه الذي يدخلون به فهو قولهم بالتثليث وأن خالق الخلق ثلاثة وأما الوجه الذي يخرجون به فهو أن للصابئين شرائع يسندونها إلى هرمس ويقولون أنه إدريس وإلى قوم آخرين يذكرون أنهم أنبياء كايلون ويقولون أنه نوح عليه السلام واسقلانيوس صاحب الهيكل الموصوف وعاظيمون ويوداسف وغيرهم والنصارى لا يعرفون هؤلاء لكن يقرون بنبوة كل نبي تعرفه من بني إسرائيل وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ولا يعرفون نبوة إسمعيل وصالح وهود وشعيب وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوته الأنبياء عليهم السلام والصابئون لا يقرون بنبوة أحد ممن ذكرنا أصلاً وكذلك المجوس لا يعرفون إلا زرادشت فقط وأما الفرقة الثانية فإنها تذهب إلى أن العالم هو مدبروه لا غيرهم البتة وهم الديصانية والمزقونية والمنانية القائلون بأزلية الطبائع الأربع بسائط غير ممتزجة ثم حدث الامتزاج فحدث العالم بامتزاجها فأما المنانية فإنهم يقولون أن أصلين لم يزالا وهما نور وظلمة وأن النور والظلمة حية وأن كليهما غير متناه إلا من الجهة التي لاقى منها الآخر وأما من جهاته الخمس فغير متناه وأنهما جرمان ثم لهم في وصف امتزاجهما أشياء شبيهة بالخرافات وهم أصحاب ماني‏.‏

وقال المتكلمون أن ديصان كان تلميذ ماني وهذا خطأٌ بل كان أقدم من ماني لأن ماني ذكره في كتبه ورد عليه وهما متفقان في كل ما ذكرنا إلا أن الظلمة عند ماني حية‏.‏

وقال ديصان هي موات وكان ماني راهباً بحران وأحدث هذا الدين وهو الذي قتله الملك بهرام بن بهرام إذ ناظره بحضرته إذرباذ بن ماركسفند موبذموبذان في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم فقال له الموبذانت الذي تقول بتحريم النكاح ليستعجل فناء العالم ورجوع كل شكل إلى شكله وأن ذلك حق واجب فقال له ماني واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل مما هو فيه من الامتزاج فقال له اذرباذ فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم فانقطع ماني فأمر بهرام بقتل ماني فقتل هو وجماعة من أصحابه وهم لا يرون الذبائح ولا إيلام الحيوان ولا يعرفون من الأنبياء عليهم السلام إلا عيسى عليه السلام وحده وهم يقرون بنبوة زرادشت ويقولون بنبوة ماني وقالت المزقونية أيضاً كذلك إلا أنهم قالوا نور وظلمة لم يزالا وثالث أيضاً بينهما لم يزل إلا أن هؤلاء كلهم متفقون على أن هذه الأصول لم تحدث شيئاً هو غيرها لكن حدث من امتزاجها ومن أبعاضها بالاستحالة صور العالم كله فهذه الفرق كلها مطبقة على أن الفاعل أكثر من واحد وإن اختلف في العدد والصفة وكيفية الفعل وإلزامات الشرائع وكلامنا هذا كلام اختصار وإيجاز وقصد إلى استيعاب قواعد الاستدلال والبراهين الضرورية والنتائج الواجبة من المقدمات الأولية الصحيحة وإضراب عن الشغب والتطويل الذي يكتفي بغيره عنه فإنما وكدنا بعون الله تعالى أن نبين بالبراهين الضرورية أن الفاعل واحد لا أكثر البتة ونبين بطلان أن يكون أكثر من واحد كما فعلنا بتأييد الله عز وجل إذ بينا بالبراهين الضرورية أن العالم محدث كان بعد أن لم يكن وإن له مخترعاً مدبراً لم يزل وسقطت خرافاتهم المضافة إلى الأوائل الفاسدة في وصفهم الفاعلين وكيفية أفعالهم إذ لا تكون صفة إلا لموصوف فإذا بطل الموصوف بطلت الصفة التي وصفوه بها‏.‏

وأما الاشتغال بأحكامهم الشرعية فلسنا من ذلك في شيء لأنه ليس من الشرائع العلمية شيء يوجبه العقل ولا شيء يمنع منه العقل بل كلها من باب الممكن فإذا قامت البراهين الضرورية على قول الآمر بها ووجوب طاعته وجب قبول كل ما أتى به كائناً ما كان من الأعمال ولو أنه قتل أنفسنا وأبنائنا وآبائنا وأمهاتنا وإذا لم يصح قول الآمر بها ولم يصح وجوب طاعته لا يلتفت إلى ما يأمر به أي شيء كان من الأعمال وكل شريعة كانت على خلاف هذا فهي باطلة فكلامنا مع الفرق التي ذكرنا في إثبات الفاعل الأول واحد لا أكثر وإبطال أن يكون أكثر من واحد وهو حاسم لكل شغب يأتون به بعد ذلك وكاف من التكلف لما قد كفته المرء بيسير من البيان وما تفويقنا إلى بالله تعالى‏.‏

ونبدأ بحول الله تعالى وقوته بإيراد عمدة ما موهوا به في إثبات أن الفاعل أكثر من واحد ثم ننقضه بحول الله تعالى وقوته بالبراهين الواضحة ثم نشرع إن شاء الله تعالى في إثبات أنه تعالى واحد بما لا سبيل إلى رده ولا اعتراض فيه كما فعلنا فيما خلا من كتابنا والحمد لله رب العالمين فنقول وبالله تعالى التوفيق‏.‏

عمدة ما عول عليه القائلون بأن الفاعل أكثر من واحد استدلالان فاسدان أحدهما هو استدلال المنانية والديصانية والمجوس والصابئة والمزدقية ومن ذهب مذاهبهم وهو أنهم قالوا وجدنا الحكيم لا يفعل الشر ولا يخلق خلقاً ثم يسلط عليه غيره وهذا عيب في المعهود ووجدنا العالم كله ينقسم قسمين كل قسم منهما ضد الآخر كالخير والشر والفضيلة والرذيلة والحياة والموت والصدق والكذب فعلمنا أن الحكيم لا يفعل إلا الخير وما يليق فعله به وعلمنا أن الشرور لها فاعل غيره وهو شر مثلها والاستدلال الثاني هو استدلال من قال بتدبير الكواكب السبعة والاثني عشر برجاً ومن قال بالطبائع الأربع وهو أن قالوا لا يفعل الفاعل أفعالاً مختلفة إلا بأحد وجوه أربعة إما أن يكون ذا قوى مختلفة وإما أن يفعل بآلات مختلفة وإما أن يفعل باستحالة وإما أن يفعل في أشياء مختلفة قالوا فلما بطلت هذه الوجوه كلها إذ لو قلنا إنه يفعل بقوى مختلفة لحكما عليه بأنه مركب فكان يكون من أحد المفعولات ولو قلنا إنه يفعل باستحالة لوجب أن يكون منفعلاً للشيء الذي أحاله فكان يدخل بذلك في جملة المفعولات ولو قلنا أنه يفعل في أشياء مختلفة لوجب أن تكون تلك الأشياء معه وهو لم يزل فتلك الأشياء لم تزل فكان حينئذ لا يكون مخترعاً للعالم ولا فاعلاً له قالوا فعلمنا بذلك أن الفاعلين كثير وإن كل واحد يفعل ما يشاكله قال أبو محمد رضي الله عنه فهذه عمدة ما عول عليه من لم يقل بالتوحدي وكلا هذين الاستدلالين خطأ فاحش على ما نبين إن شاء الله تعالى‏.‏

فيقال وبالله تعالى التوفيق لمن احتج بما احتجت به المنانية من أنه لا يفعل الحكيم الشر ولا العبث هل يخلو علمكم بأن هذا الشيء شر وعبث من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن تكونوا علمتموه بسمع وردكم وخبر وإما أن تكونوا علمتموه بضرورة العقل‏.‏

فإن قلتم أنكم علمتموه من طريق السمع‏.‏

قيل لكم هل معنى السمع الآتي غير أن مبتدع الخلق ومرتبة سمي هذ الشيء شراً وأمر باجتنابه وسمي هذا الشيء الآخر خيراً وأمر بإتيانه فلابد من نعم إذ هذا هو معنى اللازم عند كل من قال بالسمع‏.‏

فيقال لهم فإنما صار الشر شراً لنهي الواحد الأول عنه وإنما صار الخير خيراً لأمر به فلابد من نعم فإذا كان هذا فقد ثبت أن من لا مبدع ولا مدبر له ولا آمر فوقه لا يكون شيء من فعله شراً إذ السبب في كون الشر شراً هو الإخبار بأنه شر ولا مخبر يلزم طاعته إلا الله تعالى فإن قال فكيف يفعل هو شيئاً قد أخبر أنه شر قيل له ليس يفعل الجسم فيما يشاهد غير الحركة والسكون والحركة كلها جنس واحد في أنها نقلة مكانية وكذلك السكون جنس واحد كله فإنما أمرنا تعالى بفعل بعضها ونهانا عن فعل بعضها ولم يفعل هو الحركة قط على أنه متحرك بها ولا السكون على أنه ساكن به وإنما فعلهما على سبيل الإبداع فتحركنا نحن بحركة نهينا عنها وسكوننا بسكون نهينا عنه هو الشر وغيره أصلاً وكذلك اعتقاد النفس ما نهيت عنه وهذا كله غير موصوف به الباري تعاىل وإن قالوا علمنا ذلك ببداهة العقل قيل لهم وبالله التوفيق أليس العقل قوة من قوى النفس وداخلاً تحت الكيفية على الحقيقة أو تحت الجوهر على قول من لا يحصل فلا بد من نعم فيقال لهم إنما يؤثر العقل ما هو من شكله في باب الكيفيات فيميز بين خطائها وصوابها ويعرف أحوالها ومراتبها وأما فيما هو فوقه وفيما لم يزل العقل معدوم وفي مخترع العقل ومرتبه كما هو فلا تأثير للعقل فيه إذ لو أثر فيه لكان محدثاً على ما قدمنا من أن الأثر من باب المضاف فهي تقتضي مؤثراً فكان يكون الباري تعالى منفعلاً للعقل وكان يكون العقل فاعلاً فيه تعالى وحاكماً عليه جل الله عن ذلك‏.‏

وقد بينا في كتابنا هذا أن الباري تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا يجري مجرى خلقه في معنى ولا حكم وذكرنا أيضاً فيه إبطال قول من قال بتسمية الباري حياً أو حكيماً أو قادراً أو غير ذلك من سائر الصفات من جهة الاستدلال حاشى أربعة أسماء فقط وهي الأول الواحد الحق الخالق فقط وهذه الأسماء هي التي لا يستحقها شيءٌ في العالم غيره فلا أول سواه البتة ولا واحد سواه البتة ولا خالق سواه البتة ولا حق سواه البتة على الإطلاق وكل ما دونه تعالى فإنما هو حق بالباري تعالى ولولا الباري تعالى ما كان شيءٌ في العالم حقاً وكل ما دونه تعالى فإنما حق بالإضافة ولولا أن السمع قد ورد بسائر الأسماء التي ورد الخبر الصادق بها ما جاز أن يسمى الله عز وجل بشيءٍ منها ولكن قد بينا في مكانه من هذا الكتاب على أي شيءٍ تسميته بما ورد السمع وإن ذلك تسمية لايراد بها غيره تعالى ولا يرجع منها إلى شيء سواه البتة‏.‏

وأيضاً فإن دليلهم فيما سموا به الباري تعالى وأجروه عليه إقناعي شغبي وفيه تشبيه للخالق بخلقه وفي تشبيههم له بخلقه حكم عليه بالحدوث وأن يكون الفاعل مفعولاً وقد قدمنا إبطال ذلك‏.‏

ويقال لهم إن الترميم أن يكون فاعل الشر فيما عندنا عابثاً فقررتم بذلك عن أن يكون فاعل العالم واحداً وقد علمنا فيما بينا أن تارك الشيء لا يغيره وهو قادر على تغييره عابث ظالم ولا يخلو فاعل الخيرات عندكم من أن يكون قادراً على تغييره والمنع منه ولم يغيره فقد صار عندكم عابثاً ضرورة فقد وقعتم فيما عنه فررتم ضرورة وإن قلتم أنه غير قادر على تغييره ولا المنع منه فهو بلا شك عاجز ضعيف وهذه صفة سوء عندكم فهلا تركتم القول بأنه أكثر من واحد لهذا الاستدلال فإنه أصح على أصولكم ومقدماتكم وأما نحن فمقدمتكم عندنا فاسدة بالبرهان الذي ذكرناه قال أبو محمد رضي الله عنه والمنانية تزعم أن النور كان في العلو إلى ما لا نهاية له وأن الظلمة في السفل إلى ما لا نهاية له وأن كل واحد منها متناه المساحة من الجهة التي لاقى منها الآخر وغير متناه من جهاته الخمس وأن اللذة للنور خاصة لا للظلمة وأن الأذى للظلمة خاصة لا للنور‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه فأما بطلان هذا القول في عدم التناهي من الجهات الخمس فيفسد بما أوجبنا به تناهي جسم العالم وأما قولهم بالعلو والسفل فظاهر الفساد لأن السفل لا يكون إلا بالإضافة وكذلك العلو فكل علو فهو سفل لما فوقه حتى تنتهي إلى الصفحة العليا التي لا صفحة فوقها وهم لا يقرون بها فصح ضرورة أن في الظلمة على قولهم علواً وأن في النور سفلاً‏.‏

وأما قولهم في اللذة والأذى ففاسد جداً لأن اللذة لا تكون إلا بالإضافة وكذلك الأذى فإن الإنسان لا يلتذ بما يلتذ به الحمار ويتأذى بما لا يتأذى به الأفعى فبطل هوسهم بيقين والحمد لله رب العالمين‏.‏

سؤال على المنانية دامغ لقولهم بحول الله وقوته وهو أن يقال لهم ألهذه الأجساد أنفس أم لا فإن قالوا لا قيل لهم فهذه الأجساد لا تخلو على أصولكم من أن يكون في كل جسد منها نور وظلمة أو يكون بعض الأجساد نوراً محضاً وبعضها ظلمة محضة فإن قالوا في كل جسد نور وظلمة قيل لهم فهل يجوز من الظلمة فعل الخير فلا بد من لا لأنه لو فعل الخير لانتقلت إلى النور وكذلك لا يجوز أن يفعل النور شراً لأنه كان يصير ظلمة‏.‏

فيقال لهم فإي معنى لدعائكم إلى الخير ونهيكم عن النكاح والقتل وأخبرونا من تدعون إلى كل ذلك فإن كنتم تدعون النور فهو طبعه وهو فاعل له بطبعه قبل أن تدعوه إليه لا يمكنه أن يحول عنه فدعاؤكم له إلى ما يفعله وأمركم له بترك ما لا يفعله عبث من النور داع إلى المحال وهذا خلاف أصلكم وإن كنتم تدعون الظلمة فذلك عبث من النور لها إلى ذلك إذ لا سبيل لها إلى ترك طبعها‏.‏

وكذلك يقال لهم سواء بسواء إن قالوا إن من الأجساد ما هو نور محض ومنها ما هو ظلمة محضة وهكذا يسئلون في الأرواح أن أقروا بها ثم يسئلون عمن رأيناه ينكح ويقتل ويظلم ويكذب ثم يتوب عن كل ذلك من القاتل الظالم أهو النور أم الظلمة ومن التائب النور أم الظلمة فأي ذلك قالوا فهو هدم مذهبهم وقد جوزوا الاستحالة فإن قالوا معنى دعائنا إلى ما ندعو إليه من ذلك إنما هو حض للنور على المنع للظلمة من ذلك قيل لهم أكان النور قادراً على منعها قبل دعائكم أم لا فإن قالوا كان قادراً قيل لهم فقد ظلم بتركه إياها تظلم وهو يقدر على منعها قبل دعائكم وإن قلتم لم يذكر حتى نبه قيل لهم فهذا نقص منه وجهل وصفات شر لا تليق بالنور على قولكم وهذا ما لا انفكاك لهم منه وأيضاً فيقال لهم إن الداعي منكم إلى دينه لا يقول لمن دعاه كف غيرك على ظلمه إنما يقول له كف عن ظلمك وارجع عن ضلالك ولقد أحسنت في رجوعك عن الباطل إلى الحق فإن كنتم تأمرون بأن يخاطب بذلك الظلمة فالأمر بذلك كاذب آمر بالكذب وإن كنتم تأمرون بأن يخاطب بذلك النور فالأمر بذلك أيضاً كاذب آمر بالكذب فإن قالوا فأي معنى لدعائكم إلى الخير وقد سبق علم الله تعالى فيمن يعلمه ومن لا يعلمه قيل لهم جواب بعضنا في هذا هو أن كل من يدعى إلى الخير فممكن وقوعه منه وممكن أيضاً فعل الشر منه ومتوهم كل ذلك منه فوجه دعائنا له معروف وليس علم الله تعالى إجباراً وإنما هو أنه تعالى علم ما يختاره العبد‏.‏

وجواب بعضنا في ذلك هو أن فاعل كل ما يبدو في العالم فعل خلق وإبداع فهو الله عز وجل ولا يتعقب عليه فهو خالق دعائنا من ندعوه فإذ ذلك كذلك فلا يجوز سؤال الخالق لما شاء بل فعلت وهذا هو الجواب الذي نختاره ويقال لهم أيضاً أخبرونا عن ماني والمسيح وزرادشت وأنتم تعظمونهم أفيهم ظلمة أم كانوا أنواراً محضة فمن قولهم ولابد أن فيهم ظلمة لأنهم يتغوطون ويجزعون ويألمون فيقال لهم فما عجز النور الذي فيكم عن مثل ذلك فإن قالوا لقلته قيل لهم فكان يجب أن يأتي من المعجزات ولو بيسير على قدره وهذا ما لا مخلص لهم منه أصلاً‏.‏

ويقال لهم أيضاً إن من العجائب إلزامكم ترك النكاح لتعجلوا قطع النسل فهبكم قدرتم على ذلك فكيف تصنعون في الوحوش والطير وسائر الحيوان البري والحشرات وحيوان المياه والبحار التي تقتل بعضها بعضاً أشد من قتل بعض الناس لبعض وأكثر فكيف السبيل إلى قطع تناسلها وفراغ امتزاجها وهذا ما لا سبيل لكم إليه أصلاً فإن كان النور عاجزاً عن قطعها فلا سبيل له إلى خلاص أجزائه أبد الأبد وإن كان النور عاجزاً عن قطعها فلا سبيل له إلى خلاص أجزائه ولم يتركها تردد في الظلمات وأعجب شيء منعهم من القتل وهذا عون منهم على بقاء المزاج وعلى منع الخلاص وتأخره وكان القتل أبلغ شيء في تمام مرادهم وبغيتهم من تعجيل الخلاص واستنقاذ النور وقطع المزاج وهذا تناقض ظاهر منهم لا خفاء به وبالله تعالى نتأيد‏.‏

وكل ما قدمنا من البراهين على حدوث العالم وإيجاب النهاية في جرمه وأشخاصه وأزمانه فهو لازم الأصلين النور والظلمة على أصول المنانية وعلى كل من يقول بأن الفاعل أكثر من واحد وأنه لم يزل مع الفاعل غيره لزوم ضرورة وبالله تعالى التوفيق وأما الاستدلال الثاني الذي عولوا فيه على أقسام من يفعل أفعالاً مختلفة فهو استدلال فاسد أيضاً لأنهم إنما عولوا فيه على الأقسام الموجودة في العالم وقد قدمنا البراهين الضرورية على حدوث العالم وعلى أن محدثه لا يشبهه في شيء من الأشياء فلا سبيل إلى أن يدخل تحت شيء من أقسام العالم لكنه تعالى يفعل الأشياء المختلفة والأشياء المتفقة مختاراً لكل ذلك وحين شاء لا علة لشيء من ذلك إذ قدمنا أن ما حصرته الطبيعة فهو متناه والمتناهي محدث على ما قدمنا من أن يكون ذا قوى أو فاعلاً بآلات أو فاعلاً باستحالة أو فاعلاً في أشياء لأن هذا كله يقتضي أن يكون محدثاً تعالى الله عن ذلك وهو لم يزل فقد وجب ضرورة أن يكون الباري تعالى يفعل ما يشاء من مختلف ومتفق مختاراً دون علة موجبة عليه شيئاص من ذات ولا بقوة هي غيره وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وكل ما ألزمنا من يقول أن العالم لم يزل من البراهين الضرورية فهو لازم للمنانية والديصانية والمزقونية والقائلين بأزلية الطبائع والهيولي لأن العالم عند هؤلاء ليس هوشيأ غير تلك الأصول التي لم تزل عندهو وإنما حدثت فيهم عندهم الصورة فقط ويدخل أيضاً عليهم القول بتناهي الأصلين لأنهما عندهم جسمان والجسم متناه ضرورة لبرهانين نوردهما إن شاء الله تعالى وذلك أننا نقول لا يخلو كل جرم من الأجرام من أن يكون متحركاً أو ساكناً فإن كان متحركاً فقد علمنا أن المسافة التي لا تتناهى لا تقطع أصلاً لا في زمان متناه ولا في زمان غير متناه ثم لا تخلو حركته من أن تكون إما باستدارة وإما إلى جهة من الجهات ولا ثالث لهذين الوجهين‏.‏

فإن كان متحركاً باستدارة وهو غير متناه فهذا محال لأن الخطين الخارجين من الوسط إلى المشرق وإلى العلو غير متناهين إذن فكان يجب أن يكون الجزء الذي في سمت المشرق منه لا يبلغه إلى العلو الذي هو سمت الرأس منه أبداً فقد بطلت الحركة على هذا فهذا إذن متحرك لا متحرك وهذا محال مع مشاهدة العيان لقطع كل جزء من الفلك الكلي جميع مسافته ورجوعه إلى حيث ابتدأ منه في كل أربع وعشرين ساعة‏.‏

وإن كان متحركاً إلى جهة من الجهات فهذا أيضاً محال لأن الحركة نقلة من مكان إلى مكان فإذا وجد هذا الجسم مكاناً ينتقل إليه لم يكن فيه قبل ذلك فقد ثبتت النهاية له ضرورة لأن وجوده غير كائن في المكان الذي انتقل إليه موجب لانقطاعه قبله وإن كان لم يزل في المكان الذي انتقل إليه وهكذا فيما بعده من الأمكنة فلم يزل غير منتقل وقد قلتم أنه لم يزل منتقلاً فهو إذن متحرك ولا متحرك وهذا محال‏.‏

وإن قلتم ساكن قلنا لكم اقطعوا من هذا الجرم قطعة بالوهم فإذا توهموا ذلك سألناهم متى كان هذا الجرم أعظم أقبل أن تقطع منه هذه القطعة أو بعد إن قطعت فأياً ما قالوا أو إن قالوا أنه مسا ولنفسه قبل أن تقطع منه هذه القطعة فقد أثبتوا النهاية إذ لا تقع الكثرة والقلة والتساوي إلا في ذي نهاية‏.‏

وأيضاً فإن المكان والجرم مما يقع تحت العدد كوقوع الزمان تحت العدد فكل ما أدخلناه فيما خلا من تناهي الزمان من طريق العدد فهو لازم في تناهي المكان والجرم من طريق العدد بالمساحة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه وكل ما ألزمناه من يقول بأن الأجسام لم تزل فهو لازم بعينه لمن يقول أن السبعة الكواكب والاثني عشر برجاً لم تزل لأنها أجسام جارية تحت أقسام الفلك وحركته فانظر هنالك ما ألزمناه من حدوث الأجسام وأزمانها فهو لازم لهؤلاء وتركنا ما ألزمناه في حدوث الأجسام في فروع أقوالهم كقولهم في المزاج والخلاص وصفات النور والظلمة إذ إنما قصدنا اجتثاث أصول المذاهب الفاسدة في أن الفاعل أكثر من واحد واعتمدنا البيان في إثبات الواحد فقط فإذ قد ثبت ذلك ببراهين ضرورية بطل كل ما فرعوه من هذا الأصل الفاسد إذ إنما قصدنا ما تدفع إليه الضرورة من الاستيعاب لما لا بد منه بإيجاز بحول الله تعالى وقوته وأما من جعل الفاعل أكثر من واحد إلا أ هم جعلوهم غير العالم كالمجوس والصابئين والمزدقية ومن قال بالتثليث من النصارى فإنه يدخل عليهم من الدلائل الضرورية بحول الله وقوته ما نحن موردوه إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ما كان أكثر من واحد فهو واقع تحت جنس العدد وما كان واقعاً تحت جنس العدد فهو نوع من أنواع العدد وما كان نوعاً فهو مركب من جنسه العام له ولغيره ومن فصل خصه ليس في غيره فله موضوع وهو الجنس القابل لصورته وصورة غيره من أنواع ذلك الجنس وله محمول وهو الصورة التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع وذو محمول فهو مركب من جنسه وفصله والمركب مع المركب من باب المضاف الذي لابد لكل واحد منهما من الآخر فأما المركب فإنما يقتضي وجود المركب من وقت تركبه وحينئذ يسمى مركابً لا قبل ذلك وأما الواحد فليس عدداً لما سنبينه إن شاء الله تعالى فقد انقضى الكلام في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق‏.‏

ومن البرهان على أن فاعل العالم ليس واحداً أن العالم لو كان مخلوقاً لاثنين فصاعداً لم يخل من أن يكونا لم يزالا مشتبهين أو مختلفين فأياً ما قالوا فقد أثبتوا معنى فيهما أو في أحدهما به اشتبها أو به اختلفا فإن نفوا ذلك فقد نفوا الاختلاف والاشتباه معاً ولا يجوز ارتفاعهما معاً أصلاً لأن ذلك محال وموجب للعدم لأن وجود شيئين لا يشتبهان في شيء ولا يختلفان بوجه من الوجوه محال إذ في ذلك عدمهما لأن هذه الصفة معدومة فحاملها معدوم وهم قد أثبتوا وجودها فيلزمهم القول بموجود معدوم في وقت واحد من وجه واحد وهذا محال وهم إذا أثبتوهما موجودين لم يزالا فقد أثبتوا لهما معاني قد اشتبها فيها وهي كونهما مشتبهين في الوجود مشتبهين في الفعل مشتبهين في أن لم يزالا ولا يجوز أن تكون هذه الأشياء ليست غيرهما لأنها صفات عمتهما أعني اشتباههما في المعاني المذكورة فإن كان اشتباههما هو هما فهما شيءٌ واحد وكذلك أيضاً يلزم في كونهما مختلفين في أن كل واحد منهما غير صاحبه فإن كان هذا الاختلاف فيهما هو غيرهما فههنا ثالث وهكذا أيضاً أبداً‏.‏

وسنذكر ما يدخل في هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

وإن كان التغاير هو هما والاشتباه هو هما فالتغاير هو الاشتباه وهذا هو عين المحال لأنه لابد من معنى موجود في المتغاير ليس اشتباهاً لأنه لا يجوز أن يكون الشيئآن مشتبهين بالتغاير فإذا قد ثبت ما ذكرنا ولم يكن بد من اشتباه أو اختلاف هو معنى غيرهما فقد ثبت ثالث وإذا ثبت ثالث لزم فيهم ثلاثتهم مثل ما لزم في الاثنين من السؤال وهكذا أبداً وهذا يوجب ضرورة أن كل واحد منهما أو أحدهما مركب من ذاته ومن المعنى الذي بان به عن الآخر أو به أشبه الآخر فإن أثبتوا ذلك لهما جميعاً وكلاهما مركب والمركب محدث فهما مخلوقان لغيرهما ولابد وإن أثبتوا ذلك لأحدهما فقط كان مركباً وكان الآخر هو الفاعل له فقد عاد الأمر إلى واحد غير مركب ولابد ضرورة‏.‏

ويوجب أيضاً إن تمادوا على ما ألزمناهم من وجود معنى به بأن كل من الآخر وجود قدماء لم يزالوا ووجود فاعلين آلهة أكثر من المألوهين وهذا محال لأنه لا سبيل إلى وجود أعداد قائمة ظاهرة في وقت واحد لا نهاية لها لأنه إن كان لها عدد فقد حصرها ذلك العدد على ما قدمنا وكل ما حصر فهو متناه وقد أوجبنا عليهم القول بأنها غير متناهية فلزمهم القول بأعداد متناهية لا متناهية وهذا من أعظم المحال فإن لم يكن لها عدد فليست موجودة لأن كل موجود فله عدد وكل ذي عدد متناه كما قدمنا فإن قال قائل فبأي شيء انفصل الخالق عن الخلق وبأي شيء انفصل الخلق بعضه من بعض وأراد أن يلزمنا في ذلك مثل الذي ألزمناه في الأدلة المتقدمة قيل له وبالله التوفيق الخلق كله حامل ومحمول فكل حامل فهو منفصل من خالقه ومن غيره من الحاملين بمحموله من فصوله وأنواعه وجنسه وخواصه وإعراضه في مكانه وسائر كيفياته وكل محمول فهو منفصل من خالقه ومن غيره من المحمولات بحامله وبما هو عليه مما باين فيه سائر المحمولات من نوعه وجنسه وفصله والباري تعالى غير موصوف بشيءٍ من ذلك كله وبالله تعالى التوفيق وقد ذكرنا في باب الكلام في بقاء الجنة والنار وبقاء الأجسام فيها بلا نهاية وفيما خلا من كتابنا الانفصال ممن أراد أن يلزمنا هنالك ما ألزمناهم نحن هنالك من الأعداد التي لا تتناهى إلا أننا نذكر هنا من ذلك إن شاء الله تعالى طرفاً كافياً وبالله تعالى التوفيق وبه نستعين فنقول إن الفرق بين المسئلتين المذكورتين أننا لم نوجب نحن في الجنة والنار وجود أعداد لا تتناهى بل قولنا إن أعدادهم متناهية لا تزيد ولا تنقص وإن مساحة النار والجنة محدودة متناهية لا تزيد ولا تنقص وإن كل ما ظهر من حركاتهم ومددهم فيها فمحصورة متناهية وإنما نفينا عنها النهاية بالقوة بمعنى أن الباري تعالى محدث لهم في كلتا الدارين بقاء ومدداً ونعيماً وعذاباً أبداً لا إلى غاية وليس ما ظهر من ذلك بعضاً لما لم يظهر فليلزمنا أن يكون اسم كل ما يقع على الموجود والمعدوم لأن الموجود لا يكون بعضاً للمعدوم وإنما هو بعض لموجود مثه هذا يعلم بالحس لأن الأسماء إنما تقع على معانيها ومعنى الوجود إنما هو ما كان قائماً في وقت من الأوقات ماض من الأوقات أو حال منها فما لم يكن هكذا فليس موجوداً وأبعاض الموجودات كلها موجودة فكلها موجود وكلها كان موجوداً فليس الموجود بعضاً للمعدوم والعدم هو إبطال الوجود ونفيه ولا سبيل إلى أن تكون أبعاض الشيء التي يلزمها اسمه الذي لا اسم لها سواه يبطل بعضها بعضاً وقد يمكن أن شغب مشغب في هذا المكان فيقول قد وجدنا أبعاضاً لا يقع عليها اسم كلها كاليد والرجل والرأس وسائر الأعضاء ليس شيء منها يسمى إنساناً فإذا اجتمعت وقع عليها اسم إنسان قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا شغب لأننا إنما تكلمنا على الأبعاض المتساوية التي كل بعض منها يقع عليه اسم الكل كالماء الذي كل بعض منه ماء وكله ماء وليس الجزء من هذا الباب وكل بعض من أبعاض الموجود فإنه يقع عليه اسم موجود وقد يمكن أن يشغب أيضاً مشغب في قولنا إن الأبعاض لا تتنافى فيقول إن الخضرة لا تنافي البياض وكلاهما بعض للون الكلي فهذا أيضاً ليس مما أردناه في شيء لأن قولنا موجود ليس جنساً فيقع على أنواع المتضادات وإنما هو إخبار عن وجودنا أشياء قد تساوي كلها في وجودنا إياها حقاً فهو يعم بعضها كما يعم كلها وأيضاً فإن الخضرة لا تضاد البياض في أن هذا لون بل يجتمعان في هذا المعنى اجتماعاً واحداً لا يختلفان فيه وإنما اختلفا بمعنى آخر وكذلك لا يخالف موجود موجوداً في أنه موجود والموجود يخالف المعدوم في هذا المعنى نفسه وليس بعضاً للمعدوم والمعدوم ليس شيئاً ولا له معنى حتى يوجد فإذا وجد كان حينئذ شيئاً موجوداً وقد تخلصنا أيضاً في باب التجزىء وكلامنا فيه في هذا الديون من مثل هذا الإلزام هنالك

الكلام على النصارى

قال أبو محمد رضي الله عنه النصارى وإن كانوا أهل كتاب ويقرون بنبوة بعض الأنبياء عليهم الصلام فإن جماهيرهم وفرقهم لا يقرون بالتوحيد مجرداً بل يقولون بالتثليث فهذا مكان الكلام عليهم والمجوس أيضاً وإن كانوا أهل كتاب لا يقرون ببعض الأنبياء ولكنا أدخلناهم في هذا المكان لقولهم بفاعلين لم يزالا فالنصارى أحق بالإدخال ههنا لأنهم يقولون بثلاثة لم يزالوا‏.‏

والنصارى فرق منهم أصحاب أريوس وكان قسيساً بالإسكندرية ومن قوله التوحيد المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق وأنه كلمة الله تعالى التي بها خلق السموات والأرض وكان في زمن قسطنطين الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم وكان على مذهب أريوس هذا‏.‏

ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي وكان بطريركاً بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله التوحيد المجرد الصحيح وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله تعالى في بطن مريم من غير ذكر وأنه إنسان لا إلهية فيه وكان يقول لا أدري ما الكلمة ولا روح القدس‏.‏

وكان منهم أصحاب مقدونيوس وكان بطريركاً في القسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية وكان هذا الملك أريوسياً كاتبه وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عبد مخلوق إنسان نبي رسول الله كسائر الأنبياء عليهم السلام وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله عز وجل وأن روح القدس والكلمة مخلوقان خلق الله كل ذلك‏.‏

ومنهم البربرانية وهم يقولون أن عيسى وأمه إلهان من دون اللله عز وجل وهذه الفرقة قد بادت وعمدتهم اليوم ثلاث فرق فأعظمها ‏)‏فرق الملكانية‏(‏ وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشي الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة للنصارى حيث كانوا حاشي الحبشة والنوبة ومذهب جميع نصارى أفريقية وصقلية والأندلس وجمهور الشام وقولهم أن الله تعالى عبارة عن قولهم ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس كلها لم تزل وأن عيسى عليه السلام إله تام كله وإنسان تام كله ليس أحدهما غير الآخر وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل وأن الإله منه لم ينله شيءٌ من ذلك وأن مريم ولدت الإله والإنسان وأنهما معاً شيءٌ واحد ابن الله تعالى عن كفرهم وقالت النسطورية مثل ذلك سواءً بسواءٍ إلا أنهم قالوا إن مريم لم تلد الإله وإنما ولدت الإنسان وأن الله تعالى لم يلد الإنسان وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان وهم منسوبون إلى نسطور وكان بطريركاً بالقسطنطينية وقالت اليعقوبية إن المسيح هو الله تعالى نفسه وأن الله تعالى عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر والفلك بلا مدبر ثم قام ورجع كما كان وأن الله تعالى عاد محدثاً وأن المحدث عاد قديماً وأنه تعالى هو كان في بطن مريم محمولاً به وهم في أعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة وملوك الأمتين المذكورتين قال أبو محمد رضي الله عنه ولولا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه إذ يقول تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وإذ يقول تعالى حاكياً عنهم أن الله ثالث ثلاثة وإذ يقول تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج السخيف وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون ونعوذ بالله من الخذلان فأما اليعقوبية فإنهم ينسبون إلى يعقوب البرذعاني وكان راهباً بالقسطنطينية وهم فرقة نافرت العقل والحس منافرة وحشة تامة لأن الاستحالة نقلة والنقلة والاستحالة لا يوصف بهما الأول الذي لم يزل تعالى عن ذلك علواً كبيراً ولو كان كذلك لكان مخلوقاً والمحدث يقتضي محدثاً خالباً له ويكفي من بطلان هذا القول دخوله في باب المحال والممتنع الذي قد أوجب العقل والحس بطلانه وليس في باب المحال أعظم من أن يكون الذي لم يزل يعود محدثاً لم يكن ثم كان وأن يصير غير المؤلف مؤلفاً ويلزم هؤلاء القوم أن يعرفونا من دبر السموات والأرض وأدار الفلك هذه الثلاثة الأيام التي كان فيها ميتاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً‏.‏

ثم يقال للقائلين بأن الباري تعالى ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس أخبرونا إذ هذه الأشياء لم تزل كلها وأنها مع ذلك شيء واحد إن كان ذلك كما ذكرتم فبأي معنى استحق أن يكون أحدها يسمى أباً والثاني ابناً وأنتم تقولون أن الثلاثة واحد وأن كل واحد منها هو الآخر فالأب هو الابن والابن هو الأب وهذا هو عين التخليط وإ جيلهم يبطل هذا بقولهم فيه سأقعد عن يمين أبي وبقولهم فيه أن القيامة لا يعلمها إلا الأب وحده وأن الابن لا يعلمها فهذا يوجب أن الابن ليس هو الأب وإن كانت الثلاثة متغايرة وهم لا يقولون بهذا فليلزمهم أن يكون في الابن معنى من الضعف أو من الحدوث أو من النقص به وجب أن ينحط عن درجة الأب والنقص ليس من صفة الذي لم يزل مع ما يدخل على من قال بهذا من وجوب أن تكون محدثة لحصر العدد وجرى طبيعة النقص والزيادة فيها على حسب ما قدمناه في حدوث العالم‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه وقد لفق بعضهم أشياء قالوا أنها لا معنى لها إلا أننا ننبه عليها ليتبين هجنة قولهم وضعفه بحول الله تعالى وقوته وذلك أن بعضهم قال لما وجب أن يكون الباري تعالى حياً عالماً وجب أن تكون له حياة وعلم فحياته هي التي تسمى روح القدس وعلمه هو الذي يسمى الابن قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا من أغث ما يكون من الاحتجاج لأننا قد قدمنا أن الباري تعالى لا يوصف بشيء من هذا من طريق الاستدلال لكن من طريق السمع خاصة ولا يصح لهم دليل لا من إنجيلهم ولا من غيره من الكتب أن العلم يسمى ابناً ولا في كتبهم أن علم الله هو ابنه وقد ادعى بعضهم أن هذا تقتضيه اللغة اللاتينية من أن علم العالم يقال فيه أنه ابنه قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا باطل ظاهر الكذب لأن الإنجيل الذي كان فيه ذكر الأب والابن وروح القدس لا يختلف أحد من الناس في أنه إنما نقل عن اللغة العبرانية إلى السريانية وغيرها فعبر عن تلك الألفاظ العبرانية وبها كان فيه ذكر الأب والابن وروح القدس وليس في اللغة العبرانية شيء مما ذكروا وادعى وإن كانوا ممن يقولون بتسمية الباري عز وجل من طريق الاستدلال فقد أسقطوا صفة القدرة إذ ليس الاستدلال على كونه عالماً بأصح ولا أولى من الاستدلال على كونه قادراً لاسيما مع قول بولس وهو عندهم فوق الأنبياء أن المسيح قدرة الله وعلمه تعالى قال هذا النص في رسالته الأولى إلى أهل قريته فليضيفوا إلى هذه الثلاث صفة رابعة وهي القدرة وأخرى وهي السمع وأخرى وهي البصر وأخرى وهي الكلام وأخرى وهيالعقل وأخرى وهي الحكمة وأخرى وهي الجود‏.‏

فإن قالوا القدرة هي الحياة قيل لهم والعلم هو الحياة‏.‏

فإن قالوا ليس العلم الحياة لأنه قد يكون حي ليس عالماً كالمجنون قيل لهم قد يكون حيٌّ ليس قادراً كالمغشي عليه ونحو ذلك فالقدرة ليست الحياة وأيضاً فإن كان الابن هو العلم وروح القدس هو الحياة فما بال إقحامهم المسيح عليه السلام في أنه الابن وروح القدس أترى المسيح هو حياة الله وعلمه وما بال قول بعضهم أن مريم ولدت ابن الله أتراها ولدت علم الله وحياته إلا كحظ غيره ولا فرق وهذا لا مخلص منه وبالله التوفيق وقال بعضهم لما وجدنا الأشياء قسمين حياً ولا حياً وجب أن يكون الباري عز وجل حياً ولما وجدنا الحي ينقسم قسمين ناطقاً وغير ناطق وجب أن يكون الباري تعالى ناطقاً قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا الكلام في غاية الكلال لوجهين أحدهما أن هذه القسمة قسمة طبيعية واقعة تحت جنس لأنه إذا كان تسمية الباري تعالى حياً إنما هو من هذا الوجه فهو إذاً يقع مع سائر الأحياء تحت جنس الحي ويحد بحد الحي وبحد الناطق وإذا كان كذلك فهو مركب من جنسه وفضله وكل ما كان محدوداً فهو متناه وكل ما كان مركباً فهو محدث والوجه الثاني أن هذه القسمة التي قسموا منقوضة مموهة لأنه يلزمهم أن يبدؤا بأول القسمة الذي هو أقرب إلى الطبيعة فيقولوا وجدنا الأشياء جوهراً ولا جوهراً ثم يدخلوه تحت أي القسمين شاؤا وهم إنما يدخلونه تحت الجوهر فإذا أدخلوه تحت الجوهر فقد وجب ضرورة أن يحدوه بحد الجوهر فإذا كان ذلك وجب أن يكون مدثاً إذ كل محدود محدث كما قد بيناه ثم نعترضهم في قسمتهم من قبل أن يبلغوا إلى الحي الناطق وعلى بعض القسم قبله يقع الثاني وهذه كلها مخلوقات فلو كان الباري تعالى بعضها أو كانت هذه الصفات واقعة عليه من طريق وجوب وقوعها علينا لكان مخلوقاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وقال بعضهم لما كانت الثلاثة تجمع الزوج والفرد وهذا أكمل الأعداد وجب أن يكون الباري تعالى كذلك لأنه غاية الكمال قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا من أغث الكلام لوجوه ضرورية أحدها أن الباري تعالى لا يوصف بكمال ولا تمام لأن الكمال والتمام من باب الإضافة إن التمام والكمال لا يقعان البتة إلا فيما فيه النقص لأن معناهما إنما هو إضافة شيءٍ إلى شيءٍ به كملت صفاته ولولاه لكان ناقصاً لا معنى للتمام والكمال إلا هذا فقط والوجه الثاني أن كل عدد بعد الثلاثة فهو أتم من الثلاثة لأنه يجمع إما زوجاً وزوجاً وفرداً وإما أكثر من ذلك وبالضرورة يعلم أن ما جمع أكثر من زوج فهو أتم وأكمل مما لم يجمع إلا زوجاً وفرداً فقط فيلزمه أن يقول إن ربه أعداد لا تتناهى أو أنه أكثر الأعداد وهذا أيضاً ممتنع محال لو قاله وكفى فساداً بقول يؤدي إلى المحال والوجه الثالث أن هذا الاستدلال مضاد لقولهم أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد هي غير الثلاثة التي هي عندكم واحد بلا شك لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد ليست الفرد الذي هو فيها وهي جامعة له ولغيره بل ولا هي بعض فالكل ليس هو الجزء والجزء ليس هو الكل والفرد جزء للثلاثة والثلاثة كل للفرد وللزوج معه فالفرد غير الثلاثة والثلاثة غير الفرد والعدد مركب من واحد يراد به الفرد وواحد كذلك وواحد كذلك إلى نهاية العدد المنطوق به فالعدد ليس الواحد والواحد ليس هو العدد لكن العدد مركب من الآحاد التي هي الأفراد وهكذا كل مركب من أجزاء فذلك المركب ليس هو جزأ من أجزائه كالكلام الذي هو مركب من حرف وحرف حتى يقوم المعنى المعبر عنه فالكلام ليس هو الحرف والحرف ليس هو الكلام والوجه الرابع أن هذا المعنى السخيف الذي قصده هذا الجاهل نجده في الإثنين لأن الإثنين عدد يجمع فرداً وفرداً وهو زوج مع ذلك فقد وجدنا في الإثنين الزوج والفرد فيلزمه أن يجعل ربه اثنين والوجه الخامس أن كل عدد فهو محدث وكذلك كل معدود يقع عليه عدد فهو أيضاً محدث على ما قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا والمعدود لم يوجد قط إلا ذا عدد والعدد لم يوجد قط إلا في المعدود والواحد ليس عدداً على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى وبه يتم الكلام في التوحيد بحول الله وقوته قال أبو محمد رضي الله عنه وهم يقولون أن الإله اتحد مع الإنسان بمعنى أنهما صارا شيئاً واحداً فقالت اليعقوبية كاتحاد الماء يلقي في الخمر فيصيران شيئاً واحداً وقالت النسطورية كاتحاد الماء يلقى في الزيت فكل واحد منهما باق بحسبه وقالت الملكية كاتحاد النار في قال أبو محمد رضي الله عنه وكل هذا في غاية الفساد أول ذلك أنها دعاو ولا يعجز عن مثلها متحامق وليس في إنجيلهم شيء من هذه الأقسام والثاني أنها كلها محال لأن قول الملكية في تمثيلهم بما مثلوا إنما هو عرض في جوهر ولا يتوهم غير ذلك فالإله على قولهم عرض والإنسان جوهر وهذا في غاية الفساد وقول اليعقوبية أفسد لأننا نقول لهم إن كان استحال الإله إنساناً فالمسيح إنسان وليس إلهاً وإن كان الإنسان استحال إلهاً فالمسيح إله وليس بإنسان وإن كان كلاهما لم يستحل واحد منهما إلى الآخر فهذا هو قول النسطورية لا قولهم وإن كان كل واحد منهما استحال إلى الآخر فقد صار الإله إنساناً لا إلهاً وصار الإنسان إلهاً لا إنساناً وحصلوا بعد هذا الحمق على قول النسطورية ولا مزيد وإن كانا استحالا إلى غير الإنسان والإله فالمسيح لا إله ولا إنسان وكل هذا خلاف قولهم‏.‏

وأما النسطورية فلم يزيد وأعلى أن قالوا إن الإنسان إنسان والإله إله وهكذا كل فاضل وفاسق في العالم هو إنسان والإله إله وهكذا كل فاضل وفاسق في العالم هو إنسان والإله إله فالمسحي وغيره من الناس سواء‏.‏

وأيضاً فإن ما قالوه محال لأن الذي لم يزل لا يستحيل إلى طبيعة الإنسان المحدث ولا يستحيل المحدث إلهاً لم يزل وهذا محال بذاته ممتنع لا يتشكك وكذلك الإنسان لا يجاور الإله مجاورة مكانية لأنه محال أيضاً وكذا لا يتوهم ولا يمكن أن يكون الإله عرضاً يحمله جوهر الإنسان ولا يمكن أيضاً أن يكون الإنسان عرضاً يحمله الإله في ذاته كما تدعي الملكية ي تشبيه ذلك الاتحاد بضوء الشمس في البيت وبالنار في الحديد المحماة فقد صح أن كل ما قالوا محال وباطل وسخف لا يقبله إلا مخذول ولا يمكنهم ادعاء وجود شيء من هذا في كتب الأنبياء أصلاً وأيضاً فإنهم يضيفون إلى ذكرهم الأب والابن وروح القدس شيئاً رابعاً وهو الكلمة وهي المتحدة عندهم بالإنسان الملتحمة به في مشيمة مريم عليها السلام فإن أمانتهم التي اتفقوا عليها كلهم هي كما نورده نصاً نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى وبالرب الواحد يسوع المسيح بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع الآه حق من الآه من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وولد من مريم البتول وألم وصلب أيام قيطوش بلاطش ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي هو مشتق من أبيه روح محبة وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية سليحية جاثليقية وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين وقال في أول إنجيل يوحنا التلميذ في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله كان الكلمة قال أبو محمد رضي الله عنه فهذه أقوال إذا تأملها ذو عقل علم أنها وساوس أو جنون ملقى من الشيطان لا يمتحن به إلا مخذول مشهود له ببراءة الله تعالى منه‏.‏

ويقال لهم الكلمة هي أو الأب الابن أو روح القدس أم شيء رابع‏.‏

فإن قالوا شيء رابع فقد خرجوا عن التثليث إلى التربيع‏.‏

وإن قالوا إنها أحد الثلاثة سئلوا عن الدليل على ذلك إذ الدعوى لا يعجز عنها أحد‏.‏

ثم يقال لهم الأب هو الابن أم هو غيره‏.‏

فإن قالوا هو غيره‏.‏

سئلوا أيضاً من الملتحم في مشيمة مريم المتحد مع طبيعة المسيح الأب أم الابن‏.‏

فإن قالوا الابن‏.‏

فقد بطل أن يكون هو الأب وخالفوا يوحنا إذ يقول في أول إنجيله إن الكلمة هي الله فإذا كانت هي الله والكلمة التحمت في مشيمة مريم فالله تعالى هو نفسه التحم في مشيمة مريم وفي أمانتهم أن الابن هو الذي التحم في مشيمة مريم وهذه وساوس لا نظير لها‏.‏

ويقال لهم أيضاً هل معنى التحم إلا صار لحماً وهذا غير قول النسطورية والملكية‏.‏

وإن قالوا بل الأب‏.‏

فقد بطل أن يكون هو الابن وخالفوا يوحنا والأمانة‏.‏

وإن قالوا هو الأب وهو الابن‏.‏

تركوا قولهم أن الابن يقعد عن يمين أبيه وأن الأب يعلم وقت القايمة والابن لا يعلمها وقولهم في إنجيل يوحنا الأب فوض الأمر إلى ابنه والأب أكبر من الابن فهذه نصوص على أن الابن غير الأب إذ لا يقعد المرء عن يمين نفسه ولا يفوض الأمر إلى نفسه ولا يجهل ما يعلم وهذا كله يبطل قولهم أن الابن هو العلم والقدرة أو غير ذلك لأن هذه الصفات لا تقعد عن يمين حاملها ولا يفوض إليها شيء‏.‏

وإن قالوا لا هو هو وإلا هو غيره دخل عليهم من الجنون ما يدخل على من ادعى أن الصفات لا هي الموصوف ولا هي غيره‏.‏

وإن قالوا الأب هو الابن وهو غيره لم يكن ذلك ببدع من سخافاتهم وخروجهم عن المعقول ولزمهم أن الابن ابن لنفسه وأب لنفسه وأن الأب أب لنفسه وابن لنفسه وليس في الحمق والهوس أكثر من هذا ولا متعلق لهم بشيء مما في الزبور ولا في كتاب شعياء وغيره لأنه ليس في شيء منها أن المراد بما ذكر هنالك هو عيسى بن مريم عليهما السلام وقد قال لوقا في آخر إنجيله أنه كان نبياً مقتدراً عبداً لله وهذا كله بين عظيم مناقضتهم وما توفيقنا إلا بالله‏.‏

فإن تعلقوا بما في الإنجيل من ذكر المسيح أنه ابن الله‏.‏

قيل لهم في الإنجيل أيضاً أبي وأبيكم الله إلهي وإلهكم وأمرهم إذا دعوا أن يقولوا يا أبانا السماوي فله من ذلك كالذي لهم ولا فرق‏.‏

فإن قالوا أنه أتى بالعجائب‏.‏

قيل لهم والحواريون أيضاً عندكم أتوا بالعجائب وموسى قبله والياس وسائر الأنبياء قد أتوا بمثل ما أتى به من إحياء الموتى وغيره فأي فرق بينه وبينهم على أنه ليس في شيء من الإنجيل نص الأمانة التي لا يصح الإيمان عندهم إلا بها من ذكر أب وابن وروح القدس معاً وسائر ما فيها وإنما هي تقليد لأسلافهم من الأساقفة ونعوذ بالله من الخذلان‏.‏

وأمانتهم التي ذكروا أنهم متفقون عليها موجبة أن الابن هو الذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وقتل وصلب‏.‏

فيقال لهم هذا الابن الذي في أمانتكم أنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً أخبرونا قبل أن ينزل من السماء أمخلوقاً كان أو غير مخلوق بل كان لم يزل‏.‏

فإن قالوا كان مخلوقاً‏.‏

فقد تركوا قولهم لاسيما أن قالوا ليس هو غير الأب بل يصير الأب وروح القدس مخلوقين‏.‏

وإن قالوا كان قبل أن ينزل غير مخلوق‏.‏

قيل لهم فقد صار مخلوقاً إنساناً وهذا محال وتناقض‏.‏

وأيضاً فقد لزم من هذا أن الابن مخلوق وروح القدس مخلوق إذ صار إنساناً‏.‏

ثم يقال لهم أخبرونا عن هذا الابن الذي أخبرتم عنه بما لم تخبروا عن الأب والذي يقعد عن يمين الرب ثم ينزل لفصل القضاء أله علم وحياة أم لا علم له ولا حياة‏.‏

فإن قالوا لا علم له ولا حياة‏.‏

فارقوا إجماعهم ولزمهم ضرورة أن قالوا مع ذلك أنه غير الأب الذي له حياة وعلم إذ ما لا علم له هو بلا شك غير الذي له علم والذي لا حياة له هو بلا شك غير الذي له حياة وهذا ترك منهم للنصرانية‏.‏

وإن قالوا بل له علم وحياة لزمهم أن الأزليين خمسة الأب وعلمه وحياته والابن الذي هو علم الأب وعلمه وحياته‏.‏

وهكذا يسألون أيضاً عن روح القدس ولا فرق وقد قال يوحنا في أول إنجيله فمن تقبله منهم وآمن به أعطاهم سلطاناً أن يكونوا أولاد الله أولئك المؤمنون باسمه الذين لم يتوالدوا من دم ولا شهوة اللحم ولاباه رجل ولكن توالدوا من الله فصح بهذا أن لكل نصراني من ولادة الله والأزلية والكون من جوهر الأب كالذي لمسيح سواءً بسواء ولا فرق وإلا فقد كذب يوحنا اللعين قائل هذا الكفر وأهل الكذب هو وهذا ما لا انفكاك منه وهذا يلزم الأشعرية الذين يقولون بأن علم الله تعالى وقدرته هما غير الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً ومما يعترض به علينا اليهود والناصرى ومن ذهب إلى إسقاط الكواف من سائر الملحدين إن قال قائلهم قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل وجاء القرآن بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل ولم يصلب فقولوا لنا كيف كان هذا فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه‏.‏

فإن قلتم اشتبه عليهم فلم يتعمد وانقل الباطل‏.‏

فقد جوزتم التلبيس على الكواف فلعل كافتكم أيضاً ملتبس عليها فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم وقولوا لنا كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله‏.‏

فإن قلتم كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه‏.‏

وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به وفي هذا ما فيه‏.‏

وإن قلتم كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه‏.‏

فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف وفي هذا إبطال قول كافتكم بل إبطال جميع الشرائع بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم ووقعتم وفي هذا ما قال أبو محمد رضي الله عنه هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بياناً لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته‏.‏

فنقول وبالله التوفيق إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافة ولا صح بالخبر قط لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم وعدم التقائهم وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعداً وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤا عليه فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه فما نقله أحد هاتين الصفتين عن مثل إحداهما وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه وسواء كانوا عدولاً أو فساقاً أو كفاراً ولا يقطع على صحته إلا ببرهان فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمةً صادقة بلا شك في نقلها جيلاً بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة صلبه فإن هنالك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهاراً خوف العامة وإنما أخذوه ليلاً عند افتراق الناس عن الفصح وأنه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار وأ ه أنزل إثر ذلك وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار ليس موضعاً معروفاً بصلب من يصلب ولا موقوفاً لذلك وأنه بعد هذا كله رسي الشرط على أن يقولوا أن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك وأن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة لم تقدم على حضور موضع صلبه بل كانت واقفة على بعد تنظر هذا كله في نص الإنجيل عندهم فبطل أن يكون صلبه منقولاً بكافة بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم غيباً عن ذلك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين وإن شمعون الصفا غرر ودخل دار قيقان الاهن أيضاً بضوء النهار فقال له أنت من أصحابه فانتفى وجحد وخرج هارباً عن الدار فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق فكيف أن ينقله كافةٌ وهذا معنى قوله تعالى ولكن شبه لهم إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل وتواطؤا عليه هم شبهوا على من قلدهم فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك عالمون أنهم كذبة ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس وفيمن يجالس وفي حيث هو فعله نائم أو مشبه على حواسه وفي هذا خروج إلى السخف وقول السوفسطائية والحماقة وقد شاهدنا نحن مثل ذلك وذلك أننا اندرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر فرأيت أنا وغيري نعشاً فيه شخص مكفن وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد ثم صلينا في ألوف من الناس عليه ثم لم يلبث إلا شهوراً نحو السبعة حتى ظهر حياً وبويع بعد ذلك بالخلافة ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه ورأيته وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام قال أبو محمد رضي الله عنه وأما قوله قد جوزتم التمويه على الكافة فقد بينا أنها لم تكن كافة قط وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات فلو صح أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم حاكماً على حواسهم ومحيلاً لها كخروج النبي صلا الله عليه وسلم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه‏.‏

وأما ما لم يأت خبر عن الله عز وجل بأنه شبه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعة وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل فيلزم قبوله‏.‏

وأما التشيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك ولا يجوز على الجماعة كلها‏.‏

وقوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليداً لأسلافهم من النصارى واليهود أنه عليه السلام قتل وصلب فهؤلاء شبه لهم القول أي أدخلوا في شبهة منه وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشرطهم المدعون أنهم قتلوه وصلبوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامة التي شبه الخبر لها‏.‏

ثم نقول لليهود والنصارى بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسئلة أن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقاً ووطء إماء وهو حرام عندكم وعن هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام عن عبادة غيره وعن الأمر بذلك وعن كل معصية ورذيلة فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء منهم موسى عليه السلام وسائر أنبيائهم كان كل ما أمروهم به من جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما السلام وسائر أنبيائهم لاسيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور بطبعه‏.‏

وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة ولكن نقل آحاد كذبوا فيه وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنه من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره لا أنه خار بطبعه قط وحتى لو صح أنه خار بطبعه لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من إثر جبريل عليه السلام والذي يعتمد عليه فهو قول ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرناه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وأما قوله كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه الإقرار بصلبه أم الإنكار له فهذه قسمة فاسدة شغبية قد حذر منها الأوائل كثيراً ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام وذلك أنهم أوجبوا فرضاً ثم قسموه على قسمين إما فرض بإنكار وإما فرض بإقرار وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغالط غابن لنفسه غاش لمن اغتر به وإنما الحقيقة ههنا أن يقول هل يلزم الناس قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بصلب المسيح أو بإنكار صلبه أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك لا بإقرار ولا بإنكار وإنما كان خبراً لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري ممكن صدق قائله فقد قتل أنبياء كثيرة وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك وهو بمنزلة شيء مغيب في دار فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار الإقرار بأن فيها رجلاً أم الإنكار لذلك فهذا كله لايلزم منه شيء‏.‏

ولم ينزل الله عز وجل كتاباً قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح صلى الله عليه وسلم ولا بإنكاره وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه‏.‏

فإن قالوا قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول‏.‏

قيل لهم وبالله التوفيق الناقلون لنبوتهم وإعلامهم ولقولهم بصلبه عليه السلام هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى مفتر عليه كافر به فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقاً أو كانوا كافة فما كان يوحنا ومتى وبولس إلا كفاراً كاذبين وما كانوا قط من صالحي الحواريين وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذباً فالكاذب لا يقوم بنقله حجة فبطل التمويه المتقدم والحمد لله رب العالمين‏.‏

وقال متكلموهم إن الاتحاد المذكور إنما هو تقليد للإنجيل ولم يكن نقلة ولا حركة ولا فارق الباري ولا العلم ما كانا عليه ولا انتقلا فيقال لهم هذا إبطال للاتحاد وقول منكم بأن حظه وحظ غيره في ذلك سواء وخلاف لأمانتكم التي فيها أن الابن نزل من السماء وتجسد وولد وقتل ودفن‏.‏

وقالت طائفة منهم المسيح حجاب الله خاطبه الله تعالى منه فيقال لهم أنتم تقولون أن المسيح رب معبود وإله خالق والحجاب عندكم مخلوق والمسيح عند بعضكم طبيعة واحدة وعند بعضكم طبيعتان ناسوتية ولاهوتية فأخبرونا أتعبدون الطبيعتين معاً اللاهوتية والناسوتية أم تبعدون إحداهما دون الأخرى‏.‏

فإن قالوا نعبدهما جميعاً أقروا بأنهم يعبدون إنساناً وحجاباً مخلوقاً مع الله تعالى وهذا أقبح ما يكون من الشرك‏.‏

وإن قالوا بل نعبد اللاهوت وحده قيل لهم فإنما تعبدون نصف المسيح لا كله لأنه طبيعتان ولستم تعبدون إلا أحدهما دون الأخرى‏.‏

وكذلك يسألون عن موت المسيح وصلبه فمن قول الملكية والنسطورية إن الموت والصلب إنما وقع على الناسوت خاصة‏.‏

فيقال لهم فأنتم في قولكم مات المسيح وصلب كاذبون لأنه إنما مات نصفه وصلب نصفه فقط لأن اسم المسيح عندكم واقع على اللاهوت والناسوت كليهما معاً لا على أحدهما دون الآخر وكل من قال من اليعقوبية الإنسان والإله شيء هو الإنسان فقد عبد إنساناً وربه إنسان مخلوق‏.‏

وكل من قال منهم الإله غير الإنسان فقد أبطل الاتحاد‏.‏

وهكذا يقال لهم في الحجاب مع الله تعالى سواء بسواء ويلزمهم جميعهم إذ قد أقروا بعبادة المسيح هكذا جملة وأنه رب خالق وفي الإنجيل أنه جاع وأكل الخبز والحيتان وعرق وضرب أن ربهم أكل وجاع وأن الإله ضرب ولطم وصلب وكفى بهذا رذالة وفحش قول وبيان بطلان‏.‏

ويقال للملكية واليعقوبية القائلين بأن المسيح ابن الله وابن مريم قد أقررتم أن المسيح إنسان وإله فالإنسان هو ابن الله وابن مريم والإله هو ابن مريم وهذه غاية الشناعة‏.‏

فإن قالوا ما تقولون فيما في كتابكم وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب وأنه تعالى كلم موسى من جانب الطور من الشجرة من شاطىء الوادي‏.‏

قلنا التكليم فعل الله تعالى مخلوق والحجاب إنما هو للتكليم والتكليم هو اذي حدث في الشجرة وشاطىء الوادي وجانب الطور وكل ذلك مخلوق محدث وكذلك تحول جبريل عليه السلام في صورة دحية إنما هو أن الله تعالى جعل للملائكة والجن قوة يتحولون بها فيما شاؤا من الصور وكلهم مخلوق تعاقب عليهم الإعراض بخلاف الله تعالى في ذلك‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه ومما يعترض به على النصارى وإن كان ليس برهاناً ضرورياً على جميعهم لكنه برهان ضروري على كل من تلقد منهم الشرائع التي يعمل بها الملكيون والنساطرة واليعاقبة والمارقبية قاطع لهم وهي مسئلة جرت لنا مع بعضهم وذلك أنهم لا يخلون من أحد وجهين إما أن يكونوا يقولون ببطلان النبوة بعد عيسى عليه السلام وإما أن يقولوا بإمكانها بعده عليه السلام‏.‏

فإن قالوا بإمكان النبوة بعده عليه السلام‏.‏

لزمهم الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ ثبت نقل إعلامه بالكواف التي بمثلها نقلت إعلام عيسى وغيره عليهم الصلاة والسلام‏.‏

وإن قالوا ببطلان النبوة بعد عيسى عليه السلام‏.‏

لزمهم ترك جميع شرائعهم من صلاتهم وتعظيمهم الأحد وصيامهم وامتناعهم من اللحم ومناكحهم وأعيادهم واستباحتهم الخنزير والميتة والدم وترك الختان وتحريم النكاح على أهل المراكب في دينهم إذ كل ما ذكرنا ليس منه في أناجيلهم الأربعة شيء البتة بل أناجيلهم مبطلة لكل ما هم عليه اليوم إذ فيها أ ه عليه السلام قال لم آت لأغير شيئاً من شرائع التوراة وأنه كان يلتزم هو وأصحابه بعده السبت وأعياد اليهود من الفصح وغيره بخلاف كل ما هم عليه اليوم فإذا منعوا من وجود النبوة بعده وكانت الشرائع لا تؤخذ إلا عن الأنبياء عليهم السلام وإلا فإن شارعها عن غير الأنبياء عليهم السلام حاكم على الله تعالى وهذا أعظم ما يكون من الشرك والكذب والسخف فشرائعهم التي هي دينهم غير مأخوذة عن نبي أصلاً فهي معاص مفترات على الله عز وجل بيقين لاشك فيه قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا حين نبدأ بعون الله وتوفيقه وتأييده إن شاء الله لا إله إلا هو في تبيين أن الواحد ليس عدداً فنقول وبالله تعالى التوفيق أن خاصة العدد هو أن يوجد عدد آخر مساوٍ له وعدد آخر ليس مساوياً له هذا شيء لا يخلو منه عدد أصلاً والمساواة هي أن تكون إبعاضه كلها مساوية له إذا جزئت ألا ترى أن الفرد والفرد مساويان للإثنين وأن الزوج والفرد ليس مساوياً للزوج الذي هو الإثنان والخمسة مساوية للإثنين والثلاثة غير مساوية للثلاثة وهكذا كل عدد في العالم فهذا معنى قولنا أن المساوي وغير المساوي هو خاصة العدد وهذه المساواة أردنا لا غيرها فلو كان للواحد أبعاض مساوية له لكان كثيراً بلا شك فيه عند كل ذي حس سليم‏.‏

وكل ما كان له أبعاض فهو كثير بلا شك فهو إذاً بالضرورة ليس واحداً فالواحد ضرورة هو الذي لا أبعاض له فإذ لاشك فيه فالواحد الذي لا أبعاض له تساويه ليس عدداً وهو الذي أردنا أن نبين وأيضاً فإن الحس وضرورة العقل يشهدان بوجود الواحد إذ لو لم يكن الواحد موجوداً لم يقدر على عدد أصلاً إذ الواحد مبدأ العدد والمعدود الذي لا يوصل إلى عدد ولا معدود إلا بعد وجوده ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم عدد ولا معدود أصلاً والعالم كله أعداد ومعدودات موجودة فالواحد موجود ضرورة فلما نظرنا في العالم كله نظراً طبيعياً ضرورياً لم نجد فيه واحداً على الحقيقة البتة بوجه من الوجوه لأن كل جرم من العالم فمنقسم محتمل للتجزئة متكثر بالانقسام أبداً بلا نهاية وكل حركة فهي أيضاً منقسمة بانقسام المتحرك بها والزمان حركة الفلك فهو منقسم بإنقسام الفلك فكل مدة فمنقسمة أيضاً بانقسام المتحرك بها الذي هو المدة وكذلك كل مقول من جنس أو نوع أو فصل وكذلك كل عرض محمول في جرم فإنه منقسم بانقسام حامله هذا أمر يعلم بضرورة العقل والمشاهدة وليس العالم كله شيئاً غير ما ذكرنا فصح ضرورة أنه ليس في العالم واحد البتة وقد قدمنا ببرهان ضروري آنفاً أنه لابد من وجود الواحد فإذاً لابد من وجوده وليس هو في شيء من العالم البتة فهو إذاً بالضرورة شيءٌ غير العالم فإذ ذلك كذلك فبالضرورة التي لا محيد عنها فهو الواحد الأول الخالق للعالم إذ ليس يوجد بالعقل البتة شيءٌ غير العالم إلا خالقه فهو الواحد الأول الله لا إله إلا هو الذي لا يتكثر البتة أصلاً لا بعدد ولا صفة ولا بوجه من الوجوه لا واحد سواه البتة ولا أول غيره أصلاً ولا مخترع فاعلاً خالقاً إلا هو وحده لا شريك له‏.‏

وإنما قلنا في كل فرد في العالم وهو الذي يسمى في اللغة عند العد واحداً على المجاز أنه كثير بمعنى أنه يحتمل أن يقسم وأن له مساحة كثيرة الأجزاء فإذا قسم ظهرت الكثرة فيه وأما ما لم يقسم فهو يعد فرداً حقيقياً وقد ذكرنا برهان وجوب احتمال الإنقسام لكل جزء في العالم في آخر كتبانا هذا ببراهين ضرورية لا محيد عنها وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فما تقول في الباء والتاء وسائر حروف الهجاء أليس كل واحد منها واحداً لا ينقسم قيل له وبالله التوفيق إن هذا شغب ينبغي أن تحفظ من مثله لأن الحرف إنما هو هواء يندفع من مخرج ذلك الحرف بعصر بعض آلات الصوت له من الرئة وأنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والأسنان والشفتين فإذ لاشك في هذا فذلك الهواء المندفع جسم طويل عريض عميق فهو محتمل الإنقسام ضرورة فذلك الهواء هو الحرف فالحرف هو جسم محتمل للقسم ضرورة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام على من يقول أن البارىء خلق العالم جملة

كما هو بجميع أحواله بلا زمان قال أبو محمد رضي الله عنه رأينا من يقر بالخالق تعالى ولا يقر بالنبوة ومن يذهب إلى ذلك وناظرناه على ذلك فقلت إن الذي تقول ممكن في قوة الله تعالى والذي نقول نحن من أنه تعالى خلق من النوع الإنساني ذكراً واحداً وأنثى واحدة تناسل الناس كلهم منهما ممكن أيضاً فمن أين ملت إلى تلك الحيثية دون هذه فتردد ساعة فلما لم يجد دليلاً قال فمن أين ملتم أنتم أيضاً إلى هذه الحيثية دون تلك فقلت لبراهين ضرورية توجب ما قلنا وتنفي ما قلتم منها أنه لو كان ما قلت لكان كل من أخرجه الله تعالى حينئذ من العدم إلى الوجود من الشبان والشيوخ يعلمون ذلك ويحسونه من أنفسهم ويوقنون أنهم الآن به حدثوا وأنهم لم يكونوا قبل ذلك لكن حدثوا الآن في حال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز وطبخ وغير ذلك ولو كان هذا لنقلوه إلى أولادهم نقلاً يقتضي لهم العلم الضروري بذلك ولابد كما يقتضي العلم الضروري كل نقل جاء بأقل من هذا المجيء مما كان قبلنا من الملوك والدول والوقائع وليبلغ الأمر إلينا كذلك ولعلمه جميع الناس علماً ضرورياً لأن شيئاً ينقله جميع أهل الأرض عن مشاهدتهم له لا يمكن التشكك فيه أبداً كما نقل طلوع الشمس وغروبها والموت والولاد وغير ذلك ونحن نجد الأمر بخلاف هذا لأنا نجد جميع أهل الأرض # قاطبة لا يعرفون هذا بل لا يدريه أحد منهم وإنما قلته أنت ومن وافقته أو من وافقك برأي وظن لا بخبر ونقل أصلاً هذا ما لا تخالفنا فيه أنت ولا أحد من الناس فمن المحال الممتنع أن يكون خبرٌ نقله جميع سكان العالم أولهم عن آخرهم إلى كل من حدث بعدهم عن ما شاهدوه يخفي حتى لا يعرفه أحد من سكان الأرض هذا أمرٌ يعرف كذبه بأول العقل وبديهته‏.‏

فقال والذي تحكونه أنتم أيضاً قد وجدنا جماعات ينكرونه فينيبغي أن يبطل بما عارضتنا به‏.‏

فقلت بين النقلين فرق لا خفاء به لأن نقلنا نحن لما قلناه إنما يرجع إلى خبر رجل واحد وامرأة واحدة فقط وهما أول من أحدثهم الله تعالى من النوع الإنساني وما كان هكذا فإنه لا يوجب العلم الضروري إذ التواطؤ ممكن في ذلك ولولا أن الأنبياء والذين جاؤا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذلك ما صح قولنا من جهة النقل وحده بل كان ممكناً أن يكون الله تعالى ابتدأ خلق جماعة تناسل الخلق منهم لكن لما أخبر من صححت المعجزة قوله بأن الله تعالى لم يبتدىء من النوع الإنساني إلا رجلاً واحداً وامرأة واحدة وجب تصديق قولهم وبرهان آخر وهو ا كم قد أثبتم ضرورة صحة قولنا من أن الله ابتدأ النوع الإنسان بأن خلق ذكراً وأنثى ثم ادعيتم زيادة أن الله تعالى خلق سواهما جماعات ولم تأتوا على ذلك ببرهان أصلاً ولا بدليل إقناعي فضلاً عن برهاني وقد صحت البراهين التي قدمنا قيل أنه لابد من مبدأ ضرورة فوجب ولابد حدوث ذكر وأنثى وكان من ادعى حدوث أكثر من ذلك مدعياً لما لا دليل له عليه أصلاً وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا مرية فيه وكل ما ذكرت عنه نبوةٌ في الهند والمجوس والصابئين واليهود والنصارى والمسلمين فلم يختلفوا في أن الله تعالى إنما أحدث الناس من ذكر وأنثى وما جاء هذا المجيء فلا يجوز الاعتراض عليه بالدعوى وإنما اختلف عنهم في الأسماء فقط وليس في هذا معترض لأنه قد يكون للمرء أسماءً كثيرة فلم يمنع من هذا مانع وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد رضي الله عنه فلم نجد عندهم في ذلك معارضة أصلاً وما علمنا أحداً من المتكلمين ذكر هذه الفرقة أصلاً وقلت له في خلال كلامي معه أترى العالم إذا خرج دفعة أخرج فيه الحوامل يطلقن والطباقون قعوداً على أطباقهم يبيعون التين والسرقين فضحك وعلم أني سلكت به مسلك السخرية في قوله لفساده وقال لي نعم فقلت ينبغي أن يكونوا كلهم أنبياء يوحى إليهم أولهم عن آخرهم بما هم عليه من العلوم والصناعات أو يلهمون ذلك وفي هذا من بطلان الدعوى ما لا خافاء به وكان مما اعترض به أن ذكر الجزائر المنقطعة في البحار وأنه يوجد فيها النمل والحشرات وكثير من الطير وكثير من حشرات الأرض فقلت إن كان ذلك لا ينكر ذو حس دخوله في جملة رحالات المسافرين الداخلين إلى تلك البلاد فقد شاهدنا دخول الفيران في جملة الرحل كذلك وليس في ذلك ما يوجب ما ذكرت أصلاً مع أن الحيوان نوعان‏.‏

نوع متولد يخلقه الله تعالى من عفونات الأبدان وعفونات الأرض فهذا لا ينكر تولده بإحداث الله تعالى له في كل حين‏.‏

وقسم آخر متوالد قد رتب الله تعالى في بنية العالم أنه لا يخلقه إلا عن مني ذكر وأنثى فهذا هو الذي صار في تلك الجزائر عن دخول إليها بلا شك وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وما ننكر في كل نوع ماعدا الإنسان أن يخلق الله منه أكثر من اثنين فهذا ممكن في قدرة الله تعالى ولم يأت خبر صادق بخلافه لأن الله تعالى قد قال في أمر نوح عليه السلام وسفينته حين الطوفان واحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومع هذا فقد يمكن أن يكون نوح عليه السلام مأموراً بأن يحمل من كل زوجين اثنين ولا يمنع ذلك من بقاء بعض أنواع نبات الماء وحيوانه في غير السفينة والله أعلم وإنما نقول فيما لا يخرجه العقل إلى الوجوب والامتناع بما جاءت به النبوة فقط وبرهان آخر وهو أنه لو كان إخراج الله تعالى لكل ما في العالم من المعلوم والعلماء بها والصناعات والصانعين لها دفعة واحدة لكان ذلك بضرورة العقل وأوله لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون ذلك بوحي إعلام وتوقيف منه تعالى وإما بطبع مركب فيهم يقتضي لهم ما علموا من ذلك وما صنعوا فإن كان بوحي إعلام وتوقيف فقد صحت النبوة لجميعهم إذ ليست النبوة معنى غير هذا وهذه دعوى ممن قال بهذا القول بلا دليل وما لا دليل عليه فهو باطل لا يجوز القول به لاسيما والقائلون بها منكرون للنبوة فلاح تناقض قولهم وإن كان كل ذلك عن طبيعة تقتضي لهم كونهم عالمين بالعلوم متكلمين باللغة متصرفين في الصناعات بلا تعليم ولا توقيف فهذا محال ضرورة وممتنع في العقل وفي الطبيعة إذ لو كان ذلك لوجدوا أبداً كذلك إذ الطبيعة واحدة لا تختلف وبالضرورة ندري أنه لا يوجد أحد أبداً في شيء من الأزمان ولا في مكان أصلاً يأتي بعلم من العلوم لم يعلمه إياه أحد ولا يتكلم بلغة لم يعلمه إياها أحد ولا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عليها أحد‏.‏

وبرهان ذلك ما قدمنا قبل من أن البلاد التي ليست فيها العلوم وأكثر الصناعات كأرض الصقالبة والسودان والبوادي التي في خلال المدن ليس يوجد فيها أبداً أحد يدري شيئاً من العلوم ولا من الصناعات حتى يعلمه ذلك معلم وأنه لا ينطق أحد حتى يعلمه معلم فظهر فساد هذا القول ببرهان وقبل البرهان بتعريه من البرهان

 الكلام على من ينكر النبوة والملائكة

قال أبو محمد رضي الله عنه ذهبت البراهمة وهم قبيلة بالهند فيهم أشراف الهند ويقولون أنهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم قديم ولهم علامة ينفردون بها وهي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا إلا أنهم أنكروا النبوات‏.‏

وعمدة احتجاجهم في دفعها أن قالوا لما صح أن الله عز وجل حكيم وكان من بعث رسولاً إلى من يدري أنه لا يصدقه فلا شك في أنه متعنت عابث فوجب نفي بعث الرسل عن الله عز وجل لنفي العبث والعنت عنه‏.‏

وقالوا أيضاً إن كان الله تعالى إنما بعث الرسل إلى الناس ليخرجهم بهم من الضلال إلى الإيمان فقد كان أولى به في حكمته وأتم لمراده أن يضطر العقول إلى الإيمان به‏.‏

قالوا فبطل إرسال الرسل على هذا الوجه أيضاً ومجيء الرسل عندهم من باب الممتنع‏.‏

وأما نحن فنقول إن مجيء الرسل قبل أن يبعثهم الله تعالى واقع في باب الإمكان وأما بعد إن بعثهم الله عز وجل ففي حد الوجوب ثم أخبر الصادق عليه السلام عنه تعالى أنه لا نبي بعده فقد جد الامتناع ولسنا نحتاج إلى تكلف ذكر قول من قال من المسلمين أن مجيء الرسل من باب الواجب واعتلالهم في ذلك بوجوب الإنذار في الحكمة إذ ليس هذا القول صحيحاً وإنما قولنا الذي بيناه في غير موضع أنه تعالى لا يفعل شيئاً لعلة وأنه تعالى يفعل ما يشاء وإنك ل ما فعله فهو عدل وحكمة أي شيءٍ كان‏.‏

فيقال وبالله التوفيق لمن احتج بالحجة الأولى من أن الحكمة تضاد بعثة الرسل وأن الحكيم لا يبعث الرسل إلى من يدري أنه يعصيه أنكم اضطركم هذا الأصل الفاسد الحاكم بذلك إلى موافقة المنانية على أصولها أن الحكيم لا يخلق من يعصيه ولا من يكفر به ويقتل أولياءه وهم يقولن إن الله تعالى خلق الخلق ليدلهم بهم على نفسه‏.‏

ويقال لهم قد علمنا وعلمتم أن في الناس كثيراً يجحدون الربوبية والوحدانية فقولوا أنه ليس حكيماً من خلق دلائل لمن يدري أنه لا يستدل بها‏.‏

فإن قالوا أنه قد استدل بها كثير‏.‏

قيل لهم وقد صدق الرسل أيضاً كثير‏.‏

فإن قالوا أنه خلق الخلق كما شاء‏.‏

قيل لهم وكذلك بعث الرسل أيضاً كما شاء فبعثته تعالى الرسل هي بعض دلائله التي خلقها تعالى ليدل بها على المعرفة به تعالى وعلى توحيده‏.‏

ويقال لمن احتج بالحجة الثانية من أن الأولى به أنه كان يضطر العقول إلى الإيمان به أن هذا قول مرذول مردود عليكم في قولكم أن الله عز وجل خلق الخلق ليدلهم بهم نفسه ووحدانيته فيلزمكم على ذلك الأصل الفاسد أنه كان الأولى إذ خلقهم أن لا يدعهم والاستدلال وقد علم أن فيهم من لا يستدل وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال وقد علم أن فيهم من لا يستدل وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال فكان الأولى في الحكمة أن يضطر عقولهم إلى الإيمان به ولا يكلفهم مؤنة الاستدلال وأن يلطف بهم ألطافاً يختار جميعهم معها الإيمان كما فعل بالملائكة قال أبو محمد رضي الله عنه وملاك هذا كله ما قد قلناه في غير موضع من أن الخلق لما كانوا لا يقع منهم فعل إلا لعلة ووجب بالبراهين الضرورية أن البارىء تعالى بخلاف جميع خلقه من جميع الجهات وجب أن يكون فعله لا لعلة بخلاف أفعال جميع الخلق وأنه لا يقال في شيء من أفعاله تعالى أنه فعل كذا لعلة ولا إذ جاء الإنسان بالنطق وحرمه سائر الحيوان وخلق بعض الحيوان صائداً وبعضه مصيداً وباين بين جميع مفعولاته كما شاء فليس لأحد أن يقول لم خلق الإنسان ناطقاً وحرم الحمار النطق وجعل الحجر جامداً لا حياة له ولا نطق وهذا أصل قد وافقنا البراهمة عليه وسائر من خالفنا من تفريع هذا المعنى ممن يقول بالتوحيد وهكذا إذا بعث تعالى الأنبياء ليس لأحد أن يقول لم بعثهم أو لم بعث هذا الرجل ولم يبعث هذا الآخر ولا لم بعثهم في هذا الزمان دون غيره من الأزمان ولا لم بعثهم في هذا المكان دون غيره من الأمكنة كما لا يقال لم حباه بالسعد في الدنيا دون غيره وهكذا كل ما في العالم إذا نظر فيه تعالى الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قال أبو محمد رضي الله عنه وإذ قد نقضنا شغبهم بحول الله تعالى وتأييده فلنقل الآن بعون الله تعالى وتأييده في إثبات النبوة إذا وجدت قولاً بيناً وبالله تعالى التوفيق قد قدمنا فيما خلا إثبات حدوث الأشياء وأن لها محدثاً لم يزل واحداً لا مبدأ له ولا كان معه غيره ولا مدبر سواه ولا خالق غيره فإذ قد ثبت هذا كله وصح أنه تعالى أخرج العالم كله إلى الوجود بعد أن لم يكن بلا كلفة ولا معاناة ولا طبيعة ولا استعانة ولا مثال سلف ولا علة موجبة ولا حكم سابق قبل الخلق يكون ذلك الحكم لغيره تعالى فقد ثبت أنه لم يفعل إذ لم يشأ وفعل إذ شاء كما شاء فيزيد ما شاء وينقص ما شاء فكل منطوق به مما يتشكك في النفس أو لا يتشكك فهو داخل له تعالى في باب الإمكان على ما بينا في غير هذا المكان إلا أننا نذكر ههنا طرفاً إن شاء الله عز وجل فنقول وبالله تعالى نتأيد‏.‏

إن الممكن ليس واقعاً في العالم وقوعاً واحداً ألا تري أن نبات اللحية للرجال ما بين الثمان عشرة إلى عشرين سنة ممكن وهو في حدود الأنثى عشر سنة إلى العامين ممتنع وإن فك الإشكالات العويصة واستخراج المعاني الغامضة وقول الشعر ابديع وصناعة البلاغة الرائقة ممكن لذي الذهي اللطيف والذكاء النافذ وغير ممكن من ذي البلادة الشديدة والغباوة المفرطة فعلى هذا ما كان ممتنعاً بيننا إذ ليس في بنيتنا ولا في طبيعتنا ولا من عادتنا فهو غير ممتنع على الذي لا بنية له ولا طبيعة له ولا عادة عنده ولا رتبة لازمة لفعله فإذا قد صح هذا فقد صح أنه لا نهاية لما يقوى عليه تعالى فصح أن النبوة في الإمكان وهي بعثة قوم قد خصهم الله تعالى بالفضيلة لا لعلة إلا أنه شاء ذلك فعلمهم الله تعالى العلم بدون تعلم ولا تنقل في مراتبه ولا طلب له ومن هذا الباب ما يراه أحدنا في الرؤيا فيخرج صحيحاً وما هو من باب تقدم المعرفة فإذ قد أثبتنا أن النبوة قبل مجيء الأنبياء عليهم السلام واقعة في حد الإمكان فلنقل الآن بحول الله تعالى وقوته على وجوبها إذا وقعت ولابد فنقول إذ قد صح أن الله تعالى ابتدأ العالم ولم يكن موجوداً حتى خلقه الله تعالى فبيقين ندري أن العلوم والصناعات لا يمكن البتة أن يهتدي أحد إليها بطبعه فيما بيننا دون تعليم كالطب ومعرفة الطبائع والأمراض وسببها على كثرة اختلافها ووجود العلاج لها بالعقاقير التي لا سبيل إلى تجريبها كلها أبداً وكيف يجرب كل عقار في كل علة ومتى يتهيأ هذا ولا سبيل له إلا في عشرة آلاف من السنين ومشاهدة كل مريض في العالم وهذا يقطع دونه قواطع الموت والشغل بما لا بد منه من أمر المعاش وذهاب الدول وسائر العوائق وكعلم النجوم ومعرفة دورانها وقطعها وعودها إلى أفلاكها مما لا يتم إلا في عشرة آلاف من السنين ولابد من أن يقطع دون ضبط ذلك العوائق التي قلنا وكاللغة التي لا يصح تربية ولا عيش ولا تصرف إلا بها ولا سبيل إلى الاتفاق عليها إلا بلغة أخرى ولابد فصح أنه لابد من مبدأ للغة ما وكالحرث والحصاد والدراس والطحن وآلاته والعجن والطبخ والحلب وحراسة المواشي واتخاذ الأنسال منها والغرس واستخراج الأدهان ودق الكتان والقنب والقطن وغزله وحياكته وقطعه وخياطته ولبسه وآلات كل ذلك وآلات الحرث والإرحاء والسفن وتدبيرها في القطع بها للبحار والدواليب وحفر الآبار وتريبة النحل ودود الخز واستخراج المعادن وعمل الأبنية منها ومن الخشب والفخار وكل هذا لا سبيل إلى الاهتداء إليه دون تعليم فوجب بالضرورة ولابد أنه لابد من إنسان واحد فأكثر علمهم الله تعالى ابتداء كل هذا دون معلم لكن بوحي حققه عنده وهذه صفة النبوة فإذاً لابد من نبي أو انبياء ضرورة فقد صح وجود النبوة والنبي في العالم بلا شك‏.‏

ومن البرهان على ما ذكرنا أننا نجد كل من لم يشاهد هذه الأمور لا سبيل له إلى اختراعها البتة كالذي يولد وهو أصم فإنه لا يمكن له البتة الاهتداء إلى الكلام ولا إلى مخارج الحروف وكالبلاد التي ليست فيها بعض الصناعات وهذه العلوم المذكورة كبلاد السودان والصقالبة وأكثر الأمم وسكان البوادي نعم والحواضر لا يمكن البتة منذ أول العالم إلى وقتنا هذا ولا إلى انقضائه اهتداء أحد منهم إلى علم يعرفه ولا إلى صناعة لم يعرف بها فلا سبيل إلى تهديهم إليها البتة حتى يعلموها ولو كان ممكناً في الطبيعة التهدي إليها دون تعليم لوجد من ذلك في العالم على سعته وعلى مرور الأزمان من يهتدي إليها ولو واحداً وهذا أمر يقطع على أنه لا يوجد ولم يوجد وهكذا القول في العلوم ولا فرق ولسنا نعني بهذا ابتداء جمعها في الكتب لأن هذا أمر لا مؤنة فيه إنما هو كتاب ما سمعه الكاتب وإحصاؤه فقط كالكتب المؤلفة في المنطق وفي الطب وفي الهندسة وفي النجوم وفي الهيئة والنحو واللغة والشعر والعروض إنما نعني ابتداء مؤنة اللغة والكلام بها وابتداء معرفة الهيئة وتعلمها فابتداء أشخاص الأمراض وأنواعها وقوى العقاقير والمعاناة بها وابتداء معرفة الصناعات فصح بذلك أنه لابد من وحي من الله تعالى في ذلك قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا أيضاً برهان ضروري على حدوث العالم وأن له محدثاً مختاراً ولابد إذ لا بقاء للعالم البتة إلا بنشأة ومعاش ولا نشأة ولا معاش إلا بهذه الأعمال والصناعات والآلات ولا يمكن وجود شيء من هذه كلها إلا بتعليم الباري تعالى فصح أن العالم لم يكن موجوداً إذ لا سبيل إلى بقائه إلا بما ذكرنا ثم وجد معلماً مدبراً مبتدئاً بتعليمه على ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه وإذ قد تكلمنا على أنه لابد من نبوة وصح ذلك ضرورة فلنتكلم على براهينها التي صح بها علم صدق مدعيها إذ وقعت فنقول أنه قد صح أن البارىء تعالى هو فاعل كل شيء ظهر وأنه قادر عىل إظهار كل متوهم لم يظهر وعلمنا بكل ما قدمنا أنه تعالى مرتب هذه الرتب التي في العالم ومجريها على طبائعها المعلومة منا الموجودة عندنا وأنه لا فاعل على الحقيقة غيره تعالى ثم رأينا خلافاً لهذه الرتب والطبائع قد ظهرت ووجدنا طبائع قد أحيلت وأشياء في حد الممتنع قد وجبت ووجدت كصخرة انفلقت عن ناقة وعصى انقلبت حية وميت أحياه إنسان ومئين من الناس رووا وتوضؤا كلهم من ماء يسير في قدح صغير يضيق عن بسط اليد فيه لا مادة له فعلمنا أن محل هذه الطبائع وفاعل هذه المعجزات هو الأول الذي أحدث كل شيء ووجدنا هذه القوى قد أصحبها الله تعالى رجالاً يدعون إليه ويذكرون أنه تعالى أرسلهم إلى الناس ويستشهدون به تعالى فيشهد لهم بهذه المعجزات المحدثة منه تعالى في عين رغبة هؤلاء القوم إليه فيها وضراعتهم إليه في تصديقهم بها فعلمنا علماً ضرورياً لا مجال للشك فيه أنهم مبعوثون من قبله عز وجل وأنهم صادقون فيما أخبروا به عنه تعالى إذ لا سبيل في طبيعة مخلوق في العالم إلى التحكم على البارىء ولا على طبائع خلقه بمثل هذا ووجوب النبوة إذ ظهر على مدعيها معجزة من إحالة الطبائع المخالفة لما بني عليه العالم وقد تكلمنا في غير هذا المكان على أن هذه الأشياء لها طرق توصل إلى صحة اليقين بها عند من لم يشاهدها كصحتها عند من شاهدها ولا فرق وهي نقل الكافة التي قد استشعرت العقول ببدايتها والنفوس بأول معارفها أنه لا سبيل إلى جواز الكذب ولا الوهم عليها وإن ذلك ممتنع فيها فمن تجاهل وأجاز ذلك عليها خرج عن كل معقول ولزمه أن لا يصدق أن من غاب عن بصره من الانس بأنهم أحياء ناطقون كمن شاهد وأن صورهم على حسب الصورة التي عاين ولزم أن يكون عندهم ممكناً في بعض من غاب عن بصره من الناس أن يكونوا بخلاف ما عهد من الصورة إذ لا يعرف أحدا أن كل من غاب عن حسه فإنه في مثل كيفية ما شاهد من نوعه إلا بنقل الكواف ذلك كما نقلت أن بعضهم بخلاف ذلك في بعض الكيفيات فوجب تصديق ذلك ضرورة كبلاد السودان وما أشبه ذلك ويلزم من لم يصدق خبر الكافة ويجيز فيه الكذب والوهم أن لا يصدق ضرورة بأ أحداً كان قبله في الدنيا ولا أن في الدنيا أحداً إلا من شاهد بحسه فإن جوز هذا عرف بقلبه أنه كاذب وخرج عن حدود من يتكلم معه لأن هذا الشيء لا يعرف البتة إلا من طريق الخبر لا غير فإن نفر عن هذا وأقر بأنه قد كان قبله ملوك وعلماء ووقائع وأمم وأيقن بذلك ولم يكن في كثير منها شك بل هي عنده في الصحة كما شاهد ولا فرق سئل من أين عرفت ذلك وكيف صح عندك فلا سبيل له أصلاً إلى أن يصح ذلك عنده إلا بخبر منقول نقل كافة وبالله تعالى التوفيق فنقول له حينئذ فرق بين ما نقل إليك من كل ذلك وبين كل ما نقل إليك من علامات الأنبياء ولا سبيل له إلى الفرق بين شيء من ذلك أصلاً فإن قال الفرق بينها وبينها أنه لا ينكر أحد هذه الأمور وكثير من الناس ينكرون أعلام الأنبياء قيل له وبالله تعالى التوفيق أن كثيراً من الناس لا يعرفون كثيراً مما صح عندك من الأخبار العارضة لمن كان في بلادك قبلها فليس جهلهم بها ودفعهم لها لو حدثوا بها مخرجاً لها عن الصحة وكذلك جحد من جحد إعلام الأنبياء ليس مخرجاً لها عن الوجوب والصحة فإن قال إنه ليس نجد الناس على الكذب فيما كان قبلنا من الأخبار ما نجدهم على الكذب في إعلام النبوة قيل له وبالله التوفيق هذا كذب بل الأمران سواء لا فرق بينهما ومن الملوك من يشتد عليهم وصف أسلافهم بالجور والظلم والقبائح ويحمي هذا الباب بالسيف فما دونه فما انتفعوا بذلك في كتمان الحق قد نقل ذلك كله وعرف كما نقلت فضائل من يغضب ملوك الزمان من مدحه كفضائل علي رضي الله عنه ما قدر قط ملوك بني مروان على سترها وطيها وقد رام المأمون والمعتصم والواثق على سعة ملكهم لأقطار الأرض قطع القول بأن القرآن غير مخلوق فما قدروا على ذلك وكل نبي فله عدو من الملوك والأمم يكذبونهم فما قدروا قط على طي إعلامهم ولا على تحقيق ما زادوا على ذلك لمن يغضب له من لا دين له فصح أن الأمرين سواء وأن الحق حق فإن قال قائل فلعل هذا الذي ظهرت منه المعجزات قد ظفر بطبيعة وخاصية قدر معها على إظهار ما أظهر قيل له وبالله التوفيق إن الخواص قد علمت ووجوه الحيل قد أحكمت وليس في شيءٍ منها عمل يحدث عنه اختراع جسم لم يكن كنحو ما ظهر من اختراع الماء الذي لم يكن ولا في شيء منه إحالة نوع إلى نوع آخر دفعة على الحقيقة ولا جنس إلى جنس آخر دفعه على الحقيقة وهذا كله قد ظهر على أيدي الأنبياء عليهم السلام فصح أنه من عند الله تعالى لا مدخل لعلم إنسان ولا حيلة فيه ونحن نبين إن شاء الله الفرق الواضح بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين ما يقدر عليه بالسحر وبين حيل العجابيين فنقول وبالله تعالى التوفيق إن العالم كله جوهر وعرض لا سبيل إلى وجود قسم ثالث في العالم دون الله تعالى فأما الجواهر فاختراعها من ليس إلى أنس وهو من العدم إلى الوجود فممتنع غير ممكن البتة لأحد دون الله تعالى مبتدىء العالم ومخترعه فمن ظهر عليه اختراع جسم كالماء النابع من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الجيش فهي معجزة شاهدة من الله تعالى له بصحة نبوته لا يمكن غير ذلك أصلاً ولذلك إحالة الأعراض التي هي جوهريات ذاتيات وهي الفصول التي تؤخذ من الأجناس وذلك كقلب العصا حية وحنين الجذع وإحياء الموتى الذين رموا وصاروا عظاماً والبقاء في النار ساعات لا تؤذيه وما أشبه ذلك وكذلك الأعراض التي لا تزول إلا بفساد حاملها كالفطس والرزق ونحو ذلك فهذا لا يقدر عليه أحد دون الله تعالى بوجه من الوجوه وأما إحالة الأعراض من الغيرات التي تزول بغير فساد حاملها فقد تكون بالسحر ومنه طلسمات كتنفير بعض الحيوان عن مكان ما فلا يقر به أصلاً وكإبعاد البرد ببعض الصناعات وما أشبه هذا وقد يزيد الأمر ويفشو العلم ببعض هذا النوع حتى يحسبه أكثر الناس كالطير والاصباغ وما أشبه هذا وأما التخييل نوع من الخديعة كسكين مثقوبة النصاب تدخل فيها السكين ويظن من رآها أنها دخلت في جسد المضروب بها في حيل غير هذه من حيل أرباب العجائب والحلاج وأشباهه فأمر يقدر عليه من تعلمه وتعلمه ممكن لكل من أراده فالذي يأتي به الأنبياء عليهم السلام هو إحالة الذاتيات ومن ذلك صرف الحواس على طبائعها كمن أراك ما لا يراه غيرك أو مسح يده على مريض فأفاق أو سقاه ما يضر علته فبرىء أو أخبر عن الغيوب في الجزئيات عن غير تعديل ولا فكرة فهذه كلها إحالة الذاتيات وما ثبت إذ ثباتها لا يكون إلا لنبي فإذ قد تكلمنا على مكان النبوة قبل مجيئها ووجوبها حين وجودها فلنتكلم الآن بحول الله وقوته على امتناعها بعد ذلك فنقول وبالله تعالى التوفيق إذ قد صح كل ما ذكرنا من المعجزات الظاهرة من الأنبياء عليهم السلام شهادة من الله تعالى لهم يصدق بها أقوالهم فقد وجب علينا الانقياد لما أتوا به ولزمنا تيقن كل ما قالوا وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل الكواف التي نقلت نبوته واعلامه وكتابه أنه أخبر أنه لا نبي بعده إلا ما جاءت الأخبار الصحاح من نزول عيسى عليه السلام الذي بعث إلى بني إسرائيل وادعى اليهود قتله وصلبه فوجب الإقرار بهذه الجملة وصح أن وجود النبوة بعده عليه السلام باطل لا يكون البتة وبهذا يبطل أيضاً قول من قال بتواتر الرسل ووجوب ذلك أبداً وبكل ما قدمناه مما أبطلنا به قول من قال بامتناعهما البتة إذ عمدة حجة هؤلاء هي قولهم إن الله حكيم والحكيم لا يجوز في حكمته أن يترك عباده هملاً دون إنذار قال أبو محمد رضي الله عنه وقد أحكمنا بحول الله تعالى وقوته قبل هذا إن الله تعالى لا شرط عليه ولا علة موجبة عليه أن يفعل شيئاً ولا أن لا يفعله وأنه تعالى لو أهمل الناس لكان حقاً وحسناً لو خلقهم كما خلق سائر الحيوان الذي لم يلزمه شريعة ولا خطر عليه شيءٌ وأنه تعالى لو واتر الرسل والنذارة أبداً لكان حقاً وحسناً لما فعل بالملائكة الذين هم حملة وحيه ورسله أبداً وأنه تعالى لو خلق الخلق كفاراً كلهم لكان ذلك منه حقاً وحسناً أو لو خلقهم مؤمنين كلهم لكان حقاً وحسناً كما أن الذي فعل تعالى من كل ذلك حق وحسن وأنه لا يقبح شيء إلا من مأمور منهي قد تقدمت الأوامر وجوده وسبقت الحدود المترتبة للأشياء كونه وأما من سبق كل ذلك فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء لا معقب لحكمه وأما الملائكة فكل من له معرفة ببنية العالم والأفلاك والعناصر فإنه يعلم أن الأرض وعمقها أقرب إلى الفساد من سائر العناصر ومن سائر الأجرام العلوية وأنها مواتية كلها وأن الحياة إنما هي في النفوس المنزلة قسراً إلى مجاورة أجساد الترابية المواتية من جميع الحيوان فقد ثبت يقيناً بضرورة المشاهدة أن محل الحياة وعنصرها ومعدنها وموضعها إنما هو هنالك من حيث جاءت النفوس الحية الناقصة بما فيه طبعها من مجاورة هذه الأجساد والتثبت بها عن كمال ما خص بالحياة الدائمة ولم يشن ولا نقص فضله وصفاؤه بمجاورة الأجساد الكدرة المملوءة آفات ودرناً وعيوباً فصح أن العلو الصافي هو محل الأحياء الفاصلين السالمين من كل رذيلة ومن كل نقص ومن كل مزاج فاسد المحبوين بكل فضيلة في الخلق وهذه صفة الملائكة عليهم السلام وصح بهذا أن على قدر سعة ذلك المكان يكون كثرة من فيه من أهله وعماره وأنه لا نسبة لما في هذا المحل الضيق والنقطة الكدراء ومما هنالك كما لا نسبة لمقدار هذا المكان من ذلك وبهذا صحت الرواية وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الملائكة في الأخبار المسندة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم وبهذا وجب أن يكونوا هم الرسل والوسائط بين الأول تعالى الذي خصهم بالنبوة والرسالة وتعليم العلوم وبين إنقاذ النفوس من الهلكة قال أبو محمد رضي الله عنه ذهب أحمد بن حابط وكان من أهل البصرة من تلاميذ إبراهيم النظام يظهر الاعتزال وما نراه إلا كافراً لا مؤمناً وإنما استخرنا إخراجه عن الإسلام لأن أصحابه حكوا عنه وجوهاً من الكفر منها التناسخ والطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنكاح وكان من قوله أن الله عز وجل نبأ أنبياء من كل نوع من أنواع الحيوان حتى البق والبراغيث والقمل وحجته في ذلك قول الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم ذكروا قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عز وجل يقول لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وإنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها قال الله تعالى يا أولي الألباب وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه والتصرف في الصناعات على اختلافها الإنسان خاصة وأضفنا إليهم بالخبر الصادق مجرد الجن وأضفنا إليهم بالخبر الصادق وببراهين ضرورية الملائكة وإنما شارك من ذكرنا سائر الحيوان في الحياة خاصة وهي الحس والحركة الإرادية فعلمنا بضرورة العقل أن الله تعالى لا يخاطب بالشرائع إلا من يعقلها ويعرف المراد بها وبقوله تعالى لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ووجدنا جميع الحيوان حاشا الناس يجري على رتبة واحدة في تصرفها في معايشها وتناسلها لا يجتنب منها واحد شيئاً بفعله غيره هذا الذي يدرك حساً فيما يعاشر الناس في منازلهم من المواشي والخيل والبغال والحمير والطير وغير ذلك وليس الناس في أحوالهم كذلك فصح أن البهائم غير مخاطبة بالشرائع وبطل قول ابن حابط وصح أن معنى قول الله تعالى أمم أمثالكم أي أنواع أمثالكم إذ كل نوع يسمى أمة وإن معنى قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير إنما عنى تعالى الأمم من الناس وهم القبائل والطوائف ومن الجن لصحة وجوب العبادة عليهم فإن قال قائل فما يدريك لعل سائر الحيوان له نطق وتمييز قيل له وبالله التوفيق بقضية العقول وبديهها عرفنا الأشياء على ما هي عليه وبها عرفنا الله تعالى وصحة النبوة وهي التي لا يصح شيء إلا بموجبها فما عرف بالعقل فهو واجب فيما بيننا نريد في الوجود في العالم وما عرف بالعقل أنه محال فهو محال في العالم وما وجد بالعقل إمكانه فجائز أن يوجد وجائز أن لا يوجد وبضرورة العقل والحس علمنا أن كل واقعين تحت جنس فإن ذلك الجنس يعطيهما اسمه وحده عطاء مستوياً فلما كان جنس الحي يجمعنا مع سائر الحيوان استوينا معها كلها استواء لا تفاضل فيه فيما اقتضاه اسم الحياة من الحس والحركة الإرادية وهذان المعنيان هما الحياة لا حياة غيرهما أصلاً وعلمنا ذلك بالمشاهدة لأننا رأينا الحيوان يألم بالضرب والنخس ويحدث لهما من الصوت والقلق ما يحقق ألمها كما نفعل نحن ولا فرق ولذلك لما شاركنا والحيوان جميع الشجر والنبات في النماء استوى جميع الحيوان فيما اقتضاه اسم النمو من طلب الغذاء واستحالته في المتغذى به إلى نوعه ومن طلب بقاء النوع مع جميع الشجر والنبات استواءً واحداً لا تفاضل فيه ولما شاركنا وجميع الحيوان والشجر والنبات وسائر الجمادات في أن كل ذلك أجسام طويلة عريضة عميقة جميع الأجرام استوى كل ذلك فيما اقتضاه له اسم الجسمية في ذلك استواءً لا تفاضل فيه ولم يدخل ما لم يشارك شيئاً مما ذكرنا في الصفة التي انفرد بها عنه هذا كله يعلمه ضرورة من وقف عليه ممن له حس سليم فلما كان النطق الذي هو في العلوم والصناعات قد خصنا دون سائر الحيوان وجب ضرورة أن لا يشاركنا شيء من الحيوان في شيء منه إذ لو كان فيه شيءٌ منه لما كنا أحق بكله من سائر الحيوان كما أنا لسنا بالحياة أحق منها ولا بالنمو ولا بالحركة ولا بالجسمية فصح بهذا أنه لا نطق لها أصلاً فإن قال قائل لعل نطقها بخلاف نطقنا قيل له وبالله التوفيق لا يتشكل في العقول ألبتة حياة على غير صفة الحياة عندنا ولا نماء على غير صفة النماء عندنا ولا حمرة على غير الحمرة عندنا ولا جسم على خلاف الأجسام عندنا وهكذا في كل شيء ولو كان شيء بخلاف ما عندنا لم يقع عليه ذلك الاسم أصلاً وكان كمن سمى الماء ناراً والعسل حجراً وهذا هو الحمق والتخليط فبالضرورة وجب أن كل صفة هي بخلاف نطقنا فليس نطقاً والنطق عندنا هو التصرف في العلوم والصناعات ومعرفة الأشياء على ما هي عليه فلو كان ذلك النطق بخلاف هذا لكان ليس معرفة للأشياء على ما هي عليه ولاتصرفاً في العلوم والصناعات فهو إذاً ليس نطقاً فبطل هذا الشغب السخف والحمد لله رب العالمين‏.‏

فإن اعترض معترض بفعل النحل ونسيج العنكبوت قيل له وبالله التوفيق إن هذه طبيعة ضرورية لأن العنكبوت لا يتصرف في غير تلك الصفة من النسج ولا توجد أبداً إلا لذلك وأما الإنسان فإنه يتصرف في عمل الديباج والوشي والقباطي وأنواع الأصباغ والدباغ والخرط والنقش وسائر الصناعات من الحرث والحصاد والطحن والطبخ والبناء والتجارات وفي أنواع العلوم من النجوم ومن الأغاني والطب والقبل والجبر والعبارة والعبادة وغير ذلك ولا سبيل لشيء من الحيوان إلى التصرف في غير الشيء الذي اقتضاه له طبعه ولا مفارقة تلك الكيفية فإن اعترض معترض بقول الله تعالى علمنا منطق الطير وبما ذكر الله تعالى من قول النملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم الآية وقصة الهدهد قيل له وبالله تعالى التوفيق لم ندفع أن يكون للحيوان أصوات عند معاناة ما تقتضيه له الحياة من طلب الغذاء وعند الألم وعند المضاربة وطلب السفاد ودعاء أولادها وما أشبه ذلك فهذا هو الذي علمه الله تعالى سليمان رسوله عليه السلام وهذا الذي يوجد في أكثر الحيوان وليس هذا من تمييز دقائق العلوم والكلام فيها ولا من عمل وجوه الصناعات كلها في شيء وإنما عنى الله تعالى بمنطق الطير أصواتها التي ذكرنا لا تمييز العلوم والتصرف في الصناعات الذي من ادعاه لها أكذبه العيان والله تعالى لا يقول إلا الحق وأما قصة النملة والهدهد فهما معجزتان خاصتان لذلك النمل وكذلك الهدهد وآيتان لسليمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككلام الذراع وحنين الجذع وتسبيح الطعام لمحمد صلى الله عليه وسلم آيات لنبوته عليه السلام وكذلك حياة حصا موسى عليه السلام آية لرسول الله موسى عليه السلام لأن هذا النطق شامل لأنواع هذه الأشياء قال أبو محمد رضي الله عنه وقد قاد السخف والضعف والجهل من يقدر في نفسه أنه عالم وهو المعروف بخويز منداد المالكي إلى أن جعل للجمادات تمييزاً قال أبو محمد رضي الله عنه ولعل معترضاً يعترض بقول الله تعالى وإن من شيء غلا يسبح بحمده وبقوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان الآية وبقوله تعالى حاكياً أنه قال للسموات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقتص للشاه الجماء من الشاة القرناء فهذا كله حق ولا حجة لهم فيه والحمد لله رب العالمين لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خالف ذلك كان عاصياً لله عز وجل مبدلاً لكلماته ما لم يأت نص في أحدها أو إجماع متيقن أو ضرورة حس على خلاف ظاهره فيوقف عند ذلك ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسباً الكذب إلى الله عز وجل أو كاذباً عليه وعلى نبيه عليه السلام نعوذ بالله من كلا الوجهين وإذ قال بينا قبل بالبراهين الضرورية أن الحيوان غير الإنس والجن والملائكة لا نطق له نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات وكان هذا القول مشاهداً بالحس معلوماً بالضرورة لا ينكره إلا وقح مكابر لحسه وبينا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا فإنه ليس تمييزاً وكان هذا أيضاً يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة فوجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها وأما معانيها فمختلفة لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا لأنه إن فعل كان مخبراً أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ولولاه ما عرفناه ومن أجاز هذا كان كافراً مشركاً ومن أبطل العقل فقد أبطل التوحيد إذ كذب شاهده عليه إذ لولا العقل لم يعرف الله عز وجل أحد ألا ترى المجانين والأطفال لا يلزمهم شريعة لعدم عقولهم ومن جوز هذا فلا ينكر على النصارى ما يأتون به من خلاف المعقول ولا على الدهرية ولا على السوفسطائية ما يخالفون به المعقول لكنا نقول أن اللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه كما فعلنا في النزول وفي الوجه واليدين والأعين وحملنا كل ذلك على أنه حق بخلاف ما يقع عليه اسم ينزل عندنا واسم يد وعين عندنا لأن هذا عندنا في اللغة واقع على الجوارح والنقلة وهذا منفي عن الله تعالى فإذ لا شك في هذا فلنقل الآن على معاني الآيات التي ذركنا أنه ربما اعترض بها من لا يمعن النظر بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق أما تسبيح كل شيء فالتسبيح عندنا إنما هو قول سبحان الله وبحمده وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والألوان لا تقول سبحان الله بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل فإذ لا شك في هذا فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء فإذ قد صح هذا فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث وليس في العالم شيء إلا وهو دال بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعاً لا يشبه على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس كما قال تعالى ولكن لا تفقهون تسبيحهم فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك وهذا المعنى حق لا ينكره موحد فإن كان قولنا هذا متفقاً على صحته وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه الكاذب وأيضاً فإن الله تعالى يقول وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم والكافر الدهري شيء لا يشك في أنه شيءٌ وهو لا يسبح بحمد الله تعالى ألبتة فصح ضرورة أن الكافر يسبح إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى وأن تسبيحه ليس هو قوله سبحان الله وبحمده بلا شك ولكنه تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبهاً لشيء مما خلق وهذا يقين لا شك فيه فصح بما ذكرنا أن لفظة التسبيح هي من الأسماء المشتركة وهي التي تقع على نوعين فصاعداً وأما السجود الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً فقد علمنا أن السجود المعهود عندنا في الشريعة واللغة هو وضع الجبهة واليدين والركبتين والرجلين والأنف في الأرض بنية التقرب بذلك إلى الله تعالى هذا ما لا يشك فيه مسلم وكذلك نعلم ضرورة لاشك فيها أن الحمير والهوام والخشب والحشيش والكفار لا تفعل ذلك لاسيما من ليس له هذه الأعضاء وقد نص تعالى على صحة ما قلنا وأخبر تعالى أن في الناس من لا يسجد له السجود المعهود عندنا بقوله تعالى واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار لا يسأمون فأخبر تعالى أن في الناس من يستكبر عن السجود له فلا يسجد وقال تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً فبين تعالى أن السجود كرهاً غير السجود بالطوع الذي هو السجود المعهود عندنا وإذ قد أخبر الله تعالى بهذا وصح أيضاً بالعيان فقد علمنا بالضرورة أن السجود الذي أخبر الله تعالى أنه يسجد له من في السموات والأرض هو غير السجود الذي يفعله المؤمنون طوعاً ويستكبر عنه بعض الناس ويمتنع منه أكثر الخلق هذا مما لا يشك فيه مسلم فإ هذا كذلك بلا شك فواجب علينا أن نطلب معنى هذا السجود ما هو ففعلنا فوجدناه مبيناً بلا إشكال في آيتين من كتاب الله وهما قوله تعالى وظلالهم بالغدو والآصال وقوله تعالى أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون فبين تعالى في هاتين الآيتين بياناً لا إشكال فيه أن ميل الفيء والظل بالغدوات والعشيات من كل ذي ظل هو معنى السجود المذكور في الآية لا السجود المعهود عندنا وصح بهذا أن لفظة السجود هي من الأسماء المشتركة التي تقع على نوعين فأكثر وأما قوله تعالى قالتا أتينا طائعين فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والشفتين والأضراس بهواءٍ يصل إلى أذن السامع فيفهم به مرادات القائل فإذ لا شك في هذا فكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق فلا يكون منه القول المعهود منا هذا مما لا يشك فيه ذو عقل فإذ هذا هكذا كما قلنا بالعيان فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته فإنه ليس هو القول المعهود عندنا لكنه معنى آخر فإذ هذا كما ذكرنا فبالضرورة قد صح أن معنى قوله تعالى قالتا أتينا طائعين إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل فيهما وتصريفه لهما وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال وإباية كل واحد منها فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك وهذا نص قوله تعالى ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق وأن له مبدئاً لا يشبهه البتة فأراد معرفة كيف كان فقد دخل في قوله تعالى وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السموات والأرض والجبال الأمانة إلا وقد جعل فيها تمييزاً لما عرض عليها وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها فلما أبتها وأشفقت منها سلبها ذلك التمييز وتلك القوة وأسقط عنها تكليف الأمانة هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل ولا مزيد عندنا على ذلك وأما ما كان بعد ابتداء الخلق فمعروف الكيفيات قال تعالى وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته فصح أنه لا تبديل لما رتبه الله تعالى مما أجرى عليه خلائقه حاشا ما أحال فيه الرتب والطبائع للأنبياء عليهم السلام فإن اعترضوا أيضاً بقول الله تعالى يصف الحجارة وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً فإذ لاشك في هذا فإن في قوله تعالى وإن منها لما يهبط راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة الآية فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوماً ما فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى وهذا أمر يشاهد بالعيان فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ويخشى العاصي وقد أخبر عز وجل أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر تعالى أن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة‏.‏

والوجه الثاني أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره كما قلنا في قوله تعالى عز وجل حاكياً عن السماء والأرض قالتا أتينا طائعين وقد بين جل وعز ذلك موصولاً بهذا اللفظ فقال جل وعز فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فبين الله تعالى بياناً رفع كل إشكال أن تلك الطاعة من السموات والأرض إنما هي تصرفه لها وقضاؤه تعالى إياهن سبع سموات ووحيه في كل سماءٍ أمرها فصح قولنا نصاً جلياً ببيان الله تعالى لذلك والحمد لله رب العالمين وصح بهذا أن إباية السموات والأرض والجبال من قبول الأمانة إنما هو لما ركبها الله تعالى عليه من الجمادية وعدم التمييز وقد علم كل ذي عقل امتناع قبول ما هذه صفته للشرائع والأوامر والنواهي وقد ذم الله تعالى من ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ولا يحل لمسلم أن ينسب إلى الله تعالى فعلاً ذمه‏.‏

والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله وإن منها لما يهبط من خشية الله الجبل الذي صار دكاً إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة ويكون يهبط بمعنى هبط كما قال الله عز وجل وإذ يمكر بك الذين كفروا ومعناه بلا شك وإذ مكر وبين قوله تعالى مصدقاً إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر وبقوله تعالى واتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون قال أبو محمد رضي الله عنه فصح بهذا صحة لا مجال للشك فيها أن الحجارة لا تعقل لأنها هي التي كانوا يعبدون مما لا يعقل وأما سائر ما كانوا يعبدون من الملائكة والمسيح وأمه عليهما السلام ومن الجن فكل هؤلاء عاقلون مميزون فلم يبق إلا الحجارة فصح بالنص أنها لا تعقل وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة وبالمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية المعهود كل ذلك عندنا وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين‏.‏

وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان والكعبة كذلك وإن الجبال تطاولة وخشع جبل كذا فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف لا يصح شيء منها من طريق الإسناد أصلاً ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئاً منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث أو ما يستجاز روايته مما قال أبو محمد رضي الله عنه وكل من يخالفنا في هذا فإنه إذا أقر لنا أن القول المذكور في الآيات التي تلونا والسجود والتسبيح والخشية ليس شيء منه على الصفة المعهودة بيننا فقد وافقنا أحب أو كره وهم كلهم مقرون بذلك وقد جاء ذلك في أشعار العرب قال الشاعر شكى إلي جملي طول السرى وقال آخر فقالت له العينان سمعاً وطاعةً وقال الراعي قلق الفؤوس إذا أردن نصولا ومن هذا الباب قوله تعالى جداراً يريد أن ينقض وهذا بلا شك غير الإرادة المعهودة من الحيوان فصح قولنا بالنص والضرورة والحمد لله رب العالمين وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء فقد قال الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحية إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون وقال تعالى وإذا الوحوش حشرت فصح أنها تحشر بلا شك ويسلط الله تعالى ما يشاء من خلقه على ما يشاء فإذا سلط القرناء على الجماء في الدنيا فله تعالى أن يسلط الجماء على القرناء في الآخرة يوم القيامة ولم يأت نص ولا إجماع ولا دليل عقل ولا دليل عقل ولا دليل خبر على أن المواشي متعبدة بشريعة وهذا مما نقر به ونقول يفعل الله ما يشاء ولا علم لنا إلا ما علمنا وبالله تعالى التوفيق

 الرد على من زعم أن الأنبياء ليسوا أنبياء اليوم

ولا الرسل اليوم رسلاً قال أبو محمد رضي الله عنه حديث فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم ليس هو الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول ذهب إليه الأشعرية‏.‏

وأخبرني سليمان بن خلف الباجي وهو من مقدميهم اليوم أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسئلة قتله بالسم محمود ابن سبكتكين صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله قال أبو محمد رضي الله عنه وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام مذ كان الإسلام إلى يوم القيامة وإنما حملهم على هذا قولهم الفاسد أن الروح عرض والعرض يفنى أبداً ويحدث ولا يبقى وقتين فروح النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قد فنيت وبطلت ولا روح له الآن عند الله تعالى وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته بذلك ورسالته قال أبو محمد رضي الله عنه ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا ترداد فيه ويكفي من بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عز وجل به ورسوله صلى الله عليه وسلم واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من الأذان في الصوامع كل يوم خمس مرات في كل قرية من شرق الأرض إلى غربها بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله فعلى قول هؤلاء الموكلين إلى أنفسهم يكون الآذان كذباً ويكون من أمر به كاذباً وإنما كان يجب أن يكون الأذان على قولهم أشهد أن محمداً كان رسول الله وإلا فمن أخبر عن شيء كان وبطل أنه كائن الآن فهو كاذب فالأذان كذب على قولهم وهذا كفر مجرد وكذلك ما اتفق عليه جميع أهل الإسلام بلا خلاف من أحد منهم من تلقين موتاهم لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنه باطل على قول هؤلاء وكذلك ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة قتاله الأمة وأمره عن الله عز وجل بأن يعمل به بعده أبداً وأجمع على القول به والعمل جميع أهل الإسلام من أول الإسلام إلى آخره ومن شرق الأرض إلى غربها إنسهم وجنهم بيقين مقطوع به دون مخالف فيما تخرج به الدماء من التحليل إلى التحريم أو إلى الحقن بالجزية من أن يعرض على أهل الكفر أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فيجب على قول هؤلاء المحرومين أن هذا باطل وكذب وإنما كان يجب أن يكلفوا أن يقولوا محمد كان رسول الله وكذلك قوله تعالى ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكذلك قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم وقوله تعالى وجيء بالنبيين والشهداء فسماهم الله رسلاً وقد ماتوا وسماهم نبيين ورسلاً وهم في القيامة وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مصل فرضاً أو نافلة السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فلو لم يكن روحه عليه السلام موجوداً قائماً لكان السلام على العدم هدراً‏.‏

فإن قالوا كيف يكون ميتاً رسول الله وإنما الرسول هو الذي يخاطب عن الله بالرسالة قيل لهم نعم يكون من أرسله الله تعالى مرة واحدة فقط رسولاً لله تعالى أبداً لأنه حاصل على مرتبة جلالة لا يحطه عنها شيء أبداً ولا يسقط عنه هذا الاسم أبداً ولو كان ما قلتم لوجب أن لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى أهل اليمن في حياته لأنه لم يكلمهم ولا شافههم ويلزم أيضاً أن لا يكون رسول الله إلا ما دام يكلم الناس فإذا سكت أو أكل أو نام أو جامع لم يكن رسول الله وهذا حمق مشوب بكفر وخلاف للإجماع المتيقن ونعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن خبر الإسراء الذي ذكره الله عز وجل في القرآن وهو منقول نقل التواتر وأحد أعلام النبوة ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في سماءٍ سماء فهل رأى إلا أرواحهم التي هي أنفسهم ومن كذب بهذا أو بعضه فقد انسلخ عن الإسلام بلا شك ونعوذ بالله من الخذلان وهذه براهين لا محيد عنها وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن لله ملائكة يبلغونه منا السلام وأنه من رآه في النوم فقد رآه حقاً ولقد بلغني عن بعضهم أنهم يقولون أن أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لسن الآن أمهات المؤمنين لكنهن كن أمهات المؤمنين قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا ضلال بحت وحماقة محضة ولو كان هذا لوجب أن لا تكون أم المرء الذي ولدته وأبوه الذي ولده أباه ولا أمه إلا في حين الولادة والحمل من الأم فقط وفي حين الإنزال من الأب فقط لا بعد ذلك وهذا من السخف الذي لا يرضى به لنفسه ذو مسكة فإن قالوا أتقولون أن عمر أمير المؤمنين اليوم أو عثمان أيضاً كذلك قلنا لهم لا وهذا إجماع لأنه لا يكون أمير إلا من الائتمار لأمره واجب وليس هذا لأحد بعد موته إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو لخليفة بعد خليفة طول حياته فقط فبطل أن يكون لهم فيها متعلق قال أبو محمد رضي الله عنه افترق القائلون بتناسخ الأرواح على فرقتين فذهبت الفرقة الواحدة إلى أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخر وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت وهذا قول أحمد بن حابط وأحمد بن نانوس تلميذه وأبي مسلم الخراساني ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب صرح بذلك في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي وهو قول القرامطة وقال الرازي في بعض كتبه لولا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجساد المتصورة بالصور البهيمية إلى الأجساد المتصورة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح لما جاز ذبح شيء من الحيوان ألبتة قال أبو محمد رضي الله عنه وهذه كما ترى دعاوي وخرافات بلا دليل وذهب هؤلاء إلى أن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب قالوا فالفاسق المسيء الأعمال تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار والمسخرة المؤلمة الممتهنة بالذبح واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها شراً لا خير فيها فقال بعضهم أرواح هذه الطبقة هي الشياطين وقال أحمد بن حابط أنها تنتقل إلى جهنم فتعذب بالنار أبد الأبد واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها خيراً لا شر فيها فقال بعضهم أرواح هذه الطبقة هي الملائكة وقال أحمد بن حابط إنها لاشك أنها تنتقل إلى الجنة فتنعم فيها أبد الأبد واحتجت هذه الطائفة المرتسمة بالإسلام أعني أحمد بن حابط وأ مد بن نانوس بقول الله تعالى يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك وبقوله تعالى جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه واحتج من هذه الطائفة من لا يقول بالإسلام بأن قالوا إن النفس لا تتناهى والعالم لا يتناهى لأمد فالنفس منتقلة أبداً وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها قال أبو محمد رضي الله عنه وذهبت الفرقة الثانية إلى أن منعت من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت وليس من هذه الفرقة أحد يقول بشيءٍ من الشرائع وهم من الدهرية وحجتهم هي حجة الطائفة التي ذكرنا قبلها القائلة أنه لا تناهي للعالم فوجب أن تتردد النفس في الأجساد أبداً قالوا ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه وتعلقها به قال أبو محمد رضي الله عنه أما الفرقة المرتسمة باسم الإسلام فيكفي من الرد عليهم إجماع جميع أهل الإسلام على تكفيرهم وعلى أن من قال بقولهم فإنه على غير الإسلام وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بغير هذا وبما المسلمون مجمعون عليه من أن الجزاء لا يقع إلا بعد فراق الأجساد للأرواح بالنكر أو التنعيم قبل يوم القيامة ثم بالجنة أو بالنار في موقف الحشر فقط إذا جمع أجسادها مع أرواحها التي كانت فيها‏.‏

وأما احتجاجهم بالآيتين فكفى من بطلان قولهم أيضاً ما ذكرناه من الإجماع وأن الأمة كلها مجمعون بلا خلاف على أن المراد بهاتين الآيتين غير ما ذكر هؤلاء الملحدون وأن المراد بقوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك أنها الصورة التي رتب الإنسان عليها من طول أو قصر أو حسن أو قبح أو بياض أو سواد وما أشبه ذلك وأما الآية الأخرى فإن معناها أن الله تعالى امتن علينا في أن خلق لنا من أنفسنا أزواجاً نتولد منها ثم امتن علينا بأن خلق لنا من الأنعام ثمانية أزواج ثم أخبر تعالى أنه يذرؤنا في هذه الأزواج يعني التي هي من أنفسنا فتبين ذلك بياناً ظاهراً لا خفاء به أن الله تعالى أخبرنا في هذه الآية نفسها أن الأزواج المخلوقة لنا إنما هي من أنفسنا ثم فرق بين أنفسنا وبين الأنعام فلا سبيل إلى أن يكون لنا أزواج نتولد فيها من غير أنفسنا ويكفي من هذا أن قولهم إنما هو دعوى بلا برهان وإنما رتبوه على أصلهم في العدل فأخرجوا هذا الوجه لما شاهدوه من إيلام الحيوان وكل قول لم يوجبه برهان فهو باطل ولم يأت هذا القول قط على أحد من الأنبياء وهؤلاء القوم مقرون بالأنبياء عليهم السلام فلاح يقيناً فساد قولهم‏.‏

وأما الفرقة الثانية القائلة بالدهر فإننا نقول وبالله التوفيق‏.‏

إنه يكفي من فساد قولهم هذا أنه دعوى بلا برهان لا عقلي ولا حسي وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا شك فيه لكننا لا نقنع بهذا بل نبين عليهم بياناً لائحاً ضرورياً بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نستعين إن الله تعالى خلق الأنواع والأجناس ورتب الأنواع تحت الأجناس وفصل كل نوع من النوع الآخر بفصله الخاص له الذي لا يشاركه فيه غيره وهذه الفصول المذكورة لأنواع الحيوان إنما هي لأنفسها التي هي أرواحها فنفس الإنسان حية ناطقة ونفس الحيوان حية غير ناطقة هذا هو طبيعة كل نفس وجوهرها الذي لا يمكن استحالته عنه فلا سبيل إلى أن يصير غير الناطق ناطقاً ولا الناطق غير ناطق ولو جاز هذا لبطلت المشاهدات وما أوجبه الحس وبديهة العقل والضرورة لانقسام الأشياء على حدودها‏.‏

وأما الفرقة الثالثة‏.‏

التي قالت أن الأرواح تنتقل إلى أجساد نوعها فيبطل قولهم بحول الله تعالى وقوته بطلاناً ضرورياً بكل ما كتبناه في إثبات حدوث العالم ووجوب الابتداء له والنهاية من أوله وبما كتبناه في إثبات النبوة وإن جميع النبوات وردت بخلاف قولهم وببرهان ضروري عليهم وهو أنه ليس في العالم كله شيئان يشتبهان بجميع أعراضهما اشتباهاً تاماً من كل وجه يعلم هذا من تدبر اختلاف الصور واختلاف الهيآت وتباين الأخلاق وإنما يقال هذا الشيء يشبه هذا على معنى أن ذلك في أكثر أحوالهما لا في كلها ولو لم يكن ما قلنا ما فرق أحد بينهما ألبتة وقد علمنا بالمشاهدة أن كل من يتكرر عليه ذلك الشيآن المشتبهان تكرراً كثيراً متصلاً أنه لابد أن يفصل بينهما وأن يميز أحدهما من الثاني وأن يجد في كل واحد منهما أشياء بان بها عن الآخر لا يشبهه فيها فصح بهذا أنه لا سبيل إلى وجود شخصين يتفقان في أخلاقهما كلها حتى لا يكون بينهما فرق في شيء منها وقد علمنا بيقين أن الأخلاق محمولة في النفس فصح بهذا أن نفس كل ذي نفس من الأجساد من أي نوع كانت غير النفس التي في غيره من الأجساد كلها ضرورة وقال أيضاً بعض من ذهب إلى التناسخ من الحاملين ذلك على سبيل الجزاء أن الله تعالى عدل حكيم رحيم كريم فإذ هو كذلك فمحال أن يعذب من لا ذنب له قال فلما وجدناه تعالى يقطع أجسام الصبيان الذين لا ذنب لهم بالجدري والقروح ويأمر بذبح بعض الحيوان الذي لا ذنب له وبطبخه وأكله ويسلط بعضها على بعض فيقطعه ويأكله ولا ذنب له علمنا أنه تعالى لم يفعل ذلك إلا وقد كانت الأرواح عصاة مستحقة للعقاب بكسب هذه الأجساد لتعذب فيها قال أبو محمد رضي الله عنه وقد تكلمنا على إبطال هذا الأصل الفاسد في غير هذا المكان في باب الكلام على البراهمة في كتابنا هذا بما يكفي وقد رددنا الكلام أيضاً في بيان بطلانه في غير ما موضع من كتابنا وفي باب الكلام على من أبطل القدر من المعتزلة في كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين‏.‏

ويكفي من بطلان هذا الأصل الفاسد أن يقال لهم إن طردتم هذا الأصل وقعتم في مثل ما أنكرتم ولا فرق وهوان الحكيم العدل الرحيم على أصلكم لا يخلق من يعرضه للمعصية حتى يحتاج إلى إفساده بالعذاب بعد إصلاحه وقد كان قادراً على أن يطهر كل نفس خلقها ولا يعرضها للفتن ويلطف بها ألطافاً فيصلحها بها حتى تستحق كلها إحسانه والخلود في النعيم وما كان ذلك ينقص شيئاً من ملكه فإن كان عاجزاً عن ذلك فهذه صفة نقص ويلزم حاملها أن يكون من أجل نقصه محدثاً مخلوقاً فإن طردوا هذا الأصل خرجوا إلى قول المانوية في أن للأشياء فلاعلين وقد تقدم إبطالنا لقولهم وبالله تعالى التوفيق وبينا أن الذي لا آمر فوقه ولا مرتب عليه فإن كل ما يفعله فهو حق وحكمة وإذ قد تعلق هؤلاء القوم بالشريعة فحكم الشريعة أن كل قول لم يأت عن نبي تلك الشريعة فهو كذب وفرية فإذ لم يأت عن أحد من الأنبياء عليهم السلام القول بتناسخ الأرواح فقد صار قولهم به خرافة وكذباً وباطلاً وبالله تعالى التوفيق