كتاب : المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري
(المتوفى : 456هـ) |
فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَلاَ يُقَصُّ مِنْهُ. وَقَالُوا
كُلُّهُمْ: مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ مَا فِيهِ الْقَطْعُ،
وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ: حَلَفَ الْمَطْلُوبُ وَبَرِئَ، فَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ
الْمَالَ، وَلاَ قَطْعَ عَلَيْهِ. وَقَالُوا كُلُّهُمْ: لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ
بِالنُّكُولِ حَتَّى يَدْعُوَهُ إلَى الْيَمِينِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَإِنْ أَبَى
وَتَمَادَى قُضِيَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إنْ وُجِدَ قَتِيلٌ
فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ عَلَيْهِمْ قَتْلَهُ، وَلاَ
بَيِّنَةَ لَهُمْ: حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ
يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ، فَإِنْ نَكَلُوا قُتِلُوا قِصَاصًا. وقال مالك: مَنْ
ادَّعَى حَقًّا مِنْ مَالٍ عَلَى مُنْكِرٍ وَأَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا حَلَفَ
مَعَ شَاهِدِهِ، فَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلْمَطْلُوبِ احْلِفْ فَتَبْرَأْ. فَإِنْ
نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُ طَالِبِهِ عَلَيْهِ. قَالَ:
وَمَنْ قَالَ: أَنَا أَتَّهِمُ فُلاَنًا بِأَنَّهُ أَخَذَ لِي مَالاً ذَكَرَ
عَدَدَهُ، وَلاَ أُحَقِّقُ ذَلِكَ. قِيلَ لِلْمَطْلُوبِ: احْلِفْ وَتَبْرَأْ،
فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُتَّهَمُ دُونَ رَدِّ يَمِينٍ.
قَالَ: مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ وَرَثَتَهُ صِغَارًا فَأَقَامَ وَصِيُّهُمْ شَاهِدًا
وَاحِدًا عَدْلاً بِدَيْنٍ لِمَوْرُوثِهِمْ عَلَى إنْسَانٍ: قِيلَ لِلْمُدَّعَى
عَلَيْهِ: احْلِفْ حَتَّى تَبْلُغَ الصِّغَارُ فَيَحْلِفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ،
وَيُقْضَى لَهُمْ، فَإِنْ حَلَفَ تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغُوا وَيَحْلِفُوا وَيُقْضَى
لَهُمْ، وَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ. وَقَالَ فِيمَنْ
ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ طَلاَقًا، أَوْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَمَتُهُ أَوْ
عَبْدُهُ عَتَاقًا، وَقَامَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ: إنَّهُ
يُقَالُ لَهُ: احْلِفْ مَا طَلَّقْت، وَلاَ أَعْتَقْت وَتَبَرَّأْ. فَإِنْ نَكَلَ
قُضِيَ عَلَيْهِ بِالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى يُسْجَنُ
حَتَّى يَطُولَ أَمْرُهُ، وَحَدَّ ذَلِكَ بِسَنَةٍ، ثُمَّ يُطَلِّقُ وَمَرَّةً
قَالَ: يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ، لأََنَّهُ مُتَنَاقِضٌ:
مَرَّةً يَقْضِي بِالنُّكُولِ كَمَا أَوْرَدْنَا، وَفِي سَائِرِ الدَّعَاوَى لاَ
يَقْضِي بِهِ، وَهَذِهِ فُرُوقٌ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَّقَ
بِهَا قَبْلَهُ، وَلاَ دَلِيلَ لَهُ عَلَى تَفْرِيقِهِ، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ
مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ سَبَقَهُ إلَى
ذَلِكَ، وَلاَ قِيَاسٍ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِفُرُوقِهِ فَسَقَطَ هَذِهِ
الْقَوْلُ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: فَظَاهِرُ التَّنَاقُضِ أَيْضًا، وَمَا نَعْلَمُ
أَحَدًا سَبَقَهُمْ إلَى تِلْكَ الْفُرُوقِ الْفَاسِدَةِ، وَلاَ إلَى تَرْدِيدِ
دُعَائِهِ إلَى الْيَمِينِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلاَ صَحَّحَ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ، وَلاَ
قِيَاسٌ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِفُرُوقِهِمْ. وَلاَ يَخْلُو الْحُكْمُ
بِالنُّكُولِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَاجِبًا أَوْ بَاطِلاً، فَإِنْ كَانَ
بَاطِلاً فَالْحُكْمُ بِالْبَاطِلِ لاَ يَحِلُّ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحُكْمُ بِهِ
فِي كُلِّ مَكَان وَاجِبٌ: كَمَا قَالَ زُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو
يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا إذْ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا
جُمْلَةً، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ قَطُّ الأَحْتِيَاطَ لِلدَّمِ بِأَوْلَى مِنْ
الأَحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ، وَالْمَالِ، وَالْبَشَرَةِ، بَلْ الْحَرَامُ مِنْ
كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ
(9/374)
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ". بَلْ قَدْ وَجَدْنَا الدَّمَ يُبَاحُ بِشَاهِدَيْنِ، وَجَلْدِ مِائَةٍ فِي الزِّنَى أَوْ خَمْسِينَ لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بِأَرْبَعَةِ عُدُولٍ فَصَحَّ أَنَّهُ التَّسْلِيمُ لِلنُّصُوصِ فَقَطْ. وَلَمْ يَبْقَ فِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ إِلاَّ قَوْلُ زُفَرَ الَّذِي وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَاهُ، فَوَجَدْنَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ آيَةَ اللِّعَانِ وَقَالَ: إنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الزَّوْجَ إنْ نَكَلَ، عَنِ الأَيْمَانِ، أَوْ نَكَلَتْ هِيَ، فَإِنَّ عَلَى النَّاكِلِ حُكْمًا مَا يَلْزَمُهُ بِنُكُولِ النَّاكِلِ الْمَذْكُورِ إمَّا السِّجْنُ وَأَمَّا الْحَدُّ فَهَذَا قَضَاءٌ بِالنُّكُولِ..فَقُلْنَا: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الزَّوْجَ قَاذِفٌ، فَجَاءَ النَّصُّ بِإِزَالَةِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ بِأَيْمَانِهِ الأَرْبَعِ وَلَعَنَتْهُ الْخَامِسَةُ فَلَزِمَتْ الطَّاعَةُ لِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ فَالْحَدُّ بَاقٍ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْعَذَابَ، إِلاَّ أَنْ تَحْلِفَ، فَإِنْ حَلَفَتْ دُرِئَ عَنْهَا الْعَذَابُ بِأَيْمَانِهَا الأَرْبَعِ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهَا فِي الْخَامِسَةِ بِالنَّصِّ، وَإِنْ نَكَلَتْ فَالْعَذَابُ عَلَيْهَا وَاجِبٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الدَّعَاوَى، بِلاَ خِلاَفٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا حَصَلَ لَكُمْ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ حُكْمًا مَا يَلْزَمُهَا بِالنُّكُولِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ السِّجْنُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ نُكُولَ النَّاكِلِ، عَنِ الْيَمِينِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يُوجِبُ أَيْضًا عَلَيْهِ حُكْمًا مَا وَهُوَ الأَدَبُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ مَنْ أَتَى مُنْكَرًا قَدَرْنَا عَلَى تَغْيِيرِهِ بِالْيَدِ وَهُوَ بِامْتِنَاعِهِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا فَوَجَبَ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِالآيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ الأُُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ لِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكْمًا مُوجِبًا لِلْمُدَّعِي حَقًّا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ رَدُّ الْيَمِينِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ السِّجْنُ وَالأَدَبُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ إنْفَاذُ الْحُكْمِ عَلَى النَّاكِلِ، فَبَطَلَ رَدُّ الْيَمِينِ، وَلاَ فَائِدَةَ لِلْمُدَّعِي فِي سِجْنِ الْمَطْلُوبِ النَّاكِلِ وَتَأْدِيبِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ إلْزَامُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِنُكُولِهِ.فَقُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، إذْ زِدْتُمْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلاَ حَقَّ لأََحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ، وَلاَ حَقَّ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ، وَالْحُكْمِ، إِلاَّ الْغَرَامَةُ إنْ أَقَرَّ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِيَقِينِ الْحَاكِمِ، أَوْ الْيَمِينُ إنْ أَنْكَرَ فَقَطْ، فَلَمَّا لَمْ يُقِرَّ، وَلاَ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَلاَ تَيَقَّنَ الْحَاكِمُ صِدْقَ الْمُدَّعِي: سَقَطَتْ الْغَرَامَةُ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ حَقُّهُ قِبَلَ الْمَطْلُوبِ، فَوَجَبَ أَخْذُهُ بِهِ، وَلاَ بُدَّ، لاَ بِمَا سِوَاهُ مِمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ لِلطَّالِبِ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لأََنَّ مُرَاعَاةَ فَائِدَتِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ دُونَ مُرَاعَاةِ فَائِدَةِ الْمَطْلُوبِ. وَقَالَ: إنَّ قَطْعَ الْخُصُومَةِ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَنْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ، فَإِذْ نَكَلَ فَقَدْ
(9/375)
لَزِمَهُ قَطْعُ الْخُصُومَةِ، وَهِيَ لاَ تَنْقَطِعُ بِسَجْنِهِ، وَلاَ بِأَدَبِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَطْعُهَا بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِمَا يَدَّعِيهِ الطَّالِبُ، وَكَانَ فِي سَجْنِهِ قَطْعٌ لَهُ، عَنِ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، فَتَقِفُ الْخُصُومَةُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْحُكْمُ بِالنُّكُولِ.فَقُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ وَخِلاَفُ قَوْلِكُمْ: أَمَّا خِلاَفُ قَوْلِكُمْ: لَوْ حَلَفَ لاَنْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ، فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّهَا لاَ تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، بَلْ مَتَى أَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَادَتْ الْخُصُومَةُ وَسَائِرُ قَوْلِكُمْ بَاطِلٌ. وَمَا عَلَيْهِ قَطْعُ الْخُصُومَةِ أَصْلاً إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا بِالإِقْرَارِ، إنْ كَانَ الْمُدَّعِي صَادِقًا. وَأَمَّا بِالْيَمِينِ، إنْ كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا، وَعَلَى الْحَاكِمِ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِالْقَضَاءِ بِمَا تُوجِبُهُ الْبَيِّنَةُ، أَوْ بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ إنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَقَطْ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا غَرَامَةً بِأَنْ لاَ يُوجِبَهَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، فَهِيَ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ: أَنَّكُمْ بَعْدَ قَضَائِكُمْ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ تَسْجُنُونَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ، قَدْ عُدْتُمْ إلَى السِّجْنِ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ. وَهَذَا تَلَوُّثٌ وَسَخَافَةٌ نَاهِيكَ بِهَا. وَقَالَ: هُوَ قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى، فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ خِلاَفُ هَذَا، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رضي الله عنهم، فَمَا الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ مِنْهُمْ. فَكَيْفَ وَقَدْ خَالَفُوا عُثْمَانَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، لأََنَّهُ لَمْ يُجِزْ الْبَيْعَ بِالْبَرَاءَةِ إِلاَّ فِي عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ الْبَائِعُ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِكُمْ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ عُثْمَانَ بَعْضُهُ حُجَّةٌ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، هَذَا عَلَى أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَالِمِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ فِيهِ، عَنْ أَبِيهِ: فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَرْتَجِعَ الْعَبْدَ، فَرَدَّهُ إلَيْهِ عُثْمَانُ بِرِضَاهُ. فَبَطَلَ بِهَذَا أَنْ يَصِحَّ، عَنْ عُثْمَانَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ أَبِي مُوسَى فَأَسْقَطُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ أَوْ يُدْرَى مَخْرَجُهَا. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ أَنَّهُ رَأَى الْحُكْمَ بِالنُّكُولِ جَائِزًا، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ حُكْمُ عُثْمَانُ، وَأَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لِعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَكُمْ بِهَا، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهَا: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَلْزَمَ الْغَرَامَةَ بِالنُّكُولِ، إنَّمَا فِيهِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهَا فَأَبَتْ، فَأَلْزَمَهَا ذَلِكَ وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى الْيَمِينِ، إذْ لَيْسَ لِلْغَرَامَةِ فِي الْخَبَرِ ذِكْرٌ أَصْلاً، فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا، لاَ لِقَوْلِكُمْ. فإن قيل: فَإِنَّ أَبَا نُعَيْمٍ رَوَى، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَسَدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ هَذَا الْخَبَرَ، فَذَكَرَ فِيهِ: فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ فَضَمِّنْهَا. قِيلَ لَهُ: إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَسَدِيُّ مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَنْ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيُّ مَتْرُوكٌ مُطَرَّحٌ. فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ فِي هَذَا شَيْءٌ، عَنِ الصَّحَابَةِ أَصْلاً. فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنْ
(9/376)
يُقْضَى بِالْغَرَامَةِ عَلَى النَّاكِلِ
لِتَعَرِّيهِ مِنْ الأَدِلَّةِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا
مَنْ قَالَ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ: فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ،
عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اسْتَسْلَفَ
الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ سَبْعَةَ آلاَفِ
دِرْهَمٍ فَلَمَّا قَضَاهُ أَتَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ:
إنَّهَا سَبْعَةُ آلاَفٍ فَقَالَ الْمِقْدَادُ: مَا كَانَتْ إِلاَّ أَرْبَعَةَ
آلاَفٍ، فَارْتَفَعَا إلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَحْلِفْ أَنَّهَا كَمَا يَقُولُ، وَيَأْخُذْهَا فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: أَنْصَفَك، احْلِفْ أَنَّهَا كَمَا تَقُولُ وَخُذْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَا إسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ
بْنِ أَبِي ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ
فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إذَا كَانَ قَدْ خَالَطَهُ، فَإِنْ
نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ هِشَامِ
بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا
قَضَى بِالْيَمِينِ فَرَدَّهَا عَلَى الطَّالِبِ فَلَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُعْطِهِ
شَيْئًا، وَلَمْ يَسْتَحْلِفْ الآخَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ
عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إذَا قَضَى
بِالْيَمِينِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَمْ يَجْعَلْ
لَهُ شَيْئًا، وَقَالَ: لاَ أُعْطِيك مَا لاَ تَحْلِفُ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ
يَقْضِ لِلطَّالِبِ إنْ نَكَلَ الْمَطْلُوبُ إِلاَّ حَتَّى يَحْلِفَ الطَّالِبُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا
الشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ
يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي إذَا طَلَبَ ذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَرَى ذَلِكَ. وَقَالَ هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرُدُّ الْيَمِينَ وَرُوِيَ
هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَسَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّينَ الْقَاضِيَيْنِ هُوَ قَوْلُ أَبِي
عُبَيْدٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى
قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: رَدُّ الْيَمِينِ جُمْلَةً عَلَى الإِطْلاَقِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا رُدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ
يَلْزَمَ الْمَطْلُوبَ الْيَمِينُ أَبَدًا، لأََنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ قَطُّ
الْحُكْمُ بِالنُّكُولِ. وقال مالك: تُرَدُّ الْيَمِينُ فِي الأَمْوَالِ، وَلاَ
يَرَى رَدَّهَا فِي النِّكَاحِ، وَلاَ فِي الطَّلاَقِ، وَلاَ فِي الْعِتْقِ. وقال
الشافعي، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ: تُرَدُّ الْيَمِينُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ، وَفِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا، وَفِي النِّكَاحِ،
وَالطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ فَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ الطَّلاَقَ،
وَعَبْدُهُ أَوْ أَمَتُهُ الْعَتَاقَ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَتِهِ النِّكَاحَ
أَوْ ادَّعَتْهُ عَلَيْهِ، وَلاَ شَاهِدَ لَهُمَا، وَلاَ بَيِّنَةَ: لَزِمَتْهُ
الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا طَلَّقَ، وَلاَ أَعْتَقَ، وَلَزِمَتْهُ الْيَمِينُ أَنَّهُ
مَا أَنْكَحَهَا، أَوْ لَزِمَتْهَا الْيَمِينُ كَذَلِكَ، فَأَيُّهُمَا نَكَلَ
حَلَفَ الْمُدَّعِي وَصَحَّ الْعِتْقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَكَذَلِكَ
فِي الْقِصَاصِ.
(9/377)
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ لِتَنَاقُضِهِ، وَلَئِنْ كَانَ رَدُّ الْيَمِينِ حَقًّا فِي مَوْضِعٍ، فَإِنَّهُ لَحَقٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَلَئِنْ كَانَ بَاطِلاً فِي مَكَان، فَإِنَّهُ لَبَاطِلٌ فِي كُلِّ مَكَان، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِإِيجَابِهِ فِي مَكَان دُونَ مَكَان: قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ بِذَلِكَ أَصْلاً فَبَطَلَ قَوْلُ مَالِكٍ، إذْ لاَ يُعَضِّدُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ قَبْلَهُ، وَلاَ قِيَاسٌ. فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا رُوِيَ، عَنِ الصَّحَابَةِ فِي الأَمْوَالِ. قلنا: بَاطِلٌ، لأََنَّهُ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ جُمْلَةً، وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، وَالْمِقْدَادِ فِي الدَّرَاهِمِ فِي الدَّيْنِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنْ تَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ سَائِرَ الأَمْوَالِ، وَسَائِرَ الدَّعَاوَى مِنْ الْغُصُوبِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ دَعْوَى، فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي رَدِّهِ الْيَمِينَ عَلَى الْمُتَّهَمِ، فَبَاطِلٌ، لأََنَّهُ تَقْسِيمٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْيَمِينِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالْكَاذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس، وَعَلَى الْمَشْهُورِينَ بِالْكَذِبِ، وَالْفِسْقِ، إِلاَّ الَّذِي جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ، وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:فِيهِمْ: أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ وَفِي هَذَا إبْطَالُ كُلِّ رَأْيٍ، وَكُلِّ قِيَاسٍ، وَكُلِّ احْتِيَاطٍ فِي الدِّينِ، مِمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ لَوْ أَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِآيَةِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ إنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنْ الآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} . وَذَكَرُوا خَبَرَ الْقَسَامَةِ إذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لِبَنِي حَارِثَةَ فِي دَعْوَاهُمْ دَمَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ، قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ قَالَ: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ" . وَذَكَرُوا وُجُوبَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، " وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الطَّالِبِ مِنْ أَجْلِ شَاهِدِهِ"، فَكَانَ الشَّاهِدُ سَبَبًا لِرَدِّ الْيَمِينِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ مِنْ الْمَطْلُوبِ أَيْضًا سَبَبًا لِرَدِّ الْيَمِينِ وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ حَتَّى يَضُمَّ إلَيْهِ يَمِينَهُ، فَيَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ آخَرَ، كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالنُّكُولِ حَتَّى يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ يَمِينَهُ فَيَكُونَ نُكُولُ الْمَطْلُوبِ مَقَامَ شَاهِدٍ، وَيَمِينُ الطَّالِبِ مَقَامَ شَاهِدٍ آخَرَ.
(9/378)
قال أبو محمد: أَمَّا آيَةُ الْوَصِيَّةِ فِي
السَّفَرِ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ، وَإِنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِهَا
لَفَضِيحَةُ الدَّهْرِ عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ ثَلاَثَةٍ كَافِيَةٍ: أَحَدُهَا
أَنَّهُمْ لاَ يَأْخُذُونَ بِهَا فِيمَا جَاءَتْ فِيهِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ
الأَحْتِجَاجَ بِآيَةٍ هُمْ مُخَالِفُونَ لَهَا
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ تَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ
رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي كَلِمَةٌ، لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ،
إنَّمَا فِيهَا تَحْلِيفُ الشُّهُودِ أَوَّلاً، وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ
وَالشَّاهِدَيْنِ، بِخِلاَفِ شَهَادَةِ الأَوَّلِ، فَكَيْفَ سَهُلَ عَلَيْهِمْ
إبْطَالُ نَصِّ الآيَةِ، وَأَنْ يَحْكُمُوا مِنْهَا بِمَا لَيْسَ فِيهَا عَلَيْهِ،
لاَ دَلِيلٌ، وَلاَ نَصٌّ. إنَّ هَذِهِ لَمُصِيبَةٌ. وَلَوْ احْتَجَّ بِهَذِهِ
الآيَةِ مَنْ يَرَى تَحْلِيفَ الْمَشْهُودِ لَهُ مَعَ بَيِّنَتِهِ لَكَانَ
أَشْبَهَ فِي التَّمْوِيهِ عَلَى مَا رُوِيَ، عَنْ شُرَيْحٍ، وَالأَوْزَاعِيُّ،
وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْقَاضِي بِقُرْطُبَةَ
أَنَّهُ أَحْلَفَ شُهُودًا فِي تَزَكِّيهِ: بِاَللَّهِ إنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ
لَحَقٌّ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ النَّاسِ
أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ، ذَكَرَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ سَعْدٍ فِي
كِتَابِهِ فِي " أَخْبَارِ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ " فَلَوْ احْتَجَّ
أَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذِهِ الآيَةِ لَكَانُوا أَوْلَى بِهَا مِمَّنْ
احْتَجَّ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ مَا فِي
نَصِّهَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا
بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} وَلَكِنْ يُبْطِلُ هَذَا أَنَّهُ قِيَاسٌ،
وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى قِيَاسٍ فِي الأَرْضِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَسَامَةِ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِهِ أَيْضًا إحْدَى
فَضَائِحِهِمْ، لأََنَّ الْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ مُخَالِفُونَ لِمَا
فِيهِ: فأما الْمَالِكِيُّونَ: فَخَالَفُوهُ جُمْلَةً. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ:
فَخَالَفُوا مَا فِيهِ مِنْ إيجَابِ الْقَوَدِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ
الأَحْتِجَاجَ بِحَدِيثٍ قَدْ هَانَ عَلَيْهِمْ خِلاَفُهُ فِيمَا فِيهِ
وَأَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ تَثْبِيتَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ
مِنْهُ أَثَرٌ أَصْلاً. وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِينَ
أَوَّلاً خَمْسِينَ يَمِينًا بِخِلاَفِ جَمِيعِ الدَّعَاوَى ثُمَّ رَدُّ
الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ فَمِنْ أَيْنَ
رَأَوْا أَنْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ ضِدَّهُ مِنْ تَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
أَوَّلاً. فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ فِي
تَبْدِيَةِ الْمُدَّعِي فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. وَأَنْ يَجْعَلُوا الأَيْمَانَ
فِي كُلِّ دَعْوَى خَمْسِينَ يَمِينًا، فَهَلْ فِي التَّخْلِيطِ، وَخِلاَفِ
السُّنَنِ، وَعَكْسِ الْقِيَاسِ وَضَعْفِ النَّظَرِ: أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَأَمَّا
خَبَرُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ: فَحَقٌّ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ
قَوْلَهُمْ: إنَّ النُّكُولَ يَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ: بَاطِلٌ، لَمْ يَأْتِ
بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ مَعْقُولٌ، وَقَدْ يَنْكُلُ الْمَرْءُ،
عَنِ الْيَمِينِ تَصَاوُنًا وَخَوْفَ الشُّهْرَةِ، وَإِلَّا فَمَنْ اسْتَجَازَ
أَكْلَ الْمَالِ الْحَرَامِ بِالْبَاطِلِ فَلاَ يُنْكَرُ مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ
كَاذِبًا. وَإِنَّمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ عَلَى
الْمُنْكِرِ يَمِينٌ، فَلَمَّا أَتَى الْمُدَّعِي بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ: كَانَ بَعْدُ
حُكْمِ طَلَبِهِ الْبَيِّنَةَ، وَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ يَمِينٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ،
فَحَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلطَّالِبِ بِيَمِينِهِ ابْتِدَاءً لاَ
رَدًّا لِلْيَمِينِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَقَدْ أَسْقَطَ حُكْمَ شَاهِدِهِ،
وَإِذَا أَسْقَطَ حُكْمَ شَاهِدِهِ فَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ، وَإِذْ لاَ بَيِّنَةَ
لَهُ: فَالآنَ وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لاَ أَنَّ هَاهُنَا رَدَّ
يَمِينٍ أَصْلاً فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/379)
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةً هَالِكَةً: رُوِّينَاهَا
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ
الْفَرَجِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ حَيْوَةِ بْنِ شُرَيْحِ: أَنَّ سَالِمَ بْنَ
غَيْلاَنَ التُّجِيبِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ طَلِبَةٌ عِنْدَ أَخِيهِ فَعَلَيْهِ
الْبَيِّنَةُ" وَالْمَطْلُوبُ أَوْلَى بِالْيَمِينِ فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ
الطَّالِبُ وَأَخَذَ".
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ عِنْدَنَا، وَلاَ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّينَ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى
الْمَالِكِيِّينَ، لأََنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ رَدِّ
الْيَمِينِ فِي كُلِّ طَلِبَةِ طَالِبٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ أَوَّلَهُ فِي
كُلِّ دَعْوَى مِنْ دَم، أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ طَلاَقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ، فَتَخْصِيصُهُمْ آخِرَهُ فِي الأَمْوَالِ بَاطِلٌ وَتَنَاقُضٌ، وَخِلاَفٌ
لِلْخَبَرِ الَّذِي مَوَّهُوا بِهِ، وَهَذَا قَبِيحٌ جِدًّا.
وقال مالك فِي "مُوَطَّئِهِ فِي بَابِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي
كِتَابِ الأَقْضِيَةِ "أَرَأَيْت رَجُلاً ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالاً
أَلَيْسَ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ: مَا ذَلِكَ الْحَقُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ
بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَنَكَلَ، عَنِ الْيَمِينِ
حَلَفَ طَالِبُ الْحَقِّ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ
فَهَذَا مَا لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلاَ فِي بَلَدٍ
مِنْ الْبُلْدَانِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَخَذَ هَذَا أَمْ فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ
وَجَدَهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِهَذَا فَلْيُقِرَّ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
قال أبو محمد: وَهَذَا احْتِجَاجٌ نَاهِيكَ بِهِ عَجَبًا فِي الْغَفْلَةِ: أَوَّلُ
ذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي رَدِّ الْيَمِينِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
النَّاسِ، وَلاَ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ فَلَئِنْ كَانَ خَفِيَ عَلَيْهِ
قَضَاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالنُّكُولِ فَإِنَّهُ لَعَجَبٌ. ثُمَّ قَوْلُهُ: إذَا
أَقَرَّ بِرَدِّ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
فَلْيُقِرَّ بِالْيَمِينِ عَلَى الشَّاهِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا أَيْضًا عَجَبٌ آخَرُ، لأََنَّ الْيَمِينَ مَعَ
الشَّاهِدِ ثَابِتٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ فَمَا كَانَ
قَطُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم فَبَيْنَ الأَمْرَيْنِ فَرْقٌ، كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. وَإِذَا
وَجَبَ الأَخْذُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَبْ فِي لَفْظِ
آيَاتِ الْقُرْآنِ فَمَا وَجَبَ قَطُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْخَذَ بِمَا لاَ
يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ، عَنِ
الْيَمِينِ وَأَحْلَفَ الْحَاكِمُ الطَّالِبَ فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى وُجُوبِ
الْقَضَاءِ لَهُ بِتِلْكَ الدَّعْوَى مَا لَمْ يَحْلِفْ الطَّالِبُ فَلَمْ
نَتَّفِقْ عَلَى الْقَضَاءِ لَهُ بِتِلْكَ الدَّعْوَى فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِمَا
أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ، وَأَنْ لاَ يُقْضَى عَلَى أَحَدٍ بِاخْتِلاَفٍ لاَ نَصَّ
مَعَهُ.
قال أبو محمد: لَيْسَ قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَرِوَايَاتٌ
سَاقِطَةٌ لاَ تَصِحُّ أَسَانِيدُهَا،
(9/380)
ثُمَّ بِظُنُونٍ غَيْرِ صَادِقَةٍ عَلَى سِتَّةٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ مُخْتَلِفِينَ مِمَّا يَقُولُ: إنَّهُ إجْمَاعٌ إِلاَّ مَنْ لاَ
يَدْرِي مَا الإِجْمَاعُ. وَلَيْسَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ،
وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: حُجَّةً عَلَى مَنْ لاَ يُقَلِّدُهُمْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فَلَمْ يَأْمُرْ عَزَّ
وَجَلَّ بِرَدِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ إلَى أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، فَمَنْ
رَدَّ إلَيْهِمْ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ
أَيْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ: بِعُمَرَ، وَالْمِقْدَادِ، وَعُثْمَانَ، رضي الله عنهم،
فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ
صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَكَيْفَ وَهُوَ لاَ يَصِحُّ لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ
الشَّعْبِيِّ وَالشَّعْبِيُّ لَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ، وَلاَ الْمِقْدَادَ
فَكَيْفَ عُمَرُ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ عَلِيٍّ فَسَاقِطَةٌ، لأََنَّهَا،
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ ابْنُ مَتْرُوكٍ
لاَ يَحِلُّ الأَحْتِجَاجُ بِرِوَايَتِهِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا، عَنْ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ كَلِمَةٌ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُنَا: فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ
بَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ
فِي حَائِطٍ فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَك زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَتَيَاهُ
فَضَرَبَا عَلَيْهِ الْبَابَ، فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ
أَرْسَلْتَ إلَيَّ حَتَّى آتِيَك فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى
الْحَكَمُ، فَأَخْرَجَ زَيْدٌ وِسَادَةً فَأَلْقَاهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَذَا
أَوَّلُ جَوْرِك وَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا، فَتَكَلَّمَا فَقَالَ زَيْدٌ
لأَُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: بَيِّنَتُك وَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُعْفِيَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَأَعْفِهِ فَقَالَ عُمَرُ: تَقْضِي عَلَيَّ
بِالْيَمِينِ، وَلاَ أَحْلِفُ فَحَلَفَ. فَهَذَا زَيْدٌ لَمْ يَذْكُرْ رَدَّ
يَمِينٍ، وَلاَ حُكْمًا بِنُكُولٍ، بَلْ أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ
قَطْعًا إِلاَّ أَنْ يُسْقِطَهَا الطَّالِبُ، وَهَذَا عُمَرُ يُنْكِرُ أَنْ
يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِالْيَمِينِ، وَلاَ يُحَلِّفَ الْمُنْكِرَ وَهُوَ قَوْلُنَا
نَصًّا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ بُرْقَانَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ فِي رِسَالَةٍ ذَكَرَهَا: الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى
وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ فَلَمْ يَذْكُرْ نُكُولاً، وَلاَ رَدَّ يَمِينٍ.
حدثنا حمام بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ
الصَّائِغُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا
نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْت
إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا تُحْرِزَانِ حَرِيزًا فِي بَيْتٍ،
وَفِي الْحُجْرَةِ حِدَاثٌ، فَأَخْرَجَتْ إحْدَاهُمَا يَدَهَا تَشْخَبُ دَمًا
فَقَالَتْ: أَصَابَتْنِي هَذِهِ، وَأَنْكَرَتْ الأُُخْرَى، قَالَ: فَكَتَبَ إلَيَّ
ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ
عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاس أُعْطُوا بِدَعْوَاهُمْ
لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، اُدْعُهَا فَاقْرَأْ عَلَيْهَا :
{إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً}
الآيَةَ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فَقَرَأْت عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ".
فَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُفْتِ إِلاَّ
بِإِيجَابِ الْيَمِينِ فَقَطْ، وَأَبْطَلَ أَنْ يُعْطَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ
(9/381)
وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ نُكُولَ الْمَطْلُوبِ،
وَلاَ رَدَّ الْيَمِينِ أَصْلاً. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لاَ
أَرُدُّ الْيَمِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْكَشْوَرِيِّ، عَنِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: كَانَ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ لاَ يَرَيَانِ الْيَمِينَ يَعْنِي لاَ يَرَيَانِ
رَدَّهَا عَلَى الطَّالِبِ إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ
أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّمِ يَأْبَى، عَنِ الْيَمِينِ
أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْهِ
بِالنُّكُولِ، لَكِنْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ طَلاَقًا وَأَمَتُهُ
أَوْ عَبْدُهُ عَتَاقًا وَأَقَامُوا شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلاً بِذَلِكَ أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ، وَأَنَّهُ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلاَ
بِرَدِّ الْيَمِينِ، لَكِنْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ. وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا: فِي كُلِّ شَيْءٍ.
قال أبو محمد: فإن قيل: فَإِنَّكُمْ رَدَدْتُمْ الرِّوَايَةَ فِي رَدِّ الْيَمِينِ
بِأَنَّهَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَلَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ، وَلاَ الْمِقْدَادَ،
وَلاَ عُمَرُ ثُمَّ ذَكَرْتُمْ لأََنْفُسِكُمْ رِوَايَةَ حُكُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَ
عُمَرَ، وَأُبَيُّ. قلنا: لَمْ نُورِدْ شَيْئًا مِنْ هَذَا كُلِّهِ احْتِجَاجًا
لأََنْفُسِنَا فِي تَصْحِيحِ مَا قُلْنَاهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نَرَى
فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً فِي
الدِّينِ، وَلَكِنْ تَكْذِيبًا لِمَنْ قَدْ سَهَّلَ الشَّيْطَانُ لَهُ الْكَذِبَ
عَلَى جَمِيعِ الأُُمَّةِ فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ مُجَاهَرَةً، حَيْثُ لاَ يَجِدُ
إِلاَّ رِوَايَاتٍ كُلَّهَا هَالِكَةً، بِظُنُونٍ كَاذِبَةٍ، عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ قَدْ رُوِيَ مِثْلُهَا بِخِلاَفِهَا، عَنْ ثَلاَثَةٍ آخَرِينَ
مِنْهُمْ، فَأَرَيْنَاهُمْ لأََنْفُسِنَا مِثْلَهَا، بَلْ أَحْسَنَ مِنْهَا، عَنْ
ثَلاَثَةٍ أَيْضًا مِنْهُمْ أَوْ أَرْبَعَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ
لِقَوْلِنَا أَصَحُّ، لأََنَّهَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي ذِكْرِ قَضِيَّةٍ بَيْنَ
عُمَرَ وَأُبَيٍّ قَضَى فِيهَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا وَالشَّعْبِيُّ:
قَدْ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَصَحِبَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ كَثِيرًا فَهَذِهِ
أَقْرَبُ بِلاَ شَكٍّ إلَى أَنْ تَكُونَ مُسْنَدَةً مِنْ تِلْكَ الَّتِي لَمْ
يَلْقَ الشَّعْبِيَّ أَحَدًا مِمَّنْ ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَلاَ
أَدْرَكَهُ بِعَقْلِهِ.
قال أبو محمد: مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ
لأََبِي حَنِيفَةَ أَنْ لاَ يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ، وَلاَ بِرَدِّ الْيَمِينِ،
لَكِنْ بِالأَخْذِ بِالْيَمِينِ، وَلاَ بُدَّ فِي بَعْضِ الدَّعَاوَى دُونَ بَعْضٍ
بِرَأْيِهِ وَيُجَوِّزَ مِثْلَ ذَلِكَ لِمَالِكٍ فِي دَعْوَى الطَّلاَقِ
وَالْعَتَاقِ، وَلاَ يُجَوِّزَ لِمَنْ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ،
وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ، لِتَعَرِّي
هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، عَنْ دَلِيلٍ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ السُّنَّةِ
وَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلٌ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ،
رضي الله عنهم،، فَالْوَاجِبُ أَنْ نَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِنَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: قَدْ صَحَّ مَا قَدْ أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم بِالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ عَلَى
(9/382)
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَعْطَى النَّاسَ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَمَا قَدْ أَتَيْنَا بِهِ قَبْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَك إِلاَّ ذَلِكَ". فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ دُونَ بَيِّنَةٍ، فَبَطَلَ بِهَذَا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا بِنُكُولِ خَصْمِهِ أَوْ بِيَمِينِهِ إذَا نَكَلَ خَصْمُهُ، لأََنَّهُ أُعْطِيَ بِالدَّعْوَى. وَصَحَّ أَنَّ الْيَمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يُعْطَى الْمُدَّعِي يَمِينًا أَصْلاً إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِأَنْ يُعْطَاهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْقَسَامَةِ فِي الْمُسْلِمِ يُوجَدُ مَقْتُولاً، وَفِي الْمُدَّعِي يُقِيمُ شَاهِدًا عَدْلاً فَقَطْ، وَكَانَ مَنْ أَعْطَى الْمُدَّعِيَ بِنُكُولِ خَصْمِهِ فَقَطْ أَوْ بِيَمِينِهِ إذَا نَكَلَ خَصْمُهُ قَدْ أَخْطَأَ كَثِيرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَأَعْطَاهُ بِدَعْوَاهُ الْمُجَرَّدَةِ، عَنِ الْبَيِّنَةِ وَأَسْقَطَ الْيَمِينَ عَمَّنْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يُزِلْهَا عَنْهُ إِلاَّ أَنْ يُسْقِطَهَا الَّذِي هِيَ لَهُ وَهُوَ الطَّالِبُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْبَيِّنَةَ فَيَأْخُذُ أَوْ يَمِينَ مَطْلُوبِهِ، فَإِذْ هِيَ لَهُ فَلَهُ تَرْكُ حَقِّهِ إنْ شَاءَ فَظَهَرَ صِحَّةُ قَوْلِنَا يَقِينًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} ِ. فَمَنْ أَطْلَقَ لِلْمَطْلُوبِ الأَمْتِنَاعَ مِنْ الْيَمِينِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ بِهَا وَقَدْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَعَلَى تَرْكِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ إلْزَامَهُ إيَّاهُ وَأَخْذَهُ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كَلاَمِنَا " فِي الإِمَامَةِ " قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ" إنْ اسْتَطَاعَ فَوَجَدْنَا الْمُمْتَنِعَ مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخْذَهُ بِهِ مِنْ الْيَمِينِ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا بِيَقِينٍ، فَوَجَبَ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّغْيِيرُ بِالْيَدِ: هُوَ الضَّرْبُ فِيمَنْ لَمْ يَمْتَنِعْ، أَوْ بِالسِّلاَحِ فِي الْمُدَافِعِ بِيَدِهِ، الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَخْذِهِ بِالْحَقِّ فَوَجَبَ ضَرْبُهُ أَبَدًا حَتَّى يُحْيِيَهُ الْحَقُّ مِنْ إقْرَارِهِ، أَوْ يَمِينِهِ، أَوْ يَقْتُلَهُ الْحَقُّ، مِنْ تَغْيِيرِ مَا أَعْلَنَ بِهِ مِنْ الْمُنْكَرِ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ أَحْسَنَ. وَأَمَّا السِّجْنُ: فَلاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ سِجْنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ لاَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَنَا ثَابِتٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا أَوْرَدْنَا، وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، خِلاَفُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/383)
1784 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ أَنْ يَحْلِفَ إِلاَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ فَقَطْ، كَيْفَمَا شَاءَ مِنْ قُعُودٍ أَوْ قِيَامٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَحْوَالِ، وَلاَ يُبَالِي إلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَ وَجْهُهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ الْعِرَاقِ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لأَمْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى عَامِلِهِ أَنْ يُوَافِيَهُ الرَّجُلُ بِمَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ، فَفَعَلَ، فَأَتَاهُ الرَّجُلُ وَعُمَرُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ لِعُمَرَ: أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي أَمَرْتَ أَنْ أُجْلَبَ عَلَيْكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْشُدُك
(9/383)
بِرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ مَا أَرَدْت بِقَوْلِك
"حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ" الْفِرَاقَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَوْ
اسْتَحْلَفْتَنِي فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ مَا صَدَقْتُك أَرَدْت بِذَلِكَ
الْفِرَاقَ قَالَ عُمَرُ: هُوَ مَا أَرَدْتَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلاً
قَالَ لأَمْرَأَتِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ فَاسْتَحْلَفَهُ عُمَرُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَقَالَ: أَرَدْت
الطَّلاَقَ ثَلاَثًا، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لأَمْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى
غَارِبِكِ، فَسَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ عُمَرُ
بِأَنْ يُوَافِيَهُ بِالْمَوْسِمِ، فَوَافَاهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْكَشْوَرِيِّ، عَنِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: اسْتَحْلَفَ مُعَاوِيَةُ فِي دَمٍ
بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ بِغَيْرِ إسْنَادٍ: أَنَّ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَنْكَرَ التَّحْلِيفَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ إِلاَّ
فِي دَمٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ. وَأَمَّا فِعْلُ مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورُ:
فَإِنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَحْلَفَ
مُصْعَبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُعَاذَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ مَعْمَرٍ، وَعُقْبَةَ بْنَ جَعْوَنَةَ بْنِ شَعُوبٍ اللَّيْثِيُّ فِي دَمِ
إسْمَاعِيلَ بْنِ هَبَّارٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَهَؤُلاَءِ
مَدَنِيُّونَ اسْتَجْلَبَهُمْ إلَى مَكَّةَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
شُرَيْحٍ قَالَ: يُسْتَحْلَفُ أَهْلَ الْكِتَابِ " بِاَللَّهِ " حَيْثُ
يَكْرَهُونَ. وبه إلى سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ أَدْخَلَ يَهُودِيًّا الْكَنِيسَةَ وَوَضَعَ
التَّوْرَاةَ عَلَى رَأْسِهِ وَاسْتَحْلَفَهُ بِاَللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ
ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ كَانَ يُحَلِّفُ أَهْلَ الْكِتَابِ
يَعْنِي النَّصَارَى يَضَعُ الإِنْجِيلَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إلَى
الْمَذْبَحِ فَيُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي مسيرة قَالَ: اخْتَصَمَ إلَى
الشَّعْبِيِّ مُسْلِمٌ وَنَصْرَانِيٌّ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَحْلِفُ
بِاَللَّهِ فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيُّ: لاَ، يَا خَبِيثُ قَدْ فَرَّطْت فِي
اللَّهِ، وَلَكِنْ اذْهَبْ إلَى الْبَيْعَةِ فَاسْتَحْلَفَهُ بِمَا يُسْتَحْلَفُ
بِهِ مِثْلُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ يَقُولُ: اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ، وَابْنُ مُطِيعٍ إلَى مَرْوَانَ فِي دَارٍ، فَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى
زَيْدٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أَحْلِفُ لَهُ
مَكَانِي فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لاَ، وَاَللَّهِ إِلاَّ فِي مَقَاطِعِ
الْحُقُوقِ، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ، وَيَأْبَى أَنْ
يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْ زَيْدٍ. وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَحْلَفَ عُمَّالَ سُلَيْمَانَ عِنْدَ
الصَّخْرَةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْكَشْوَرِيِّ، عَنِ
الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
(9/384)
إسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ أَحْلَفَ يَهُودِيًّا بِاَللَّهِ
تَعَالَى فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَدْخَلَهُ الْكَنِيسَةَ. فَهَذَا يُوضِحُ
أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمْ يُدْخِلْهُ الْكَنِيسَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ،
حَدَّثَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ وَصِيَّ رَجُلٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِصَكٍّ قَدْ دَرَسَتْ
أَسْمَاءُ شُهُودِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا نَافِعٌ اذْهَبْ بِهِ إلَى
الْمِنْبَرِ فَاسْتَحْلِفْهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرِيدُ أَنْ تُسْمِعَ
فِي الَّذِي يَسْمَعُنِي، ثُمَّ يَسْمَعُنِي هَاهُنَا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
صَدَقَ فَاسْتَحْلَفَهُ، وَأَعْطَاهُ إيَّاهُ.
قال أبو محمد: لَيْسَ فِي هَذَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى رَدَّ الْيَمِينِ
عَلَى الطَّالِبِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الصَّكُّ بَرَاءَةً مِنْ حَقٍّ عَلَى
ذَلِكَ الرَّجُلِ فَحَقُّهُ الْيَمِينُ، إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً
بِالْبَرَاءَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَجُلٍ
مِنْ وَلَدِ أَبِي الْهَيَّاجِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَعَثَ أَبَا
الْهَيَّاجِ قَاضِيًا إلَى السَّوَادِ، وَأَمَرَ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ بِاَللَّهِ.
فَفِي هَذَا: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: جُلِبَ رَجُلٌ
مِنْ الْعِرَاقِ إلَى مَكَّةَ لِلْحُكْمِ وَإِحْلاَفِهِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ،
وَاسْتِحْلاَفُ مُعَاوِيَةَ فِي دَمٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْكَارُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الأَسْتِحْلاَفَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، إِلاَّ فِي
دَمٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ: اسْتِحْلاَفُ
الْكُفَّارِ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ وَكَذَلِكَ كَعْبُ بْنُ سَوَّارٍ وَزَادَ: وَضْعَ
التَّوْرَاةِ عَلَى رَأْسِ الْيَهُودِيِّ، وَالإِنْجِيلِ عَلَى رَأْسِ
النَّصْرَانِيِّ. وَعَنْ مَرْوَانَ: أَنَّ الأَسْتِحْلاَفَ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ
مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
اسْتِحْلاَفُ الْعُمَّالِ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَعَنِ ابْنِ
عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: الأَسْتِحْلاَفُ
"بِاَللَّهِ" فَقَطْ حَيْثُ كَانَ مِنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ. وَهُوَ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَكَذَلِكَ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا بِمَاذَا يَحْلِفُونَ فَقَدْ ذَكَرْنَا
قَبْلَ هَذَا فِي " بَابِ الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ " تَحْلِيفَ عُثْمَانَ
لأَبْنِ عُمَرَ " بِاَللَّهِ " فَقَطْ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
الْحَلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بَاعَ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ.
وَذَكَرْنَا آنِفًا، عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى اسْتِحْلاَفَ الْكُفَّارِ
" بِاَللَّهِ " فَقَطْ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْحَلِفُ "
بِاَللَّهِ " فَقَطْ وَهُوَ عَنْهُ، وَعَنْ عُثْمَانَ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا
الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يُسْتَحْلَفُوا " بِاَللَّهِ ".
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ سَمِعْت
الشَّعْبِيَّ يَقُولُ فِي كَلاَمٍ كَثِيرٍ: إنْ لَمْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ
فَيَمِينُهُ "بِاَللَّهِ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ
مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: كُنْت مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَاضٍ فَاخْتَصَمَ إلَيْهِ: مُسْلِمٌ، وَنَصْرَانِيٌّ،
فَقَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى النَّصْرَانِيِّ فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ:
اسْتَحْلِفْهُ
(9/385)
لِي فِي الْبَيْعَةِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ:
اسْتَحْلِفْهُ "بِاَللَّهِ" وَخَلِّ سَبِيلَهُ وَنَحْوُهُ، عَنْ
عَطَاءٍ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ: اسْتِحْلاَفُهُمْ بِاَللَّهِ فَقَطْ. وَمِنْ طَرِيقِ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: يُسْتَحْلَفُونَ " بِاَللَّهِ " وَيُغَلَّظُ
عَلَيْهِمْ بِدِينِهِمْ. وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحْلِفُهُمْ
بِدِينِهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَأَمَّا
الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ
وَالْكَافِرُ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ. فأما الْمُسْلِمُ فَيُسْتَحْلَفُ
"بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الطَّالِبُ الْغَالِبُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا
يَعْلَمُ مِنْ الْعَلاَنِيَةِ". وَيُسْتَحْلَفُ الْيَهُودِيُّ
"بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى".
وَيُسْتَحْلَفُ النَّصْرَانِيُّ " بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الإِنْجِيلَ
عَلَى عِيسَى". وَيُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ "بِاَللَّهِ الَّذِي
خَلَقَ النَّارَ". وَكُلُّ هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ
لَمْ يَذْكُرْ فِي التَّحْلِيفِ الطَّالِبَ الْغَالِبَ وَرَأَى أَنْ يُحَلَّفَ فِي
عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ عِنْدَ الْمَقَامِ بِمَكَّةَ،
وَعِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ
يُحَلَّفَ سَائِرُ أَهْلِ الْبِلاَدِ فِي جَوَامِعِهِمْ. وَأَمَّا مَا دُونَ
عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ. وَرَأَى أَنْ يُحَلَّفَ
الْكُفَّارُ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ. وقال مالك: يُحَلَّفُونَ فِي ثَلاَثَةِ
دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فِي مَكَّةَ عِنْدَ الْمَقَامِ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ
مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ الْبِلاَدِ
فَحَيْثُ يُعَظَّمُ مِنْ الْجَوَامِعِ وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ الْمَسْتُورَةُ
لِذَلِكَ لَيْلاً. وَأَمَّا مَا دُونَ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ فَفِي مَجْلِسِ
الْحَاكِمِ. وَيُحَلَّفُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ "بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ
إلَهَ إِلاَّ هُوَ". وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: يُحَلَّفُ الْمُسْلِمُ "
بِاَللَّهِ " فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ فِي الْمُصْحَفِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ
فَكَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيهِمْ سَوَاءٌ سَوَاءٌ. وَ
مَا رُوِّينَا مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ إِلاَّ، عَنْ شُرَيْحٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا دَاوُد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
شُرَيْحٍ: ، أَنَّهُ قَالَ فِي كَلاَمٍ كَثِيرٍ " وَيَمِينُك بِاَللَّهِ
الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ " يَعْنِي عَلَى الْمَطْلُوبِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فِيمَا
يُسْتَحْلَفُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَاهُ، وَلاَ
مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِيهِ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ سَقِيمَةٍ،
وَلاَ بِقَوْلِ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وقال بعضهم: قلنا عَلَى سَبِيلِ
التَّأْكِيدِ فِي الْيَمِينِ. قلنا: مَا هَذَا بِتَأْكِيدٍ، لأََنَّ اللَّهَ
تَعَالَى إذَا ذُكِرَ بِاسْمِهِ اقْتَضَى الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ وَأَنَّهُ لَمْ
يَزَلْ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَاقْتَضَى كُلَّ مَا يُخْبَرُ بِهِ،
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْلُكُوا مَسْلَكَ الدُّعَاءِ
وَالتَّعَبُّدِ فَكَانَ أَوْلَى بِكُمْ أَنْ تَزِيدُوا مَا زَادَهُ اللَّهُ
تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ
الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ} الآيَةَ، فَزِيدُوا هَكَذَا حَتَّى تَفْنَى أَعْمَارُكُمْ،
وَتَنْقَطِعَ أَنْفَاسُكُمْ، وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي مَكَانِ حُكْمٍ لاَ فِي
تَفَرُّغٍ لِذِكْرٍ وَعِبَادَةٍ. ثُمَّ أَغْرَبُ شَيْءٍ زِيَادَةُ أَبِي حَنِيفَةَ
فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى " الطَّالِبَ الْغَالِبَ " فَمَا
نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَثُرَ كَلاَمُهُ
(9/386)
بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَلاَ نُدِبَ إلَيْهِ:
كَثُرَ خَطَؤُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ. فَإِنْ قَالُوا: قَصَدْنَا
بِذَلِكَ التَّغْلِيظَ قلنا: فَاجْلُبُوهُمْ مِنْ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا إلَى
مَكَّةَ فَهُوَ أَشَدُّ تَغْلِيظًا كَمَا رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، أَوْ حَلِّفُوهُمْ
فِي الْمُصْحَفِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، فَهُوَ أَشَدُّ تَغْلِيظًا،
وَحَلِّفُوهُمْ بِمَا تَرَوْنَهُ أَيْمَانًا مِنْ الطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ،
وَصَدَقَةِ الْمَالِ، فَهُوَ عِنْدَكُمْ أَغْلَظُ وَأَوْكَدُ مِنْ الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ قَالُوا رُدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الزِّيَادَاتِ
الَّتِي زَادُوهَا، وَلاَ فَرْقَ. أَوْ نَقُولُ: حَلِّفُوهُمْ بِ " عَلَيْهِ
لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كَانَ كَاذِبًا " قِيَاسًا عَلَى الْمُلاَعِنِ، أَوْ
رُدُّوا عَلَيْهِ الأَيْمَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقَوْلُ
الشَّافِعِيِّ: أَنْ يُحَلَّفَ النَّصْرَانِيُّ " بِاَللَّهِ الَّذِي
أَنْزَلَ الإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى " فَعَجَبٌ، وَلاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ
أَخَذَاهُ، فَمَا فِي الأَمْرِ لَهُمْ بِهَذِهِ الْيَمِينِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ
صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ أَصْلاً. وأعجب شَيْءٍ جَهْلُ
مَنْ يُحَلِّفُهُمْ بِهَذَا، وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَهُ، وَلاَ يُقِرُّونَ بِهِ،
وَلاَ قَالَ نَصْرَانِيٌّ قَطُّ: إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى،
وَإِنَّمَا الإِنْجِيلُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّصَارَى لاَ نُحَاشِي مِنْهُمْ أَحَدًا
أَرْبَعَةُ تَوَارِيخَ: أَلَّفَ أَحَدَهَا: مَتَّى وَأَلَّفَ الآخَرَ: يُوحَنَّا
وَهُمَا عِنْدَهُمْ حَوَارِيَّانِ. وَأَلَّفَ الثَّالِثَ: مُرْقُسُ وَأَلَّفَ
الرَّابِعَ: لُوقَا، وَهُمَا تِلْمِيذَانِ لِبَعْضِ الْحَوَارِيِّينَ عِنْدَ كُلِّ
نَصْرَانِيٍّ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ: أَنَّ تَأْلِيفَهَا
كَانَ عَلَى سِنِينَ مِنْ رَفْعِ عِيسَى عليه السلام. فَإِنْ قَالُوا:
حَلَّفْنَاهُمْ بِمَا هُوَ الْحَقُّ قلنا: فَحَلِّفُوهُمْ " بِالْقُرْآنِ
" فَهُوَ حَقٌّ. فَإِنْ قَالُوا: هُمْ لاَ يُقِرُّونَ بِهِ. قلنا: وَهُمْ لاَ
يُقِرُّونَ بِأَنَّ الإِنْجِيلَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِيسَى عليه
السلام، وَلاَ فَرْقَ. وَأَمَّا تَحْلِيفُهُمْ الْيَهُودَ "بِاَللَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى" فَإِنَّهُمْ مَوَّهُوا فِي
ذَلِكَ بِالْخَبَرَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ الْبَرَاءِ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَيْهِ يَهُودِيٌّ مُحَمَّمٌ
مَجْلُودٌ، فَدَعَا رَجُلاً مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ: "أَنْشُدُكَ
بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ
الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ" قَالَ: لاَ، وَلَوْلاَ أَنَّكَ أَنْشَدْتَنِي
بِهَذَا مَا أَخْبَرْتُكَ بِحَدِّ الرَّجْمِ . وَالآخَرُ: مِنْ طَرِيقِ أَبِي
هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِيِّ:
"أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مَا
تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إذَا أَحْصَنَ" قَالُوا:
يُحَمَّمُ وَيُجَبَّهُ، وَشَابٌّ مِنْهُمْ سَكَتَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ هَذَا التَّحْلِيفَ لَمْ
يَكُنْ فِي خُصُومَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي مُنَاشَدَةٍ، وَنَحْنُ لاَ نَمْنَعُ
الْمُنَاشِدَ أَنْ يَنْشُدَ بِمَا شَاءَ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَيْسَ فِيهِمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ
يُحَلَّفَ هَكَذَا فَكَانَ مَنْ أَلْزَمَ ذَلِكَ فِي التَّحْلِيفِ شَارِعًا مَا
لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ يُسْتَحْلَفُ
الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ " بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ "
فَإِنَّهُمْ عَوَّلُوا فِي ذَلِكَ عَلَى خَبَرٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ
بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ أَحْلَفَهُ احْلِفْ: بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ
إِلاَّ
(9/387)
هُوَ مَا لَهُ عِنْدَكَ شَيْءٌ.
قال أبو محمد: هَذَا حَدِيثٌ سَاقِطٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ، عَنْ
أَبِي يَحْيَى وَهُوَ مِصْدَعٌ الأَعْرَجُ وَهُوَ مُجَرَّحٌ قُطِعَتْ عُرْقُوبَاهُ
فِي التَّشَيُّعِ.
وَالثَّانِي أَنَّ أَبَا الأَحْوَصِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ
إِلاَّ بَعْدَ اخْتِلاَطِ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ عَطَاءٍ قَبْلَ
اخْتِلاَطِهِ: سُفْيَانُ، وَشُعْبَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَالأَكَابِرُ
الْمَعْرُوفُونَ. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ "قَالَ: جَاءَ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِلْمُدَّعِي: أَقِمْ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ يُقِمْ،
وَقَالَ لِلآخَرِ: احْلِفْ، فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْفَعْ حَقَّهُ وَسَتُكَفِّرُ
عَنْكَ لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا صَنَعْتَ . فَسُفْيَانُ الَّذِي صَحَّ سَمَاعُهُ
مِنْ عَطَاءٍ يَذْكُرُ أَنَّ الرَّجُلَ حَلَفَ كَذَلِكَ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَحْلِفَ كَذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَأَبُو
يَحْيَى لاَ شَيْءٌ ثُمَّ الْعَجَبُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ خِلاَفًا
لِمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ بِلاَ بَيِّنَةٍ. ثُمَّ هُوَ
حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مَكْذُوبٌ فَاسِدٌ، لأََنَّ مِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ
يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ بِالْيَمِينِ
الْكَاذِبَةِ، وَهُوَ عليه الصلاة والسلام يَدْرِي أَنَّهُ كَاذِبٌ فَيَأْمُرُهُ
بِالْكَذِبِ، حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا. وَعَلَى خَبَرٍ آخَرَ: مِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ
عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم: "أَنَّ رَجُلاً حَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ
كَاذِبًا فَغُفِرَ لَهُ" .
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ،
وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَلِفِ بِذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ أَصْلاً، بَلْ
هُوَ ضِدُّ قَوْلِهِمْ: إنَّهُمْ زَادُوا ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَعْظِيمًا فَعَلَى
هَذَا الْخَبَرِ مَا هِيَ إِلاَّ زِيَادَةُ تَخْفِيفٍ مُوجِبَةٌ لِلْمَغْفِرَةِ
لِلْكَاذِبِ فِي يَمِينِهِ، مُسَهِّلَةٌ عَلَى الْفُسَّاقِ أَنْ يَحْلِفُوا بِهَا
كَاذِبِينَ. وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى
وَالتَّوْحِيدُ لَهُ يُوَازِنُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوَازِنَهُ مِنْ
الْمَعَاصِي فَيُذْهِبُهَا. قَالَ تَعَالَى {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ}. وَذَكَرُوا حَدِيثًا آخَرَ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي،
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ
سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ
فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ فَقَالَ: لاَ، وَاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ
فَقَالَ عِيسَى عليه السلام: آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِي" .
قال أبو محمد: وَحَتَّى لَوْ صَحَّ هَذَا، فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ عِيسَى عليه
السلام أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْلِفَ كَذَلِكَ فِي خُصُومَةٍ ثُمَّ لَوْ كَانَ ذَلِكَ
فِيهِ فَشَرِيعَةُ عِيسَى عليه السلام لاَ تَلْزَمُنَا، إنَّمَا يَلْزَمُنَا مَا
أَتَانَا بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
(9/388)
وَذَكَرُوا الْخَبَرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ أَيْضًا:
مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ الْحَرَّانِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ:
ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:
"آللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ، قُلْت: آللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ
إِلاَّ هُوَ، قَالَ: آللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ قُلْتُ: آللَّهِ
الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ قَالَ: انْطَلِقْ فَاسْتَثْبِتْ فَانْطَلَقْتُ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنْ جَاءَكُمْ يَسْعَى مِثْلَ
الطَّيْرِ يَضْحَكُ فَقَدْ صَدَقَ" ، فَانْطَلَقْتُ فَاسْتَثْبَتُّ ثُمَّ
جِئْتُ وَأَنَا أَسْعَى مِثْلَ الطَّيْرِ أَضْحَكُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:
"انْطَلِقْ فَأَرِنِي مَكَانَهُ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَأَرَيْتُهُ مَكَانَهُ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُُمَّةِ".
قال علي: وهذا خَبَرٌ لاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِهِ أَصْلاً، لِوُجُوهٍ: مِنْهَا
أَنَّهُ إسْنَادٌ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا قَتَلَ أَبَا
جَهْلٍ ابْنَا عَفْرَاءَ. ثُمَّ إنَّهَا لَمْ تَكُنْ خُصُومَةً، إنَّمَا كَانَتْ
مُنَاشَدَةً. ثُمَّ إنْ كَانَتْ مُنَاشَدَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
لأَبْنِ مَسْعُودٍ تُوجِبُ أَنْ لاَ يَكُونَ التَّحْلِيفُ فِي الْحُقُوقِ إِلاَّ
كَذَلِكَ، فَإِنَّ تَكْرَارَهُ عليه الصلاة والسلام مُنَاشَدَتَهُ يُوجِبُ أَنْ
تَتَكَرَّرَ الْيَمِينُ عَلَى الْحَالِفِ فِي الْحُقُوقِ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَبَطَلَ
مَا تَعَلَّقْتُمْ بِهِ.
قال أبو محمد: فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلاً فِي إيجَابِهِمْ هَذِهِ
الزِّيَادَةَ فِي التَّحْلِيفِ. فَإِنْ قَالُوا: هِيَ زِيَادَةُ خَيْرٍ. قلنا:
نَعَمْ فَأَلْزِمُوهُ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَكُلُّ
ذَلِكَ زِيَادَةُ خَيْرٍ، وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ آخَرَ فِعْلَ
شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الذِّكْرِ وَالْبِرِّ إِلاَّ بِقُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ
يُوجِبُ نَصُّهُمَا ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالْمُوجِبُ مَا لاَ نَصَّ فِي إيجَابِهِ
عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتَعَدٍّ لِحُدُودِهِ.
قال أبو محمد: وَوَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِيمَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ قَوْلِنَا مِنْ
النُّصُوصِ: فَوَجَدْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ
بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ إنْ ارْتَبْتُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى:
{فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} . وَقَالَ
تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} . وَقَالَ
تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ
بِاَللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}
. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إي وَرَبِّي} . فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ
أَحَدًا بِأَنْ يَزِيدَ فِي الْحَلِفِ عَلَى " بِاَللَّهِ " شَيْئًا،
فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مُوجِبًا لِتِلْكَ
الزِّيَادَةِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ
الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ
" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ حَالِفًا
فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاَللَّهِ" . وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى إبْطَالِ
زِيَادَتِهِمْ وَإِيجَابِهِمْ مِنْ ذَلِكَ خِلاَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة
(9/389)
والسلام كَانَ يَحْلِفُ: لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ.
فَصَحَّ: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا يَحْلِفُ الْحَالِفُ
بِأَيِّهَا شَاءَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَزَيْدَ
بْنَ ثَابِتٍ مِمَّا صَحَّ عَنْهُمَا، وَمَا رُوِيَ، عَنْ أَبِي مُوسَى،
وَعَلِيٍّ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم
مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَا
وَجَدْنَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَأَمَّا
قَوْلُ مَالِكٍ: فَعَنْ شُرَيْحٍ وَحْدَهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُ
مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: مِنْ حَيْثُ يَحْلِفُ النَّاسُ، فَقَوْلٌ لَمْ
يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَقَلَّدُوا فِيهَا
مَرْوَانَ. وَخَالَفُوا: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَهَذَا عَجَبٌ
جِدًّا. وَخَالَفُوا: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي جَلْبِهِ رَجُلاً مِنْ
الْعِرَاقِ لِيَحْلِفَ بِمَكَّةَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ بِالْعِرَاقِ،
وَالْحِجَازِ، وَمُعَاوِيَةَ فِي جَلْبِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ سَلَفًا مِنْ الصَّحَابَةِ تَعَلَّقُوا
بِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ شَغَبُوا بِأَخْبَارٍ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ
عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ
حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ
النَّارِ . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ
يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُنِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَخْبَرَنِي
أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ
يَسْتَحِلُّ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ
عَدْلاً، وَلاَ صَرْفًا" . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَضَّاحٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ
بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ لِلْمُدَّعِي: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ" قَالَ: لاَ، قَالَ:
"فَلَكَ يَمِينُهُ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ فَاجِرٌ
لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ لَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ" قَالَ:
فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَمَا وَاَللَّهِ لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا
لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ" . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ
بْنِ شُعَيْبٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا حِبَّانُ، هُوَ ابْنُ
هِلاَلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، هُوَ ابْنُ
عُمَيْرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، هُوَ ابْنُ وَائِلٍ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ "
أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِلْمُدَّعِي فِي أَرْضٍ:
"بَيِّنَتُكَ" قَالَ: لَيْسَ لِي، قَالَ: "يَمِينُهُ" ،
قَالَ: إذًا يَذْهَبُ بِمَالِي قَالَ: لَيْسَ لَكَ إِلاَّ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَامَ
لِيَحْلِفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَطَعَ
(9/390)
أَرْضًا ظَالِمًا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ: فأما خَبَرُ عَلْقَمَةَ بْنِ
وَائِلٍ: فَإِنَّ رَاوِيَ لَفْظَةِ "انْطَلَق": سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ
وَهُوَ ضَعِيفٌ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ انْطَلَقَ إلَى
الْمِنْبَرِ، وَقَدْ يُرِيدُ انْطَلَقَ فِي كَلاَمِهِ لِيَحْلِفَ، وَلاَ فِيهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالأَنْطِلاَقِ، وَلاَ
بِالْقِيَامِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي فِعْلِ أَحَدٍ دُونَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الْخَبَرَانِ الأَوَّلاَنِ: فَلَيْسَ
فِيهِمَا إِلاَّ تَعْظِيمُ الْيَمِينِ عِنْدَ مِنْبَرِهِ عليه الصلاة والسلام
فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِمَا أَنَّهُ أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ لاَ
يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ إِلاَّ عِنْدَهُ، وَنَحْنُ لَمْ نُخَالِفْهُمْ فِي هَذَا.
وَلَوْ كَانَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ يُوجِبَانِ أَنْ لاَ يَحْلِفَ الْمَطْلُوبُ
إِلاَّ عِنْدَ مِنْبَرِهِ عليه الصلاة والسلام لَكَانَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ،
قَدْ خَالَفَهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا لاَ يُحَلِّفَانِ عِنْدَهُ
إِلاَّ فِي مِقْدَارٍ مَا مِنْ الْمَالِ لاَ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، فَلَيْتَ شِعْرِي
أَيْنَ وَجَدَا هَذَا وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ تَخْصِيصُ الْحَلِفِ
عِنْدَهُ فِي عَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ، بَلْ فِيهِ نَصُّ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ذَلِكَ: كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُونُسَ، حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ
هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نِسْطَاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لاَ يَحْلِفُ أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ وَلَوْ
عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ إِلاَّ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" .
فَظَهَرَ خِلاَفُهُمْ لِهَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ. وَالْمَوْضِعُ الآخَرُ
أَنَّهُمَا يُحَلِّفَانِ مَنْ بَعُدَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجَوَامِعِ، فَقَدْ
خَالَفَا هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا، وَلَئِنْ جَازَ أَنْ لاَ يُحَلَّفَ مَنْ بَعُدَ
عَنْهُ عَلَيْهِ إنَّهُ لَجَائِزٌ فِيمَا قَرُبَ أَيْضًا، وَلاَ فَرْقَ، وَلَيْسَ
لِلْبُعْدِ وَالْقُرْبِ حَدٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، إِلاَّ أَنْ يَحُدَّ حَادٌّ
بِرَأْيِهِ فَيَزِيدُ فِي الْبَلاَءِ وَالشَّرْعِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ نَجِدُ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ لِضَعْفِهِ
مِائَةَ ذِرَاعٍ وَمَنْ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشْيُ خَمْسِينَ مِيلاً، فَظَهَرَ
فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً. وَأَيْضًا: فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِأَصَحِّ طَرِيقٍ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ: مَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَعْبَدِ
بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ
اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ النَّار" َ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ"
قَالَهَا ثَلاَثًا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَ فِيهِمْ وَرَجُلٌ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ" .
(9/391)
قال أبو محمد: فَإِنْ كَانَ تَعْظِيمُ الْحَلِفِ
عِنْدَ مِنْبَرِهِ عليه الصلاة والسلام مُوجِبًا لاََنْ لاَ يُحَلَّفَ
الْمَطْلُوبُونَ إِلاَّ عِنْدَهُ، فَإِنَّ تَعْظِيمَهُ عليه الصلاة والسلام
الْحَلِفَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ مُوجِبٌ أَيْضًا: أَنْ لاَ يُحَلَّفَ
الْمَطْلُوبُونَ إِلاَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. ثُمَّ
الْعَجَبُ كُلُّهُ قِيَاسُهُمْ سَائِرَ الْجَوَامِعِ عَلَى مَسْجِدِهِ صلى الله
عليه وسلم وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ فَضْلَ لِجَامِعٍ فِي سَائِرِ الْبِلاَدِ
عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مَسْجِدٌ آخَرُ جَامِعًا وَتُرِكَ
التَّجْمِيعُ فِي الْجَامِعِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ أَصْلاً، وَلاَ
كَرَاهَةٌ، فَمِنْ أَيْنَ خَرَجَتْ هَذِهِ الْقِيَاسَاتُ الْفَاسِدَةُ. فَإِنْ
قَالُوا: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَزْدَجِرَ الْمُبْطِلُ قلنا: فَافْعَلُوا ذَلِكَ فِي
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَإِنَّ الْوَعِيدَ جَاءَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءً، حَتَّى فِي قَضِيبٍ مِنْ أَرَاكٍ، إِلاَّ إنْ
كَانَ الْقَلِيلُ عِنْدَكُمْ خَفِيفًا فَهَذَا مَذْهَبُ النَّظَّامِ، وَأَبِي
الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ، وَبِشْرِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَهُمْ الْقَوْمُ لاَ
يُتَكَثَّرُ بِهِمْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُحِقَّ قَدْ يَخْشَى السُّمْعَةَ
وَالشُّهْرَةَ فِي حَمْلِهِ إلَى الْجَامِعِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ، فَقَدْ
حَصَلْتُمْ بِنَظَرِكُمْ عَلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ، وَأُفٍّ لِهَذَا نَظَرًا.
قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الْيَمِينُ فِي مَكَان دُونَ مَكَان،
وَفِي حَالٍ دُونَ حَالٍ: لَبَيَّنَهَا عليه الصلاة والسلام فَإِذْ لَمْ يُبَيِّنْ
ذَلِكَ فَلاَ يُخَصُّ بِالْيَمِينِ مَكَانٌ دُونَ مَكَان، وَلاَ حَالٌ دُونَ
حَالٍ. وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَرَى فِيهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ:
التَّحْلِيفَ فِي الْجَوَامِعِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ:
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَنْكَرَ التَّحْلِيفَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ
إِلاَّ فِي دَمٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِوُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهَا رِوَايَةٌ سَاقِطَةٌ لاَ يُدْرَى لَهَا أَصْلٌ، وَلاَ
مُنْبَعَثٌ، وَلاَ مَخْرَجٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَاتَ زَمَنَ
عُثْمَانَ رضي الله عنهما فَوَالِي مَكَّةَ يَوْمئِذٍ كَانَ بِلاَ شَكٍّ مِنْ
الصَّحَابَةِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ، فَلَيْسَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْلَى
مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ لَمْ يَحُدَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
فِي كَثِيرِ الْمَالِ مَا حَدَّهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَا نَعْلَمُ
أَحَدًا سَبَقَ مَالِكًا إلَى تَحْدِيدِ ذَلِكَ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، وَلاَ مَنْ
سَبَقَ الشَّافِعِيِّ إلَى تَحْدِيدِهِ بِعِشْرِينَ دِينَارًا. فإن قيل: إنَّ فِي
ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ تُقْطَعُ الْيَدُ فِيهَا. قلنا: وَمَنْ حَدَّ ذَلِكَ، إنَّمَا
حَدَّ قَوْمٌ بِرُبُعِ دِينَارٍ، وَأَمَّا بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ فَلاَ
وَيُعَارِضُ هَذَا تَحْدِيدُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ عِشْرِينَ دِينَارًا تَجِبُ
فِيهَا الزَّكَاةُ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ دُونَ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ الَّتِي صَحَّ فِيهَا النَّصُّ. أَوْ يُعَارِضُهُمْ آخَرُونَ بِمِقْدَارِ
الدِّيَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ لاَ مَعْنَى لَهُ. وَيُقَالُ لَهُمْ:
أَتَرَوْنَ مَا دُونَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ أَيُتَسَاهَلُ فِي ظُلْمِ
الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، وَقَدْ وَجَدْنَا أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ تُؤْخَذُ غَصْبًا فَلاَ يَجِبُ فِيهَا قَطْعٌ، وَالْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ
سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا ظُلْمٌ، وَأَخْذُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَلَعَلَّ الْغَاصِبَ
أَعْظَمُ إثْمًا، لأَهْتِضَامِهِ الْمُسْلِمَ عَلاَنِيَةً، بَلْ لاَ نَشُكُّ فِي
أَنَّ غَاصِبَ دِينَارٍ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ سَارِقِ رُبُعِ دِينَارٍ، وَفِي
الْمُسْلِمِينَ مَنْ الدِّرْهَمُ عِنْدَهُ عَظِيمٌ لِفَقْرِهِ، وَفِيهِمْ مَنْ
أَلْفُ دِينَارٍ
(9/392)
عِنْدَهُ قَلِيلٌ لِيَسَارِهِ، فَظَهَرَ فَسَادُ هَذِهِ الأَقْوَالِ بِيَقِينٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/393)
كتاب الشهادات
ولا يجوز أن تقبل في شيء من الشهادات من الرجال والنساء الاعدل رضى
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
1785 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ الشَّهَادَاتِ
مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ عَدْلٌ رَضِيٌّ. وَالْعَدْلُ: هُوَ مَنْ لَمْ
تُعْرَفْ لَهُ كَبِيرَةٌ، وَلاَ مُجَاهَرَةٌ بِصَغِيرَةٍ. وَالْكَبِيرَةُ: هِيَ
مَا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبِيرَةً، أَوْ مَا جَاءَ
فِيهِ الْوَعِيدُ. وَالصَّغِيرَةُ: مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ وَعِيدٌ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ. وَلَيْسَ إِلاَّ فَاسِقٌ أَوْ
غَيْرُ فَاسِقٍ، فَالْفَاسِقُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْفِسْقُ،
وَالْكَبَائِرُ كُلُّهَا فُسُوقٌ فَسَقَطَ قَبُولُ خَبَرِ الْفَاسِقِ، فَلَمْ
يَبْقَ إِلاَّ الْعَدْلُ: وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِفَاسِقٍ. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ:
فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . فَصَحَّ: أَنَّ مَا دُونَ
الْكَبَائِرِ مُكَفَّرَةٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَمَا كَفَّرَهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَأَسْقَطَهُ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَذُمَّ بِهِ صَاحِبَهُ، وَلاَ
أَنْ يَصِفَهُ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ تَابَ مِنْ الْكُفْرِ فَمَا دُونَهُ
فَإِنَّهُ إذَا سَقَطَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ مَا تَابَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ
لأََحَدٍ أَنْ يَذُمَّهُ بِمَا سَقَطَ عَنْهُ، وَلاَ أَنْ يَصِفَهُ بِهِ. وَقَدْ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كُلُّ مُسْلِمٍ فَهُوَ عَدْلٌ
حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدَةَ قَالَ: ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى: الْمُسْلِمُونَ
عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ،
أَوْ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلاَءٍ، أَوْ قَرَابَةٍ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا: أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ الْعُذُرِيُّ قَالَ: ،
حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ
الْفَارِسِيُّ قَالَ: ، حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ: ، حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ بْنُ
أَحْمَدَ الْقَاضِي السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنُ
مَعْدَانَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى فَذَكَرَهُ كَمَا
هُوَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ: ، حَدَّثَنَا
الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَرْخِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَّافُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
إدْرِيسَ بْنِ يَزِيدَ الأَوْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ
أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
إلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَذَكَرَهُ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.
قال أبو محمد: فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ بِبَعْضِ هَذِهِ الأَسَانِيدِ "
وَقِسْ الأُُمُورَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ " وَفِي بَعْضِهَا " وَاعْرِفْ
الأَشْبَاهَ وَالأَمْثَالَ " وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الْحَنَفِيُّونَ،
وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ،
(9/393)
فِي الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ لَمْ يُبَالُوا
بِخِلاَفِهَا فِي أَنَّ " الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ،
إِلاَّ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلاَءٍ، أَوْ قَرَابَةٍ
". فَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ: مُجَاهِرُونَ بِخِلاَفِ هَذَا،
وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ عَلَى الرَّدِّ حَتَّى تَصِحَّ الْعَدَالَةُ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَدَالَةِ حَتَّى
يَطْعَنَ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ فَإِذَا طَعَنَ فِيهِ الْخَصْمُ تَوَقَّفَ فِي
شَهَادَتِهِ حَتَّى تَثْبُتَ لَهُ الْعَدَالَةُ. فَهَذَا كُلُّهُ بِخِلاَفِ قَوْلِ
عُمَرَ، فَمَرَّةً قَوْلُهُ حُجَّةٌ، وَمَرَّةً قَوْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ،
وَهَذَا كَمَا تَرَى، فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ،
حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْعَدْلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي لَمْ
تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ
نَافِعٍ هُوَ أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ:
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ يَقُولُ: إنَّ نَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا
نَأْخُذُكُمْ الآنَ بِمَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا
خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ،
وَاَللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ
نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. قلنا:
هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ، عَنْ عُمَرَ، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ فَمُتَّفَقٌ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ فَهُوَ عَدْلٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ
مِنْهُ شَرٌّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ
عُمَرَ قِيلَ لَهُ: إنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ قَدْ فَشَتْ فَقَالَ: لاَ يُوسَرُ
رَجُلٌ فِي الإِسْلاَمِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ: مَعْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ: أَنَّ
الْعُدُولَ هُمْ الْمُسْلِمُونَ إِلاَّ مَنْ صَحَّتْ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ.
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ حُمَامٌ، عَنِ الْبَاجِيَّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يُونُسَ، حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ: أَلَّا لاَ يُوسَرُ أَحَدٌ فِي الإِسْلاَمِ بِشُهُودِ الزُّورِ،
فَإِنَّا لاَ نَقْبَلُ إِلاَّ الْعُدُولَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ: ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يُصِبْ
حُرًّا أَوْ تُعْلَمْ عَلَيْهِ خَرَبَةٌ فِي دِينِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ
أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ صَلَّى إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ الْخَصْمُ
بِمَا يُجَرِّحُهُ بِهِ.
فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،
عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ لاَ يَجُوزُ فِي الطَّلاَقِ شَهَادَةُ ظَنِينٍ،
وَلاَ مُتَّهَمٍ. قلنا: قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَصَّ الطَّلاَقَ، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى:فِيهِ: إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ إلَى قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فَلَمْ
يَجُزْ فِي الطَّلاَقِ بِالنَّصِّ إِلاَّ مَنْ عُرِفَ لاَ مَنْ يُتَّهَمُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ حَتَّى
تَصِحَّ الْجُرْحَةُ: بِأَنَّهُ قَبْلَ
(9/394)
الْبُلُوغِ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ جُرْحَةٍ، فَلَمَّا
بَلَغَ مُسْلِمًا، فَالإِسْلاَمُ خَيْرٌ، بَلْ هُوَ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ فَقَدْ
صَحَّ مِنْهُ الْخَيْرُ، فَهُوَ عَدْلٌ حَتَّى يُوقَنَ مِنْهُ بِضِدِّ ذَلِكَ..
فَقُلْنَا: إذَا بَلَغَ الْمُسْلِمُ فَقَدْ صَارَ فِي نِصَابِ مَنْ يُكْتَبُ لَهُ
الْخَيْرُ، وَيُكْتَبُ عَلَيْهِ الشَّرُّ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ
سَلِمَ مِنْ ذَنْبٍ. قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ
بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ} . فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ أَحَدَ إِلاَّ وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
وَاكْتَسَبَ إثْمًا، فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا، وَلاَ بُدَّ، فَلاَ بُدَّ مِنْ
التَّوَقُّفِ فِي خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ حَتَّى يُعْلَمَ أَيْنَ أَحَلَّتْهُ
ذُنُوبُهُ فِي جُمْلَةِ الْفَاسِقِينَ: فَتَسْقُطُ شَهَادَتُهُ بِنَصِّ كَلاَمِ
اللَّهِ تَعَالَى إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَمْ فِي جُمْلَةِ
الْمَغْفُورِ لَهُمْ مَا أَذْنَبُوا، وَمَا ظَلَمُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ، وَمَا
كَسَبُوا مِنْ إثْمٍ بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ،
وَالتَّسَتُّرِ بِالصَّغَائِرِ: بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا.
قال أبو محمد: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ سَلِمَ مِنْ الْفَوَاحِشِ الَّتِي
تَجِبُ فِيهَا الْحُدُودُ وَمَا يُشْبِهُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْحُدُودُ مِنْ
الْعَظَائِمِ، وَكَانَ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ، وَأَخْلاَقُ الْبِرِّ فِيهِ
أَكْثَرُ مِنْ الْمَعَاصِي: قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ، لأََنَّهُ لاَ يَسْلَمُ عَبْدٌ
مِنْ ذَنْبٍ. وَإِنْ كَانَتْ الْمَعَاصِي أَكْثَرَ مِنْ أَخْلاَقِ الْبِرِّ
رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ. وَلاَ نُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ
وَيُقَامِرُ عَلَيْهَا. وَلاَ مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهَا. وَلاَ
مَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِالْكَذِبِ.
قال أبو محمد: هَذَا كَلاَمٌ مُتَنَاقِضٌ، لأََنَّهُ بَنَاهُ عَلَى كَثْرَةِ
الْخَيْرِ وَكَثْرَةِ الشَّرِّ وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ
زِنًى مَرَّةً فَهُوَ فَاسِقٌ حَتَّى يَتُوبَ. ثُمَّ رَدَّ الشَّهَادَةَ
بِاللَّعِبِ بِالْحَمَامِ وَمَا نَدْرِي ذَلِكَ مُحَرَّمًا مَا لَمْ يَسْرِقْ
حَمَامَ النَّاسِ.
وقال الشافعي: إذَا كَانَ الأَغْلَبُ وَالأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ
وَالْمُرُوءَةَ: قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ مِنْ أَمْرِهِ
الْمَعْصِيَةَ، وَخِلاَفَ الْمُرُوءَةِ: رُدَّتْ شَهَادَتُهُ.
قال أبو محمد: كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِذِكْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ،
وَأَمَّا ذِكْرُهُ الْمُرُوءَةَ هَاهُنَا فَفُضُولٌ مِنْ الْقَوْلِ وَفَسَادٌ فِي
الْقَضِيَّةِ، لأََنَّهَا إنْ كَانَتْ مِنْ الطَّاعَةِ فَالطَّاعَةُ تُغْنِي
عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مِنْ الطَّاعَةِ فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا
فِي أُمُورِ الدِّيَانَةِ، إذْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصُّ قُرْآنٍ، وَلاَ
سُنَّةٍ.
وقال مالك فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهُ: مَنْ كَانَ
أَكْثَرُ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى كَبِيرَةٍ فَهُوَ عَدْلٌ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْحَقُّ كَمَا
بَيَّنَّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/395)
ولا يجوز أن يقبل في الزنا أقل نت أربعة رجال عدول
...
1786 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي الزِّنَى أَقَلُّ مِنْ
أَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ مُسْلِمِينَ، أَوْ مَكَانَ كُلِّ رَجُلٍ امْرَأَتَانِ
مُسْلِمَتَانِ عَدْلَتَانِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلاَثَةَ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ،
أَوْ
(9/395)
رَجُلَيْنِ وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ، أَوْ رَجُلاً
وَاحِدًا وَسِتَّ نِسْوَةٍ، أَوْ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَقَطْ. وَلاَ يُقْبَلُ فِي
سَائِرِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا مِنْ الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ، وَمَا فِيهِ
الْقِصَاصُ وَالنِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالأَمْوَالُ، إِلاَّ
رَجُلاَنِ مُسْلِمَانِ عَدْلاَنِ، أَوْ رَجُلاَنِ وَامْرَأَتَانِ كَذَلِكَ، أَوْ
أَرْبَعُ نِسْوَةٍ كَذَلِكَ وَيُقْبَلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ حَاشَا الْحُدُودَ رَجُلٌ
وَاحِدٌ عَدْلٌ أَوْ امْرَأَتَانِ كَذَلِكَ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ. وَيُقْبَلُ
فِي الرَّضَاعِ وَحْدَهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ عَدْلَةٌ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ.
فأما وُجُوبُ قَبُولِ أَرْبَعَةٍ فِي الزِّنَى فَبِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلاَ
خِلاَفَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.
وَأَمَّا قَبُولُ رَجُلَيْنِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا، أَوْ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلَى قَوْلِهِ
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَقَالَ تَعَالَى
{إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلَى قَوْلِهِ:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} .وَادَّعَى قَوْمٌ: أَنَّ قَبُولَ عَدْلَيْنِ مِنْ
الرِّجَالِ فِي سَائِرِ الأَحْكَامِ قِيَاسًا عَلَى نَصِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي
الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ
مُنْفَرِدَاتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ، وَفِي قَبُولِهِنَّ مَعَ رَجُلٍ
فِيمَا عَدَا الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ
بِقَبُولِهِنَّ مُنْفَرِدَاتٍ فِي كَمْ يُقْبَلُ مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ فَقَالَ زُفَرُ
صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ قَبُولُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ دُونَ
رَجُلٍ فِي شَيْءٍ أَصْلاً، لاَ فِي وِلاَدَةٍ، وَلاَ فِي رَضَاعٍ، وَلاَ فِي
عُيُوبِ النِّسَاءِ، وَلاَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَأَجَازَهُنَّ مَعَ رَجُلٍ فِي
الطَّلاَقِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْعِتْقِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
بُرْدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إِلاَّ فِي
الدَّيْنِ. وَرُوِّينَا ضِدَّ هَذَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مِنْ الشَّهَادَاتِ
شَهَادَةٌ لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِلاَّ شَهَادَاتُ النِّسَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا
لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ
تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ إِلاَّ عَلَى مَا لاَ يَطَّلِعُ
عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَحَمْلِهِنَّ وَحَيْضِهِنَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بَحْتًا
حَتَّى يَكُونَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ هَذَا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ صَحَّ عَنْهُمَا. وَعَنْ سَعِيدِ
(9/396)
ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: لاَ تُقْبَلُ النِّسَاءُ إِلاَّ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ الْحَكَمُ: عَنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ اتَّفَقَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الطَّلاَقِ،، وَلاَ فِي النِّكَاحِ، وَلاَ فِي الدِّمَاءِ، وَلاَ الْحُدُودِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الطَّلاَقِ، وَلاَ فِي النِّكَاحِ، وَلاَ فِي الْحُدُودِ وَأَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ فِي الْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلاَ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ، وَلاَ فِي الطَّلاَقِ، وَلاَ فِي النِّكَاحِ، وَلاَ مَعَ رَجُلٍ، وَلاَ دُونَهُ، وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ فِي جِرَاحِ الْخَطَأِ، وَفِي الْوَصَايَا، وَفِي الدُّيُونِ مَعَ رَجُلٍ، وَفِيمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ: فِي قَتْلٍ، وَلاَ فِي حَدٍّ، وَلاَ فِي طَلاَقٍ، وَلاَ نِكَاحٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ: فِي طَلاَقٍ، وَلاَ فِي نِكَاحٍ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ: فِي حَدٍّ، وَلاَ طَلاَقٍ، وَلاَ نِكَاحٍ، وَلاَ عِتْقٍ وَأَجَازَهَا: فِي الْوَصَايَا فِي الدُّيُونِ، وَفِي الْقَتْلِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الطَّلاَقِ. وَعَنْ رَبِيعَةَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي طَلاَقٍ، وَلاَ نِكَاحٍ، وَلاَ حَدٍّ، وَلاَ عِتْقٍ وَتَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ، وَفِي كُلِّ حَقٍّ يَتَرَاضَوْنَ فِيهِ، وَيَتَعَاطَوْنَ الْمَعْرُوفَ عَلَيْهِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الدِّيَةِ. وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ فِي عَتَاقَةٍ مَعَ رَجُلٍ. وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: قَبُولُ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الطَّلاَقِ، وَجِرَاحِ الْخَطَأِ، وَلَمْ يُجِزْ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي جِرَاحِ عَمْدٍ، وَلاَ فِي حَدٍّ. وَصَحَّ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: قَبُولُ النِّسَاءِ مَعَ رَجُلٍ فِي الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ. وَصَحَّ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: قَبُولُ امْرَأَتَيْنِ فِي الطَّلاَقِ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: لاَ تُقْبَلُ النِّسَاءُ فِي الْحُدُودِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ شُرَيْحًا أَجَازَ شَهَادَةَ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ عَلَى رَجُلٍ فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عَمَّنْ يَرْضَى كَأَنَّهُ يُرِيدُ طَاوُوسًا قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَعَ الرِّجَالِ، إِلاَّ الزِّنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرْنَ إلَى ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ هَارُونَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ أَبِي لَبِيدٍ قَالَ: إنَّ سَكْرَانَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَجَازَ شَهَادَةَ النِّسْوَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ حِرَاشِ بْنِ مَالِكٍ الْجَهْضَمِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ عُمَانَ تَمَلَّأَ مِنْ الشَّرَابِ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا، فَشَهِدَ عَلَيْهِ نِسْوَةٌ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَجَازَ شَهَادَةَ النِّسْوَةِ، وَأَبَتَّ عَلَيْهِ الطَّلاَقَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
(9/397)
حَدَّثَنَا أَبُو طَلْقٍ، عَنْ امْرَأَةٍ: أَنَّ امْرَأَةً وَطِئَتْ صَبِيًّا فَقَتَلَتْهُ، فَشَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَأَجَازَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ شَهَادَتَهُنَّ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي طَلْقٍ، عَنْ أُخْتِهِ هِنْدَ بِنْتِ طَلْقٍ قَالَتْ: كُنْت فِي نِسْوَةٍ وَصَبِيٌّ مُسَجًّى، فَقَامَتْ امْرَأَةٌ فَمَرَّتْ فَوَطِئَتْهُ، فَقَالَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ: قَتَلْتِهِ وَاَللَّهِ، فَشَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَنَا عَاشِرَتُهُنَّ فَقَضَى عَلِيٌّ عَلَيْهَا بِالدِّيَةِ وَأَعَانَهَا بِأَلْفَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَجَازَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ: فِي الطَّلاَقِ، وَالنِّكَاحِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاء فِي النِّكَاحِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: لَوْ شَهِدَ عِنْدِي ثَمَانِي نِسْوَةٍ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى لَرَجَمْتهَا.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَجُوزُ عَلَى الزِّنَى امْرَأَتَانِ وَثَلاَثَةُ رِجَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلاً ادَّعَى مَتَاعَ الْبَيْتِ، فَجَاءَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ فَقُلْنَ: دَفَعْنَا إلَيْهِ الصَّدَاقَ وَقُلْنَا: جَهِّزْهَا فَقَضَى شُرَيْحٌ عَلَيْهِ بِالْمَتَاعِ وَقَالَ لَهُ: إنَّ عُقْرَهَا مِنْ مَالِكَ هَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ: فَإِنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ قَالَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: تُقْبَلُ الْمَرْأَتَانِ مَعَ رَجُلٍ فِي الْقِصَاصِ، وَفِي الطَّلاَقِ، وَالنِّكَاحِ، وَكُلِّ شَيْءٍ حَاشَ الْحُدُودَ وَيُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَسُفْيَانَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُقْبَلْنَ مَعَ رَجُلٍ فِي الطَّلاَقِ، وَالنِّكَاحِ، وَكُلِّ شَيْءٍ حَاشَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصَ وَيُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ، وَلاَ يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاء مَعَ رَجُلٍ فِي الْحُدُودِ، وَتُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا فِي الْوِلاَدَةِ: أَنَّهَا وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ، وَيُلْحَقُ نَسَبُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهَا بِذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ، وَمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ، وَلاَ يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ رَجُلاَنِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَلاَ يُقْبَلْنَ مَعَ رَجُلٍ: لاَ فِي قِصَاصٍ، وَلاَ حَدٍّ، وَلاَ طَلاَقٍ، وَلاَ نِكَاحٍ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَرَجُلٍ فِي الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ. وقال أبو حنيفة: تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ، وَرَجُلٍ فِي جَمِيعِ الأَحْكَامِ أَوَّلِهَا، عَنْ آخِرِهَا، حَاشَ الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ وَيُقْبَلْنَ فِي الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ مَعَ رَجُلٍ، وَلاَ يُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ: لاَ فِي الرَّضَاعِ، وَلاَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوِلاَدَةِ، وَلاَ فِي الأَسْتِهْلاَلِ
(9/398)
لَكِنْ مَعَ رَجُلٍ وَيُقْبَلْنَ فِي الْوِلاَدَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَيُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوِلاَدَةِ، وَفِي الأَسْتِهْلاَلِ. وقال مالك: لاَ تُقْبَلُ النِّسَاءُ مَعَ رَجُلٍ، وَلاَ دُونَهُ: فِي قِصَاصٍ، وَلاَ حَدٍّ، وَلاَ طَلاَقٍ، وَلاَ نِكَاحٍ، وَلاَ رَجْعَةٍ، وَلاَ عِتْقٍ، وَلاَ نَسَبٍ، وَلاَ وَلاَءٍ، وَلاَ إحْصَانٍ. وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ مَعَ رَجُلٍ فِي الدُّيُونِ، وَالأَمْوَالِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي لاَ عِتْقَ فِيهَا وَيُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ: فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ، وَالْوِلاَدَةِ، وَالرَّضَاعِ وَالأَسْتِهْلاَلِ وَحَيْثُ يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَيَمِينُ الطَّالِبِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى فِيهِ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ، وَيُقْضَى بِامْرَأَتَيْنِ مَعَ أَيْمَانِ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ. وقال الشافعي: تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ فِي الأَمْوَالِ كُلِّهَا، وَفِي الْعِتْقِ، لأََنَّهُ مَالٌ، وَفِي قَتْلِ الْخَطَأِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لأَِنْسَانٍ بِمَالٍ، وَلاَ يُقْبَلْنَ فِي أَصْلِ الْوَصِيَّةِ لاَ مَعَ رَجُلٍ، وَلاَ دُونَهُ وَيُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لاَ تُقْبَلُ النِّسَاءُ مَعَ رَجُلٍ إِلاَّ فِي الأَمْوَالِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يُقْبَلْنَ مَعَ رَجُلٍ إِلاَّ فِي الأَمْوَالِ خَاصَّةً. وَأَمَّا اخْتِلاَفُهُمْ فِي عَدَدِ مَا يُقْبَلُ مِنْهُنَّ حَيْثُ يُقْبَلْنَ مُنْفَرِدَاتٍ. فَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَكَانَ كُلِّ شَاهِدٍ رَجُلٌ امْرَأَتَانِ فَلاَ يُقْبَلُ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلاَنِ إِلاَّ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ جُمْلَةً، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: تُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لاَ يُقْبَلُ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ إِلاَّ ثَلاَثُ نِسْوَةٍ لاَ أَقَلُّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُقْبَلُ امْرَأَتَانِ فِي كُلِّ مَا يُقْبَلُ فِيهِ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ إِلاَّ فِي الأَسْتِهْلاَلِ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ فِيهِ الْقَابِلَةُ وَحْدَهَا. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ امْرَأَتَانِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُقْبَلُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. رُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا وَرُوِّينَا ذَلِكَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما فِي الأَسْتِهْلاَلِ، وَأَنَّ عُمَرَ وَرَّثَ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ وَرَبِيعَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً كُلُّ ذَلِكَ قَالُوهُ فِي الأَسْتِهْلاَلِ، إِلاَّ الشَّعْبِيُّ، وَحَمَّادًا فَقَالاَ: فِي كُلِّ مَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُقْبَلُ فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ، وَمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ، عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٌّ أَمِيرَيْ الْمُؤْمِنِينَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ وَرُوِيَ، عَنْ رَبِيعَةَ،
(9/399)
وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَأَبِي الزِّنَادِ،
وَالنَّخَعِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وطَاوُوس، وَالشَّعْبِيِّ: الْحُكْمُ فِي الرَّضَاعِ
بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَنَّ عُثْمَانَ فَرَّقَ بِشَهَادَتِهِمَا
بَيْنَ الرِّجَالِ وَنِسَائِهِمْ وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى
ذَلِكَ وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ ذَلِكَ، عَنِ الْقَضَاءِ جُمْلَةً وَرُوِيَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ مَعَ ذَلِكَ. وَصَحَّ عَنْ مُعَاوِيَةَ
أَنَّهُ قَضَى فِي دَارٍ بِشَهَادَةِ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي
الله عنها وَلَمْ يُشْهِدْ بِذَلِكَ غَيْرَهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ،
وَعَلِيٍّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ
يُفَرِّقُوا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الرَّضَاعِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ،
قَالَ: أُفْتِي فِي ذَلِكَ بِالْفُرْقَةِ، وَلاَ أَقْضِي بِهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ
عُمَرَ: ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَمْ تَشَأْ امْرَأَةٌ
أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ إِلاَّ فَعَلَتْ. وَقَالَ
الأَوْزَاعِيِّ: أَقْضِي بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، قَبْلَ النِّكَاحِ،
وَأَمْنَعُ مِنْ النِّكَاحِ، وَلاَ أُفَرِّقُ بِشَهَادَتِهِمَا بَعْدَ النِّكَاحِ.
قال أبو محمد: فَكَانَ مِنْ حُجَّةِ مَنْ لَمْ يَرَ قَبُولَ النِّسَاءِ
مُنْفَرِدَاتٍ، وَلاَ قَبُولَ امْرَأَةٍ مَعَ رَجُلٍ إِلاَّ فِي الدُّيُونِ
الْمُؤَجَّلَةِ فَقَطْ، أَنْ قَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزِّنَى
بِقَبُولِ أَرْبَعَةٍ، وَفِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ بِرَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ بِاثْنَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ،
أَوْ بِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَحْلِفَانِ مَعَ شَهَادَتِهِمَا،
وَفِي الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ بِذَوَيْ عَدْلٍ مِنَّا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: فِي التَّدَاعِي فِي أَرْضٍ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ،
لَيْسَ لَكَ إِلاَّ ذَلِكَ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ
عليه الصلاة والسلام عَدَدَ الشُّهُودِ وَصِفَتَهُمْ إِلاَّ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ
فَقَطْ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا، وَأَنْ لاَ تَتَعَدَّى، وَأَنْ لاَ
يُقْبَلَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ إِلاَّ مَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
قَبُولِهِ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِمَّنْ يُخَالِفُنَا اتَّبَعَ فِي
أَقْوَالِهِ فِي الشَّهَادَاتِ النُّصُوصَ الثَّابِتَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَلاَ
مِنْ السُّنَنِ، وَلاَ مِنْ الإِجْمَاعِ، وَلاَ مِنْ الْقِيَاسِ، وَلاَ مِنْ
الأَحْتِيَاطِ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَكُلُّ أَقْوَالٍ
كَانَتْ هَكَذَا فَهِيَ مُتَخَاذِلَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ بَاطِلٌ، لاَ يَحِلُّ
الْقَوْلُ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا، فِي
دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَفُرُوجِهِمْ، وَأَبْشَارِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ،
وَذَلِكَ أَنَّنَا هَبْكَ أَمْسَكْنَا الآنَ، عَنِ الأَعْتِرَاضِ عَلَى
احْتِجَاجِهِمْ بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنْ لِنُرِيَهُمْ بِحَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ مُخَالَفَتَهُمْ لَهَا جِهَارًا: أَمَّا أَبُو
حَنِيفَةَ: فَأَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ،
وَالرَّجْعَةِ مَعَ رَجُلٍ، وَلَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الآيَاتِ، بَلْ
فِيهَا: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . فَمَنْ
أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ يَرَى خَبَرَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ خِلاَفًا
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ
لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، وَلاَ يَرَى قَوْلَهُ
بِإِجَازَةِ امْرَأَتَيْنِ
(9/400)
مَعَ رَجُلٍ خِلاَفًا لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم} . فَإِنْ قَالُوا: إنَّ امْرَأَةً عَدْلَةً وَرَجُلاً عَدْلاً يَقَعُ عَلَيْهِمَا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنَّا قلنا: وَشَهَادَةُ ثَلاَثَةِ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الزِّنَى يَقَعُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ، وَلاَ فَرْقَ. ثُمَّ قَبِلُوا شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حَيْثُ تُقْبَلُ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ وَلَمْ يَقْبَلُوهَا فِي الرَّضَاعِ حَيْثُ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِقَبُولِهَا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ قلنا: فَقِيسُوا الْحُدُودَ فِي ذَلِكَ وَالْقِصَاصَ عَلَى الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَلاَ فَرْقَ فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا عَلَى أَنْ لاَ يُقْبَلْنَ فِي الْحُدُودِ أَكْذَبَهُمْ عَطَاءٌ. فَإِنْ قَالُوا: خَالَفَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. قلنا: وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ فِي أَنْ لاَ يُقْبَلْنَ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ فِي الرَّضَاعِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا مَالِكٌ: فَقَاسَ بَعْضَ الأَمْوَالِ عَلَى الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهَا الْعِتْقَ وَقَبِلَ امْرَأَتَيْنِ لاَ رَجُلَ مَعَهُمَا مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ فِي الأَمْوَالِ وَالْقَسَامَةِ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِي هَذَا رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ. وَخَالَفَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الأَسْتِهْلاَلِ. وَفِي قَبُولِ امْرَأَتَيْنِ تُقْبَلُ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَقَاسَ الأَمْوَالَ عَلَى الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلَّا قِسْت سَائِرَ الأَحْكَامِ عَلَى ذَلِكَ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَالَ: أَقِيسُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ حُكْمٍ، لأََنَّهُ حُكْمٌ وَحُكْمٌ، وَبَيْنَ قَوْلِك أَقِيسُ عَلَى ذَلِكَ الأَمْوَالَ كُلَّهَا، لأََنَّهُ مَالٌ وَمَالٌ، وَهَلْ هَاهُنَا إِلاَّ التَّحَكُّمُ فَهَذَا خِلاَفُهُمْ لِلنُّصُوصِ، وَلِلْقِيَاسِ، وَلِقَوْلِ السَّلَفِ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَاعَى الإِجْمَاعَ، لأََنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ النِّسَاءُ مُنْفَرِدَاتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَتْلِ أَرْبَعَةٌ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى. وَلَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ قَاسُوا الْقَتْلَ، وَالْقِصَاصَ، وَالْحُدُودَ عَلَى مَا يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلاَنِ فَقَطْ دُونَ أَنْ يَقِيسُوهَا عَلَى الزِّنَى الَّذِي هُوَ أَشْبَهُ بِهَا، لأََنَّهُ حَدٌّ وَحَدٌّ، وَدَمٌ وَدَمٌ أَوْ عَلَى مَا يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، لأََنَّهُ حُكْمٌ وَحُكْمٌ، وَشَهَادَةٌ وَشَهَادَةٌ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ بِيَقِينٍ. فَإِذًا قَدْ سَقَطَتْ الأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فَإِنَّ وَجْهَ الْكَلاَمِ وَالصَّدْعِ بِالْحَقِّ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا عِنْدَ التَّبَايُعِ بِالإِشْهَادِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} . وَأَمَرَنَا إذَا تَدَايَنَّا بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ أَنْ نَكْتُبَهُ، وَأَنْ نُشْهِدَ شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِنَا، أَوْ رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ مَرْضِيَّتَيْنِ. وَأَمَرَنَا عِنْدَ الطَّلاَقِ وَالْمُرَاجَعَةِ بِإِشْهَادِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنَّا. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ ذِكْرُ مَا نَحْكُمُ بِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي ذَلِكَ وَالْخِصَامِ مِنْ عَدَدِ الشُّهُودِ، إذْ قَدْ يَمُوتُ الشَّاهِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ يَنْسَيَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ يَتَغَيَّرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا. فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا أَوْ أَضَلُّ سَبِيلاً مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ جِهَارًا فَقَالَ: إذَا تَبَايَعْتُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْهِدُوا
(9/401)
وَإِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَلاَ تَكْتُبُوهُ إنْ شِئْتُمْ. وَلاَ تُشْهِدُوا عَلَيْهِ أَحَدًا إنْ أَرَدْتُمْ ثُمَّ أَرَادَ التَّمْوِيهَ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَخَالَفَ الآيَةَ فِيمَا فِيهَا وَادَّعَى عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ. فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَكَ إِلاَّ ذَلِكَ" فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ أَوَّلُ مَنْ يَضُمُّ إلَى هَذَا النَّصِّ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَيُجِيزُونَ فِي الأَمْوَالِ كُلِّهَا رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ إِلاَّ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ فَقَطْ، فَقَدْ زَادُوا عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ بِقِيَاسِهِمْ الْفَاسِدِ. وَأَمَّا نَحْنُ: فَطَرِيقُنَا فِي ذَلِكَ غَيْرُ طَرِيقِهِمْ، لَكِنْ نَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ: قَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَالأَعْمَشِ، كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ الأَشْعَثَ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُحَدِّثُهُمْ بِنُزُولِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} فَقَالَ الأَشْعَثُ: فِي نَزَلَتْ، وَفِي رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِي بِئْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ" قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَلْيَحْلِفْ. فَوَجَدْنَاهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ كَلَّفَ الْمُدَّعِيَ مَرَّةً شَاهِدَيْنِ، وَمَرَّةً بَيِّنَةً مُطْلَقَةً، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ كُلَّ مَا قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّهُ بَيِّنَةٌ. وَوَجَدْنَا الشَّاهِدَيْنِ الْعَدْلَيْنِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ بَيِّنَةٍ، فَوَجَبَ قَبُولُهُمَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَاشَ حَيْثُ أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَرْبَعَةً فَقَطْ. وَوَجَدْنَاهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثٍ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قلنا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَطَعَ عليه الصلاة والسلام بِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَوَجَبَ ضَرُورَةً أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ حَيْثُ يُقْبَلُ رَجُلٌ لَوْ شَهِدَ إِلاَّ امْرَأَتَانِ، وَهَكَذَا مَا زَادَ. فإن قيل: فَهَلاَّ قَبِلْتُمْ بِهَذَا الأَسْتِدْلاَلِ رَجُلاً وَاحِدًا، فَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ، عَنْ شُرَيْحٍ، وَمُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ، وَزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، أَوْ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَدْ قَبِلَهَا مُعَاوِيَةُ قلنا: مَنَعَنَا مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، فَلَوْ جَازَ قَبُولُ وَاحِدٍ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَانَتْ الْيَمِينُ فُضُولاً، وَحَاشَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَبُولُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلاَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ فِي الْهِلاَلِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الصِّيَامِ " فَقَطْ وَفِي الرَّضَاعِ. لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ الْبَلْخِيّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، قَالاَ جَمِيعًا: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ
(9/402)
ابْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ
بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَلَكِنِّي
لِحَدِيثِ عُبَيْدٍ أَحْفَظُ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ
سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: إنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً،
فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ إنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا وَهِيَ
كَاذِبَةٌ فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْتُ:
إنَّهَا كَاذِبَةٌ، فَقَالَ: كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا
أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْكَ .
قال أبو محمد: فَنَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْرِيمٌ، وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: ، حَدَّثَنَا
ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ " قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ
إلَى أَهْلِ ثَلاَثَةِ أَبْيَاتٍ تَنَاكَحُوا فَقَالَتْ: هُمْ بَنِيَّ وَبَنَاتِي،
فَفَرَّقَ عُثْمَانُ رضي الله عنه بَيْنَهُمْ. وَرُوِّينَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَنَّهُ قَالَ: فَالنَّاسُ يَأْخُذُونَ الْيَوْمَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عُثْمَانَ
فِي الْمُرْضِعَاتِ إذَا لَمْ يُتَّهَمْنَ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَجُوزُ
شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الرَّضَاعِ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ مِنْ قَوْلِ
الزُّهْرِيِّ مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ أَبِي
بَكْرٍ، وَعُمَرَ: أَنْ لاَ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الطَّلاَقِ، وَلاَ
فِي النِّكَاحِ، وَلاَ فِي الْحُدُودِ: فَبَلِيَّةٌ، لأََنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِنْ
طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَاةَ وَهُوَ هَالِكٌ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ عُمَرَ " لَوْ
فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ لَمْ تَشَأْ امْرَأَةٌ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ رَجُلٍ
وَامْرَأَتِهِ إِلاَّ فَعَلَتْ ذَلِكَ " فَهُوَ، عَنِ الْحَارِثِ
الْغَنَوِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ أَنَّ عُمَرَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا كَلاَمٌ
بَعِيدٌ، عَنْ عُمَرَ قَوْلُ مِثْلِهِ، لأََنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا
وَبَيْنَ أَنْ لاَ يَشَاءَ رَجُلاَنِ قَتْلَ رَجُلٍ وَإِعْطَاءَ مَالِهِ لأَخَرَ،
وَتَفْرِيقَ امْرَأَتِهِ عَنْهُ إِلاَّ قَدَرَا عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ يَشْهَدَا
عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَبِضَرُورَةِ الْعَقْلِ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ لاَ
فَرْقَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ رَجُلٍ، وَبَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَبَيْنَ
امْرَأَتَيْنِ، وَبَيْنَ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، وَبَيْنَ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فِي
جَوَازِ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَالتَّوَاطُؤِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْغَفْلَةُ
وَلَوْ حِينًا إلَى هَذَا، لَكِنَّ النَّفْسَ أَطْيَبُ عَلَى شَهَادَةِ ثَمَانِي
نِسْوَةٍ مِنْهَا عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ
مَعْنَى لَهُ، إنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَلاَ مَزِيدَ. وَأَمَّا
مَنْ احْتَجَّ بِتَخْصِيصِ مَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ الرِّجَالُ
فَبَاطِلٌ، وَمَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ مِنْ النَّظَرِ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ
إِلاَّ كَاَلَّذِي يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ
عِنْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ الضَّرُورَةِ، كَنَظَرِهِمْ إلَى عَوْرَةِ
الزَّانِيَيْنِ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ: فَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ.
(9/403)
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
عِيَاضٍ أَخْبَرَنِي ضَمْرَةُ: أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ:
سَمِعْت أَبِي يَقُولُ لِلْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَقَضَى بِهَا عَلِيٌّ بَيْنَ
أَظْهُرِكُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَضَى عَلَيْهِ بِدَيْنٍ لأَِنْسَانٍ
أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَأَحْلَفَهُ مَعَ شَاهِدِهِ. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَعَنْ
شُرَيْحٍ. وَرُوِيَ، عَنْ جَمَاعَةٍ: مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةُ،
وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَيَحْيَى
بْنُ مَعْمَرٍ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُمَا لاَ يَقْضِيَانِ بِذَلِكَ إِلاَّ فِي
الأَمْوَالِ. وَجَاءَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ
فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَيَقْضِي بِهِ مَالِكٌ أَيْضًا فِي
الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَلاَ يَقْضِي بِهِ فِي الْعِتْقِ، وَالشَّافِعِيُّ
يَقْضِي بِهِ فِي الْعِتْقِ. وَرُوِّينَا إنْكَارَ الْحَكَمِ بِهِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ: هُوَ بِدْعَةُ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ أَوَّلُ مَنْ قَضَى
بِهِ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ عَطَاءٌ: أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ، وَأَشَارَ إلَى إنْكَارِهِ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ. وَرُوِيَ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الرُّجُوعُ إلَى تَرْكِ الْقَضَاءِ بِهِ،
لأََنَّهُ وَجَدَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى خِلاَفِهِ، وَمَنَعَ مِنْهُ: ابْنُ
شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ.
قال أبو محمد: قَدْ ذَكَرْنَا بُطْلاَنَ التَّعَلُّقِ فِي رَدِّ هَذَا الْحُكْمِ
وَغَيْرِهِ بِالتَّعَلُّقِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ} فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
وَكَذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ وَسَائِرُ
مَا تَعَلَّقُوا بِهِ فِي مَنْعِ الْحُكْمِ بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ أَهْذَارٌ،
وَالْعَجَبُ اعْتِرَاضُهُمْ فِي هَذَا بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوَّلُ مَنْ قَضَى
بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ، وَهُمْ قَدْ أَخَذُوا بِقِيمَةٍ أَحْدَثَهَا مُعَاوِيَةُ
فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلاَ يَصِحُّ فِيهَا أَثَرٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نُمَيْرٍ، قَالاَ جَمِيعًا: ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنِي
قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ : ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ،
حَدَّثَنَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْمُنْقِرِيُّ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالُوا كُلُّهُمْ: ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُصْعَبِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ ابْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ
بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
(9/404)
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى
بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَزَادَنِي الرَّبِيعُ بْنُ
سُلَيْمَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَالَ: أَنَا الشَّافِعِيُّ، عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسُهَيْلِ
بْنِ أَبِي صَالِحٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدِي أَنِّي
حَدَّثْتُهُ إيَّاهُ، وَلاَ أَحْفَظُهُ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَقَدْ كَانَتْ
أَصَابَتْ سُهَيْلاً عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ وَنَسِيَ بَعْضَ
حَدِيثِهِ، فَكَانَ سُهَيْلٌ بَعْدُ يُحَدِّثُهُ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قال أبو محمد: فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ لاَ يَحِلُّ التَّرْكُ لَهَا،
فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِذَلِكَ فِي الدِّمَاءِ وَالْقِصَاصِ، وَالنِّكَاحِ،
وَالطَّلاَقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالأَمْوَالِ، حَاشَا الْحُدُودَ، لأََنَّ ذَلِكَ
عُمُومُ الأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ
مَنْعٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْحُدُودُ: فَلاَ طَالِبَ لَهَا إِلاَّ اللَّهُ
تَعَالَى، وَلاَ حَقَّ لِلْمَقْذُوفِ فِي إثْبَاتِهَا، وَلاَ فِي إسْقَاطِهَا،
وَلاَ فِي طَلَبِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَالْمَزْنِيُّ
بِامْرَأَتِهِ أَوْ حَرِيمَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَلَيْسَ
لِذَلِكَ كُلِّهِ طَالِبٌ بِلاَ يَمِينٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وقال الشافعي: إنَّ
فِي بَعْضِ الآثَارِ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِذَلِكَ فِي
الأَمْوَالِ وَهَذَا لاَ يُوجَدُ أَبَدًا فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ الثَّابِتَةِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْعَجَبُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ
يَقُولُونَ دَهْرَهُمْ كُلَّهُ: الْمُرْسَلُ، وَالْمُسْنَدُ: سَوَاءٌ، فِي كُلِّ
بَلِيَّةٍ يَقُولُونَ بِهَا، ثُمَّ يَرُدُّونَ خَبَرَ جَابِرٍ هَذَا: بِأَنَّ
غَيْرَ الثَّقَفِيِّ أَرْسَلَهُ، وَأَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَغَيْرِهِ، فَاعْجَبُوا لِعَدَمِ الْحَيَاءِ وَرِقَّةِ
الدِّينِ. وَعَجَبٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقْضُونَ بِالنُّكُولِ فِي
الدِّمَاءِ، وَالأَمْوَالِ، فَيُعْطُونَ الْمُدَّعِيَ بِلاَ شَاهِدٍ، وَلاَ
يَمِينٍ، لَكِنْ بِدَعْوَاهُ الْمُجَرَّدَةِ وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ
نَصْرَانِيًّا بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ، وَيَرُدُّونَ الْحُكْمَ بِالْيَمِينِ
وَالشَّاهِدِ، وَيَقْضُونَ بِالْعَظَائِمِ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ دُونَ
يَمِينِ الطَّالِبِ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ، وَاخْتِيَارِهِمْ الْمُهْلِكِ،
وَيُنْكِرُونَ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ،
وَبِشَهَادَةِ رَجُلٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ، وَيُنْكِرُونَ الْحُكْمَ
بِشَهَادَةِ مُسْلِمٍ ثِقَةٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ، وَهُمْ يَقْضُونَ
بِشَهَادَةِ يَهُودِيَّيْنِ، أَوْ نَصْرَانِيَّيْنِ حَيْثُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ
نَصُّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَيُضَعِّفُونَ سَيْفَ بْنَ سُلَيْمَانَ
وَهُوَ ثِقَةٌ. وَهُمْ آخَذُ النَّاسِ بِرِوَايَةِ كُلِّ كَذَّابٍ، كَجَابِرٍ
الْجُعْفِيِّ، وَغَيْرِهِ، وَيَحْتَجُّونَ بِمَغِيبِ ذَلِكَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ
وَقَدْ غَابَ عَنْهُمَا حُكْمُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَزَكَاةِ الْبَقَرِ، أَوْ
عَلِمَاهُ وَرَأَيَاهُ مَنْسُوخًا، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا هُنَالِكَ إلَى
قَوْلِهِمَا، وَقَلَّدُوهُمَا هَاهُنَا، وَهَذَا كَمَا تَرَوْنَ وَنَسْأَلُ
اللَّهَ الْعَاقِبَةَ وَرَأَى مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: أَنْ لاَ يُقْضَى
بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ، إِلاَّ فِي الأَمْوَالِ. قَالَ مَالِكٌ: وَفِي
الْقَسَامَةِ وَهَذَا لاَ مَعْنَى لَهُ، لأََنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْخَبَرِ بِلاَ
دَلِيلٍ.
(9/405)
ولا يجوز ان يقبل كافر أصلا لا على الكافر ولا على المسلم
...
1787 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ كَافِرٌ أَصْلاً، لاَ عَلَى
كَافِرٍ، وَلاَ عَلَى مُسْلِمٍ
(9/405)
حَاشَ الْوَصِيَّةَ فِي السَّفَرِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ مُسْلِمَانِ، أَوْ كَافِرَانِ مِنْ أَيِّ دِينٍ كَانَا أَوْ كَافِرٌ وَكَافِرَتَانِ، أَوْ أَرْبَعُ كَوَافِرَ. وَيُحَلَّفُ الْكُفَّارُ هَاهُنَا مَعَ شَهَادَتِهِمْ، وَلاَ بُدَّ بَعْدَ الصَّلاَةِ أَيِّ صَلاَةٍ كَانَتْ وَلَوْ أَنَّهَا الْعَصْرُ لَكَانَ أَحَبَّ إلَيْنَا بِاَللَّهِ إنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنْ الآثِمِينَ ثُمَّ يُحْكَمُ بِمَا شَهِدُوا بِهِ، فَإِنْ جَاءَتْ بَيِّنَةٌ مُسْلِمُونَ: بِأَنَّ الْكُفَّارَ كَذَبُوا: حَلَفَ الْمُسْلِمَانِ الشَّاهِدَانِ، أَوْ الْمُسْلِمُ وَالْمَرْأَتَانِ، أَوْ الأَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ ثُمَّ يُفْسَخُ مَا شَهِدَ بِهِ الْكُفَّارُ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَالْكَافِرُ فَاسِقٌ فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} الآيَةَ فَوَجَبَ أَخْذُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى كُلِّهِ، وَأَنْ يَسْتَثْنِيَ الأَخَصَّ مِنْ الأَعَمِّ، لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى طَاعَةِ الْجَمِيعِ، وَمَنْ تَعَدَّى هَذَا الطَّرِيقَ فَقَدْ خَالَفَ بَعْضَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا لاَ يَحِلُّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ زَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ الآيَةَ، قَالَ: بَرِئَ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرِي، وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بُدَاءٍ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إلَى الشَّامِ، فَأَتَيَا إلَى الشَّامِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى بَنِي سَهْمٍ، وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ هُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ، فَأَوْصَى إلَيْهَا، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفٍ ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهُ أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بُدَاءٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا دَفَعْنَاهُ إلَى أَهْلِهِ، فَسَأَلُوا، عَنِ الْجَامِ.فَقُلْنَا: مَا دَفَعَ إلَيْنَا غَيْرَ هَذَا، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْتُ إلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ: أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَحْلَفَهُ بِمَا يُعْظَمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} الآيَةَ، فَحَلَفَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَنُزِعَتْ الْخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بُدَاءٍ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيِّ، وَعَدِيُّ بْنُ بُدَاءٍ: يَخْتَلِفَانِ إلَى مَكَّةَ لِلتِّجَارَةِ فَخَرَجَ مَعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، فَتُوُفِّيَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَأَوْصَى إلَيْهِمَا، فَدَفَعَا تَرِكَتَهُ إلَى أَهْلِهِ وَحَبَسَا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ، مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَفَقَدَهُ أَوْلِيَاؤُهُ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كَتَمْنَا، وَلاَ اطَّلَعْنَا، ثُمَّ عُرِفَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا:
(9/406)
اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ، وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا بِاَللَّهِ إنَّ هَذَا لَجَامُ السَّهْمِيِّ، ولَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ فَأَخَذَا الْجَامَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وَبِقَوْلِنَا يَقُولُ جَهْوَرُ السَّلَفِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها: أَنَّ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا حَلاَلاً فَحَلِّلُوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا حَرَامًا فَحَرِّمُوهُ، وَهَذِهِ الآيَةُ فِي الْمَائِدَةِ فَبَطَلَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَصَحَّ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: هَذَا لِمَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عَدْلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} فَهَذَا لِمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُشْهِدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ اُرْتِيبَ بِشَهَادَتِهِمَا اُسْتُحْلِفَا بَعْدَ الصَّلاَةِ بِاَللَّهِ لاَ نَشْتَرِي بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا قَلِيلاً فَإِذَا اطَّلَعَ الأَوَّلِيَّانِ عَلَى الْكَافِرَيْنِ كَذِبًا حَلَفَا: بِاَللَّهِ إنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلٌ، وَإِنَّا لَمْ نَغْدِرْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: فِي قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَزِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالاَ جَمِيعًا: ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ " بِدَقُوقَا " فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَتَيَا أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ فَأَخْبَرَاهُ وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ " بِاَللَّهِ مَا خَانَا، وَلاَ كَذَبَا، وَلاَ بَدَّلاَ، وَلاَ كَتَمَا، وَلاَ غَيَّبَا، وَأَنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ " فَأَمْضَى أَبُو مُوسَى شَهَادَتَهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ هُوَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ قَالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ شَيْءٌ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ فِي وَصِيَّةٍ، وَلاَ تَجُوزُ فِي وَصِيَّةٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ،
(9/407)
عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، إِلاَّ فِي السَّفَرِ، وَلاَ تَجُوزُ فِي
السَّفَرِ إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الطَّحَّانُ، عَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ:
إذَا مَاتَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِ غُرْبَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا فَأَشْهَدَ
مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ شَاهِدَيْنِ، فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، فَإِنْ
جَاءَ مُسْلِمَانِ فَشَهِدَا بِخِلاَفِ ذَلِكَ أُخِذَ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمَيْنِ
وَتُرِكَتْ شَهَادَتُهُمَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا
الْمُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: إذَا كَانَ
بِأَرْضِ الشِّرْكِ فَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمَا
يُحَلَّفَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَإِنْ اُطُّلِعَ بَعْدَ حَلِفِهِمَا عَلَى
أَنَّهُمَا خَانَا حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ أَنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا
وَاسْتَحَقُّوا.
وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ: ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ
الْمُقَدَّمِيُّ، عَنِ الأَشْعَثِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ
أَيْضًا، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ
أَهْلِ الْمِلَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ
خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي
مِجْلَزٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ:
مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ،
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْد، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ فِي قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ
الْمِلَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ الطَّحَاوِيَّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ،
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، وَعُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ
الْحَجَّاجُ: ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلاَلٍ الرَّاسِبِيُّ، وَقَالَ عُثْمَانُ: ،
حَدَّثَنَا عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ فِي قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قَالَ: مِنْ غَيْرِ
الْمُسْلِمِينَ. فَهَؤُلاَءِ: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَبُو مُوسَى
الأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ أَيْضًا نَحْوُ ذَلِكَ، عَنْ عَلِيٍّ،
رضي الله عنهم، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،. وَمِنْ
التَّابِعِينَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ، وَشُرَيْحٌ، وَعَبِيدَةُ
السَّلْمَانِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَابْنُ
سِيرِينَ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَغَيْرُهُمْ، كَابْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبِي
عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.وَبِهِ
يَقُولُ أَبُو سُلَيْمَانَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا، وَخَالَفَهُمْ
(9/408)
آخَرُونَ فَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ
قَالَ، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ. وَرُوِيَ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوُ هَذَا، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ،
وَأَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ وَرُوِيَ أَيْضًا: عَنْ عِكْرِمَةَ. وَرُوِّينَا،
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَيْضًا
مِثْلُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: أَمَّا دَعْوَى النَّسْخِ فَبَاطِلٌ، لاَ يَحِلُّ أَنْ يُقَالَ فِي
آيَةٍ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لاَ تَحِلُّ طَاعَتُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا إِلاَّ
بِنَصٍّ صَحِيحٍ، أَوْ ضَرُورَةٍ مَانِعَةٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ مِثْلُ هَذَا لَمَا عَجَزَ أَحَدٌ، عَنْ أَنْ يَدَّعِيَ
فِيمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَهَذَا لاَ يَحِلُّ. وَأَمَّا
مَنْ قَالَ: مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ فَقَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ،
وَالْبُطْلاَنِ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ خِطَابٌ لِقَبِيلَةٍ دُونَ
قَبِيلَةٍ إنَّمَا أَوَّلُهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وَلاَ يَشُكُّ
مُنْصِفٌ فِي أَنَّ غَيْرَ الَّذِينَ آمَنُوا هُمْ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا،
وَلَكِنَّهَا مِنْ الْحَسَنِ زَلَّةُ عَالِمٍ لَمْ يَتَدَبَّرْهَا. وَقَالَ
الْمُخَالِفُونَ: نَحْنُ نُهِينَا، عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ،
وَالْكَافِرُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ. فَقُلْنَا: الَّذِي نَهَانَا، عَنْ قَبُولِ
شَهَادَةِ الْفَاسِقِ هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ فِي
الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَنَقِفُ عِنْدَ أَمْرَيْهِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا
بِأَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِنْ الآخَرِ. وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا الَّتِي لاَ
نَظِيرَ لَهَا: أَنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا هُمْ الْحَنَفِيُّونَ،
وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ. فأما الْحَنَفِيُّونَ: فَأَجَازُوا
شَهَادَةَ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِغَيْرِ أَمْرٍ
مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، بَلْ خَالَفُوا الْقُرْآنَ فِي نَهْيِهِ، عَنْ
قَبُولِ نَبَأِ الْفَاسِقِ ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي قَبُولِ الْكُفَّارِ فِي
السَّفَرِ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْفَضَائِحِ، وَالْمُضَادَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ: فَأَجَازُوا شَهَادَةَ طَبِيبَيْنِ كَافِرَيْنِ حَيْثُ
لاَ يُوجَدُ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ،
بَلْ خَالَفُوا الْقُرْآنَ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وقال بعضهم:
الْوَصِيَّةُ يَكُونُ فِيهَا إقْرَارٌ بِدَيْنٍ فَلَمَّا نُسِخَ ذَلِكَ مِنْ
الآيَةِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ سَائِرِ ذَلِكَ. فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ مَا سَمَّى
اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ الإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ وَصِيَّةً، لأََنَّ الْوَصِيَّةَ
مِنْ الثُّلُثِ، وَالإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا دَخَلَ
قَطُّ الإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلاَ نُسِخَ مِنْ الآيَةِ
شَيْءٌ ثُمَّ لَهُمْ بَعْدَ هَذَا أَهْذَارٌ يُشْبِهُ تَخْلِيطَ الْمُبَرْسَمِينَ
لاَ مَعْنَى لَهَا، وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ
وَالصَّحَابَةِ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ
ذَلِكَ إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ. وَذَكَرُوا خَبَرًا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ الْيَمَامِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إِلاَّ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ
فَإِنَّهَا تَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ" . قال أبو محمد: عُمَرُ بْنُ رَاشِدٍ
سَاقِطٌ، وَهَذَا خَبَرُ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لأََنَّهُ
يُجِيزُ شَهَادَةَ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَمَالِكٌ، فَإِنَّهُ
يُجِيزُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ الأَطِبَّاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ نَدْرِي
مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ هَذَا التَّخْصِيصُ لِلأَطِبَّاءِ دُونَ سَائِرِ مَنْ
يُضْطَرُّ إلَيْهِ
(9/409)
مِنْ الشَّهَادَاتِ مِنْ النِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ،
وَالدِّمَاءِ [ وَالْحُدُودِ ] وَالأَمْوَالِ، وَالْعِتْقِ وَمَا نَعْلَمُ هَذَا
التَّفْرِيقَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَطَائِفَةٌ: مَنَعَتْ مِنْ
ذَلِكَ جُمْلَةً وَهُوَ قَوْلُنَا. وَطَائِفَةٌ أَجَازَتْهَا عَلَى الْكُفَّارِ،
وَلَمْ يُرَاعُوا اخْتِلاَفَ مِلَلِهِمْ. وَطَائِفَةٌ أَجَازَتْ شَهَادَةَ كُلِّ
مِلَّةٍ عَلَى مِثْلِهَا وَلَمْ تُجِزْهَا عَلَى غَيْرِ مِثْلِهَا. فأما قَوْلُنَا
فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ
الثَّانِي: فَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ نَصْرَانِيٍّ عَلَى مَجُوسِيٍّ،
أَوْ مَجُوسِيٍّ عَلَى نَصْرَانِيٍّ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ
النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَالْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ هُمْ
كُلُّهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ. وَصَحَّ أَيْضًا هَذَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
وَشُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
الصَّائِغِ قَالَ: سَأَلْت نَافِعًا هُوَ مَوْلَى بْنِ عُمَرَ، عَنْ شَهَادَةِ
أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: تَجُوزُ. وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ، عَنْ شَهَادَةِ
أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: تَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَوَكِيعٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ،
وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَالثَّالِثُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: تَجُوزُ
شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى
النَّصْرَانِيِّ، وَالْيَهُودِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ
صَالِحٍ أَنَّهُ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: لاَ تَجُوزُ
شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَلاَ شَهَادَةُ الْيَهُودِيِّ
عَلَى النَّصْرَانِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلاَهُمَا قَالَ: تَجُوزُ
شَهَادَةُ الْيَهُودِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَلاَ تَجُوزُ عَلَى
النَّصْرَانِيِّ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ، وَلاَ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ،
عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إذَا اخْتَلَفَتْ الْمِلَلُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ
بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
إدْرِيسَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ، وَلاَ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْمَجُوسِيِّ،
وَلاَ مِلَّةٍ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِهَا إِلاَّ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ دَاوُد، عَنِ الشَّعْبِيِّ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إِلاَّ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ مَعْمَرٍ،
(9/410)
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ أَشْعَثَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ إِلاَّ عَلَى أَهْلِ
مِلَّتِهَا: الْيَهُودِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ عَلَى
النَّصْرَانِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ:
لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إِلاَّ الْمُسْلِمِينَ قَالَ
وَكِيعٌ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ
حَيٍّ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَرُوِيَ كِلاَ الْقَوْلَيْنِ كَمَا أَوْرَدْنَا، عَنْ حَمَّادِ
بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ،
وَرُوِيَ الْقَوْلُ الأَوَّلُ: عَنْ نَافِعٍ. وَرُوِيَ الثَّانِي: عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَرَبِيعَةَ الرَّأْيِ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ.
قال أبو محمد: وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ عَلِيٍّ أَصْلاً، لأََنَّهُ، عَنِ ابْنِ
لَهِيعَةَ، ثُمَّ هُوَ أَيْضًا مُنْقَطِعٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَلَمْ يُرْوَ لاَ صَحِيحًا، وَلاَ
سَقِيمًا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ خِلاَفٌ لِكُلِّ مَا جَاءَ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عَنِ الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا مَالِكٌ: فَخَالَفَ شُيُوخَهُ
الْمَدَنِيِّينَ: أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَنَافِعًا،
وَالزُّهْرِيَّ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيَّ وَهُمْ
يُعَظِّمُونَ هَذَا إذَا وَافَقَ رَأْيَ صَاحِبِهِمْ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ
قَبُولَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
الطَّحَاوِيَّ: ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ
الرَّازِيّ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ فِي
حَدِيثِ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا لِلْيَهُودِ: ائْتُونِي
بِالشُّهُودِ فَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَرَجَمَهُمَا
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: مُجَالِدٌ هَالِكٌ، رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ شِئْت أَنْ يَجْعَلَهَا لِي مُجَالِدٌ كُلَّهَا،
عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ لَفَعَلَ. وَعَنْ
شُعْبَةَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأُدَمِّرُ عَلَى مُجَالِدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ: إنَّ مُجَالِدًا يَزِيدُ فِي الإِسْنَادِ. وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ:
مُجَالِدٌ لاَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ
وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الآيَةِ وَقَالُوا ظَاهِرُهَا جَوَازُهَا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ نُسِخَتْ، عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، فَبَقِيَتْ عَلَى الْكُفَّارِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَجْلِيحٌ مِنْهُمْ بِالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
جِهَارًا مِرَارًا. إحْدَاهَا دَعْوَى النَّسْخِ بِلاَ برهان. وَالثَّانِيَةُ
قَوْلُهُمْ: إنَّ ظَاهِرَهَا جَوَازُ شَهَادَتِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ
فِي الآيَةِ إِلاَّ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ حِينَ الْوَصِيَّةِ فَقَطْ، ثُمَّ
تَحْلِيفُهُمَا، ثُمَّ تَحْلِيفُ الْمُسْلِمَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ بِخِلاَفِ
شَهَادَتِهِمَا، فَمَا رَأَيْت أَقَلَّ حَيَاءً مِمَّنْ قَالَ مَا ذَكَرْنَا
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ وَالأَسْتِخْفَافِ بِالْكَذِبِ عَلَى
الْقُرْآنِ. وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُمْ: نُسِخَتْ، عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَبَقِيَتْ
عَلَى
(9/411)
الْكُفَّارِ وَهَذَا بَاطِلٌ لأََنَّ الدِّينَ كُلَّهُ وَاحِدٌ عَلَيْنَا وَعَلَى الْكُفَّارِ، وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ لَهُمْ، إِلاَّ بِحُكْمِ الإِسْلاَمِ لَنَا وَعَلَيْنَا، إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/412)
1788 - مَسْأَلَةٌ: وَشَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالأَمَةِ مَقْبُولَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِسَيِّدِهِمَا وَلِغَيْرِهِ كَشَهَادَةِ الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَصَحَّ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَضَى فِي الصَّغِيرِ يَشْهَدُ بَعْدَ كِبَرِهِ، وَالنَّصْرَانِيِّ بَعْدَ إسْلاَمِهِ، وَالْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ: أَنَّهَا جَائِزَةٌ إنْ لَمْ تَكُنْ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَطَاءٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَرُوِّينَا ذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْكَرْمَانِيُّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُكَاتَبِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالاَ جَمِيعًا: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قَالَ: مِنْ الأَحْرَارِ قَالَ وَكِيعٌ: وَلاَ يُجِيزُ سُفْيَانُ شَهَادَةَ عَبْدٍ وَهُوَ قَوْلُ وَكِيعٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَوَكِيعٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ عِيسَى: عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي عَوَانَةَ، قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شُرَيْحٍ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ: عَنْ أَشْعَثَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحُمْرَانِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالُوا كُلُّهُمْ: فِي الْعَبْدِ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ فَتُرَدُّ ثُمَّ يُعْتَقُ فَيَشْهَدُ بِهَا: أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ، إِلاَّ الْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ فَإِنَّهُمَا قَالاَ: إنَّهَا تَجُوزُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ إسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: لاَ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُكَاتَبِ، وَلاَ يَرِثُ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: إذَا شَهِدَ الْعَبْدُ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أُعْتِقَ فَشَهِدَ بِهَا لَمْ تُقْبَلْ وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنْ فُقَهَاءِ
(9/412)
الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
الزِّنَادِ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ
أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ
ابْنِ شُبْرُمَةَ. وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ شَهَادَةَ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ
الأَحْوَالِ، وَرَدَّتْهَا فِي بَعْضٍ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ
بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُلَيْمَانُ
بْنُ حَرْبٍ، وَإِبْرَاهِيمُ الْهَرَوِيُّ، قَالَ عَلِيٌّ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ شُرَيْحٍ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ: عَنْ أَبِي
عَوَانَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ:
عَنْ هِشَامٍ أَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: إنَّهُمْ ثَلاَثَتَهُمْ كَانُوا
يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَازِنِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَتَجُوزُ لِغَيْرِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ
الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي الْعَبْدِ يُعْتَقُ بَعْضُهُ أَنَّ شَهَادَتَهُ
جَائِزَةٌ. وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ شَهَادَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَالْحُرِّ: كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ
النَّخَعِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ شُرَيْحٌ: لاَ
تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَكِنَّا نُجِيزُهَا، فَكَانَ
شُرَيْحٌ بَعْدَ ذَلِكَ يُجِيزُهَا إِلاَّ لِسَيِّدِهِ. وبه إلى ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ
قَالَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، عَنْ شَهَادَةِ الْعَبْدِ فَقَالَ:
جَائِزَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ قَالَ: شَهِدْت شُرَيْحًا شَهِدَ عِنْدَهُ عَبْدٌ عَلَى
دَارٍ فَأَجَازَ شَهَادَتَهُ فَقِيلَ: إنَّهُ عَبْدٌ فَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّنَا
عَبِيدٌ وَإِمَاءٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بِشَهَادَةِ الْمَمْلُوكِ بَأْسًا إذَا كَانَ عَدْلاً
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي،
حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ،
وَالْمَرْأَةِ جَائِزَةٌ فِي النِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ. كَتَبَ إلَيَّ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ قَالَ: ،
حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَاتِبُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ الْمُغَلِّسِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: سُئِلَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ شَهَادَةِ
الْعَبْدِ قَالَ: أَنَا أَرُدُّ شَهَادَةَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَلَى
الإِنْكَارِ لِرَدِّهَا.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ،
وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي
سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ شُبْرُمَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ فَهُوَ
عَلَى الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ لاَ لَهُمْ،
لأََنَّهُمْ خَالَفُوهُمَا فِي الصَّبِيِّ يَشْهَدُ فَيُرَدُّ، ثُمَّ يَبْلُغُ فَيَشْهَدُ.
فَقَالُوا: يُقْبَلُ. وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ قَوْلِ عُمَرَ
وَعُثْمَانَ حُجَّةً، وَبَعْضُهُ غَيْرَ حَجَّةٍ، وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّينِ
مِمَّنْ سَلَكَ هَذَا
(9/413)
الطَّرِيقَ وَهُوَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ يَصِحُّ،
لأََنَّهُ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلاَّ ابْنَ
عُمَرَ، وَقَدْ صَحَّ خِلاَفُهُ، عَنْ أَنَسٍ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالآثَارِ،
وَبَقِيَ الأَحْتِجَاجُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ: شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ مِنْ الأَحْرَارِ، فَبَاطِلٌ وَزَلَّةُ عَالِمٍ، وَتَخْصِيصٌ
لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى بِلاَ برهان، وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي
حِسٍّ سَلِيمٍ: أَنَّ الْعَبِيدَ رِجَالٌ مِنْ رِجَالِنَا، وَأَنَّ الإِمَاءَ
نِسَاءٌ مِنْ نِسَائِنَا، قَالَ تَعَالَى نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَدَخَلَ فِي
ذَلِكَ بِلاَ خِلاَفٍ الْحَرَائِرُ وَالإِمَاءُ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ،
وَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الآيَةِ الَّذِينَ آمَنُوا:
وَالْعَبِيدُ، بِلاَ خِلاَفٍ مِنْهُمْ، فَهُمْ فِي جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ
بِالْمُدَايَنَةِ، وَالإِشْهَادِ وَالشَّهَادَةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى:عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
قال أبو محمد: تَحْرِيفُ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ مَوَاضِعِهِ مُهْلِكٌ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى إنَّ كُلَّ عَبْدٍ فَهُوَ لاَ
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، إنَّمَا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ بِعَبْدٍ مِنْ
عِبَادِهِ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ
الأَحْرَارِ، وَمَنْ نَسَبَ غَيْرَ هَذَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ كَذَبَ
عَلَيْهِ جِهَارًا، وَأَتَى بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لاَ يَقُولُ إِلاَّ حَقًّا، وَبِالْمُشَاهَدَةِ نَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ الْعَبِيدِ
أَقْدَرَ عَلَى الأَشْيَاءِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الأَحْرَارِ. وَنَقُولُ لَهُمْ:
هَلْ يَلْزَمُ الْعَبِيدَ الصَّلاَةُ، وَالصِّيَامُ، وَالطَّهَارَةُ، وَيُحَرَّمُ
عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالْفُرُوجِ، كُلُّ مَا يُحَرَّمُ
عَلَى الأَحْرَارِ، فَمَنْ قَوْلُهُمْ: نَعَمْ، فَقَدْ أَكَذَبُوا أَنْفُسَهُمْ،
وَشَهِدُوا بِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ وَتَمْوِيهُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ. وَقَالُوا: {وَلاَ يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} . قَالُوا: وَالْعَبْدُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ
الشَّهَادَةِ، لأََنَّهُ مُكَلَّفٌ خِدْمَةَ سَيِّدِهِ..
فَقُلْنَا: كَذَبَ مَنْ قَالَ هَذَا، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ
الشَّهَادَةِ كَمَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلاَةِ، وَعَلَى النُّهُوضِ إلَى مَنْ
يَتَعَلَّمُ مِنْهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّينِ. وَلَوْ سَقَطَ، عَنِ الْعَبْدِ
الْقِيَامُ بِالشَّهَادَةِ لِشُغْلِهِ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ لَسَقَطَ أَيْضًا،
عَنِ الْحُرَّةِ ذَاتِ الزَّوْجِ لِشُغْلِهَا بِمُلاَزَمَةِ زَوْجِهَا. وقال
بعضهم: الْعَبْدُ سِلْعَةٌ وَكَيْفَ تَشْهَدُ سِلْعَةٌ. فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا
تَشْهَدُ السِّلْعَةُ، كَمَا يَلْزَمُ السِّلْعَةَ الصَّلاَةُ، وَالصِّيَامُ،
وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
مُتَعَلَّقًا، لاَ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ
سَقِيمَةٍ، وَلاَ نَظَرٍ، وَلاَ مَعْقُولٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، إِلاَّ بِتَخَالِيطَ
فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَأَهْذَارٍ بَارِدَةٍ وَقَدْ تَقَصَّيْنَا هَذَا فِي
" كِتَابِ الإِيصَالِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ نَصٍّ فِي قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ
الشَّهَادَاتِ فَكُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ قَوْلِنَا، إذْ لَوْ أَرَادَ
اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه الصلاة والسلام تَخْصِيصَ عَبْدٍ مِنْ حُرٍّ
فِي ذَلِكَ لَكَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا قَالَ
تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ
(9/414)
رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. فَلَمْ يَخْتَلِفْ مُسْلِمَانِ قَطُّ فِي أَنَّ هَذَا خَيْرٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبِيدُ وَالإِمَاءُ كَدُخُولِ الأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ، وَحَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ لاَ يَرْضَى عَمَّنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ، فَإِذْ قَدْ رَضِيَ اللَّهُ، عَنِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْعَامِلِ بِالصَّالِحَاتِ، فَفُرِضَ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَى عَنْهُ، وَإِذْ فُرِضَ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَى عَنْهُ، فَفُرِضَ عَلَيْنَا قَبُولُ شَهَادَتِهِ. وَأَمَّا مَنْ رَدَّهَا لِسَيِّدِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: قَدْ يُجْبِرُهُ سَيِّدُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَهُ. قلنا: لَوْ كَانَ هَذَا مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ لَكَانَ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِلإِمَامِ إذَا شَهِدَ لَهُ، لأََنَّ الإِمَامَ أَقْدَرُ عَلَى رَعِيَّتِهِ مِنْ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، لأََنَّ الْعَبْدَ تُعْدِيهِ جَمِيعُ الْحُكَّامِ عَلَى سَيِّدِهِ إذَا تَظَلَّمَ مِنْهُ وَيَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَذَاهُ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الإِمَامِ وَالرَّجُلِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ مُخَالِفِينَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/415)
1789 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ عَدْلٍ فَهُوَ مَقْبُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَعَلَيْهِ، كَالأَبِ وَالأُُمِّ لأَبْنَيْهِمَا، وَلأََبِيهِمَا وَالأَبْنِ وَالأَبْنَةِ لِلأَبَوَيْنِ وَالأَجْدَادِ، وَالْجَدَّاتِ، وَالْجَدِّ، وَالْجَدَّةِ لِبَنِي بَنِيهِمَا، وَالزَّوْجِ لأَمْرَأَتِهِ، وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، كَالأَبَاعِدِ، وَلاَ فَرْقَ. وَكَذَلِكَ الصَّدِيقُ الْمُلاَطِفُ لِصَدِيقِهِ، وَالأَجِيرُ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَالْمَكْفُولُ لِكَافِلِهِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لأََجِيرِهِ، وَالْكَافِلُ لِمَكْفُولِهِ، وَالْوَصِيُّ لِيَتِيمِهِ. وَفِيمَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ الأَبُ لأَبْنِهِ، وَلاَ الأَبْنُ لأََبِيهِ، وَلاَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ. وَصَحَّ هَذَا كُلُّهُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعَنِ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا فِي الأَبِ، وَالأَبْنِ. وَرُوِيَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ: قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ يُقْبَلُ لأََبِيهِ، وَلاَ يُقْبَلُ الأَبُ لأَبْنِهِ، لأََنَّهُ يَأْخُذُ مَالَهُ مَتَى شَاءَ، وَأَنَّ الزَّوْجَ يُقْبَلُ لأَمْرَأَتِهِ، وَلاَ تُقْبَلُ هِيَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَلَمْ يُجِزْ الأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الأَبَ لِلأَبْنِ، وَلاَ الأَبْنَ لِلأَبِ. وَأَجَازُوا الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ لأََوْلاَدِ بَنِيهِمَا، وَأَوْلاَدَ بَنِيهِمَا لَهُمَا. وَلَمْ يُجِزْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلاَءِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ. وَأَمَّا مَنْ رُوِيَ عَنْهُ إجَازَةُ كُلِّ ذَلِكَ: فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَالأَخِ لأََخِيهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِثْلُ هَذَا. وَرُوِيَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه شَهِدَ لِفَاطِمَةَ رضي الله عنها عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَمَعَهُ أُمُّ أَيْمَنَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ شَهِدَ مَعَك رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ أُخْرَى لَقَضَيْت لَهَا بِذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمْ يَكُنْ
(9/415)
يَتَّهِمُ سَلَفُ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحُ
شَهَادَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلاَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلاَ الأَخِ
لأََخِيهِ، وَلاَ الزَّوْجِ لأَمْرَأَتِهِ ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَظَهَرَتْ مِنْهُمْ أُمُورٌ حَمَلَتْ الْوُلاَةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ، فَتُرِكَتْ
شَهَادَةُ مَنْ يُتَّهَمُ إذَا كَانَتْ مِنْ قَرَابَةٍ وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ
الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ، وَالأَخِ، وَالزَّوْجِ، وَالْمَرْأَةِ، لَمْ يُتَّهَمْ
إِلاَّ هَؤُلاَءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ،
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَازِبٍ، عَنْ جَدِّهِ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ قَالَ:
كُنْت جَالِسًا عِنْدَ شُرَيْحٍ، فَأَتَاهُ عَلِيُّ بْنُ كَاهِلٍ، وَامْرَأَةٌ
وَخَصْمٌ لَهَا، فَشَهِدَ لَهَا عَلِيُّ بْنُ كَاهِلٍ وَهُوَ زَوْجُهَا وَشَهِدَ
لَهَا أَبُوهَا، فَأَجَازَ شُرَيْحٌ شَهَادَتَهُمَا، فَقَالَ الْخَصْمُ: هَذَا
أَبُوهَا، وَهَذَا زَوْجُهَا. فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: هَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا
تُجَرِّحُ بِهِ شَهَادَتَهُمَا كُلُّ مُسْلِمٍ شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ شَبِيبِ
بْنِ غَرْقَدَةَ قَالَ: سَمِعْت شُرَيْحًا: أَجَازَ لأَمْرَأَةٍ شَهَادَةَ
أَبِيهَا وَزَوْجِهَا فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّهُ أَبُوهَا وَزَوْجُهَا. فَقَالَ
شُرَيْحٌ: فَمَنْ يَشْهَدُ لِلْمَرْأَةِ إِلاَّ أَبُوهَا وَزَوْجُهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ،
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: شَهِدْت لأَُمِّي عِنْدَ أَبِي
بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَضَى بِشَهَادَتِي. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَجَازَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَهَادَةَ
الأَبْنِ لأََبِيهِ إذَا كَانَ عَدْلاً. فَهَؤُلاَءِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،
وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَشُرَيْحٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو
بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. وَبِهَذَا يَقُولُ إيَاسُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو
ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا. وَرَأَى
الشَّافِعِيُّ: وَأَصْحَابُهُ: قَبُولَ شَهَادَةِ الزَّوْجَيْنِ: كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لِلآخَرِ وَرَأَى الأَوْزَاعِيِّ: أَنْ لاَ يُقْبَلُ الأَخُ لأََخِيهِ.
وَذَكَرَ ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ، عَنِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْوُلاَةِ الَّذِينَ
رَدُّوا الأَبَ لأَبْنِهِ وَالأَبْنَ لأََبِيهِ، وَأَحَدَ الزَّوْجَيْنِ
لِصَاحِبِهِ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: الأَخَ لأََخِيهِ.
وَأَجَازَ مَالِكٌ لأََخِيهِ إِلاَّ فِي النَّسَبِ خَاصَّةً. وَرَدَّ مَالِكٌ
شَهَادَةَ الصَّدِيقِ الْمُلاَطِفِ لِصِدِّيقِهِ
قال أبو محمد: احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ لَنَا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَزِيدَ الْجَزَرِيِّ،
قَالَ: أَحْسَبُهُ يَزِيدَ بْنَ سِنَانٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ،
وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ ظَنِينٍ فِي وَلاَءٍ أَوْ قَرَابَةٍ، وَلاَ مَجْلُودٍ فِي
حَدٍّ .
قال أبو محمد: وَهَذَا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ لاَ
يَصِحُّ لأََنَّهُ، عَنْ يَزِيدَ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَإِنْ كَانَ يَزِيدُ بْنُ
سِنَانٍ فَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا أَوَّلَ
مُخَالِفٍ لَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ الأَخِ
وَالأَبِ، وَبَيْنَ الْعَمِّ وَابْنِ الأَخِ، وَبَيْنَ الأَبِ وَالأَبْنِ
وَكُلُّهُمْ سَوَاءٌ إذْ هُمْ مُتَقَارِبُونَ فِي التُّهْمَةِ بِالْقَرَابَةِ.
وَكُلُّهُمْ يُجِيزُ الْمَوْلَى لِمَوْلاَهُ وَهَذَا خِلاَفُ الْخَبَرِ.
(9/416)
وَكُلُّهُمْ يُجِيزُ الْمَجْلُودَ فِي الْحَدِّ إذَا
تَابَ وَهُوَ خِلاَفُ هَذَا الْخَبَرِ فَمَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً، أَوْ أَفْسَدُ
دَلِيلاً مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ
لَهُ. وَذَكَرُوا: مَا رُوِّينَاهُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
حُمَيْدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ
شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلاَءٍ، أَوْ فِي قَرَابَةٍ، وَالْقَوْلُ فِي
هَذَا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ، عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ
قَدْ خَالَفُوهُ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءً وَالأَثْبَتُ، عَنْ عُمَرَ: قَبُولُ
الأَبِ لأَبْنِهِ. وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا: احْتِجَاجُهُمْ فِي هَذَا
بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ
وَمَالُكَ لأََبِيكَ . وَمِنْ أَمْرِهِ هِنْدًا بِأَخْذِ قُوتِهَا مِنْ مَالِ
زَوْجِهَا. وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَهَذَا عَجَبٌ
جِدًّا. وَأَمَّا نَحْنُ فَنُصَحِّحُهُمَا، وَنَقُولُ: لَيْسَ فِيهِمَا مَنْعٌ
مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الأَبْنِ لأََبَوَيْهِ، وَلاَ مِنْ قَبُولِ الأَبَوَيْنِ
لَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ وَمَالُهُ لَهُمَا فَكَانَ مَاذَا وَنَحْنُ كُلُّنَا
لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمْوَالُنَا وَقَدْ أَمَرَنَا بِأَنْ نَشْهَدَ لَهُ عَزَّ
وَجَلَّ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ} وَكُلُّ ذِي حَقٍّ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِمَّنْ هُوَ لَهُ
عِنْدَهُ مَتَى قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ أَجْنَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ أَجْنَبِيٍّ
وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعَانَ عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَقَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ مُنْكَرٍ فَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ
أَقَرَّ الْمُنْكَرَ وَالْبَاطِلَ وَالْحَرَامَ وَلَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ، وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ: احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ فِي هَذَا بِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى:أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لأََنَّ مِنْ الشُّكْرِ
لَهُمَا بَعْدَ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَشْهَدَ لَهُمَا بِالْحَقِّ،
وَلَيْسَ مِنْ الشُّكْرِ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَ لَهُمَا بِالْبَاطِلِ. وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
فَقَدْ سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ
الإِحْسَانِ إلَيْهِمْ، فَيَلْزَمُ مَنْ اتَّهَمَهُ لِذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ،
وَفِي بَعْضِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَمَا مَلَكَتْ
يَمِينُهُ: أَنْ يَتَّهِمَهُ فِي سَائِرِهِمْ، فَلاَ يَقْبَلُ شَهَادَةَ
أَحَدِهِمْ لِقَرِيبٍ جُمْلَةً، وَلاَ لِجَارٍ، وَلاَ لأَبْنِ سَبِيلٍ، وَلاَ
لِيَتِيمٍ، وَلاَ لِمِسْكِينٍ، وَإِلَّا فَقَدْ تَلَوَّثُوا فِي التَّخْلِيطِ
بِالْبَاطِلِ مَا شَاءُوا، فَلَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهمْ إِلاَّ التُّهْمَةُ،
وَالتُّهْمَةُ لاَ تَحِلُّ. وَبِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَنَّ مَنْ حَمَلَتْهُ
قَرَابَةُ أَبَوَيْهِ وَبَنِيهِ وَامْرَأَتِهِ عَلَى أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ
بِالْبَاطِلِ فَمَضْمُونٌ مَنْعُهُ قَطْعًا أَنْ يَشْهَدَ لِمَنْ يَرْشُوهُ مِنْ
الأَبَاعِدِ لاَ فَرْقَ. وَلَيْسَ لِلتُّهْمَةِ فِي الإِسْلاَمِ مَدْخَلٌ وَنَحْنُ
نَسْأَلُهُمْ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: لَوْ
ادَّعَيَا عَلَى يَهُودِيٍّ بِدِرْهَمٍ بِحَقٍّ، أَتَقْضُونَ لَهُمَا
بِدَعْوَاهُمَا فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، خَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ عليه الصلاة
والسلام وَإِجْمَاعَ الأُُمَّةِ الْمُتَيَقَّنَ وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ. وَإِنْ
قَالُوا: لاَ، قلنا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ مَا عَلَى أَدِيمِ الأَرْضِ
مَنْ
(9/417)
يَقُولُ: إنَّهُ مُسْلِمٌ يَتَّهِمُ أَبَا ذَرٍّ،
وَأُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا يَدَّعِيَانِ الْبَاطِلَ فِي
الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا، فَكَيْفَ فِي دِرْهَمٍ عَلَى يَهُودِيٍّ ثُمَّ
نَسْأَلُهُمْ أَتُبَرِّئُونَ الْيَهُودِيَّ الْكَذَّابَ الْمَشْهُورَ بِالْفِسْقِ
بِيَمِينِهِ مِنْ دَعْوَاهُمَا فَمَنْ قَوْلُهُمْ: نَعَمْ، قلنا لَهُمْ: وَهَلْ
مَقَرُّ التُّهْمَةِ، وَالظِّنَّةِ، إِلاَّ فِي الْكُفَّارِ الْمُتَيَقَّنِ
كَذِبُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ: مِنْ إعْطَاءِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: الْمُدَّعِيَ
الْمَالَ الْعَظِيمَ بِدَعْوَاهُ وَيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ أَشْهَرُ فِي
الْكَذِبِ وَالْمُجُونِ مِنْ حَاتِمٍ فِي الْجُودِ، إذَا أَبَى الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ مِنْ الْيَمِينِ، وَإِعْطَاءِ أَبِي حَنِيفَةَ إيَّاهُ ذَلِكَ
بِدَعْوَاهُ الْمُجَرَّدَةِ بِلاَ بَيِّنَةٍ، وَلاَ يَمِينٍ، وَلاَ يَتَّهِمُونَهُ
بِرَأْيِهِمْ: لاَ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ، ثُمَّ يَتَّهِمُونَ النَّاسِكَ
الْفَاضِلَ الْبَرَّ التَّقِيَّ فِي شَهَادَتِهِ لأَبْنِهِ، أَوْ لأَمْرَأَتِهِ
أَوْ لأََبِيهِ بِدِرْهَمٍ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ
الْمَذَاهِبِ الَّتِي لاَ شَيْءَ أَفْسَدُ مِنْهَا.
قال أبو محمد: وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ
مُخَالِفٌ، وَقَدْ خَالَفُوهُ هَاهُنَا، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ
مُخَالِفٌ. ثُمَّ قَدْ حَكَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ الصَّدْرُ
الأَوَّلُ فِي قَبُولِ الأَبِ لأَبْنِهِ وَالزَّوْجَيْنِ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ،
وَالْقَرَابَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ حَتَّى دَخَلَتْ فِي النَّاسِ الدَّاخِلَةُ
وَهَذَا إخْبَارٌ، عَنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَكَيْفَ
اسْتَجَازُوا خِلاَفَهُمْ لِظَنٍّ فَاسِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. ثُمَّ لَيْتَ
شِعْرِي: مَا الَّذِي حَدَثَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ، وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ شَرُّ
خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْكُفَّارُ، وَالزُّنَاةُ، وَالسُّرَّاقُ،
وَالْكَذَّابُونَ، فَمَا نَدْرِي مَا الَّذِي حَدَثَ، وَحَاشَ لِلَّهِ تَعَالَى
أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ بِغَيْرِ الشَّرِيعَةِ. وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ أَحَدٌ
مِمَّنْ ذَكَرْنَا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ لَبَيَّنَهُ وَمَا أَغْفَلَهُ فَظَهَرَ
فَسَادُ قَوْلِ مُخَالِفِينَا بِيَقِينٍ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ. وأعجب شَيْءٍ
أَنَّهُمْ أَجَازُوا الأَخَ لأََخِيهِ وَالزُّهْرِيُّ يَحْكِي، عَنِ
الْمُتَأَخِّرِينَ اتِّهَامَهُمْ لَهُ، فَقَدْ خَالَفُوا مَنْ تَقَدَّمَ وَمَنْ
تَأَخَّرَ، وَكَفَى بِهَذَا شُنْعَةً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/418)
ومن شهد على عدوه نظر فان كان تخريجه عداوته له الى
ما لا يحل
...
1790 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ شَهِدَ عَلَى عَدُوِّهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ
تُخْرِجُهُ عَدَاوَتُهُ لَهُ إلَى مَا لاَ يَحِلُّ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِيهِ تَرُدُّ
شَهَادَتَهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ لاَ تُخْرِجُهُ
عَدَاوَتُهُ إلَى مَا لاَ يَحِلُّ فَهُوَ عَدْلٌ يُقْبَلُ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ
أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا. وقال أبو حنيفة: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
الأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ فِي شَيْءٍ أَصْلاً وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ.
وقال مالك كَذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ،
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِهِ فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ.
وقال الشافعي: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ فِيمَا
اسْتَأْجَرَهُ فِيهِ خَاصَّةً، وَتَجُوزُ لَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: فِي الْوَكِيلِ
سَوَاءً سَوَاءً.
(9/418)
وقال مالك: إنْ كَانَ مُنْضَافًا إلَيْهِ لَمْ
يُقْبَلْ لَهُ، وَلَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ. وقال أبو
حنيفة، وَمَالِكٌ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْخَصْمِ، لاَ لِلَّذِي وَكَّلَهُ،
وَلاَ لِلَّذِي وُكِّلَ عَلَى أَنْ يُخَاصِمَهُ. وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ:
تَجُوزُ شَهَادَةُ الْفُقَرَاءِ وَالسُّؤَّالِ وقال مالك: لاَ تَجُوزُ إِلاَّ فِي
الشَّيْءِ الْيَسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ
فَقِيرٍ وَأَشَارَ شَرِيكٌ إلَى ذَلِكَ.
قال أبو محمد: كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا فِي هَؤُلاَءِ مَقْبُولُونَ لِكُلِّ مَنْ
ذَكَرْنَا، كَالأَجْنَبِيَّيْنِ، وَلاَ فَرْقَ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِمَا
رُوِّينَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ
شَهَادَةُ ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الظِّنَّةِ، وَلاَ
الإِحْنَةِ، وَلاَ شَهَادَةُ خَصْمٍ، وَلاَ ظَنِينٍ، وَلاَ الْقَانِعِ مِنْ أَهْلِ
الْبَيْتِ لَهُمْ. وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ: لاَ تَجُوزُ عَلَيْك شَهَادَةُ
الْخَصْمِ، وَلاَ الشَّرِيكِ، وَلاَ الأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ. وَرُوِيَ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ وَلَمْ يَصِحَّ لاَ أُجِيزُ شَهَادَةَ وَصِيٍّ، وَلاَ وَلِيٍّ،
لأََنَّهُمَا خَصْمَانِ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَتَجُوزُ لَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَعَنْ شُرَيْحٍ مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الإِسْلاَمِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ
خَصْمٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَمْعَانَ وَهُوَ كَذَّابٌ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ
يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْقَانِعِ
قال أبو محمد: الْقَانِعُ السَّائِلُ، وَصَحَّ عَنْ رَبِيعَةَ: تُرَدُّ شَهَادَةُ
الْخَصْمِ، وَالظَّنِينِ فِي خَلاَئِقِهِ، وَشَكْلِهِ، وَمُخَالَفَتِهِ الْعُدُولَ
فِي سِيرَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوقَفْ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَتُرَدُّ
شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ: تُرَدُّ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ. هَذَا كُلُّ مَا
يُذْكَرُ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ سَلَفَ.
قال أبو محمد: أَمَّا الآثَارُ فِي ذَلِكَ فَكُلُّهَا بَاطِلٌ، لأََنَّ بَعْضَهَا
مَرْوِيٌّ مُنْقَطِعٌ، وَمِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنَ رَاشِدٍ وَلَيْسَ
بِالْقَوِيِّ. أَوْ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى
الأَسْلَمِيِّ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ وَصَفَهُ بِذَلِكَ مَالِكٌ،
وَغَيْرُهُ. أَوْ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ
وَهِيَ صَحِيفَةٌ. أَوْ مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَرُّوخَ.
أَوْ مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
طَلْحَةَ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُمَا فِي النَّاسِ. أَوْ مُرْسَلاَنِ: مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَمْعَانَ،
وَقَدْ كَذَّبَهُمَا مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ. أَوْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الْجَزَرِيِّ
وَهُوَ مَجْهُولٌ فَإِنْ كَانَ ابْنُ سِنَانٍ فَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ. أَوْ
مُرْسَلٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَكُلُّ
هَذَا لاَ يَحِلُّ الأَحْتِجَاجُ بِهِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مُخَالِفَةً
لَهُمْ، لأََنَّ فِيهَا أَنْ لاَ تَجُوزَ شَهَادَةُ ذِي الْغِمْرِ عَلَى أَخِيهِ
مُطْلَقًا عَامًّا وَهُوَ قَوْلُنَا وَهُمْ يَمْنَعُونَهَا مِنْ الْقَبُولِ عَلَى
عَدُوِّهِ فَقَطْ، وَيُجِيزُونَهَا عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا خِلاَفٌ لِتِلْكَ
الآثَارِ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الْخَصْمِ: فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ
الْمُخَاصِمَ لاَ تُقْبَلُ دَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ بِلاَ شَكٍّ. فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِتِلْكَ الآثَارِ لَوْ صَحَّتْ،
(9/419)
فَكَيْفَ وَهِيَ لاَ تَصِحُّ. ثُمَّ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فَأَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَدْلِ عَلَى أَعْدَائِنَا. فَصَحَّ أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ لَهُمَا، أَوْ شَهِدَ وَهُوَ عَدْلٌ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ لَهُمَا، فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ وَحُكْمُهُ نَافِذٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ مَالِكًا إلَى الْقَوْلِ بِرَدِّ شَهَادَةِ الصَّدِيقِ الْمُلاَطِفِ. وَأَمَّا مَنْ رَدَّ شَهَادَةَ الْفَقِيرِ فَعَظِيمَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} فَمَنْ رَدَّ شَهَادَةَ هَؤُلاَءِ لَخَاسِرٌ، وَإِنَّ مَنْ خَصَّهُمْ دُونَ سَائِرِ الْفُقَرَاءِ لَمُتَنَاقِضٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ سَلَفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَصْلاً. وَأَطْرَفُ شَيْءٍ قَوْلُ رَبِيعَةَ: تُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ خَالَفَ الْعُدُولَ فِي سِيرَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوقَفْ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ: فَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا، لاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَطْلَقَهُ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(9/420)
ولا تقبل شهادة من لم يبلغ من الصيان لا ذكورهم ...
...
1791 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ
الصِّبْيَانِ، لاَ ذُكُورِهِمْ، وَلاَ إنَاثِهِمْ، وَلاَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ،
وَلاَ عَلَى غَيْرِهِمْ، لاَ فِي نَفْسٍ، وَلاَ جِرَاحَةٍ، وَلاَ فِي مَالٍ، وَلاَ
يَحِلُّ الْحُكْمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لاَ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمْ، وَلاَ بَعْدَ
افْتِرَاقِهِمْ وَفِي هَذَا خِلاَفٌ كَثِيرٌ: فَصَحَّ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
أَنَّهُ قَالَ: إذَا جِيءَ بِهِمْ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَأَخَذَ الْقُضَاةُ بِقَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ شَهَادَتَهُمْ فِي خَاصٍّ مِنْ الأَمْرِ، لاَ فِي كُلِّ
شَيْءٍ:
كَمَا رُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ: شَهَادَةُ الصَّبِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ جَائِزَةٌ، وَشَهَادَةُ
الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ جَائِزَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ عَلَى الصِّبْيَانِ جَائِزَةٌ، مَا لَمْ يَدْخُلُوا
الْبُيُوتَ فَيُعَلَّمُوا وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ هَذَا أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ
أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّ سِتَّةَ غِلْمَانٍ
ذَهَبُوا يَسْبَحُونَ، فَغَرِقَ أَحَدُهُمْ، فَشَهِدَ ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ
أَنَّهُمَا غَرَّقَاهُ، وَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ:
فَقَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى الثَّلاَثَةِ خُمُسَيْ الدِّيَةِ،
وَعَلَى الاِثْنَيْنِ ثَلاَثَةَ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ. وَرُوِّينَا أَيْضًا نَحْوَ
هَذَا، عَنْ مَسْرُوقٍ. وَرُوِّينَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
مَسْرُوقٍ: أَنَّ ثَلاَثَةَ غِلْمَانٍ شَهِدُوا عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَشَهِدَ
الأَرْبَعَةُ عَلَى الثَّلاَثَةِ، فَجَعَلَ مَسْرُوقٌ عَلَى الأَرْبَعَةِ
ثَلاَثَةَ أَسْبَاعِ الدِّيَةِ، وَعَلَى الثَّلاَثَةِ أَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ
الدِّيَةِ. وَرُوِّينَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ:
جَوَازَ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ بِقَوْلِهِمْ مَعَ أَيْمَانِ الْمُدَّعِي مَا لَمْ
يَتَفَرَّقُوا، وَأَنَّهُ قَضَى بِمِثْلِ مَا قَضَى بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ فِي دِيَةِ ضِرْسٍ. وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ: السُّنَّةُ أَنْ يُؤْخَذَ
فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ مَعَ
أَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ. وَعَنْ عُمَرَ
(9/420)
ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ
الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ الْمُتَقَارِبَةِ، فَإِذَا
بَلَغَتْ النُّفُوسَ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ مَعَ أَيْمَانِ الطَّالِبِينَ. وَعَنْ
رَبِيعَةَ: جَوَازُ شَهَادَةِ بَعْضِ الصِّبْيَانِ عَلَى بَعْضٍ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقُوا. وَعَنْ شُرَيْحٍ: أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ تُقْبَلُ إذَا
اتَّفَقُوا، وَلاَ تُقْبَلُ إذَا اخْتَلَفُوا، وَأَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ
صِبْيَانٍ فِي مَأْمُومَةٍ. وَعَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ:
قَبُولُ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا. وَعَنْ
عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ عَلَى الصِّبْيَانِ. وَعَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى
بَعْضٍ، وَقَالَ: كَانُوا يُجِيزُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي
لَيْلَى: تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي كُلِّ
شَيْءٍ. وقال مالك: تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ عَلَى الصِّبْيَانِ فَقَطْ،
وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى صَغِيرٍ أَنَّهُ جَرَحَ كَبِيرًا، وَلاَ عَلَى
كَبِيرٍ أَنَّهُ جَرَحَ صَغِيرًا، وَلاَ تَجُوزُ إِلاَّ فِي الْجِرَاحِ خَاصَّةً،
وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الصَّبَايَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً، وَلاَ
تَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَبْدًا، فَإِنْ
اخْتَلَفُوا لَمْ يُلْتَفَتْ شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقُضِيَ عَلَى جَمِيعِهِمْ
بِالدِّيَةِ سَوَاءً.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ فَرْقًا بَيْنَ صَبِيٍّ
وَصَبِيَّةٍ، وَلاَ بَيْنَ عَبْدٍ مِنْهُمْ مِنْ حُرٍّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي شَيْءٍ أَصْلاً، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، عَنْ عُمَرَ،
وَعُثْمَانَ فِي الصَّغِيرِ يَشْهَدُ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ يَبْلُغُ
فَيَشْهَدُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لاَ تُقْبَلُ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ
الصِّبْيَانِ فِي شَيْءٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْغِلْمَانِ
حَتَّى يَكْبَرُوا وَعَنْ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمٍ، وَالنَّخَعِيِّ
مِثْلُ قَوْلِ عَطَاءٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْغِلْمَانِ
عَلَى الْغِلْمَانِ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى
يَبْلُغُوا. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَشُرَيْحٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْبَلاَنِهَا
إذَا ثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغُوا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي غِلْمَانٍ شَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
بِكَسْرِ يَدِ صَبِيٍّ مِنْهُمْ فَقَالَ: لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْغِلْمَانِ
فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ تُقْبَلُ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِذَلِكَ مَرْوَانُ.
قال أبو محمد: وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا يَقُولُ مَكْحُولٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ،
وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: لَمْ نَجِدْ لِمَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ حُجَّةً
أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ
قِيَاسٍ، وَلاَ نَظَرٍ، وَلاَ احْتِيَاطٍ، بَلْ هُوَ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ،
لأََنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى كَبِيرٍ أَوْ لِكَبِيرٍ،
وَبَيْنَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى صَغِيرٍ أَوْ لِصَغِيرٍ. وَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ
الْجِرَاحِ وَغَيْرِهَا، فَلَمْ يُجِزْهَا فِي تَخْرِيقِ ثَوْبٍ يُسَاوِي رُبُعَ
دِرْهَمٍ، وَأَجَازَهَا فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ. وَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّبَايَا
وَالصِّبْيَانِ وَهَذَا كُلُّهُ تَحَكُّمٌ بِالْبَاطِلِ، وَخَطَأٌ لاَ خَفَاءَ
بِهِ،
(9/421)
وَأَقْوَالٌ لاَ يَحِلُّ قَبُولُهَا مِنْ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِنَا هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَلَيْسَ الصِّبْيَانُ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلاَ يَرْضَاهُمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثَةٍ، فَذَكَرَ الصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ" . وَلَيْسَ فِي الْعَجَبِ أَكْثَرُ مِنْ رَدِّ شَهَادَةِ عَبْدٍ فَاضِلٍ، صَالِحٍ عَدْلٍ، رَضِيٍّ وَتُقْبَلُ شَهَادَةِ صَبِيَّيْنِ لاَ عَقْلَ لَهُمَا، وَلاَ دِينَ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/422)
1792- مَسْأَلَةٌ: وَحُكْمُ الْقَاضِي لاَ يُحِلُّ
مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَ قَضَائِهِ، وَلاَ يُحَرِّمُ مَا كَانَ حَلاَلاً قَبْلَ
قَضَائِهِ، إنَّمَا الْقَاضِي مُنَفِّذٌ عَلَى الْمُمْتَنِعِ فَقَطْ لاَ مَزِيَّةَ
لَهُ سِوَى هَذَا. وقال أبو حنيفة: لَوْ أَنَّ امْرَأً رَشَا شَاهِدَيْنِ
فَشَهِدَا لَهُ بِزُورٍ أَنَّ فُلاَنًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فُلاَنَةَ، وَأَعْتَقَ
أَمَتَهُ فُلاَنَةَ وَهُمَا كَاذِبَانِ مُتَعَمِّدَانِ، وَأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ
بَعْدَ الْعِدَّةِ رَضِيَتَا بِفُلاَنٍ زَوْجًا، فَقَضَى الْقَاضِي بِهَذِهِ
الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ وَطْءَ تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ: حَلاَلٌ لِلْفَاسِقِ
الَّذِي شَهِدُوا لَهُ بِالزُّورِ، وَحَرَامٌ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ
بِالْبَاطِلِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ عَلَى فُلاَنٍ أَنَّهُ
أَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ بِرِضَاهَا وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ تَرْضَهُ قَطُّ،
وَلاَ زَوَّجَهَا إيَّاهُ أَبُوهَا فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، فَوَطْؤُهُ لَهَا
حَلاَلٌ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ مُسْلِمًا قَبْلَهُ أَتَى بِهَذِهِ الطَّوَامِّ،
وَنَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْفَرْقُ بَيْنَ
هَذَا وَبَيْنَ مَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَا زُورٍ فِي أُمِّهِ أَنَّهَا
أَجْنَبِيَّةٌ، وَأَنَّهَا قَدْ رَضِيَتْ بِهِ زَوْجًا، أَوْ عَلَى حُرٍّ أَنَّهُ
عَبْدُهُ فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَمَا عُلِمَ مُسْلِمٌ قَطُّ قَبْلَ
أَبِي حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" .
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:
"إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَلَعَلَّ
أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ بِمَا
أَسْمَعُ وَأَظُنُّهُ صَادِقًا فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ
صَاحِبِهِ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ
لِيَدَعْهَا فَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ عليه الصلاة والسلام وَقَضَاؤُهُ لاَ يُحِلُّ
لأََحَدٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَامًا فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي قَضَاءِ أَحَدٍ
بَعْدَهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْخِذْلاَنِ.
(9/422)
1797 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ التَّأَنِّي فِي إنْفَاذِ الْحُكْمِ إذَا ظَهَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا. وقال أبو حنيفة: إذَا طَمِعَ الْقَاضِي أَنْ يَصْطَلِحَ الْخَصْمَانِ فَلاَ
(9/422)
1795 - مَسْأَلَةٌ: وَيُحْكَمُ عَلَى الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ بِحُكْمِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ شَيْءٍ رَضُوا
أَمْ سَخِطُوا، أَتَوْنَا أَوْ لَمْ يَأْتُونَا، وَلاَ يَحِلُّ رَدُّهُمْ إلَى
حُكْمِ دِينِهِمْ، وَلاَ إلَى حُكَّامِهِمْ أَصْلاً. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
قَالَ: سَمِعْت بَجَالَةَ التَّمِيمِيَّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: أَنْ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ
وَسَاحِرَةٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ،
وَانْهَوْهُمْ، عَنِ الزَّمْزَمَةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا
كَانُوا فِينَا فَحَدُّهُمْ كَحَدِّ الْمُسْلِمِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ
إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ فِي الْمَوَارِيثِ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ: يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ
بِمَا فِي كِتَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِنَا. وَرُوِّينَا غَيْرَ هَذَا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ
بْنِ حَرْبٍ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ مُخَارِقِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ كَتَبَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مُسْلِمٍ
زَنَى بِنَصْرَانِيَّةٍ فَكَتَبَ إلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَنْ
يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَتُرَدُّ النَّصْرَانِيَّةُ إلَى أَهْلِ
دِينِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ يَصِحُّ، عَنْ عَلِيٍّ، لأََنَّ فِيهِ سِمَاكَ بْنَ
حَرْبٍ وَهُوَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ وَقَابُوسُ بْنُ الْمُخَارِقِ وَأَبُوهُ
مَجْهُولاَنِ فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِي هَذَا
الْبَابِ غَيْرُ مَا رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ: قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ فَإِذَا حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ
حُكْمِ دِينِهِمْ فَقَدْ أُكْرِهُوا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ.فَقُلْنَا: إنْ كَانَتْ
هَذِهِ الآيَةُ تُوجِبُ أَنْ لاَ يُحْكَمَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ حُكْمِ دِينِهِمْ
فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَهَا فَأَقْرَرْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِخِلاَفِ
الْحَقِّ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، لأََنَّكُمْ تَقْطَعُونَهُمْ فِي السَّرِقَةِ
بِحُكْمِ دِينِنَا، لاَ بِحُكْمِ دِينِهِمْ، وَتَحُدُّونَهُمْ فِي الْقَذْفِ
بِحُكْمِ دِينِنَا لاَ بِحُكْمِ دِينِهِمْ، وَتَمْنَعُونَهُمْ مِنْ إنْفَاذِ
حُكْمِ دِينِهِمْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَتْلِ وَالْخَطَأِ، وَبَيْعِ
الأَحْرَارِ، فَقَدْ تَنَاقَضْتُمْ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا ظُلْمٌ لاَ يُقَرُّونَ
عَلَيْهِ.فَقُلْنَا لَهُمْ: وَكُلُّ مَا خَالَفُوا فِيهِ حُكْمَ الإِسْلاَمِ
فَهُوَ ظُلْمٌ لاَ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ. وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} .فَقُلْنَا: هَذِهِ
مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قوله تعالى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} فَقَالُوا: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ عَلَى ذَلِكَ. قلنا: نَعَمْ، رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نُسِخَتْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ آيَتَانِ:
آيَةُ: الْقَلاَئِدَ وَقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخَيَّرًا
إنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ فَرَدَّهُمْ إلَى
أَحْكَامِهِمْ، فَنَزَلَتْ: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا فِي
كِتَابِنَا.
(9/425)
قال أبو محمد: وَهَذَا مُسْنَدٌ، لأََنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ بِنُزُولِ الآيَةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَالدِّينُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ يَكُونُ الشَّرِيعَةَ، وَيَكُونُ الْحُكْمَ، وَيَكُونُ الْجَزَاءَ، فَالْجَزَاءُ فِي الآخِرَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ إلَيْنَا. وَالشَّرِيعَةُ قَدْ صَحَّ أَنْ نُقِرَّهُمْ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَ إذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ حُكْمَ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ. فَإِنْ قَالُوا: فَاحْكُمُوا عَلَيْهِمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالزَّكَاةِ. قلنا: قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُلْزِمْهُمْ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَخَرَجَ بِنَصِّهِ وَبَقِيَ سَائِرُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ عَلَى حُكْمِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ بُدَّ. وَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام "قَتَلَ يَهُودِيًّا قَوَدًا بِصَبِيَّةٍ مُسْلِمَةٍ وَرَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا " وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى حُكْمِ دِينِهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِآبِدَةٍ مُهْلِكَةٍ، وَهِيَ أَنْ قَالُوا: إنَّمَا أَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} ..فَقُلْنَا: هَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ قَالَهُ، إذْ جَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الْيَهُودِ، تَارِكًا لِتَنْفِيذِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، حَاشَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَهَبْكَ أَنَّهُ كَمَا قُلْتُمْ فَارْجُمُوهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ نَفْسِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ جَوَّرْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الآيَةُ: فَإِنَّمَا هِيَ خَبَرٌ، عَنِ النَّبِيِّينَ السَّالِفِينَ فِيهِمْ، لأََنَّهُمْ لَيْسُوا لَنَا نَبِيِّينَ، إنَّمَا لَنَا نَبِيٌّ وَاحِدٌ فَصَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْنِيٍّ بِهَذِهِ الآيَةِ. ثم نقول لَهُمْ: أَخْبِرُونَا، عَنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ أَحَقٌّ هِيَ إلَى الْيَوْمِ مُحْكَمٌ أَمْ بَاطِلٌ مَنْسُوخٌ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا: فَإِنْ قَالُوا: حَقٌّ مُحْكَمٌ كَفَرُوا جِهَارًا، وَإِنْ قَالُوا بَلْ بَاطِلٌ مَنْسُوخٌ. قلنا: صَدَقْتُمْ، وَأَقْرَرْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ رَدَدْتُمُوهُمْ إلَى الْبَاطِلِ الْمَنْسُوخِ الْحَرَامِ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَلَيْسَ مِنْ الْقِسْطِ تَرْكُهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْكُفْرِ الْمُبَدَّلِ أَوْ بِحُكْمٍ قَدْ أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ حَرَّمَ الْقَوْلَ بِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . وَمِنْ رَدَّهُمْ إلَى حُكْمِ الْكُفْرِ الْمُبَدَّلِ وَالأَمْرِ الْمَنْسُوخِ الْمُحَرَّمِ، فَلَمْ يُعِنْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، بَلْ أَعَانَ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَقَالَ تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَالصَّغَارُ هُوَ جَرْيُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا مَا تُرِكُوا يَحْكُمُونَ بِكُفْرِهِمْ فَمَا أَصْغَرْنَاهُمْ بَلْ هُمْ أَصْغَرُونَا وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
(9/426)
1796 - مَسْأَلَةٌ: وَفُرِضَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْقِصَاصِ، وَالأَمْوَالِ، وَالْفُرُوجِ، وَالْحُدُودِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ وِلاَيَتِهِ أَوْ بَعْدَ وِلاَيَتِهِ، وَأَقْوَى مَا حَكَمَ بِعِلْمِهِ، لأََنَّهُ يَقِينُ الْحَقِّ، ثُمَّ بِالإِقْرَارِ، ثُمَّ بِالْبَيِّنَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: لَوْ رَأَيْت رَجُلاً عَلَى حَدٍّ لَمْ أَدْعُ لَهُ غَيْرِي حَتَّى يَكُونَ مَعِي شَاهِدٌ غَيْرِي،
(9/426)
وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ: أَرَأَيْت لَوْ رَأَيْت رَجُلاً قَتَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ زَنَى قَالَ:
شَهَادَتُك شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: صَدَقْت
وَأَنَّهُ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا، عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ عُمَرَ اُخْتُصِمَ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ يَعْرِفُهُ
فَقَالَ لِلطَّالِبِ: إنْ شِئْت شَهِدْت وَلَمْ أَقْضِ، وَإِنْ شِئْت قَضَيْت
وَلَمْ أَشْهَدْ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ اخْتَصَمَ إلَيْهِ اثْنَانِ
فَأَتَاهُ أَحَدُهُمَا بِشَاهِدٍ، فَقَالَ لِشُرَيْحٍ وَأَنْتَ شَاهِدِي أَيْضًا،
فَقَضَى لَهُ شُرَيْحٌ مَعَ شَاهِدِهِ بِيَمِينِهِ. وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ: لاَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ فِي الزِّنَى. وَصَحَّ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ: لاَ أَكُونُ شَاهِدًا وَقَاضِيًا. وقال مالك، وَابْنُ أَبِي
لَيْلَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لاَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ فِي شَيْءٍ
أَصْلاً. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: يَحْكُمُ الْحَاكِمُ
بِعِلْمِهِ بِالأَعْتِرَافِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي الْحُدُودِ خَاصَّةً.
وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ: يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي
كُلِّ شَيْءٍ مِنْ قِصَاصٍ وَغَيْرِهِ، إِلاَّ فِي الْحُدُودِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَهُ
قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ. وقال أبو حنيفة: لاَ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ قَبْلَ
وِلاَيَتِهِ الْقَضَاءَ أَصْلاً وَأَمَّا مَا عَلِمَهُ بَعْدَ وِلاَيَتِهِ
الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، إِلاَّ فِي الْحُدُودِ
خَاصَّةً. وَقَالَ اللَّيْثُ: لاَ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ
الطَّالِبُ شَاهِدًا وَاحِدًا فِي حُقُوقِ النَّاسِ خَاصَّةً، فَيَحْكُمُ
الْقَاضِي حِينَئِذٍ بِعِلْمِهِ مَعَ ذَلِكَ الشَّاهِدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
حَيٍّ: كُلُّ مَا عَلِمَ قَبْلَ وِلاَيَتِهِ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِعِلْمِهِ،
وَمَا عَلِمَ بَعْدَ وِلاَيَتِهِ حَكَمَ فِيهِ بِعِلْمِهِ بَعْدَ أَنْ
يَسْتَحْلِفَهُ، وَذَلِكَ فِي حُقُوقِ النَّاسِ وَأَمَّا الزِّنَا: فَإِنْ شَهِدَ
بِهِ ثَلاَثَةٌ وَالْقَاضِي يَعْرِفُ صِحَّةَ ذَلِكَ حَكَمَ فِيهِ بِتِلْكَ
الشَّهَادَةِ مَعَ عِلْمِهِ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيِّ: إنْ أَقَامَ الْمَقْذُوفُ
شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلاً وَعَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ حَدَّ الْقَاذِفَ. وقال
الشافعي، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابُهُمْ كَمَا قلنا.
قال أبو محمد: فَنَظَرْنَا فِيمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا عَلِمَ قَبْلَ الْقَضَاءِ
وَمَا عَلِمَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَوَجَدْنَاهُ قَوْلاً لاَ يُؤَيِّدُهُ قُرْآنٌ،
وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ أَحَدٌ قَالَهُ
قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ. ثُمَّ
نَظَرْنَا فِيمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا اُعْتُرِفَ بِهِ فِي مَجْلِسِهِ وَبَيْنَ
غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَلِمَهُ، فَوَجَدْنَاهُ أَيْضًا كَمَا قلنا فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ
قَالَ: إنَّمَا جَلَسَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا صَحَّ عِنْدَهُ. قلنا:
صَدَقْتُمْ، وَقَدْ صَحَّ عِنْدَهُ كُلُّ مَا عَلِمَ قَبْلَ وِلاَيَتِهِ، وَفِي
غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَبَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا
شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ عِنْدَهُ
أَحَدٌ: فَوَجَدْنَاهُ أَيْضًا كَالْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ،
(9/427)
لأََنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ إنَّمَا حَكَمَ
بِعِلْمِهِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُنَا. وَأَمَّا حَاكِمٌ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ
بِثَلاَثَةٍ فِي الزِّنَى، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ. وَأَمَّا شَاهِدٌ حَاكِمٌ مَعًا،
وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ بِتَصْوِيبِ هَذَا الْوَجْهِ خَاصَّةً. ثُمَّ
نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، فَوَجَدْنَاهُ
قَوْلاً لاَ يُعَضِّدُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ
بَاطِلٌ. فَإِنْ ذَكَرُوا "ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ" .
قلنا: هَذَا بَاطِلٌ مَا صَحَّ قَطُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا فِي أَنْ يَحْكُمَ فِي كُلِّ ذَلِكَ
بِالْحَقِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لاَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ
بِعِلْمِهِ فِي شَيْءٍ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ فِي
كُلِّ شَيْءٍ: فَوَجَدْنَا مَنْ مَنَعَ مِنْ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ
يَقُولُ: هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ..فَقُلْنَا: هُمْ مُخَالِفُونَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ،
لأََنَّهُ إنَّمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: إنَّهُ لاَ يُثِيرُهُ حَتَّى
يَكُونَ مَعَهُ شَاهِدٌ آخَرُ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ
شَهَادَتَهُ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا يُوَافِقُ مَنْ رَأَى
أَنْ يَحْكُمَ فِي الزِّنَى بِثَلاَثَةٍ هُوَ رَابِعُهُمْ، وَبِوَاحِدٍ مَعَ
نَفْسِهِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَأَيْضًا فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ
دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَيْضًا فَقَدْ خَالَفُوا أَبَا
بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَأَبَا مُوسَى
الأَشْعَرِيَّ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ فِي الْقِصَاصِ مِنْ اللَّطْمَةِ، وَمِنْ
ضَرْبَةِ السَّوْطِ، وَمِمَّا دُونَ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ عَنْهُمْ أَصَحُّ مِمَّا
رَوَيْتُمْ عَنْهُمْ هَاهُنَا. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ إِلاَّ ذَلِكَ" .
قال أبو محمد: وَهَذَا قَدْ خَالَفَهُ الْمَالِكِيُّونَ الْمُحْتَجُّونَ بِهِ،
فَجَعَلُوا لَهُ الْحُكْمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ مَعَ
نُكُولِ خَصْمِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْكُورًا فِي الْخَبَرِ. وَجَعَلَ لَهُ
الْحَنَفِيُّونَ الْحُكْمَ بِالنُّكُولِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ. وَأَمَرُوهُ
بِالْحُكْمِ بِعِلْمِهِ فِي الأَمْوَالِ الَّتِي فِيهَا جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ.
فَقَدْ خَالَفُوهُ جِهَارًا وَأَقْحَمُوا فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ. فَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ بِرَأْيِهِ. وَأَمَّا
نَحْنُ فَنَقُولُ: إنَّهُ قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،
أَنَّهُ قَالَ: بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ وَمِنْ الْبَيِّنَةِ الَّتِي لاَ
بَيِّنَةَ أَبْيَنُ مِنْهَا صِحَّةُ عِلْمِ الْحَاكِمِ بِصِحَّةِ حَقِّهِ، فَهُوَ
فِي جُمْلَةِ هَذَا الْخَبَرِ. وَاحْتَجُّوا بِالثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: أَنَّ عِيسَى عليه السلام رَأَى رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ
لَهُ عِيسَى: سَرَقْتَ قَالَ: كَلًّا وَاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ،
فَقَالَ عِيسَى عليه السلام: آمَنْتُ بِاَللَّهِ وَكَذَّبْت نَفْسِي فَقَالُوا:
فَعِيسَى عليه السلام لَمْ يَحْكُمْ بِعِلْمِهِ.
قال أبو محمد: لَيْسَ يَلْزَمُنَا شَرْعُ عِيسَى عليه السلام، وَقَدْ يُخَرَّجُ
هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ يَسْرِقُ أَيْ يَأْخُذُ الشَّيْءَ
مُخْتَفِيًا بِأَخْذِهِ، فَلَمَّا قَرَّرَهُ حَلَفَ، وَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا،
لأََنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ مِنْ ظَالِمٍ لَهُ. وَذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
لَرَجَمْتُهَا" وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ عِلْمَ الْحَاكِمِ
أَبْيَنُ بَيِّنَةٍ وَأَعْدَلُهَا وَقَدْ تَقَصَّيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ
(9/428)
فِي " كِتَابِ الإِيصَالِ " وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وبرهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ. وَلَيْسَ مِنْ الْقِسْطِ} أَنْ يَتْرُكَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ لاَ يُغَيِّرُهُ. وَأَنْ يَكُونَ الْفَاسِقُ يُعْلِنُ الْكُفْرَ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ، وَالإِقْرَارَ بِالظُّلْمِ، وَالطَّلاَقِ، ثُمَّ يَكُونُ الْحَاكِمُ يُقِرُّهُ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَيَحْكُمُ لَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، فَيَظْلِمُ أَهْلَ الْمِيرَاثِ حَقَّهُمْ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إنْ عَلِمَ بِجُرْحَةِ الشُّهُودِ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ غَيْرُهُ، أَوْ عَلِمَ كَذِبَ الْمُجَرِّحِينَ لَهُمْ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ فَقَدْ تَنَاقَضُوا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ" وَالْحَاكِمُ إنْ لَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأَى مِنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى تَأْتِيَ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ عَصَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَصَحَّ أَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يُغَيِّرَ كُلَّ مُنْكَرٍ عَلِمَهُ بِيَدِهِ، وَأَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَإِلَّا فَهُوَ ظَالِمٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/429)
1797 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رَجَعَ الشَّاهِدُ، عَنْ
شَهَادَتِهِ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ بِهَا، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا فُسِخَ
مَا حَكَمَ بِهَا فِيهِ، فَلَوْ مَاتَ، أَوْ جُنَّ، أَوْ تَغَيَّرَ بَعْدَ أَنْ
شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِ، أَوْ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ بِهَا نَفَذَتْ
عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَمْ تُرَدَّ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا مَوْتُهُ وَجُنُونُهُ وَتَغَيُّرُهُ فَقَدْ تَمَّتْ
الشَّهَادَةُ صَحِيحَةً، وَلَمْ يُوجِبْ فَسْخَهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا مَا حَدَثَ
بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا رُجُوعُهُ، عَنْ شَهَادَتِهِ: فَلَوْ أَنَّ عَدْلَيْنِ
شَهِدَا بِجُرْحَتِهِ حِينَ شَهِدَ لَوَجَبَ رَدُّ مَا شَهِدَ بِهِ، وَإِقْرَارُهُ
عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ أَوْ الْغَفْلَةِ أَثْبَتُ عَلَيْهِ مِنْ شَهَادَةِ
غَيْرِهِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
(9/429)
واداء الشهادة فرض على كل من عملها الا أن يكون عليه
حرج
...
1798 - مَسْأَلَةٌ: وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَهَا،
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَرَجٌ فِي ذَلِكَ لِبُعْدِ مَشَقَّةٍ، أَوْ
لِتَضْيِيعِ مَالٍ، أَوْ لِضَعْفٍ فِي جِسْمِهِ، فَلْيُعْلِنْهَا فَقَطْ. قَالَ
تَعَالَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا فَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ إذَا
دُعُوا لِلشَّهَادَةِ، أَوْ دُعُوا لأََدَائِهَا. وَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ، فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَائِلاً عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ.
(9/429)
فان يعرف الحاكم الشهود سأل عنهم وأخبر المشهود بمن
شهد
...
1799 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ سَأَلَ عَنْهُمْ،
وَأَخْبَرَ الْمَشْهُودَ بِمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَكَلَّفَ الْمَشْهُودَ لَهُ
أَنْ يُعَرِّفَهُ بِعَدَالَتِهِمْ. وَقَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ: اُطْلُبْ مَا
تَرُدُّ بِهِ شَهَادَتَهُمْ، عَنْ نَفْسِك، فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُمْ
قَضَى بِهِمْ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَإِنْ جُرِّحُوا قَبْلَ
الْحُكْمِ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ جُرِّحُوا عِنْدَهُ بَعْدَ
الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ فَسَخَ مَا حَكَمَ بِهِ بِشَهَادَتِهِمْ، لأََنَّهُ
مُفْتَرَضٌ عَلَيْهِ رَدُّ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَإِنْفَاذُ شَهَادَةِ الْعَدْلِ وَالتَّبَيُّنُ
فِيمَا لاَ يُدْرَى حَتَّى يُدْرَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/429)
وجائزان تلى المرأة الحكم
...
1800 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ تَلِيَ الْمَرْأَةُ الْحُكْمَ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ وَلَّى
الشِّفَاءَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ السُّوقَ. فإن قيل: قَدْ قَالَ
(9/429)
1801 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ يَلِيَ الْعَبْدُ الْقَضَاءَ، لأََنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ، عَنِ الْمُنْكَرِ. وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل} ِ. وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ بِعُمُومِهِ إلَى الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْحُرِّ، وَالْعَبْدِ، وَالدِّينُ كُلُّهُ وَاحِدٌ، إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَالرَّجُلِ، وَبَيْنَ الْحُرِّ، وَالْعَبْدِ فَيُسْتَثْنَى حِينَئِذٍ مِنْ عُمُومِ إجْمَالِ الدِّينِ. وقال مالك، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْعَبْدِ الْقَضَاءَ، وَمَا نَعْلَمُ لأََهْلِ هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ انْتَهَى إلَى الرَّبَذَةِ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَإِذَا عَبْدٌ يَؤُمُّهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، فَذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: "أَوْصَانِي خَلِيلِي يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ" . فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى وِلاَيَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ فِعْلُ عُثْمَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلاَءِ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَطِعْ الإِمَامَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعًا. فَهَذَا عُمَرُ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
(9/430)
وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره
...
1802 - مَسْأَلَةٌ: وَشَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَى جَائِزَةٌ فِي الزِّنَى وَغَيْرِهِ،
وَيَلِي الْقَضَاءَ، وَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَلاَ يَخْلُو أَنْ
يَكُونَ عَدْلاً فَيُقْبَلَ، فَيَكُونَ كَسَائِرِ الْعُدُولِ، أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ
فَلاَ يُقْبَلَ فِي شَيْءٍ أَصْلاً. وَلاَ نَصَّ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ،
وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ، عَنْ نَافِعٍ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وقال مالك، وَاللَّيْثُ:
يُقْبَلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي الزِّنَى وَهَذَا فَرْقٌ لاَ نَعْرِفُهُ،
عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا
آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} وَإِذَا كَانُوا إخْوَانَنَا
فِي الدِّينِ فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا. فإن قيل: قَدْ جَاءَ
"وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلاَثَةِ" ..فَقُلْنَا: هَذَا عَلَيْكُمْ
لأََنَّكُمْ تَقْبَلُونَهُ فِيمَا عَدَا الزِّنَى، وَمَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ
عِنْدَنَا أَنَّهُ فِي إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ لِلآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا،
وَلأََنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَنْ لاَ يُعْرَفُ أَبُوهُ، وَمَنْ لاَ يَعْدِلُهُ
جَمِيعُ أَهْلِ
(9/430)
ومن حد في زنا او قذف أو خمر أو سرقة وصلحت حاله
فشهادته جائزة
...
1807 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ حُدَّ فِي زِنًى، أَوْ قَذْفٍ، أَوْ خَمْرٍ، أَوْ
سَرِقَةٍ، ثُمَّ تَابَ وَصَلَحَتْ حَالُهُ، فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ
شَيْءٍ، وَفِي مِثْلِ مَا حُدَّ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لاَ يَخْلُو
هَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً، فَلاَ يَجُوزُ رَدُّ شَهَادَتِهِ لِغَيْرِهِ،
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ، وَلاَ نَعْلَمُهُ إِلاَّ فِي
الْبَدَوِيِّ عَلَى صَاحِبِ الْقَرْيَةِ فَقَطْ، أَوْ لاَ يَكُونُ عَدْلاً فَلاَ
يُقْبَلُ فِي شَيْءٍ، وَمَا عَدَا هَذَا فَبَاطِلٌ وَتَحَكُّمٌ بِالظَّنِّ
الْكَاذِبِ بِلاَ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ مَعْقُولٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ خَاصَّةً: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا
وَإِنْ تَابَ فِي شَيْءٍ أَصْلاً. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ
حُدَّ فِي خَمْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَصْلاً. فَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ جَاءَ، عَنْ
عُمَرَ فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ الْمَكْذُوبَةِ " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مَجْلُودًا حَدًّا أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ
شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلاَءٍ أَوْ قَرَابَةٍ " وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. وَقَدْ قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَلاَ نَصَّ فِي رَدِّ شَهَادَةِ مَنْ ذَكَرْنَا. فأما
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَخْصِيصِ مَنْ حُدَّ فِي الْقَذْفِ، فَإِنَّنَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: شَهَادَةُ الْقَاذِفِ لاَ تَجُوزُ وَإِنْ تَابَ. وَمِنْ طَرِيقِ
إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ،
حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ سَالِمٍ هُوَ الأَفْطَسُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ:
كَانَ أَبُو بَكْرَةَ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ يُشْهِدُهُ قَالَ لَهُ: أَشْهِدْ
غَيْرِي فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ فَسَّقُونِي. وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمُجَاهِدٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَمَسْرُوقٍ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَعِكْرِمَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّ الْقَاذِفَ لاَ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: الْمَحْدُودُ فِي
الْقَذْفِ لاَ تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَأَصْحَابِهِ، وَسُفْيَانَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنْ تَابَ الْمَحْدُودُ فِي
الْقَذْفِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ: رُوِّينَا ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَتَابَهُمْ يَعْنِي أَبَا
بَكْرَةَ وَاَلَّذِينَ شَهِدُوا مَعَهُ فَتَابَ اثْنَانِ وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ
أَنْ يَتُوبَ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا تُقْبَلُ وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ لاَ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَنَافِعًا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ،
عَلَى قَذْفِهِمْ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ تَابَ
مِنْكُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: شَهِدَ عَلَى
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ َلاَثَةٌ بِالزِّنَى فَجَلَدَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ
لَهُمْ: تُوبُوا تُقْبَلُ شَهَادَتُكُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَاذِفُ إذَا تَابَ فَشَهَادَتُهُ عِنْدَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ تُقْبَلُ. وَصَحَّ
(9/431)
أَيْضًا: عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وطَاوُوس، وَمُجَاهِدٍ،
وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي
ثَابِتٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ،
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانِ بْنِ
يَسَارٍ، وَابْنِ قُسَيْطٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ،
وَشُرَيْحٍ. وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وَابْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَحْمَدَ،
وَإِسْحَاقَ، وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لاَ تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ فِي مِثْلِ مَا حُدَّ فِيهِ، وَلاَ نَعْلَمُ هَذَا الْفَرْقَ، عَنْ
أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلاَ نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِي
قَوْلٍ إِلاَّ شُرَيْحًا وَحْدَهُ، وَخَالَفَ سَائِرَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي
ذَلِكَ شَيْءٌ، لأََنَّهُمْ لَمْ يَخُصُّوا مَحْدُودًا مِنْ غَيْرِ مَحْدُودٍ،
فَقَدْ خَالَفَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَإِنْ
تَابَ: بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ، فِيهِ أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ إذْ قَذَفَ
امْرَأَتَهُ، قَالَتْ الأَنْصَارُ: الآنَ يَضْرِبُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا
خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ، لأََنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقَدْ
شَهِدَ عَلَيْهِ يَحْيَى الْقَطَّانُ: بِأَنَّهُ كَانَ لاَ يَحْفَظُ وَلَمْ
يَرْضَهُ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِذَلِكَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ
لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ إنْ تَابَ لَمْ
تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَنَحْنُ لاَ نُخَالِفُهُمْ فِي أَنَّ الْقَاذِفَ لاَ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَأَيْضًا: فَلَيْسَ مِنْ كَلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم وَلاَ حُجَّةَ إِلاَّ فِي كَلاَمِهِ عليه الصلاة والسلام. وَأَيْضًا فَإِنَّ
ذَلِكَ الْقَوْلَ مِنْهُمْ ظَنٌّ لَمْ يَصِحَّ، فَمَا ضُرِبَ هِلاَلٌ، وَلاَ
سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ. وَذَكَرُوا خَبَرًا فَاسِدًا:
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مَحْدُودًا فِي
قَذْفٍ" .
قال أبو محمد: هَذِهِ صَحِيفَةٌ وَحَجَّاجٌ هَالِكٌ ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ
مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ الأَبَوَيْنِ لأَبْنَيْهِمَا،
وَلاَ الأَبْنَ لأََبَوَيْهِ، وَلاَ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ، وَلاَ
الْعَبْدَ وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِهَذَا الْخَبَرِ. وَأَيْضًا فَقَدْ يُضَافُ
إلَى هَذَا الْخَبَرِ " إِلاَّ إنْ تَابَ " بِنُصُوصٍ أُخَرَ.
وَذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا قَالُوا: فَإِنَّمَا
اسْتَثْنَى تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْفِسْقِ فَقَطْ.
قال أبو محمد: هَذَا تَخْصِيصٌ لِلآيَةِ بِلاَ دَلِيلٍ بَلْ الأَسْتِثْنَاءُ
رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ مِنْ أَجْلِ فِسْقِهِمْ،
وَإِلَى الْفِسْقِ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ بِغَيْرِ نَصٍّ.
(9/432)
قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنْ لاَ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ قَبُولُهَا، إِلاَّ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ فَقَطْ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَضَعِيفَةٌ، وَالأَظْهَرُ عَنْهُ خِلاَفُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ " إنَّ الْمُسْلِمِينَ فَسَّقُونِي " فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَصِحَّ، مَا سَمِعْنَا أَنَّ مُسْلِمًا فَسَّقَ أَبَا بَكْرَةَ، وَلاَ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/433)
1814 - مَسْأَلَةٌ: وَشَهَادَةُ الأَعْمَى
مَقْبُولَةٌ كَالصَّحِيحِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ كَمَا قلنا وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَحَّ ذَلِكَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَشُرَيْحٍ،
وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَحَدِ قَوْلَيْ الْحَسَنِ، وَأَحَدِ
قَوْلَيْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَحَدِ قَوْلَيْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِنَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِيمَا عَرَفَ قَبْلَ
الْعَمَى، وَلاَ تَجُوزُ فِيمَا عَرَفَ بَعْدَ الْعَمَى وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَجُوزُ
شَهَادَتُهُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ: رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، قَالَ: كَانُوا يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الأَعْمَى فِي الشَّيْءِ الْخَفِيفِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ تُقْبَلُ فِي شَيْءٍ أَصْلاً، إِلاَّ فِي الأَنْسَابِ
وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ يَعْرِفُ أَصْحَابُهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ تُقْبَلُ جُمْلَةً رُوِّينَا ذَلِكَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَعَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَعَنِ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ
أَنَّهُمَا كَرِهَا شَهَادَةَ الأَعْمَى. وقال أبو حنيفة: لاَ تُقْبَلُ فِي شَيْءٍ
أَصْلاً، لاَ فِيمَا عَرَفَ قَبْلَ الْعَمَى، وَلاَ فِيمَا عَرَفَ بَعْدَهُ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ أَجَازَهُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ،
فَقَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ لاَ برهان عَلَى صِحَّتِهِ، وَمَا
حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْكَثِيرِ إِلاَّ مَا حَرَّمَ مِنْ الْقَلِيلِ.
وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَطَعَ
بِيَمِينِهِ مَالَ مُسْلِمٍ وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ
النَّارَ" . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ كَثِيرٌ إِلاَّ
بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ، وَهُوَ قَلِيلٌ بِالإِضَافَةِ إلَى
مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ فَهُوَ قَوْلٌ لاَ يُعْقَلُ فَسَقَطَ. وَأَمَّا مَنْ
قَبِلَهُ فِي الأَنْسَابِ فَقَطْ فَقِسْمَةٌ فَاسِدَةٌ، فَإِنَّهُ لاَ يَعْرِفُ
الأَنْسَابَ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ يَعْرِفُ الْمُخَبِّرِينَ بِغَيْرِ ذَلِكَ
وَالْمُشْهِدِينَ لَهُ مِنْهُمْ فَقَطْ فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ لاَ فِيمَا عَرَفَ قَبْلَ الْعَمَى، وَلاَ
بَعْدَهُ، فَقَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ برهان عَلَى صِحَّتِهِ أَصْلاً، وَلاَ فَرْقَ
بَيْنَ مَا عَرَفَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، وَبَيْنَ مَا عَرَفَهُ الصَّحِيحُ
وَتَمَادَتْ صِحَّتُهُ وَبَصَرُهُ. فإن قيل: هُوَ قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قلنا: هَذَا كَذِبٌ، مَا جَاءَ قَطُّ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ
قَالَ: لاَ يُقْبَلُ
(9/433)
فِيمَا عَرَفَ قَبْلَ الْعَمَى وَمَا عُرِفَ هَذَا،
عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ، عَنْ
عَلِيٍّ، لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ
قَوْمِهِ أَوْ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَقَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ خِلاَفُ ذَلِكَ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَهُ
فِيمَا عَلِمَ قَبْلَ الْعَمَى، وَلَمْ يُجِزْهُ فِيمَا عَلِمَ بَعْدَ الْعَمَى،
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
سُئِلَ، عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ: "أَلاَ تَرَى الشَّمْسَ عَلَى مِثْلِهَا
فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ" .
قال أبو محمد: وَهَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ سَنَدُهُ، لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مَسْمُولٍ وَهُوَ هَالِكٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ،
وَقَالُوا: الأَصْوَاتُ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَالأَعْمَى كَمَنْ أُشْهِدَ فِي
ظُلْمَةٍ أَوْ خَلْفَ حَائِطٍ مَا نَعْلَمُ لَهُمْ غَيْرَ هَذَا.
قال أبو محمد: إنْ كَانَتْ الأَصْوَاتُ تَشْتَبِهُ فَالصُّوَرُ أَيْضًا قَدْ تَشْتَبِهُ،
وَمَا يَجُوزُ لِمُبْصِرٍ، وَلاَ أَعْمَى أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ بِمَا يُوقِنُ،
وَلاَ يَشُكُّ فِيهِ. وَمَنْ أُشْهِدَ خَلْفَ حَائِطٍ أَوْ فِي ظُلْمَةٍ
فَأَيْقَنَ بِلاَ شَكٍّ بِمَنْ أَشْهَدَهُ فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ فِي ذَلِكَ.
وَلَوْ لَمْ يَقْطَعْ الأَعْمَى بِصِحَّةِ الْيَقِينِ عَلَى مَنْ يُكَلِّمُهُ
لَمَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ، إذْ لَعَلَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَلاَ
يُعْطِيَ أَحَدًا دَيْنًا عَلَيْهِ، إذْ لَعَلَّهُ غَيْرُهُ، وَلاَ أَنْ يَبِيعَ
مِنْ أَحَدٍ، وَلاَ أَنْ يَشْتَرِيَ. وَقَدْ قَبِلَ النَّاسُ كَلاَمَ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ خَلْفِ الْحِجَابِ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا حَلَّ لَهُ
وَطْءُ امْرَأَتِهِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، كَمَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِي
دُخُولِهَا عَلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا. قلنا: هَذَا بَاطِلٌ،
وَلاَ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُوقِنَ أَنَّهَا الَّتِي تَزَوَّجَ. وَقَدْ
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَعْمَى مِنْ
مُبْصِرٍ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَمَا نَعْلَمُ فِي الضَّلاَلَةِ بَعْدَ
الشِّرْكِ وَالْكَبَائِرِ أَكْبَرَ مِمَّنْ دَانَ اللَّهَ بِرَدِّ شَهَادَةِ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ أُمِّ كُلْثُومٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ
عُمَرَ. وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
(9/434)
1815 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ إنْسَانًا
يُخْبِرُ بِحَقٍّ لِزَيْدٍ عَلَيْهِ إخْبَارًا صَحِيحًا تَامًّا لَمْ يَصِلْهُ
بِمَا يُبْطِلُهُ، أَوْ بِأَنَّهُ قَدْ وَهَبَ أَمْرًا كَذَا لِفُلاَنٍ، أَوْ
أَنَّهُ أَنْكَحَ زَيْدًا، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ، فَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ:
اشْهَدْ بِهَذَا عَلَيَّ أَوْ أَنَا أُشْهِدُك أَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُخَاطِبْهُ أَصْلاً، لَكِنْ خَاطَبَ غَيْرَهُ، أَوْ قَالَ
لَهُ: لاَ تَشْهَدْ عَلَيَّ فَلَسْت أُشْهِدُك كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَفُرِضَ
عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِكُلِّ ذَلِكَ. وَفُرِضَ عَلَى الْحَاكِمِ قَبُولُ تِلْكَ
الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمُ بِهَا، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ،
وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَلاَ قِيَاسٌ بِالْفَرْقِ
بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وقال أبو حنيفة لاَ يَشْهَدُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ:
اشْهَدْ عَلَيْنَا.
قال أبو محمد: وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الشَّاهِدُ لِلْقَاضِي: أَنَا أُخْبِرُك، أَوْ
أَنَا أَقُولُ لَك، أَوْ أَنَا أُعْلِمُك، أَوْ لَمْ يَقُلْ: أَنَا أَشْهَدُ
فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكُلُّ ذَلِكَ شَهَادَةٌ تَامَّةٌ فُرِضَ عَلَى
الْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِهَا،
(9/434)
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ مَعْقُولٌ: بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فإن قيل: إنَّ الْقُرْآنَ، وَالسُّنَّةَ وَرَدَا بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ شَهَادَةً. قلنا: نَعَمْ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ حَتَّى يَقُولَ: أَنَا أَشْهَدُ فَقَدْ جَعَلْنَا مُعْتَمَدَنَا وَجَعَلْتُمْ مُعْتَمَدَكُمْ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ نَبَأٌ، وَكُلَّ نَبَأٍ شَهَادَةٌ وَكِلاَهُمَا خَبَرٌ، وَكِلاَهَا قَوْلٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/435)
1806 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحُكْمُ بِالْقَافَةِ فِي لِحَاقِ الْوَلَدِ وَاجِبٌ فِي الْحَرَائِرِ وَالإِمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ فِي وَلَدِ الأَمَةِ، وَلاَ يُحْكَمُ بِهِ فِي وَلَدِ الْحُرَّةِ وَهَذَا تَقْسِيمٌ بِلاَ برهان. وقال أبو حنيفة: لاَ يُحْكَمُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ. برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِقَوْلِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ إذْ رَأَى أَقْدَامَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَابْنَهُ أُسَامَةَ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَهُوَ عليه الصلاة والسلام لاَ يُسَرُّ بِبَاطِلٍ، وَلاَ يُسَرُّ إِلاَّ بِحَقٍّ مَقْطُوعٍ بِهِ. فَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُخَالِفُ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتَ عَنْهُ وَيُنْكِرُ عِلْمًا صَحِيحًا مَعْرُوفَ الْوَجْهِ، ثُمَّ يَرَى أَنْ يُلْحِقَ الْوَلَدَ بِأَبَوَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبُوهُ، وَبِامْرَأَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أُمُّهُ فَيَأْتِي مِنْ ذَلِكَ بِمَا لاَ يُعْقَلُ، وَلاَ جَاءَ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ. وَالْعَجَبُ مِنْ مَالِكٍ إذْ يَحْتَجُّ بِخَبَرِ مُجَزِّزٍ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ يُخَالِفُهُ، لأََنَّ مُجَزِّزًا إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي ابْنِ حُرَّةٍ لاَ فِي ابْنِ أَمَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/435)
ولا يجوز الاممن ولاه الامام القرشي الواجبة
...
1807 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ إِلاَّ مِمَّنْ وَلَّاهُ الإِمَامُ
الْقُرَشِيُّ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَكُلُّ
مَنْ أَنْفَذَ حَقًّا فَهُوَ نَافِذٌ، وَمَنْ أَنْفَذَ بَاطِلاً فَهُوَ مَرْدُودٌ.
برهان ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ طَاعَةِ الإِمَامِ قَبْلُ فَإِذَا لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ} وَقَالَ تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَهَذَا
عُمُومٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وَقَدْ وَافَقَنَا الْمُخَالِفُونَ عَلَى أَنَّهُ
لَيْسَ كُلُّ مَنْ حَكَمَ فَهُوَ نَافِذٌ حُكْمُهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ
يُنْفِذُوا حُكْمَ أَحَدٍ إِلاَّ مَنْ أَوْجَبَ الْقُرْآنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم نَفَاذَ حُكْمِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/435)
1808 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَرْتِزَاقُ عَلَى الْقَضَاءِ جَائِزٌ لِلثَّابِتِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَتَاهُ مَالٌ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أَوْ إشْرَافِ نَفْسٍ فَلْيَأْخُذْهُ" وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/435)
1809 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ مَتَى شَاءَ، عَنْ غَيْرِ خَرِبَةٍ، قَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، ثُمَّ صَرَفَهُ حِينَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَرْجِعْ
(9/435)
ومن قال له قاض : قد ثنت على هذا الصلب أو القتل أو
القطع أو الجلد ....
...
1810 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ لَهُ قَاضٍ: قَدْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا: الصَّلْبُ،
أَوْ الْقَتْلُ، أَوْ الْقَطْعُ، أَوْ الْجَلْدُ، أَوْ أَخْذُ مَالٍ مِقْدَارُهُ
كَذَا مِنْهُ، فَأَنْفِذْ ذَلِكَ عَلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إنْفَاذُ شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ إنْ كَانَ الآمِرُ لَهُ جَاهِلاً، أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ إِلاَّ حَتَّى
يُوقِنَ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ لَهُ فَيَلْزَمُهُ إنْفَاذُهُ
حِينَئِذٍ وَإِلَّا فَلاَ. وَإِنْ كَانَ الآمِرُ لَهُ عَالِمًا فَاضِلاً لَمْ
يَحِلَّ لَهُ أَيْضًا إنْفَاذُ أَمْرِهِ إِلاَّ حَتَّى يَسْأَلَهُ مِنْ أَيِّ
وَجْهٍ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا
عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ لَزِمَهُ إنْفَاذُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَفِيَ
بِخَبَرِ الْحَاكِمِ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ فِيمَا
رَأَى أَنَّهُ فِيهِ مُخْطِئٌ. وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ إنْفَاذُ
أَمْرِ مَنْ لَيْسَ عَالِمًا فَاضِلاً. فَإِنْ كَانَ الآمِرُ لَهُ عَالِمًا
فَاضِلاً سَأَلَهُ: أَوْجَبَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. فَإِنْ قَالَ:
نَعَمْ لَزِمَهُ إنْفَاذُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلاَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ"، وَلاَ يَحِلُّ
أَخْذُ قَوْلِ أَحَدٍ بِلاَ برهان. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/436)
1811 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا فِي يَدِ
غَيْرِهِ فَإِنْ أَقَامَ فِيهِ الْبَيِّنَةَ، أَوْ أَقَامَ كِلاَهُمَا
الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهِ لِلَّذِي لَيْسَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ فِي بَيِّنَةٍ مَنْ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ بَيَانٌ زَائِدٌ بِانْتِقَالِ
ذَلِكَ الشَّيْءِ إلَيْهِ، أَوْ يُلَوِّحُ بِتَكْذِيبِ بَيِّنَةِ الآخَرِ وَهُوَ
قَوْلُ سُفْيَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي
سُلَيْمَانَ. وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ: يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ،
وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ قَدْ تَكَاذَبَتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَوَجَبَ سُقُوطُهُمَا.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلْ بَيِّنَةٌ مَنْ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ
غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُمْ بِبَيِّنَةٍ،
إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام
بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
قَالَ عليه الصلاة والسلام: بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ غَيْرُ
ذَلِكَ. فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يُلْتَفَتُ إلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/436)
وليس كما قالوا بل بينة من الشيء في يده غير مسموعة
...
1812 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَأَقَامَ
كِلاَهُمَا الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا
مَعًا، فَأَقَامَا فِيهِ بَيِّنَةً أَوْ لَمْ يُقِيمَا قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِيهِمَا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَّتَتْ
الْبَيِّنَتَانِ أَنَّهُ لَهُمَا فَهُوَ لَهُمَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي
أَيْدِيهِمَا فَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَهُوَ لَهُمَا، لأََنَّهُ
بِأَيْدِيهِمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا. وَأَمَّا إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بَيِّنَةً فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ لاَ تُسْمَعُ فِيمَا فِي يَدِهِ كَمَا
قَدَّمْنَا وَقَدْ شَهِدَتْ لَهُ بَيِّنَتُهُ بِمَا فِي يَدِ الآخَرِ فَيُقْضَى
لَهُ بِذَلِكَ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/436)
فان تداعياه وليس في أيدهما فان كل واحد منهما بينة
فان بينته لا تسمع فيما في يده كما قدمنا
...
1813 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَدَاعَيَاهُ، وَلَيْسَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَلاَ
بَيِّنَةَ لَهُمَا: أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْيَمِينِ، فَأَيُّهُمَا خَرَجَ
سَهْمُهُ حَلَفَ وَقُضِيَ لَهُ بِهِ وَهَكَذَا كُلُّ مَا تَدَاعَيَا فِيهِ مِمَّا
يُوقِنُ بِلاَ شَكٍّ
(9/436)
1814 - مَسْأَلَةٌ: [ وَتُقْبَلُ ] الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيُقْبَلُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ عَلَى وَاحِدٍ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَةِ الْحَاضِرِ فِي الْمِصْرِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا. وقال مالك: لاَ تُقْبَلُ عَلَى شَهَادَةِ الْحَاضِرِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا، وَلَمْ يَحُدَّ عَنْهُ مِقْدَارَ الْمَسَافَةِ الَّتِي إذَا كَانَ الشَّاهِدُ بَعِيدًا عَلَى قَدْرِهَا
(9/438)
قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهِ. وقال أبو
حنيفة، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةٌ
عَلَى شَهَادَةٍ إِلاَّ إذَا كَانَ عَلَى مِقْدَارٍ تُقْصَرُ إلَيْهِ الصَّلاَةُ.
قَالَ عَلِيٌّ: لَمْ نَجِدْ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى
شَهَادَةِ الْحَاضِرِ: حُجَّةً أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ،
وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ سَلَفَ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ مَعْقُولٍ، لاَ سِيَّمَا هَذِهِ
الْحُدُودُ الْفَاسِدَةُ. وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى، بِقَبُولِ شَهَادَةِ
الْعُدُولِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ شَهَادَةُ عُدُولٍ، فَقَبُولُهَا
وَاجِبٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَعُدَتْ جِدًّا، وَلاَ فَرْقَ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا
فِي كَمْ تُقْبَلُ عَلَى شَهَادَةِ الْعُدُولِ فَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ ضُمَيْرَةَ وَهُوَ مُطَّرِحٌ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ عَلَى شَهَادَةِ
وَاحِدٍ إِلاَّ اثْنَانِ، وَعَنْ رَبِيعَةَ مِثْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، إِلاَّ أَنَّهُمَا أَجَازَا شَهَادَةَ ذَيْنِكَ
الاِثْنَيْنِ أَيْضًا عَلَى شَهَادَةِ الْعَدْلِ الآخَرِ. وقال الشافعي: لاَ بُدَّ
مِنْ أُخْرَى عَلَى شَهَادَةِ الآخَرِ، فَلاَ يُقْبَلُ عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ
إِلاَّ أَرْبَعَةٌ، وَلاَ يُقْبَلُ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ فِي الزِّنَى
إِلاَّ سِتَّةَ عَشَرَ عَدْلاً. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلَ قَوْلِنَا: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ رُزَيْقٍ قَالَ قَرَأْت فِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَبِي: أَنْ أَجِزْ شَهَادَةَ رَجُلٍ عَلَى شَهَادَةِ
رَجُلٍ آخَرَ وَذَلِكَ فِي كَسْرِ سِنٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ، وَمَعْمَرٍ، قَالَ سُفْيَانُ:
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إنَّهُ كَانَ
يُجِيزُ شَهَادَةَ رَجُلٍ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ: إنَّهُ كَانَ
يُجِيزُ شَهَادَةَ رَجُلٍ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَيَقُولُ لَهُ: أَشْهِدْنِي
ذَوَيْ عَدْلٍ. وَرُوِّينَاهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالْقُضَاةِ قَبْلَهُ،
وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَابْنِ
أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَعُثْمَانَ
الْبَتِّيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
قال أبو محمد: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيِّنَتُكَ أَوْ
يَمِينُهُ" ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ وَاحِدٍ وَبَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَبْيِينِ
الْحَقِّ بِذَلِكَ، كِلاَهُمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْوَاحِدِ،
فَكُلَّمَا قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ بَيِّنَةٌ فَهُوَ بَيِّنَةٌ،
إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ
يُؤْخَذُ مِنْ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ
شَهَادَةُ شَاهِدٍ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ. فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا
الْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ وَهُوَ هَالِكٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَهُوَ
تَالِفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ
يَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ نَعْيِهِ النُّعْمَانُ، قَالَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةٌ
عَلَى شَهَادَةٍ فِي حَدٍّ، وَلاَ فِي دَمٍ، وَلاَ فِي طَلاَقٍ، وَلاَ نِكَاحٍ،
وَلاَ عِتْقٍ، إِلاَّ فِي الْمَالِ وَحْدَهُ. وَرُوِّينَا ذَلِكَ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ،
وَالنَّخَعِيِّ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ فِي حَدٍّ وَهُوَ قَوْلُ
الأَوْزَاعِيِّ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا، عَنْ شُرَيْحٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالْحَسَنِ،
وَابْنِ سِيرِينَ. وقال أبو حنيفة: تَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ الْحُدُودَ
وَالْقِصَاصَ. وقال مالك، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ
الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا.
(9/439)
قال أبو محمد: تَخْصِيصُ حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ هَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ لاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/440)
كتاب النكاح
وفرض على كل قادر على الوطء ان وجد من أين يتزوج
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمً
كِتَابُ النِّكَاحِ
1815 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ عَلَى الْوَطْءِ إنْ وَجَدَ مِنْ
أَيْنَ يَتَزَوَّجُ أَوْ يَتَسَرَّى أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا، وَلاَ بُدَّ،
فَإِنْ عَجَزَ، عَنْ ذَلِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الصَّوْمِ. برهان ذَلِكَ: مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ
يَقُولُ: لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ
الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" . وَمِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ
عُقَيْلٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: أَرَادَ
عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّلَ فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ
نَافِعٍ الْمَازِنِيُّ قَالَ: ني الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله
عنها، عَنِ التَّبَتُّلِ فَقَالَتْ: لاَ تَفْعَلْ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ
تَعَالَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ
أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً فَلاَ تَتَبَتَّلْ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: لِتَتَزَوَّجَنَّ
أَوْ لاََقُولَنَّ لَك مَا قَالَ عُمَرُ لأََبِي الزَّوَائِدِ: مَا يَمْنَعُك مِنْ
النِّكَاحِ إِلاَّ عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ. وَقَدْ احْتَجَّ قَوْمٌ فِي الْخِلاَفِ
هَذَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا}
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ، لأََنَّنَا لَمْ نَأْمُرْ الْحَصُورَ
بِاتِّخَاذِ النِّسَاءِ، إنَّمَا أَمَرْنَا بِذَلِكَ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى
الْجِمَاعِ. وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِخَبَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ فِي الْمِائَتَيْنِ الْخَفِيفُ الْحَاذِ الَّذِي
لاَ أَهْلَ لَهُ، وَلاَ وَلَدَ" . وَالآخَرُ: مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ،
أَنَّهُ قَالَ:" إذَا كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ فَلاََنْ يُرَبِّيَ
أَحَدُكُمْ جَرْوَ كَلْبٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَ وَلَدًا"
(9/440)
قال أبو محمد: وَهَذَانِ خَبَرَانِ مَوْضُوعَانِ،
لأََنَّهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عِصَامٍ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ
الْعَسْقَلاَنِيِّ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ. وَبَيَانُ
وَضْعِهِمَا أَنَّهُ لَوْ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ مَا فِيهِمَا مِنْ تَرْكِ
النَّسْلِ لَبَطَلَ الإِسْلاَمُ، وَالْجِهَادُ، وَالدِّينُ، وَغَلَبَ أَهْلُ
الْكُفْرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إبَاحَةِ تَرْبِيَةِ الْكِلاَبِ، فَظَهَرَ فَسَادُ
كَذِبِ رَوَّادٍ بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ قَالَ عَلِيٌّ:
وَلَيْسَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى النِّسَاءِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:عَزَّ
وَجَلَّ: وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا.
وَلِلْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ
مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ،
عَنْ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَذَكَرَ عليه الصلاة والسلام فِيهَا: وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ
بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ.
قال أبو محمد: وَهِيَ الَّتِي تَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا، وَاَلَّتِي تَمُوتُ بِكْرًا
لَمْ تُطْمَث.
(9/441)
ولا يحل لأحد أن يتزوج أكثر من أربع نسوة
...
1816 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ إمَاءٍ أَوْ حَرَائِرَ، أَوْ بَعْضُهُنَّ حَرَائِرُ
وَبَعْضُهُنَّ إمَاءٌ. وَيَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَالْحُرُّ مَا أَمْكَنَهُمَا،
الْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، بِضَرُورَةٍ وَبِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَالصَّبْرُ، عَنْ تَزَوُّجِ الأَمَةِ لِلْحُرِّ أَفْضَلُ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى
وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} . حَدَّثَنَا حُمَامٌ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا بَكْرُ
بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ غَيْلاَنَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا" .
فإن قيل: فَإِنَّ مَعْمَرًا أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ [ خَطَأً فَاسِدًا ]
فَأَسْنَدَهُ قلنا: مَعْمَرٌ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، فَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ
أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الْبُرْهَانُ بِذَلِكَ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ.
وَأَيْضًا: فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ زَوَاجُ أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ
قَوْمٌ مِنْ الرَّوَافِضِ لاَ يَصِحُّ لَهُمْ عَقْدُ الإِسْلاَمِ. وَبَقِيَ مِنْ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: نِكَاحُ الْحُرِّ الأَمَةَ، وَكَمْ يَنْكِحُ الْعَبْدُ،
وَهَلْ يَتَسَرَّى الْعَبْدُ. فأما نِكَاحُ الْحُرِّ الأَمَةَ فَاخْتَلَفَ
النَّاسُ فِي ذَلِكَ: فَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ وَلَمْ يَصِحَّ: لاَ يَنْبَغِي
لِحُرٍّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً وَهُوَ يَجِدُ طَوْلاً يَتَزَوَّجُ بِهِ حُرَّةً،
فَإِنْ فَعَلَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ مَلَكَ
ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ
الأَمَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُمَا:
مَا إنْ يَخَفْ نِكَاحَ الأَمَةِ عَلَى الزِّنَا إِلاَّ قَلِيلاً. وَصَحَّ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ وَجَدَ صَدَاقَ حُرَّةٍ فَلاَ يَنْكِحُ أَمَةً،
وَلاَ تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الأَمَةِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ يَعْلَى بْنُ مُنَبِّهٍ
فِي رَجُلٍ تَحْتَهُ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ، وَأَمَتَانِ مَمْلُوكَتَانِ
فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: فَرِّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَمَتَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ
(9/441)
أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ تُنْكَحَ أَمَةٌ عَلَى
حُرَّةٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لاَ تُنْكَحُ الأَمَةُ
عَلَى الْحُرَّةِ إِلاَّ الْمَمْلُوكُ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
تَزْوِيجُ الْحُرَّةِ عَلَى الأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ طَلاَقُ الْمَمْلُوكَةِ.
وَبِهِ يَقُولُ الشَّعْبِيُّ. وَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: مِمَّا
وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى هَذِهِ الأُُمَّةِ نِكَاحُ الأَمَةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ
وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا. وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: سَأَلْت
سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، عَنْ نِكَاحِ الأَمَةِ فَقَالَ: لَمْ يَرَ عَلِيٌّ بِهِ
بَأْسًا.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ. وقال أبو حنيفة: جَائِزٌ لِلْحُرِّ
الْمُسْلِمِ وَاجِدِ الطَّوْلِ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَا الأَمَةَ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ، قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ حُرَّةٌ
مُسْلِمَةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الأَمَةِ أَلْبَتَّةَ لاَ
بِإِذْنِ الْحُرَّةِ، وَلاَ بِغَيْرِ إذْنِهَا فَإِنْ فَعَلَ فُسِخَ نِكَاحُ
الأَمَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَقَدْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ
ثَلاَثًا، أَوْ أَقَلَّ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا. وَجَائِزٌ عِنْدَهُ نِكَاحُ
الْحُرَّةِ عَلَى الأَمَةِ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ بِالْجَمِيعِ أَرْبَعًا. وقال
مالك: لاَ يَجُوزُ لِلْحُرِّ نِكَاحُ أَمَةٍ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ:
أَنْ لاَ يَجِدَ صَدَاقَ حُرَّةٍ، وَأَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا
عَلَى حُرَّةٍ فُسِخَ نِكَاحُ الأَمَةِ. ثُمَّ رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ فَأَبَاحَ
نِكَاحَ الأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ خَاصَّةً لِلْفَقِيرِ وَلِلْمُوسِرِ الْحُرِّ
وَالْعَبْدِ. قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَ أَمَةً
عَلَيْهَا: خُيِّرَتْ الْحُرَّةُ، فَإِنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ، وَإِنْ
شَاءَتْ فَارَقَتْهُ. قَالَ: فَإِنْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ
عَلَيْهَا تَمَامَ أَرْبَعٍ مِنْ الإِمَاءِ إنْ شَاءَ، وَلاَ خِيَارَ لِلْحُرَّةِ
بَعْدُ. قَالَ: وَيَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ الأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ: لاَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرِّ الْوَاجِدِ صَدَاقَ حُرَّةٍ
مُؤْمِنَةٍ، أَوْ كِتَابِيَّةٍ لأََمَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلاً لِحُرَّةٍ
وَخَشِيَ مَعَ ذَلِكَ الْعَنَتَ فَلَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَاحِدَةٍ، لاَ
أَكْثَرَ. وَقَالَ مَرَّةً: إنْ لَمْ يَجِدْ صَدَاقَ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ وَوَجَدَ
صَدَاقَ حُرَّةٍ كِتَابِيَّةٍ، فَلَهُ نِكَاحُ الأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ عَارٍ مِنْ الأَدِلَّةِ
جُمْلَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَافَقَ فِي بَعْضِهِ بَعْضَ السَّلَفِ فَقَدْ
خَالَفَ قَوْلَ سَائِرِهِمْ، وَلَيْسَ قَوْلُ أَحَدٍ بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِ
غَيْرِهِ إِلاَّ بِبَيَانِ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ
الأَوَّلُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ الآخَرُ، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُمَا تَعَلَّقَا
بِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلاَهُمَا الْمَشْهُورَانِ عَنْهُمَا، فَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ،
لأََنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِي مَنْعِ الْحُرِّ نِكَاحَ الأَمَةِ بِأَنْ تَكُونَ
عِنْدَهُ حُرَّةٌ، وَإِبَاحَتُهُ لَهُ نِكَاحَ الأَمَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ
حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا لِطَوْلٍ يَنْكِحُ بِهِ الْحُرَّةَ
الْمُسْلِمَةَ لَيْسَ تَقْتَضِيهِ الآيَةُ أَصْلاً، وَلاَ جَاءَتْ بِهِ سُنَّةٌ
قَطُّ، إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ هُوَ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَمَّنْ
سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ
تُنْكَحَ الأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ فَهَذَا مُنْقَطِعٌ فِي مَوْضِعَيْنِ هَالِكٌ.
وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِيهِ تَخْيِيرُ الْحُرَّةِ كَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ.
(9/442)
وَأَمَّا تَخْيِيرُهُ الْحُرَّةَ فِي الْبَقَاءِ
تَحْتَ زَوْجِهَا الْحُرِّ، أَوْ فِرَاقِهِ إذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَمَةً
فَقَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ
قَبْلَهُ. وَأَمَّا مَنْعُ الشَّافِعِيِّ مَنْ وَجَدَ طَوْلاً لِنِكَاحِ حُرَّةٍ
كِتَابِيَّةٍ مِنْ نِكَاحِ الأَمَةِ، فَقَوْلٌ لاَ تَقْتَضِيهِ الآيَةُ فَسَقَطَتْ
هَذِهِ الأَقْوَالُ كُلُّهَا، إذْ لَيْسَتْ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ، وَلاَ
لِشَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ.
قال أبو محمد: فَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ إذَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ، رضي الله عنهم،
هُوَ الْقُرْآنُ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ
مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ، وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ
فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . فَنَظَرْنَا فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الآيَةِ،
فَوَجَدْنَا فِيهَا حُكْمَ مَنْ لَمْ يَجِدْ الطَّوْلَ وَخَشِيَ الْعَنَتَ،
فَأَبَاحَ نِكَاحَ الأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ لَهُ، وَأَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ لَنَا،
فَقُلْنَا بِذَلِكَ كُلِّهِ فَنَظَرْنَا فِي حُكْمِ مَنْ يَجِدْ الطَّوْلَ وَلَمْ
يَخْشَ الْعَنَتَ، وَفِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ فَلَمْ
نَجِدْهُ فِيهِ أَصْلاً، لاَ بِإِبَاحَةٍ، وَلاَ بِمَنْعٍ، وَلاَ بِكَرَاهَةٍ،
بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِيهَا جُمْلَةً، فَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ
لَهُ مِنْهَا بِحُكْمِ مَنْ لَمْ يَجِدْ الطَّوْلَ وَخَشِيَ الْعَنَتَ، وَبِحُكْمِ
الأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ، لأََنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى مَا فِي الآيَةِ، وَالْقِيَاسُ
بَاطِلٌ، وَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ لَهُ مِنْهَا بِحُكْمٍ مُخَالِفٍ
لِحُكْمِ مَنْ لاَ يَجِدُ الطَّوْلَ وَيَخْشَى الْعَنَتَ، وَبِحُكْمِ الأَمَةِ
الْمُؤْمِنَةِ، لأََنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الآيَةِ، وَكِلاَهُمَا تَعَدٍّ لِمَا
فِي الآيَةِ وَإِقْحَامٌ فِيهَا لِمَا لَيْسَ فِيهَا، فَوَجَبَ أَنْ نَطْلُبَ
حُكْمَ مَنْ يَجِدُ الطَّوْلَ، وَلاَ يَخْشَى الْعَنَتَ: فَوَجَدْنَا اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
فَكَانَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بَيَانٌ جَلِيٌّ فِي إبَاحَةِ نِكَاحِ
الْكِتَابِيَّاتِ جُمْلَةً لَمْ يَخُصَّ تَعَالَى حُرَّةً مِنْ أَمَةٍ. وَفِي
الآيَةِ الأُُخْرَى إبَاحَةُ نِكَاحِ الْعَبِيدِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عُمُومًا،
لَمْ يَخُصَّ تَعَالَى حُرَّةً مِنْ أَمَةٍ، وَإِبَاحَةُ إنْكَاحِ الإِمَاءِ
الْمُسْلِمَاتِ لَمْ يَخُصَّ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ. فَكَانَ فِي هَاتَيْنِ
الآيَتَيْنِ بَيَانُ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْعَبْدِ
وَالْحُرِّ عُمُومًا، بِكُلِّ حَالٍ لِلْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ
وَلِلْكِتَابِيَّةِ، وَلِلأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ، وَلَمْ يَأْتِ
قَطُّ فِي سُنَّةٍ، وَلاَ فِي قُرْآنٍ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ
كَرَاهَةٌ: فَصَحَّ وَلَنَا بِيَقِينٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ. وَمِنْ عَجَائِبِ
الدُّنْيَا إبَاحَةُ مَالِكٍ نِكَاحَ الْحُرِّ وَاجِدِ الطَّوْلِ غَيْرِ خَائِفِ
الْعَنَتِ نِكَاحَ الأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَمَنْعُهُ إيَّاهُ نِكَاحَ الأَمَةِ
الْكِتَابِيَّةِ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي التَّعَلُّقِ بِالآيَةِ لاَ يَجُوزُ
(9/443)
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَكَذَلِكَ
إبَاحَتُهُ نِكَاحَ الأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لِلْعَبْدِ، وَمَنْعُهُ الْحُرَّ
مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ فَقَدْ أَتَى، عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَالتَّابِعِينَ خِلاَفُ ذَلِكَ، وَتَرَكَ الْفَرْقَ
بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا كَمْ يَنْكِحُ الْعَبْدُ: فَرُوِّينَا، عَنْ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ:
يَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أُخْبِرْت أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ فِي النَّاسِ كَمْ يَنْكِحُ الْعَبْدُ فَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنْ لاَ يَزِيدَ عَلَى اثْنَيْنِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ قَالاَ: ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يَنْكِحُ الْعَبْدُ
اثْنَتَيْنِ. َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ،
عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ
مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَجْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،
وَغَيْرِهِمْ. وَصَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ
أَرْبَعًا. وَرُوِيَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَلَمْ يَصِحُّ عَنْهُ وَعَنْ عَطَاءٍ
أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ وَبِهَذَا يَقُولُ مَالِكٌ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ صَحَابَةً لاَ
يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَهَذَا مِمَّا يُعَظِّمُونَهُ إذَا
وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: لاَ حُجَّةَ فِي كَلاَمِ أَحَدٍ دُونَ
كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ
وَرُبَاعَ} فَلَمْ يَخُصَّ عَبْدًا مِنْ حُرٍّ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا تَسَرِّي الْعَبْدِ: فَإِنَّ
النَّاسَ اخْتَلَفُوا، فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،
وَمَعْمَرٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى مَمَالِيكَهُ يَتَسَرَّوْنَ، وَلاَ يَنْهَاهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ
فِي جَارِيَةٍ لَهُ: اسْتَحِلَّهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ
أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفٌ لِهَذَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ،
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ وَصَحَّ ذَلِكَ
عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَمَا نَعْلَمُ خِلاَفًا
فِي ذَلِكَ مِنْ تَابِعٍ، إِلاَّ رِوَايَةً غَيْرَ مَشْهُورَةٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ،
وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَرِوَايَةً صَحِيحَةً، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
أَنَّهُمْ كَرِهُوا لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى كَرَاهِيَةً، لاَ مَنْعًا وَلَمْ
يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلاَ الشَّافِعِيُّ.
قال أبو محمد: وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ
مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ،
(9/444)
وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَوَجَدْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى حُرًّا مِنْ عَبْدٍ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيمَا خَلاَ مِنْ كِتَابِنَا عَلَى صِحَّةِ مِلْكِ الْعَبْدِ لِمَالِهِ فَأَغْنَى، عَنْ تَرْدَادِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/445)
1817 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ
الْكِتَابِيَّةِ، وَهِيَ الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ،
وَالْمَجُوسِيَّةُ، بِالزَّوَاجِ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ أَمَةٍ غَيْرِ
مُسْلِمَةٍ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلاَ نِكَاحُ كَافِرَةٍ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ
أَصْلاً. قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: تَحْرِيمَ نِكَاحِ نِسَاءِ
أَهْلِ الْكِتَابِ جُمْلَةً. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ:
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ، عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ
فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ
أَعْلَمُ مِنْ الإِشْرَاكِ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ "
رَبُّهَا عِيسَى " وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: نِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ،
وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَوَطْءَ الأَمَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَحَرَّمُوا نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّةِ جُمْلَةً، وَوَطْأَهَا
بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا حَرَّمَ زَوَاجَ الأَمَةِ
الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَأَبَاحَ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّةِ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَأَبَاحَ إجْبَارَهَا عَلَى الإِسْلاَمِ.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَجَدْنَا
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
فَلَوْ لَمْ تَأْتِ إِلاَّ هَذِهِ الآيَةُ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ،
لَكِنْ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ
الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
فَكَانَ الْوَاجِبُ الطَّاعَةَ لِكِلْتَا الآيَتَيْنِ، وَأَنْ لاَ تُتْرَكَ
إحْدَاهُمَا لِلأُُخْرَى. وَوَجَدْنَا مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ قَدْ
خَالَفَ هَذِهِ الآيَةَ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى الطَّاعَةِ
لَهُمَا إِلاَّ بِأَنْ يُسْتَثْنَى الأَقَلُّ مِنْ الأَكْثَرِ، فَوَجَبَ
اسْتِثْنَاءُ إبَاحَةِ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالزَّوَاجِ مِنْ
جُمْلَةِ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ، وَيَبْقَى سَائِرُ ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ
بِالآيَةِ الأُُخْرَى: لاَ يَجُوزُ غَيْرُ هَذَا. وَوَجَدْنَا تَحْرِيمَ مَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ، نِكَاحَ الأَمَةِ الْكِتَابِيَّةَ بِالزَّوَاجِ لِلآيَةِ،
لأََنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لأََنَّ
الإِحْصَانَ: الْحُرِّيَّةُ، وَالإِحْصَانَ: الْعِفَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أَيْ عَفَّتْ
فَرْجَهَا. وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَخُصَّ بِقَوْلِهِ
(9/445)
تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْحَرَائِرَ دُونَ الْعَفَائِفِ مِنْ الإِمَاءِ، لأََنَّهُ يَكُونُ قَائِلاً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَشَارِعًا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَمُدَّعِيًا بِلاَ برهان، وَهَذَا لاَ يَحِلُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . فَمَنْ لاَ برهان لَهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ فَلاَ صِحَّةَ لِقَوْلِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ تَعَلُّقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} إنَّمَا فِيهِ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ نِكَاحِ الْفَتَاةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَلاَ إبَاحَةٌ لَهَا، فَوَجَبَ طَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الآيَةِ، وَلاَ بُدَّ. وَوَجَدْنَا إبَاحَتَهُمْ وَطْءَ الأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إقْحَامًا فِي الآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا بِآرَائِهِمْ، لأََنَّهُ إنَّمَا اسْتَثْنَى تَعَالَى فِي الآيَةِ إبَاحَةَ الْكِتَابِيَّاتِ بِالزَّوَاجِ خَاصَّةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَأَبْقَى مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ بِنَهْيِهِ تَعَالَى، عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِبَاحَةِ كِتَابِيَّةٍ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَهُمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مُخْرِجُونَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ مَا فِيهَا مِنْ إبَاحَةِ زَوَاجِ الْعَفَائِفِ مِنْ الْكِتَابِيَّاتِ جُمْلَةً لَمْ يَخُصَّ حُرَّةً مِنْ أَمَةٍ وَيُقْحِمُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، وَلاَ فِي غَيْرِهَا مِنْ إبَاحَةِ وَطْءِ الأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ: مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، كَمَا رُوِّينَا قَبْلُ عَنْهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْكَوَافِرِ وَغَيْرِهِنَّ جُمْلَةً، فَخَرَجَ مِنْ قَوْلِ مَا أَبَاحَهُ الْقُرْآنُ بِالزَّوَاجِ، وَبَقِيَ سَائِرُ قَوْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَفِيهِ تَحْرِيمُ الأَمَةِ بِلاَ شَكٍّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مَاعِزٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ الْمُشْرِكَةَ حَتَّى تُسْلِمَ.َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بِنْدَارٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ هُوَ مُرَّةُ الطَّبِيبُ صَاحِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَصَبْت الأَمَةَ مِنْ السَّبْيِ فَقَالاَ جَمِيعًا: لاَ تَغْشَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ. َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ مَمْلُوكَةً أَكْرَهُ غَشَيَانَهُنَّ: أَمَتُك وَأُمُّهَا، وَأَمَتُك وَأُخْتُهَا، وَأَمَتُك وَطِئَهَا أَبُوك، وَأَمَتُك وَطِئَهَا ابْنُك، وَأَمَتُك عَمَّتُك مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَأَمَةٌ خَالَتُك
(9/446)
مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَأَمَتُك وَقَدْ زَنَتْ، وَأَمَتُك وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، وَأَمَتُك وَهِيَ حُبْلَى مِنْ غَيْرِك. حَدَّثَنَا حُمَامٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حَدَّثَنَا الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَصَابَ الْجَارِيَةَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْفَيْءِ فَأَرَادَ أَنْ يُصِيبَهَا أَمَرَهَا فَغَسَلَتْ ثِيَابَهَا، ثُمَّ عَلَّمَهَا الإِسْلاَمَ، وَأَمَرَهَا بِالصَّلاَةِ، وَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، ثُمَّ أَصَابَهَا. وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مُشْرِكَةً أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ وَتَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلَ غَيْرِ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا، فَكَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحَرَّجُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلاَلٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ. فَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ: أَقْطَعُهُمَا أَنَّ سَبْيَ أَوْطَاسٍ كَانُوا وَثَنِيِّينَ لاَ كِتَابِيِّينَ، لاَ يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ، وَهُمْ لاَ يُخَالِفُونَنَا أَنَّ وَطْءَ الْوَثَنِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لاَ يَحِلُّ حَتَّى تُسْلِمَ فَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ لَوْ صَحَّ إعْلاَمُهُمْ أَنَّ عِصْمَتَهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ قَدْ انْقَطَعَتْ إذَا أَسْلَمْنَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُذْكَرْ هَاهُنَا الإِسْلاَمُ لَكِنْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَوَاجِبٌ أَنْ يُضَمَّ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّنَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَيْضًا، فَقَالَ: ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: أَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ: أَنْ أَبَا عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيَّ حَدَّثَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ يَوْمَ حُنَيْنٍ سَرِيَّةً بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. فَصَحَّ أَنَّ أَبَا الْخَلِيلِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي عَلْقَمَةَ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَقَالُوا: لَمْ نَجِدْ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَحِلُّ نِكَاحُهَا، وَلاَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ.فَقُلْنَا: هَبْكَ كَانَ كَمَا تَزْعُمُونَ فَكَانَ مَاذَا، وَلاَ وَجَدْنَا فِي الْفَرَائِضِ فِي الصَّلاَةِ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ غَيْرَ الْمَغْرِبِ،، وَلاَ وَجَدْنَا فِي الأَمْوَالِ شَيْئًا يُزَكَّى مِنْ غَيْرِهِ إِلاَّ الإِبِلَ فَلاَ أَبْرَدَ مِنْ هَذَا الأَحْتِجَاجِ السَّخِيفِ الْمُعْتَرَضِ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَالصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَكَيْفَ وَالْحَرَائِرُ كُلُّهُنَّ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ يَحِلُّ وَطْؤُهُنَّ بِالزَّوَاجِ، وَلاَ يَحِلُّ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وقال بعضهم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ، فَدَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِيَّةُ. فَقُلْنَا: فَأَدْخَلُوا بِهَذَا الْعُمُومِ فِي الإِبَاحَةِ بِمِلْكِ
(9/447)
الْيَمِينِ وَطْءَ الْحَائِضِ وَالأُُخْتِ مِنْ
الرَّضَاعِ، وَالأُُمِّ مِنْ الرَّضَاعِ، وَأُمِّ الزَّوْجَةِ، وَاَلَّتِي
وَطِئَهَا الأَبُ، وَالأُُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ
خَصَّ ذَلِكَ آيَاتٌ أُخَرُ قلنا: وَقَدْ خَصَّ الْكِتَابِيَّةَ آيَةٌ أُخْرَى.
فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا أَكْذَبَهُمْ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم، فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الأُُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَظَهَرَ
فَسَادُ قَوْلِهِمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. أَمَّا نِكَاحُ
الْكَافِرَةِ غَيْرِ الْكِتَابِيَّةِ: فَلاَ يُخَالِفُنَا الْحَاضِرُونَ فِي
أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ وَطْؤُهُنَّ بِزَوَاجٍ، وَلاَ بِمِلْكِ يَمِينٍ. وَأَمَّا
الْمَجُوسِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي "كِتَابِ الْجِهَادِ" وَ
"كِتَابِ التَّذْكِيَةِ" مِنْ كِتَابِنَا هَذَا أَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ
كِتَابٍ، وَإِذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ بِالزَّوَاجِ
حَلاَلٌ. وَالْحُجَّةُ فِي أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}
فَلَمْ يُبِحْ لَنَا تَرْكَ قَتْلِهِمْ إِلاَّ بِأَنْ يُسْلِمُوا فَقَطْ.
وَقَالَ تَعَالَى قَاتِلُوا {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلاَ
بِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَاسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ خَاصَّةً بِإِعْفَائِهِمْ مِنْ الْقَتْلِ بِغُرْمِ الْجِزْيَةِ
مَعَ الصِّغَارِ مِنْ جُمْلَةِ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يَحِلُّ
إعْفَاؤُهُمْ إِلاَّ أَنْ يُسْلِمُوا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ . وَمِنْ الْبَاطِلِ
الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُخَالِفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ رَبِّهِ إِلاَّ
لَوْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، فَكُنَّا نَدْرِي حِينَئِذٍ
أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلَمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى
مَجُوسِ هَجَرَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الإِسْلاَمَ فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ وَمَنْ
أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ عَلَى أَنْ لاَ تُؤْكَلَ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ،
وَلاَ تُنْكَحَ لَهُمْ امْرَأَةٌ . فَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَثَانِيَةٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ قَوْلَهُ لاَ تُؤْكَلَ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ،
وَلاَ تُنْكَحَ لَهُمْ امْرَأَةٌ هُوَ مِنْ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم. وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ الْعُذُرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ، حَدَّثَنَا
إبْرَاهِيمُ بْنُ خُرَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبْزَى قَالَ: لَمَّا هَزَمَ
اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الأَسْفِيذَارَ انْصَرَفُوا فَجَاءَهُمْ يَعْنِي عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَجْمَعُوا فَقَالُوا: بِأَيِّ شَيْءٍ تُجْرِي
فِي الْمَجُوسِ مِنْ الأَحْكَامِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ،
وَلَيْسُوا بِمُشْرِكِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَتُجْرِي فِيهِمْ
(9/448)
الأَحْكَامَ الَّتِي أَجْرَيْت فِي أَهْلِ الْكِتَابِ
أَوْ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: بَلْ هُمْ أَهْلُ
كِتَابٍ وَذَكَرَ الْخَبَرَ بِطُولِهِ. َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ قَالَ: سَمِعْت
مَعْبَدًا الْجُهَنِيَّ يُحَدِّثُ الْحَسَنَ أَنَّ امْرَأَةَ حُذَيْفَةَ كَانَتْ
مَجُوسِيَّةً، فَجَعَلَ الْحَسَنُ يَقُولُ: مَهْلاً، فَقَالَ: أَنَا وَاَللَّهِ
دَخَلْت عَلَيْهَا حَتَّى كَلَّمْتهَا، فَقَالَ لَهَا: شابر دخت، قَالَ: فَحَدَّثَ
بِهِ الْحَسَنُ بَعْدَ ذَلِكَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبِيعٍ التَّمِيمِيَّ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثنا
الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ الدَّانَاجِ، وَأَبِي حَرَّةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجِ، عَنْ
مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ، وَقَالَ أَبُو حُرَّةَ: عَنِ الْحَسَنِ، قَالاَ جَمِيعًا:
كَانَتْ امْرَأَةُ حُذَيْفَةَ مَجُوسِيَّةً. حَدَّثَنَا حُمَامٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ
مُفَرِّجٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حَدَّثَنَا الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: يُعْرَضُ عَلَيْهَا الإِسْلاَمُ، فَإِنْ أَبَتْ، فَلْيُصِبْهَا
إنْ شَاءَ وَإِنْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً وَلَكِنْ يُكْرِهُهَا عَلَى الْغُسْلِ مِنْ
الْجَنَابَةِ. وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ
يَطَأَ الرَّجُلُ جَارِيَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ التَّذْكِيَةِ " إبَاحَةَ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَكْلَ مَا ذَبَحَهُ الْمَجُوسِيُّ وَنَحْنُ وَإِنْ
كُنَّا نُخَالِفُ سَعِيدًا، وطَاوُوسًا فِي وَطْءِ الأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ: فَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهِمَا لأَِبَاحَتِهِمَا نِكَاحَ
الْمَجُوسِيَّاتِ. وَمِمَّنْ أَبَاحَ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّةِ أَبُو ثَوْرٍ.
قال أبو محمد: وَمِنْ أَبْيَنِ الْخَطَأِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ
أَنْ لاَ تُقْبَلَ جِزْيَةٌ مِنْ مُشْرِكٍ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلاَ
أَنْ تُنْكَحَ مُشْرِكَةٌ إِلاَّ الْكِتَابِيَّةُ وَأَنْ لاَ تُؤْكَلَ ذَبِيحَةُ
مُشْرِكٍ إِلاَّ كِتَابِيٌّ، ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَ الأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ،
فَيُمْنَعُ مِنْ بَعْضِهَا وَيُبِيحُ بَعْضَهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/449)
ولا يحل لمسلمة بكاح غير مسلم أصلا
...
1818 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمَةٍ نِكَاحُ غَيْرِ مُسْلِمٍ أَصْلاً،
وَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ أَنْ يَمْلِكَ عَبْدًا مُسْلِمًا، وَلاَ مُسْلِمَةً
أَمَةً أَصْلاً. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .
قال أبو محمد: وَالرِّقُّ أَعْظَمُ السَّبِيلِ وَقَدْ قَطَعَهَا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ جُمْلَةً عَلَى الْعُمُومِ، وَمَنْ خَالَفَنَا فِي هَذَا بِبَيْعِهِمَا
إذَا أَسْلَمَا فِي مِلْكِ الْكَافِرِ، فَنَقُولُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ طُولَ
مُدَّةِ تَعْرِيضِكُمْ الأَمَةَ وَالْعَبْدَ لِلْبَيْعِ إذَا أَسْلَمَا عِنْدَ
الْكَافِرِ، وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمُدَّةُ سَاعَةً، وَتَكُونُ سَنَةً، أَفِي
مِلْكِ الْكَافِرِ هُمَا أَمْ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ
ثَالِثٍ: فَإِنْ كَانَا فِي مِلْكِهِ، فَلِمَ تَمْنَعُونَهُ مِنْ اتِّصَالِ
مِلْكِهِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ أَبَحْتُمُوهُ مُدَّةً مَا وَمَا بُرْهَانُكُمْ عَلَى
هَذَا الْفَرْقِ الْفَاسِدِ؟ وَإِنْ
(9/449)
قُلْتُمْ: لَيْسَا فِي ذَلِكَ، وَلاَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ قلنا: هَذِهِ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ، وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَلاَ إحْدَاثُ مِلْكٍ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّا نَسْأَلُكُمْ، عَنِ الَّذِي تَبِيعُونَهُ لِضَرَرٍ أَضَرَّ بِهِ، أَوْ فِي حَقِّ مَالٍ وَجَبَ عَلَيْهِ قلنا: هُوَ فِي مِلْكِ الَّذِي يُبَاعُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِلْكُهُ لَهُ حَرَامًا لأََنَّهُ لَوْ قُطِعَ ضَرَرُهُ عَنْهُ لَمْ يُبَعْ عَلَيْهِ، وَلَوْ وُجِدَ لَهُ مَالٌ غَيْرُ الْعَبْدِ أَوْ الأَمَةِ لَمْ يُبَاعَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْكَافِرُ، لأََنَّهُ مَمْنُوعٌ عِنْدَكُمْ مِنْ تَمَلُّكِ الْمُسْلِمِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ خَرَجَ إلَيْهِ مُسْلِمًا مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الْكُفْرِ فَتَخْصِيصُكُمْ بِذَلِكَ مَنْ خَرَجَ إلَيْنَا مِنْهُمْ تَحَكُّمٌ بِلاَ دَلِيلٍ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ: إنَّمَا أُعْتِقُكُمْ لِخُرُوجِكُمْ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ عليه الصلاة والسلام مَا لَمْ يَقُلْ. فإن قيل: قَدْ اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِلاَلاً رضي الله عنه مِنْ كَافِرٍ بَعْدَ إسْلاَمِهِ قلنا: كَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا أَنْكَحَ عليه الصلاة والسلام بِنْتَهُ رضي الله عنها مِنْ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَهُوَ كَافِرٌ وَمِنْ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ. فَصَحَّ أَنَّ الْعَبْدَ، وَالأَمَةَ إذَا أَسْلَمَا وَهُمَا فِي مِلْكِ كَافِرٍ فَإِنَّهُمَا حُرَّانِ فِي حِينِ تَمَامِ إسْلاَمِهِمَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
(9/450)
وفرض على كل من تزوج ان يولم بما فل او اكثر
...
1819 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ تَزَوَّجَ أَنْ يُولِمَ بِمَا قَلَّ
أَوْ كَثُرَ. برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةَ، وَأَبِي الرَّبِيعِ الْعَتَكِيِّ، كُلُّهُمْ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي
تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَ نِكَاحَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
صَفِيَّةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَلِيمَتَهَا التَّمْرَ وَالأَقِطَ وَالسَّمْنَ . وَمِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ، عَنْ أَمَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ:
أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ
مِنْ شَعِيرٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا.
(9/450)
وفرض على كل من دعى الى وليمة أو طعام أن يجيب الا
لعذر
...
1820 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ
أَنْ يُجِيبَ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ
يَأْكُلَ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ اللَّهَ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ
هُنَالِكَ حَرِيرٌ مَبْسُوط، أَوْ كَانَتْ الدَّارُ مَغْصُوبَةً، أَوْ كَانَ
الطَّعَامُ مَغْصُوبًا، أَوْ كَانَ هُنَاكَ خَمْرٌ ظَاهِرٌ: فَلْيَرْجِعْ، وَلاَ
يَجْلِسْ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا
هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ:
سَمِعْت عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "أَجِيبُوا الدَّعْوَةَ إذَا دُعِيتُمْ لَهَا" . وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ
(9/450)
ولا يحل للمرأة نكاح ثيبا كانت أو بكرا إلا وليها
...
1821 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ نِكَاحٌ ثَيِّبًا كَانَتْ أَوْ
بِكْرًا إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهَا الأَبِ، أَوْ الإِخْوَةِ، أَوْ الْجَدِّ، أَوْ
الأَعْمَامِ، أَوْ بَنِي الأَعْمَامِ وَإِنْ بَعُدُوا وَالأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ
أَوْلَى. وَلَيْسَ وَلَدُ الْمَرْأَةِ وَلِيًّا لَهَا إِلاَّ إنْ كَانَ ابْنَ
عَمِّهَا، لاَ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ:
أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الزَّوَاجِ، فَإِنْ أَبَى أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ الإِذْنِ
لَهَا: زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ جَلَّ:
{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ} وَقَوْله تَعَالَى {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى
يُؤْمِنُوا} وَهَذَا خِطَابٌ لِلأَوْلِيَاءِ لاَ لِلنِّسَاءِ. وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ وَلِيِّهَا فَإِنْ نُكِحَتْ فَنِكَاحُهَا
بَاطِلٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا
(9/451)
أَصَابَ مِنْهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ
وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ". وَمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَيُّوبَ الصَّمُوتُ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ
بِوَلِيٍّ" .
وبه إلى الْبَزَّازِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ هُوَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ
نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ" . فَاعْتَرَضَ قَوْمٌ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ هَذَا بِأَنَّ ابْنَ عُلَيَّةَ رَوَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ
سَأَلَ الزُّهْرِيَّ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ قَالُوا: وَأُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْهَا وَقَدْ صَحَّ
عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ أَنْكَحَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهِيَ
بِكْرٌ وَهُوَ مُسَافِرٌ بِالشَّامِ قَرِيبُ الأَوْبَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَمْ
يُمْضِهِ، بَلْ أَنْكَرَ ذَلِكَ إذْ بَلَغَهُ، فَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ ذَلِكَ
مُبْطِلاً لِذَلِكَ النِّكَاحِ، بَلْ قَالَتْ لِلَّذِي زَوَّجَتْهَا مِنْهُ وَهُوَ
الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: اجْعَلْ أَمْرَهَا إلَيْهِ، فَفَعَلَ، فَأَنْفَذَهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَالُوا: وَالزُّهْرِيُّ هُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ هَذَا
الْخَبَرُ. قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
أَنَّهُ قَالَ لَهُ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ، عَنِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ
وَلِيٍّ فَقَالَ: إنْ كَانَ كُفُؤًا لَهَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. قَالُوا:
فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَدَلَّ خِلاَفُ عَائِشَةَ الَّتِي رَوَتْهُ،
وَالزُّهْرِيُّ الَّذِي رَوَاهُ لِمَا فِيهِ دَلِيلاً عَلَى نَسْخِهِ.فَقُلْنَا:
أَمَّا قَوْلُكُمْ: إنَّ الزُّهْرِيَّ سَأَلَهُ عَنْهُ ابْنُ جُرَيْحٍ فَلَمْ
يَعْرِفْهُ فَإِنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ دَاوُد بْنَ بَابْشَاذَ بْنِ دَاوُد بْنِ
سُلَيْمَانَ كَتَبَ إلَيَّ: ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ
الأَزْدِيُّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّةَ
الرُّعَيْنِيُّ، قَالَ: ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيَّ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُد عِمْرَانُ، قَالَ: ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ،
عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ، عَنْ
هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا حَدَثْنَاهُ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ
أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا
غَيْلاَنُ، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: حَدِيثُ ابْنِ
جَرِيرٍ هَذَا قَالَ عَبَّاسٌ: فَقُلْت لَهُ: إنَّ ابْنَ عُلَيَّةَ يَقُولُ: قَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ لِسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى فَقَالَ: نَسِيت بَعْدَهُ، فَقَالَ
ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ يَقُولُ هَذَا إِلاَّ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَابْنُ عُلَيَّةَ
عَرَضَ كُتُبَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
أَبِي رَوَّادٍ فَأَصْلَحَهَا لَهُ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لاَ يَصِحُّ فِي هَذَا
إِلاَّ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى.
قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّ سَمَاعَ ابْنِ عُلَيَّةَ مِنْ ابْنِ جُرَيْجٍ
مَدْخُولٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّ الزُّهْرِيَّ أَنْكَرَهُ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ
بْنَ مُوسَى نَسِيَهُ: فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ،
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدَةُ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي
الله عنها قَالَتْ:
(9/452)
كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ
قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: "رحمه الله لَقَدْ أَذْكَرَنِي
آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا" . حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْجَسُورِ نَا وَهْبُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْهَبِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم صَلَّى الْفَجْرَ فَأَغْفَلَ آيَةً، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: أَفِي
الْقَوْمِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ لَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَغْفَلْتَ آيَةَ كَذَا، أَوَنُسِخَتْ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:
"بَلْ أُنْسِيتُهَا" .
قال أبو محمد: فَإِذَا صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَسِيَ
آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ، فَمَنْ الزُّهْرِيُّ، وَمَنْ سُلَيْمَانُ، وَمَنْ يَحْيَى
حَتَّى لاَ يَنْسَى وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ
مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} . لَكِنْ ابْنُ جُرَيْجٍ ثِقَةٌ، فَإِذَا رَوَى لَنَا، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى وَهُوَ ثِقَةٌ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
بِخَبَرٍ مُسْنَدٍ، فَقَدْ قَامَتْ الْحُجَّة بِهِ، سَوَاءٌ نَسَوْهُ بَعْدَ أَنْ
بَلَّغُوهُ وَحَدَّثُوا بِهِ، أَوْ لَمْ يَنْسَوْهُ. وَقَدْ نَسِيَ أَبُو
هُرَيْرَةَ حَدِيثَ لاَ عَدْوَى. وَنَسِيَ الْحَسَنُ حَدِيثَ مَنْ قَتَلَ
عَبْدَهُ. وَنَسِيَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثَ التَّكْبِيرِ
بَعْدَ الصَّلاَةِ بَعْدَ أَنْ حَدَّثُوا بِهَا، فَكَانَ مَاذَا لاَ يَعْتَرِضُ
بِهَذَا إِلاَّ جَاهِلٌ، أَوْ مُدَافِعٌ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَلاَ نَدْرِي
فِي أَيِّ الْقُرْآنِ، أَمْ فِي أَيِّ السُّنَنِ، أَمْ فِي أَيِّ حُكْمِ
الْعُقُولِ وَجَدُوا أَنَّ مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ ثُمَّ نَسِيَهُ: أَنَّ حُكْمَ
ذَلِكَ الْخَبَرِ يَبْطُلُ، مَا هُمْ إِلاَّ فِي دَعْوَى كَاذِبَةٍ بِلاَ برهان.
وَأَمَّا اعْتِرَاضُهُمْ بِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ رضي
الله عنهما أَنَّهُمَا خَالَفَا مَا رَوَيَا مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ مَاذَا إنَّمَا
أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَامَتْ
حُجَّةُ الْعَقْلِ بِوُجُوبِ قَبُولِ مَا صَحَّ عِنْدَنَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم، وَبِسُقُوطِ اتِّبَاعِ قَوْلٍ مِنْ دُونِهِ عليه الصلاة
والسلام. وَلاَ نَدْرِي أَيْنَ وَجَدُوا: أَنَّ مَنْ خَالَفَ بِاجْتِهَادِهِ
مُخْطِئًا مُتَأَوِّلاً مَا رَوَاهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِذَلِكَ مَا رَوَاهُ، ثُمَّ
نَعْكِسُ عَلَيْهِمْ أَصْلَهُمْ هَذَا الْفَاسِدَ، فَنَقُولُ: إذَا صَحَّ أَنَّ
أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وَالزُّهْرِيَّ رحمه الله رَوَيَا هَذَا
الْخَبَرَ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا خَالَفَاهُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى
سُقُوطِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهُمَا خَالَفَاهُ، بَلْ بَلْ الظَّنُّ بِهِمَا
أَنَّهُمَا لاَ يُخَالِفَانِ مَا رَوَيَاهُ، وَهَذَا أَوْلَى، لأََنَّ تَرْكَنَا
مَا لاَ يَلْزَمُنَا مِنْ قَوْلِهِمَا لِمَا يَلْزَمُنَا مِنْ رِوَايَتِهِمَا هُوَ
الْوَاجِبُ، لاَ تَرْكَ مَا يَلْزَمُنَا مِمَّا رَوَيَاهُ لِمَا لاَ يَلْزَمُنَا
مِنْ رَأْيِهِمَا. فَكَيْفَ وَقَدْ كَتَبَ إلَيَّ دَاوُد بْنُ بَابْشَاذَ قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ قُرَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيَّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ غُلَيْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا أَنْكَحَتْ رَجُلاً مِنْ بَنِي
أَخِيهَا جَارِيَةً مِنْ بَنِي أَخِيهَا، فَضَرَبَتْ بَيْنَهُمْ سِتْرًا، ثُمَّ
تَكَلَّمَتْ
(9/453)
حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ النِّكَاحُ أَمَرَتْ
رَجُلاً فَأَنْكَحَ، ثُمَّ قَالَتْ: لَيْسَ إلَى النِّسَاءِ النِّكَاحُ فَصَحَّ
يَقِينًا بِهَذَا رُجُوعُهَا، عَنِ الْعَمَلِ الأَوَّلِ إلَى مَا نَبَّهَتْ
عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ نِكَاحَ النِّسَاءِ لاَ يَجُوزُ. وَاعْتَرَضُوا فِي رِوَايَةِ
أَبِي مُوسَى: أَنَّ قَوْمًا أَرْسَلُوهُ.فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا، إذَا صَحَّ
الْخَبَرُ مُسْنَدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ قَامَتْ
الْحُجَّةُ بِهِ، وَلَزِمَنَا قَبُولُهُ فَرْضًا، وَلاَ مَعْنَى لِمَنْ
أَرْسَلَهُ، أَوْ لِمَنْ لَمْ يَرْوِهِ أَصْلاً، أَوْ لِمَنْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ
أُخْرَى ضَعِيفَةٍ كُلُّ هَذَا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَمِمَّنْ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ:
كَمَا رُوِّينَا: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ،
عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ بِإِذْنِ
وَلِيِّهَا، أَوْ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ السُّلْطَانِ. وَمِنْ
طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَدَّ نِكَاحَ امْرَأَةٍ
نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ
أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ الطَّرِيقَ جَمَعَ رَكْبًا، فَجَعَلَتْ
امْرَأَةٌ ثَيِّبٌ أَمْرَهَا إلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ غَيْرِ وَلِيٍّ
فَأَنْكَحَهَا رَجُلاً، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَجَلَدَ
النَّاكِحَ وَالْمُنْكِحَ وَرَدَّ نِكَاحَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْعَقْدِ
شَيْءٌ، لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، لاَ تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا،
فَإِنَّ الزَّانِيَةَ تُنْكِحُ نَفْسَهَا" . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الْبَغَايَا اللَّاتِي يَنْكِحْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ
الأَوْلِيَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: وَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ
أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَالَهُ وَبَنَاتَهُ وَنِكَاحَهُنَّ فَكَانَتْ حَفْصَةُ
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها إذَا أَرَادَتْ أَنْ تُزَوِّجَ امْرَأَةً
أَمَرَتْ أَخَاهَا عَبْدَ اللَّهِ فَيُزَوِّجُ. وَرُوِّينَا نَحْوَ هَذَا أَيْضًا،
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وَابْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَرُوِّينَا: عَنِ الْحَجَّاجِ
بْنِ الْمِنْهَالِ نَا أَبُو هِلاَلٍ، قَالَ: سَأَلْت الْحَسَنَ فَقُلْت: سَأَلْت
أَبَا سَعِيدٍ، عَنْ امْرَأَةٍ خَطَبَهَا رَجُلٌ وَوَلِيُّهَا غَائِبٌ
بِسِجِسْتَانَ، وَلِوَلِيِّهَا هَاهُنَا وَلِيٌّ، أَيُزَوِّجُهَا وَلِيُّ
وَلِيِّهَا قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ اُكْتُبُوا إلَيْهِ، قُلْت لَهُ: إنَّ الْخَاطِبَ
لاَ يَصْبِرُ قَالَ: فَلْيَصْبِرْ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إلَى مَتَى يَصْبِرُ قَالَ
الْحَسَنُ: يَصْبِرُ كَمَا صَبَرَ أَهْلُ الْكَهْفِ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ
زَيْدٍ، وَمَكْحُولٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ،
وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ
قَدِيمٌ، وَحَدِيثٌ: كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ بَشَّارٍ بِنْدَارٌ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
(9/454)
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: بَحْرِيَّةُ، زَوَّجَتْهَا أُمُّهَا، وَكَانَ أَبُوهَا غَائِبًا، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُوهَا أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ فَأَجَازَ ذَلِكَ. قَالَ شُعْبَةُ: وَأَخْبَرَنِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا قَيْسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِمِثْلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ نَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت الْقَعْقَاعَ، قَالَ: إنَّهُ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً مِنَّا يُقَالُ لَهَا: بَحْرِيَّةُ، زَوَّجَتْهَا إيَّاهُ أُمُّهَا، فَجَاءَ أَبُوهَا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَاخْتَصَمَا إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَجَازَهُ. وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ: عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ بِالشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ الْمُنْذِرُ أَمْرَهَا إلَيْهِ فَأَجَازَهُ. وَرُوِّينَا أَنَّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أَبِي الرَّبِيعِ، وَأُمَّهَا زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَكَانَتْ تَحْتَ عَلِيٍّ، فَدَعَتْ بِالْمُغِيرَةِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَيْهِ فَأَنْكَحَهَا نَفْسَهُ، فَغَضِبَ مَرْوَانُ، وَكَتَبَ ذَلِكَ إلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: دَعْهُ وَإِيَّاهَا. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي امْرَأَةٍ لاَ وَلِيَّ لَهَا، فَوَلَّتْ رَجُلاً أَمْرَهَا، فَزَوَّجَهَا، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَطَاءً، عَنْ امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وُلاَتِهَا وَهُمْ حَاضِرُونَ، فَقَالَ أَمَّا امْرَأَةٌ مَالِكَةٌ أَمْرَ نَفْسِهَا إذَا كَانَ بِشُهَدَاءَ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوُلاَةِ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي امْرَأَةٍ زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَوْلِيَائِهَا، قَالَ: إنْ أَجَازَ الْوُلاَةُ ذَلِكَ إذَا عَلِمُوا، فَهَذَا جَائِزٌ وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. قَالَ الأَوْزَاعِيُّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا وَلَهَا مِنْ أَمْرِهَا نَصِيبٌ، وَدَخَلَ بِهَا، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لاَ يَجُوزُ أَنْ تُزَوِّجَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، وَلاَ أَنْ تُزَوِّجَهَا امْرَأَةٌ وَلَكِنْ إنْ زَوَّجَهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ جَازَ، الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَمَّا الْبِكْرُ فَلاَ يُزَوِّجُهَا إِلاَّ وَلِيُّهَا، وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَتُوَلِّي أَمْرَهَا مَنْ شَاءَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُزَوِّجُهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِي ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ. وقال مالك: أَمَّا الدَّنِيئَةُ، كَالسَّوْدَاءِ، أَوْ الَّتِي أَسْلَمْت، أَوْ الْفَقِيرَةُ، أَوْ النَّبَطِيَّةُ، أَوْ الْمُوَلَّاةُ، فَإِنْ زَوَّجَهَا الْجَارُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ لَهَا بِوَلِيٍّ فَهُوَ جَائِزٌ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي لَهَا الْمَوْضِعُ، فَإِنْ زَوَّجَهَا غَيْرُ وَلِيِّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْوَلِيُّ، أَوْ السُّلْطَانُ: جَازَ، فَإِنْ تَقَادَمَ أَمْرُهَا وَلَمْ يُفْسَخْ، وَوَلَدَتْ لَهُ الأَوْلاَدَ: لَمْ نَفْسَخْ. وقال أبو حنيفة، وَزُفَرُ، جَائِزٌ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا كُفُؤًا، وَلاَ اعْتِرَاضَ لِوَلِيِّهَا فِي ذَلِكَ، فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا غَيْرَ كُفْءٍ، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلِلأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُخَاصِمَ فِيمَا حَطَّتْ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَأَجَازَهُ الْوَلِيُّ جَازَ، فَإِنْ
(9/455)
أَبَى أَنْ يُجِيزَ وَالزَّوْجُ كُفُؤٌ أَجَازَهُ
الْقَاضِي، وَلاَ يَكُونُ جَائِزًا إِلاَّ حَتَّى يُجِيزَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَلِيُّ اسْتَأْنَفَ الْقَاضِي
فِيهِ عَقْدًا جَدِيدًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي يُوسُفَ:
فَظَاهِرُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ، لأََنَّهُمَا نَقَضَا قَوْلِهِمَا "
لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ " إذْ أَجَازَا لِلْوَلِيِّ إجَازَةَ مَا
أَخْبَرَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، لأََنَّهُ
أَجَازَ لِلْمَرْأَةِ إنْكَاحَ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ ثُمَّ أَجَازَ
لِلْوَلِيِّ فَسْخَ الْعَقْدِ الْجَائِزِ، فَهِيَ أَقْوَالٌ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهَا
بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ لاَ صَحِيحَةٍ، وَلاَ سَقِيمَةٍ، وَلاَ بِقَوْلِ
صَاحِبٍ، وَلاَ بِمَعْقُولٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ وَهَذَا لاَ
يُقْبَلُ إِلاَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لاَ يَنْطِقُ،
عَنِ الْهَوَى، إِلاَّ، عَنِ الْوَحْيِ مِنْ الْخَالِقِ، الَّذِي لاَ يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ عليه الصلاة والسلام فَهُوَ دِينٌ
جَدِيدٌ، يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهِ فِي الْحَشْرِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ:
فَظَاهِرُ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّنِيَّةِ وَغَيْرِ
الدَّنِيَّةِ، وَمَا عَلِمْنَا الدَّنَاءَةَ إِلاَّ مَعَاصِيَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا السَّوْدَاءُ، وَالْمَوْلاَةُ: فَقَدْ كَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ رضي الله
عنها سَوْدَاءَ وَمَوْلاَةً، وَوَاللَّهِ مَا بَعْدَ أَزْوَاجِهِ عليه الصلاة
والسلام فِي هَذِهِ الأُُمَّةِ امْرَأَةٌ أَعْلَى قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى
وَعِنْدَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ كُلِّهِمْ مِنْهَا. وَأَمَّا الْفَقِيرَةُ: فَمَا
الْفَقْرُ دَنَاءَةٌ، فَقَدْ كَانَ فِي الأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام
الْفَقِيرُ الَّذِي أَهْلَكَهُ الْفَقْرُ وَهُمْ أَهْلُ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ
حَقًّا وَقَدْ كَانَ قَارُونُ، وَفِرْعَوْنُ، وَهَامَانُ: مِنْ الْغِنَى بِحَيْثُ
عُرِفَ وَهُمْ أَهْلُ الدَّنَاءَةِ وَالرَّذَالَةِ حَقًّا. وَأَمَّا
النَّبَطِيَّةُ: فَرُبَّ نَبَطِيَّةٍ لاَ يَطْمَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ
لِيَسَارِهَا، وَعُلُوِّ حَالِهَا فِي الدُّنْيَا، وَرُبَّ بِنْتِ خَلِيفَةٍ
هَلَكَتْ فَاقَةً وَجَهْدًا وَضَيَاعًا. ثُمَّ قَوْلُهُ " يُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا فَإِنْ طَالَ الأَمْرُ وَوَلَدَتْ مِنْهُ الأَوْلاَدَ لَمْ يُفَرَّقْ
بَيْنَهُمَا " فَهَذَا عَيْنُ الْخَطَأِ، إنَّمَا هُوَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ،
وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَلَيْسَ لأََحَدٍ نَقْضُ
الْحَقِّ إثْرَ عَقْدِهِ، وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَاطِلاً فَالْبَاطِلُ
مَرْدُودٌ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُوقَفُ عِنْدَهُ. وَمَا نَعْلَمُ قَوْلَ
مَالِكٍ هَذَا قَالَهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَلاَ غَيْرُهُ، إِلاَّ مَنْ قَلَّدَهُ،
وَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ بِأَثَرٍ
سَاقِطٍ، وَلاَ بِقَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ، وَلاَ مَعْقُولٍ، وَلاَ قِيَاسٍ،
وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ يُعْرَفُ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ: فَإِنَّ قَوْلَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ
وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ
كُلَّ مُسْلِمٍ"، لأََنَّ مُرَاعَاةَ اشْتِجَارِ جَمِيعِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ
النَّاسِ مُحَالٌ، وَحَاشَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَأْمُرَ
بِمُرَاعَاةِ مُحَالٍ لاَ يُمْكِنُ فَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَنَى
قَوْمًا خَاصَّةً يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَجِرُوا فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ، لاَ حَقَّ
لِغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فَالسُّلْطَانُ
وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ" بَيَانٌ جَلِيٌّ بِمَا قلنا
(9/456)
إذْ لَوْ أَرَادَ عليه الصلاة والسلام كُلَّ مُسْلِمٍ
لَكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ مُحَالاً بَاطِلاً، وَحَاشَ لَهُ مِنْ
فِعْلِ ذَلِكَ.فَصَحَّ أَنَّهُمْ الْعَصَبَةُ الَّذِينَ يُوجَدُونَ لِبَعْضِ
النِّسَاءِ، وَلاَ يُوجَدُونَ لِبَعْضِهِنَّ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ
فَإِنَّمَا عُوِّلَ عَلَى الْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مِنْ قَوْلِهِ: "الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا وَالثَّيِّبُ
أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا" .
قال أبو محمد: وَهَذَا لَوْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُهُ لَكَانَ كَمَا قَالَ أَبُو
سُلَيْمَانَ، لَكِنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ
بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ عُمُومٌ لِكُلِّ امْرَأَةٍ
ثَيِّبٍ أَوْ بِكْرٍ. وَبَيَانُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه
الصلاة والسلام وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا أَنَّهُ لاَ
يَنْفُذُ فِيهَا أَمْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا، وَلاَ تَنْكِحُ إِلاَّ مَنْ شَاءَتْ،
فَإِذَا أَرَادَتْ النِّكَاحَ لَمْ يَجُزْ لَهَا إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِمَا،
فَإِنْ أَبَى أَنْكَحَهُمَا السُّلْطَانُ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ الْوَلِيِّ
الآبِيِّ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ لِلْوَلِيِّ مَعْنًى فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَبِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} . وَقَدْ قلنا: إنَّ قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى
مِنْكُمْ} بَيَانٌ فِي أَنَّ نِكَاحَهُنَّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِإِذْنِ
الْوَلِيِّ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله
عنها زَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا
لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فَهَذَا
خَارِجٌ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ
إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ . وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا
الْقَوْلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الزَّائِدُ عَلَى
مَعْهُودِ الأَصْلِ، لأََنَّ الأَصْلَ بِلاَ شَكٍّ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ مَنْ
شَاءَتْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَالشَّرْعُ الزَّائِدُ هُوَ الَّذِي لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ،
لأََنَّهُ شَرِيعَةٌ وَارِدَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، كَالصَّلاَةِ بَعْدَ أَنْ
لَمْ تَكُنْ، وَالزَّكَاةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ، وَلاَ
فَرْقَ. وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ فِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ
زَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها مِنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم. وَهَذَا خَبَرٌ إنَّمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ
بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ
كَالْقَوْلِ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ سَوَاءً سَوَاءً، مَعَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
أَبِي سَلَمَةَ كَانَ يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ، هَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالأَخْبَارِ، فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ
يَعْتَمِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَقْدِ مَنْ لاَ يَجُوزُ
عَقْدُهُ. وَيَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا كُلِّهِ مَا حَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دُحَيْمِ بْنِ
خَلِيلٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ
إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَارِمٌ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} قَالَ: فَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهْلُوكُنَّ
(9/457)
وَزَوَّجَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ مُبَيِّنٌ أَنَّ جَمِيعَ نِسَائِهِ عليه السلام إنَّمَا زَوَّجَهُنَّ أَوْلِيَاؤُهُنَّ حَاشَ زَيْنَبَ رضي الله تعالى عنها فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَوَّجَهَا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام. وَصَحَّ بِهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أُمِّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّجَاشِيَّ زَوَّجَهَا أَيْ تَوَلَّى أَمْرَهَا وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ وَكَانَ الْعَقْدُ بِحَضْرَتِهِ، قَدْ كَانَ هُنَالِكَ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعَمْرٌو، وَخَالِدٌ، ابْنَا سَعْدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَكَيْفَ يُزَوِّجُهَا النَّجَاشِيُّ بِمَعْنَى يَتَوَلَّى عَقْدَ نِكَاحِهَا وَهَؤُلاَءِ حُضُورٌ رَاضُونَ مَسْرُورُونَ آذِنُونَ فِي ذَلِكَ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ. وَأَمَّا تَزْوِيجُهُ عليه الصلاة والسلام الْمَرْأَةَ بِتَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ كَانَ لَهَا وَلِيٌّ أَصْلاً فَلاَ يُعْتَرَضُ عَلَى الْيَقِينِ بِالشُّكُوكِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ ذَكَرُوهُ، كَخَبَرِ نِكَاحِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا جَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبَّاسِ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام. وَنِكَاحِ أَبِي طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ رضي الله عنها عَلَى الإِسْلاَمِ فَقَطْ، أَنْكَحَهَا إيَّاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ صَغِيرٌ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ. فَهَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِإِبْطَالِهِ عليه الصلاة والسلام النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَسَائِرُ الأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ نِسَاءً أُنْكِحْنَ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِنَّ، فَرَدَّ عليه الصلاة والسلام نِكَاحَهُنَّ وَجَعَلَ إلَيْهِنَّ إجَازَةَ ذَلِكَ إنْ شِئْنَ فَكُلُّهَا أَخْبَارٌ لاَ تَصِحُّ إمَّا مُرْسَلَةٌ، وَأَمَّا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ غُرَابٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَظَهَرَ صِحَّةُ قَوْلِنَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ لاَ يَجُوزُ إنْكَاحُ الأَبْعَدِ مِنْ الأَوْلِيَاءِ مَعَ وُجُودِ الأَقْرَبِ، فَلأََنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَلْتَقُونَ فِي أَبٍ بَعْدَ أَبٍ إلَى آدَمَ عليه السلام بِلاَ شَكٍّ، فَلَوْ جَازَ إنْكَاحُ الأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الأَقْرَبِ لَجَازَ إنْكَاحُ كُلِّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ لأََنَّهُ يَلْقَاهَا بِلاَ شَكٍّ فِي بَعْضِ آبَائِهَا، فَإِنْ حَدُّوا فِي ذَلِكَ حَدًّا كُلِّفُوا الْبُرْهَانَ عَلَيْهِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لاَ حَقَّ مَعَ الأَقْرَبِ لِلأَبْعَدِ، ثُمَّ إنْ عُدِمَ فَمَنْ فَوْقَهُ بَابٌ هَكَذَا أَبَدًا مَا دَامَ يُعْلَمُ لَهَا وَلِيٌّ عَاصِبٌ، كَالْمِيرَاثِ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَلِيُّ غَائِبًا فَلاَ بُدَّ مِنْ انْتِظَارِهِ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهَا قلنا: الضَّرُورَةُ لاَ تُبِيحُ الْفُرُوجَ وَقَدْ وَافَقَنَا الْمَالِكِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلزَّوْجِ الْغَائِبِ مَالٌ يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى الْمَرْأَةِ لَمْ تَطْلُقْ عَلَيْهِ وَإِنْ أَضَرَّتْ غَيْبَتُهُ بِهَا فِي فَقْدِ الْجِمَاعِ وَضَيَاعِ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهَا وَوَافَقَنَا الْحَنَفِيُّونَ فِي أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ عَلَيْهِ، وَلاَ ضَرَرَ أَضَرَّ مِنْ عَدَمِ النَّفَقَةِ. ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ فِي حَدِّ الْغَيْبَةِ الَّتِي يَنْتَظِرُونَ الْوَلِيَّ فِيهَا مِنْ الْغَيْبَةِ الَّتِي لاَ يَنْتَظِرُونَهُ فِيهَا، فَإِنَّهُمْ لاَ يَأْتُونَ إِلاَّ بِفَضِيحَةٍ، وَبِقَوْلٍ لاَ يُعْقَلُ وَجْهُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(9/458)
وللاب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر مالم تبلغ
...
1822 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ الْبِكْرَ
مَا لَمْ تَبْلُغْ بِغَيْرِ إذْنِهَا، وَلاَ خِيَارَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ فَإِنْ
كَانَتْ ثَيِّبًا مِنْ زَوْجٍ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا لَمْ يَجُزْ لِلأَبِ،
وَلاَ لِغَيْرِهِ
(9/458)
أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى تَبْلُغَ، وَلاَ إذْنَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ. وَإِذَا بَلَغَتْ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ لَمْ يَجُزْ لِلأَبِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا، فَإِنْ وَقَعَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا. فأما الثَّيِّبُ فَتَنْكِحُ مَنْ شَاءَتْ، وَإِنْ كَرِهَ الأَبُ. وَأَمَّا الْبِكْرُ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا نِكَاحٌ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ إذْنِهَا وَإِذْنِ أَبِيهَا. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ الَّتِي لاَ أَبَ لَهَا فَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يُنْكِحَهَا لاَ مِنْ ضَرُورَةٍ، وَلاَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ حَتَّى تَبْلُغَ، وَلاَ لأََحَدٍ أَنْ يُنْكِحَ مَجْنُونَةً حَتَّى تُفِيقَ وَتَأْذَنَ، إِلاَّ الأَبَ فِي الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ وَهِيَ مَجْنُونَةٌ فَقَطْ. وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ: قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ يَجُوزُ إنْكَاحُ الأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ إِلاَّ حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ، وَرَأَى أَمْرَ عَائِشَةَ رضي الله عنها خُصُوصًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَالْمَوْهُوبَةِ، وَنِكَاحُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إنْكَاحُ الأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ الثَّيِّبَ، وَالْبِكْرَ وَإِنْ كَرِهَتَا جَائِزٌ عَلَيْهِمَا. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَعُبَيْدَةُ، قَالَ مَنْصُورٌ: عَنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ عُبَيْدَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالاَ جَمِيعًا: إنَّ نِكَاحَ الأَبِ ابْنَتَهُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا جَائِزٌ. وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَوْلاً آخَرَ: كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْبِكْرُ لاَ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا وَالثَّيِّبُ إنْ كَانَتْ فِي عِيَالٍ اسْتَأْمَرَهَا. وقال مالك: أَمَّا الْبِكْرُ فَلاَ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا بَلَغَتْ أَوْ لَمْ تَبْلُغْ، عَنَسَتْ أَوْ لَمْ تَعْنِسْ وَيَنْفُذُ إنْكَاحُهُ لَهَا وَإِنْ كَرِهَتْ، وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ مَعَهُ سَنَةً وَشَهِدَتْ الْمَشَاهِدَ لَمْ تَجُزْ لِلأَبِ أَنْ يُنْكِحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِهَا وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا لَمْ يَطَأْهَا. قَالَ: وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَلاَ يَجُوزُ إنْكَاحُ الأَبِ، وَلاَ غَيْرِهِ عَلَيْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا. قَالَ: وَالْجَدُّ بِخِلاَفِ الأَبِ فِيمَا ذَكَرْنَا، لاَ يُزَوِّجْ الْبِكْرَ، وَلاَ غَيْرَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا كَسَائِرِ الأَوْلِيَاءِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ أَبَ لَهَا فَأَجَازَ إنْكَاحَ الأَخِ لَهَا إذَا كَانَ نَظَرًا لَهَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، وَمَنْ مَنَعَهُ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ. وقال أبو حنيفة، وَأَبُو سُلَيْمَانَ يُنْكِحُ الأَبُ الصَّغِيرَةَ مَا لَمْ تَبْلُغْ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا فَإِذَا بَلَغَتْ نَكَحَتْ مَنْ شَاءَتْ، وَلاَ إذْنَ لِلأَبِ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الأَوْلِيَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ إنْكَاحُهُ لَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا. وقال أبو حنيفة: وَالْجَدُّ كَالأَبِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وقال الشافعي: يُزَوِّجُ الأَبُ وَالْجَدُّ لِلأَبِ إنْ كَانَ الأَبُ قَدْ مَاتَ: الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ، وَلاَ إذْنَ لَهَا إذَا بَلَغَتْ، وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ الْكَبِيرَةُ. وَلاَ يُزَوِّجُ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ أَحَدٌ حَتَّى تَبْلُغَ، سَوَاءٌ بِإِكْرَاهٍ ذَهَبَتْ عُذْرَتُهَا أَوْ بِرِضًا، بِحَرَامٍ أَوْ حَلاَلٍ. وَأَمَّا الثَّيِّبُ الْكَبِيرَةُ فَلاَ يُزَوِّجُهَا الأَبُ، وَلاَ الْجَدُّ، وَلاَ غَيْرُهُمَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا، وَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ إذَا كَانَتْ بَالِغًا.
(9/459)
قال أبو محمد: الْحُجَّةُ فِي إجَازَةِ إنْكَاحِ الأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ الْبِكْرَ إنْكَاحُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ غَنِيٌّ، عَنْ إيرَادِ الإِسْنَادِ فِيهِ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ خُصُوصٌ لَمْ يُلْتَفَتْ لِقَوْلِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام فَلَنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهِ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِأَنَّهُ لَهُ خُصُوصٌ. فإن قال قائل: فَإِنَّ هَذَا فِعْلٌ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام وَلَيْسَ قَوْلاً، فَمِنْ أَيْنَ خَصَّصْتُمْ الْبِكْرَ دُونَ الثَّيِّبِ، وَالصَّغِيرَةَ دُونَ الْكَبِيرَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أُصُولِكُمْ قلنا: نَعَمْ، إنَّمَا اقْتَصَرْنَا عَلَى الصَّغِيرَةِ الْبِكْرِ لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ سَمِعَ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ يُخْبِرُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا" . فَخَرَجَتْ الثَّيِّبُ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً بِعُمُومِ هَذَا الْخَبَرِ، وَخَرَجَتْ الْبِكْرُ الْبَالِغُ بِهِ أَيْضًا، لأََنَّ الأَسْتِئْذَانَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِلْبَالِغِ الْعَاقِلِ لِلأَثَرِ الثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ فَذَكَرَ فِيهِمْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَخَرَجَ الْبِكْرُ الَّتِي لاَ أَبَ لَهَا بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ أَيْضًا، فَلَمْ تَبْقَ إِلاَّ الصَّغِيرَةُ الْبِكْرُ ذَاتُ الأَبِ فَقَطْ. فإن قيل: فَلِمَ لَمْ تُجِيزُوا إنْكَاحَ الْجَدِّ لَهَا كَالأَبِ قلنا: لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ إِلاَّ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ فَقَطْ، وَهُوَ الأَبُ الأَدْنَى، وَبِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الَّتِي بَقِيَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ وَلَمْ يَطَأْهَا أَنَّ أَبَاهَا يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا، فَإِنْ أَتَمَّتْ مَعَ زَوْجِهَا سَنَةً وَشَهِدَتْ الْمَشَاهِدَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا. فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ تَحَكُّمٌ لاَ يَعْضُدُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ قَبْلَهُ جُمْلَةً، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ. وَأَمَّا إلْحَاقُ الشَّافِعِيِّ الصَّغِيرَةَ الْمَوْطُوءَةَ بِحَرَامٍ بِالثَّيِّبِ، فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ، لأََنَّنَا نَسْأَلُهُمْ إنْ بَلَغَتْ فَزَنَتْ: أَبِكْرٌ هِيَ فِي الْحَدِّ أَمْ ثَيِّبٌ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهَا بِكْرٌ، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ، وَصَحَّ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبِكْرِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ لِلثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ إذَا بَلَغَتْ أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ وَإِنْ كَرِهَ أَبُوهَا وَمَنْ جَعَلَ لِلأَبِ أَنْ يُنْكِحَهَا وَإِنْ كَرِهَتْ فَكِلاَهُمَا خَطَأٌ بَيِّنٌ، لِلأَثَرِ الثَّابِتِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا" . فَفَرَّقَ عليه الصلاة والسلام بَيْنَ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ فَجَعَلَ لِلثَّيِّبِ أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لاَ أَمْرَ لِلأَبِ فِي إنْكَاحِهَا، وَأَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْهُ وَمِنْ
(9/460)
غَيْرِهِ، وَجَعَلَ الْبِكْرَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ،
وَأَوْجَبَ عَلَى الأَبِ أَنْ يَسْتَأْمِرَهَا.فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ
اجْتِمَاعِ الأَمْرَيْنِ: إذْنُهَا، وَاسْتِئْذَانُ أَبِيهَا، وَلاَ يَصِحُّ لَهَا
نِكَاحٌ، وَلاَ عَلَيْهَا إِلاَّ بِهِمَا جَمِيعًا. وَقَوْله تَعَالَى {وَلاَ
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} مُوجِبٌ أَنْ لاَ يَجُوزَ عَلَى
الْبَالِغَةِ الْبِكْرِ إنْكَاحُ أَبِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا، وَقَدْ جَاءَتْ
بِهَذَا آثَارٌ صِحَاحٌ: ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ
أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى،
حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَجُلاً زَوَّجَ
ابْنَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قال أبو محمد: مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ هَذَا هُوَ الأَشْعَرِيُّ ثِقَةٌ
مَأْمُونٌ لَيْسَ هُوَ الأَنْدَلُسِيَّ الْحَضْرَمِيَّ، ذَلِكَ ضَعِيفٌ، وَهُوَ
قَدِيمٌ. وبه إلى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد
الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ
حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي
زَوَّجَنِي وَهِيَ كَارِهَةٌ فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِكَاحَهَا .
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، حَدَّثَنَا
دُحَيْمٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
قَالَ: إنَّ رَجُلاً زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِكْرًا فَكَرِهَتْ فَأَتَتْ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نِكَاحَهَا . حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ،
حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ
فَضَالَةَ نَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى
تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ إذْنُهَا قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ".
قال أبو محمد: الآثَارُ هَاهُنَا كَثِيرَةٌ، وَفِيهِ ذَكَرْنَا كِفَايَةً، وَقَدْ
جَاءَ فِي رَدِّ نِكَاحِ الأَبِ ابْنَتَهُ الثَّيِّبَ بِغَيْرِ إذْنِهَا حَدِيثُ
خَنْسَاءَ بِنْتِ خِدَامٍ. قَالَ عَلِيٌّ: وقال بعضهم: زَوَّجَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم بَنَاتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُنَّ.فَقُلْنَا: هَذَا لاَ يُعْرَفُ
فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَى كَاذِبَةٌ، بَلْ قَدْ
جَاءَتْ آثَارٌ مُرْسَلَةٌ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ
يَسْتَأْمِرُهُنَّ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا فِي "كِتَابِ الإِيصَالِ" مَا
اعْتَرَضَ بِهِ مَنْ لاَ يُبَالِي مِمَّا أَطْلَقَ بِهِ لِسَانَهُ فِي الآثَارِ
الَّتِي أَوْرَدْنَا، بِمَا لاَ مَعْنَى لَهُ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِ النَّاسِ
لَهَا بِلَفْظٍ مُخَالِفٍ لِلَّفْظِ الَّذِي رُوِّينَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكُلُّ
ذَلِكَ لاَ مَعْنَى لَهُ، لأََنَّ اخْتِلاَفَ الأَلْفَاظِ لَيْسَ عِلَّةً فِي
الْحَدِيثِ، بَلْ إنْ كَانَ رَوَى جَمِيعَهَا الثِّقَاتُ وَجَبَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ
كُلُّهَا، وَيُحْكَمَ بِمَا اقْتَضَاهُ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهَا، وَلاَ يَجُوزُ
تَرْكُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، لأََنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ بِجَمِيعِهَا وَطَاعَةَ
كُلِّ مَا صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فَرْضٌ عَلَى الْجَمِيعِ،
وَمُخَالَفَةَ شَيْءٍ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ
رَوَى بَعْضَهَا ضَعِيفٌ فَالأَحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى
(9/461)
مَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ ضَلاَلٌ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ
قَوْلِنَا، عَنِ السَّلَفِ: ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ
الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ إذَا
أَرَادَ أَنْ يُنْكِحَ إحْدَى بَنَاتِهِ قَعَدَ إلَى خِدْرِهَا فَأَخْبَرَهَا
أَنَّ فُلاَنًا يَخْطُبُهَا. حَدَّثَنَا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ نَا ابْنُ
مُفَرِّجٍ نَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حَدَّثَنَا الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَسْتَأْمِرُ بَنَاتِهِ فِي نِكَاحِهِنَّ. وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُسْتَأْمَرُ
النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ. قَالَ ابْنُ طَاوُوس: الرِّجَالُ فِي ذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ الْبَنَاتِ لاَ يُكْرَهُونَ وَأَشَدُّ شَأْنًا. وبه إلى عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
قَالَ: يَسْتَأْمِرُ الأَبُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَجَازَ عَلَى الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ
إنْكَاحَ أَبِيهَا لَهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا مُتَعَلِّقًا أَصْلاً، إِلاَّ أَنْ
قَالُوا: قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ إنْكَاحِهِ لَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَهِيَ عَلَى
ذَلِكَ بَعْدَ الْكِبَرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّصَّ
فَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ عليه
الصلاة والسلام: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثَةٍ فَذَكَرَ: الصَّغِيرِ
حَتَّى يَكْبَرَ" . وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ
فَاسِدٌ، وَإِذْ صَحَّحُوا قِيَاسَ الْبَالِغَةِ عَلَى غَيْرِ الْبَالِغَةِ
فَلْيَلْزَمْهُمْ أَنْ يَقِيسُوا الْجَدَّ فِي ذَلِكَ عَلَى الأَبِ، وَسَائِرَ
الأَوْلِيَاءِ عَلَى الأَبِ أَيْضًا، وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا فِي
قِيَاسِهِمْ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ النُّصُوصُ الَّتِي أَوْرَدْنَا فِي رَدِّ
إنْكَاحِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَإِذَا بَلَغَتْ الْمَجْنُونَةُ وَهِيَ ذَاهِبَةُ الْعَقْلِ فَلاَ
إذْنَ لَهَا، وَلاَ أَمْرَ، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ لاَ يُنْكِحُهَا الأَبُ، وَلاَ
غَيْرُهُ حَتَّى يُمْكِنَ اسْتِئْذَانُهَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم.
(9/462)
ولا يجوز للاب ولا لغيره النكاح الضغير الذكر حتى يبلغ
...
1823 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ لِلأَبِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ إنْكَاحُ الصَّغِيرِ
الذَّكَرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، وَأَجَازَهُ
قَوْمٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ إِلاَّ قِيَاسُهُ عَلَى الصَّغِيرَةِ. قَالَ عَلِيٌّ:
وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ قَدْ
عَارَضَ هَذَا الْقِيَاسَ قِيَاسٌ آخَرُ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَدْ
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الذَّكَرَ إذَا بَلَغَ لاَ مَدْخَلَ لأََبِيهِ، وَلاَ
لِغَيْرِهِ فِي إنْكَاحِهِ أَصْلاً، وَأَنَّهُ فِي ذَلِكَ بِخِلاَفِ الأُُنْثَى
الَّتِي لَهُ فِيهَا مَدْخَلٌ إمَّا بِإِذْنٍ، وَأَمَّا بِإِنْكَاحٍ، وَأَمَّا
بِمُرَاعَاةِ الْكُفْءِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا
مُخْتَلِفَيْنِ قَبْلَ الْبُلُوغِ.
قال أبو محمد : قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
إِلاَّ عَلَيْهَا} مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ عَقْدِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ أَنْ
يُوجِبَ إنْفَاذَ ذَلِكَ نَصُّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، وَلاَ نَصَّ، وَلاَ
(9/462)
سُنَّةَ فِي جَوَازِ إنْكَاحِ الأَبِ لأَبْنِهِ الصَّغِيرِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا أَنْكَحَ الصَّغِيرَيْنِ أَبَوَاهُمَا فَهُمَا بِالْخِيَارِ إذَا كَبَرَا، وَلاَ يَتَوَارَثَانِ إنْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ. وبه إلى مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إذَا أَنْكَحَ الصَّبِيَّيْنِ أَبَوَاهُمَا فَمَاتَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَا فَلاَ مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، قَالَ مَعْمَرٌ: سَوَاءٌ أَنْكَحَهُمَا أَبَوَاهُمَا أَوْ غَيْرُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/463)
1824 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْبِكْرُ وَلَمْ يُسْلِمْ أَبُوهَا، أَوْ كَانَ مَجْنُونًا فَهِيَ فِي حُكْمِ الَّتِي لاَ أَبَ لَهَا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَطَعَ الْوِلاَيَةَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} . وَصَحَّ فِي الْمَجْنُونِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثَةٍ" فَذَكَرَ مِنْهُمْ "الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ" . وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِاسْتِئْمَارِهَا، وَلاَ بِإِنْكَاحِهَا، وَإِنَّمَا خَاطَبَ عَزَّ وَجَلَّ أُولِي الأَلْبَابِ، فَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ بِإِذْنِ غَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَوْ السُّلْطَانِ. وَكَذَلِكَ الَّتِي أَسْلَمَ أَبُوهَا وَلَمْ تُسْلِمْ هِيَ، فَإِنْ أَسْلَمَ أَوْ أَسْلَمَتْ أَوْ عَقَلَ: رَجَعَتْ إلَى حُكْمِ ذَاتِ الأَبِ لِدُخُولِهِ فِي الأَمْرِ بِإِنْكَاحِهَا وَاسْتِئْذَانِهَا. وَالأَمَةُ الصَّغِيرَةُ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا لَيْسَ لَهَا أَبٌ فَلاَ يَجُوزُ لِسَيِّدِهَا إنْكَاحُهَا، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ إِلاَّ فِي الأَبِ فَقَطْ، وَلَيْسَ لأََبِيهَا وَإِنْ كَانَ حُرًّا إنْكَاحُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا، لأََنَّهُ بِذَلِكَ كَاسِبٌ عَلَى سَيِّدِهَا، إذْ هِيَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا. وَالْبُرْهَانُ عَلَى مَا قلنا مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إنْكَاحُ أَمَتِهِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ وَالصَّغِيرُ لاَ يُوصَفُ بِصَلاَحٍ فِي دِينِهِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الصَّالِحِينَ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ فَهُوَ مِنْ الصَّالِحِينَ بِقَوْلِ: لاَ إلَه إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(9/463)
ولا أذن للوصى في النكاح أصلا لا للرجل ولا للمرأة
...
1825 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ إذْنَ لِلْوَصِيِّ فِي إنْكَاحٍ أَصْلاً، لاَ لِرَجُلٍ،
وَلاَ لأَمْرَأَةٍ: صَغِيرَيْنِ كَانَا، أَوْ كَبِيرَيْنِ، لأََنَّ الصَّغِيرَيْنِ
مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الذَّكَرَ مِنْهُمَا لاَ
يَجُوزُ أَنْ يُنْكِحَهُ أَبٌ، وَلاَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ الأُُنْثَى مِنْهُمَا لاَ
يَجُوزُ أَنْ يُنْكِحَهَا إِلاَّ الأَبُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْكَبِيرَانِ فَلاَ
يَخْلُوَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَا مَجْنُونَيْنِ أَوْ عَاقِلَيْنِ. فَإِنْ كَانَا
مَجْنُونَيْنِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لاَ يُنْكِحُهَا أَحَدٌ، لاَ أَبٌ، وَلاَ
غَيْرُهُ. وَأَمَّا الْعَاقِلاَنِ الْبَالِغَانِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
عَلَيْهِمَا وَصِيٌّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي " كِتَابِ الْحَجْرِ "
فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ: لاَ مَدْخَلَ لِلْوَصِيِّ فِي
الإِنْكَاحِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابُهُمْ فَإِنْ مَوَّهَ مُمَوِّهٌ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ،
عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ
(9/463)
1826 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَوْصَى إذَا مَاتَ أَنْ تُزَوَّجَ ابْنَتُهُ الْبِكْرُ الصَّغِيرَةُ أَوْ الْبَالِغُ فَهِيَ وَصِيَّةٌ فَاسِدَةٌ لاَ يَجُوزُ إنْفَاذُهَا. برهان ذَلِكَ: أَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا مَاتَ أَبُوهَا صَارَتْ يَتِيمَةً وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِأَنْ لاَ تُنْكَحَ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَلَيْسَ لأََبِيهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا فِي حَيَاتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا فَكَيْفَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ وَلَيْسَ مِنْ تِلْكَ الثَّلاَثِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ.
(9/464)
1827- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ النِّكَاحُ إِلاَّ
بِاسْمِ الزَّوَاجِ أَوْ النِّكَاحِ، أَوْ التَّمْلِيكِ، أَوْ الإِمْكَانِ. وَلاَ
يَجُوزُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَبِلَفْظٍ غَيْرِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، أَوْ بِلَفْظِ
الأَعْجَمِيَّةِ يُعَبَّرُ بِهِ، عَنِ الأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِمَنْ
يَتَكَلَّمُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ وَيُحْسِنُهَا. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} . وَقَوْله تَعَالَى
{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ} . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا} . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ
بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ
الْمَدَنِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ
أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَالرَّجُلَ الَّذِي خَطَبَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم : "وَقَدْ أَنْكَحْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ" .
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
وَكِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ،
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلرَّجُلِ:
"قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ" . وَرُوِّينَا
أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ فِيهِ: "فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ
الْقُرْآنِ" .
قال أبو محمد: فإن قيل: فَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ فَقَالَ فِيهِ قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا. وَرَوَاهُ:
زَائِدَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الدَّرَاوَرْدِيُّ، كُلُّهُمْ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ، فَقَالُوا فِيهِ
فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَوْطِنٌ وَاحِدٌ،
وَرَجُلٌ وَاحِدٌ، وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ: نَعَمْ، كُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، هُوَ ابْنُ
سُلَيْمَانَ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ
الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى نَا ثُمَامَةُ بْنُ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ كَانَ
(9/464)
1828 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَتِمُّ النِّكَاحُ إِلاَّ
بِإِشْهَادِ عَدْلَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ بِإِعْلاَنٍ عَامٍّ، فَإِنْ اسْتَكْتَمَ
الشَّاهِدَانِ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ شَيْئًا.حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ
الْعُذْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالاَ: ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
الرَّازِيّ الْمُطَّوِّعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: سَمِعْت أَبَا بَكْرِ بْنَ إِسْحَاقَ
الإِمَامَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ قَالَ الْحَاكِمُ: ثُمَّ
سَأَلْت أَبَا عَلِيٍّ فَحَدَّثَنِي قَالَ: ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ إِسْحَاقَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ الْحَجَّاجَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا امْرَأَةٍ
نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ،
وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ، وَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ
مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ.
قال أبو محمد: لاَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، غَيْرُ هَذَا السَّنَدِ
يَعْنِي ذِكْرَ شَاهِدَيْ عَدْلٍ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِصِحَّتِهِ.
فإن قيل: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ النِّكَاحَ بِالإِعْلاَنِ الْفَاشِي،
وَبِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عُدُولٍ، وَبِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ
عُدُولٍ قلنا: أَمَّا الإِعْلاَنُ: فَلأََنَّ كُلَّ مَنْ صَدَقَ فِي خَبَرٍ فَهُوَ
فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ عَدْلٌ صَادِقٌ بِلاَ شَكٍّ، فَإِذَا أُعْلِنَ النِّكَاحُ،
فَالْمُعْلِنَانِ لَهُ بِهِ بِلاَ شَكٍّ صَادِقَانِ عَدْلاَنِ فِيهِ فَصَاعِدًا،
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَتَانِ فِيهِمَا شَاهِدَا عَدْلٍ بِلاَ شَكٍّ،
لأََنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ إذَا أُخْبِرَ عَنْهُمَا غَلَبَ التَّذْكِيرُ.
وَأَمَّا الأَرْبَعُ النِّسْوَةِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ بِنِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ [
بِإِسْنَادِهِ ] فِي "كِتَابِ الشَّهَادَاتِ". وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ.وَقَالَ قَوْمٌ: إذَا اُسْتُكْتِمَ الشَّاهِدَانِ فَهُوَ
(9/465)
نِكَاحُ سِرٍّ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ
قَطُّ نَهْيٌ، عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ عَدْلاَنِ. وَالثَّانِي
أَنَّهُ لَيْسَ سِرًّا مَا عَلِمَهُ خَمْسَةٌ: النَّاكِحُ، وَالْمُنْكِحُ،
وَالْمُنْكَحَةُ، وَالشَّاهِدَانِ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلاَ كُلُّ سِرٍّ جَاوَزَ اثْنَيْنِ شَائِعٌ
وَقَالَ غَيْرُهُ:
السِّرُّ يَكْتُمُهُ الأَثْنَانِ بَيْنَهُمَا ... وَكُلُّ سِرٍّ عَدَا
الاِثْنَيْنِ مُنْتَشِرُ
وَمَنْ أَبَاحَ النِّكَاحَ الَّذِي يُسْتَكْتَمُ فِيهِ الشَّاهِدَانِ: أَبُو
حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابُهُمْ.
(9/466)
1829 - مَسْأَلَةٌ: وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ بِغَيْرِ ذِكْرِ صَدَاقٍ، لَكِنْ بِأَنْ يَسْكُتَ جُمْلَةً فَإِنْ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ لاَ صَدَاقَ عَلَيْهِ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . فَصَحَّحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النِّكَاحَ الَّذِي لَمْ يُفْرَضْ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ شَيْءٌ، إذْ صَحَّحَ فِيهِ الطَّلاَقَ، وَالطَّلاَقُ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ. وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ لاَ صَدَاقَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ وَهَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. بَلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إبْطَالُهُ، قَالَ تَعَالَى وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِذْ هُوَ بَاطِلٌ فَالنِّكَاحُ الْمَذْكُورُ لَمْ تَنْعَقِدْ صِحَّتُهُ إِلاَّ عَلَى تَصْحِيحِ مَا لاَ يَصِحُّ، فَهُوَ نِكَاحٌ لاَ صِحَّةَ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/466)
فاذا طلبت المنكحة التي لم يقرض لها صداق قضي لها به
...
1830 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا طَلَبَتْ الْمُنْكَحَةُ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا
صَدَاقٌ قُضِيَ لَهَا بِهِ، فَإِنْ تَرَاضَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا بِشَيْءٍ يَجُوزُ
تَمَلُّكُهُ، فَهُوَ صَدَاقٌ، لاَ صَدَاقَ لَهَا غَيْرُهُ، فَإِنْ اُخْتُلِفَ
قُضِيَ لَهَا بِصَدَاقِ مِثْلِهَا أَحَبَّ هُوَ أَوْ هِيَ، أَوْ كَرِهَتْ هِيَ
أَوْ هُوَ. برهان ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي صِحَّةِ مَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ
مِمَّا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ، وَإِنَّمَا خَالَفَ قَوْمٌ فِي بَعْضِ الأَعْدَادِ
عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُهُمْ
سَاقِطٌ نُبَيِّنُهُ بَعْدُ، بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ. وَأَمَّا
الْقَضَاءُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا الصَّدَاقَ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يُقْضَى لَهَا
بِهِ إذَا طَلَبَتْهُ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ مَا طَلَبَتْهُ هِيَ، إذْ قَدْ
تَطْلُبُ مِنْهُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ. وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُلْزَمَ
هِيَ مَا أَعْطَاهَا، إذْ قَدْ يُعْطِيهَا فَلْسًا، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِإِلْزَامِهَا ذَلِكَ، وَلاَ بِإِلْزَامِهِ مَا طَلَبَتْ، فَإِذْ قَدْ بَطَلَ
هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صَدَاقُ مِثْلِهَا، فَهُوَ الَّذِي
يُقْضَى لَهَا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/466)
1831 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ لِلأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلاَ يَلْزَمُهَا حُكْمُ أَبِيهَا فِي ذَلِكَ وَتَبْلُغُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلاَ بُدَّ. برهان ذَلِكَ أَنَّهُ حَقٌّ لَهَا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
(9/466)
ولا يحل للعبد لا للامة أن ينكحها الا باذن سيدها
...
1832 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلْعَبْدِ، وَلاَ لِلأَمَةِ أَنْ يَنْكِحَا
إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِمَا، فَأَيُّهُمَا نَكَحَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ
عَالِمًا بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا، وَهُوَ
زَانٍ، وَهِيَ زَانِيَةٌ، وَلاَ يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِي ذَلِكَ. برهان ذَلِكَ: مَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ،
وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ كِلاَهُمَا، عَنْ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلاَهُ فَهُوَ
عَاهِرٌ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْحٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ " قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
أَيُّمَا عَبْدٍ نَكَحَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ . وَاسْمُ "
الْعَبْدِ " وَاقِعٌ عَلَى الْجِنْسِ، فَالذُّكُورُ وَالإِنَاثُ مِنْ
الرَّقِيقِ دَاخِلُونَ تَحْتَ هَذَا الأَسْمِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ صَحَّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَالأَمَةُ مَالٌ لِسَيِّدِهَا فَهِيَ
حَرَامٌ عَلَيْهِ إِلاَّ بِإِنْكَاحِهَا إيَّاهُ بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه الصلاة
والسلام وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ: إذَا نَكَحَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَنِكَاحُهُ
حَرَامٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى
إنْكَاحَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ زِنًى، وَيَرَى عَلَيْهِ الْحَدَّ،
وَعَلَى الَّتِي نَكَحَ إذَا أَصَابَهَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ،
وَيُعَاقَبُ الَّذِينَ أَنْكَحُوهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
أَخَذَ عَبْدًا لَهُ نَكَحَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَبْطَلَ
صَدَاقَهُ، وَضَرَبَهُ حَدًّا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا
تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ جُلِدَ الْحَدَّ، وَفُرِّقَ
بَيْنَهُمَا، وَرُدَّ الْمَهْرُ إلَى مَوْلاَهُ وَعُزِّرَ الشُّهُودُ الَّذِينَ
زَوَّجُوهُ وَهَذَا مُسْنَدٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله
عنهما. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ نَا
مُغِيرَةُ، وَعُبَيْدَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ الْمُغِيرَةُ فِي
رِوَايَتِهِ عَنْهُ: إذَا فَرَّقَ الْمَوْلَى بَيْنَهُمَا
(9/467)
فَمَا وَجَدَ عِنْدَهَا مِنْ عَيْنِ مَالِ غُلاَمِهِ فَهُوَ لَهُ، وَمَا اسْتَهْلَكَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا، وَقَالَ عُبَيْدَةُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَمَا اسْتَهْلَكَتْ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهَا، قَالَ هُشَيْمٌ: وَهُوَ الْقَوْلُ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُمَا قَالاَ فِي الْعَبْدِ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيُنْتَزَعُ الصَّدَاقُ مِنْهَا، وَمَا اسْتَهْلَكَتْهُ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ فِي الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ قَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهَا مَا لَمْ تَسْتَهْلِكْهُ وَمَا اسْتَهْلَكَتْ فَلاَ شَيْءَ. وَمِمَّنْ قَالَ: لاَ يَجُوزُ، وَلاَ إجَازَةَ فِيهِ لِلسَّيِّدِ لَوْ أَجَازَهُ الأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: إنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَيْسَ زِنًى، بَلْ إنْ أَجَازَهُ السَّيِّدُ جَازَ بِغَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدٍ. وَمَوَّهُوا فِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: إنَّ الْخَبَرَ الَّذِي احْتَجَجْتُمْ بِهِ أَنَّهُ عَاهِرٌ لَيْسَ فِيهِ: إذَا وَطِئَهَا، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إذَا لَمْ يَطَأْهَا فَلَيْسَ عَاهِرًا قلنا: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْخَبَرُ بِلَفْظِ "إذَا نَكَحَ " كَمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا وَنَكَحَ فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَخَاطَبَنَا بِهَا عليه الصلاة والسلام " يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَيَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ " فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ دُونَ الآخَرِ فَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا جَعَلَهُ زَانِيًا إذَا تَزَوَّجَ وَنَكَحَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا تَفْرِيقَ السَّيِّدِ إنْ فَرَّقَ طَلاَقًا، وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ يَخْلُو عَقْدُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ضَرُورَةً مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلاً. فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَلاَ خِيَارَ لِلسَّيِّدِ فِي إبْطَالِ عَقْدٍ صَحِيحٍ. وَإِنْ كَانَ بَاطِلاً فَلاَ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ تَصْحِيحُ الْبَاطِلِ. وَمَا عَدَا هَذَا فَتَخْلِيطٌ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ نَصٌّ فَيُوقَفَ عِنْدَهُ. وَيَكْفِي مِنْ هَذَا أَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يُوجِبْ صِحَّتَهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ يُعْقَلُ، وَلاَ تَصِحُّ فِي هَذَا رِوَايَةٌ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرُ الَّتِي رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَجَاءَتْ رِوَايَةٌ لاَ تَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ قَدْ خَالَفُوهَا أَيْضًا وَتَعَلَّقُوا بِرِوَايَةٍ وَاهِيَةٍ نُنَبِّهُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِئَلَّا يُمَوِّهُ بِهَا مُمَوِّهٌ، وَهِيَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَالطَّلاَقُ بِيَدِ السَّيِّدِ، وَإِذَا نَكَحَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَالطَّلاَقُ بِيَدِ الْعَبْدِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَجَّاجُ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ وَالْمُغِيرَةُ، هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ وَيُونُسُ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ وَالْحُصَيْنُ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَجَّاجُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ الْحَجَّاجُ أَيْضًا: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ: عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ الْحُصَيْنُ، وَإِسْمَاعِيلُ: عَنِ الشَّعْبِيِّ، ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ عُمَرَ، وَشُرَيْحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، قَالُوا كُلُّهُمْ: إذَا
(9/468)
تَزَوَّجَ بِأَمْرِ مَوْلاَهُ فَالطَّلاَقُ بِيَدِهِ،
وَإِذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالأَمْرُ إلَى السَّيِّدِ إنْ شَاءَ جَمَعَ
وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ.
قال أبو محمد: الْعُمَرِيُّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ وَهُوَ
ضَعِيفٌ. وَابْنُ أَبِي لَيْلَى سَيِّئُ الْحِفْظِ ضَعِيفٌ وَالْحَجَّاجُ هَالِكٌ.
وَمِنْ السُّقُوطِ وَالْبَاطِلِ أَنْ تُعَارَضَ بِرِوَايَةِ هَؤُلاَءِ، عَنْ
نَافِعٍ رِوَايَةُ مِثْلِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ،
وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ. وَالرِّوَايَةُ، عَنْ شُرَيْحٍ سَاقِطَةٌ،
لأََنَّهَا، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ،
وَالشَّعْبِيُّ، فَالرِّوَايَةُ عَنْهُمَا صَحِيحَةٌ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا
حَنِيفَةَ وَمَالِكًا خَالَفَاهُمَا فِي قَوْلِهِمَا فِي الْمَهْرِ، فَمَا
نَعْلَمُهُمْ تَعَلَّقُوا إِلاَّ بِالْحَسَنِ وَحْدَهُ.
(9/469)
1833 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَكُونُ الْمَرْأَةُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ أَرَادَتْ إنْكَاحَ أَمَتِهَا أَوْ عَبْدِهَا أَمَرَتْ أَقْرَبَ الرِّجَالِ إلَيْهَا مِنْ عَصَبَتِهَا أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَاصِبٌ فَالسُّلْطَانُ يَأْذَنُ لَهَا فِي النِّكَاحِ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُم} ْ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ هُمْ الْمَأْمُورُونَ بِإِنْكَاحِ الأَيَامَى، لأََنَّ الْخِطَابَ وَاحِدٌ، وَنَصَّ الآيَةِ يُوجِبُ أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِذَلِكَ الرِّجَالُ فِي إنْكَاحِ الأَيَامَى وَالْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ. فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَكُونُ وَلِيًّا فِي إنْكَاحِ أَحَدٍ أَصْلاً، لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ إذْنِهَا فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَلاَ يَجُوزُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ.
(9/469)
1834 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلسَّيِّدِ إجْبَارُ أَمَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ عَلَى النِّكَاحِ، لاَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَلاَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ، وَلاَ أَحَدِهِمَا مِنْ الآخَرِ فَإِنْ فَعَلَ فَلَيْسَ نِكَاحًا. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} . وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ لاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلاَ تُنْكَحُ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لاَ يُزَوِّجْ السَّيِّدُ عَبْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. وَرُوِيَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يُزَوِّجُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ وَإِنْ كَرِهَا جَمِيعًا وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وقال مالك: يُكْرِهُ الرَّجُلُ أَمَتَهُ وَعَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ، وَلاَ يُنْكِحْ أَمَتَهُ إِلاَّ بِمَهْرٍ يَدْفَعُهُ إلَيْهَا فَيَسْتَحِلُّ بِهِ فَرْجَهَا، وَلاَ يُزَوِّجْ أَمَتَهُ الْفَارِهَةَ مِنْ عَبْدِهِ الأَسْوَدِ لاَ مَنْظَرَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالصَّلاَحِ يُرِيدُ بِهِ عِفَّةَ الْغُلاَمِ،
(9/469)
1835 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ ثَيِّبٍ فَإِذْنُهَا فِي
نِكَاحِهَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِكَلاَمِهَا بِمَا يُعْرَفُ بِهِ رِضَاهَا،
وَكُلُّ بِكْرٍ فَلاَ يَكُونُ إذْنُهَا فِي نِكَاحِهَا إِلاَّ بِسُكُوتِهَا،
فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ وَلَزِمَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ تَكَلَّمَتْ
بِالرِّضَا أَوْ بِالْمَنْعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلاَ يَنْعَقِدُ بِهَذَا
نِكَاحٌ عَلَيْهَا. برهان ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبِكْرِ إذْنُهَا صُمَاتُهَا، وَمَا
رُوِّينَاهُ، عَنْ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْقَوَارِيرِيُّ نَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ
الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ نَا أَبُو سَلَمَةَ، هُوَ
ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ " أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى
تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَكَيْفَ إذْنُهَا قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ" .
قال أبو محمد: فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْخَوَالِفِ إلَى أَنَّ الْبِكْرَ إنْ
تَكَلَّمَتْ بِالرِّضَا فَإِنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِذَلِكَ خِلاَفًا عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،،
فَسُبْحَانَ الَّذِي أَوْهَمَهُمْ أَنَّهُمْ أَصَحُّ أَذْهَانًا مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهُمْ
وَقَفُوا عَلَى فَهْمٍ وَبَيَانٍ غَابَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
نَعُوذُ بِاَللَّهِ، عَنْ مِثْلِ هَذَا. فأما رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَإِنَّهُ أَبْطَلَ النِّكَاحَ كَمَا تَسْمَعُونَ، عَنِ الْبِكْرِ مَا لَمْ
تُسْتَأْذَنْ فَتَسْكُتَ، وَأَجَازَهُ إذَا اُسْتُأْذِنَتْ فَسَكَتَتْ بِقَوْلِهِ
عليه الصلاة والسلام: "لاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ
وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا". وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّهُمْ كَمَا
أَوْرَدْنَا فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ آنِفًا لَمْ يَعْرِفُوا مَا إذْنُ
الْبِكْرِ حَتَّى سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ، وَإِلَّا
فَكَانَ سُؤَالُهُمْ عِنْدَ هَؤُلاَءِ فُضُولاً، وَحَاشَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ،
فَتَنَبَّهَ هَؤُلاَءِ لِمَا لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَلاَ نَبَّهَ عَنْهُ عليه السلام، وَهَذَا كَمَا تَرَوْنَ. وَمَا
عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ كَلاَمَ الْبِكْرِ يَكُونُ
رِضًا، وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٍّ،
وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ إذْنَهَا هُوَ السُّكُوتُ. وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا
قَوْلُ مَالِكٍ: إنَّ الْعَانِسَ الْبِكْرَ لاَ يَكُونُ إذْنُهَا إِلاَّ
بِالْكَلاَمِ وَهَذَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لأََنَّهُ أَوْجَبَ فَرْضًا عَلَى
الْعَانِسِ مَا أَسْقَطَهُ، عَنْ غَيْرِهَا فَلَوَدِدْنَا أَنْ يُعَرِّفُونَا
الْحَدَّ الَّذِي إذَا بَلَغَتْهُ الْمَرْأَةُ انْتَقَلَ فَرْضُهَا إلَى مَا
ذُكِرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/471)
1836- مَسْأَلَةٌ: وَالصَّدَاقُ، وَالنَّفَقَةُ،
وَالْكِسْوَةُ مَقْضِيٌّ بِهَا لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْمَمْلُوكِ كَمَا
يُقْضَى بِهَا عَلَى الْحُرِّ، وَلاَ فَرْقَ سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً
وَالصَّدَاقُ لِلأَمَةِ إِلاَّ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ كَسَائِرِ
مَالِهَا. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . وَقَوْله تَعَالَى فِي الأَيَامَى: {فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . فَخَاطَبَ تَعَالَى الأَزْوَاجَ
عُمُومًا، لَمْ يَخُصَّ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ، وَأَوْجَبَ بِنَصِّ كَلاَمِهِ الَّذِي
لاَ يُعَارِضُهُ إِلاَّ مَخْذُولٌ إيتَاءَ الصَّدَاقِ لِلأَمَةِ لاَ لِغَيْرِهَا.
وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّفَقَةَ، وَالْكِسْوَةَ،
وَالإِسْكَانَ عَلَى الأَزْوَاجِ لِلزَّوْجَاتِ، فَإِنْ عَجَزَ الْعَبْدُ أَوْ
الْحُرُّ، عَنِ الصَّدَاقِ أَوْ بَعْضِهِ، وَعَنِ النَّفَقَةِ، وَالْكِسْوَةِ أَوْ
بَعْضِهَا، فَالصَّدَاقُ دَيْنٌ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَالنَّفَقَةُ
وَالْكِسْوَةُ سَاقِطَةٌ عَنْهُ، وَيُؤْخَذُ كُلٌّ مِنْ خَرَاجِ الْعَبْدِ وَمِنْ
سَائِرِ كَسْبِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ هُوَ
أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: يَبْدَأُ الْعَبْدُ بِنَفَقَتِهِ عَلَى
أَهْلِهِ قَبْلَ الَّذِي عَلَيْهِ لِمَوَالِيهِ يَعْنِي نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ.
وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ: إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلاَهُ
فَالْمَهْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ بَيْعُهُ فِي الصَّدَاقِ وَفِي
النَّفَقَةِ، فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ أَسْلَمَهُ
لِلْمَرْأَةِ وَجَبَتْ رَقَبَتُهُ لِلْمَرْأَةِ مِلْكًا وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ.
قَالُوا: فَلَوْ أَنْكَحَ عَبْدَهُ أَمَتَهُ فَلاَ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى
صَدَاقٍ أَصْلاً لاَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلاَ بَعْدَهُ. وقال مالك: الْمَهْرُ فِي
ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَيُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ إنْ وُهِبَ لَهُ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ
خَرَاجِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ وُهِبَ لَهُ، فَهُوَ دَيْنٌ فِي
ذِمَّتِهِ إذَا أُعْتِقَ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: الْمَهْرُ فِي ذِمَّةِ
الزَّوْجِ إذَا أُعْتِقَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: السَّيِّدُ ضَامِنٌ لِنَفَقَةِ
الْمَرْأَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مَالٌ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فَضْلُ
مَالٍ أُخِذَتْ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلُ
مَالٍ، عَنْ خَرَاجِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وقال الشافعي: الصَّدَاقُ فِي ذِمَّةِ
الْعَبْدِ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ.
قال أبو محمد رضي الله عنه: تَخْصِيصُ الشَّافِعِيِّ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي
التِّجَارَةِ لاَ وَجْهَ لَهُ، وَقَدْ يَكْسِبُ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ
التِّجَارَةِ، لَكِنْ بِعَمَلٍ أَوْ مِنْ صَنِيعَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ:
إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ، عَنْ خَرَاجِهِ فَضْلٌ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ فَخَطَأٌ، لأََنَّهُ لاَ يَخْفَى مِنْ الْعَبِيدِ مَنْ لَهُ فَضْلٌ،
عَنْ خَرَاجِهِ مِمَّنْ لاَ فَضْلَ لَهُ عَنْهُ، لأََنَّهُ إذَا جَعَلَ الْخَرَاجَ
لِلسَّيِّدِ لاَ يُخْرِجُ مِنْهُ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ فَقَدْ صَارَ النِّكَاحُ
لَغْوًا إذَا تَيَقَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ يَتْلُوهُ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ مَالِكٍ
أَنْ تُؤْخَذَ النَّفَقَةُ وَالصَّدَاقُ مِنْ غَيْرِ خَرَاجِهِ، فَقَوْلٌ بِلاَ
برهان، لأََنَّ الْخَرَاجَ كَسَائِرِ كَسْبِ الْعَبْدِ لاَ يَكُونُ
(9/472)
ِللسَّيِّدِ فِيهِ حَقٌّ أَصْلاً، إِلاَّ حَتَّى
يَصِحَّ مِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِبَيْعِهِ فِيهِ، فَإِذَا
صَحَّ مِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ كَانَ لِلسَّيِّدِ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ،
وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَمْلِكْ قَطُّ مِنْ خَرَاجِ الْعَبْدِ
فَلْسًا قَبْلَ أَنْ يَجِبَ لِلْعَبْدِ بِعِلْمِهِ أَوْ بِبَيْعِهِ فِيهِ، فَإِذَا
صَارَ لِلْعَبْدِ فَلَيْسَ السَّيِّدُ أَوْلَى بِهِ مِنْ سَائِرِ مَنْ لَهُ عِنْدَ
الْعَبْدِ حَقٌّ، كَالزَّوْجَةِ وَالْغُرَمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ أَجَازَ نِكَاحًا بِلاَ صَدَاقٍ وَهَذَا
خِلاَفُ الْقُرْآنِ كَمَا أَوْرَدْنَا ثُمَّ جَعَلَ نِكَاحَهُ الَّذِي أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِرِضَا سَيِّدِهِ وَوَطْأَهُ لأَمْرَأَتِهِ الَّتِي
أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى وَطْأَهُ لَهَا وَيَأْجُرُهُ عَلَيْهِ جِنَايَةً
وَدَيْنًا يُبَاعُ فِيهِ أَوْ تُسَلَّمُ رَقَبَتُهُ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ
رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَبَاحَ لَهَا مَالَ
السَّيِّدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا وَهَذَا كَلاَمٌ يُغْنِي
سَمَاعُهُ، عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُعْلَمُ
أَحَدٌ قَالَهُ قَبْلَهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ
أَمَتَهُ عَبْدَهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَمْوِيهٌ مِنْ الَّذِي أَوْرَدَ هَذَا الْخَبَرَ، لأََنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّمَا عَنَى بِغَيْرِ ذِكْرِ مَهْرٍ، وَهَذَا جَائِزٌ لِكُلِّ
أَحَدٍ حَتَّى إذَا طَلَبَتْهُ أَوْ طَلَبَهُ وَرَثَتُهَا قُضِيَ لَهَا أَوْ
لَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ.
(9/473)
1837 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَكُونُ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِلْمُسْلِمَةِ، وَلاَ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِلْكَافِرَةِ، الأَبُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَالْكَافِرُ وَلِيٌّ لِلْكَافِرَةِ الَّتِي هِيَ وَلِيَّتُهُ يُنْكِحُهَا مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} . وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَفِظْنَا قَوْلَهُ، إِلاَّ ابْنَ وَهْبٍ صَاحِبَ مَالِكٍ قَالَ: إنَّ الْمُسْلِمَ يَكُونُ وَلِيًّا لأَبْنَتِهِ الْكَافِرَةِ فِي إنْكَاحِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ أَوْ مِنْ الْكَافِرِ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/473)
1838 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يُنْكِحَهَا مِنْ نَفْسِهِ إذَا رَضِيَتْ بِهِ زَوْجًا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَقْرَبَ إلَيْهَا مِنْهُ، وَإِلَّا فَلاَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ إلَى أَنْ لاَ يُنْكِحَهَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النِّكَاحَ يَحْتَاجُ إلَى نَاكِحٍ وَمُنْكِحٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاكِحُ هُوَ الْمُنْكِحُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الْقِيَاسِ مِنْهُمْ: كَمَا لاَ يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ كَذَلِكَ لاَ يُنْكِحُ مِنْ نَفْسِهِ. قَالَ عَلِيٌّ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ خَطَبَ بِنْتَ عَمِّهِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَرْسَلَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا فَقَالَ: مَا كُنْت لأََفْعَلَ، أَنْتَ أَمِيرُ الْبَلَدِ، وَابْنُ عَمِّهَا فَأَرْسَلَ الْمُغِيرَةُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ.
(9/473)
1839- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلزَّانِيَةِ أَنْ تَنْكِحَ أَحَدًا، لاَ زَانِيًا، وَلاَ عَفِيفًا حَتَّى تَتُوبَ، فَإِذَا تَابَتْ حَلَّ لَهَا الزَّوَاجُ مِنْ عَفِيفٍ حِينَئِذٍ. وَلاَ يَحِلُّ لِلزَّانِي الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً لاَ زَانِيَةً، وَلاَ عَفِيفَةً حَتَّى يَتُوبَ، فَإِذَا تَابَ حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ حِينَئِذٍ. وَلِلزَّانِي الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ كِتَابِيَّةً عَفِيفَةً وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، فَإِنْ نَكَحَ
(9/474)
عَفِيفٌ عَفِيفَةً ثُمَّ زَنَى أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلاَهُمَا لَمْ يُفْسَخْ النِّكَاحُ بِذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ بِهَذَا طَائِفَةٌ
مِنْ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
نَا وَكِيعٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الصُّدَائِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ رَجُلاً أَتَى إلَيْهِ
فَقَالَ: إنَّ لِي ابْنَةَ عَمٍّ أَهْوَاهَا، وَقَدْ كُنْت نِلْت مِنْهَا فَقَالَ
لَهُ عَلِيٌّ: إنْ كَانَ شَيْئًا بَاطِنًا يَعْنِي الْجِمَاعَ فَلاَ، وَإِنْ كَانَ
شَيْئًا ظَاهِرًا يَعْنِي الْقُبْلَةَ فَلاَ بَأْسَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أُتِيَ
بِمَحْدُودٍ تَزَوَّجَ غَيْرَ مَحْدُودَةٍ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ
إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الَّذِي يَتَزَوَّجُ
الْمَرْأَةَ بَعْدَ أَنْ زَنَى بِهَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لاَ يَزَالاَنِ
زَانِيَيْنِ. وبه إلى عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ سُفْيَانُ، وَمَعْمَرٌ، قَالاَ جَمِيعًا: ، حَدَّثَنَا
الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنِ الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَنْكِحُهَا فَقَالَ سَالِمٌ: سُئِلَ،
عَنْ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} ،
عَنْ عِبَادِهِ الآيَةَ.
قال أبو محمد: الْقَوْلاَنِ مِنْهُ مُتَّفِقَانِ، لأََنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ
نِكَاحَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَتْ
عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها: لاَ يَزَالاَنِ زَانِيَيْنِ مَا اصْطَحَبَا
يَعْنِي: الرَّجُلَ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً زَنَى بِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي الْجَهْمِ،
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي الرَّجُلِ يَفْجُرُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يُرِيدُ
نِكَاحَهَا قَالَ: لاَ يَزَالاَنِ زَانِيَيْنِ أَبَدًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إذَا تَابَا وَأَصْلَحَا
فَلاَ بَأْسَ يَعْنِي الرَّجُلَ يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يُرِيدُ نِكَاحَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ السَّائِبِ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ رَجُلٍ فَجَرَ
بِامْرَأَةٍ أَيَتَزَوَّجُهَا قَالَ: إنْ تَابَا وَأَصْلَحَا. وَمِنْ طَرِيقِ
إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ
قَالاَ جَمِيعًا: ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لاَ يَنْكِحُ
الْمَجْلُودُ إِلاَّ مَجْلُودَةً. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ نَا سُلَيْمَانُ
بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلاَلٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ
قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لاَ أَدَعَ أَحَدًا
أَصَابَ فَاحِشَةً فِي الإِسْلاَمِ يَتَزَوَّجُ مُحْصَنَةً، فَقَالَ لَهُ أُبَيّ
بْنُ كَعْبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: الشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ
يُقْبَلُ مِنْهُ إذَا تَابَ.
(9/475)
وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي يَزِيدَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: {الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ
إِلاَّ زَانِيَةً} قَالَ: هُوَ حُكْمٌ بَيْنَهُمَا. وَصَحَّ مِثْلُ هَذَا، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَصِلَةَ بْنِ أَشْيَمَ
وَعَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمَكْحُولٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ
قُسَيْطٍ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ جَاءَ إبَاحَةُ نِكَاحِهِمَا، عَنْ
أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ.
قال أبو محمد: وَالْحُجَّةُ لِقَوْلِنَا هُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ
يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
فَقَالَ قَوْمٌ: رُوِيَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ:
يَزْعُمُونَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَأَنْكِحُوا
الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ دَعْوَى بِلاَ برهان، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي
قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ: هَذَا مَنْسُوخٌ إِلاَّ بِيَقِينٍ يَقْطَعُ بِهِ، لاَ
بِظَنٍّ لاَ يَصِحُّ وَإِنَّمَا الْفَرْضُ اسْتِعْمَالُ النُّصُوصِ كُلِّهَا.
فَمَعْنَى قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} . وَقَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى} إِلاَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مِنْ
الأَقَارِبِ وَغَيْرِهِنَّ، هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ، وَنِكَاحُ الزَّانِيَةِ
وَنِكَاحُ الزَّانِي لِمُؤْمِنَةٍ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْنَا، فَهُوَ مُسْتَثْنًى
مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ بِلاَ شَكٍّ كَاسْتِثْنَاءِ سَائِرِ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا
مِنْ النِّسَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى يَنْكِحُ هَهُنَا: يَطَأُ، لَيْسَ
مَعْنَاهُ: يَتَزَوَّجُ.
قال أبو محمد وَهَذِهِ دَعْوَى أُخْرَى بِلاَ برهان، وَتَخْصِيصٌ لِلآيَةِ
بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوهُ لَحُرِّمَ عَلَى الزَّوْجِ
وَطْءُ زَوْجَتِهِ إذَا زَنَتْ وَهَذَا لاَ يَقُولُونَهُ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا
حُرِّمَ وَطْؤُهَا بِالزِّنَا فَقَطْ قلنا: وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي التَّخْصِيصِ
بِلاَ برهان، وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ، إذْ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَهَذَا
لاَ يَحِلُّ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ كَاذِبٌ
بِيَقِينِ، لأََنَّنَا قَدْ نَجِدُ الزَّانِيَ يَسْتَكْرِهُ الْعَفِيفَةَ
الْمُسْلِمَةَ فَيَكُونُ زَانِيًا بِغَيْرِ زَانِيَةٍ وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ أَنْ
نَقُولَ مَا يَدْفَعُهُ الْعِيَانُ. وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ رضي الله عنهما بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، فَكَمَا حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دُحَيْمٍ،
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ
الْقَاضِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ فِي الْمَسْجِدِ إذْ جَاءَ رَجُلٌ فَلاَثَ عَلَيْهِ لَوْثًا مِنْ
كَلاَمٍ وَهُوَ دَهِشٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: قُمْ فَانْظُرْ فِي
شَأْنِهِ، فَإِنَّ لَهُ شَأْنًا. فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ: إنَّ ضَيْفًا
ضَافَنِي فَزَنَى بِابْنَتِهِ فَضَرَبَ عُمَرُ فِي صَدْرَهُ، وَقَالَ لَهُ:
قَبَّحَك اللَّهُ، أَلاَ سَتَرْت عَلَى ابْنَتِك، فَأَمَرَ بِهِمَا أَبُو بَكْرٍ
فَضُرِبَا الْحَدَّ، ثُمَّ زَوَّجَ أَحَدَهُمَا الآخَرَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمَا
أَنْ يُغَرَّبَا حَوْلاً.
(9/476)
قال أبو محمد: هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ،
لأََنَّ الأَظْهَرَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ تَوْبَتِهِمَا وَهُوَ حُجَّةٌ
عَلَيْهِمْ، لأََنَّ فِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ غَرَّبَهُمَا حَوْلاً،
وَالْحَنَفِيُّونَ لاَ يَرَوْنَ تَغْرِيبًا فِي الزِّنَا جُمْلَةً.
وَالْمَالِكِيُّونَ لاَ يَرَوْنَ تَغْرِيبَ الْمَرْأَةِ فِي الزِّنَا. فَهَذَا
فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
بِخِلاَفِهِمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ نَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا
حَبِيبٌ هُوَ الْمُعَلِّمُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إلَى
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ الْحَسَنِ يَزْعُمُ
أَنَّ الْمَجْلُودَ الزَّانِيَ لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ مِثْلَهُ، يَتَأَوَّلُ
بِذَلِكَ هَذِهِ الآيَةَ الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: وَمَا تَعْجَبُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: لاَ يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلاَّ مِثْلَهُ .
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُنَادِي بِهِ نِدَاءً: ، حَدَّثَنَا
حُمَامٌ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ، هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا
مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ قَالَ:
سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنِي الْحَضْرَمِيُّ بْنُ لاَحِقٍ، عَنِ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَهُ رَجُلٌ
مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ مَهْزُولٍ أَوْ ذَكَرَ
لَهُ أَمْرَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّانِي لاَ
يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، فَأُنْزِلَتْ {وَالزَّانِيَةُ لاَ
يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ
الْعَطَّارُ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثٍ:
وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ.
قال أبو محمد: لاَ يُسَمَّى فِي الدَّيَّانَةِ، وَلاَ فِي اللُّغَةِ أُجْرَةُ
الزِّنَا مَهْرًا، إنَّمَا الْمَهْرُ فِي الزَّوَاجِ، فَإِذَا حَرَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْرَهَا فَقَدْ حَرَّمَ زَوَاجَهَا، إذْ لاَ بُدَّ
فِي الزَّوَاجِ مِنْ مَهْرٍ ضَرُورَةً، هَذَا لاَ إشْكَالَ فِيهِ، فَإِذَا تَابَتْ
فَلَيْسَ مَهْرُهَا مَهْرَ بَغِيٍّ فَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَنْ ادَّعَى غَيْرَ هَذَا،
فَقَدْ ادَّعَى مَا لاَ برهان لَهُ بِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا الَّتِي تَزَوَّجَهَا عَفِيفٌ وَهِيَ عَفِيفَةٌ ثُمَّ
زَنَى أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، فَإِنَّمَا قلنا: إنَّهُ لاَ يُفْسَخُ
نِكَاحُهُمَا لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نَا
إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ نَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ رِئَابٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ تَحْتِي امْرَأَةً جَمِيلَةً لاَ
تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ قَالَ طَلِّقْهَا، قَالَ: إنِّي لاَ أَصْبِرُ عَنْهَا قَالَ:
فَأَمْسِكْهَا. وَقَدْ أَقَرَّ مَاعِزٌ بِالزِّنَا وَهُوَ مُحْصَنٌ فَسَأَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ أَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ فَقِيلَ لَهُ:
بَلْ ثَيِّبٌ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَلَمْ يَفْسَخْ نِكَاحَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي
هَذَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ
الْقَاضِي، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ
(9/477)
الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الْبِكْرِ إذَا زَنَى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِأَهْلِهِ: جَلْدُ الْحَدِّ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، وَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، فَإِنْ زَنَتْ هِيَ جُلِدَتْ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلاَ صَدَاقَ لَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: الْبِكْرُ إذَا زَنَتْ جُلِدَتْ وَفُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ فَلاَ يَقْرَبَنَّهَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وطَاوُوس، وَالنَّخَعِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ وَلَكِنْ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَاهُنَا خَبَرٌ لَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ بَصْرَةَ بْنِ أَكْثَمَ أَنَّ امْرَأَةً زَنَتْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَدَهَا عَبْدًا لِزَوْجِهَا، وَلاَ نَعْلَمُ لِسَعِيدٍ سَمَاعًا مِنْ بَصْرَةَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَضْرَةَ.
(9/478)
ولا يحل أن يخطب امراة معتدة من طلاق أو وفاة
...
1840 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَخْطُبَ امْرَأَةً مُعْتَدَّةً
مِنْ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ فُسِخَ
أَبَدًا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، طَالَتْ مَدَّتُهُ مَعَهَا أَوْ لَمْ
تَطُلْ، وَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا، وَلاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ، وَلاَ
صَدَاقَ، وَلاَ مَهْرَ لَهَا. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا فَعَلَيْهِ حَدُّ
الزِّنَا مِنْ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَا جَمِيعًا، وَلاَ
يُلْحَقُ الْوَلَدُ بِهِ إنْ كَانَ عَالِمًا. وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ فَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَاهِلاً، فَلاَ حَدَّ عَلَى
الْجَاهِلِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْجَاهِلَ فَالْوَلَدُ بِهِ لاَحِقٌ، فَإِذَا
فُسِخَ النِّكَاحُ وَتَمَّتْ عِدَّتُهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إنْ أَرَادَتْ
ذَلِكَ كَسَائِرِ النَّاسِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
فَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ طَلاَقَ
ثَلاَثٍ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ تَكُونُ تَحْتَهُ الأَمَةُ وَيَدْخُلُ بِهَا
فَتَعْتِقُ فَتُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ فِرَاقَهُ وَيُفْسَخُ نِكَاحُهُ فَتَعْتَدُّ
بِحَمْلٍ أَوْ بِالأَطْهَارِ أَوْ بِالشُّهُورِ، فَلَهُ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ
النَّاسِ أَنْ يَخْطُبَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ فَلَهُ
نِكَاحُهَا وَوَطْؤُهَا. برهان مَا قلنا: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، {وَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ
أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ
وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا،
وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} .
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ تَوَارُثَ، وَلاَ نَفَقَةَ، وَلاَ كِسْوَةَ، وَلاَ
صَدَاقَ بِكُلِّ حَالٍ جَهْلاً أَوْ عِلْمًا، فَلأََنَّهُ لَيْسَ نِكَاحَهَا،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ النِّكَاحَ وَلَمْ يُحِلَّ هَذَا الْعَقْدَ
بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ، فَإِذْ لَيْسَ نِكَاحًا فَلاَ تَوَارُثَ، وَلاَ
كِسْوَةَ، وَلاَ نَفَقَةَ، إِلاَّ فِي نِكَاحٍ. وَأَمَّا إلْحَاقُ الْوَلَدِ
بِالرَّجُلِ الْجَاهِلِ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى
الْعَالِمِ فَلأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:
(9/478)
{وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} .
وَهَذِهِ لَيْسَتْ زَوْجًا، وَلاَ مِلْكَ يَمِينٍ فَهُوَ عَاهِرٌ. وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ
الْحَجَرُ" . فَلَمْ يَجْعَلْ عليه الصلاة والسلام إِلاَّ فِرَاشًا أَوْ
عِهْرًا، وَهَذِهِ لَيْسَتْ فِرَاشًا فَهُوَ عِهْرٌ، وَالْعِهْرُ الزِّنَا،
وَعَلَى الزَّانِي الْحَدُّ: وَلاَ حَدَّ عَلَى الْجَاهِلِ الْمُخْطِئِ، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى:وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ
مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى لأَُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ
بَلَغَ وَهَذَا لَمْ يَبْلُغْهُ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَقَةُ
تُخَيَّرُ: فَلأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا لَوْ
رَاجَعْتِيهِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ النَّاكِحَ فِي الْعِدَّةِ الْوَاطِئَ فِيهَا جَاهِلاً
كَانَ أَوْ عَالِمًا فَحُدَّ وَكَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ وَلَمْ تُحَدَّ هِيَ
لِجَهْلِهَا أَوْ لَمْ تُرْجَمْ، لأََنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا مُعْتَدَّةً مِنْ
وَفَاةٍ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ تَمَامِ عِدَّتِهَا الَّتِي
تَزَوَّجَهَا فِيهَا، فَلأََنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ لَنَا كُلَّ مَا
حَرَّمَ عَلَيْنَا مِنْ النِّسَاءِ فِي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ الآيَةَ إلَى قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا الْمَنْكُوحَةَ فِي الْعِدَّةِ
الْمَدْخُولَ بِهَا فِيهَا فِي جُمْلَةِ مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا ابْتِدَاءَ
النِّكَاحِ فِيهَا بَعْدَ تَمَامِ عِدَّتِهَا، فَإِذْ لَمْ يَذْكُرْهَا تَعَالَى،
لاَ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَلاَ فِي غَيْرِهَا، وَلاَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ
نَصًّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وَقَوْلُنَا هَذَا
هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ،
وَاللَّيْثُ، وَالأَوْزَاعِيُّ، لاَ تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا. وقال مالك،
وَاللَّيْثُ: وَلاَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَمَا لِمَنْ قَالَ هَذَا حُجَّةٌ
أَصْلاً إِلاَّ شَغْبَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: تَعَجَّلَ شَيْئًا
قَبْلَ وَقْتِهِ فَوَاجِبٌ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِ فِي الأَبَدِ كَالْقَاتِلِ
الْعَامِدِ يُمْنَعُ الْمِيرَاثَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِنْ أَسْخَفِ قَوْلٍ يُسْمَعُ، قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ: مِنْ
أَيْنَ وَضَحَ لَهُمْ تَحْرِيمُ الْمِيرَاثِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلاَ نَصَّ
يَصِحُّ فِيهِ، وَلاَ إجْمَاعَ قَدْ أَوْجَبَ الْمِيرَاثَ لِقَاتِلِ الْعَمْدِ: الزُّهْرِيُّ،
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمَا. ثُمَّ مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ
تَعَجَّلَ شَيْئًا قَبْلَ وَقْتِهِ وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِ أَبَدًا
وَأَيُّ نَصٍّ جَاءَ بِهَذَا أَوْ أَيُّ عَقْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَهُمْ أَنَّ الْقَاتِلَ يُمْنَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ
ذَلِكَ لِتَعَجُّلِهِ إيَّاهُ قَبْلَ وَقْتِهِ وَكُلُّ هَذَا كَذِبٌ وَظَنٌّ
فَاسِدٌ وَتَخَرُّصٌ بِالْبَاطِلِ، وَيَلْزَمُهُمْ إنْ طَرَدُوا هَذَا الدَّلِيلَ
السَّخِيفَ أَنْ يَقُولُوا فِيمَنْ غَصَبَ مَالَ مُوَرِّثِهِ: أَنْ يُحَرَّمَ
عَلَيْهِ فِي الأَبَدِ، لأََنَّهُ اسْتَعْجَلَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ. وَأَنْ
يَقُولُوا فِي امْرَأَةٍ
(9/479)
سَافَرَتْ فِي عِدَّتِهَا: أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهَا
السَّفَرُ أَبَدًا. وَمَنْ تَطَيَّبَ فِي إحْرَامِهِ: أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِ
الطِّيبُ أَبَدًا. وَأَنْ يَقُولُوا فِيمَنْ اشْتَهَى شَيْئًا وَهُوَ صَائِمٌ فِي
رَمَضَانَ فَأَكَلَهُ، أَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي
رَمَضَانَ أَوْ وَهِيَ حَائِضٌ: أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الطَّعَامُ فِي
الأَبَدِ، وَتُحَرَّمَ تِلْكَ الأَمَةُ أَوْ امْرَأَتُهُ فِي الأَبَدِ، لأََنَّهُ
تَعَجَّلَ كُلَّ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَاَلَّذِي يَلْزَمُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ
هَذَا. وَالثَّانِيَةُ رِوَايَةٌ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مُنْقَطِعَةٌ:
مِنْهَا: مَا حَدَّثَنَاهُ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا صَالِحُ
بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْت لِلشَّعْبِيِّ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
تَطْلِيقَةً فَجَاءَ آخَرُ فَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا فَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا،
وَتُكْمِلُ عِدَّتَهَا الأُُولَى، وَتَأْتَنِفُ مِنْ هَذِهِ عِدَّةً جَدِيدَةً،
وَيُجْعَلُ صَدَاقُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلاَ يَتَزَوَّجُهَا أَبَدًا
وَيَصِيرُ الأَوَّلُ خَاطِبًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا، وَتُكْمِلُ عِدَّتَهَا الأُُولَى، وَتَسْتَقْبِلُ مِنْ هَذَا عِدَّةً
جَدِيدَةً وَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَيَصِيرُ
كِلاَهُمَا خَاطِبَيْنِ قَدْ أَخْبَرْتُكَ بِقَوْلِ هَذَيْنِ، فَإِنْ أَخْبَرْتُكَ
بِرَأْيٍ فَبُلْ عَلَيْهِ. وَجَاءَ هَذَا، عَنْ عُمَرَ مِنْ طُرُقٍ لَيْسَ مِنْهَا
شَيْءٌ يَتَّصِلُ، وَرُوِيَ خِلاَفُهَا كَمَا ذَكَرْنَا، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ
مَسْعُودٍ. قال أبو محمد: لاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِنْ تَعَلُّقِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ
بِرِوَايَاتٍ مُنْقَطِعَةٍ، عَنْ عُمَرَ قَدْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ فِيهَا، فَمَنْ
جَعَلَ قَوْلَ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الآخَرِ بِلاَ برهان وَثَانِيَةٌ
أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا عُمَرَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ يَقِينًا مِنْ هَذِهِ
الْقَضِيَّةِ إذْ جَعَلَ مَهْرَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي خَالِدٍ، كِلاَهُمَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ امْرَأَةً
نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا عُمَرُ، وَجَعَلَ مَهْرَهَا فِي
بَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ: نِكَاحُهَا حَرَامٌ، وَمَهْرُهَا حَرَامٌ. حَدَّثَنَا
يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أُبَيٌّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ
دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَوْ، عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ نَضْلَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ شَكَّ دَاوُد فِي أَحَدِهِمَا وَقَالَ:
رُفِعَ إلَى عُمَرَ امْرَأَةٌ نُكِحَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَقَالَ: لَوْ أَنَّكُمَا
عَلِمْتُمَا لَرَجَمْتُكُمَا، فَضَرَبَهُمَا أَسْوَاطًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا،
وَجَعَلَ الْمَهْرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: لاَ أُجِيزُ
مَهْرًا لاَ أُجِيزُ نِكَاحَهُ.
قال أبو محمد: عُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ إمَامٌ ثِقَةٌ. وَمَسْرُوقٌ كَذَلِكَ، فَلاَ
نُبَالِي، عَنْ أَيِّهِمَا رَوَاهُ وَقَدْ ثَبَتَ دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَلَى
أَنَّهُ، عَنْ أَحَدِهِمَا بِلاَ شَكٍّ. قَالَ عَلِيٌّ: فَخَالَفُوهُ فِي جَعْلِ
مَهْرِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ الثَّابِتُ، عَنْ عُمَرَ، فَهَانَ
عَلَيْهِمْ خِلاَفُهُ فِي الْحَقِّ، وَاتَّبَعُوهُ فِيمَا لاَ برهان عَلَى
صِحَّتِهِ فِيمَا قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا
أَوْرَدْنَا. وَثَالِثَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ رُجُوعُ
(9/480)
عُمَرَ، عَنْ ذَلِكَ: كَمَا رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: مَهْرُهَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ، وَلاَ يَجْتَمِعَانِ يَعْنِي الَّتِي نُكِحَتْ فِي الْعِدَّةِ وَدَخَلَ
بِهَا الَّذِي نَكَحَهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ: فَأَخْبَرَنِي أَشْعَثُ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ لَهَا
مَهْرَهَا، وَجَعَلَهُمَا يَجْتَمِعَانِ. فَأَيُّ شَيْءٍ أَعْجَبُ مِنْ
تَمَادِيهِمَا عَلَى خِلاَفِ عُمَرَ فِي الثَّابِتِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ
مَهْرَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِهِ قَدْ رَجَعَ عُمَرُ عَنْهَا
وَكَفَى بِهِمَا خَطَأً. وَرَابِعَةٌ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مَا
حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ نَا ابْنُ مُفَرِّجٍ نَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حَدَّثَنَا
الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْجَابِيَةِ نَكَحَتْ
عَبْدَهَا فَانْتَهَرَهَا عُمَرُ وَهَمَّ أَنْ يَرْجُمَهَا وَقَالَ لَهَا: لاَ
يَحِلُّ لَك مُسْلِمٌ بَعْدَهُ. فَهَذَا أَصَحُّ سَنَدٍ، عَنْ عُمَرَ بِحَضْرَةِ
الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ وَلَجُّوا فِي الْخَطَأِ تَقْلِيدًا
لِخَطَأِ مَالِكٍ بَعْدَ رُجُوعِ عُمَرَ عَنْهُ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُهُمْ: مَنْ اشْتَرَى أَمَةً فَوَجَدَهَا حَامِلاً
مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا فَمَاتَ بَعْدَ أَنْ وَطِئَهَا، فَإِنَّهُ لاَ تَحِلُّ
لَهُ أَبَدًا، وَلاَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَقَالُوا: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً
لاَ زَوْجَ لَهَا فَدَخَلَ بِهَا فَوَطِئَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ مِنْ
زِنًى أَوْ مِنْ غَصْبٍ كَانَ بِهَا قَبْلَ نِكَاحِهِ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ
لَهُ أَبَدًا، مَا نَدْرِي لِمَاذَا وَقَالُوا: مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً أُعْتِقَتْ
قَبْلَ أَنْ تُتِمَّ حَيْضَةً بَعْدَ عِتْقِهَا فَدَخَلَ بِهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ
فِي الأَبَدِ فَلَجُّوا هَذَا اللَّجَاجَ الْفَاسِدَ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ
قَالُوا: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَهَا زَوْجٌ قَائِمٌ حَيٌّ حَاضِرٌ أَوْ
غَائِبٌ يَظُنَّانِ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ أَوْ يُوقِنَانِ بِحَيَاتِهِ، فَدَخَلَ
بِهَا فَوَطِئَهَا: أَنَّهَا لاَ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ فِي الأَبَدِ، بَلْ لَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا إنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ مَاتَ. وَهَذَا هُوَ
الْمُسْتَعْجِلُ قَبْلَ الْوَقْتِ بِلاَ شَكٍّ. وَقَالُوا: مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ
لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ فِي الأَبَدِ، فَرَأَوْا الزِّنَا أَخَفَّ مِنْ زَوَاجِ
الْجَاهِلِ فِي الْعِدَّةِ وَرَأَوْا مَا لاَ حَدَّ فِيهِ، وَلاَ إثْمَ
لِلْجَهَالَةِ أَغْلَظَ مِنْ الْحَرَامِ الْمُتَيَقَّنِ فَهَلْ فِي الْعَجَبِ
أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
(9/481)
1841 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ بَعْدَ صِحَّتِهِ بِمَا يُوجِبُ فَسْخَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى كُلُّهُ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } فَالصَّدَاقُ وَاجِبٌ لَهَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَدَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَإِذَا انْفَسَخَ فَحَقُّهَا فِي الصَّدَاقِ بَاقٍ، كَمَا لَوْ مَاتَ، وَلاَ فَرْقَ. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِي الْفَسْخِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِلاَّ نِصْفُ الصَّدَاقِ فَإِنَّمَا قَالَهُ قِيَاسًا عَلَى الطَّلاَقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً، لأََنَّ الطَّلاَقَ فِعْلُ الْمُطَلِّقِ، وَالْفَسْخَ لَيْسَ فِعْلَهُ، فَلاَ تَشَابُهَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالطَّلاَقِ، بَلْ الْفَسْخُ بِالْمَوْتِ أَشْبَهُ، لأََنَّهُمَا يَقَعَانِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ إِلاَّ بِاخْتِيَارِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْقَطَ جَمِيعَ الصَّدَاقِ فِي بَعْضِ وُجُوهِ الْفَسْخِ
(9/481)
إذَا جَاءَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِهَا فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ إسْقَاطٌ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلاَ برهان وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/482)
1842 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ
يَدْخُلَ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ الَّذِي سُمِّيَ لَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ
دَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا طَالَ مُقَامُهُ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَطُلْ هَذَا
فِي كُلِّ مَهْرٍ كَانَ بِصِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَعَدَدٍ، أَوْ وَزْنٍ، أَوْ
كَيْلٍ، أَوْ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ، أَوْ فِي مَكَان بِعَيْنِهِ إنْ وُجِدَ صَحِيحًا،
وَسَوَاءٌ كَانَ تَزَوَّجَهَا بِصَدَاقٍ مُسَمًّى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ
تَرَاضَيَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتَرَاضَيَا، فَقُضِيَ لَهَا
بِمَهْرِ مِثْلِهَا. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} الآيَةَ. وَفِيمَا ذَكَرْنَا اخْتِلاَفٌ
قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ فِي دُخُولِهِ بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا، وَفِي ضَيَاعِ
الْمَهْرِ، وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الصَّدَاقِ مَفْرُوضًا فِي الْعَقْدِ
وَبَيْنَ تَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوْ الْحُكْمِ لَهَا بِهِ
عَلَيْهِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ. فأما الأَخْتِلاَفُ فِي
الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الصَّدَاقِ مَفْرُوضًا فِي الْعَقْدِ، وَبَيْنَ
تَرَاضِيهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوْ الْحُكْمِ لَهَا بِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ
أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا: إنَّمَا يُقْضَى لَهَا بِنِصْفِ
الصَّدَاقِ إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَفْرُوضًا لَهَا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَأَمَّا
إنْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ اخْتَلَفَا فِيهِ فَحُكِمَ عَلَيْهِ
بِمَهْرِ مِثْلِهَا فَهَاهُنَا إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلاَ شَيْءَ
لَهَا إِلاَّ الْمُتْعَةُ. وقال مالك وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابُهُمْ: لَهَا النِّصْفُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لأََنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { فَنِصْفُ
مَا فَرَضْتُمْ} عُمُومٌ لِكُلِّ صَدَاقٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَرَضَهُ النَّاكِحُ
فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ عَزَّ وَجَلَّ: فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَالزَّائِدُ لِهَذَا الْحُكْمِ مُخْطِئٌ
مُبْطِلٌ مُتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِ
الْحَاكِمُ صَدَاقَ مِثْلِهَا، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَى مِنْ الْوَاجِبِ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ الصَّادِقِ: {
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} مُوجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَفْرِضَ
لَهَا أَحَدَ وَجْهَيْنِ، لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا ضَرُورَةً إمَّا مَا
رَضِيَتْ، وَأَمَّا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَأَيُّهُمَا لَزِمَهُ بِرِضَاهُ أَوْ
بِحُكْمِ حَقٍّ فَقَدْ فَرَضَهُ لَهَا، إذْ عَقَدَ نِكَاحَهَا يَقِينًا فِي عِلْمِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ وَجَبَ لَهَا فِي مَالِهِ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ
خَالَفَ هَذَا حُجَّةً أَصْلاً. وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فِي
نَفْسِ الْعَقْدِ خَاصَّةً لَبَيَّنَهُ لَنَا وَلَمْ يُهْمِلْهُ حَتَّى
يُبَيِّنَهُ لَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَا هُنَالِكَ. فَإِذًا لاَ شَكَّ فِي هَذَا
فَقَدْ أَيْقَنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِكُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا مَنْ
دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ وَلَمْ يَطَأْهَا طَالَ مُقَامُهُ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَطُلْ
فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي
جَمِيلَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: قَضَى
(9/482)
الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ إذَا أَغْلَقَ الْبَابَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ: فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: إذَا أَرْخَى السِّتْرَ، أَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ: فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إذَا أَرْخَيْت السِّتْرَ وَغَلَّقْت الأَبْوَابَ فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ وَهَذَا صَحِيحٌ، عَنْ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ هَارُونَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما قَالاَ جَمِيعًا: إذَا أُرْخِيَتْ السُّتُورُ: فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ وَأُرْخِيَ السِّتْرُ: فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ الْحَكَمِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَقَالَ عِنْدَهَا، ثُمَّ رَاحَ وَفَارَقَهَا، فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ زَيْدٌ: لَهَا الصَّدَاقُ، فَقَالَ مَرْوَانُ: إنَّهُ مِمَّنْ لاَ يُتَّهَمُ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَرَأَيْت لَوْ حَمَلَتْ أَكُنْت تَرْجُمُهَا قَالَ: لاَ، فَقَالَ زَيْدٌ: بَلَى. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو النَّضْرِ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلَهُ وَفِي آخِرِهِ: فَلِذَلِكَ تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ حَنْظَلَةَ: أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَضَى فِي امْرَأَةِ عِنِّينٍ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ وَعَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَطَأْهَا: إنَّ الصَّدَاقَ لَهَا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَرُوِيَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَصَحَّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَضَى بِهِ فِي عِنِّينٍ. وَعَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ وَزَادَ: وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا. وَعَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ قَوْلِ عَبْدِ الْكَرِيمِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ " رَتْقَاءَ " فَلاَ يَجِبُ لَهَا إِلاَّ نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ قَوْلاً آخَرَ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي
(9/483)
رَجُلٍ اخْتَلَى بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يُخَالِطْهَا
بِالصَّدَاقِ كَامِلاً، يَقُولُ: إذَا خَلاَ بِهَا وَلَمْ يُغْلِقْ بَابًا، وَلاَ
أَرْخَى سِتْرًا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ: رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانَ يُقَالُ: إذَا رَأَى مِنْهَا مَا يَحْرُمُ عَلَى
غَيْرِهِ فَلَهَا الصَّدَاقُ. وقال أبو حنيفة: إذَا خَلاَ بِهَا فِي بَيْتِهَا
وَطِئَ أَوْ لَمْ يَطَأْ فَالْمَهْرُ كُلُّهُ لَهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا، أَوْ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا، أَوْ كَانَتْ هِيَ حَائِضًا،
أَوْ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ، فَلَيْسَ لَهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ نِصْفُ
الْمَهْرِ فَلَوْ خَلاَ بِهَا وَهُوَ صَائِمٌ صِيَامَ فَرْضٍ فِي ظِهَارٍ، أَوْ
نَذْرٍ، أَوْ قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ الصَّدَاقُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهَا
الْعِدَّةُ، فَلَوْ خَلاَ بِهَا فِي صَحْرَاءَ، أَوْ فِي مَسْجِدٍ، أَوْ فِي
سَطْحٍ لاَ حُجْرَةَ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ نِصْفُ الصَّدَاقِ.
قال أبو محمد: هَذِهِ أَقْوَالٌ لَمْ تَأْتِ قَطُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ،
وَلاَ جَاءَ بِهَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ.
وقال مالك: إذَا خَلاَ بِهَا فَقَبَّلَهَا أَوْ كَشَفَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا
وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا فَلَيْسَ
لَهَا إِلاَّ نِصْفُ الصَّدَاقِ، فَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ حَتَّى أَخْلَقَ
ثِيَابَهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَيْتَ
شِعْرِي كَمْ حَدُّ هَذَا التَّطَاوُلِ النَّاقِلِ، عَنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ، وَمَا
حَدُّ الإِخْلاَقِ لِهَذِهِ الثِّيَابِ. وَهَاهُنَا قَوْلٌ آخَرُ كَمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ
فِرَاسٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَهَا النِّصْفُ
وَإِنْ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ثنا
هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ
ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي لَيْثٌ، عَنْ
طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ يَجِبُ الصَّدَاقُ وَافِيًا حَتَّى
يُجَامِعَهَا وَلَهَا نِصْفُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نَا هُشَيْمٌ أَنَا
الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: لَمْ
أَسْمَعْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ بَابًا، وَلاَ سِتْرًا إذَا
زَعَمَ أَنْ لَمْ يَمَسَّهَا فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ:
أَنَّ عَمْرَو بْنَ نَافِعٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ قَدْ أُدْخِلَتْ
عَلَيْهِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَبْهَا، وَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَرِبَهَا،
فَخَاصَمَتْهُ إلَى شُرَيْحٍ، فَقَضَى شُرَيْحٌ بِيَمِينِ عَمْرٍو "
بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا قَرِبْتُهَا " وَقَضَى
عَلَيْهِ لَهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ.
قال أبو محمد: كَانَتْ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ بِنْتَ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ هُوَ مُعَاذٌ الْعَنْبَرِيُّ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ
يَرَى إغْلاَقَ الْبَابِ، وَلاَ إرْخَاءَ السِّتْرِ شَيْئًا. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ زَكَرِيَّا، هُوَ ابْنُ أَبِي
(9/484)
زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَهَا
نِصْفُ الصَّدَاقِ يَعْنِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَقُلْ أَنَّهُ مَسَّهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لاَ يَجِبُ الصَّدَاقُ وَافِيًا حَتَّى يُجَامِعَهَا، إنْ
أَغْلَقَ عَلَيْهَا الْبَابَ، قُلْت لَهُ: فَإِذَا وَجَبَ الصَّدَاقُ وَجَبَتْ
الْعِدَّةُ، قَالَ: أَوَ يَقُولُ أَحَدٌ غَيْرَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: لاَ يَجِبُ
الصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ إِلاَّ بِالْمُلاَمَسَةِ الْبَيِّنَةِ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ
جَارِيَةً فَأَرَادَ سَفَرًا فَأَتَاهَا فِي بَيْتِهَا مُخْلِيَةً لَيْسَ
عِنْدَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَأَخَذَهَا فَعَالَجَهَا، فَمَنَعَتْ نَفْسَهَا،
فَصَبَّ الْمَاءَ وَلَمْ يَفْتَرِعْهَا، فَسَاغَ الْمَاءُ فِيهَا، فَاسْتَمَرَّ
بِهَا الْحَمْلُ، فَثَقُلَتْ بِغُلاَمٍ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
فَبَعَثَ إلَى زَوْجِهَا فَسَأَلَهُ فَصَدَّقَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ:
مَنْ أَغْلَقَ الْبَابَ أَوْ أَرْخَى السِّتْرَ فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ،
وَكَمُلَتْ الْعِدَّةُ.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: فَمُخَالِفَانِ لِكُلِّ
مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمَا حُجَّةً أَصْلاً، وَلاَ
سَلَفًا فِي قَوْلِهِمَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنْ أَغْلَقَ بَابًا،
أَوْ أَرْخَى سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ فَوَجَدْنَا مَنْ ذَهَبَ إلَى
هَذَا الْقَوْلِ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً. قَالُوا: فَالصَّدَاقُ كُلُّهُ وَاجِبٌ لَهَا إِلاَّ
أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ إجْمَاعٌ. وَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ،
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ، هُوَ ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ
ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ: فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ
أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلاَنِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِي
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إنَّ فِي الْحَدِيثِ شَيْئًا لاَ أَرَاك تُحَدِّثُهُ
قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: مَالِي قَالَ: قِيلَ: لاَ مَالَ لَك إنْ كُنْت صَادِقًا
فَقَدْ دَخَلْت بِهَا.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ فِي هَذَا لأََنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَمْ يَذْكُرْ
مَنْ أَخْبَرَهُ بِهَذَا، فَحَصَلَ مُرْسَلاً، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّمَا فِيهِ قَالَ: قِيلَ: وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ فَسَقَطَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ أَسْنَدَهُ
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذَا اللَّفْظَ لَكِنْ كَمَا،
حَدَّثَنَا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ
جُبَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ،
أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي مَالِي، قَالَ:
"لاَ مَالَ لَكَ، إنْ كُنْت صَادِقًا عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ
مِنْ فَرْجِهَا" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالُوا:
(9/485)
فَالدُّخُولُ بِهَا اسْتِحْلاَلٌ لِفَرْجِهَا.
قال أبو محمد: هَذَا تَمْوِيهٌ، بَلْ حِينَ الْعَقْدِ لِلنِّكَاحِ يَصِحُّ
اسْتِحْلاَلُهُ لِفَرْجِهَا فَلَوْلاَ نَصُّ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ إنْ لَمْ
يَمَسَّهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَنِصْفُ الصَّدَاقِ فَقَطْ لَكَانَ الْكُلُّ لَهَا،
كَمَا هُوَ لَهَا إنْ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ
نِحْلَةً} أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الأُُخْرَى خَصَّتْهَا، فَلَمْ يُوجِبْ الطَّلاَقُ
قَبْلَ الْمَسِّ إِلاَّ نِصْفَ الصَّدَاقِ. وَشَغَبُوا أَيْضًا بِخَبَرٍ سَاقِطٍ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ
وَالْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ يَزِيدَ الطَّائِيِّ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ كَعْبٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
امْرَأَةً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا رَأَى بِكَشْحِهَا
بَيَاضًا فَقَالَ: الْبَسِي عَلَيْكِ ثِيَابَكَ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ . زَادَ
الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَأَمَرَ لَهَا بِالصَّدَاقِ كَامِلاً.
قال أبو محمد: جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ سَاقِطٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ غَيْرُ ثِقَةٍ
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ لَمْ يَقُلْ عليه
الصلاة والسلام أَنَّهُ لَهَا وَاجِبٌ، بَلْ هُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، كَمَا قَالَ
عَزَّ وَجَلَّ: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ} كَمَا لَوْ تَفَضَّلَتْ هِيَ فَأَسْقَطَتْ عَنْهُ جَمِيعَ حَقِّهَا
لاََحْسَنَتْ. وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِخَبَرٍ آخَرَ سَاقِطٍ: رُوِّينَاهُ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَعَبْدُ
الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُد، قَالَ سَعِيدٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَقَالَ
عَبْدُ الْغَفَّارِ: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، ثُمَّ اتَّفَقَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ،
وَابْنُ لَهِيعَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "مَنْ كَشَفَ امْرَأَةً فَنَظَرَ إلَى عَوْرَتِهَا فَقَدْ وَجَبَ
الصَّدَاقُ" . وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ
مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، وَابْنِ لَهِيعَةَ
وَهُمَا ضَعِيفَانِ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لِلدُّخُولِ ذِكْرٌ، وَلاَ
أَثَرٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ كَشْفُهَا وَالنَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهَا، وَقَدْ
يَفْعَلُ هَذَا بِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، وَقَدْ لاَ يَفْعَلُهُ فِي مَدْخُولٍ
بِهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ جَمِيعِهِمْ. ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ أَيْضًا:
بَيَانُ أَنَّهُ فِي الْمُتَزَوِّجَةِ فَقَطْ، بَلْ ظَاهِرُهُ عُمُومٌ فِي كُلِّ
زَوْجَةٍ وَغَيْرِهَا، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ جُمْلَةً.
وَأَمَّا مَنْ تَعَلَّقَ بِأَنَّهَا لَوْ حَمَلَتْ لُحِقَ الْوَلَدُ وَلَمْ
تُحَدَّ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا، لأََنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَصْلاً،
وَلاَ عُرِفَ أَنَّهُ خَلاَ بِهَا، لَكِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُ بِهَا سِرًّا
مُمْكِنًا، فَحَمَلَتْ، فَالْوَلَدُ لاَحِقٌ، وَلاَ حَدَّ فِي ذَلِكَ أَصْلاً
لأََنَّهَا فِرَاشٌ لَهُ حَلاَلاً مُذْ يَقَعُ الْعَقْدُ، لاَ مَعْنَى لِلدُّخُولِ
فِي ذَلِكَ أَصْلاً، وَقَدْ تَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ إيلاَجٍ، لَكِنْ بِتَشْفِيرٍ
بَيْنَ الشَّفْرَيْنِ فَقَطْ وَكُلُّ هَذَا لاَ يُسَمَّى مَسًّا. فَإِنْ
تَعَلَّقُوا بِمَنْ جَاءَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ،
(9/486)
رضي الله عنهم، فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ اخْتَلَفُوا كَمَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ الرَّدُّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَوَجَدْنَا الْقُرْآنَ لَمْ يُوجِبْ لَهَا بِعَدَمِ الْوَطْءِ إِلاَّ نِصْفَ الصَّدَاقِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/487)
فان عدم الصداق بعد قبضها له بأي وجه كان تلف أو
نفقته
...
1843 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ عُدِمَ الصَّدَاقُ بَعْدَ قَبْضِهَا لَهُ بِأَيِّ
وَجْهٍ كَأَنْ تَلِفَ، أَوْ أَنْفَقَتْهُ: لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ،
وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهَا، فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ
الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ: فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ. قَالَ عَلِيٌّ: إنْ كَانَ
الْمَهْرُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَتَلِفَ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ
طَلَبَتْهُ مِنْهُ فَمَنَعَهَا فَهُوَ غَاصِبٌ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ كُلُّهُ
لَهَا، أَوْ ضَمَانُ نِصْفِهِ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ كَانَ
لَمْ يَمْنَعْهَا إيَّاهُ فَهُوَ تَالِفٌ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ، وَلاَ ضَمَانَ
عَلَى الزَّوْجِ فِيهِ، وَلاَ فِي نِصْفِهِ، وَطِئَهَا أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ.
وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَصِفُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ
لِنِصْفِهِ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ
قَبَضَتْهُ، فَسَوَاءٌ كَانَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِصِفَةٍ، فَإِنْ تَلِفَ عِنْدَهَا
فَهُوَ مِنْ مُصِيبَةِ الزَّوْجِ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لأََنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ. فَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُ
الرُّجُوعَ إنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ إلَيْهَا بِنِصْفِ مَا دَفَعَ، لاَ بِنِصْفِ
شَيْءٍ غَيْرِهِ، وَاَلَّذِي دَفَعَ إلَيْهَا هُوَ الَّذِي فَرَضَ لَهَا، سَوَاءٌ
كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ أَوْ شَيْئًا بِصِفَةٍ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الَّذِي
دَفَعَ إلَيْهَا هُوَ الَّذِي فَرَضَ لَهَا لَكَانَ لاَ يَبْرَأُ أَبَدًا مِمَّا
عَلَيْهِ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهَا غَيْرَ مَا فَرَضَ لَهَا،
أَوْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَقَدَ مَعَهَا فَقَدْ دَفَعَ إلَيْهَا مَا فَرَضَ
لَهَا بِلاَ شَكٍّ. وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهَا مَا فَرَضَ لَهَا فَقَدْ قَبَضَتْ
حَقَّهَا، فَإِنْ تَلِفَ فَلَمْ تَتَعَدَّ، وَلاَ ظَلَمَتْ فَلاَ ضَمَانَ
عَلَيْهَا فَإِنْ أَكَلَتْهُ أَوْ بَاعَتْهُ أَوْ وَهَبَتْهُ أَوْ لَبِسَتْهُ
فَأَفْنَتْ أَوْ أَعْتَقَتْهُ إنْ كَانَ مَمْلُوكًا، فَلَمْ تَتَعَدَّ فِي كُلِّ
ذَلِكَ بَلْ أَحْسَنَتْ. وَقَالَ تَعَالَى {ومَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ
سَبِيلٍ} فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهَا، لأََنَّهَا حَكَمَتْ فِي مَالِهَا وَحَقِّهَا،
وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَكَلَ بِالْبَاطِلِ.
قال أبو محمد: فَإِنْ بَقِيَ عِنْدَهَا النِّصْفُ فَهُوَ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ
بَقِيَ بِيَدِهِ النِّصْفُ فَهُوَ لَهَا، فَلَوْ تَعَدَّتْ أَوْ تَعَدَّى عَلَيْهِ
ضَمِنَ أَوْ ضَمِنَتْ. وقال أبو حنيفة: وَالشَّافِعِيُّ، فِي كُلِّ مَا هَلَكَ
بِيَدِهَا مِنْ الصَّدَاقِ بِفِعْلِهَا أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهَا فَهِيَ ضَامِنَةٌ
لَهُ قِيمَةَ نِصْفِهِ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ،
لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّهُ يُقْضَى لَهَا بِنِصْفِ غَيْرِ الَّذِي فَرَضَ
لَهَا، وَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قلنا: إنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ فَلاَ
ضَمَانَ عَلَيْهَا. وقال مالك: مَا تَلِفَ بِيَدِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهَا ثُمَّ
طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا. قَالَ: فَلَوْ
أَكَلَتْهُ أَوْ وَهَبَتْهُ، أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فَأَعْتَقَتْهُ أَوْ
بَاعَتْهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ: ضَمِنَتْ لَهُ نِصْفَ مَا
أَخَذَتْ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، أَوْ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مِمَّا لاَ
مِثْلَ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ ابْتَاعَتْ بِذَلِكَ شُورَةً فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ
نِصْفُ
(9/487)
الشَّيْءِ الَّذِي اشْتَرَتْ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ مُنَاقَضَاتٌ ظَاهِرَةٌ، لأََنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا
أَكَلَتْ وَوَهَبَتْ وَأَعْتَقَتْ، وَبَيْنَ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهَا، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لأََنَّهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ غَيْرُ
مُتَعَدِّيَةٍ، وَلاَ ظَالِمَةٍ، فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا. ثُمَّ فَرَّقَ
بَيْنَ مَا أَعْتَقَتْ وَأَكَلَتْ وَوَهَبَتْ، وَبَيْنَ مَا اشْتَرَتْ بِهِ
شُورَةً وَهَذَا قَوْلٌ لاَ يُعَضِّدُهُ برهان مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ
صَحِيحَةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ
مِنْ قِيَاسٍ. وَادَّعَوْا فِي ذَلِكَ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا
احْتِجَاجٌ فَاسِدٌ، لأََنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ عَمَلَ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ
كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، رضي الله عنهم، فَيُعِيذُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْ
لاَ يَأْمُرُوا بِالْحَقِّ عُمَّالَهُمْ بِالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَسَائِرِ
الْبِلاَدِ وَهَذَا بَاطِلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِمَّنْ ادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ
ادَّعَوْا أَنَّهُمْ فَعَلُوا فَبَدَّلَ ذَلِكَ أَهْلُ الأَمْصَارِ كَانَتْ
دَعْوَى فَاسِدَةً، وَلَمْ يَكُنْ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ أَوْلَى بِالتَّبْدِيلِ
مِنْ تَابِعِي الْمَدِينَةِ. وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ قَدْ أَعَاذَ اللَّهُ
جَمِيعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَصَحَّ أَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ
قَصَدَتْ بِهِ الْخَيْرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/488)
1844 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَزَوَّجَ فَسَمَّى صَدَاقًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ: فَلَهُ الدُّخُولُ بِهَا أَحَبَّتْ أَمْ كَرِهَتْ وَيُقْضَى لَهَا بِمَا سَمَّى لَهَا أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ، وَلاَ يُمْنَعْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مِنْ الدُّخُولِ بِهَا، لَكِنْ يُقْضَى لَهُ عَاجِلاً بِالدُّخُولِ، وَيُقْضَى لَهَا عَلَيْهِ حَسْبَمَا يُوجَدُ عِنْدَهُ بِالصَّدَاقِ. فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ لَهَا شَيْئًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِأَكْثَرَ أَوْ بِأَقَلَّ وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا نَكَحَ الْمَرْأَةَ وَسَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا فَلِيُلْقِ إلَيْهَا رِدَاءَهُ، أَوْ خَاتَمًا إنْ كَانَ مَعَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْمَرْأَةِ زَوْجِهِ حَتَّى يُقَدِّمَ إلَيْهَا شَيْئًا مِنْ مَالِهَا مَا رَضِيَتْ بِهِ مِنْ كِسْوَةٍ أَوْ عَطَاءٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَمْرٌو هُوَ بْنُ دِينَارٍ لاَ يَمَسَّهَا حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهَا بِصَدَاقٍ أَوْ فَرِيضَةٍ. قَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرٌو: إنْ أَرْسَلَ إلَيْهَا بِكَرَامَةٍ لَهَا لَيْسَتْ مِنْ الصَّدَاقِ أَوْ إلَى أَهْلِهَا فَحَسْبُهُ هُوَ يُحِلُّهَا لَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَعْطِهَا وَلَوْ خِمَارًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بَلَغَنَا فِي السُّنَّةِ أَنْ لاَ يَدْخُلَ بِامْرَأَةٍ حَتَّى يُقَدِّمَ نَفَقَةً أَوْ يَكْسُوَ كِسْوَةً، ذَلِكَ مِمَّا عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. وقال مالك: لاَ يَدْخُلْ عَلَيْهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا الْحَالَّ، فَإِنْ وَهَبَتْهُ لَهُ أُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَفْرِضَ لَهَا شَيْئًا
(9/488)
آخَرَ، وَلاَ بُدَّ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى إبَاحَةِ
دُخُولِهِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
بْنُ فَارِسٍ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى
الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحِيمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ،
عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ هُوَ أَبُو الْخَيْرِ، عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ رَجُلاً
امْرَأَةً بِرِضَاهُمَا فَدَخَلَ بِهَا الرَّجُلُ وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا،
وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ مَنْ
شَهِدَهَا لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ، فَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقَالَ إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَنِي فُلاَنَةَ وَلَمْ أَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا،
وَلَمْ أُعْطِهَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَعْطَيْتُهَا مِنْ
صَدَاقِهَا سَهْمِي بِخَيْبَرَ، قَالَ: فَأَخَذَتْهُ فَبَاعَتْهُ بِمِائَةِ
أَلْفٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ،
فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ،
قَالَ سَعِيدٌ: وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ يَعْنِي دُخُولَ
الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَ وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ،
وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ مَنْصُورٌ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَالَ
يُونُسُ: عَنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ اتَّفَقَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ
بِأَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي
الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَيُسَمِّي لَهَا صَدَاقًا هَلْ يَدْخُلُ
عَلَيْهَا وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ} فَإِذَا فَرَضَ الصَّدَاقَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي الدُّخُولِ
عَلَيْهَا، وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُقَدَّمَ لَهَا شَيْءٌ مِنْ كِسْوَةٍ
أَوْ نَفَقَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ثنا حَجَّاجٌ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ أَنَّ كُرَيْبَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ وَكَانَ
مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفِ
دِرْهَمٍ وَدَخَلَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ صَدَاقِهَا شَيْئًا
وَبِهَذَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابُهُمْ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: كَانُوا يَسْتَحْسِنُونَ أَنْ لاَ
يَدْخُلَ بِهَا حَتَّى يُقَدِّمَ لَهَا شَيْئًا. وَقَالَ اللَّيْثُ: إنْ سَمَّى
لَهَا مَهْرًا فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُقَدِّمَ لَهَا شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا. وقال أبو حنيفة: إنْ كَانَ مَهْرُهَا مُؤَجَّلاً
فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَحَبَّتْ أَمْ كَرِهَتْ حَلَّ الأَجَلُ أَوْ لَمْ
يَحِلَّ فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ نَقْدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا
حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إلَيْهَا، فَلَوْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ
نَفْسَهَا مِنْهُ حَتَّى يُوَفِّيَهَا جَمِيعَ صَدَاقِهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، فَدَعْوَى بِلاَ
برهان: لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَمَنِ سُنَّةٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ قَوْلِ
مُتَقَدِّمٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُ مَنْ أَبَاحَ
دُخُولَهُ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا أَوْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ.
فَنَظَرْنَا فِي حُجَّةِ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَوَجَدْنَاهُمْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثٍ
فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَلِيًّا أَنْ يَدْخُلَ
بِفَاطِمَةَ رضي الله عنهما
(9/489)
حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ، لأََنَّهُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ
مُرْسَلَةٍ، أَوْ فِيهَا مَجْهُولٌ، أَوْ ضَعِيفٌ وَقَدْ تَقَصَّيْنَا طُرُقَهَا
وَعِلَلَهَا فِي " كِتَابِ الإِيصَالِ " إِلاَّ أَنَّ صِفَتَهَا
كُلَّهَا مَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا، لاَ يَصِحُّ شَيْءٌ إِلاَّ خَبَرٌ: مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا
قَالَ: تَزَوَّجْتُ فَاطِمَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنِ لِي فَقَالَ: "أَعْطِهَا
شَيْئًا" : فَقُلْتُ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ دِرْعُكَ
الْحُطَمِيَّةُ قُلْتُ: هُوَ عِنْدِي، قَالَ: "فَأَعْطِهَا إيَّاهُ" .
قال أبو محمد: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَدَاقُهَا، لاَ عَلَى مَعْنَى
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الدُّخُولُ إِلاَّ حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا، وَقَدْ جَاءَ
هَذَا مُبَيَّنًا: كَمَا، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا
أَبِي قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي قَاسِمُ بْنُ
أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ
حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ قِدَمِي فِي الإِسْلاَمِ
وَمُنَاصَحَتِي وَإِنِّي وَإِنِّي قَالَ: "وَمَا ذَاكَ يَا عَلِيٌّ"
قَالَ: تُزَوِّجُنِي فَاطِمَةَ قَالَ: مَا عِنْدَكَ قُلْتُ: عِنْدِي فَرَسِي
وَدِرْعِي، قَالَ: "أَمَّا فَرَسُكَ فَلاَ بُدَّ لَكَ مِنْهَا، وَأَمَّا
دِرْعُكَ فَبِعْهَا" ، قَالَ: فَبِعْتُهَا بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ
فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَوَضَعْتُهَا فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَبَضَ مِنْهَا قَبْضَةً
وَقَالَ: يَا بِلاَلُ أَبْغِنَا بِهَا طِيبًا وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ فَهَذَا
بَيَانٌ أَنَّ الدِّرْعَ إنَّمَا ذُكِرَتْ فِي الصَّدَاقِ لاَ مِنْ أَجْلِ
الدُّخُولِ، لأََنَّهَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ بِلاَ شَكٍّ.
قال أبو محمد: وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا أَثَرٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَا مَنْصُورُ بْنُ
الْمُعْتَمِرِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ
رَجُلاً تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَهَّزَهَا إلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ شَيْئًا. قَالَ عَلِيٌّ: خَيْثَمَةُ مِنْ أَكَابِرِ
أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَصَحِبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رضي الله عنهم.قَالَ
عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} .وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهُ مِنْ حِينِ يُعْقَدُ الزَّوَاجُ
فَإِنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ " فَهُوَ حَلاَلٌ لَهَا وَهِيَ حَلاَلٌ لَهُ،
فَمَنْ مَنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُعْطِيَهَا الصَّدَاقَ أَوْ غَيْرَهُ فَقَدْ
حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِلاَ نَصٍّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ
مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ الْحَقَّ مَا قلنا أَنْ لاَ يُمْنَعَ
حَقَّهُ مِنْهَا، وَلاَ تُمْنَعَ هِيَ حَقَّهَا مِنْ صَدَاقِهَا، لَكِنْ يُطْلَقُ
عَلَى الدُّخُولِ عَلَيْهَا أَحَبَّتْ أَمْ كَرِهَتْ وَيُؤْخَذُ مِمَّا يُوجَدُ
لَهُ صَدَاقُهَا أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ. وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم تَصْوِيبُ قَوْلِ الْقَائِلِ: "أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/490)
1845 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ نِكَاحٍ عُقِدَ عَلَى
صَدَاقٍ فَاسِدٍ، أَوْ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، مِثْلُ أَنْ يُؤَجَّلَ إلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى أَوْ غَيْرِ مُسَمًّى، أَوْ بَعْضُهُ إلَى أَجَلٍ كَذَلِكَ، أَوْ عَلَى
خَمْرٍ، أَوْ عَلَى خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى مَا يَحِلُّ مِلْكُهُ، أَوْ عَلَى شَيْءٍ
بِعَيْنِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ لاَ يَنْكِحَ عَلَيْهَا، أَوْ
أَنْ لاَ يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، أَوْ أَنْ لاَ يُرَحِّلَهَا، عَنْ بَلَدِهَا،
أَوْ، عَنْ دَارِهَا، أَوْ أَنْ لاَ يَغِيبَ مُدَّةً أَكْثَرَ مِنْ كَذَا، أَوْ
عَلَى أَنْ يُعْتِقَ أُمَّ وَلَدِهِ فُلاَنَةَ، أَوْ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى
وَلَدِهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ فَاسِدٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا وَإِنْ
وَلَدَتْ لَهُ الأَوْلاَدَ، وَلاَ يَتَوَارَثَانِ، وَلاَ يَجِبُ فِيهِ نَفَقَةٌ،
وَلاَ صَدَاقٌ، وَلاَ عِدَّةٌ. وَهَكَذَا كُلُّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، حَاشَا الَّتِي
تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا جَاهِلَةً فَوَطِئَهَا، فَإِنْ كَانَ
سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَلَهَا الَّذِي سُمِّيَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ
لَهَا مَهْرًا فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا
فَلاَ شَيْءَ لَهَا. فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ الْفَاسِدُ، وَالشُّرُوطُ
الْفَاسِدَةُ إنَّمَا تَعَاقَدَاهَا بَعْدَ صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ خَالِيًا
مِنْ كُلِّ ذَلِكَ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ تَامٌّ، وَيُفْسَخُ الصَّدَاقُ، وَيُقْضَى
لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ،
فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَتَبْطُلُ الشُّرُوطُ كُلُّهَا.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ لَيْسَتْ فِي
كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهِيَ بَاطِلَةٌ. وَكَذَلِكَ تَأْجِيلُ الصَّدَاقِ
أَوْ بَعْضِهِ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} فَمَنْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُؤْتِيَهَا صَدَاقَهَا أَوْ
بَعْضَهُ مُدَّةً مَا فَقَدْ اشْتَرَطَ خِلاَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ
فِي الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ
عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ"ٌ . وَالْخَبَرَانِ صَحِيحَانِ مَشْهُورَانِ
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا بِأَسَانِيدِهِمَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا
وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه الصلاة والسلام
وَبِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، يَدْرِي كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ كُلَّ مَا عُقِدَتْ
صِحَّتُهُ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ، فَكُلُّ نِكَاحٍ
عُقِدَ عَلَى أَنْ لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ
فَلاَ صِحَّةَ لَهُ فَإِذْ لاَ صِحَّةَ لَهُ فَلَيْسَتْ زَوْجَةً، وَإِذْ لَيْسَتْ
زَوْجَةً: فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا، وَلاَ يَلْحَقُ بِهِ
الْوَلَدُ لأََنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" فَلَيْسَ إِلاَّ فِرَاشٌ أَوْ عِهْرٌ،
فَإِذْ لَيْسَتْ فِرَاشًا فَهُوَ عِهْرٌ، وَالْعِهْرُ لاَ يُلْحَقُ فِيهِ وَلَدٌ،
وَالْحَدُّ فِيهِ وَاجِبٌ. فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ
وَالْوَلَدُ لاَحِقٌ بِهِ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى
بِالْحَقِّ، وَلَمْ تَزَلْ النَّاسُ يُسْلِمُونَ وَفِي نِكَاحِهِمْ الصَّحِيحُ
وَالْفَاسِدُ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الأُُخْتَيْنِ، وَنِكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعٍ، وَامْرَأَةِ الأَبِ، فَفَسَخَ عليه الصلاة والسلام كُلَّ ذَلِكَ
وَأُلْحِقَ فِيهِ الأَوْلاَدُ، فَالْوَلَدُ لاَحِقٌ بِالْجَاهِلِ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا اسْتِثْنَاؤُنَا الَّتِي نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا
بَاطِلٌ، فَلِلْخَبَرِ
(9/491)
الثَّابِتِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ بِإِسْنَادِهِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ" إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا" وَصَحَّ أَيْضًا فَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا. فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فَالْمَهْرُ لَهَا" تَعْرِيفٌ بِالأَلِفِ وَاللاَّمِ. وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "فَلَهَا مَهْرُهَا" إضَافَةُ الْمَهْرِ إلَيْهَا، فَهَذَانِ اللَّفْظَانِ يُوجِبَانِ لَهَا الْمَهْرَ الْمَعْهُودَ الْمُسَمَّى وَمَهْرًا يَكُونُ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَهْرٌ مُسَمًّى وَهُوَ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَذَا لِكُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، لأََنَّهُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ. وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ فَصَحَّ يَقِينًا: أَنَّ مَالَهُ حَرَامٌ عَلَيْهَا إِلاَّ بِنَصِّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مَهْرًا لَبَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الَّتِي نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، وَلَمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ وَحْدِهَا دُونَ غَيْرِهَا تَلَبُّسًا عَلَى عِبَادِهِ، وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا. فَإِنْ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وَالْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ اعْتِدَاءٌ وَحُرْمَةٌ مُنْتَهَكَةٌ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَدَىَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَقْتَصَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي مَالِهِ قلنا: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقٌّ، وَإِنْتَاجُكُمْ مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ أَنْ يُعْتَدَى عَلَى الْمُعْتَدِي، وَيُقَصَّ مِنْهُ حُرْمَتُهُ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْهِ فِي حُرْمَتِهِ، وَلَيْسَ الْمَالُ مِثْلاً لِلْفَرْجِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَ هَذَا لَوَجَبَ عَلَى مَنْ ضَرَبَ آخَرَ أَوْ شَتَمَهُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ مَالِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنْ يُعْتَدَىَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَلَوَجَبَ أَيْضًا عَلَى مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَوْ لاَطَ بِغُلاَمٍ مَهْرُ مِثْلِهَا أَوْ غَرَامَةٌ مَا، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الشَّيْطَانِ، وَطُغَاةِ الْعُمَّالِ، وَفُسَّاقِ الشُّرَطِ، لَيْسَ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ أَحْكَامَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ تُتَعَدَّى حُدُودُهُ، فَإِذَا حَكَمَ بِغَرَامَةِ مَالٍ حَكَمْنَا بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَحْكُمْ بِهَا لَمْ نَحْكُمْ بِهَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الَّذِي حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ النَّصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ " إنْ كَانَ النِّكَاحُ حَرَامًا فَالصَّدَاقُ حَرَامٌ ". وَذَكَرْنَا فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ فِي إبْطَالِهِ صَدَاقَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا عَبْدُهُ
(9/492)
بِغَيْرِ إذْنِهِ. كَمَا نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا تَزَوَّجَ عَبْدُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ جَلَدَهُ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: أَبَحْت فَرْجَك وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا صَدَاقًا. وبه إلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ قَالَ سَمِعْت الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ فِي الْحُرَّةِ الَّتِي تَتَزَوَّجُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ: أَبَاحَتْ فَرْجَهَا، لاَ شَيْءَ لَهَا. وبه إلى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كُلُّ فَرْجٍ لاَ يُحَلُّ فَلاَ مَهْرَ لَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ فُقَهَائِهِمْ فِي الَّتِي يَنْكِحُهَا الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ قَالَ: يَأْخُذُ السَّيِّدُ مِنْهَا مَا أَصْدَقَهَا غُلاَمُهُ عَجَّلَتْ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ. وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: فِي الَّتِي تَنْكِحُ فِي عِدَّتِهَا: مَهْرُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: سَأَلْت الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْعَبْدِ يَتَزَوَّجُ الْحُرَّةَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلاَهُ فَقَالاَ جَمِيعًا: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ صَدَاقَ لَهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهَا مَا أَخَذَتْ. وَنَحْوُ هَذَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا. وَأَمَّا مَالِكٌ: فَإِنَّهُ فَرَّقَ هَاهُنَا فُرُوقًا لاَ تُفْهَمُ: فَمِنْهَا: نِكَاحَاتٌ هِيَ عِنْدَهُ فَاسِدَةٌ تُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَصِحُّ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَمِنْهَا: مَا يَفْسَخُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ قُرْبٍ فَإِذَا طَالَ بَقَاؤُهُ مَعَهَا لَمْ يَفْسَخْهُ. وَمِنْهَا: مَا يَفْسَخُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ طَالَ بَقَاؤُهُ مَعَهَا مَا لَمْ تَلِدْ لَهُ أَوْلاَدًا، فَإِنْ وَلَدَتْ لَهُ أَوْلاَدًا لَمْ يَفْسَخْهُ. وَمِنْهَا: مَا يَفْسَخُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ طَالَ بَقَاؤُهُ مَعَهَا وَوَلَدَتْ لَهُ الأَوْلاَدَ. وَهَذِهِ عَجَائِبُ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ قَالَهَا، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُ، وَلاَ مَعَهُ إِلاَّ مِنْ قَلَّدَهُ مَنْ الْمُنْتَمِينَ إلَيْهِ، وَلاَ يَخْلُو كُلُّ نِكَاحٍ فِي الْعَالَمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ، فَالصَّحِيحُ صَحِيحٌ أَبَدًا إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ فَسْخَهُ قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، فَيُفْسَخُ بَعْدَ صِحَّتِهِ مَتَى وَقَعَتْ الْحَالُ الَّتِي جَاءَ النَّصُّ بِفَسْخِهِ مَعَهَا. وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ صَحِيحًا فَلاَ يَصِحُّ أَبَدًا، لأََنَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ لاَ يُحِلُّهُ الدُّخُولُ بِهِ وَطْؤُهُ، وَلاَ طُولُ الْبَقَاءِ عَلَى اسْتِحْلاَلِهِ بِالْبَاطِلِ، وَلاَ وِلاَدَةُ الأَوْلاَدِ مِنْهُ، بَلْ هُوَ حَرَامٌ أَبَدًا. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ بِحَرَامٍ قلنا: فَلِمَ فَسَخْتُمْ الْعَقْدَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذًا وَهُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ حَرَامٍ وَهَذِهِ أُمُورٌ لاَ نَدْرِي كَيْفَ يَنْشَرِحُ قَلْبُ مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ لأَعْتِقَادِهَا، أَوْ كَيْفَ يَنْطَلِقُ لِسَانُهُ بِنَصْرِهَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
(9/493)
وَأَمَّا كُلُّ عَقْدٍ صَحَّ ثُمَّ لَمَّا صَحَّ تَعَاقَدَا شُرُوطًا فَاسِدَةً فَإِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ لاَزِمٌ، وَإِذْ هُوَ صَحِيحٌ لاَزِمٌ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْطَلَ بِغَيْرِ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ وَمُحَرِّمُ الْحَلاَلِ كَمُحَلِّلِ الْحَرَامِ، وَلاَ فَرْقَ، لَكِنْ تَبْطُلُ تِلْكَ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ أَبَدًا وَيُفْسَخُ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ بِإِمْضَائِهَا، وَالْحَقُّ حَقٌّ، وَالْبَاطِلُ بَاطِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه} ِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/494)
وكل ما جاز أن يمتلك بالهبة أو بالميراث فجائز أن
يكون صداقا
...
1846 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا جَازَ أَنْ يُتَمَلَّكَ بِالْهِبَةِ أَوْ
بِالْمِيرَاثِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُون صَدَاقًا وَأَنْ يُخَالَعَ بِهِ وَأَنْ
يُؤَاجَرَ بِهِ سَوَاءٌ حَلَّ بَيْعُهُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ كَالْمَاءِ، وَالْكَلْبِ،
وَالسِّنَّوْرِ، وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا وَالسُّنْبُلِ
قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، لأََنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بَيْعًا، هَذَا مَا لاَ يَشُكُّ
فِيهِ ذُو حِسٍّ سَلِيمٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ: لاَ يَحِلُّ الصَّدَاقُ
بِمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهَذَا حُكْمٌ فَاسِدٌ بِلاَ برهان، لاَ مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ
قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ يُعْقَلُ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا بَاعَ أَوْ
مَاذَا اشْتَرَى أَرَقَبَتَهَا فَبَيْعُ الْحُرِّ لاَ يَجُوزُ أَمْ فَرْجَهَا
فَهَذَا أَبْيَنُ فِي الْحَرَامِ وَهُوَ قَدْ اسْتَحَلَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ
تَعَالَى فَرْجَهَا الَّذِي كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَ النِّكَاحِ كَمَا
اسْتَحَلَّتْ بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَرْجَهُ الَّذِي كَانَ حَرَامًا
عَلَيْهَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَفَرْجٌ بِفَرْجٍ وَبَشَرَةٌ بِبَشَرَةٍ، وَأَوْجَبَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَحْدَهُ الصَّدَاقَ لَهَا زِيَادَةً عَلَى
اسْتِحْلاَلِهَا فَرْجَهُ، وَلَيْسَ الْبَيْعُ هَكَذَا إنَّمَا هُوَ جِسْمٌ
يُبَادَلُ بِجِسْمٍ، أَحَدُهُمَا ثَمَنٌ وَالآخَرُ مَبِيعٌ مَثْمُونٌ لاَ
زِيَادَةَ هَاهُنَا لأََحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ، فَوَضَحَ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ
سَلِيمٍ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ شَبَّهَ النِّكَاحَ بِالْبَيْعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ
الْبَيْعَ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ لاَ يَحِلُّ وَالنِّكَاحُ بِغَيْرِ ذِكْرِ
صَدَاقٍ حَلاَلٌ صَحِيحٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ النِّكَاحَ بِصَدَاقِ
ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ ثُمَّ أَجَازُوا
النِّكَاحَ بِوَصِيفٍ وَبَيْتٍ وَخَادِمٍ، وَهَكَذَا غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ يَحِلُّ عِنْدَهُمْ بَيْعُ وَصَيْفٍ، وَلاَ بَيْعُ بَيْتٍ،
وَلاَ بَيْعُ خَادِمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ مَوْصُوفٍ
وَهَذَا كَمَا تَرَى وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ التَّهَوُّكِ فِي الْخَطَأِ فِي
الدِّينِ.
(9/494)
1847 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا كُلُّ مَا لَهُ نِصْفٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَلَوْ أَنَّهُ حَبَّةُ بُرٍّ أَوْ حَبَّةُ شَعِيرٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ حَلاَلٍ مَوْصُوفٍ، كَتَعْلِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ الْبِنَاءِ أَوْ الْخِيَاطَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إذَا تَرَاضَيَا بِذَلِكَ وَوَرَدَ فِي هَذَا اخْتِلاَفٌ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ يَزِيدَ الأَوْدِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لاَ يَكُونُ صَدَاقٌ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ حَسَنٍ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ يَزِيدَ الأَوْدِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
(9/494)
1848 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا لاَ صَدَاقَ لَهَا غَيْرُهُ: فَهُوَ صَدَاقٌ صَحِيحٌ، وَنِكَاحٌ صَحِيحٌ، وَسُنَّةٌ فَاضِلَةٌ. فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهِيَ حُرَّةٌ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَلَوْ أَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ بَطَلَ عِتْقُهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ كَمَا كَانَتْ. وَفِي هَذَا خِلاَفٌ مُتَأَخِّرٌ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَاللَّيْثُ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِتْقُ الأَمَةِ صَدَاقَهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ، وَمُحَمَّدٌ، وَمَالِكٌ: إنْ فَعَلَ فَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا إنْ أَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: تَسْعَى لَهُ فِي قِيمَتِهَا. وقال مالك، وَزُفَرُ: لاَ شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا. قَالَ عَلِيٌّ: الْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَبُطْلاَنُ قَوْلِ هَؤُلاَءِ: الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ الثَّابِتُ الَّذِي
(9/501)
رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى كَثِيرَةٍ: مِنْهَا:
مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثنا قُتَيْبَةُ ثنا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
صُهَيْبٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ ثَابِتٌ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ كُلُّهُمْ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا" قَالَ قَتَادَةُ
فِي رِوَايَتِهِ: ثُمَّ جَعَلَ.
قال أبو محمد: فَاعْتَرَضَ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ بِأَنْ
قَالَ: لاَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ، فَهَذَا لاَ
يَجُوزُ بِلاَ خِلاَفٍ، أَوْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَهَا
فَهَذَا نِكَاحٌ بِلاَ صَدَاقٍ. قال علي: هذا أَحْمَقُ كَلاَمٍ سُمِعَ لِوُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا
انْسِلاَخٌ مِنْ الإِسْلاَمِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ مُمَوَّهٌ سَاقِطٌ،
لأََنَّنَا نَقُولُ لَهُمْ: مَا تَزَوَّجَهَا إِلاَّ وَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ
صِحَّةِ الْعِتْقِ لَهَا، وَذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي صَحَّ لَهَا بِشَرْطِ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا بِهِ وَهُوَ صَدَاقُهَا، قَدْ أَتَاهَا إيَّاهُ، وَاسْتَوْفَتْهُ،
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ أَعْطَى امْرَأَةً دَرَاهِمَ ثُمَّ
خَطَبَهَا فَتَزَوَّجَهَا عَلَى تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي لَهُ عِنْدَهَا،
وَهُمْ لاَ يُنْكِرُونَ هَذَا. وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ لَوْ سَأَلُوا أَنْفُسَهُمْ
هَذَا السُّؤَالَ فِي أَقْوَالِهِمْ الْفَاسِدَةِ لاََصَابُوا مِثْلُ
تَوْرِيثِهِمْ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا فِي الْمَرَضِ فَنَقُولُ لَهُمْ: لاَ
يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونُوا وَرَّثْتُمُوهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، أَوْ وَهِيَ
لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى قَسَمٍ ثَالِثٍ: فَإِنْ كَانَتْ
زَوْجَتَهُ فَقَدْ كَانَ تَلَذُّذُهُ بِمُبَاشَرَتِهَا، وَنَظَرُهُ إلَى فَرْجِهَا
حَلاَلٌ لَهُ مَا دَامَ يَجْرِي فِيهِ الرُّوحُ، وَأَنْتُمْ تُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ
ذَلِكَ بَتْلاً قَطْعًا. وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ زَوْجًا لَهُ، وَلاَ أُمًّا
لَهُ، وَلاَ بِنْتًا لَهُ، وَلاَ جَدَّةً لَهُ، وَلاَ بِنْتَ ابْنٍ لَهُ، وَلاَ
أُخْتًا، وَلاَ مُعْتَقَةً، وَلاَ ذَاتَ رَحِمٍ، فَهَذَا عَيْنُ الظُّلْمِ،
وَإِعْطَاءُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. فَإِنْ ادَّعَوْا اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ
قلنا: نَحْنُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَبِوُضُوحِ الْعُذْرِ، وَبِتَرْكِ
الأَعْتِرَاضِ عَلَيْنَا، إذْ إنَّمَا اتَّبَعْنَا هَاهُنَا النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم وَالصَّحَابَةَ أَيْضًا، وَالتَّابِعِينَ زِيَادَةً، فَكَيْفَ وَقَدْ
كَذَبْتُمْ فِي دَعَوَاكُمْ اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ فِي تَوْرِيثِ الْمُطَلَّقَةِ
ثَلاَثًا فِي الْمَرَضِ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
بَابِهِ وَأَقْرَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، عَنْ عُمَرَ، وَالْمَشْهُورُ،
عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ لَمْ يُعِدَّهُ طَلاَقًا، وَفِي قَوْلِهِمْ فِي وَلَدِ
الْمُسْتَحَقَّةِ: إنَّهُمْ أَحْرَارٌ وَعَلَى أَبِيهِمْ قِيمَتُهُمْ فَنَقُولُ
لَهُمْ: لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا أَوْ عَبِيدًا، فَإِنْ
كَانُوا أَحْرَارًا فَثَمَنُ الْحُرِّ حَرَامٌ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَإِنْ
كَانُوا عَبِيدًا فَبَيْعُ الْعَبِيدِ مِنْ غَيْرِ رِضَا سَيِّدِهِمْ حَرَامٌ
إِلاَّ بِنَصٍّ وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا وقال بعضهم: الْعِتْقُ
لَيْسَ مَالاً، فَهُوَ كَالطَّلاَقِ فِي أَنَّ الْعِتْقَ يَبْطُلُ بِهِ الرِّقُّ
فَقَطْ، وَالطَّلاَقُ يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ فَقَطْ، فَلَوْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا
عَلَى أَنْ يَكُونَ
(9/502)
طَلاَقُهَا مَهْرًا لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ
الْعِتْقُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالسَّخَافَةِ، لأََنَّهُ
قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ
عَيْنَ الْبَاطِلِ، لأََنَّ قِيَاسَ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ لاَ يَجُوزُ
عِنْدَهُمْ، وَلاَ شَبَهَ بَيْنَ الطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ، لأََنَّ الْعِتْقَ
يُبْطِلُ الرِّقَّ كَمَا قَالُوا، وَأَمَّا الطَّلاَقُ فَقَدْ كَذَبُوا فِي
قَوْلِهِمْ إنَّهُ يُبْطِلُ النِّكَاحَ، بَلْ لِلْمُطَلِّقِ الَّذِي وَطِئَهَا
دُونَ الثَّلاَثِ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهُ،
بِخِلاَفِ الْعِتْقِ الَّذِي لاَ يَجُوزُ لَهُ ارْتِجَاعُهُ فِي الرِّقِّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعِتْقَ إخْرَاجٌ، عَنْ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ الطَّلاَقُ
كَذَلِكَ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ الْبَارِدُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ. وقال بعضهم: هَذَا خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: هَذَا كَذِبٌ، وَمُخَالَفَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَكُلُّ فِعْلٍ
فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام لَنَا الْفَضْلُ فِي الأَئْتِسَاءِ بِهِ عليه الصلاة
والسلام مَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنَّهُ خُصُوصٌ فَنَقِفُ عِنْدَهُ، وَلَوْ
قَالُوا هَذَا لأََنْفُسِهِمْ فِي إجَازَتِهِمْ الْمَوْهُوبَةَ الَّتِي لاَ
تَحِلُّ لِغَيْرِهِ عليه الصلاة والسلام لَوَفَّقُوا.
وقال بعضهم: قَدْ رَوَيْتُمْ فِي ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ إلَيْكُمْ دَاوُد بْنُ
بَابْشَاذَ قَالَ: ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ،
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيَّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
حُمَيْدٍ، وَ، هُوَ ابْنُ كَاسِبٍ قَالَ: نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيَّ نَافِعٌ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم أَخَذَ جُوَيْرِيَةَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ
فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا" أَخْبَرَنِي
بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ قَالُوا: وَابْنُ
عُمَرَ لاَ يَرَى ذَلِكَ، فَمُحَالٌ أَنْ يَتْرُكَ مَا رَوَى إِلاَّ لِفَضْلِ
عِلْمٍ عِنْدَهُ، بِخِلاَفِ ذَلِكَ
قال أبو محمد: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ: مِنْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَرَ
ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي أَمَرَنَا
اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَبِاتِّبَاعِهَا، إنَّمَا هِيَ مَا رَوَوْهُ لَنَا، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ مَا رَوَاهُ مَنْ رَآهُ مِنْهُمْ بِرَأْيٍ
اجْتَهَدَ فِيهِ وَأَصَابَ: إنْ وَافَقَ النَّصَّ فَلَهُ أَجْرَانِ، أَوْ أَخْطَأَ
إنْ خَالَفَ النَّصَّ غَيْرَ قَاصِدٍ إلَى خِلاَفِهِ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
وَقَدْ أَفْرَدْنَا فِي كِتَابِنَا الْمَوْسُومِ بِ " الإِعْرَابُ فِي كَشْفِ
الأَلْتِبَاسِ " بَابًا ضَخْمًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ
فِيمَا تَنَاقَضُوا فِيهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَأَخَذُوا بِرِوَايَةِ
الصَّاحِبِ وَخَالَفُوا رَأْيَهُ الَّذِي خَالَفَ بِهِ مَا رَوَى. وَاَلَّذِي
نَعْرِفُهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، وَجَرِيرٌ كِلاَهُمَا، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: " إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ
يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا كَالرَّاكِبِ
بَدَنَتَهُ " قَالَ إبْرَاهِيمُ: وَكَانَ أَعْجَبُ ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا
أَنْ يَجْعَلُوا عِتْقَهَا صَدَاقَهَا
(9/503)
فَإِنَّمَا كَرِهَ ابْنُ عُمَرَ زَوَاجَ الْمَرْءِ
مَنْ أَعْتَقَهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَطْ. فَبَطَلَ كَيْدُهُمْ الضَّعِيفُ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قال أبو محمد: وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَتَبَ بِهِ إلَى
دَاوُد بْنِ بَابْشَاذَ قَالَ: نَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا هِشَامُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيَّ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا. ثُمَّ قَالَ: فَقَدْ رَوَى هَذَا ابْنُ
عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ قَالَ:
هُوَ مِنْ بَعْدِهِ عليه الصلاة والسلام فِي مِثْلِ هَذَا: إنَّهُ يُجَدِّدُ لَهَا
صَدَاقًا: ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا
الْخَصِيبُ، هُوَ ابْنُ نَاصِحٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا نَصُّ كَلاَمِ الطَّحَاوِيَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَلاَمَ ابْنِ
عُمَرَ كَيْفَ كَانَ، وَلَعَلَّهُ لَوْ أَوْرَدَهُ لَكَانَ خِلاَفًا لِظَنِّ
الطَّحَاوِيَّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ مِمَّا رَوَاهُ أَصْحَابُ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ الثِّقَاتُ عَنْهُ، وَالْخَصِيبُ لاَ يُدْرِي حَالُهُ وَلَيْسَ
بِالْمَشْهُورِ فِي أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَهُوَ أَمْرٌ ضَعِيفٌ مِنْ
كُلِّ جِهَةٍ. وَالْخَبَرُ الأَوَّلُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ لاَ مِنْ
جُوَيْرِيَةَ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ حُمَيْدٍ بْنِ كَاسِبٍ وَهُوَ
ضَعِيفٌ. وَذَكَرُوا أَيْضًا: الْخَبَرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ جُوَيْرِيَةَ قَالَتْ
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّهَا وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ
قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ أَوْ ابْنِ عَمٍّ لَهُ، وَإِنَّهَا كَاتَبَتْهُ وَأَتَتْ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا، وَإِنَّهُ
عليه الصلاة والسلام قَالَ لَهَا: أَوْ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، أَقْضِي عَنْكِ
كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا لأََحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤَدِّيَ كِتَابَةَ مُكَاتَبَةٍ لِغَيْرِهِ
وَيَتَزَوَّجَهَا بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ لاَ تَقُومُ بِهِ
حُجَّةٌ، إنَّمَا رُوِّينَاهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقَيْنِ
ضَعِيفَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَكَّائِيِّ. وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى، وَكِلاَهُمَا
ضَعِيفٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ لاَ يَخْلُو أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَهَبَهَا
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ عَرَفَ رَغْبَتَهُ عليه الصلاة والسلام
فِيهَا، وَلَمْ تَكُنْ أَدَّتْ مِنْ كِتَابَتِهَا بَعْدُ شَيْئًا، فَبَطَلَتْ
الْكِتَابَةُ وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ لاَ يَجُوزُ
أَنْ يُظَنَّ بِثَابِتٍ أَوْ بِصَاحِبٍ غَيْرِ هَذَا أَصْلاً. وَأَيْضًا فَلَوْ
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَتَمَادَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا حَتَّى عَتَقَتْ بِأَدَائِهَا
أَوْ بِأَدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهَا عَنْهَا لَكَانَتْ
مَوْلاَةَ ثَابِتٍ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَطْعًا، وَلاَ اخْتَلَفَ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْلاَةَ ثَابِتٍ أَصْلاً
فَوَضَحَ سُقُوطُ مَا رَوَاهُ أَسَدٌ، وَزِيَادٌ، وَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ
الْمُلَفَّقَاتِ الَّتِي لاَ تُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا. وَمَوَّهُوا أَيْضًا:
بِمَا حَدَّثَنَا حمام بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا
إسْمَاعِيلُ
(9/504)
ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا امْرِئٍ أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
بِمَهْرٍ جَدِيدٍ فَلَهُ أَجْرَانِ. فَهَذَا لَفْظُ سُوءٍ انْفَرَدَ بِهِ يَحْيَى
الْحِمَّانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ
ضَعِيفٌ. وَالْخَبَرُ مَشْهُورٌ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ لَيْسَ فِيهِ بِمَهْرٍ
جَدِيدٍ أَصْلاً. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً، لأََنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا إِلاَّ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ،
وَنَحْنُ لاَ نَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا مَهْرًا آخَرَ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ
جَائِزٌ وهذا الخبر رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ: مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ
جَارِيَةٌ فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ
أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ" . وَمِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ،
هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ: أ"َنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الَّذِي
يُعْتِقُ أَمَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ مَهْرٌ جَدِيد ٌ". أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بِالسَّنَدِ
الْمُتَقَدِّمِ إلَى مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
هُشَيْمٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
رَأَيْت رَجُلاً مِنْ خُرَاسَانَ يَسْأَلُ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا
عَمْرٍو إنَّ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ
إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا: فَهُوَ كَالرَّاكِبِ بَدَنَتَهُ
فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ هُوَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ أ"َنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَ بِهِ فَلَهُ
أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ
أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا ثُمَّ
أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ
أَجْرَانِ" ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ لِلْخُرَاسَانِيِّ: خُذْ هَذَا
الْخَبَرَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا
إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ مُسْلِمٌ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانُ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّهُمْ، عَنْ صَالِحِ بْنِ
صَالِحٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ، إنَّمَا هُوَ أَبَاطِيلُ، وَمِمَّنْ
قَالَ بِقَوْلِنَا مِنْ السَّلَفِ طَائِفَةٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ،
عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ
أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا
(9/505)
قَالَ: "لَهُ أَجْرَانِ" وَقَدْ رُوِيَ
أَيْضًا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ. وَمِنْ طَرِيق سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الأَنْصَارِيِّ، وَالْمُغِيرَةُ
وَيُونُسُ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ وَجَابِرٌ، قَالَ يَحْيَى: عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَقَالَ يُونُسُ: عَنِ
الْحَسَنِ، وَقَالَ جَابِرٌ: عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالُوا كُلُّهُمْ: لاَ بَأْسَ
بِأَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، قَالَ هُشَيْمٌ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ " إذَا قَالَ الرَّجُلُ لأََمَتِهِ قَدْ أَعْتَقْتُك وَتَزَوَّجْتُك
فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ قَالَ: أَعْتَقْتُك وَأَتَزَوَّجُك فَأَعْتَقَهَا: إنْ
شَاءَتْ تَزَوَّجَتْهُ، وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَتَزَوَّجْهُ ". وَكَانَ
الْحَسَنُ يَكْرَهُ غَيْرَ هَذَا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد
الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ
ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا.
قال أبو محمد: وَرُوِيَ مِثْلُهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ،
وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُعْتِقَ أَمَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، وَلاَ
يَرَوْنَ بَأْسًا أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس قَالَ يَحْيَى: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
وَقَالَ ابْنُ طَاوُوس: عَنْ أَبِيهِ، قَالاَ جَمِيعًا: لاَ بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَ
عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، قَالَ طَاوُوس: ذَلِكَ حَسَنٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْتِقَ
الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَيَتَزَوَّجُهَا وَيَجْعَلُ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. وبه إلى
مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ وَجَعَلَ
عِتْقَهَا مَهْرَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلاَ شَيْءَ
لَهَا، وَابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: إنْ طَلَّقَهَا سَعَتْ لَهُ فِي نِصْفِ
قِيمَتِهَا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
قال أبو محمد: فَهَؤُلاَءِ: عَلِيٌّ، وَأَنَسٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمَنْ لَقِيَهُ إبْرَاهِيمُ مِنْ شُيُوخِهِ،
وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وطَاوُوس، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَأَبِي يُوسُفَ
الْقَاضِي خَالَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابَهُ وَوَفَّقَ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ،
وَأَبِي ثَوْرٍ، وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَمَا نَعْلَمْ لِلْمُخَالِفِينَ، سَلَفًا
إِلاَّ تِلْكَ الرِّوَايَةُ السَّاقِطَةُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي لَمْ
يُبَيِّنْ فِيهَا كَيْفَ كَانَ لَفْظُهُ، وَلاَ كَيْفَ كَانَ لَفْظُ نَافِعٍ
الَّذِي ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَشَيْئًا رُبَّمَا ذَكَرُوهُ: رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا
يُونُسُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ عِتْقِهَا
شَيْئًا مَا كَانَ.
قال أبو محمد: إنَّمَا هَذَا اسْتِحْبَابٌ مِنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِلَّا فَهَذَا
الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
(9/506)
يُجِيزُ أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا، لأََنَّ الَّذِي فَرَضَ لَهَا هُوَ عِتْقُهَا وَهُوَ شَيْءٌ قَدْ تَمَّ فَلاَ يُسْتَدْرَكُ وَتَكْلِيفُ الْغَرَامَةِ هُوَ إيجَابُ غَيْرِ نِصْفِ مَا فَرَضَ لَهَا فَلاَ يَجُوزُ. وَأَمَّا إنْ لَمْ تَتَزَوَّجْهُ فَإِنْ عَتَقَ لَمْ يَتِمَّ، إنَّمَا هُوَ عِتْقٌ بِشَرْطِ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَيَكُونُ صَدَاقُهَا، فَإِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْهُ فَلاَ صَدَاقَ لِنِكَاحٍ لَمْ يَتِمَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إنْ تَزَوَّجَتْهُ فَقَدْ تَمَّ النِّكَاحُ، وَصَحَّ الْعِتْقُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/507)
ولا تجوز أن تجبر المراة على أن تتجهز اليه بشيء أصلا
...
1849 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُجْبَرَ الْمَرْأَةُ عَلَى أَنْ
تَتَجَهَّزَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ أَصْلاً، لاَ مِنْ صَدَاقِهَا الَّذِي أَصْدَقَهَا،
وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ مَالِهَا، وَالصَّدَاقُ كُلُّهُ لَهَا تَفْعَلُ
فِيهِ كُلِّهِ مَا شَاءَتْ، لاَ إذْنَ لِلزَّوْجِ فِي ذَلِكَ، وَلاَ اعْتِرَاضَ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَغَيْرِهِمْ. وقال مالك: إنْ أَصْدَقَهَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ أُجْبِرَتْ
عَلَى أَنْ تَبْتَاعَ بِكُلِّ ذَلِكَ شُورَةً مِنْ ثِيَابٍ وَوِطَاءٍ وَحُلِيٍّ
تَتَجَمَّلُ بِهِ لَهُ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ تَقْضِيَ مِنْهَا دَيْنًا
عَلَيْهَا إِلاَّ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ فَأَقَلَّ، فَإِنْ أَصْدَقَهَا نِقَارَ
ذَهَبٍ أَوْ نِقَارَ فِضَّةٍ فَهُوَ لَهَا، وَلاَ تُجْبَرُ عَلَى أَنْ تَبْتَاعَ
بِهَا شُورَةً أَصْلاً. فَإِنْ أَصْدَقَهَا حُلِيًّا أُجْبِرَتْ أَنْ تَتَحَلَّى
بِهِ لَهُ، فَإِنْ أَصْدَقَهَا ثِيَابًا وَوِطَاءً أُجْبِرَتْ عَلَى أَنْ
تَلْبَسَهَا بِحَضْرَتِهِ، وَلَمْ تَجِبْ لَهَا عَلَيْهِ كِسْوَةٌ حَتَّى تَمْضِيَ
مُدَّةٌ تَخْلَقُ فِيهَا تِلْكَ الثِّيَابُ. فَإِنْ أَصْدَقَهَا خَادِمًا أُنْثَى
أُجْبِرَتْ عَلَى أَنْ تَخْدُمَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَيْعُهَا. وَإِنْ
أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَلَهَا أَنْ تَفْعَلَ فِيهِ مَا شَاءَتْ مِنْ بَيْعٍ أَوْ
غَيْرِهِ. فَلَوْ أَصْدَقَهَا دَابَّةً، أَوْ مَاشِيَةً، أَوْ ضَيْعَةً، أَوْ
دَارًا، أَوْ طَعَامًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ فِي كُلِّ ذَلِكَ رَأْيٌ، وَهُوَ
لَهَا تَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَتْ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ
أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ إِلاَّ
بِإِذْنِهَا إنْ شَاءَتْ.
قال أبو محمد: قَوْلُ مَالِكٍ هَذَا يَكْفِي مِنْ فَسَادِهِ عَظِيمُ تَنَاقُضِهِ،
وَفَرَّقَهُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ مِنْ ذَلِكَ بِلاَ برهان مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ
سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ،
وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ. وَأَطْرَفُ شَيْءٍ إبَاحَتُهُ لَهَا قَضَاءَ
الثَّلاَثَةِ دَنَانِيرَ وَالدِّينَارَيْنِ فِي دَيْنِهَا فَقَطْ، لاَ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ، فَلَيْتَ شِعْرِي إنْ كَانَ صَدَاقُهَا أَلْفَيْ دِينَارٍ، أَوْ
كَانَ صَدَاقُهَا دِينَارًا وَاحِدًا كَيْفَ الْعَمَلُ فِي ذَلِكَ إنَّ هَذَا
الْعَجَبُ.
قال أبو محمد: وبرهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ، عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} فَافْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
الرِّجَالِ أَنْ يُعْطُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً، وَلَمْ يُبِحْ
لِلرِّجَالِ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ بِطِيبِ أَنْفُسِ النِّسَاءِ، فَأَيُّ بَيَانٍ
بَعْدَ هَذَا نَرْغَبُ أَمْ كَيْفَ تَطِيبُ نَفْسُ مُسْلِمٍ عَلَى مُخَالَفَةِ
هَذَا الْكَلاَمِ لِرَأْيٍ فَاسِدٍ مُتَخَاذِلٍ مُتَنَافِرٍ لاَ يُعْرَفُ
لِقَائِلِهِ فِيهِ سَلَفٌ. وَوَجَدْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَوْجَبَ
لِلْمَرْأَةِ حُقُوقًا فِي مَالِ
(9/507)
زَوْجِهَا أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ وَهِيَ الصَّدَاقُ،
وَالنَّفَقَةُ، وَالْكِسْوَةُ، وَالإِسْكَانُ، مَا دَامَتْ فِي عِصْمَتِهِ
وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يَجْعَلْ لِلزَّوْجِ فِي مَالِهَا حَقًّا
أَصْلاً، لاَ مَا قَلَّ، وَلاَ مَا كَثُرَ.، وَلاَ شَيْءَ أَطْرَفُ مِنْ
إسْقَاطِهِمْ، عَنِ الزَّوْجِ الْكِسْوَةَ مَا دَامَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَكْتَسِيَ
مِنْ صَدَاقِهَا وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ النَّفَقَةُ مَا دَامَ يُمْكِنُهَا أَنْ
تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ صَدَاقِهَا فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْقَطَ مِنْ هَذَا
الْفَرْقِ الْفَاسِدِ وَشَغَبَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ.
فَقُلْنَا: صَدَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ يَحِلُّ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ،
عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلاَ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَمْ يَقُلْ،
فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرٌ
لِقِيَامِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا، وَلاَ لِلْحُكْمِ بِرَأْيِهِ، وَلاَ
لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ. وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهَا يُسْكِنُهَا
حَيْثُ يَسْكُنُ وَيَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى غَيْرِ الْوَاجِبِ،
وَيُرَحِّلُهَا حَيْثُ يَرْحَلُ. ثُمَّ لَوْ كَانَ فِي الآيَةِ لِمَا ادَّعَيْتُمْ
لَكُنْتُمْ أَوَّلَ مُخَالِفِينَ لَهَا، لأََنَّكُمْ خَصَّصْتُمْ بَعْضَ
الصَّدَقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَدُونَ سَائِرِ مَالِهَا، كُلُّ ذَلِكَ تَحَكُّمٌ
بِالْبَاطِلِ بِلاَ برهان. وَشَغَبُوا أَيْضًا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأََرْبَعٍ: لِحُسْنِهَا،
وَمَالِهَا، وَجَمَالِهَا، وَدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ
يَدَاكَ. وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا لاَ نَظِيرَ لَهُ: أَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَنْ تُنْكَحَ لِمَالِهَا، وَلاَ نَدَبَ
إلَى ذَلِكَ، وَلاَ صَوَّبَهُ، بَلْ إنَّمَا أَوْرَدَ ذَلِكَ إخْبَارًا، عَنْ
فِعْلِ النَّاسِ فَقَطْ، وَهَذِهِ أَفْعَالُ الطَّمَّاعِينَ الْمَذْمُومِ
فِعْلُهُمْ فِي ذَلِكَ بَلْ فِي الْخَبَرِ نَفْسِهِ الإِنْكَارُ لِذَلِكَ
بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ" فَلَمْ
يَأْمُرْ بِأَنْ تُنْكَحَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ لِلدِّينِ خَاصَّةً،
لَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ تَنْكِحَ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ لِمَالِهِ، لأََنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ لَهَا الصَّدَاقَ عَلَيْهِ وَالنَّفَقَةَ
وَالْكِسْوَةَ. وَقَدْ جَاءَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيَانُ
النَّهْيِ، عَنْ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا: كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ نَا ابْنُ مُفَرِّجٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّقِّيِّ، حَدَّثَنَا الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا
سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "لاَ تَنْكِحُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَلَعَلَّ حُسْنَهُنَّ
يُرْدِيهِنَّ، وَلاَ تَنْكِحُوهُنَّ لأََمْوَالِهِنَّ فَلَعَلَّ أَمْوَالَهُنَّ
يُطْغِيهِنَّ، وَأَنْكِحُوهُنَّ لِلدِّينِ، وَلاََمَةٌ سَوْدَاءُ خَرْمَاءُ ذَاتُ
دِينٍ أَفْضَلُ" . ثُمَّ إنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفِينَ لِمَا مَوَّهُوا
بِهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ لِمَالِهَا لَوْ أُبِيحَ ذَلِكَ
أَوْ نُدِبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا أَتَوْا بِهِ مِنْ التَّخْلِيطِ فِي الْفَرْقِ
بَيْنَ صَدَاقِ فِضَّةٍ مَضْرُوبَةٍ، وَذَهَبٍ مَضْرُوبٍ، وَبَيْنَ سَبَائِكِ فِضَّةٍ
وَذَهَبٍ غَيْرِ مَضْرُوبَةٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إصْدَاقِ ثِيَابٍ، وَوِطَاءٍ،
وَجَوْهَرٍ، وَخَادِمٍ، وَبَيْنَ إصْدَاقِ حَرِيرٍ، وَقُطْنٍ، وَكَتَّانٍ،
وَصُوفٍ، وَدَابَّةٍ، وَمَاشِيَةٍ، وَعَبْدٍ، وَطَعَامٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ
قَضَاءِ ثَلاَثَةِ دَنَانِيرَ مِنْ دَيْنِهَا فَأَقَلَّ، وَبَيْنَ قَضَائِهَا
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَوَضَحَ عَظِيمُ فَسَادِ تَخْلِيطِ هَذِهِ الأَقْوَالِ
وَبِاَللَّهِ
(9/508)
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَرُبَّمَا يُمَوِّهُونَ
بِمَا نَذْكُرُهُ مِمَّا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ،
حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ جَلاَلِ بْنِ أَبِي
الْجَلاَلِ الْعَتَكِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً خَطَبَ إلَى رَجُلٍ
ابْنَتَهُ مِنْ امْرَأَةٍ عَرَبِيَّةٍ فَأَنْكَحَهَا إيَّاهُ فَبَعَثَ إلَيْهِ
بِابْنَةٍ لَهُ أُخْرَى أُمُّهَا أَعْجَمِيَّةٌ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهَا عَلِمَ
بَعْدَ ذَلِكَ فَأَتَى مُعَاوِيَةَ فَقَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: مُعْضِلَةٌ، وَلاَ
أَبَا حَسَنٍ وَكَانَ عَلِيٌّ حَرْبًا لِمُعَاوِيَةَ فَقَالَ الرَّجُلُ
لِمُعَاوِيَةَ فَأْذَنْ لِي أَنْ آتِيَهُ فَأَذِنَ لَهُ مُعَاوِيَةُ، فَأَتَى
الرَّجُلُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْك يَا عَلِيٌّ،
فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ، فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَضَى عَلِيٌّ عَلَى
أَبِي الْجَارِيَةِ بِأَنْ يُجَهِّزَ ابْنَتَهُ الَّتِي أَنْكَحَهَا إيَّاهُ
بِمِثْلِ الصَّدَاقِ الَّذِي سَاقَ مِنْهَا لأَُخْتِهَا بِمَا أَصَابَ مِنْ
فَرْجِهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ لاَ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ
أُخْتِهَا. قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ: وَأَخْبَرَنِي هُشَيْمٌ قَالَ:
أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ
جَارِيَةً فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لِلَّتِي دَخَلَ
بِهَا الصَّدَاقُ الَّذِي سَاقَ، وَعَلَى الَّذِي غَرَّهُ أَنْ يَزِفَّ إلَيْهِ
امْرَأَتَهُ بِمِثْلِ صَدَاقِهَا.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ
مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ لِلزَّوْجِ فِي ذَلِكَ حَقًّا، وَلاَ أَرَبًا،
إنَّمَا فِيهِمَا أَنْ يَضْمَنَ لِلَّتِي زُوِّجَتْ مِنْهُ وَزُفَّ إلَيْهِ
غَيْرُهَا صَدَاقَهَا الَّذِي اسْتَهْلَكَ لَهَا وَأُعْطِيَ لِغَيْرِهَا بِغَيْرِ
حَقٍّ وَهَكَذَا نَقُولُ. ثُمَّ هُمْ يُخَالِفُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ
عَلِيٍّ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ لِلَّتِي زُفَّتْ إلَيْهِ
الصَّدَاقَ الَّذِي سُمِّيَ لأَُخْتِهَا، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا، بَلْ
إنَّمَا يَقْضُونَ لَهَا بِصَدَاقِ مِثْلِهَا. وَالْمَوْضُوعُ الثَّانِي أَمْرُ
عَلِيٍّ لَهُ أَنْ لاَ يَطَأَ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهُ مَعَهَا إِلاَّ حَتَّى
تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الأُُخْرَى الَّتِي زُفَّتْ إلَيْهِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ
بِهَذَا. فَمِنْ الْمَقْتِ وَالْعَارِ وَالإِثْمِ تَمْوِيهُ مَنْ يُوهِمُ أَنَّهُ
يَحْتَجُّ بِأَثَرٍ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُخَالِفُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ هَذَا مَعَ أَنَّ الْجَلاَلَ بْنَ أَبِي الْجَلاَلِ غَيْرُ
مَشْهُورٍ. وَبِمَا أَخْبَرَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي
قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ، حَدَّثَنَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ نَا
يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ خِطْبَةَ عَلِيٍّ فَاطِمَةَ رضي الله عنهما،
وَأَنَّ عَلِيًّا بَاعَ دِرْعَهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ قَالَ:
فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعْتُهَا فِي حِجْرِهِ
فَقَبَضَ مِنْهَا قَبْضَةً فَقَالَ: يَا بِلاَلٌ أَبْغِنَا بِهَا طِيبًا ،
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَهِّزُوهَا قَالَ: فَجُعِلَ لَنَا سَرِيرٌ مَشْرُوطٌ
بِالشَّرْطِ وَوِسَادَةٌ مِنْ أُدْمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَمِلْءُ الْبَيْتِ
كَثِيبًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُ لاَ تَبْلُغُ قَبْضَةٌ فِي
طِيبٍ، وَسَرِيرٌ مَشْرُوطٌ بِالشَّرِيطِ، وَوِسَادَةٌ مِنْ أُدْمٍ حَشْوُهَا
لِيفٌ: عُشْرَ أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا فَظَهَرَ فَسَادُ
قَوْلِهِمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/509)
وعلى الزوج كسوة الزوجة مذ أن يعقد بها
...
1850 - مَسْأَلَةٌ: وَعَلَى الزَّوْجِ كِسْوَةُ الزَّوْجَةِ مُذْ يَعْقِدُ
النِّكَاحَ وَنَفَقَتُهَا، وَمَا تَتَوَطَّاهُ وَتَتَغَطَّاهُ وَتَفْتَرِشُهُ،
وَإِسْكَانُهَا كَذَلِكَ أَيْضًا صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ذَاتَ أَبٍ أَوْ
يَتِيمَةً غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً دُعِيَ إلَى الْبِنَاءِ أَوْ لَمْ يُدْعَ
نَشَزَتْ أَوْ لَمْ تَنْشِزْ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً بُوِّئَتْ مَعَهُ
بَيْتًا أَوْ لَمْ تُبَوَّأْ. برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ،
حَدَّثَنَا أَبُو قَزَعَةَ الْبَاهِلِيُّ "، عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ
الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا
عَلَيْهِ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمْتُ وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْتُ،
وَلاَ تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلاَ تُقَبِّحْ، وَلاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ.
قال أبو محمد: أَبُو قَزَعَةَ هَذَا هُوَ سُوَيْدُ بْنُ حُجَيْرٍ ثِقَةٌ، رَوَى
عَنْهُ شُعْبَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَابْنُهُ
قَزَعَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ،
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ حَاتِمِ
بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ: "فَاتَّقُوا
اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ
وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ
أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ
فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" . فَعَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم كُلَّ النِّسَاءِ وَلَمْ يَخُصَّ نَاشِزًا مِنْ غَيْرِهَا، وَلاَ صَغِيرَةً،
وَلاَ كَبِيرَةً، وَلاَ أَمَةً مُبَوَّأَةً بَيْتًا مِنْ غَيْرِهَا وَمَا
يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا. حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ: أَنْ اُنْظُرُوا إلَى مَنْ طَالَتْ
غَيْبَتُهُ أَنْ يَبْعَثُوا بِنَفَقَةٍ أَوْ يَرْجِعُوا وَذَكَرَ بَاقِي
الْخَبَرِ، فَلَمْ يَسْتَثْنِ عُمَرُ امْرَأَةً مِنْ امْرَأَةٍ.نَا مُحَمَّدُ بْنُ
سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا
قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَأَلْت الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، عَنْ
امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَاضِبَةً هَلْ لَهَا نَفَقَةٌ قَالَ:
نَعَمْ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا، عَنْ نَحْوِ خَمْسَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ: لاَ
نَفَقَةَ لِنَاشِزٍ وَهَذَا قَوْلٌ خَطَأٌ مَا نَعْلَمُ لِقَائِلِهِ حُجَّةً. فإن
قيل: إنَّ النَّفَقَةَ بِإِزَاءِ الْجِمَاعِ، وَالطَّاعَةِ قلنا: لاَ، بَلْ هَذَا
الْقَوْلُ كَذِبٌ، وَأَوَّلُ مَنْ يُبْطِلُهُ أَنْتُمْ، أَمَّا الْحَنَفِيُّونَ،
وَالشَّافِعِيُّونَ فَيُوجِبُونَ النَّفَقَةَ
(9/510)
عَلَى الزَّوْجِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرَةِ،
وَلاَ جِمَاعَ هُنَالِكَ، وَلاَ طَاعَةَ. وَالْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ،
وَالشَّافِعِيُّونَ: يُوجِبُونَ النَّفَقَةَ عَلَى "الْمَجْبُوبِ
وَالْعِنِّينِ". وَلاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَرِيضَةِ
الَّتِي لاَ يُمْكِنُ جِمَاعُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا عَلَى
النَّاشِزِ فَقَالَ: {وَاَللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} . فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى
النَّاشِزِ إِلاَّ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ، وَلَمْ يُسْقِطْ عَزَّ وَجَلَّ
نَفَقَتَهَا، وَلاَ كِسْوَتَهَا فَعَاقَبْتُمُوهُنَّ أَنْتُمْ بِمَنْعِهَا
حَقَّهَا، وَهَذَا شَرْعٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَهُوَ
بَاطِلٌ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّهَا ظَالِمَةٌ بِنُشُوزِهَا قلنا: نَعَمْ، وَلَيْسَ
كُلُّ ظَالِمٍ يَحِلُّ مَنْعُهُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ
نَصٌّ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ، هَذَا حُكْمُ الشَّيْطَانِ،
وَظُلْمَةُ الْعُمَّالِ وَالشَّرْطِ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ لاَ
يُسْقِطُونَ قَرْضًا أَقْرَضَتْهُ إيَّاهُ مِنْ أَجْلِ نُشُوزِهَا فَمَا ذَنْبُ
نَفَقَتِهَا تَسْقُطُ دُونَ سَائِرِ حُقُوقِهَا إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ عَجِيبٌ
وَقَالَ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابُنَا. وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَسْقَطَهَا حُجَّةً
أَصْلاً، فَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَصَحَّ أَنَّ مَنْ لاَ برهان لَهُ عَلَى
صِحَّةِ قَوْلِهِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ. وقال مالك: لاَ نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ
إِلاَّ حَتَّى يُدْعَى إلَى الْبِنَاءِ.
قال أبو محمد: هَذَا الْحُكْمُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ لاَ برهان عَلَى صِحَّتِهَا،
لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ،
وَلاَ رَأْيٍ صَحِيحٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ جَاءَتْ
بِخِلاَفِهِ فَهُوَ سَاقِطٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/511)
ولا يحل لأب البكر صغيرة مانت أة كبيرة أو الثيب ولا
لغيره من سائر القرابة .....
...
1851 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََبِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ
كَبِيرَةً أَوْ الثَّيِّبِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْقَرَابَةِ أَوْ
غَيْرِهِمْ: حُكْمٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صَدَاقِ الأَبْنَةِ، أَوْ الْقَرِيبَةِ، وَلاَ
لأََحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَنْ يَهَبَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِنْهُ، لاَ لِلزَّوْجِ
طَلَّقَ أَوْ أَمْسَكَ، وَلاَ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَهُوَ مَفْسُوخٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ أَبَدًا. وَلَهَا أَنْ تَهَبَ صَدَاقَهَا أَوْ
بَعْضَهُ لِمَنْ شَاءَتْ، وَلاَ اعْتِرَاضَ لأََبٍ، وَلاَ لِزَوْجٍ فِي ذَلِكَ
هَذَا إذْ كَانَتْ بَالِغَةً عَاقِلَةً بَقِيَ لَهَا بَعْدَهُ غِنًى وَإِلَّا
فَلاَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} إنَّمَا هُوَ
أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا وَقَدْ كَانَ
سَمَّى لَهَا صَدَاقًا رَضِيَتْهُ فَلَهَا نِصْفُ صَدَاقِهَا الَّذِي سُمِّيَ
لَهَا، إِلاَّ أَنْ تَعْفُوَ هِيَ فَلاَ تَأْخُذُ مِنْ زَوْجِهَا شَيْئًا مِنْهُ
وَتَهَبُ لَهُ النِّصْفَ الْوَاجِبَ لَهَا، أَوْ يَعْفُوَ الزَّوْجُ فَيُعْطِيهَا
الْجَمِيعَ، فَأَيُّهُمَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. وَهَذَا
مَكَانٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ كَمَا قلنا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْت عِيسَى
بْنَ عَاصِمٍ يَقُولُ: سَمِعْت شُرَيْحًا يَقُولُ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، عَنِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ؟
(9/511)
فَقُلْت: هُوَ الْوَلِيُّ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُوَ الزَّوْجُ. مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الزَّوْجُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا فَأَكْمَلَ لَهَا الصَّدَاقَ وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ يَعْنِي الزَّوْجَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: هُوَ الزَّوْجُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْعُذْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَيْسُونَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُزَيْقٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الطَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ قَتَادَةَ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالاَ جَمِيعًا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٌ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وطَاوُوس، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: هُوَ الْوَلِيُّ، قَالَ: فَأَخْبَرْتهمْ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَرَجَعُوا، عَنْ قَوْلِهِمْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الزَّوْجُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ إيَاسِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى غَفْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ. وَمِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ نَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: هُوَ الزَّوْجُ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الْوَلِيُّ [ جُمْلَةً ] صَحَّ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إنْ عَفَا وَلِيُّهَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَضَنَّتْ جَازَ، وَإِنْ أَبَتْ. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ كَانَ يَقُولُ: أَوْ يَعْفُوَ أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا إنْ كَانَ وُصُولاً وَإِنْ كَرِهَتْ الْمَرْأَةُ. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ عَطَاءٍ، وَعَلْقَمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلاً لَمْ
(9/512)
يَصِحَّ عَنْهُ لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ
أَنَّهُ وَلِيُّ الْبِكْرِ جُمْلَةً وَصَحَّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ
أَنَّهُ الأَبُ جُمْلَةً. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ،
عَنْ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ السَّيِّدُ يَعْفُو، عَنْ صَدَاقِ
أَمَتِهِ، وَالأَبُ خَاصَّةً فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ خَاصَّةً: يَجُوزُ عَقْدُهُ،
عَنْ صَدَاقِهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: فَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ: فَوَجَدْنَا قَوْلَ رَبِيعَةَ،
وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَمَالِكٍ أَظْهَرَهَا فَسَادًا وَأَبْعَدَهَا، عَنْ
مُقْتَضَى الآيَةِ جُمْلَةً وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ سَيِّدَ الأَمَةِ وَوَالِدَ الْبِكْرِ خَاصَّةً لَمَا
سَتَرَهُ، وَلاَ كَتَمَهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ عَلَى لِسَانِ
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: هَذَانِ لاَ يَصِحُّ نِكَاحُ الأَمَةِ
وَالْبِكْرِ إِلاَّ بِعَقْدِهِمَا قلنا: نَعَمْ، وَلاَ يَصِحُّ أَيْضًا إِلاَّ
بِرِضَا الزَّوْجِ وَإِلَّا فَلاَ، فَلَهُ فِي ذَلِكَ كَاَلَّذِي لِلسَّيِّدِ،
وَلِلأَبِ سَوَاءً سَوَاءً، فَمَنْ جَعَلَهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ
بِأَيْدِيهِمَا عُقْدَةُ النِّكَاحِ مِنْ الزَّوْجِ مَعَ تَخْصِيصِ الآيَةِ بِلاَ
برهان مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ،، وَلاَ
قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ
جُمْلَةً وَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: إنَّهُ الأَبُ أَيْضًا
جُمْلَةً وَكَذَلِكَ سَقَطَ أَيْضًا الْقَوْلُ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ
وَلِيُّ الْبِكْرِ جُمْلَةً. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ
الْوَلِيُّ: فَوَجَدْنَا الأَوْلِيَاءَ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ ذَكَرْنَا
مِنْ أَبِ الْبِكْرِ، وَسَيِّدِ الأَمَةِ، فَكَانَ حَظُّ هَذَيْنِ فِي كَوْنِ
عُقْدَةِ النِّكَاحِ بِأَيْدِيهِمَا كَحَظِّ الزَّوْجِ فِي كَوْنِ عُقْدَةِ
النِّكَاحِ بِيَدِهِ سَوَاءً سَوَاءً، وَقَدْ يَسْقُطُ حُكْمُ الأَبِ فِي
الْبِكْرِ بِأَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَهِيَ مُؤْمِنَةٌ أَوْ هُوَ مُؤْمِنٌ وَهِيَ
كَافِرَةٌ أَوْ بِأَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا وَيَسْقُطُ أَيْضًا حُكْمُ السَّيِّدِ
فِي أَمَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي:
سَائِرُ الأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لاَ يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ، لَكِنْ إنْ أَبَوْا
أُخْرِجَ الأَمْرُ، عَنْ أَيْدِيهِمْ وَعَقَدَ السُّلْطَانُ نِكَاحَهَا،
فَهَؤُلاَءِ حَظُّ الزَّوْجِ فِي كَوْنِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ بِيَدِهِ أَكْمَلُ
مِنْ حَظِّ الأَوْلِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ. فَوَجَدْنَا أَمَدَ الأَوْلِيَاءِ
مُضْطَرِبًا كَمَا تَرَى، ثُمَّ إنَّمَا هُوَ الْعَقْدُ فَقَطْ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ
بِأَيْدِيهِمْ جُمْلَةً مِنْ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، بَلْ هِيَ إلَى الزَّوْجِ إنْ
شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ حَلَّهَا بِالطَّلاَقِ. وَوَجَدْنَا أَمَرَ
الزَّوْجِ ثَابِتًا فِي أَنَّ عُقْدَةَ كُلِّ نِكَاحٍ بِيَدِهِ، وَلاَ تَصِحُّ
إِلاَّ بِإِرَادَتِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلاَ تَحِلُّ إِلاَّ بِإِرَادَتِهِ، فَكَانَ
أَحَقَّ بِإِطْلاَقِ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ. ثُمَّ الْبُرْهَانُ
الْقَاطِعُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا} . وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَكَانَ عَفْوُ الْوَلِيِّ،
عَنْ مَالِ وَلِيِّهِ كَسْبًا عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَحُكْمًا فِي مَالِ
غَيْرِهِ فَهُوَ حَرَامٌ فَصَحَّ أَنَّهُ الزَّوْجُ الَّذِي يَفْعَلُ فِي مَالِ
نَفْسِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ عَفْوٍ أَوْ يَقْضِي بِحَقِّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/513)
1852 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ نِكَاحُ الشِّغَارِ: وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذَا وَلِيَّةَ هَذَا عَلَى
(9/513)
أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ وَلِيَّتَهُ أَيْضًا،
سَوَاءٌ ذَكَرَا فِي كُلِّ ذَلِكَ صَدَاقًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَوْ
لأَِحْدَاهُمَا دُونَ الأُُخْرَى، أَوْ لَمْ يَذْكُرَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ صَدَاقًا،
كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ يُفْسَخُ أَبَدًا، وَلاَ نَفَقَةَ فِيهِ،، وَلاَ مِيرَاثَ،
وَلاَ صَدَاقَ، وَلاَ شَيْءَ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلاَ عِدَّةَ.
فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ كَامِلاً، وَلاَ يَلْحَقُ بِهِ
الْوَلَدُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَالْوَلَدُ لَهُ
لاَحِقٌ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ عَالِمَةً بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ،
وَإِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا.
قال أبو محمد: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَقَالَ مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ هَذَا
النِّكَاحُ وَيُفْسَخُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ:
أُزَوِّجُك ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلاَ
خَيْرَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يُفْسَخُ، هَذَا إنْ دَخَلَ
بِهَا. وقال الشافعي: يُفْسَخُ هَذَا النِّكَاحُ إذَا لَمْ يُسَمَّ فِي ذَلِكَ
مَهْرٌ، فَإِنْ سَمَّيَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا، أَوْ
لأَِحْدَاهُمَا دُونَ الأُُخْرَى ثَبَتَ النِّكَاحَانِ مَعًا، وَبَطَلَ الْمَهْرُ
الَّذِي سَمَّيَا، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ
مَاتَ، أَوْ وَطِئَهَا، أَوْ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ طَلَّقَ قَبْلَ
الدُّخُولِ. وَقَالَ اللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: هُوَ نِكَاحٌ
صَحِيحٌ ذَكَرَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقًا، أَوْ لأَِحْدَاهُمَا دُونَ
الأُُخْرَى، أَوْ لَمْ يَذْكُرَا صَدَاقًا أَصْلاً، أَوْ اشْتِرَاطًا وَبَيَّنَّا
أَنَّهُ لاَ صَدَاقَ فِي ذَلِكَ، قَالُوا: وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ فِي هَذَا مَهْرُ
مِثْلِهَا. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُمَا إنْ سَمَّيَا صَدَاقًا
أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا إِلاَّ الْمُسَمَّى.
قال أبو محمد: وَاَلَّذِي قلنا بِهِ هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، فَوَجَبَ النَّظَرُ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَوَجَدْنَا فِي ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم عَنِ الشِّغَارِ" ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ
لِلرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، أَوْ زَوِّجْنِي
أُخْتَكَ وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي وَقَدْ رُوِّينَاهُ أَيْضًا مُسْنَدًا صَحِيحًا
مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ هَذَا
تَحْرِيمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ
سِوَاهُ.
فَنَظَرْنَا فِي أَقْوَالِ مَنْ خَالَفَ: فأما قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ إنَّهُ
يَصِحُّ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَقَوْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ تَبْيِينُنَا لِفَسَادِهِ
وَتَعَرِّيهِ مِنْ الْبُرْهَانِ جُمْلَةً. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا فَسَدَ هَذَا
النِّكَاحُ لِفَسَادِ صَدَاقِهِ فَقَطْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
وَالصَّدَاقُ الْفَاسِدُ يَفْسَخُ، فَكَانَ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
صَدَاقًا لِلأُُخْرَى، فَهُمَا مَفْسُوخَانِ قَالَ: فَإِنْ سَمَّيَا لأَِحْدَاهُمَا
صَدَاقًا صَحَّ ذَلِكَ النِّكَاحُ، وَصَحَّ نِكَاحُ الأُُخْرَى لِصِحَّةِ
صَدَاقِهِ.
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا قَوْلاً فَاسِدًا، لأََنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا
الْعَقْدُ الَّذِي سُمِّيَ فِيهِ الصَّدَاقُ صَحِيحًا فَهُوَ صَدَاقٌ صَحِيحٌ،
فَلاَ مَعْنَى لِفَسْخِهِ وَإِصْلاَحِهِ بِصَدَاقٍ آخَرَ إذًا. فإن قال قائل: بَلْ
هُوَ فَاسِدٌ قلنا: فَقُلْ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يُجِيزُ كُلَّ ذَلِكَ
وَيُصْلِحُ الصَّدَاقَ، وَإِلَّا فَهِيَ
(9/514)
مُنَاقَضَةٌ ظَاهِرَةٌ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ، فَوَجَدْنَاهُ ظَاهِرَ الْفَسَادِ لِمُخَالَفَةِ حُكْمِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا.
قال أبو محمد: وَدَعْوَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى، عَنِ الشِّغَارِ
لِفَسَادِ الصَّدَاقِ فِي كِلَيْهِمَا دَعْوَى كَاذِبَةٌ، لأََنَّهَا تَقْوِيلٌ
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ
الشِّغَارِ" وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ
يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَآخَرَ
مَعَهُ هُوَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "لاَ شِغَارَ فِي الإِسْلاَمِ" وَالشِّغَارُ أَنْ
يُبَدِّلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أُخْتَهُ بِأُخْتِهِ بِغَيْرِ ذِكْرِ صَدَاقٍ
وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ. قلنا: أَمَّا هَذَانِ الْخَبَرَانِ فَهُمَا خِلاَفُ
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، كَاَلَّذِي قَدَّمْنَا، وَلاَ فَرْقَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلاَ حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ
لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَإِنْ ذُكِرَ فِيهِمَا صَدَاقٌ أَوْ
لأَِحْدَاهُمَا فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ذَلِكَ الصَّدَاقَ جُمْلَةً بِكُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ
هَذَا فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ فَقَدْ خَالَفَ مَا فِيهِمَا. وَالْوَجْهُ
الآخَرُ وَهُوَ الَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ
إنَّمَا فِيهِمَا تَحْرِيمُ الشِّغَارِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا الصَّدَاقُ
فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الشِّغَارِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الصَّدَاقُ لاَ
بِتَحْرِيمٍ، وَلاَ بِإِجَازَةٍ وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فَقَدْ ادَّعَى الْكَذِبَ
وَقَوَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، فَوَجَبَ
أَنْ نَطْلُبَ حُكْمَ الشِّغَارِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الصَّدَاقُ فِي غَيْرِ
هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ: فَوَجَدْنَا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٍ قَدْ
وَرَدَا بِعُمُومِ الشِّغَارِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ الزَّوَاجُ بِالزَّوَاجِ، وَلَمْ
يُشْتَرَطْ عليه الصلاة والسلام فِيهِمَا ذِكْرُ صَدَاقٍ، وَلاَ السُّكُوتُ
عَنْهُ، فَكَانَ خَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ زَائِدًا عَلَى خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ،
وَخَبَرُ أَنَسٍ زِيَادَةُ عُمُومٍ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا.
قال أبو محمد: وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ
شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِل ٌ". وَوَجَدْنَا الشِّغَارَ
ذُكِرَ فِيهِ صَدَاقٌ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ قَدْ اشْتَرَطَا فِيهِ شَرْطًا لَيْسَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَارِسٍ،
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الأَعْرَجُ قَالَ: إنَّ الْعَبَّاسَ
بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْكَحَ ابْنَتَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَنْكَحَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ ابْنَتَهُ: وَكَانَا جَعَلاَ صَدَاقًا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى
مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ فِي
كِتَابِهِ: هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم.
(9/515)
قال أبو محمد: فَهَذَا مُعَاوِيَةُ بِحَضْرَةِ
الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ يَفْسَخُ هَذَا النِّكَاحَ
وَإِنْ ذَكَرَا فِيهِ الصَّدَاقَ وَيَقُولُ: إنَّهُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ تَشْنِيعِ الْحَنَفِيِّينَ
بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، كَدَعْوَاهُمْ ذَلِكَ فِي نَزْحِ زَمْزَمَ مِنْ
زِنْجِيٍّ مَاتَ فِيهَا فَنَزَحَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ
لَمْ يَلْتَفِتُوا هَاهُنَا إلَى مَا عَظَّمُوهُ وَحَرَّمُوهُ هُنَالِكَ. وَهَذَا
خَبَرٌ صَحِيحٌ، لأََنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ مِمَّنْ أَدْرَكَ
أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ وَرَوَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَشَاهَدَ هَذَا
الْحُكْمَ بِالْمَدِينَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. لاَ سِيَّمَا فِي
مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ
عُظَمَاءِ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي أُمَيَّةَ يَأْتِي بِهِ الْبَرِيدُ مِنْ
الشَّامِ إلَى الْمَدِينَةِ، هَذَا مَا لاَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ
أَهْلِهَا وَالصَّحَابَةُ يَوْمَئِذٍ بِالشَّامِ وَالْمَدِينَةِ أَكْثَرُ عَدَدًا
مِنْ الَّذِينَ كَانُوا أَحْيَاءً أَيَّامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِلاَ شَكٍّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سُئِلَ
عَطَاءٌ، عَنْ رَجُلَيْنِ أَنْكَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُخْتَهُ بِأَنْ
يُجَهِّزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِهَازٍ يَسِيرٍ لَوْ شَاءَ أَخَذَ لَهَا
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لاَ، نُهِيَ، عَنِ الشِّغَارِ: فَقُلْت لَهُ:
إنَّهُ قَدْ أَصْدَقَهَا كِلاَهُمَا قَالَ: لاَ، قَدْ أَرْخَصَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ فَقُلْت لِعَطَاءٍ: يُنْكِحُ
هَذَا ابْنَتَهُ بِكَذَا وَهَذَا ابْنَتَهُ بِكَذَا بِصَدَاقٍ كِلاَهُمَا يُسَمِّي
صَدَاقَهُ، وَكِلاَهُمَا أَرْخَصَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ قَالَ: إذَا
سَمَّيَا صَدَاقًا فَلاَ بَأْسَ، فَإِنْ قَالَ: جَهِّزْ وَأُجَهِّزُ فَلاَ ذَلِكَ
الشِّغَارُ، قُلْت: فَإِنْ فَرَضَ هَذَا وَفَرَضَ هَذَا قَالَ: لاَ.
قال أبو محمد: فَفَرَّقَ عَطَاءٌ بَيْنَ النِّكَاحَيْنِ يُعْقَدُ أَحَدُهُمَا
بِالآخَرِ ذَكَرَا صَدَاقًا أَوْ لَمْ يَذْكُرَا فَأَبْطَلَهُ، وَبَيْنَ
النِّكَاحَيْنِ لاَ يَعْقِدُ أَحَدُهُمَا بِالآخَرِ، فَأَجَازَهُ، وَهَذَا
قَوْلُنَا، وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
خِلاَفًا لِمَا ذَكَرْنَا.
قال أبو محمد: فَإِنْ خَطَبَ أَحَدُهُمَا إلَى الآخَرِ فَزَوَّجَهُ، ثُمَّ خَطَبَ
الآخَرُ إلَيْهِ فَزَوَّجَهُ، فَذَلِكَ جَائِزٌ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ
يُزَوِّجَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَهَذَا هُوَ الْحَرَامُ الْبَاطِلُ. وَالْعَجَبُ
أَنَّ بَعْضَهُمْ احْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ
يُعْقَدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقُهُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا. فَقُلْنَا:
نَعَمْ، وَكُلُّ مَفْسُوخٍ بَاطِلٌ أَبَدًا، لأََنَّهُ عَقَدَ عَلَى أَنْ لاَ
صِحَّةَ لِذَلِكَ الْعَقْدِ إِلاَّ بِذَلِكَ الْمَهْرِ، وَذَلِكَ الْمَهْرُ
بَاطِلٌ، فَاَلَّذِي لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِصِحَّةِ بَاطِلٍ بَاطِلٌ، بِلاَ شَكٍّ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/516)
1853 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَصِحُّ نِكَاحٌ عَلَى شَرْطٍ أَصْلاً، حَاشَا الصَّدَاقَ الْمَوْصُوفَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ الْمَدْفُوعَ، أَوْ الْمُعَيَّنَ، وَعَلَى أَنْ لاَ يَضُرَّ بِهَا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا: إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَأَمَّا بِشَرْطِ هِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ أَنْ لاَ يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، أَوْ أَنْ لاَ يُرَحِّلَهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ
(9/516)
اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ فَهُوَ عَقْدٌ
مَفْسُوخٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ
وَالشُّرُوطُ كُلُّهَا بَاطِلٌ، سَوَاءٌ عَقَدَهَا بِعِتْقٍ أَوْ بِطَلاَقٍ أَوْ
بِأَنْ أَمَرَهَا بِيَدِهَا، أَوْ أَنَّهَا بِالْخِيَارِ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُكْمِهِ، أَوْ عَلَى حُكْمِهَا، أَوْ عَلَى
حُكْمِ فُلاَنٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ عَقْدٌ فَاسِدٌ وَقَدْ أَجَازَ بَعْضَ ذَلِكَ
قَوْمٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ الأَشْعَثَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى
حُكْمِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى صَدَاقٍ، فَجَعَلَ لَهَا
عُمَرُ صَدَاقَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهَا وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، عَنْ عُمَرَ،
لأََنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ رضي الله عنه.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ
قَالَ: فَمَنْ تَزَوَّجَ عَلَى حُكْمِهِ: إنَّهُ لَيْسَ لَهَا إِلاَّ مَا حَكَمَ
بِهِ الزَّوْجُ. وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ، وَالأَوْزَاعِيُّ: إنْ اتَّفَقَا عَلَى
شَيْءٍ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حُكْمِهَا أَوْ حُكْمِهِ جَازَ، فَإِنْ لَمْ
يَتَّفِقَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ: فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا.
وقال مالك: يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بَعْدَ
الدُّخُولِ.
قال أبو محمد: هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، لأََنَّهُ مَجْهُولٌ، قَدْ يُمْكِنُ أَنْ
تَحْتَكِمَ هِيَ بِجَمِيعِ مَا فِي الْعَالَمِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَكِمَ
هُوَ بِلاَ شَيْءٍ، فَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالنِّكَاحُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ. فأما إنْ
اشْتَرَطَا ذَلِكَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَلَهَا مَهْرُ
مِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَوْلُ مَالِكٍ
يُفْسَخُ النِّكَاحُ إنْ لَمْ يَتَّفِقَا: خَطَأٌ، لأََنَّهُ فَسْخُ نِكَاحٍ
صَحِيحٍ بِغَيْرِ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلاَ مِنْ رَسُولِهِ
صلى الله عليه وسلم. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ زَكَرِيَّا، هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ يَحِلُّ لأَمْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاَقَ
أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا فَمَنْ
اشْتَرَطَ مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ شَرْطٌ
بَاطِلٌ، وَإِنْ عُقِدَ عَلَيْهِ نِكَاحٌ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ. وَمِنْ ذَلِكَ
أَنْ لاَ يَشْتَرِطَ لَهَا أَنْ لاَ يُرَحِّلَهَا فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
ذَلِكَ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ
بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنَّهُ
شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ رَجُلٌ أَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً
وَشَرَطَ لَهَا دَارَهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَهَا شَرْطُهَا، فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ عِنْدَهُ: هَلَكَتْ الرِّجَالُ إذْ لاَ تَشَاءُ امْرَأَةٌ تُطَلِّقُ
زَوْجَهَا إِلاَّ طَلَّقَتْهُ فَقَالَ عُمَرُ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ
عِنْدَ مَقَاطِعِ حُقُوقِهِمْ. وبه إلى سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ نَا عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّ
مُعَاوِيَةَ أُتِيَ فِي ذَلِكَ فَاسْتَشَارَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَقَالَ: لَهَا
شَرْطُهَا
(9/517)
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَرُوِيَ، عَنْ شُرَيْحٍ. وَقَالَ
آخَرُونَ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ كَثِيرِ
بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ رَجُلاً
تَزَوَّجَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَشَرَطَ لَهَا أَنْ لاَ
يُخْرِجَهَا، فَوَضَعَ عُمَرُ عَنْهُ الشَّرْطَ وَقَالَ: الْمَرْأَةُ مَعَ
زَوْجِهَا. وبه إلى سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ
عَمْرٍو، عَنْ عَبَّادٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الرَّجُلِ
يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ يَشْتَرِطُ لَهَا دَارَهَا فَقَالَ: شَرْطُ اللَّهِ
قَبْلَ شَرْطِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ،
حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، وَيُونُسُ، قَالَ مُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَقَالَ
يُونُسُ: عَنِ الْحَسَنِ، قَالاَ جَمِيعًا: يَجُوزُ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ
الشَّرْطُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يَبْطُلُ الشَّرْطُ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ مُعَلَّقًا بِطَلاَقٍ أَوْ بِعَتَاقٍ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ أَمْرُهَا
بِيَدِهَا أَوْ بِتَخْيِيرِهَا. قال علي: هذا قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ، عَنْ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ خِلاَفٌ لِكُلِّ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِإِلْزَامِ هَذِهِ الشُّرُوطِ: بِمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ
حَمَّادٍ زُغْبَةُ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ
تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ" .
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ، وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِهِ، لأََنَّهُمْ
لاَ يَخْتَلِفُونَ مَعَنَا، وَلاَ مُسْلِمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ: فِي أَنَّهُ
إنْ شَرَطَ لَهَا أَنْ تَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ أَنْ تَأْكُلَ لَحْمَ
الْخِنْزِيرِ، أَوْ أَنْ تَدَعَ الصَّلاَةَ، أَوْ أَنْ تَدَعَ صَوْمَ رَمَضَانَ،
أَوْ أَنْ يُغَنِّيَ لَهَا، أَوْ أَنْ يَزْفِنَ لَهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: أَنَّ
كُلَّ ذَلِكَ كُلِّهِ بَاطِلٌ لاَ يَلْزَمُهُ. فَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ قَطُّ فِي هَذَا الْخَبَرِ شَرْطًا فِيهِ
تَحْرِيمُ حَلاَلٍ، أَوْ تَحْلِيلُ حَرَامٍ، أَوْ إسْقَاطُ فَرْضٍ، أَوْ إيجَابُ
غَيْرِ فَرْضٍ، لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ خِلاَفٌ لأََوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَلأََوَامِرِهِ عليه الصلاة والسلام. وَاشْتِرَاطُ الْمَرْأَةِ أَنْ لاَ
يَتَزَوَّجَ، أَوْ أَنْ لاَ يَتَسَرَّى، أَوْ أَنْ لاَ يَغِيبَ عَنْهَا أَوْ أَنْ
لاَ يُرَحِّلَهَا، عَنْ دَارِهَا كُلُّ ذَلِكَ تَحْرِيمُ حَلاَلٍ، وَهُوَ وَتَحْلِيلُ
الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ سَوَاءٌ، فِي أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ خِلاَفٌ لِحُكْمِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا أَرَادَ
شَرْطَ الصَّدَاقِ الْجَائِزِ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَهُوَ
الَّذِي اسْتَحَلَّ بِهِ الْفَرْجَ لاَ مَا سِوَاهُ. وَأَمَّا تَعْلِيقُ ذَلِكَ
كُلِّهِ بِطَلاَقٍ، أَوْ بِعَتَاقٍ، أَوْ تَخْيِيرِهَا، أَوْ تَمْلِيكِهَا
أَمْرَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ.لِمَا ذَكَرْنَا فِي "كِتَابِ
الأَيْمَانِ" مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاَللَّه" ِ.
فَصَحَّ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ حَالِفًا، وَلاَ
هِيَ يَمِينًا، وَهُوَ بَاطِلٌ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ اسْتِغْفَارُ اللَّهِ تَعَالَى
وَالتَّوْبَةُ فَقَطْ، وَلِمَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ مِنْ
(9/518)
أَنَّ تَخْيِيرَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، أَوْ
تَمْلِيكَهُ إيَّاهَا أَمْرَهَا: كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمْ يُوجِبْ قَطُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَصَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ عَمَلَ عَمَلاً
لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَلاَ
يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ خِيَارٌ فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا أَوْ الْبَقَاءِ مَعَهُ
إِلاَّ حَيْثُ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُعْتَقَةِ، وَلاَ تَمْلِكُ
الْمَرْأَةُ أَمْرَ نَفْسِهَا أَبَدًا فَسَقَطَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلاَ يَجُوزُ النِّكَاحُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ
وَصَيْفًا غَيْرَ مَوْصُوفٍ، أَوْ خَادِمًا غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ، أَوْ بَيْتًا
غَيْرَ مَوْصُوفٍ، وَلاَ مَحْدُودٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُبْطِلُ النِّكَاحَ إنْ
عَقَدَ عَلَيْهِ، لأََنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ يَعْرِفُ مَا هُوَ، فَلَمْ يَتَّفِقَا
عَلَى صَدَاقٍ مَعْرُوفٍ، بَلْ عَلَى مَالِهَا أَنْ تَقُولَ: قِيمَةُ كُلِّ ذَلِكَ
أَلْفُ دِينَارٍ، وَيَقُولَ هُوَ: بَلْ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَإِنْ تَعَاقَدَا
ذَلِكَ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَالصَّدَاقُ فَاسِدٌ،
وَيَقْضِي لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا إنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى أَقَلَّ أَوْ
أَكْثَرَ: رُوِّينَا إجَازَةَ ذَلِكَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَصَحَّ،
عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَزَوَّجَ عَلَى وَصَيْفٍ فَإِنَّهُ
يَقُومُ عَرَبِيٌّ وَهِنْدِيٌّ، وَحَبَشِيٌّ، وَتُجْمَعُ الْقِيَمُ وَيَقْضِي
لَهَا بِمِثْلِهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا فِي الْوَصِيفِ الأَبْيَضِ
خَمْسُونَ مِثْقَالاً، فَإِنْ أَعْطَاهَا وَصَيْفًا يُسَاوِي خَمْسِينَ دِينَارًا
مِنْ ذَهَبٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا غَيْرُهُ، وَإِلَّا فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِتَمَامِ
خَمْسِينَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ، وَيَقْضِي لَهَا فِي الْبَيْتِ بِأَرْبَعِينَ
دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِي الْخَادِمِ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ.
قال أبو محمد: فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَجَبٌ يُغْنِي إيرَادُهُ، عَنْ
تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِمَا مِنْ التَّحَكُّمِ الْبَارِدِ
بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى. وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ:
لَهَا الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ. قال علي: وهذا عَجَبٌ آخَرُ، وَلَيْتَ شِعْرِي كَمْ
هَذَا الْوَسَطُ وَمِنْ الْوُصَفَاءِ مَا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِينَارًا، فَظَهَرَ فَسَادُ هَذِهِ
الآرَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/519)
1854 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَلاَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ النِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ، وَكَانَ حَلاَلاً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم نَسْخًا بَاتًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَلَى تَحْلِيلِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، رضي الله عنهم، مِنْهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَسَلَمَةُ، وَمَعْبَدٌ ابْنَا أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَرَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ مُدَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّةَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ إلَى قُرْبِ آخَرِ خِلاَفَةِ عُمَرَ. وَاخْتُلِفَ
(9/519)
فِي إبَاحَتِهَا، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَنْ
عَلِيٍّ فِيهَا تَوَقُّفٌ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ إنَّمَا
أَنْكَرَهَا إذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا عَدْلاَنِ فَقَطْ، وَأَبَاحَهَا
بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: طَاوُوس، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ أَعَزَّهَا اللَّهُ. وَقَدْ
تَقَصَّيْنَا الآثَارَ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِنَا الْمَوْسُومِ بِ "
الإِيصَالُ " وَصَحَّ تَحْرِيمُهَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي
عَمْرَةَ الأَنْصَارِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا: عَنْ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهَا وَفَسْخِ
عَقْدِهَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو سُلَيْمَانَ. وَقَالَ زُفَرُ: يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ.
قال أبو محمد: لَقَدْ صَحَّ تَحْرِيمُ الشِّغَارِ، وَالْمَوْهُوبَةِ،
فَأَبَاحُوهَا، وَهِيَ فِي التَّحْرِيمِ أَبْيَنُ مِنْ الْمُتْعَةِ وَلَكِنَّهُمْ
لاَ يُبَالُونَ بِالتَّنَاقُضِ. وَنَقْتَصِرُ مِنْ الْحُجَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا
عَلَى خَبَرِ ثَابِتٍ وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ
الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " خَرَجْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ
فَقَالَ " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ
يَخْطُبُ وَيَقُولُ: "مَنْ كَانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ
فَلْيُعْطِهَا مَا سَمَّى لَهَا، وَلاَ يَسْتَرْجِعْ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا،
وَيُفَارِقْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ" .
قال أبو محمد: مَا حَرَّمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَدْ أَمِنَّا نَسْخَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ زُفَرَ فَفَاسِدٌ، لأََنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ عَلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى. فَمَنْ أَبْطَلَ هَذَا الشَّرْطَ وَأَجَازَ الْعَقْدَ، فَإِنَّهُ
أَلْزَمَهُمَا عَقْدًا لَمْ يَتَعَاقَدَاهُ قَطُّ، وَلاَ الْتَزَمَاهُ قَطُّ،
لأََنَّ كُلَّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ يَدْرِي بِلاَ شَكٍّ أَنَّ الْعَقْدَ
الْمَعْقُودَ إلَى أَجَلٍ هُوَ غَيْرُ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ
[ بِلاَ شَكٍّ ]. فَمِنْ الْبَاطِلِ إبْطَالُ عَقْدٍ تَعَاقَدَاهُ
وَإِلْزَامُهُمَا عَقْدًا لَمْ يَتَعَاقَدَاهُ، وَهَذَا لاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ
إِلاَّ أَنْ يَأْمُرَنَا بِهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ
وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، لاَ أَحَدَ دُونَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/520)
ولا يحل نكاح الأم ولا الجدة من فبل الاب ....
...
1855 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ نِكَاحُ الأُُمِّ، وَلاَ الْجَدَّةِ مِنْ قِبَلِ
الأَبِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الأُُمِّ، وَإِنْ بَعُدَتَا. وَلاَ الْبِنْتِ، وَلاَ
بِنْتٍ مِنْ قِبَلِ الْبِنْتِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الأَبْنِ وَإِنْ سَفُلَتَا. وَلاَ
نِكَاحُ الأُُخْتِ كَيْفَ كَانَتْ، وَلاَ نِكَاحُ بِنْتِ أَخٍ، أَوْ بِنْتِ
أُخْتٍ، وَإِنْ سَفُلَتَا. وَلاَ نِكَاحُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَإِنْ
بَعُدَتَا. وَلاَ نِكَاحُ أُمِّ الزَّوْجِ، وَلاَ جَدَّتِهَا، وَإِنْ بَعُدَتْ.
وَلاَ أُمِّ الأَمَةِ الَّتِي حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلاَ نِكَاحُ جَدَّتِهَا
وَإِنْ بَعُدَتْ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ
الأُُخْتِ} إلَى قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} .
(9/520)
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْجَدَّةُ كَيْفَ كَانَتْ أُمَّ أَبٍ، أَوْ أُمَّ جَدٍّ، أَوْ أُمَّ جَدِّ جَدٍّ، أَوْ أُمَّ أُمِّ جَدٍّ، أَوْ جَدَّةَ أُمٍّ، أَوْ أُمَّ أُمٍّ. كُلُّ هَؤُلاَءِ " أُمٌّ " قَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} وَالأُُخْتُ تَكُونُ شَقِيقَةً، وَتَكُونُ لأََبٍ، وَتَكُونُ لأَُمٍّ. وَبِنْتُ الْبِنْتِ، وَبِنْتُ الأَبْنِ، وَبِنْتُ ابْنِ الْبِنْتِ، وَبِنْتُ بِنْتِ الأَبْنِ. وَهَكَذَا كَيْفَ كَانَتْ، كُلُّ هَؤُلاَءِ " بِنْتٌ " قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا بَنِي آدَمَ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَيْضِ "هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَم َ". وَبِنْتُ بِنْتِ الأَخِ، وَبِنْتُ ابْنِ الأَخِ، كُلُّهُنَّ بَنَاتُ أَخٍ. وَبِنْتُ بِنْتِ الأُُخْتِ، وَبِنْتُ ابْنِ الأُُخْتِ، كُلُّ هَؤُلاَءِ بِنْتُ أُخْتٍ. وَأُخْتُ الْجَدِّ مِنْ الأَبِ، وَأُخْتُ جَدِّ الْجَدِّ مِنْ الأَبِ، كُلُّهُنَّ عَمَّةٌ. وَأُخْتُ الْجَدِّ مِنْ الأُُمِّ، وَأُخْتُ الْجَدَّةِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ وَالأُُمِّ، كُلُّهُنَّ خَالَةٌ. وَالزَّوْجَةُ، وَالأَمَةُ الَّتِي حَلَّ وَطْؤُهَا لِلرَّجُلِ، كُلُّهُنَّ مِنْ نِسَائِهِ. وَكُلُّ هَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ الأَمَةَ وَابْنَتَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّ قَوْمًا أَحَلُّوهُمَا.
(9/521)
1856 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا حَرُمَ مِنْ
الأَنْسَابِ، وَالْحُرُمُ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ،
كَالْمَرْأَةِ الَّتِي تُرْضِعُ الرَّجُلَ فَهِيَ أُمُّهُ، وَأُمُّهَا جَدَّتُهُ،
وَجَدَّاتُهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا كُلُّهُنَّ أُمٌّ لَهُ. وَكُلُّ
مَنْ أَرْضَعَتْهُ فَهُنَّ أَخَوَاتُهُ وَإِخْوَتُهُ. وَمَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُمْ
فَهُنَّ بَنَاتُ إخْوَتِهِ وَبَنَاتُ أَخَوَاتِهِ. وَعَمَّاتُ الَّتِي
أَرْضَعَتْهُ وَخَالاَتُهَا خَالاَتُهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَعَمَّاتُ أَبِيهِ مِنْ
الرَّضَاعَةِ عَمَّاتُهُ وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا حَرَّمَتْهُ الْوِلاَدَةُ
حَرَّمَهُ الرَّضَاعُ.
(9/521)
1857- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْجَمْعُ فِي اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ بَيْنَ الأُُخْتَيْنِ مِنْ وِلاَدَةٍ أَوْ مِنْ رَضَاعٍ كَمَا ذَكَرْنَا لاَ بِزَوَاجٍ، وَلاَ بِمِلْكِ يَمِينٍ، وَلاَ إحْدَاهُمَا بِزَوَاجٍ، وَالأُُخْرَى بِمِلْكِ يَمِينٍ، وَلاَ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ أَخِيهَا، وَلاَ بَيْنَ الْخَالَةِ وَبِنْتِ أُخْتِهَا، كَمَا قلنا فِي الأُُخْتَيْنِ سَوَاءً سَوَاءً. فَمَنْ اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ أُخْتَانِ، أَوْ عَمَّةٌ وَبِنْتُ أَخِيهَا، أَوْ خَالَةٌ وَبِنْتُ أُخْتِهَا، فَهُمَا جَمِيعًا عَلَيْهِ حَرَامٌ، حَتَّى يُخْرِجَ إحْدَاهُمَا، عَنْ مِلْكِهِ بِمَوْتٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ، أَوْ حَتَّى تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بِأَيِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ: حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْبَاقِيَةِ. فَإِنْ رَجَعَتْ إلَى مِلْكِهِ الأُُخْرَى رَجَعَتْ حَرَامًا كَمَا كَانَتْ، وَبَقِيَتْ الأُُولَى حَلاَلاً كَمَا كَانَتْ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا، عَنْ مِلْكِهِ أَوْ زَوَّجَهَا أَوْ مَاتَتْ: حَلَّتْ لَهُ الَّتِي كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ الزَّوْجَةُ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلاَثًا، أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ: حَلَّ لَهُ زَوَاجُ الأُُخْرَى. وَكَذَلِكَ إنْ طَلَّقَهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا فَتَمَّتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا
(9/521)
1858 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلأَخِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَخِيهِ الَّتِي مَاتَ أَخُوهُ عَنْهَا، أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، أَوْ إثْرَ طَلاَقِ الأَخِ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا. وَكَذَلِكَ لِلْعَمِّ وَلِلْخَالِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّهُمَا كَانَ: امْرَأَةً مَاتَ عَنْهَا ابْنُ الأَخِ أَوْ ابْنُ الأُُخْتِ، أَوْ طَلَّقَاهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الْعِدَّةِ، أَوْ إثْرَ طَلاَقٍ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ وَطْءٌ. وَكَذَلِكَ لأَبْنِ الأَخِ، وَلأَبْنِ الأُُخْتِ أَنْ يَتَزَوَّجَا امْرَأَةَ الْعَمِّ، أَوْ الْخَالِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَوْ طَلاَقِهِمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، أَوْ إثْرَ طَلاَقٍ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ وَطْءٌ. هَذَا لاَ نَصَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُفَصَّلْ لَنَا تَحْرِيمُهُ فَهُوَ حَلاَلٌ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بَعْدَ ذِكْرِهِ تَعَالَى مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا مِنْ النِّسَاءِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/525)
ولا يجوز للولد زواج للولد امراة أبيه
...
1859 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ زَوَاجُ امْرَأَةِ أَبِيهِ، وَلاَ
مَنْ وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَبُوهُ وَحَلَّتْ لَهُ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ
وَطْؤُهَا، أَوْ التَّلَذُّذُ مِنْهَا بِزَوَاجٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ، وَلَهُ
تَمَلُّكُهَا، إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَهُ أَصْلاً. وَكَذَلِكَ لاَ يَحِلُّ
لِلرَّجُلِ زَوَاجُ امْرَأَةٍ، وَلاَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ إذَا كَانَتْ
الْمَرْأَةُ مِمَّنْ حَلَّ لِوَلَدِهِ وَطْؤُهَا أَوْ التَّلَذُّذُ مِنْهَا
بِزَوَاجٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ أَصْلاً. وَالْجَدُّ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ عَلاَ مِنْ قِبَلِ الأَبِ أَوْ الأُُمِّ كَالأَبِ، وَلاَ فَرْقَ. وَابْنُ
الأَبْنِ، وَابْنُ الأَبْنَةِ وَإِنْ سَفُلاَ كَالأَبْنِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا،
وَلاَ فَرْقَ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ عَقَدَ فِيهَا الرَّجُلُ زَوَاجًا فَلاَ خِلاَفَ فِي
تَحْرِيمِهَا فِي الأَبَدِ عَلَى أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ، وَعَلَى بَنِيهِ وَعَلَى
مَنْ تَنَاسَلَ مِنْ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ أَبَدًا. وَأَمَّا مَنْ حَلَّتْ
لِلرَّجُلِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنْ وَطِئَهَا فَلاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا فِي
تَحْرِيمِهِ عَلَى مَنْ وَلَدَ، وَعَلَى مَنْ وَلَدَهُ وَفِيمَا لَمْ يَطَأْهَا
خِلاَفٌ نَذْكُرُ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَيَسَّرَ لَنَا
ذِكْرُهُ مِنْ ذَلِكَ: ذَكَرَتْ طَائِفَةٌ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى وَلَدِهِ
وَآبَائِهِ بِتَجْرِيدِهِ لَهَا فَقَطْ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
جَابِرٍ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: جَرَّدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَارِيَةً
فَنَظَرَ إلَيْهَا ثُمَّ نَهَى بَعْضَ وَلَدِهِ أَنْ يَقْرَبَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ مَكْحُولٍ:
أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَى جَارِيَةً فَجَرَّدَهَا وَنَظَرَ إلَيْهَا فَقَالَ لَهُ
ابْنُهُ: أَعْطِنِيهَا، فَقَالَ: إنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَك، إنَّمَا يُحَرِّمُهَا
عَلَيْك النَّظَرُ وَالتَّجْرِيدُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا فُضَيْلٍ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ قَالَ: إنْ جَرَّدَهَا الأَبُ حَرَّمَهَا عَلَى الأَبْنِ، وَإِنْ
جَرَّدَهَا الأَبْنُ حَرَّمَهَا عَلَى الأَبِ.
قال أبو محمد: هَذَا صَحِيحٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ،
لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ وَهُوَ
(9/525)
1860 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَنْ تَزَوَّجَ
امْرَأَةً وَلَهَا ابْنَةٌ أَوْ مَلَكَهَا وَلَهَا ابْنَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ
الأَبْنَةُ فِي حِجْرِهِ وَدَخَلَ بِالأُُمِّ مَعَ ذَلِكَ وَطِئَ أَوْ لَمْ
يَطَأْ، لَكِنْ خَلاَ بِهَا بِالتَّلَذُّذِ: لَمْ تَحِلَّ لَهُ ابْنَتُهَا أَبَدًا،
فَإِنْ دَخَلَ بِالأُُمِّ وَلَمْ تَكُنِ الأَبْنَةُ فِي حِجْرِهِ، أَوْ كَانَتْ
الأَبْنَةُ فِي حِجْرِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِالأُُمِّ، فَزَوَاجُ الأَبْنَةِ لَهُ
حَلاَلٌ.
وَأَمَّا مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَهَا أُمٌّ أَوْ مَلَكَ أَمَةً تَحِلُّ لَهُ
وَلَهَا أُمٌّ فَالأُُمُّ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَبَدَ الأَبَدِ وَطِئَ فِي
كُلِّ ذَلِكَ الأَبْنَةَ أَوْ لَمْ يَطَأْهَا.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ الرَّبِيبَةَ بِنْتَ الزَّوْجَةِ أَوْ الأَمَةِ إِلاَّ بِالدُّخُولِ
بِهَا، وَأَنْ تَكُونَ هِيَ فِي حِجْرِهِ، فَلاَ تَحْرُمُ إِلاَّ بِالأَمْرَيْنِ
مَعًا، لقوله تعالى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا حَرَّمَ مِنْ النِّسَاءِ: {وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَكَوْنُهَا فِي
حِجْرِهِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سُكْنَاهَا مَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ،
وَكَوْنُهُ
(9/527)
كَافِلاً لَهَا. وَالثَّانِي: نَظَرُهُ إلَى أُمُورِهَا نَحْوَ الْوِلاَيَةِ لاَ بِمَعْنَى الْوَكَالَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَقَعُ بِهِ عَلَيْهَا كَوْنُهَا فِي حِجْرِهِ. وَأَمَّا أُمُّهَا فَيُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} فَأَجْمَلَهَا عَزَّ وَجَلَّ فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا. وَفِي كُلِّ ذَلِكَ اخْتِلاَفٌ قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الأُُمَّ لاَ تَحْرُمُ إِلاَّ بِالدُّخُولِ بِالأَبْنَةِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سُئِلَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: هُمَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا إنْ طَلَّقَ الأَبْنَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا تَزَوَّجَ أُمَّهَا، وَإِنْ تَزَوَّجَ أُمَّهَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا: تَزَوَّجَ ابْنَتَهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ الْعُذُرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ خُرَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ هُوَ قَاضِي صَنْعَاءَ قَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: الرَّبِيبَةُ، وَالأُُمُّ سَوَاءٌ لاَ بَأْسَ بِهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْمَرْأَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عُوَيْمِرٌ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ كِنَانَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَنْكَحَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً بِالطَّائِفِ، قَالَ فَلَمْ أَمَسَّهَا حَتَّى تُوُفِّيَ عَمِّي، عَنْ أُمِّهَا وَأُمُّهَا ذَاتُ مَالٍ كَثِيرٍ فَقَالَ لِي أَبِي: هَلْ لَك فِي أُمِّهَا قَالَ: فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَخْبَرْته الْخَبَرَ فَقَالَ: انْكِحْ أُمَّهَا وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ عَبْدِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الأَجْدَعِ تَزَوَّجَ جَارِيَةً شَابَّةً فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَخَطَبَ أُمَّهَا فَقَالَتْ لَهُ: نَعَمْ، إنْ كُنْتُ أَحِلُّ لَك، فَجَاءَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْخَصَ لَهُ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي شَمْخِ بْنِ فَزَارَةَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ رَأَى أُمَّهَا فَأَعْجَبَتْهُ فَاسْتَفْتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَأَفْتَاهُ أَنْ يُفَارِقَهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا فَتَزَوَّجَهَا وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلاَدًا وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ عَلَى مَا نُورِدُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَبِهِ يَقُولُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ أُمِّ الزَّوْجَةِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا طَلَّقَ الأَبْنَةَ وَلَمْ يُبِحْهُ إنْ مَاتَتْ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا قَالَ: إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا تَزَوَّجَ أُمَّهَا، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أُمَّهَا.
(9/528)
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: إنْ طَلَّقَ الأَبْنَةَ قَبْلَ
أَنْ يَدْخُلَ بِهَا تَزَوَّجَ أُمَّهَا، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَتَزَوَّجْ
أُمَّهَا. وَطَائِفَةٌ فَرَّقَتْ بَيْنَ الأُُمِّ وَالأَبْنَةِ. رُوِّينَا ذَلِكَ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَطَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَطَائِفَةٌ تَوَقَّفَتْ فِي كُلِّ
ذَلِكَ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي،
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
الْمَوَالِي، عَنْ عَبْدِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ:
أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الأَجْدَعِ تَزَوَّجَ جَارِيَةً
فَهَلَكَتْ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَخَطَبَ أُمَّهَا فَقَالَتْ: نَعَمْ، إنْ
كُنْتُ أَحِلُّ لَك فَسَأَلَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْخَصَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَاهُ وَقَالَ: إنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَزَمَ فِي الأُُمِّ وَأَرْخَصَ فِي الرَّبِيبَةِ،
فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ إرْخَاصَ
مَنْ أَرْخَصَ لَهُ وَنَهْيَ مَنْ نَهَاهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: قَدْ
جَاءَنِي كِتَابُك وَفَهِمْت الَّذِي فِيهِ، وَإِنِّي لاَ أُحِلُّ لَك مَا حَرَّمَ
اللَّهُ عَلَيْك، وَلاَ أُحَرِّمُ عَلَيْك مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك، وَلَعَمْرِي
إنَّ النِّسَاءَ كَثِيرٌ وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ فَجَاءَ بِكِتَابِ
مُعَاوِيَةَ فَقَرَأَهُ الَّذِي سَأَلَهُمْ فَكُلُّهُمْ قَالَ: صَدَقَ مُعَاوِيَةُ،
قَالَ: فَانْصَرَفَ، عَنِ الْمَرْأَةِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا.
قال أبو محمد: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَبَائِبُكُمْ} مَعْطُوفٌ عَلَى
مَا حَرَّمَ، هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللاَّتِي فِي
حُجُورِكُمْ} نَعْتٌ لِلرَّبَائِبِ لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ.
وَقَوْله تَعَالَى مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ مِنْ صِلَةِ
الرَّبَائِبِ لاَ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، إذْ لَوْ كَانَ رَاجِعًا
إلَى قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} لَكَانَ مَوْضِعُهُ أُمَّهَاتِ
نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَهَذَا مُحَالٌ فِي
الْكَلاَمِ. فَصَحَّ أَنَّ الأَسْتِثْنَاءَ فِي " الرَّبَائِبِ "
خَاصَّةً، وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى " أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ
" وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي "
الرَّبِيبَةِ " فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا دَخَلَ بِأُمِّهَا فَقَدْ حَرُمَتْ
الْبِنْتُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ: رُوِّينَا،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا نَكَحَ
ابْنَتَهَا إنْ شَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ سُئِلَ، عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ
امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَقَالَ عِمْرَانُ: لاَ
تَحِلُّ لَهُ أُمُّهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَإِنْ طَلَّقَ
الأُُمَّ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا تَزَوَّجَ ابْنَتَهَا.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِمِثْلِ قَوْلِنَا:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ
أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيُّ قَالَ: كَانَ عِنْدِي امْرَأَةٌ قَدْ
وَلَدَتْ لِي فَتُوُفِّيَتْ، فَوَجَدْت عَلَيْهَا، فَلَقِيت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
فَقَالَ
(9/529)
لِي: مَالَك قُلْت: تُوُفِّيَتْ الْمَرْأَةُ، قَالَ:
أَلَهَا ابْنَةٌ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: كَانَتْ فِي حِجْرِك قُلْت: لاَ، هِيَ فِي
الطَّائِفِ، قَالَ: فَانْكِحْهَا قُلْت: وَأَيْنَ قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قَالَ:
إنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِك وَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَتْ فِي حِجْرِك.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: أَنَّ رَجُلاً
مِنْ بَنِي سَوْأَةَ يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْبَدٍ أَثْنَى
عَلَيْهِ خَيْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَوْجَدَهُ نَكَحَ امْرَأَةً ذَاتَ
وَلَدٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَاصْطَحَبَا مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ نَكَحَ
امْرَأَةً شَابَّةً، فَقَالَ لَهُ أَحَدُ بَنِيِّ الأُُولَى: قَدْ نَكَحْت عَلَى
أُمِّنَا وَكَبُرَتْ فَاسْتَغْنَيْتُ عَنْهَا بِامْرَأَةٍ شَابَّةٍ فَطَلِّقْهَا
قَالَ: لاَ وَاَللَّهِ إِلاَّ أَنْ تُنْكِحَنِي ابْنَتَك قَالَ: فَطَلَّقَهَا
وَأَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ، وَلَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، وَلاَ أَبُوهَا ابْنَ
الْعَجُوزِ الْمُطَلَّقَةِ، قَالَ: فَجِئْت سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت
لَهُ: اسْتَفْتِ لِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لِتَجِيءَ مَعِي
فَأَدْخَلَنِي عَلَى عُمَرَ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْخَبَرَ فَقَالَ عُمَرُ: لاَ
بَأْسَ بِذَلِكَ وَاذْهَبْ فَسَلْ فُلاَنًا ثُمَّ تَعَالَ فَأَخْبِرْنِي قَالَ:
وَلاَ أَرَاهُ إِلاَّ عَلِيًّا قَالَ: فَسَأَلْته فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَرْطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ
نَصٍّ.
قال أبو محمد: وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: قوله تعالى: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
إنَّمَا عَنَى الْجِمَاعَ صَحَّ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وطَاوُوس، وَعَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ الْقُبْلَةَ لِلأُُمِّ الَّتِي تَتَزَوَّجُ تُحَرِّمُ ابْنَتَهَا.
وَرُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّ الدُّخُولَ: هُوَ أَنْ يَكْشِفَ،
وَيُفَتِّشَ، وَيَجْلِسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي بَيْتِ
أَهْلِهَا قَالَ: فَلَوْ غَمَزَ وَلَمْ يَكْشِفْ لَمْ تُحَرَّمْ ابْنَتُهَا
عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَرُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا أَنَّهُ الدُّخُولُ فَقَطْ
وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا.
قال أبو محمد: وَشَغَبَ الْمُخَالِفُونَ الَّذِينَ لاَ يُرَاعُونَ كَوْنَ
الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا مَعَ دُخُولٍ بِهَا بِآثَارٍ فَاسِدَةٍ.
مِنْهَا: خَبَرٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَيُّوبَ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ
امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلاَ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا فَإِنْ لَمْ
يَدْخُلْ بِهَا فَلْيَنْكِحْهَا. وَهَذَا هَالِكٌ مُنْقَطِعٌ، وَيَحْيَى بْنُ
أَيُّوبَ، وَالْمُثَنَّى: ضَعِيفَانِ. وَبِخَبَرٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ:
أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا " مَنْ كَشَفَ، عَنْ فَرْجِ امْرَأَةٍ
وَابْنَتِهَا فَهُوَ مَلْعُونٌ " وَهَذَا طَرِيفٌ جِدًّا. وَبِخَبَرٍ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرْت، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أُمِّ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَنَيْت بِامْرَأَةٍ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَأَنْكِحُ ابْنَتَهَا قَالَ: "لاَ أَرَى ذَلِكَ،
وَلاَ يَصْلُحُ لَك أَنْ تَنْكِحَ امْرَأَةً تَطَّلِعُ مِنْ ابْنَتِهَا عَلَى مَا
تَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْهَا" وَهَذَا مُنْقَطِعٌ فِي مَوْضِعَيْنِ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي الَّذِي يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ
فَيَغْمِزُهَا
(9/530)
لاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ: أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ
ابْنَتَهَا" وَهَذَا أَشَدُّ انْقِطَاعًا. وَبِالْخَبَرِ الثَّابِتِ مِنْ
طَرِيقِ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ
أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ لَهَا عليه الصلاة والسلام: "وَاَللَّهِ لَوْ لَمْ
تَكُنْ رَبِيبَتِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي فِي الرَّضَاعَةِ.
قَالُوا: فَلَمْ يَذْكُرْ كَوْنَهَا فِي حِجْرِهِ. فَقُلْنَا: وَلاَ ذَكَرَ
دُخُولَهُ بِهَا أَيْضًا، إنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ كَوْنُهَا رَبِيبَةً لَهُ
فَقَطْ وَبِعَقْدِ النِّكَاحِ تَكُونُ رَبِيبَتَهُ، وَلاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ
ذَلِكَ لاَ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَكَيْفَ وَهَذَا خَبَرٌ
هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ.
وَرَوَاهُ مَنْ لَيْسَ دُونَ هِشَامٍ فَزَادَ بَيَانًا: كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ
حَبِيبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ لَقَدْ أُخْبِرْتُ
أَنَّكَ تَخْطُبُ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قُلْت:
نَعَمْ، قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا
حَلَّتْ لِي، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو
أُسَامَةَ، وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَاللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ. كُلُّهُمْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَأَثْبَتُوا فِيهِ ذِكْرَهُ عليه
الصلاة والسلام كَوْنَهَا فِي حِجْرِهِ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ
أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ
أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَتْهَا، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْخَبَرِ، وَفِيهِ لَوْ أَنَّهَا
لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي، وَلاَ شَكَّ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ
خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ، عَنْ قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ أَسْقَطَ بَعْضُ
الرُّوَاةِ لَفْظَةً أَثْبَتَهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ وَفَوْقَهُ فِي
الْحِفْظِ، فَلاَ يَحِلُّ الأَحْتِجَاجُ بِالأَنْقَصِ عَلَى خِلاَفِ مَا فِي
الْقُرْآنِ. وَمَوَّهُوا بِحَمَاقَاتٍ: مِثْلُ أَنْ قَالُوا: أَرَادَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: {فِي حُجُورِكُمْ} عَلَى الأَغْلَبِ.
قال أبو محمد: هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِخْبَارٌ عَنْهُ عَزَّ
وَجَلَّ بِالْبَاطِلِ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّا
أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ اللَّاتِي لَمْ يُؤْتِهِنَّ أُجُورَهُنَّ} . فَقُلْنَا: لَوْ
لَمْ يَأْتِ نَصٌّ آخَرُ بِإِحْلاَلِ الْمَوْهُوبَةِ وَاَلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ
لَهَا فَرِيضَةٌ لَمَا حَلَّتْ إِلاَّ اللَّاتِي يُؤْتِيهِنَّ أُجُورَهُنَّ،
وَأَنْتُمْ لاَ نَصَّ فِي أَيْدِيكُمْ يُحَرِّمُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ
مِنْ الرَّبَائِبِ. وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ: كُلُّ تَحْرِيمٍ لَهُ سَبَبَانِ، فَإِنَّ
أَحَدَهُمَا إذَا انْفَرَدَ كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ. قال علي: وهذا كَذِبٌ
مُجَرَّدٌ، بَلْ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ دُونَ اجْتِمَاعِهِ فِي السَّبَبِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَعَهُ. وَادَّعَوْا أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ عُبَيْدٍ
الَّذِي رَوَى، عَنْ عَلِيٍّ إبَاحَةَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ. قَالَ عَلِيٌّ: بَلْ
كَذَبُوا، هُوَ مَشْهُورٌ ثِقَةٌ، رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ فِي
الصَّحِيحِ. فَوَضَحَ
(9/531)
فَسَادُ قَوْلِهِمْ بِيَقِينٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/532)
1861 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَزَوْجَةِ أَبِيهَا، وَزَوْجَةِ ابْنِهَا وَابْنَةِ عَمِّهَا لَحًّا، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَكَذَلِكَ تَحِلُّ لَهُ امْرَأَةُ زَوْجِ أُمِّهِ، وَفِي هَذَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِهِ الآنَ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ نِكَاحُ: الْخَصِيِّ، وَالْعَقِيمِ، وَالْعَاقِرِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِنَهْيٍ، عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/532)
1862 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُحَرَّمُ وَطْءُ حَرَامٍ
نِكَاحًا حَلاَلاً إِلاَّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ أَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ
بِامْرَأَةٍ، فَلاَ يَحِلُّ نِكَاحُهَا لأََحَدٍ مِمَّنْ تَنَاسَلَ مِنْهُ
أَبَدًا. وَأَمَّا لَوْ زَنَى الأَبْنُ بِهَا ثُمَّ تَابَتْ لَمْ يَحْرُمْ
بِذَلِكَ نِكَاحُهَا عَلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ. وَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ
عَلَيْهِ إذَا تَابَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، أَوْ ابْنَتَهَا وَالنِّكَاحُ
الْفَاسِدُ وَالزِّنَا فِي هَذَا كُلِّهِ سَوَاءٌ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}.
قال أبو محمد: النِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ يَقَعُ
عَلَى شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْوَطْءُ، كَيْفَ كَانَ بِحَرَامٍ أَوْ بِحَلاَلٍ.
وَالآخَرُ الْعَقْدُ، فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الآيَةِ بِدَعْوَى بِغَيْرِ نَصٍّ
مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَيُّ نِكَاحٍ
نَكَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً بِحَلاَلٍ أَوْ بِحَرَامٍ
فَهِيَ حَرَامٌ عَلَى وَلَدِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وَلَدَ
الْوَلَدِ وَلَدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ نِكَاحٍ
حَلاَلٍ مِنْ أَجْلِ وَطْءٍ حَرَامٍ، فَالْقَوْلُ بِهِ لاَ يَحِلُّ، لأََنَّهُ
شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ
أَنَّ وَطْءَ الْحَرَامِ يُحَرِّمُ الْحَلاَلَ. رُوِّينَا ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ
لَهُ سَبْعَةَ رِجَالٍ كُلُّهُمْ صَارَ رَجُلاً يَحْمِلُ السِّلاَحَ، لأََنَّهُ
كَانَ أَصَابَ مِنْ أُمِّهَا مَا لاَ يَحِلُّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: لاَ يَصْلُحُ
لِرَجُلٍ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ،
عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إذَا
كَانَ الْحَلاَلُ يُحَرِّمُ الْحَرَامَ فَالْحَرَامُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا. وَعَنْ
ابْنُ مَعْقِلٍ: هِيَ لاَ تَحِلُّ فِي الْحَلاَلِ فَكَيْفَ تَحِلُّ لَهُ فِي
الْحَرَامِ وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيع، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إذَا قَبَّلَهَا أَوْ لاَمَسَهَا أَوْ نَظَرَ إلَى
فَرْجِهَا مِنْ شَهْوَةٍ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسِيحٍ قَالَ: سَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، عَنْ رَجُلٍ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ أُمَّهَا
أَوْ يَتَزَوَّجَهَا فَكَرِهَ ذَلِكَ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
رَجُلٍ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ أَيَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ جَارِيَةً
أَرْضَعَتْهَا هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: لاَ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ مَا كَانَ فِي
الْحَلاَلِ حَرَامًا فَهُوَ فِي الْحَرَامِ حَرَامٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ
(9/532)
المجلد العاشر
كتاب الرضاع
من كانت له امرأتان أو أمتان أو زوجة ,أمة فأرضعت أحداهما بلبن حدث لها من حمل منه
...
1863 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ , أَوْ أَمَتَانِ , أَوْ
زَوْجَةٌ وَأَمَةٌ :
فَأَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا بِلَبَنٍ حَدَثَ لَهَا مِنْ حَمْلٍ مِنْهُ رَجُلاً
رَضَاعًا مُحَرَّمًا , وَأَرْضَعَتْ الأُُخْرَى بِلَبَنٍ حَدَثَ لَهَا مِنْ حَمْلٍ
مِنْهُ امْرَأَةً كَذَلِكَ : لَمْ يَحِلَّ لأََحَدِهِمَا نِكَاحُ الآخَرِ أَصْلاً.
وَكُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْ الرَّجُلَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ; لأََنَّهَا أُمُّهُ مِنْ
الرَّضَاعَةِ. وَحَرُمَ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا ; لأََنَّهُنَّ أَخَوَاتُهُ سَوَاءٌ
فِي ذَلِكَ مَنْ وُلِدَتْ قَبْلَهُ , أَوْ مَنْ وُلِدَتْ بَعْدَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ.
وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهَا , لأََنَّهُنَّ خَالاَتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ.
وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا ; لأََنَّهُنَّ جَدَّاتُهُ. وَحُرِّمَتْ
عَلَيْهِ أَخَوَاتُ زَوْجِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِهَا مِنْ حَمْلٍ مِنْهُ ;
لأََنَّهُنَّ عَمَّاتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ. وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهُ
لأََنَّهُنَّ جَدَّاتُهُ. وَحُرِّمَ عَلَيْهِ مَنْ أَرْضَعَتْ امْرَأَتَهُ
بِلَبَنٍ حَدَثَ لَهَا مِنْ حَمْلٍ مِنْهُ ; لأََنَّهَا مِنْ بَنَاتِهِ.
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي أَرْضَعَتْ امْرَأَتَهُ. وَحُكْمُ
الَّتِي تُرْضِعُ امْرَأَتَهُ كَحُكْمِ ابْنَتِهَا الَّتِي وَلَدَتْهَا , وَلاَ
يَجْمَعُ بَيْنَ الأُُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ.
برهان ذَلِكَ : قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا حَرَّمَ مِنْ النِّسَاءِ :
{وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} .
وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا
يَحْرُمُ مِنْ الْوِلاَدَةِ) فَدَخَلَ فِي هَذَا كُلُّ مَا ذَكَرْنَا وَمَا لَمْ
نَذْكُرْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَكُلُّ هَذَا فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ
إِلاَّ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ : وَهِيَ : لَبَنُ الْفَحْلِ , وَصِفَةُ الرَّضَاعِ
الْمُحَرِّمِ , وَعَدَدُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ , وَرَضَاعُ الْكَبِيرِ ,
وَالرَّضَاعُ مِنْ مَيِّتَةٍ.
(10/2)
1864 - مَسْأَلَةٌ : لَبَنُ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ:
وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا: مِنْ أَنْ تُرْضِعَ امْرَأَةُ رَجُلٍ ذَكَرًا ,
وَتُرْضِعَ امْرَأَتُهُ الأُُخْرَى أُنْثَى: فَتَحْرُمُ إحْدَاهُمَا عَلَى
الأُُخْرَى. وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ هَذَا لاَ يُحَرِّمُ شَيْئًا:
كَمَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيق أَبِي عُبَيْدٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا كَانَتْ
تَأْذَنُ لِمَنْ أَرْضَعَتْهُ أَخَوَاتُهَا, وَبَنَاتُ أَخِيهَا
(10/2)
وَلاَ تَأْذَنُ لِمَنْ أَرْضَعَتْهُ نِسَاءُ
إخْوَتِهَا وَبَنِي إخْوَتِهَا وَمِثْلُهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ، عَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الدَّرَاوَرْدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ, وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ,
وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَأَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ, كُلُّهُمْ، عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: كَانَ يَدْخُلُ
عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها مَنْ أَرْضَعَتْهُ بَنَاتُ
أَبِي بَكْرٍ, وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَتْهُ نِسَاءُ أَبِي بَكْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خُصَيْفٍ،
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ بْنِ
الأَسْوَدِ: أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ
قَالَتْ زَيْنَبُ: فَأَرْسَلَ إلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ
ابْنَتِي أُمَّ كُلْثُومٍ عَلَى أَخِيهِ حَمْزَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ
حَمْزَةَ ابْنَ الْكَلْبِيَّةِ , فَقُلْت لِرَسُولِهِ: وَهَلْ تَحِلُّ لَهُ
إنَّمَا هِيَ بِنْتُ أَخِيهِ, فَأَرْسَلَ إلَيَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ إنَّمَا
تُرِيدِينَ الْمَنْعَ أَنَا وَمَا وَلَدَتْ أَسْمَاءُ إخْوَتُك, وَمَا كَانَ مِنْ
وَلَدِ الزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَسْمَاءَ فَلَيْسُوا لَكِ بِإِخْوَةٍ فَأَرْسِلِي
فَاسْأَلِي، عَنْ هَذَا فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ, وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- مُتَوَافِرُونَ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا: إنَّ
الرَّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ لاَ تُحَرِّمُ شَيْئًا فَأَنْكَحَتْهَا إيَّاهُ,
فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَتْ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ،
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ
بْنِ الْعَوَّامِ تَزَوَّجَ ابْنَةَ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وَقَدْ
أَرْضَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ
بِلَبَنِ الزُّبَيْرِ , قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَكَانَتْ امْرَأَةُ سَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَدْ أَرْضَعَتْ حَمْزَةَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَوُلِدَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ
امْرَأَةٍ أُخْرَى غُلاَمٌ اسْمُهُ عُمَرُ فَتَزَوَّجَ بِنْتَ حَمْزَةَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الدَّرَاوَرْدِيُّ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ حُسَيْنٍ مَوْلَى قُدَامَةَ بْنِ
مَظْعُونٍ: أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ زَوَّجَ ابْنًا لَهُ
أُخْتًا لَهُ مِنْ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, وَوَكِيعٍ, قَالَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ, وَقَالَ: وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, قَالاَ جَمِيعًا: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
قَالَ: لاَ بَأْسَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ; وَأَبَا
سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, قَالُوا كُلُّهُمْ: إنَّمَا
يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ, وَلاَ يَحْرُمُ مَا
كَانَ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
خَازِمٍ الضَّرِيرُ، عَنْ
(10/3)
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ فَذَكَرَهُ عَنْهُمْ, وَزَادَ فِيهِمْ أَبَا بَكْرِ بْنَ
سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَكْحُولٍ, وَالشَّعْبِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْوَاسِطِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ
أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ
أَخْبَرَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ, قَالَ: قُلْت لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: إنَّ فُلاَنًا مِنْ آلِ أَبِي فَرْوَةَ أَرَادَ
أَنْ يُزَوِّجَ غُلاَمًا أُخْتَهُ مِنْ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ
الْقَاسِمُ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى التَّحْرِيمِ بِهِ:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ. أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَتْ زَيْنَبُ: فَكَانَ الزُّبَيْرُ
يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقَرْنٍ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي
يَقُولُ: أَقْبِلِي عَلَيَّ فَحَدِّثِينِي أَرَى أَنَّهُ أَبِي وَمَا وَلَدَ فَهُمْ
إخْوَتِي.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، عَنْ
مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ ، عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ
أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا جَارِيَةً , وَالأُُخْرَى غُلاَمًا , أَيَحِلُّ أَنْ
يَتَنَاكَحَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لاَ , اللِّقَاحُ وَاحِدٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ :
سَأَلْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ , وطَاوُوسًا ,
وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ , وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ , فَقُلْت : امْرَأَةُ
أَبِي أَرْضَعَتْ بِلِبَانِ إخْوَتِي جَارِيَةً مِنْ عُرْضِ النَّاسِ أَلِيَ أَنْ
أَتَزَوَّجَهَا فَقَالَ الْقَاسِمُ : لاَ , أَبُوك أَبُوهَا وَقَالَ عَطَاءٌ ,
وطَاوُوس , وَالْحَسَنُ : هِيَ أُخْتُك.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ , أَنَّهُ كَرِهَ لَبَنَ
الْفَحْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ , وَأَبِي عُبَيْدٍ , قَالاَ : أَنَا
هُشَيْمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبْرَةَ الْهَمْدَانِيَّ إنَّهُ سَمِعَ
الشَّعْبِيَّ : يُكْرَهُ لَبَنَ الْفَحْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ فِي رَجُلٍ أَرْضَعَتْ امْرَأَةُ أَبِيهِ امْرَأَةً
وَلَيْسَتْ أُمَّهُ : أَتَحِلُّ لَهُ قَالَ عُرْوَةُ : لاَ تَحِلُّ لَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : الرَّضَاعَةُ مِنْ قِبَلِ
الأُُمِّ تُحَرِّمُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ ،
عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ : كَانَ عُمَارَةُ ، وَإِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُنَا : لاَ
يَرَوْنَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا , حَتَّى أَتَاهُمْ الْحَكَمُ بْنُ
عُتَيْبَةَ بِخَبَرِ أَبِي الْقُعَيْسِ.
قال أبو محمد : هَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْعِلْمِ , لاَ كَمَنْ يَقُولُ : أَيْنَ
كَانَ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ ، عَنْ هَذَا الْخَبَرِ؟.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَالأَوْزَاعِيِّ , وَاللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وَأَصْحَابِهِمْ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ آخَرُونَ :
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ أَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ :
(10/4)
سَأَلْت مُجَاهِدًا ، عَنْ جَارِيَةٍ مِنْ عُرْضِ
النَّاسِ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ أَبِي , أَتَرَى لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا؟
فَقَالَ : اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ , فَلَسْت أَقُولُ شَيْئًا وَسَأَلْت
ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ : مِثْلَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
قال أبو محمد : فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ أَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ أَنَا
ابْنَ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا
أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ يَسْتَأْذِنُ
عَلَيْهَا بَعْدَ الْحِجَابِ , وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ أَبَا عَائِشَةَ مِنْ
الرَّضَاعَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلْت : وَاَللَّهِ لاَ آذَنُ لأََفْلَحَ
حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم فَإِنَّ أَبَا
الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَرْضَعَنِي , وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي
امْرَأَتُهُ , فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ
عَلَيَّ فَكَرِهْتُ أَنْ آذَنَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ قَالَتْ : فَقَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (ائْذَنِي لَهُ) . وَحَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ نُبَاتٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ النَّصْرِيُّ أَنَا
عِيسَى بْنُ حَبِيبٍ الْقَاضِي أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي حَدَّثَنِي جَدِّي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ كِلاَهُمَا ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالَتْ
جَاءَ عَمِّي بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْحِجَابُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَلَمْ آذَنْ
لَهُ , فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ( ائْذَنِي لَهُ
فَإِنَّهُ عَمُّكِ ) , فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي
الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ قَالَ : (تَرِبَتْ يَمِينُكِ ائْذَنِي
لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ) .
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ أَنَا
أَبِي أَنَا شُعْبَةُ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ
مَالِكٍ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ :
اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ بْنُ قُعَيْسٍ , فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ
فَأَرْسَلَ إلَيَّ : إنِّي عَمُّكِ أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي , فَأَبَيْتُ أَنْ
آذَنَ لَهُ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : (
لِيَدْخُلْ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّكِ) . فَكَانَ هَذَا خَبَرًا لاَ تَجُوزُ
مُخَالَفَتُهُ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ , وَالْمَالِكِيُّونَ , فَتَنَاقَضُوا هَاهُنَا أَقْبَحَ
تَنَاقُضٍ ; لأََنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ : إذَا رَوَى الصَّاحِبُ
خَبَرًا ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ ، عَنْ ذَلِكَ
الصَّاحِبِ خِلاَفُ مَا رَوَى , فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ ذَلِكَ الْخَبَرِ ,
قَالُوا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ : مِنْهَا مَا رُوِيَ ، عَنْ جَابِرٍ فِي وَلَدِ
الْمُدَبَّرَةِ أَنَّهُ يُعْتَقُ فِي عِتْقِهَا وَيُرَقُّ فِي رِقِّهَا فَادَّعُوا
أَنَّ هَذَا خِلاَفٌ لِمَا رُوِيَ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم بَاعَ مُدَبَّرًا. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ لَيْسَ خِلاَفًا لِمَا رُوِيَ , بَلْ
هُوَ مُوَافِقٌ لِبَيْعِ الْمُدَبَّرِ ; لأََنَّ فِيهِ يُرَقُّ بِرِقِّهَا.
قال أبو محمد : وَهَذَا خَبَرٌ لَمْ يَرْوِهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم إلَّا عَائِشَةُ وَحْدَهَا , وَقَدْ
(10/5)
صَحَّ عَنْهَا خِلاَفُهُ , فَأَخَذُوا بِرِوَايَتِهَا
وَتَرَكُوا رَأْيَهَا , وَلَمْ يَقُولُوا : لَمْ تُخَالِفْهُ إِلاَّ لِفَضْلِ
عِلْمٍ عِنْدَهُنَّ , وَقَالُوا : لاَ نَدْرِي لأََيِّ مَعْنًى لَمْ يَدْخُلْ
عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَتْهُ نِسَاءُ إخْوَتِهَا.
قال أبو محمد : فَكَانَ هَذَا عَجَبًا جِدًّا يَثْبُتُ عَنْهَا , كَمَا أَرَدْنَا
أَنَّهُ كَانَ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَتْهُ نِسَاءُ أَبِي بَكْرٍ ,
وَنِسَاءُ إخْوَتِهَا , وَنِسَاءُ بَنِي إخْوَتِهَا بِأَصَحِّ إسْنَادٍ ,
وَأَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَتْهُ أَخَوَاتُهَا , وَبَنَاتُ
أَخَوَاتِهَا , فَهَلْ هَاهُنَا شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَيْهِ
إِلاَّ أَنَّ الَّذِينَ أَذِنَتْ لَهُمْ رَأَتْهُمْ ذَوِي مَحْرَمٍ مِنْهَا ,
وَأَنَّ الَّذِينَ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ تَرَهُمْ ذَوِي مَحْرَمٍ مِنْهَا
وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالْبَاطِلِ ,
وَمُدَافَعَةِ الْحَقِّ بِكُلِّ مَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ غَثٍّ
وَرَثٍّ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ.
وقال بعضهم : لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحْتَجِبَ مِمَّنْ شَاءَتْ مِنْ ذَوِي
مَحَارِمِهَا .
فَقُلْنَا : إنَّ ذَلِكَ لَهَا إِلاَّ أَنَّ تَخْصِيصَهَا رضي الله عنها
بِالأَحْتِجَابِ عَنْهُمْ مَنْ أَرْضَعَتْهُ نِسَاءُ أَبِيهَا , وَنِسَاءُ
إخْوَتِهَا , وَنِسَاءُ بَنِي أَخَوَاتِهَا , دُونَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ
أَخَوَاتُهَا , وَبَنَاتُ أَخَوَاتِهَا , لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ لِلْوَجْهِ الَّذِي
ذَكَرْنَا , لاَ سِيَّمَا مَعَ تَصْرِيحِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ أَخَصُّ
النَّاسِ بِهَا بِأَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لاَ يُحَرِّمُ , وَأَفْتَى الْقَاسِمُ
بِذَلِكَ , فَظَهَرَ تَنَاقُضُ أَقْوَالِهِمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ. وَعَهْدُنَا بِالطَّائِفَتَيْنِ تَعْتَرِضُ كِلْتَاهُمَا ، عَنِ
الْخَبَرِ الثَّابِتِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى رَضَاعِ سَالِمٍ
بِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ , وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ
بِلَبَنِ الْفَحْلِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ , وَلَمْ يَجِئْ مَجِيءَ
التَّوَاتُرِ فَظَهَرَ أَيْضًا تَنَاقُضُهُمْ هَاهُنَا. وَعَهْدُنَا
بِالطَّائِفَتَيْنِ تَقُولاَنِ : إنَّ مَا كَثُرَ بِهِ الْبَلْوَى لَمْ يُقْبَلْ
فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ , وَرَامُوا بِذَلِكَ الأَعْتِرَاضِ عَلَى الْخَبَرِ
الثَّابِتِ : مِنْ أَنَّ الْبَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى
يَتَفَرَّقَا وَلَبَنُ الْفَحْلِ مِمَّا تَكْثُرُ بِهِ الْبَلْوَى , وَقَدْ
خَالَفَتْهُ الصَّحَابَةُ , وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ هَكَذَا جُمْلَةً ,
وَابْنُ الزُّبَيْرِ , وَزَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ , وَالْقَاسِمُ ,
وَسَالِمٌ , وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ , وَسُلَيْمَانُ
بْنُ يَسَارٍ , وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ , وَأَبُو
بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ,
وَأَبُو قِلاَبَةَ , وَمَكْحُولٌ , وَغَيْرُهُمْ , فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا :
لَوْ كَانَ صَحِيحًا مَا خَفِيَ عَلَى هَؤُلاَءِ , وَهُوَ مِمَّا تَكْثُرُ بِهِ
الْبَلْوَى , كَمَا قَالُوا فِي خَبَرِ التَّفَرُّقِ فِي الْبَيْعِ , وَمَا
نَعْلَمُهُ خَفِيَ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَالتَّابِعِينَ , إِلاَّ ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَحْدَهُ فَظَهَرَ بِهَذَا فَسَادُ أُصُولِهِمْ
الْفَاسِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا , وَأَنَّهَا لاَ مَعْنَى لَهَا , وَإِنَّمَا هِيَ
اعْتِرَاضٌ عَلَى الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
(10/6)
1865 - مَسْأَلَةٌ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ رَضَاعًا مُحَرِّمًا حُرِّمَتَا جَمِيعًا وَانْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا , إذْ صَارَتَا بِذَلِكَ الرَّضَاعِ أُخْتَيْنِ , أَوْ عَمَّةً وَبِنْتَ أَخٍ , أَوْ خَالَةً وَبِنْتَ أُخْتٍ , أَوْ حَرِيمَةَ امْرَأَةٍ لَهُ ; لأََنَّهُمَا مَعًا حَدَثَ لَهُمَا التَّحْرِيمُ , فَلَمْ تَكُنْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى
(10/6)
بِالْفَسْخِ مِنْ الأُُخْرَى.
وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ بِهِمَا فَأَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا الأُُخْرَى رَضَاعًا
مُحَرِّمًا ، وَلاَ فَرْقَ , فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَأَرْضَعَتْ
إحْدَاهُمَا الأُُخْرَى رَضَاعًا مُحَرِّمًا انْفَسَخَ نِكَاحُ الَّتِي صَارَتْ
أُمًّا لِلأُُخْرَى وَبَقِيَ نِكَاحُ الَّتِي صَارَتْ لَهَا ابْنَةً صَحِيحًا ;
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ
مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَصَارَتْ بِنْتَ امْرَأَتِهِ الَّتِي لَمْ
يَدْخُلْ بِهَا , وَلاَ هِيَ فِي حِجْرِهِ , فَثَبَتَ نِكَاحُهَا , وَصَارَتْ
الأُُخْرَى مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ , فَحُرِّمَتْ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(10/7)
بيان صفة الرضاع المحرم
...
1866 - مَسْأَلَةٌ : وَأَمَّا صِفَةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ , فَإِنَّمَا هُوَ :
مَا امْتَصَّهُ الرَّاضِعُ مِنْ ثَدْيِ الْمُرْضِعَةِ بِفِيهِ فَقَطْ.
فأما مَنْ سُقِيَ لَبَنَ امْرَأَةٍ فَشَرِبَهُ مِنْ إنَاءٍ , أَوْ حُلِبَ فِي
فِيهِ فَبَلَعَهُ ; أَوْ أُطْعِمَهُ بِخُبْزِ , أَوْ فِي طَعَامٍ , أَوْ صُبَّ فِي
فَمِهِ , أَوْ فِي أَنْفِهِ , أَوْ فِي أُذُنِهِ , أَوْ حُقِنَ بِهِ : فَكُلُّ
ذَلِكَ لاَ يُحَرِّمُ شَيْئًا ,
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غِذَاءَهُ دَهْرَهُ كُلَّهُ.
برهان ذَلِكَ : قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} ,
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا
يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) . فَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلاَ رَسُولُهُ
صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَعْنَى نِكَاحًا , إِلاَّ بِالإِرْضَاعِ
وَالرَّضَاعَةِ وَالرَّضَاعِ فَقَطْ ، وَلاَ يُسَمَّى إرْضَاعًا إِلاَّ مَا
وَضَعَتْهُ الْمَرْأَةُ الْمُرْضِعَةُ مِنْ ثَدْيِهَا فِي فَمِ الرَّضِيعِ يُقَالُ
أَرْضَعَتْهُ تُرْضِعُهُ إرْضَاعًا. وَلاَ يُسَمَّى رَضَاعَةً , وَلاَ إرْضَاعًا
إِلاَّ أَخْذُ الْمُرْضَعِ , أَوْ الرَّضِيعِ بِفِيهِ الثَّدْيَ وَامْتِصَاصُهُ
إيَّاهُ تَقُولُ : رَضِعَ يَرْضَعُ رَضَاعًا وَرَضَاعَةً.
وَأَمَّا كُلُّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا فَلاَ يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهُ
إرْضَاعًا , وَلاَ رَضَاعَةً ، وَلاَ رَضَاعًا , إنَّمَا هُوَ حَلْبٌ وَطَعَامٌ
وَسِقَاءٌ , وَشُرْبٌ وَأَكْلٌ وَبَلْعٌ , وَحُقْنَةٌ وَسَعُوطٌ وَتَقْطِيرٌ ,
وَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا شَيْئًا.
فَإِنْ قَالُوا : قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الرَّضَاعِ وَالإِرْضَاعِ.
قلنا : الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ
هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ , وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي فَهْمٍ
أَنَّ الرَّضَاعَ مِنْ شَاةٍ أَشْبَهَ بِالرَّضَاعِ مِنْ امْرَأَةٍ ; لأََنَّهُمَا
جَمِيعًا رَضَاعٌ مِنْ الْحُقْنَةِ بِالرَّضَاعِ , وَمِنْ السَّعُوطِ بِالرَّضَاعِ
, وَهُمْ لاَ يُحَرِّمُونَ بِغَيْرِ النِّسَاءِ فَلاَحَ تَنَاقُضُهُمْ فِي
قِيَاسِهِمْ الْفَاسِدِ , وَشَرْعُهُمْ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ.
قال أبو محمد : وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا : فَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ : لاَ يُحَرِّمُ السَّعُوطُ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ ، وَلاَ يُحَرِّمُ أَنْ
يُسْقَى الصَّبِيُّ لَبَنَ الْمَرْأَةِ فِي الدَّوَاءِ ; لأََنَّهُ لَيْسَ
بِرَضَاعٍ , إنَّمَا الرَّضَاعُ مَا مُصَّ مِنْ الثَّدْيِ. هَذَا نَصُّ قَوْلِ
اللَّيْثِ , وَهَذَا قَوْلُنَا ,
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابِنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَرْسَلْت إلَى
عَطَاءٍ أَسْأَلُهُ ، عَنْ سَعُوطِ اللَّبَنِ لِلصَّغِيرِ وَكُحْلِهِ بِهِ
أَيُحَرِّمُ قَالَ : مَا سَمِعْت أَنَّهُ يُحَرِّمُ.
وقال أبو حنيفة , وَأَصْحَابُهُ : =... التالية
===========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق