[14.نيل الأوطار - الشوكاني ] نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار محمد بن علي بن محمد الشوكاني
باب أن حكم الحاكم ظاهرا لا باطنا
1 - عن أم
سلمة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي
ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه
شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار "
- رواه الجماعة وقد احتج به من لم ير أن يحكم بعلمه
- قوله "
إنما أنا بشر " البشر يطلق على الجماعة والواحد بمعنى أنه منهم والمراد أنه
مشارك للبشر في أصل الخلقة ولو زاد عليهم بالمزايا التي أختص بها في ذاته وصفاته
والحصر هنا مجازي لأنه يختص بالعلم الباطن ويسمى قصر قلب لأنه أتى به ردا على من
زعم أن من كان رسولا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم من الظالم وقد
أطال الكلام على بيان معنى هذا الحصر علماء المعاني والبيان فليرجع إلى ذلك
قوله : " ألحن " بالنصب على أنه خبر كان أن أفطن بها ويجوز أن يكون
معناه أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل .
والأظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية في الصحيحين أي أحسن ايرادا للكلام ولا بد
في هذا التركيت من تقدير محذوف لتصحيح معناه أي وهو كاذب ويسمى هذا عند الأصوليين
دلالة اقتضاء لأن هذا المحذوف اقتضاه اللفظ الظاهر بعده
وقال في النهاية اللحن الميل عن جهة الأستقامة يقال لحن فلان في كلامه إذا مال عن
صحيح المنطق وأراد أن بعضهم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره ويقال لحنت لفلان
إذا قلت له قولا يفهمه ويخفي على غيره لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم
انتهى
قوله : " فإنما أقطع له قطعة من النار " أي الذي قضيت له بحسب الظاهر
إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه حرام يؤل به إلى النار وهو تمثيل يفهم منه
شدة التعذيب على ما يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى { إنما يأكلون في
بطونهم نارا } وقد قدمنا الكلام على بعض ألفاظ الحديث في كتاب الصلح فوقع تكرار
البعض هنا لتكرار الفائدة ( وفي الحديث ) دليل على أثم من خاصم في باطل حتى استحق
به في الظاهر شيئا هو في الباطن حرام عليه وأن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه
الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا
يرتفع عنه الأثم بالحكم وفيه أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر كما في
الحديث الصحيح وإن اجتهد فأخطأ فله أجر وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقضي
بالأجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء وخالف في ذلك قوم وهذا الحديث من أصرح ما
يحتج به عليهم وفيه أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف
ذلك
قال الحافظ لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى الله عليه وآله وسلم لثبوت عصمته
واحتج من منع مطلقا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ
لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه حتى قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم } الآية وبأن الإجماع معصوم من الخطأ فالرسول أولى بذلك
وأجيب عن الأول بأن الأمر إذا استلزم الخطأ لا محذور فيه لأنه موجود في حق
المقلدين فإنهم مأمورون باتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ وأجيب عن الثاني
برد الملازمة فإن الإجماع إذا فرض وجوده دل على أن مستندهم ما جاء عن الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم فرجع الأتباع إلى الرسول لا إلى نفس الإجماع
قال الحافظ وفي الحديث أيضا أن من ادعى مالا ولم يكن له بينة فحلف المدعى عليه
وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في الباطن ولا يرتفع عنه الأثم بالحكم
والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم صلى الله عليه وآله وسلم بالشيء في الظاهر ويكون
الأمر في الباطن بخلافه ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلا ولا نقلا وأجاب
من منع بأن الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل الخصومات المبنية إقرار أو
البينة ولا مانع من وقوع الخطأ فيه أن يخبر عن أمر بإن الحكم على الشرعي فيه كذا
ويكون ذلك ناشئا عن اجتهاده فإنه لا يكون إلا حقا لقوله تعلى { وما ينطق عن الهوى
} وأجيب أن ذلك يستلم الحكم الشرعي فيعود الإشكال كما كان والمقام يحتاج إلى بسط
طويل ومحله الأصول فليرجع إليها قال الطحاوي ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو
إزاله ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك إن كان في الباطن على خلاف ما استند
إليه الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم موجبا للتمليك ولا الإزالة ولا
النكاح ولا الطلاق ولا غيرها وهو قول الجمهور ومعهم أبو يوسف
وذهب آخرون إلى أن الحمكم إن كان في مال وكان الأمر في الباطن بخلاف ما استند إليه
الحاكم من الظاهر لم يكن ذلك موجبا لحله للحكومة له وإن كان في نكاح أو طلاق فإنه
ينفذ ظاهرا وباطنا وحملوا حديث الباب على ما ورد فيه وهو المال واحتجوا لما عداه
بقصة المتلاعنين فإنه صلى الله عليه وآله وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن
يكون الرجل قد صدق فيما رماها به قالوا فيؤخذ من هذا إن كان قضاء ليس فيه تمليك
مال أنه على الظاهر ولو كان الباطن بخلافه وإن حكم الحاكم يحدث في ذلك التحريم
والتحليل بخلاف الأموال وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة للعلم بأن
أحدهما كاذب وهو أصل برأسه فلا يقاس عليهز وقال بعض الحنفية مجيبا على من استدل
بالديث لما تقدم بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم
حيث لا بينة هناك ولا يمين وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم المرتب على
الشهادة وبأن من في قوله " فمن قضيت له " شرطية وهي لا تستلزم الوقوع
فيكون من فرض ما لم يقع وهو جائز فيما يتعلق به غرض وهو هنا محتمل لأن يكون
للتهديد والزجر عن الإقدام على أخذ أموال الناس بالمبالغة في الخصومة وهو وإن كان
جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنا في العقود والفسوخ لكنه لم يسق لذلك فلا يكون
فيه حجة لمن منع وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقر على الخطأ
لأنه لا يكون ما قضي به قطعة من النار إلا إذا استمر الخطأوإلا فمتى فوض أنه يطلع
عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه
وظاهر الحديث يخالفه ذلك فأما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم وإما أن
يستلزم استمرار التقرير على الخطأ وهو باطل والجواب عن الأول أنه خلاف الظاهر بل
من التحريف الذي لا يفعله منصف وكذا الثاني والجواب عن الثالث إن الخطأ الذي لا
يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاد فيما لم يوح إليه فليس النزاع فيه إنما
النزاع في الحكم الصادر منه عن شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للأتفاق على
العمل بالشهادة وبالأيمان وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك لما في
حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا
مني دماءهم " فيحكم بإسلام من بلفظ بالشهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد
خلاف ذلك ولما في حديث المتلاعنين حيث قال " لولا الإيمان لكان لي ولها شأن
" فإنه لو كان خطأ لم يترك استدراكه والعمل بما عرفه . وكذلك حديث أني لم
أومر بالتنقيب عن قلوب الناس فالحجة من حديث الباب شاملة للأموال والعقود والفسوخ
وقد حكي الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام
قال النووي والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح
وللإجماع المذكور ولقاعدة أجمع عليها العلماء ووافقهم القائل المذكور وهي إن
الابضاع أولى بالأحتياط من الأموال وفي المقام مقاولات ومطاولات ومع وضوح الصواب
لا فائدة في الأطناب
وقد استدل المصنف رحمه الله تعالى بالحديث على أن الحاكم لا يحكم بعلمه وسيأتي
الكلام على ذلك في باب مستقل إن شاء الله تعالى وفيه الرد على من حكم بما يقع في
خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة ونحوها ووجه الرد عليه أنه صلى الله
عليه وآله وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقا ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما
يحكم بالظاهر في الأمور العامة فلو كان المدعي صحيحا لكان الرسول أحق بذلك فإنه
أعلم أنه تجري الأحكام على ظاهرها مع أنه يمكن أن الله يطلعه على غيب كل قضية وسبب
ذلك إن تشريع الأحكام واقع على يده فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا
ذلك نعم لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه مشاهدة أو سماعا أو ظنا راجحا لم يجز
له أن يحكم بما قامت به البينة
قال الحافظ ونقل بعضهم فيه الأتفاق وإن وقع الأختلاف فيه في القضاء بالعلم كما
سيأتي
باب ما يذكر في ترجمة الواحد
1 - في حديث
زيد بن ثابت " إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره فتعلم كتاب اليهود وقال
حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه واقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه "
- رواه أحمد والبخاري
قال البخاري عمر بن الخطاب وعند أمير المؤمنين علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ماذا
تقول هذه فقال عبد الرحمن بن حاطب فقلت تخبرك بالذي صنع بها قال وقال أبو جمرة كنت
أترجم بين ابن عباس وبين الناس
- قوله "
حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه " يعني إليهم هذا الحديث من
الأحاديث المعلقة في البخاري وقد وصله في تاريخه بلفظ " إن زيد بن ثابت قال
أتى بي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمه المدينة فاعجب بي فقيل له هذا غلام
النجار قد قرأ مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فاستقرأني فقرأت ق فقال لي تعلم
كتاب يهود فإني ما آمن يهود على كتابي فتعلمه في نصف شهر حتى كتبت له إلى يهود
واقرأ له إذا كتبوا إليه " وأخرجه أيضا موصولا أبو داود والترمذي وصححه
وأخرجه أحمد وإسحاق وأخرجه أيضا أبو يعلى بلفظ " أني أكتب إلى قوم فأخاف أن
يزيدوا على وينقصوا فتعلم السريانية " وظاهره أن اللغة السريانية كانت معروفة
يومئذ وهي غير العبرانية فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يتعلم اللغتين
قوله : " ماذا تقول هذه " أي المرأة التي وجدت حبلى
قوله : " وقال أبو جمرة " بالجيم المفتوحة الميم الساكنة والراء المهملة
( وفي الحديث ) جواز ترجمة واحد قال ابن بطال أجاز الأكثر ترجمة واحد
وقال محمد بن الحسن لا بد من رجلين أو رجل وامرأتين وقال الشافعي هو كالبينة وعن
مالك روايتان ونقل الكرابيسي عن مالك والشافعي الأكتفاء بترجمان واحد . وعن أبي
حنيفة الأكتفاء بواحد وعن أبي يوسف باثنين وعن زفر لا يجوز أقل من اثنين وقال
الكرماني لا نزاع لأحد أنه يكفي ترجمان واحد عند الأخبار وأنه لابد من اثنين عند
الشهادة فيرجع الخلاف إلى أنها أخبار أو شهادة فلوسلم الشافعي أنها أخبار لم يشترط
العدد ولو سلم الحنفي أنها شهادة لقال بالعدد
وقال الحاكم لا تقبل فيه إلا البينة الكاملة والواحد ليس بينة كاملة حتى يضم إليه
كمال النصاب غير أن الحديث إذا صح سقط النظر
وفي الأكتفاء بزيد بن ثابت وحده حجة ظاهرة لا يجوز خلافها انتهى . وتعقبه الحافظ
فقال يمكن أن يجاب بأنه ليس غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحكام في ذلك
مثله لامكان اطلاعه على ماغاب عنه بالوحي بخلاف غيره بل لا بد له من أكثر من واحد
فمهما كان طريقه الأخبار يكتفي فيه الواحد ومهما كان طريقة الشهادة لابد فيه من
استيفاء النصاب وقد نقل الكرابيسي أن الخلفاء الراشدين والملوك بعدهم لم يكن لهم
إلا
1 - عن ابن
عمر قال " أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة موتة زيد بن حارثة
وقال إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة "
واحد
وقد نقل ابن التين من رواية ابن عبد الحكم لا يترجم الأحر عدل وإذا أقر المترجم
بشيء وجب أن يسمع ذلك منه شاهدان ويرفعان ذلك إلى الحاكم
باب الحكم بالشاهد واليمين
1 - عن ابن
عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشاهد "
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه
وفي رواية لأحمد إنما كان ذلك في الأموال
2 - وعن جابر
" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين مع الشاهد "
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي ولأحمد من حديث عمارة بن حزم وحديث سعد بن عبادة
مثله
3 - وعن جعفر
بن محمد عن أبيه عن أمير المؤمنين علي " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قضى بشهادة واحد ويمين صاحب الحق وقضى به أمير المؤمنين علي بالعراق "
- رواه أحمد والدارقطني وذكره الترمذي
4 - وعن ربيعة
عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة " قال قضى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم باليمين مع الشاهد الواحد "
- رواه ابن ماجه والترمذي وابو داود وزاد قال عبد العزيز الداروردي فذكرت ذلك
لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه قال عبد العزيز
وقد كان أصاب سهيلا علة أذهبت بعض عقلة ونسي بعض حديثه فكان سهيل بعد يحدثة عن
ربيعة عنه عن أبيه
5 - وعن سرق
" أو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب
"
- رواه ابن ماجه
- حديث ابن
عباس قال في التلخيص قال فيه لشافعي وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم لو
لم يكن فيه غيره مع أن معه غيره مما يشده وقال النسائي إسناده جيد
وقال البزار في الباب أحاديث حسانأصحها حديث ابن عباس وقال ابن عبد البر لا مطعن
لأحد في إسناده
وقال عباس الدوي في تاريخ يحيى بن معين ليس بمحفوظ
وقال البيهقي أعله الطحاوي بانه . لا يعلم قيسا يحدث عن عمرو بن دينار حديث الذي
وقصته ناقته وهو محرم ثم قال وليس من شرط قبول رواية الأخبار كثيرة رواية الراوي
عمن روى عنه ثم إذا روى الثقة عمن لا ينكر سماعه منه حديثا واحدا وجب قبول وإن لم
يكن يروي عنه غيره على أن قيسا قد توبع عليه رواه عبد الرزاق عن محمد بن مسلم
الطائفي عن عمرو بن دينار أخرجه أبو داود وتابع عبد الرزاق أبو حذيفة وقال الترمذي
في العلل سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال لم يسمعه عندي عمرو من ابن
عباس
قال الحاكم قد سمع عمرو من ابن عباس عدة أحاديث وسمع من جماعة من أصحابه فلا ينكر
أن يكون سمع منه حديثا وسمعه من بعض أصحابه عنه وأما رواية عصام البلخي وغيره ممن
زاد بين عمرو وابن عباس طاوس فهم ضعفاء
قال البيهقي ورواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء انتهى . ما في التلخيص على
الحديث . وحديث جابر أخرجه ايضا البيهقي وهو من حديث جعفر بم محمد عن أبيه عن جابر
قال الترمذي رواه الثوري وغيره عن جعفر عن أبيه مرسلا وهو أصح وقيل عن أبيه عن
أمير المؤمنين على انتهى
وقد ذكر المصنف رحمه الله الطريقين كما ترى
وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه وأبي زرعة وهو مرسل وقال الدارقطني كان جعفر
ربما أرسله وربما وصله وقال الشافعي والبيهقي عبد الوهاب وصله وهو ثقة قال البيهقي
روى إبراهيم بن أبي هند عن جعفر عن أبيه عن جابر رفعه أتاني جبريل وأمرني أن أقضي
باليمين مع الشاهد وإبراهيم ضعيف جدا رواه ابن عدي وابن حبان في ترجمة وقد صحح
حديث جابر أبو عوانة وابن خزيمة وحديث عمارة قال في مجمع الزوائد رجاله ثقات ولفظه
" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين والشاهد " وحديث سعد بن
عبادة لفظه في مسند أحمد عن إسماعيل بن عمرو بن قيس بن سعد بن عبادة عن أبيه
" أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى
باليمين والشاهد " انتهى وإسماعيل بن عمرو قال الحافظ الحسيني شيخ محله الصدق
وأبوه لم يذكر بشيء وسائر الإسناد رجال الصحيح وأخرجه البيهقي وأبو عوانة في صحيحه
من حديثه بسند آخر . وحديث أبي هريرة قال الحافظ في الفتح رجال مدينون ثقات ولا
يضره إن سهيل بن أبي صاح نسيه بعد أن حدث به ربيعة لأنه كان بعد ذلك يروبه عن
ربيعة عن نفسه انتهى
وأخرجه أيضا الشافعي وروى ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أنه صحيح ورواه البيهقي
من حديث مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقال الترمذي
بعد أخراج الطريق الأولى حسن غريب
قال ابن ارسلان في شرح السنن أنه صحح حديث الشاهد واليمين الحافظان أبو زرعة وأبو
حاتم من حديث أبي هريرة وزيد بن ثابت وحديث سرق في إسناده رجل مجهول وهو الراوي له
عنه فإنه قال ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هرون حدثنا جويرة
بن أسماء حدثنا عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أهل مصر عن سرق فذكره
ورجال إسناده رجال الصحيح لولا الرجل المجهول وقد أخرجه أيضا أحمد
قال في التلخيص فائدة ذكر ابن الجوزي في التحقيق عدد من رواه فزاد على عشرين
صحابيا وأصح طرقه حديث ابن عباس ثم حديث أبي هريرة
وأخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا قال استشرت جبريل في القضاء باليمين
والشاهد فأشار علي بالأموال لانعد ذلك وإسناده ضعيف وفي الباب عن الزبيب بضم الزاي
وفتح الموحدة وسكون المثناة وهو ابن ثعلبة فذكر قصة وفيها أنه قال له صلى الله
عليه وآله وسلم هل لك بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا في هذه الأيام قلت نعم
قال من بينتك قلت سمرة رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له فشهد الرجل وأبي سمرة
أن يشهد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك
الآخر قلت نعم فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا ثم ذكر تمام القصة
وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمل بالشاهد واليمين أخرجه أبو داود مطولا
قال الخطابي إسناده ليس بذاك
وقال أبو عمر النمري أنه حديث حسن قال المنذري وقد روى القضاء بالشاهد واليمين عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رواية عمر بن الخطاب وأمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليه السلام وسعد بن عبادة والمغيرة بن شعبة وجماعة من الصحابة انتهى
فجملة عدد من ذكره المصنف رحمه الله سبعة وزبيب وعمر بن الخطاب والمغيرة وزيد بن
ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو سعيد الخدري
وبلاب بن الحرث ومسلمة بن قيس وعامر بن ربيعة وسهل بن سعد وتميم الداري وأم سلمة
وانس هؤلاء أحد وعشرون رجلا من الصحابة وهو المشار إليهم بقول ابن الجوزي فزاد
عددهم على عشرين
وقد استدل بأحاديث الباب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فقالوا يجوز الحكم
بشاهد ويمين المدعي وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أمير المؤمنين علي وأبي بكر وعمر
وعثمان وأبي وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وشريح والشعبي وربيعة وفقهاء المدينة
والناصر والهادوية ومالك والشافعي وحكى أيضا عن زيد بن علي والزهري والنخعي وابن
شبرمة والإمام يحيى وأبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين
وقد حكى البخاري وقوع المراجعة في ذلك ما بين أبي الزناد وابن شبرمة فاحتج أبو
الزناد على جواز القضاء بشاهد ويمين بالخبر والوارد في ذلك فأجاب عليه ابن شبرمة
بقوله تعالى { استشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } قال
الحافظ وإنما تتم له الحجة بذلك على أصلمختلف فيه بين الفريقين يعني الكوفيين
والحجازيين وهو أن الخبر إذا ورد متضمنا الزيادة على ما في القرآن هل يمون نسخا
والسنة لا تنسخ القرآن أو لا يكون نسخا بل زيادة مستقلة بحكم مستقل إذا ثبت سنده
وجب القول به والأول مذهب الكوفيين والثاني مذهب الحجازيين ومع قطع النظر عن ذلك
لا تنهض حجة ابن شبرمة لأنها تصير معارضة للنص بالرأي وهو غير معتد به وقد أجاب
عنه الإسماعيلي فقال الحجة إلى إذكار إحداهما الأخرى إنما هو فيما إذا شهدتا فإن
لم تشهدا قامت مقامها يمين الطالب ببيان السنة الثابتة واليمين ممن هي عليه لو
انفردت لحلت محل البينة في الأداء والإبراء فلذلك حلت اليمين هنا محل المرأتين في
الاستحقاق بها مضافة إلى الشاهد الواحد قال ولو لزم إسقاط القول بالشاهد واليمين
لأنه ليس في القرآن للزم إسقاط الشاهد والمرأتين لأنهما ليستا في السنة لأنه صلى
الله عليه وآله وسلم قال شاهداك أو يمينه وحاصله أنه لا يلزم من التنصيص على الشيء
نفيه عما عداه لكن مقتضى ما بحثه أنه لا يقضي باليمين مع الشاهد الواحد إلا عند
فقد الشاهدين أو ما قام مقامهما من الشاهد والمرأتين وهو وجه للشافعية وصححه
الحنابلة ويؤيده ما روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإن جاء
بشاهد واحد مع شاهده وأجاب بعض الحنفية بأن الزيادة على القرآن نسخ وأخبار الآحاد
لا تنسخ المتواتر ولا تقبل الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان الخبر بها مشهورا
وأجيب بأن النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا وأيضا فالناسخ والمنسوخ لابد أن يتواردا
على محل واحد وهذا غير متحقق في الزيادة على النص
وغاية ما فيه أن تسمية الزيادة كالتخصيص نسخا اصطلاح ولا يلزم منه نسخ الكتاب
بالسنة لكن تخصيص الكتاب بالسنة جائز وكذلك الزيادة عليه كما في قوله تعالى { وأحل
لكم ما وراء ذلكم } وأجمعوا على تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها وسند الإجماع في
ذلك السنة الثابتة وكذلك قطع رجل السارق في المرة الثانية ونحو ذلك وقد أخذ من رد
الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على ما في القرآن ترك العمل بأحاديث كثيرة في
أحكام كثيرة كلها زائدة على ما في القرآن كالوضوء بالنبيذ والوضوء من القهقهة ومن
القيء واستبراء المسبية وترك قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد وشهادة المرأة
الواحدة في الولادة ولا قود إلا بالسيف ولا جمعة إلا في مصر جامع ولا تقطع الأيدي
في الغزو ولا يرث الكافر المسلم ولا يؤكل الطافي من السمك ويحرم كل ذي ناب من
السباع ومخلب من الطير ولا يقتل الوالد بالولد ولا يرث القاتل من القتيل وغير ذلك
من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب وأجابوا بأن الأحاديث الواردة في
هذه المواضع المذكورة أحاديث شهيرة فوجب العمل بها لشهرتها فيقال لهم وأحاديث القضاء
بالشاهد واليمين رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نيف وعشرون نفسا كما
قدمنا وفيها ما هو صحيح كما سلف فأي شهرة تزيد على هذه الشهرة
قال الشافعي القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لأنه لا يمنع أن يجوز أقل
مما نص عليه يعني والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم أصلا فضلا عن مفهوم العدد
قال ابن العربي أظرف ما وجدت لهم في رد الحكم بالشاهد واليمين أمران أحدهما أن
المراد قضى بيمين المنكر مع شاهد الطالب والمراد أن الشاهد الواحد لا يكفي في ثبوت
الحق فتجب اليمين على المدعى عليه فهذا المراد بقوله قضى بالشاهد واليمين . وتعقبه
ابن العربي بأنه جهل باللغة لأن لمعية تقتضي أن تكون من شيئين في جهة واحدة لا في
المتضادين ثانيهما حمله على صورة مخصوصة وهي أن رجلا اشترى من آخر عبدا فادعى
المشتري أن به عيبا وأقام شاهدا واحدا فقال البائع بعته بالبراءة فيحلف المشتري
أنه ما اشتراه بالبراءة ويرد العبد بنحو ما تقدم وبندور ذلك فلا يحمل الخبر على
النادر وأقول جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق
المناظرة عند من له أدنى المام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من أنصاف فالحق أن
أحاديث العمل بشاهد زيادة على ما دل عليه قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين } الآية
وعلى ما دل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم " شاهداك أو يمينه " غير
منافية للأصل فقبولها متحتم وغاية ما يقال على فرض التعارض وإن كان فرضا فاسدا أن
الآية والحديث المذكورين يدلان بمفهوم العدد على عدم قبول الشاهد واليمين والحكم
بمجردهما وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الأصول لا يعارض المنطوق وهو ما ورد
في العمل بشاهد ويمين على أنه يقال العمل بشهادة المرأتين مع الرجل مخالف لمفهوم
حديث شاهداك أو يمينه ( فإن قالوا ) قدمنا على هذا المفهوم منطوق الآية الكريمة
قلنا ونحن قدمنا على ذلك المفهوم منطوق أحاديث الباب هذا على فرض أن الخصم يعمل
بمفهوم العدد فإن كان لا يعمل به أصلا فالحجة عليه أوضح وأتم
قوله : " وعن سرق " بضم السين المهملة وتشديد الراء بعدها قاف وهو ابن
أسد صحابي مصري لم يرو عنه إلا رجل واحد
باب ما جاء في امتناع الحاكم من الحكم بعلمه
1 - عن عائشة
" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلاحه رجل في
صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا القود يا
رسول الله فقال لكم كذا وكذا فلم يرضوا فقال لكم كذا وكذا فرضوا فقال أني خاطب على
الناس ومخبرهم برضاكم قالوا نعم فخطب فقال أن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود
فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا افرضيتم قالوا لافهم المهاجرون بهم فأمرهم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا ثم دعاهم فزادهم فقال أفضيتم قالوا
نعم قال أني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم قالوا نعم فخطب فقال أرضيتم فقالوا نعم
"
- رواه الخمسة إلا الترمذي
2 - وعن جابر
" قال أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة والنبي صلى الله
عليه وآله وسلم يقبض منها يعطي الناس فقال يا محمد أعدل فقال ويلك ومن يعدل إذا لم
أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق
فقال معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا
يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية "
- رواه أحمد ومسلم
قال أبوبكر الصديق لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ما أخذته ولا دعوت له أحدا
حتى يكون معي غيري . حكاه أحمد
- حديث عائشة
سكت عنه أبو داود والمنذري قال المنذري ورواه يونس بن يزيد عن الزهري منقطعا
قال البيهقي ومعمر بن راشد حافظ قد اقام إسناده فقامت به الحجة . وأثر أبي بكر قال
الحافظ في الفتح رواه ابن شهاب عن زيد بن الصلت أن أبا بكر فذكره وصحح إسناده (
وقد اختلف ) أهل العلم في جواز القضاء من الحاكم بعلمه فروى البخاري عن عبد الرحمن
بن عوف مثل ما ذكره المصنف عن أبي بكر واستدل البخاري أيضا على أنه لا يحكم الحاكم
بعلمه بما قاله عمر لولا أن يقول الناس زاد عمر ىية في كتاب الله لكتبت آية الرجم
قال المهلب وأفصح بالعلة في ذلك بقوله لولا أن يقول الناس الخ فأشار إلى أن ذلك من
قطع الذرائع لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم
بشيء قال البخاري وقال أهل الحجاز الحاكم لا يقضي بعلمه سواء علم بذلك في ولايته
أو قبلها
قال الكرابيسي لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق
إليه التهمة قال ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل
مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رىه يزني أو يفرق بينه وبين زوجته
ويزعم أنه سمعه سطلقها أو بينه وبين أمته ويزعم أنه سمعه يعتقها فإن هذا الباب لو
فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب ومن ثم
قال الشافعي لولا قضاة السوء لقلت أن للحاكم أن يحكم بعلمه
قال ابن التين ما ذكره البخاري عن عمر وعبد الرحمن هو قول مالك وأكثر أصحابه
وقال بعض أصحابه يحكم بما علم فيما أقر به أحد الخصمين عنده في مجلس الحكم
وقال ابن القاسم وأشهب لا يقضي بما يقع عنده في مجلس الحكم إلا إذا شهد له عنده
وقال ابن المنير مذهب مالك أن من حكم بعلمه نقض على المشهور إلا إن كان علمه حادثا
بعد الشروع بعد المحاكم فقولان وأما ما أقر به عنده في مجلس الحكم فيحكم ما لم
ينكر الخصم بعد إقراره وقبل الحكم عليه فإن ابن القاسم قال لا يحكم عليه حينئذ
ويكون شاهدا وقال ابن الماجشون يحكم بعلمه قال البخاري وقال بعض أهل العراق ما سمع
أو رآه في مجلس القضاء قضي به وما كان في غيره لم يقض إلا بشاهدين يحضرهما إقراره
قال في الفتح وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه ووافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ
وسحنون من المالكية
قال ابن التين وجرى به العمل وروى عبد الرزاق نحوه من شريح
قال البخاري وقال آخرون منهم يعني أهل العراق بل يقضي به لأنه مؤتمن قال في الفتح
وهو قول أبي يوسف ومن تبعه ووافقهم الشافعي فيما بلغني عنه أنه قال إن كان القاضي
عدلا لا يحكم بعلمه في حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه ويحكم بعلمه في كل
الحقوق مما علمه قبل ان يلي القضاء أو بعد ما ولي فقيد ذلك بكون القاضي عدلا إشارة
إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس بعدل قال البخاري وقال بعضهم يعني أهل العراق يقضي
بعلمه في الأموال ولا يقضي بغيرها
قال في الفتح هو قول أبي حنيفة القياس أنه يحكم في ذلك بعلمه ولكن ادع القياس
واستحسن أن لا يقضي بعلمه في كل شيء إلا في الحدود قال وهذا هو الراجح عند
الشافعية وقال ابن العربي لا يقضي بعلمه والصل فيه عندنا افجماع على أنه لا يحكم
بعلمه في الحدود قال ثم أحدث بعض الشافعية قولا أنه يجوز فيها ايضا حين رأوا أنها
لازمة لهم
قال الحافظ كذا قال فجرى على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة
الاختلاف وق حكى في البحر القول بأن الحاكم يحكم بعلمه عن العترة والشافعي وأبي
حنيفة وأحمد وحكى المنع عن شريح والشعبي والأوزاعي ومالك وإسحاق وأحد قولي الشافعي
والأقوال في المسألة فيها طول ذكر البخاري وشراح كتابه بعضا منها في باب الشهادة
تكون عند الحاكم وبعضا في باب من رأي للقاضي ان يحكم بعلمه : وذكر البخاري في
البابين أحاديث يستدل بها على الجواز وعدمه وهي في غاية البعد عن الدلالة على
المقصود وكذلك ما ذكره المصنف في هذا الباب فإن حديث عائشة ليس فيه إلا مجرد وقوع
الأخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم بما وقع به الرضا من الطالبين للقود وإن كان
الاحتجاج بعدم القضاء منه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بما رضوا به المرة الأولي
فلم يكن هناك مطالب له بالحكم عليهم
وكذلك حديث جابر المذكور لا يدل على المطلوب بوجه وغاية ما فيه الامتناع عن القتل
لمن كان في الظاهر من الصحابة لئلا يقول الناس تلك المقالة والأخبار للحاضرين بما
يكون من أمر الخوارج وترك أخذهم بذلك لتلك العلة ومن جملة ما استدل به البخاري على
الجواز حديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بوجوب النفقة لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان ولم يلتمس
على ذلك بينة وتعقبه ابن المنير بأنه لا دليل فيه لأنه خرج مخرج الفتيا وكلام
المفتي يتنزل على تقدير صحة كلام المستفتي اه فإن قيل أن محل الدليل إنما هو عمله
بعلمه أنها زوجة أبي سفيان فكيف صح هذا التعقب فيجاب بأن الذي يحتاج إلى معرفة
المحكوم له هو الحكم لا الافتاء فإنه يصح لمجهول فإذا ثبت أن ذلك من قبيل الافتاء
بطلت دعوى أنه حكم بعلمه أنها زوجة وقد تعقب الحافظ كلام ابن منير فقال وما أدعى
تفيه بعيد فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرها بالأخذ وإطلاعه على صدقها ممكن بالوحي
دون من سواه فلا بد من سبق علم ويجاب عن هذا بأن الأمر لا يستلزم الحكم لأن المفتي
يأمر المستفتي بما هو الحق لديه وليس ذلك من الحكم في شيء ومن جملة ما استدل به
على المنع الحديث المتقدم عن أم سلمة " فأقضي بنحو ما أسمع " ولم يقل
بما أعلم
ويجاب بأن التنصيص على السماع لا ينفي كون غيره طرقا للحكم على أنه يمكن أن يقال
أن الاحتجاج بهذا الحديث للمجوزين أظهر فإن العلم أقوى من السماع لأنه يمكن بطلان
ما سمعه الإنسان ولا يمكن بطلان ما يعلمه ففحوى الخطاب تقتضي جواز القضاء بالعلم
ومن جملة ما استدل به المانعون حديث شاهداك أو يمينه وفي لفظ وليس لك إلا ذلك
ويجاب بالعلم ومن جملة ما استدل به المانعون حديث شاهداك أو يمينه وفي لفظ ليس لك
إلا ذلك ويجاب بما تقدم من التنصيص على ما ذكره لا ينفي ما عداه
وأما قوله " وليس لك إلا ذلك " فلم يقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وقد علم بالحق منهما من المبطل حتى يكون دليلا على عدم حكم الحاكم بعلمه بل المراد
أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرا حيث لم يكن للمدعي برهان .
والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابا
للحكم كالبينة واليمين ونحوهما أمورا تعبدنا الله بها لا يسوغ لنا الحكم إلا بها
وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين فالواجب علينا الوقوف عندها والتقيد بها وعدم
العمل بغيرها في القضاء كائنا ما كان وإن كانت أسبابا يتوصل الحاكم بها إلى معرفة
المحق من المبطل والمصيب من المخطئ غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر وهو حصول ما
يحصل للحاكم بها من علم أو ظن وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع فكان الذكر لها
لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه
لأن شهادة الشاهدين والشهود لا تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة أو ما
يجري مجراها فإن الحاكم بعلمه غير الحاكم الذي يستند إلى شاهدين أو يمين . ولهذا
يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم " فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا
يأخذه إنما أقطع له قطعة من نار " فإذا جاز الحكم مع تجويز كون الحكم صوابا
وتجويز كونه خطأ فكيف لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى العلم اليقين ولا
يخفي رجحان هذا وقوته لأن الحاكم به قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر الله
تعالى
ويؤيد هذا ما سيأتي في باب استحلاف المنكر حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم للكندي
ألك بينة فإن البينة في الأصل ما به يتبين الأمر ويتضح ولا يرد على هذا أنه يستلزم
قبول شهادة الواحد والحكم بها لأنا نقول إذا كان القضاء بأحد الأسباب المشروعة
فيجب التوقف فيه على ما ورد
وقد قال تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال صلى الله عليه وآله وسلم "
شاهداك " وإنما النزاع إذا جاء بسبب آخر من غير جنسها هو أولى بالقبول منها
كعلم الحاكم . واستدل المستثني للحدود بما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم
" لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " وفي لفظ " لو كنت راجما أحدا من
غير بينة لرجمتها " أخرجه مسلم وغيره من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة .
وظاهره أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد علم وقوع الزنا منها ولم يحكم بعلمه
ومن ذلك قول أبي بكر وعبد الرحمن المتقدمان . ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم إنما لم يعمل بعلمه لكونه قد حصل التلاعن وهو أحد الأسباب
الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم والنزاع إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن
يتقدم سبب شرعي ينافيه وقد تقدم في اللعان ما يزيد هذا وضوحا . ومن الأدلة الدالة
على جواز الحكم بالعلم ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث عطاء بن السائب عن
أبي يحيى عن الأعرج عن أبي هريرة قال " جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فقال للمدعي أقم البينة فلم يقمها فقال للآخر أحلف فحلف بالله
الذي لا إله إلا هو ماله عنده شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فعلت
ولكن غفر لك بأخلاص لا إله إلا الله " وفي رواية للحاكم " بل هو عند
أدفع إليه حقه ثم قال شهادتك أن لا إله إلا الله كفارة يمينك " وفي رواية
لأحمد " فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أنه
كاذب إن له عنده حقه فأمره أن يعطيه وكفارة يمينه معرفة لا إله إلا الله "
وأعله ابن جزم بأبي يحيى وهو مصدع المعرقب كذا قال ابن عساكر وتعقبه المزي بأنه
وهم بل اسمه زياد كذا اسمه عند أحمد والبخاري وأبي داود في هذا الحديث واعله أبو
حاتم برواية شعبة عن عطاء بن السائب عن البختري بن عبيد عن أبي الزبير مختصرا
" أن رجلا حلف بالله وغفر له " قال وشعبة أقدم سماعا من غيره
وفي الباب عن أنس من طريق الحارث بن عبيد عن ثابت وعن ابن عمر
قال الحافظ أخرجهما البيهقي والحارث بن عبيد هو أبو قدامة . فهذا الحديث فيه أنه
صلى الله عليه وآله وسلم قضى بعلمه بعد وقوع السبب الشرعي وهو اليمين فبالأولى
جواز القضاء بالعلم قبل وقوعه
وقد حكى في البحر عن الإمام يحيى وأحد قولي المؤيد بالله وأحد قولي الشافعي أنه
يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في الحدود وغيرها واستدل لهم بأنه لم يفصل الدليل .
وحكى عن ابن حنيفة ومحمد أنه إن علم الحد قبل ولايته أو في غير بلد ولايته لم يحكم
به إذ ذلك شبهة وإن علم به في بلد ولايته أو بعد ولايته حكم بعلمه
باب من لا يجوز الحكم بشهادته
1 - عن عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تجوز
شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادتة القانع لأهل البيت
والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت "
- رواه أحمد وأبو داود
وقال شهادة الخائن والخائنة إلى آخره ولم يذكر تفسير القانع . ولأبي داود في رواية
" لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي عمر على أخيه
"
2 - وعن أبي
هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " لاتجوز شهادة بدوى
على صاحب قرية "
- رواه أبو داود وابن ماجه
- حديث عمرو
بن شعيب أخرجه البيهقي وابن دقيق العيد قال في التلخيص وسنده قوي اه وقد ساقه أبو
داود بإسنادين . الإسناد الأول قال حتدثنا حفص ابن عمر حدثنا محمد بن راشد يعني
المكحولي الدمشقي نزيل البصرة وثقه أحمد وابن معين حدثنا سليمان بن موسى يعني
القرشي الأموس فقيه أهل الشام وكان أوثق أصحاب مكحول وأعلاهم من عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده وهذا إسناد لا مطعن فيه . ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يخرج
بها الحديث عن الحسن والصلاحية للاحتجاج . والسند الثاني قال حدثنا محمد بن خلف
ابن طارق الرازي حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد يعني الدمشقي الخزاعي وهو ثقة حدثنا
سعيد بن عبد العزيز يعني ابن يحيى التنوخي الدمشقي ورى له البخاري في الأدب وسائر
الجماعة عن سليمان بن موسى المتقدم عن عمرو بن شعيب بالإسناد المتقدم وهذا
كالإسناد الأول
وفي الباب من حديث عائشة مرفوعا بلفظ " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي
غمر لأخيه ولا ظنين ولاقرابة " أخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي وفيه يزيد
بن زياد الشامي وهو ضعيف قال الترمذي لا يعرف هذا من حديث الزهري إلا من هذا الوجه
ولا يصح عندنا إسناده
وقال أبو زرعة في العلل منكر وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي وفي الباب أيضا
من حديث عبد الله ابن عمر بن الخطاب نحوه أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عبد
الأعلى وهو ضعيف وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهو أيضا ضعيف قال البيهقي لا يصح من
هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي الباب أيضا عن عمر " لا تقبل
شهادة ظنين ولاخصم " أخرجه مالك في الموطأ موقوفا وهو منقطع قال الإمام في
النهاية واعتمد الشافعي خبرا صحيحا وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تقبل
شهادة خصم على خصم قال الحافظ ليس له إسناد صحيح لكن له طرق يتقوى بعضها بعض فروى
أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله ابن عوف إن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ورواه البيهقي من طريق
الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تجوز شهادة ذي الظنة
والحنة يعني الذي بينك وبينه عداوة ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي
هريرة يرفعه مثله
وفي إسناده نظر
وحديث الباب عن أبي هريرة أخرجه البيهقي وقال هذا الحديث مما تفرد به محمد ابن عمر
وبن عطاء عن عطاء بن يسار وقال المنذري رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه اه
وسياقه في سنن أبي داود قال حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني
يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد الكلاعي عن أبي الهاد يعني يزيد بن عبد الله بن الهاد
الليثي عن محمد بن عمرو بن عطاء يعني القرشي العامري عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة
قوله : " لاتجوز شهادة خائن ولا خائنة " صرح أبو عبيد بأن الخيانة تكون
في حقوق الله كما تكون في حقوق الناس من دون اختصاص
قوله : " ولا ذي غمر " قال ابن رسلان بكسر الغين المعجمة وسكون الميم
بعدها راء مهملة قال أبو داود الغمر الحنة والسحناء والحنة بكسر الحاء المهملة
وتخفيف النون المفتوحة لغة في احنة وهي الحقد قال الجوهري يقال في صدره عى ؟ ؟
احنة ولا يقال حنة والواحنة المعاداة والصحيح أنها لغة كما ذكره أبو داود وجمعها
حنات
قال ابن الأثير وهي لغة قليلة في الاحنة وقال الهروي هي لغة رديئة والشحناء بالمد
العداوة وهذا يدل على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لأنها تورث التهمة وتخالف
الصداقة فإن في شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا
غيره وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا فإن قيل لم
قبلته شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة قال ابن رسلان قلنا العداوة ههنا
دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور بخلاف العداوة الدنيوية قال وهذا مذهب الشافعي
ومالك وأحمد والجمهور وقال أبو حنيفة لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخلب
العدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة اه . وإلى الأول ذهبت الهادوية وإلى الثاني ذهب
المؤيد بالله أيضا والحق عدم قبول شهادة العدو على عدوه لقيام الدليل على ذلك
والأدلة لا تعارض بمحض الآراء وليس للقائل بالقبول دليل قبول قال في البحر مسألة
العداوة لأجل الدين لا تمنع كالعدلى على القدرى والعكس ولأجل الدنيا تمنع
قوله " ولا تجوز شهادة القانه لأهل البيت " هو الخادم المنقطع إلى
الخدمة فلا تقبل شهادته للتهمة بجلب النفع إلى نفسه وذلك كالأجير الخاص وقد ذهب
إلى عدم قبول شهادته للمؤجر له الهادي والقاسم والناصر والشافعي قالوا لأن منافعه
قد صارت مستغرقة فأشبه العبد وقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادة العبد
لسيده
قوله : " ولا زان ولا زانية " المانع من قبول شهادتهما الفسق الصريح
وقد حكى في البحر الإجماع على أنها لا تصح الشهادة من فاسق لصريح قوله تعالى {
واشهدوا ذوي عدل } وقوله { إن جائكم فاسق } اه واختلف في شهادة الولد لوالده
والعكس فمنع من ذلك الحسن البصري والشعبي وزيد بن علي والمؤيد بالله ووالإمام يحيى
والالثوري ومالك والشافعية والحنفية وعللوا بالتهمة فكان القانع
وقال عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز والعترة وأبو ثور وابن المنذر
والشافعي في قوله له أنها تقبل لعموم قوله تعالى { ذوي عدل } وهكذا وقع الخلاف في
شهادة أحد الزوجين للآخر لتلك العلة ولا ريب أن القرابة والزووجية مظنة للتهمة لأن
الغالب فيهما المحاباة . وحديث ولا ظنين المتقدم يمنع من قبول شهادة المتهم فمن
كان معروفا من القرابة ونحوهم بمتانة الدين البابغة إلى خد لا يؤثر معها محبة القرابة
فقد زالت حينئذ وظنة التهمة ومن لم يكن كذلك فالواجب عدم القبول لشهادته لأنه مظنة
للتهمة
قوله " لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية " البدوي هو الذي يسكن البادية
في المضارب والخيام ولا يقيم في موضع خاص بل يرتحل من مكان إلى مكان وصاحب القرية
هو الذي يسكن القرى وهي المصر الجامع
قال في النهاية إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام
الشرع ولأنهم في الغالب لا يضبظون الشهادة على وجهها
قال الخطابي يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من عدم العلم بإتيان
الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يغيرها عن وجهها وكذلك
قال أحمد وذهب إلى العمل بالحديث جماعة من أصحاب أحمد وبه قال مالك وأبو عبيد وذهب
الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل
البدو والغلب أنهم لا تعرف عدالتهم اه وهذا حمل مناسب لأن البدوي إذا كان معروف
العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدويا غير مناسب لقواعد الشريعة لأن المساكن لا
تأثير لها في الرد والقبول لعدم صحة جعل ذلك مناطا شرعيا ولعدم إنضباطه فالمناط هو
العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة وإلا توجه الحمل على العدالة
اللغوية فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها يعدم ولم يذكر صلى الله عليه
وآله وسلم المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما يحتاج إليه
العدالة وإلا فقد قبل صلى الله عليه وآله وسلم في الهلال شهادة بدوي
باب ما جاء في شهادة أهل الذمة بالوصية في السفر
1 - عن الشعبي
" أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحدا من المسلمين
يشهده على وصيته فاشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا
موسى فأخبراه وقدما بتركه ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد
رسول الله ؟ ؟ ؟ ؟ فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا
غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما "
- رواه أبو داود والدارقطني بمعناه
2 - وعن جبير
بن نفير قال " دخلت على عائشة فقالت هل تفرأ سورة المائدة قلت نعم قالت فإنها
آخر سورة أنزلت فما وجدتم فيها من حلال فاحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه
"
- رواه أحمد
3 - وعن ابن
عباس قال " خرج رجل من بني سهم مع تميم الدارى وعدي ابن بداء فمات السهمي
بأرض ليس بها مسلم فلما قدموا بتركه فقدوا جاما من فضة مخوصا بذهب فأحلفهما رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا ابتعناه من تميم وعدي بن بداء
فقام رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وابن الجام لصاحبهم قال
وفيهم نزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم "
- رواه البخاري وأبو داود
- حديث أبي
موسى سكت عنه أبو دداود والمنذري قال الحافظ في الفتح أن رجال إسناده ثقات اه
وسياقه عند أي داود قال حدثنا زياد بن أيوب يعني الطاوسي شيخ البخاري حددثنا هشيم
أخبرنا زكريا يعني ابن أبي زائدة عن الشعبي وأثر عائشة رجاله في المسند رجال
الصحيح وأخرجه أيضا الجحاكم قال في الفتح صح عن عائشة وابن عباس وعمرو بن شرحبيل
وجمع من السلف أن سورة المائدة محكمة . وحديث ابن عباس قال البخاري في صحيحه وقال
لي على المديني فذكره قال المنذري وهذه عادته فيما لم يكن على شرطه وقد لي على ابن
المديني على هذا الحديث وقال لا أعرف ابن أبي القاسم وقال وهو حديث حسن اه وابن
أبي القاسم هذا هو محمد بن أبي القاسم قال يحيى بن معين ثقة قد كتبت عنه وكذلك
وثقة أبو حاتم وتوقف فيه البخاري وأخرج هذا الحديث الترمذي وقال حسن غريب وقد أشار
في الفتح إلى مثل كلام المنذري فقال على قول البخاري وقا لي علي بن المديني وهذا
مما يقوى مما قررته غير مرة أنه يعبر بقوله وقال لي في الأحاديث التي سمعها لكن
حيث يكون في إسنادها عنده نظر أو حيث تكون موقوفة
وأما من زعم أنه يعبر بها فيما أخذه في المذاكرة أو بالمناولة فليس عليه دليل
قوله : " بدقوقا " بفتح الدال المهملة وضم القاف وسكون الواو بعدها قاف
مقصورة وقد مدها بعضهم وهي بلد بين بغداد واربل
قوله : " من أهل الكتاب " يعني نصرانيين كما بين ذلك البيهقي وبين أن
الرجل من خثعم ولفظه عن الشعبي توفي رجل من خثعم فلم يشهد موته إلا رجلان
نصرانيانز قوله " فاحلفهما " يقال في المتعدي أحلفته احلافا وحلفته
بالتشديد تحليفا واستحلفته
قوله : " بعد العصر " هذا يدل على جواز التغليظ بزمان من الأزمنة
قوله : " ولا بدلا " بتشديد الدال
قوله : " من بني سهم " هو بديل بضم الموحدة وفتح الدال مصغرا وقيل بريل
بالراء المهملة
قوله : " وعدى بن بداء " بفتح الموحدة وتشديد المهملة مع المد
قوله : " فقدوا جاما " بالجيم وتخفيف الميم أي اناء
قوله : " مخوصا " بخاء معجمة وواو ثقيلة بعدها مهملة أي منقوشا فيه صفة
الخوص . ووقع في رواية مخوضا بالضاد المعجمة أي مموها والأول أشهر
قوله " فقام رجلان " الخ وقع في رواية الكلبي فقام عمرو بن العاص ورجل
آخر منهم قال مقاتل بن سليمان هو المطلب بن أبي وداعة وهو سهمي ولكنه سمي الأول
عبد الله بن عمرو بن العاص واستدل بهذا الحديث على جواز رد اليمين على المدعى
فيحلف ويستحق واستدل به ابن سريج الشافعي على الحكم بالشاهد واليمين وتكلف في انتزاعه
فقال قوله تعالى { فإن عثر على انهما استحقا اثما " لا يخلو أما أن يقرا أو
يشهد عليهما شاهدان أو شاهد وامرأتان أوشاهد واحد قال وقد اجمعوا على أن الأقرار
بعد الإنكار لا يوجب يمينا على الطالب وكذلك مع الشاهدين ومع الشاهد والمرأتين فلم
يبق إلا شاهد واحد فلذلك استحقه الطالبان بيمينيهما مع الشاهد الواحد وتعقبه
الحافظ بأن القصة وردت من طرق متعددة في سبب النزول وليس في شيء منها أنه كان هناك
من يشهد بل في رواية الكلبي فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم ان يستحلفوه أي عديا
بما يعظم على أهل دينه واستدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناء على أن
المراد بالغير في الآية الكريمة الكفار
والمعنى منكم أن من أهل دينكم أو آخران من غيركم أي من غير أهل دينكم وبذلك قال
أبو حنيفة ومن تبعه وتعقب بأنه لا يقول بظاهرها فلا يجيز شهادة الكفار على
المسلمين وإنما يجيز شهادة بعض الكفار على بعض وأجيب بأن الآية دلت بمنطوقها على
قبول شهادة الكافر على المسلم وبايمائها على قبول شهادة الكافر بطريق الأولى ثم دل
الدليل على أن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة فبقيت شهادة الكافر على الكافر
على حالها وهذا الجواب على التعقب في غير محله لأن التعقب هو باعتبار ما يقوله أبو
حنيفة لا باعتبار استدلاله وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم
حينئذ ومنهم ابن عباس وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وشريح وابن سيرين
والأوزاعي والثوري وأبو عبيدة وأحمد وأخذوا بظاهر الآية وحديث الباب فإن سياقه
مطابق لظاهر الآية وقيل المراد بالغير غير العشيرة والمعنى منكم أي من عشيرتكم أو
أخران من غيركم أي من غير عشيرتكم وهو قول الحسن البصري واستدل له النحاس بأن لفظ
آخر لا بد أن يشارك الذي قبله في الصفة حتى لا يسوغ أن يقول مررت برجل كريم ولئيم
آخر فعلى هذا فقد وصف الأثنان بالعدالة فتعين أن يكون الآخران كذلك وتعقب بأن هذا
وإن ساغ في الآية لكن الحديث دل على خلاف ذلك والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك
في حكم الحديث المرفوع
قال في الفتح اتفاقا وأيضا ففيما قال رد المختلف فيه بالمختلف فيه لأن اتصاف
الكافر بالعدالة مختلف فيه وهو فرع قبول شهادته فمن قبلها وصفه بها ومن لا فلا
واعترض أبو حبان على المنال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق فلو قلت جاءني رجل
مسلم وآخر كافر صح بخلاف ما لو قلت جاءني رجل مسلم وكافر آخر والآية من قبيل الأول
لا الثاني لأن قوله آخران من جنس قوله اثنان لأن كلا منهما صفة رجلان فكأنه قال
فرجلان اثنان ورجلان آخران . وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله
تعالى { ممن ترضون من الشهداء } واحتجوا بالإجماع على رد شهادة الفاسق والكافر شر
من الفاسق . وأجاب الأولون أن النسخ لا يثبت بالاحتمال وإن الجمع بين الدليلين
أولى من ألغاء أحدهما وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وأنها محكمة كما
تقدم وأخرج الطبري عن ابن عباس بإسناد رجاله ثقات أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا
وليس عند أحد من المسلمين وأنكر أحمد على من قال أن هذه الآية منسوخة وقد صح عن
أبي موسى الأشعري أنه عمل بذلك كما في حديث الباب وذهب الكرابيسي والطبري وآخرون
إلى أن المراد بالشهادة في الآية اليمين قالوا وقد سمى الله اليمين شهادة في آية
اللعان وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول أشهد بالله وأن الشاهد
لا يمين عليه أنه شهد بالحق قالوا فالمراد بالشهادة اليمين لقوله " فيقسمان
بالله " أي يحلفان فإن عرف أنهما حلفا على الأثم رجعت اليمين على الأولياء
وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولاعدالة بخلاف الشهادة . قد اشترط في القصة
فقوى حملها على أنها شهادة وأما عتلال من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياص
والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه وشهادة المدعى لنفسه
واستحقاقه بمجرد اليمين فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه عن نظيره وقد قبلت
شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب وليس المراد بالحبس السجن وإنما المراد
الأمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه السورة عند
قيام الريبة وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين فإن الآية تضمنت نقل
الأيمان إليهم عند ظهور الوصيين فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا كما يشرع لمدعي
القسامة أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعى لنفسه بل من باب الحكم له بيمينه
القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه وأي فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم
وظهوره في صحة الدعوى بالمال وحكى الطبري أن بعضهم قال المراد بقوله " اثنان
ذوا عدل منكم " الوصيان قال والمراد بقوله " شهادة بينكم " معنى
الحضور بما يوصيهما به الوصي ثم زيف ذلك وهذا الحكم يختص بالكافر الذمي وأما
الكافر الذي ليس بذمي فقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادته على المسلم
مطلقا
باب الثناء على من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده وذم من أدى شهادة من غير مسألة
1 - عن زيد بن
خالد الجهني " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ألا اخبركم بخير
الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسئلها "
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه
وفي لفظ " الذين يبدؤن بشهادتهم من غير أن يسئلوا عنها " رواه أحمد
2 - وعن عمر
أن بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال خير أمتي قرنى ثم الذين
يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنة قرنين أو ثلاثة ثن أن من
بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم
السمن "
- متفق عليه
3 - وعن أبي
هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير أمتي القرن الذي بعثت
فيه ثم الذين يلونهم والله أعلم اذكر الثالث أم لا قال ثم يحلف بقوم يشهدون قبل أن
يستسهدوا "
- رواه أحمد ومسلم
- قوله "
ألا أخبركم بخير الشهداء " جمع شهيد كظرفاء جمع ظريف ويجمع أيضا على شهود .
والمراد بخير الشهداء أكملهم في رتبة الشهادة وأكثرهم ثوابا عند الله
قوله : " قبل أن يسئلها " في رواية قبل أن يستشهد وهذه هي شهادة الحسبة
فشاهدها خير الشهداء لأنه لو لم يظهرها لضاع حكم من أحكام الدين وقاعدة من قواعد
الشرع
وقيل أن ذلك في الأمانة والوديعة ليتيم لا يعلم مكانها غيره فيخبر بما يعلم من ذلك
وقيل هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد فلا يمنعها ولا يؤخرها كما يقال
الجواد يعطي قبل سؤاله عبارة عن حسن عطائه وتعجيله
قوله : " خير أمتي قرني " قال في القاموس القرن يطلق من عشرة إلى مائة
ووعشرين سنة ورجح الإطلاق على المائة وقال صاحب المطالع القرن أمة هلكت فلم يبق
منهم أحد
قال في النهاية القرن أهل كل زمان وهو مقدار المتوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ
من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم .
قيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق من الزمان وهو مصدر قرن
يقرن اه
قال الحافظ لم نر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة وما عدا ذلك فقد قال به قائل .
والمراد بقرنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث هم الصحابة كما في حديث أبي
هريرة المذكور بلفظ " الذي بعثت فيه " والمراد بالذين يلونهم التابعون
والذين يلونهم تابعوا التابعين
وفيه دليل على أن الصحابة أفضل الأمة والتابعين أفضل من الذين بعدهم وتابعي
التابعين أفضل ممن بعدهم . وثم أحاديث معارضة في الظاهر لهذا الحديث وسيأتي الكلام
على ذلك إن شاء الله في باب ذكر من حلف قبل أن يستحلف وهو آخر أبواب الكتاب
قوله : " يخونون " بالخاء المعجمة مشتق من الخيانة . وزعم ابن حزم أنه
وقع في نسة " يحربون " بسكون المهملة وكسر الراء بعدها موحدة قال فإن
كان محفوظا فهو من قولهم حربة يحربه إذا أخذ مله وتركه بلا شيء ورجل محروب أي
مسلوب المال
قوله : " ولا يؤتمنون " من الأمانة أي لا يثق بهم لخيانتهم
وقال النووي وقع في نسخ مسلم " ولا يتمنون " بتشديد الفوقية
قال غيره هو نظير قوله " يتزر " بالتشديد موضع يأتزر
قوله : " ويظهر فيهم السمن " يكسر المهملة وفتح الميم بهدها نون أي
يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن
وقال ابن التين المراد ذم محبته وتعاصيه لا من يخلق كذلك
وقيل المراد يظهر فيهم كثرة المال
وقيل المراد أنهم يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لم من الشرف
قال في القتح ويحتمل أن يكون جميع ذلك مرادا
وقد ورد في لفظ من حديث عمران عند الترمذي بلفظ " ثم يجيء قوم متسمنون ويحبون
السمن " قال الحافظ وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته فهو أولى ما حمل عليه
خبر الباب وإنما كان ذلك مذموما لأن السمين غالبا يكون بليد الفهم ثقيلا عن
العبادة كما هو مشهور
قوله : " ويشهدزن وولا يستشهدون " يحتمل أن يكون التحمل بدون تحميل أو
الأداء بدون طلب
قال الحافظ والثاني أقرب وأحاديث الباب متعارضة فحديث زيد بن خالد الجهني يدل على
استحباب شهادة الشاهد قبل أن يستشهد . وحديث عمران وأبي هريرة يدلان على كراهة ذلك
وقد اختلف أهل العلم في ذلك فبعضهم جنح إلى الترجيح فرجح ابن عبد البر حديث زيد بن
خالد لكونه من رواية أهل المدينة فقدمه على حديث عمران لكونه من رواية أهل العراق
وبالغ فزعم أن حديث عمران المذكور لا أصل له وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران
لاتفاق صاحبي الصحيح عليه وانفرد مسلم بإخراج حديث زيد وذهب آخرون إلى الجمع فمنهم
من قال أن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لأنسان بحق لا يعلم بها صاحبها فيأتي
إليه فيخبره بها أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إلى وريته
فيعلمهم بذلك قال الحافظ وهذا أحسن الأجوبة وبه أجاب يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك
وغيرهما ثانيها أن المراد بحديث زيد شهادة الحسبة وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين
المختصة بهم محضا ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق الله أو فيه شائبة منه العتاق
والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك ( وحاصله ) أن المراد
بحديث زيد الشهادة في حقوق الله وبحديث عمران وأبي الإجابة إلى الأداء فيكون لشدة
استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسئلها وهذه الأجوبة مبينة على أن الأصل في أداء
الشهادة عند الحاكم أنه لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق فيخص ذم من يشهد قبل
أن يستشهد بمن ذكر ممن يخبر بشهادته ولا يعلم بها صاحبها وذهب بعضهم إلى جواز أداء
الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد وتأولوا حديث عمران بتأويلات . أحدها
أنه محمول على شهادة الزور أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها وهذا حكاه الترمذي
عن بعض أهل العلم . ثانيها المراد بها الشهادة في الحلف يدل عليه ما في البخاري من
حديث ابن مسعود بلفظ " كانوا يضربوننا على الشهادة " أي قول الرجل أشهد
بالله ما كان إلا كذا على معنى الحلف فكره ذلك كما كره الإكثار من الحلف واليمين قد
تسمى شهادة كما تقدم وهذا جواب الطحاوي . ثالثها المراد بها الشهادة على المغيب من
أمر الناس فيشهد على قوم أنهم في النار وعلى قوم أنهم في الجنة بغير دليل كما يصنع
ذلك أهل الأهواء حكاه الخطابي . رابعها المراد به من ينتصب شاهدا وليس من أهل
الشهادة . خامسها المراد مهما أمكن فهو مقدم على الترجيح فلا يصار إلى الترجيح في
أحاديث الباب وقد أمكن الجمع بهذه الأمور
باب التشديد في شهادة الزور
1 - عن أنس قال " ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور "
2 - وعن أبي
بكرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر
قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال ألا
وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت "
- متفق عليهما
3 - وعن ابن
عمر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لن تزول قدم شاهد الزور حتى
يوجب الله له النار "
- رواه ابن ماجه
- حديث ابن
عمر انفرد ابن ماجه بإخراجه كما في الجامع وغيره وسياق إسناده . في سنن ابن ماجه هكذا
حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن الفرات عن محارب ابن دثار عن ابن عمر فذكره
ومحمد بن الفرات هو كوفي كذبه أحمد قال في التقريب كذبوه
قوله : " ذكر الكبائر أو سئل عنها " هذه رواية محمد بن جعفر ورواية في
البخاري سئل عن الكبائر . ورواية أحمد أو ذكرها قال في الفتح وكأن المراد بالكبائر
أكبرها لما في حديث أبي بكرة المذكور وليس القصد حصر الكبائر فيما ذكره وقد ذكر
الله الثلاث المذكورة في الحديث في آيتين الأولى { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه
وبالوالدين إحسانا } والثانية { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور }
قوله : " وكان متكئا فجلس " هذا يشعر باهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم
بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظيم قبحه وسبب الاهتمام
بشهادة الزور كونها أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر فإن الإشراك ينبو عنه
قلب المسلم والعقوق يصرف عنه الطبع وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة
والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام به وليس ذلك لعظمه بالنسبة إلى ما ذكر معه من
الإشراك قطعا بل لكونه مفسدته متعدية إلى الغير بخلاف الاشراك فإن مفسدته مقصورة
عليه غالبا وقول الزور أعم من شهادة الزور لأنه يشمل كل زور من شهادة أو غيبة أو
بهت أو كذب ولذا قال ابن دقيق العيد يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام لكن ينبغي
أن يحمل على التوكيد فإنا لو حملنا على الأطلاق لزم أن تكون الكذبتة والواحدة
كبيرة وليس كذلك قال ولا شك في عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده ومنه
قوله تعالى { ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به بريأ فقد احتمل بهتانا واثما مبينا
} قوله حتى قلنا " حتى قلنا ليته سكت " أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه
وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم والمحبة له والشفقة
عليه ( وفي الحديث ) إنقسام الذنوب إلى كبير وأكبر وليس هذا موضع بسط الكلام على
الكبائر وستأتي إشارة إلى طرف من ذلك في باب التشديد في اليمين الكاذبة ويؤخذ من
الحديث ثبوت الصغائر لأن الكبائر بالنسبة إليها أكبر منها والاختلاف في ثبوت
الصغائر مشهور وأكثر ما تمسك به من قال ليس في الذنوب صغيرة كونه نظر إلى عظم
المخالفة لأمر الله ونهبه فالمخالفة بالنسبة إلى جلالة الله كبيرة لكن لمن أثبت
الصغائر أن يقول وهي بالنسبة إلى ما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث الباب وقد فهم
الفرق بين الصغيرة والكبيرة من مدارك الشرع ويدل على ثبوت الصغائر قوله تعالى { إن
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم } فلا ريب أن السيآت المكفرة ههنا هي
غير الكبائر المجتنبة لأنه لا يكفر إلا ذنب قد فعله المذنب لا ما كان مجتنبا من
الذنوب فإنه لا معنى لتفكيره والكبائر المرادة في الآية مجتنبة فالسيآت المكفرة
غيرها وليست إلا الصغائر لأنها المقابلة لها وكذلك يؤيد ثبوت الصغائر حديث تفكير
الذنوب الوارد في الصلاة والوضوء مقيدا باجتناب الكبائر فثبت أن من الذنوب ما يكفر
بالطاعات ومنها ما لا يكفر وذلك عين المدعي . ولهذا قال الغزالي إنكار الفرق بين
الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه . ثم أن مراتب الصغائر والكبائر تختلف بحسب
تفاوت مفاسدها
قوله : " حتى يوجب الله له النار " في هذا وعيد شديد لشاهد الزور حيث
أوجب الله له النار قبل أن ينتقل من مكانه . ولعل ذلك مع عدم التوبة . أما لو تاب
وأكذب نفسه قبل العمل بشهادته فالله يقبل التوبة عن عباده
باب تعارض البينتين والدعوتين
1 - عن أبي
موسى " أن رجلين أدعيا بعيرا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث
كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما نصفين "
- رواه أبو داود
2 - وعن أبي
مزسى " أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دابة ليست
لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين "
- رواه الخمسة إلا الترمذي
3 - وعن أبي
هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر
أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف "
- رواه البخاري
وفي رواية " أن رجلين تدارآ في دابة ليست لواحد منهما بينة فأمرهما رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها " رواه أحمدد
وأبو داود وابن ماجه
وفي رواية " تدارآ في بيع "
وفي رواية " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا كره الإثنان اليمين أو
استحباها فليستهما عليها " رواه أحمد وأبو داود
- حديث أبي
موسى أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وذكر الخلاف فيه علي قتادة وقال هو معلول فقد
رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة . ومن
هذا الوجه أخرجه ابن حبان في صحيحه واختلف فيه على سعيد بن أبي عروبة فقيل عنه عن
قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى
وقيل عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال " أنبئت أن رجلين " قال
البخاري قال سماك بن حرب أنا بردة بهذا الحديث . فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا
الحديث من أبيه وروا ه أبو كامل عن أبيه . ورواه أبو كامل مطهر بن مدرك عن حماد عن
قتادة عن النضر بن أنس عن أبي بردة مرسلا
قال حماد فحدثت به سماك بن حرب فقال أنا حدثت به أبا بردة
وقال الدارقطني والبيهي والخطيب الصحيح أنه عن سماك مرسلا . ورواه ابن أبي شيبة عن
أبي الأحوص عن سماك عن تميم بن طرفة " أن رجلين أدعيا بعيرا فأقام فأقام كل
واحد منهما بينة أنه له فقضى به صلى الله عليه وآله وسلم ووصله الطبراني بذكر جابر
بن سمرة فيه إسنادين في أحدهما حجاج بن أرطأ والراوي عنه سويد بن عبد العزيز
وفي الآخر ياسين الزيات والثلاثة ضعفاء كذا قال الحافظ قال المنذري في مختصر السنن
حاكيا عن النسائي أنه قال هذا خطأ . ومحمد بن كثير المصيصي هو صدوق إلا أنه كثير
الخطأ . وذكر أنه خولف في إسناده ومتنه
قال المنذري ولم يخرج أبو داود لحديث أبي موسى ثلاثة أسانيد ليس في واحد منها محمد
بن كثير . وحديث أبي هريرة أخرج الرواية الثانية عنه النسائي أيضا . والرواية
الثاثة عزاها المنذري إلى البخاري
قوله : " فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما نصفين " فيه أنه
لو تنازع رجلان في عين دابة أو غيرها فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه ولم
يكن بينهما بينة وكانت العين في يديهما فكل واحد مدع في نصف ومدعى عليه في نصف أو
أقاما البينة كل واحد على دعواه تساقطتا وصارتا كالعدم وحكم به الحاكم نصفين
بينهما لاستوائهما في اليد . وكذا إذا لم يقيما بينة كما في الرواية الثانية .
وكذا إذا حلفا أو نكلا
قال ابن رسلان يحتمل أن تكون القصة في حديث أبي موسى الأول والثاني واحدة إلا أن
البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارتا كالعدم . ويحتمل أن يكون أحدهما في عين كانت
في يديهما . والآخر كانت العين في يد ثالث لا يدعيها بدليل ما وقع في رواية
للنسائي " إدعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل
واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما " قال وهذا أظهر لأن حمل
الإسنادين على معنيين متعددين أرجح من حملهما على معنى واحد لأن القاعدة ترجيح ما
فيه زيادة علم على غيره
قوله : " أحبا أو كرها " قال الخطابي الإكراه هنا لا يراد به حقيقته لأن
الإنسان لا يكره على اليمين وإنما المعنى إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف
سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما وهو معنى الإكراه أو مختارين لذلك بقلبهما وهو معنى
المحبة وتنازعا أيهما يبدأ فلا يقدم أحدهما على الآخر بالتشهي بل بالقرعة وهو
المراد بقوله فليستهما أي فليقترعا وقيل صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع إثنان
عينا ليست في يد أحدهما ولا بينة لواحد منهما فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف
واستحقها ويدل على ذلك الرواية الثانية من حديث أبي هريرة ويحتمل أن تكون قصة أخرى
فيكون القوم المذكورون مدعى عليهم بعين في أيديهم مثلا وأنكروا ولا بينة للمدعي
عليهم فتوجهت عليهم اليمين فسارعوا إلى الحلف والحلف لا يقع معتبرا إلا في بيان
معنى الحديث أن القرعة في أيهما تقدم عند إرادة تحليف القاضي لهما وذلك أنه يحلف
واحد ثم يحلف الآخر فإن لم يحلف الثاني بعد حلف الأول فقضى بالعين كلها للحالف
أولا وإن حلف الثاني فقد استويا في اليمين فتكون العين بينهما كما كانت قبل أن
يحلفا وهذا يشهد له الرواية الثالثة في حديث أبي هريرة المذكور في الباب وقد حمل
ابن الأثير في جامع الأصول الحديث على الاقتراع في المقسوم بعد القسمة وهو بعيد
ويرده الرواية الثالثة فإنها بلفظ فليستهما عليها أي على اليمين
قوله : " فليستهما عليها " وجه القرعة أنه إذا تساوى الخصمان فترجيح
أحدهما بدون مرجح لا يسوغ فلم يبق إلا المصير إلى ما فيه التسوية بين الخصمين وهو
القرعة وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين الخصوم وقد طول أئمة الفقه الكلام على
قسمة الشيء المتنازع فيه بين متنازعيه إذا كان في يد كل واحد منهم أو في يد غيرهم
مقربة لهم وأما إذا كان في يد أحدهما فالقول قوله واليمين عليه والبينة على خصمه
وأما القرعة في تقديم أحدهما في الحلف فالذي في فروع الشافعية إن الحاكم يعين لليمين
منهما نت ؟ ؟ شاء على ما يراه قال البرماوي لكن الذي ينبغي العمل به هو القرعة
للحديث وقد قدمنا في كتاب الصلح في العمل بالقرعة كلاما مفيدا
باب استحلاف المنكر إذا لم تكن بينة وأنه ليس للمدعي الجمع بينهما
1 - عن الأشعث
بن قيس قال " كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فقال شاهداك أو يمينه فقلت أنه إذا يحلف ولا يبالي فقال من
حلف على يمين يقتطع بها من مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان
"
- متفق عليه
واحتج به من لم ير الشاهد واليمين ومن رأى العهد يمينا
وفي لفظ " خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بئر
كانت لي في يده فجحدني فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينتك أنها بئرك
وإلا فيمينه قلت مالي بينة وإن يجعلها يمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو
عليه غضبان " رواه أحمد
2 - وعن وائل
بن حجر قال " جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا قد غلبني علي أرض كانت لأبي قال الكندي هي
ارضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحضرمي
ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فقال يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف
عليه وليس يتورع من شيء قال ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم لما أدبر الرجل أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله
وهو عنه معرض "
- رواه مسلم والترمذي وصححه وهو حجة على عدم الملازمة والتكفيل وعدم رد اليمين
- قوله كان
بيني وبين رجل خصومة قد تقدم في كتاب الغصب أن الأشعث بن قيس قال إن رجلا م كندة
ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا وقع في رواية أبي
داود وذلك يقتضي أن الخصومة بين رجلين غيره ورواية حديث الباب تقتضي أنه أحد
الخصمين ويمكن الجمع بالحمل على تعدد الواقعة فإن في رواية لأبي داود في حديث
الأشعث هذا بلفظ " كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فيها " ففي
هذا تصريح بأن خصمه كان يهوديا بخلاف ما تقدم في الغصب فإنه قال إن رجلا من كندة
ورجلا من حضر موت والكندي هو امرؤ القيس بن عابس الصحابي الشاعر والحضري هو ربيعة
بن عبدان بكسر العين وكذلك حديث وائل المذكور ههنا بأن الخصومة فيه بين الكندي
والحضري وهما المذكوران في حديث الأشعث المتقدم فلعل الرواية لقصة الكندي والحضري
من طريق الأشعث ومن طريق وائل
وأما المخاصمة بين الأشعث وغريمه فقصة أخرى رواها الأشعث والله أعلم
قوله : " في بئر " في رواية أبي داود في أرض ولا امتناع أن يكون المجموع
صحيحا فتارة ذكرت الأرض لأن البئر داخله فيها وتارة ذكرت البئر لأنها المقصودة
قوله : " يقتطع بها مال امرئ مسلم " التقييد بالمسلم ليس بأخراج غير
المسلم بل كأن تخصيص المسلمين بالذكر لكون الخطاب معهم ويحتمل أن يكون العقوبة
العظيمة مختصة بالمسلمين وإن كان أصل العقوبة لازما في حق الكفار
قوله : " لقي الله وهو عليه غضبان " هذا وعيد شديد لأن غضب الله سبب
لانتقامه وانتقامه بالنار فالغضب منه عز و جل يستلزم دخول المغضوب عليه بالنار
ولهذا وقع عليه في رواية مسلم " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله
له النار " ولا بد من تقييد ذلك بعدم التوبة وسيأتي بقية الكلام على هذا في
باب التشديد في اليمين الكاذبة
قوله : " ليس يتورع من شيء " أصل الورع الكف عن الحرام والمضارع بمعنى
النكرة في سياق النفي فيعم ويكون التقدير ليس له ورع عن شيء قوله " ليس لك
منه إلا ذلك " في هذا دليل على أنه لا يجب للغريم على غريمه اليمين المردودة
ولا يلزمه التكفيل ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس ولكنه قد ورد ما يخصص
هذه الأمور عن عموم هذا النفي وقد تقدم بعض ذلك ولنذكر ههنا ما ورد في جواز الحبس
لمن استحقه فاخرج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس رجلا في تهمة قال الترمذي حسن وزاد هو
والنسائي ثم خلى عنه وقد تقدم الكلام على حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ولكنه
قد روى هذا الحديث الحاكم وقال صحيح الإسناد وله شاهد من حديث أبي هريرة ثم أخرجه
ولعله ما رواه ابن القاص بسنده عن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس في تهمة يوما في وليلة استظهارا وطلبا لإظهار
الحق بالاعتراف
وأخرج أبو داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قام إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال جيراني بما أخذوا فاعرض عنهم مرتين لكونه كلمه في حال الخطبة
ثم ذكر شيئا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلوا له عن جيرانه فهذا يدل على
أنهم كانوا محبوسين يدل أيضا على جواز الحبس ما تقدم في باب ملازمة الغريم فإن
تسليط ذي الحق عليه وملازمته له نوع من الحبس وكذلك يدل على الجواز حديث "
مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته " لأن العقوبة مطلقة والحبس من جملة ما يصدق
عليه المطلق وقد تقدم الحديث في كتاب التفليس وحكى أبو داود عن ابن المبارك أنه
قال في تفسير الحديث يحل عرضه أي يغلظ عليه عقوبته يحبس له
وروى البيهقي أن عبدا كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه فحبسه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم حتى باع غنيمة له وفيه انقطاع وقد روي من طريق أخرى عن عبد الله بن
مسعود مرفوعا وقد بوب البخاري في صحيحه فقال في الأبواب التي قبل كتاب اللقطة ما
لفظه باب الربط والحبس في الحرم قال في الفتح كأنه أشار في هذا التبويب إلى رد ما
نقل عن طاوس أنه كان يكره السجن بمكة ويقول لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت
رحمة . وأورد البخاري في الرد عليه أن نافع بن عبد الحرث اشترى دارا للسجن بمكة
وكان نافع عاملا لعمر على مكة
وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن محمد ابن يحيى بن غسان الكناني عن هشام بن سليمان
عن ابن جريج أن نافع بن عبد الحرث الخزاعي كان عاملا لعمر على مكة فابتاع له سجن
عارم بمهملتين قال البخاري وسجن ابن الزبير بمكة انتهى ( والحاصل ) إن الحبس وقع
في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن في جميع الاعصار
والأمصار من دون انكار وفيه من المصالح ما لا يخفى لولم يكن منها إلا حفظ أهل
الجرائم المنتهكين للمحارم الذين يسعون في الاضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف
من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجب حدا ولاقصاصا حتى يقام ذلك عليهم فيراح العباد
والبلاد فهؤلاء إن تركوا وخلى بينهم وبين المسلمين بلغوا من الاضرار بهم إلى كل
غاية وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها فلم يبق في السجن والحيلولة بينهم وبين
الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة أو يقضي الله في شأنهم ما يختاره وقد أمرنا الله
تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما في حق من كان كذلك لا يمكن
بدون الحيلولة بينه وبين الناس بالحبس كما يعرف ذلك من عرف أحوال كثير من هذا
الجنس
وقد استدل البخاري على جواز الرط بما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من ربط
ثمامة بن أثال بسارية من سواري مسجده الشريف كما في القصة المشهورة في الصحيح
باب استحلاف المدعي عليه في الأموال والدماء وغيرهما
1 - عن ابن
عباس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين على المدعى عليه "
- متفق عليه
وفي رواية " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لو يعطى الناس بدعواهم
لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " . رواه أحمد
ومسلم
- قوله "
قضى باليمين على المدعى عليه " اختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه
قال في الفتح والمشهور فيه تعريفان الأول أن المدعي من تخالف دعواه الظاهر والمدعى
عليه بخلافه والثاني من إذا سكت ترك وسكوته والمدعى عليه من لا يخلى إذا سكت .
والأول أشهر والثاني أسلم وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى الردأ والتلف
فإن دعواه تخالف الظاهر ومع ذلك فالقول قوله ( واستدل بالحديث ) على أن اليمين على
المدعى عليه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحملوه على عمومه في حق كل أحد سواء كان بين
المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا . وعن مالك لا تتوجه اليمين الأعلى من بينه وبين
المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا وقريب من مذهب مالك
قول الاصطخري من الشافعية ان قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه
قوله : " لو يعطي الناس " الخ هذا هو وجه الحكمة في جعل اليمين على
المدعى عليه وقال جماعة من أهل العلم الحكمة في ذلك جانب المدعي ضعيف لأنه يقول
بخلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع
عنها ضررا فيقوى بها ضعف المدعى وأما جانب المدعى عليه فهولأن الأصل فراغ ذمته
فاكتفى فيه باليمين وهي حجة ضعيفة لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع عنها الضرر
فكان ذلك في غاية الحكمة
وقد أخرج الحديث البيهقي بإسناد صحيح كما قال الحافظ بلفظ البينة على المدعي
واليمين على من أنكر . وزعم الأصيلي أن قوله البينة الخ ادراج في الحديث
وأخرج ابن حبان عن ابن عمر نحوه
وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه
وأخرجه أيضا الدارقطني بإسناد فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف . وظاهر أحاديث
الباب إن اليمين على المنكر والبينة على المدعي ومن كانت اليمين عليه فالقول قوله
مع يمينه ولكنه ورد ما يدل على أنه إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع فأخرج أبو
داود والنسائي من حديث الأشعث سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا
اختلف البيعان ليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان
وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه من حديث عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن
مسعود قال الترمذي هذا مرسل عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود انتهى
قال المنذري في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ولا يحتج به وعبد الرحمن لم
يسمع من أبيه فهو منقطع وقد روى هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن مسعود كلها لا
تصح قال البيهقي وأصح إسناد روى في هذا الباب رواية أبي العميس عن عبد الرحمن بن
قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في كتاب
البيوع في باب ما جاء في اختلاف المتبايعين بما هو أبسط من هذا وبين أحاديث الباب
وهذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه فظاهر أحاديث الباب أن اليمين على المدعى عليه
فيكون القول قوله من غير فرق بين كونه بائعا أم لا مالم يكن مدعيا فإن كان كذلك
فعليه البينة فلا يكون القول قوله . وظاهر الأحاديث المتقدمة في كتاب البيع أن
القول قول البائع وذلك يستلزم أنه لا بينة عليه بل عليه اليمين فقط سواء كان مدعيا
أو مدعى عليه وقد وقع التصريح باستحلاف البائع كما تقدم في رواية في البيع فمادة
التعرض حيث كان البائع مدعيا والواجب في مثل ذلك الرجوع إلى الترجيح وأحاديث الباب
أرجح فيكون القول ما يقوله البائع ما لم يكن مدعيا ( فإن قيل ) الجمع ممكن يجعل
الأحاديث الواردة في المتبايعين مخصصة لعموم أحاديث الباب فيبنى العام على الخاص
ويكون القول قول البائع مطلقا سواء كان مدعيا أو مدعى عليه إذا كان التنازع بينه
وبين المشتري وماعدا البائع فإن كان مدعيا فعليه البينة وإن كان مدعى عليه فالقول
قوله مع يمينه قلت هذا متوقف على أمرين أحدهما إن أحاديث الباب أعم مطلقا من
أحاديث اختلاف المتبايعين والثاني إن أحاديث اختلاف البيعين صالحة للاحتجاج بها
منتهضة لتخصيص أحاديث الباب وفي كلا الأمرين نظر أما الأول فلأن التخصيص إنما يكون
بأخراج فرد من العام عن الأمر المحكوم به عليه والعام ههنا هو المدعى عليه
والمحكوم به عليه هو وجوب اليمين عليه . وحديث اختلاف البيعين له صورتان أحداهما
أن يكون البائع مدعى عليه والثانية أن يكون مدعيا والأولى موافقة للعام داخلة تحت
حكمه غير مستثاة منه والثانية مخالفة للعام لأن العام هو باعتبار المدعى عليه وهذا
مدع لا مدعى عليه فهو مخالف له فلا يصح أن يقال بأنه مخصص له وإن كان التخصيص
بالنسبة إلى عموم الأحاديث الدالة على وجوب البينة على المدعى . ووجه التخصيص أن
يقال هذا مدع ولم تجب عليه البينة فهذا مستقيم وإن لم يدعه القائل بالتخصيص ولكن
حديث فالقول ما يقول البائع مع قوله في بعض ألفاظ الحديث كما تقدم في البيع أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالبائع أن يستحلف هو أعم من الأحاديث القاضية
بوجوب البينة على المدعي من وجه لشموله لصورة أخرى وهي حيث كان البائع مدعى عليه فالأظهر
العموم والخصوص من وجه لا مطلقا وأما الثاني فقد عرفت عدم انتهاض الأحاديث
المذكورة للتخصيص لما فيها من المقال
باب التشديد في اليمين الكاذبة
1 - عن أبي
أمامة الحارثي " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من اقتطع حق امرئ
مسلم بيمنيه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل وإن كان شيئا يسيرا
قال وإن كان قضيبا من أراك "
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي
2 - وعن عبد
الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال الكبائر الاشرك بالله
وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس "
- رواه أحمد والبخاري والنسائي
3 - وعن عبد
الله بن أنيس الجهني قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن من
الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر
فادخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعله الله نكتة في قلبه إلى يوم القيامة "
- رواه أحمد والترمذي
- حديث عبد
الله بن أنيس أخرجه أيضا الحاكم وابن حبان وحسن الحافظ في الفتح إسناده وقال له
شاهد من حديث عبد الله بن عمر
وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن
قوله : " وإن كان قضيبا من أراك " هذا مبالغة في القلة وإن استحقاق
النار يكون بمجرد اليمين في اقتطاع الحق وإن كان شيئا يسيرا لا قيمة له
قوله : " الكبائر " الخ قد اختلف السلف في انقسام الذنوب إلى صغيرة
وكبيرة فذهب إلى ذلك الجمهور ومنعهم جماعة منهم الاسفرايني ونقله ابن عباس وحكاه
القاضي عياض عن المحققين ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية وقد تقدم قريبا وجه القولين
وبيان الراجح منهما
قال الطيبي الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان فلا بد من أمر يضافان إليه هو أحد ثلاثة
أشياء الطاعة والمعصية والثواب . فأما الطاعة فكل ماتكفره الصلاة مثلا فهو من
الصغائر وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أوعقابا أزيد من الوعيد
أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة
وأما الثواب ففاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة فقد
وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية انتهى
قال الحافظ وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب تخصيص عموم من أطلق أن علامة
الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا
ليس كبيرة وإن ورد الوعيد فيه والعقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد
. فالصواب ما قاله الجمهور وإن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبير وأكبر
قال النووي واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا فروي عن ابن عباس أنها
كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذب
قال وجاء نحو هذا عن الحسن البصري
وقال أخرون هي ما أوعد الله عليه بنار في الأخرة أو أوجب فيه جزاء في الدنيا ( قلت
) وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى . ومن الشافعية
الماوردي ولفظه الكبيرة ما أوجبت فيها الحدود أو توجه إليها الوعيد . والمنقول عن
ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به إلا أن فيه انقطاع
وأخرج من وجه أخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال ما توعد الله عليه
بالنار كبيرة
وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخر منها قول إمام الحرمين كل جريمة تؤذن
بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة
وقال الحليمي كل محرم لعينه منهى عنه لمعنى في نفسه
وقال الرافعي هي ما أوجب الحد
وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة هذا ما أكثر ما يوجد للاصحاب وهم إلى
ترجيح الأول أميل لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر انتهى
وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبية لا حد فيه كالعقوق . وأجيب بأن
مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة
وقال ابن عبد السلام في القواعد لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم
من الاعتراض والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بذنبه اشعارا دون الكبائر
المنصوص عليها
قال الحافظ وهو ضابط جيد
وقال القرطبي في المفهم الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه
بالعقاب أو علق عليه حد أو اشتد النكير عليه فهو كبيرة . وكلان ابن الصلاح يوافق
ما نقل أولا عن ابن عباس وزاد إيجاب الحد وعلى هذا يكثر عدد الكبائر . وهذا الكلام
في غير ما قد ورد النص الصريح فيه أنه كبيرة أو من الكبائر أو أكبر الكبائر وقال
الواحدي ما لم ينص الشارع على كونه فالحكمة في اخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع
فيه خشية أن يكون كبيرة كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم قوله "
يمين صبر " أي ألزم بها حبس عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم إنما
أطلق الصبر عليها وإن كان صاحبها هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها أي حبس فوصفت
بالصبر وأضيفت إليه مجازا كذا في النهاية والنكتة الأثر
باب الأكتفاء في اليمين بالحلف بالله وجواز تغليظها باللفظ والمكان والزمان
1 - عن ابن
عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من حلف بالله فليصدق ومن حلف له
بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله "
- رواه ابن ماجه
2 - وعن ابن
عباس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل حلفه أحلف بالله الذي لا
إله إلا هو ماله عندي شيء يعني المدعي "
- رواه أبو داود
3 - وعن عكرمة
" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له يعني ابن صوريا أذكركم بالل الذي
نجاكم من آل فرعون وأقطعكم البحر وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى
وأنزل التوراة على موسى أتجدون في كتابكم الرجم قال ذكرتني بعظيم ولا يسعني أن
اكذبك وساق الحديث "
- رواه أبو داود
4 - وعن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا أوجب الله له النار "
5 - وعن جابر
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا يحلف أحد على منبري كاذبا إلا
تبوأ مقعده من النار "
- رواهما أحمد وابن ماجه
6 - وعن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر
إليهم يوم القيامة ولا بزكيهم ولهم عذاب اليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من
ابن السبيل ورجل بايع الإمام لا يبايعه إلا للدنيا لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على
غير ذلك "
- رواه الجماعة إلا الترمذي
وفي رواية " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أعطى
بها أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقطتع بها مال
امرئ مسلم ورجل منع فضل ماء فيقول الله له اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم
تعلم يداك " رواه أحمد والبخاري
- حديث ابن
عمر قال ابن ماجه في سننه حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا أسباط بن محمد عن
محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر فذكره ومحمد بن إسماعيل المذكور ثقة وبقية
إسنلاده رجال الصحيح . وحديث ابن عباس أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده عطاء بن
السائب وفيه مقال وقد أخرج له البخاري مقرونا بآخر وحديث عكرمة هو مرسل وقد سكت
عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح ويؤيده ما أخرجه أبو داود من حديث
أبي هريرة قال " قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني لليهود أنشدكم بالله
الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى وفي إسناده مجهول لأن
الزهري قال أخبرنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب عن أبي هريرة . وحديث أبي
هريرة الأول المذكورة في الباب أخرجه ايضا الحاكم في المستدرك . وحديث جابر أخرجه
أيضا مالك وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم كذا في
الفتح ورجال إسناده عند ابن ماجه كلهم ثقات
وفي الباب عن أبي أمامة بن ثعلبة عند النسائي بإسناد رجاله ثقات رفعه من حلف عند
منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا
قوله : " من حلف بالله " فيه دليل على أنه يكفي مجرد الحلف بالله تعالى
من دون أن ينضم إليه وصف من أوصافه ومن دون تغليظ بزمان أو مكان
قوله : " قال له " يعني ابن صوريا بضم الصاد المهملة وسكون الواو وكسر
الراء المهملة ممدودا . أصل القصة أن جماعة من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وهو جالس في المسجد فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا
فقال أئتونب بأعلم رجل منكم فأتوه بابن صوريا
قوله : " وأنزل عليكم المن والسلوى " أكثر المفسرين على أن المن هو
الترنجبين وهو شيء أبيض كالثلج والسلوى طير يقال السماني فيه دليل على جواز تغليظ
اليمين على أهل الذمة فيقال لليهودي بمثل ما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومن أراد الاختصار قال قل والله الذي أنزل التوراة على موسى وإن كان نصرانيا قال
له قل والله الذي أنزل الأنجيل على عيسى
قوله : " ذكرتني " بتشديد الكاف المفتوحة
قوله : " أن أكذبك " بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة يعني فيما ذكرته لي
قوله : " عبد ولا أمة " أي ذكر وأنثى
قوله : " ولو على سواك رطب " إنما خص الرطب لأنه كثيرا الوجود لا يباع
بالثمن وهو لا يكون كذلك إلا في مواطن نباته بخلاف اليابس فإنه قد يحمل من بلد إلى
بلد فيباع
قوله : " ثلاثة لا يكلمهم الله " الخ فيه دليل على أن حالهم يوم القيامة
حال المغضوب عليهم لأن هذه الأمور لا تكون إلا عند الغضب فهي كناية عن حلول العذاب
بهم قوله " رجل على فضل ماء بالفلاة " قد تقدم الكلام على منع فضل الماء
وحكم مانعه
قوله : " بعد العصر " خصه لمشرفه بسبب اجتماع مائكة الليل والنهار
قوله : " لقد أعطى بها " الخ قال في الفتح وقع مضبوطا بضم الهمزة وفتح
الطاء على البناء للمجهول وفي بعضها بفتح الهمزة والطاء على البناء للفاعل والضمير
للحالف وهي أرجح ومعنى لا خذها بكذا أي لقد أخذها وقد استدل بأحاديث الباب على
جواز التغليض على الحالف بمكان معين كالحرم والمسجد ومنبره صلى الله عليه وآله
وسلم وبالزمان كبعد العصر ويوم الجمعة ونحو ذلك وقد ذهب إلى هذا الجمهور كما حكاه
صاحب الفتح . وذهبت الحنفية إلى عدم جواز التغليظ بذلك . وعليه دلت ترجمة البخاري
فإنه قال في الصحيح ( باب يحلف المدعي عليه حيثما وجبت عليه اليمين ) وذهبت العترة
إلى مثل ما ذهبت إليه الحنفية كما حكى ذلك عنهم صاحب البحر . وذهب بعض أهل العلم
إلى أن ذلك موضع اجتهاد للحاكم
وقد ورد عن جماعة من الصحابة طلب التغليظ على خصومهم في الأيمان بالحلف بين الركن
والمقام وعلى منبره صلى الله عليه وآله وسلم . وورد عن بعضهم الامتناع من الإجابة
إلى ذلك
وروى عن بعض الصحابة التحليف على المصحف . والحاصل أنه لم يكن في أحاديث الباب ما
يدل على مطلوب القائل بجواز التغليظ لأن الأحاديث الواردة في تعظيم ذنب الحالف على
منبره صلى الله عليه وآله وسلم . وكذلك الأحاديث الواردة في تعظيم ذنب الحالف بعد
العصر لا تدل على أنها تجب إجابة الطالب للحلف في ذلك المكان أو ذلك الزمان
وقد علمنا صلى الله عليه وآله وسلم كيف اليمين فقال للرجل الذي حلفه " احلف
بالله الذي لا إله إلا هو " كما في حديث ابن عباس
وقال في حديث ابن عمر المذكور في الباب " ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض
فليس من الله " وهذا أمر منه صلى الله عليه وآله وسلم بالرضا لمن حلف له
بالله ووعيد لمن لم يرض بأنه ليس من الله ففيه أعظم دلالة على عدم وجور الإجابة
إلى التغليظ بما ذكر وعدم جواز طلب ذلك ممن لا يساعد عليه
وقد كان الغالب من تحليفه صلى الله عليه وآله وسلم لغيره وحلفه هو الأقتصار على
اسم الله مجردا عن الوصف كما في قوله " والله لا أحلف على شيء فأرى غيره خيرا
منه إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " وكما في تحليفه صلى الله عليه
وآله وسلم لركانة فإنه اقتصر على اسم الله . وتارة كان يحلف صلى الله عليه وآله
وسلم فيقول " لا والذي نفسي بيده . لا ومقلب القلوب " وقال تعالى (
فيقسمان بالله ) ومن جملة ما استدل به البخاري على عدم وجوب التغليظ حديث " شاهداك
أو يمينه " ووجه ذلك أن الذي أوجبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مطلق
اليمين وهي تصدق على من حلف في أي زمان وأي مكان فمن بذلك لخصمه أن يحلف له حنث هو
ولم يجبه إلى مكان مخصوص ولا إلى زمان مخصوص فقد بذل ما أوجبه عليه الشارف ولا
يلزمه الزيادة على ذلك لأن الذي تعبد به هو اليمين على أي صفة كانت ولم يتعبد بأشد
الأيمان جرما وأعظمها ذنبا . على أنه قد ورد في اليمين التي يقتطع بها حق امرئ
مسلم من الوعيد ماليس عليه من مزيد كما في الباب الذي قيل هذا أنها من الكبائر ومن
موجبات النار وليس في الحلف على منبره صلى الله عليه وآله وسلم وبعد العصر زيادة
على هذا فالحق عدم وجوب إجابة الحالف لمن أراد تحليفه في زمان مخصوص أو مكان مخصوص
أو بألفاظ مخصوصة
وقد روى ابن رسلان أنهم لم يختلفوا في جواز التغليظ على الذمي فإن صح الإجماع فذاك
عند من يقول بحجيته وإن لم يصح فغاية ما يجوز به هو ما ورد في حديث الباب وما
يشابهه من التغليظ باللفظ وأما التغليظ بزمان معين أو مكان معين على أهل الذمة مثل
أن يطلب منه أن يحلف في الكنائس أو نحوها فلا دليل على ذلك
باب ذم من حلف قبل أن يستحلف
1 - عن ابن
عمر " قال خطبنا عمر بالجابية فقال يا أيها الناس أني قمت فيكم كقيام رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد ألا لا
يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان
مع الواحد وهو من الاثنين أبعد . من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة . من سرته
حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن "
- رواه أحمد والترمذي
- قال الترمذي
بعد اخراج هذا الحديث هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه
وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى
وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه
قوله : " أوصيكم بأصحابي " قد وقع الأختلاف فيمن يستحق إطلاق اسم
الصحابي عليه وهو مبسوط في مواطنه من علم الأصطلاع
قوله : " الجابية " بالجيم قال في القاموس هو حوض ضخم والجماعة وقرية
بدمشق وباب الجابية من أبوابها انتهى . والمراد هنا القرية
قوله : " ثم يفشو الكذب " رتب صلى الله عليه وآله وسلم فشو الكذب على
انقراض الثالث . فالقرن الذي بعده ثم من بعده إلى القيامة قد فشا فيهم الكذب بهذا
النص . فعلى المتيقظ من حاكم أو عالم أن يبالغ في تعريف أحوال الشهادة والمخبرين
وأن لا يجعل الأصل في ذلك الصدق لأن كل شهادة وكل خبر قد دخله الاحتمال ومع دخول
الاحتمال يمتنع القبول إلا بعد معرفة صدق المخبر والشاهد بأي دليل . وأقل الأحوال
أنه ليس ممن يتجارأ على الكذب ويجازف في أقواله . ومن هذه الحيثية لم يقبل المجهول
عند علماء المنقول لأن العدالة ملكة والملكات مسبوقة بالعدم فمن لا تعرف عدالته لا
تقبل روايته لأن الفسق مانع فلا بد من تحقق عدمه . وكذلك الكذب مانع فلا بد من
تحقق عدمه كما تقرر في الأصول
وفي الحديث التوصية بخير القرون وهم الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
وقد وعدنا أن نذكر ههنا طرقا من الكلام على ما ورد من معارضة الأحاديث القاضية
بأفضلية الصحابة فنقول قد تقدم في باب من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده وذم من
أدى شهادة من غير مسألة حديث عمران ابن حصين وحديث أبي هريرة أن خير القرون قرنه
صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذلك دليل على أنهم الخيار من هذه الأمة وأنه لا أكثر
خيرا منهم وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك باعتبار كل فرد فرد وقال ابن عبد البر إن
التفضيل إنما هو بالنسبة إلى مجموع الصحابة فإنهم أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم
وقد أخرج الترمذي بإسناد قوي من حديث أنس مرفوعا " مثل أمتي مثل المطر لا
يدري أوله خير أم آخره " وأخرجه أبو يعلى في مسنده بإسناد ضعيف وصححه ابن
حبان من حديث عمار وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير بإسناد
حسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليدركن المسيح أقواما أنهم لمثلكم
أو خير ثلاثا ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها ولكنه مرسل لأن عبد
الرحمن تابعي وأخرج الطيالسي بإسناد ضعيف عن عمرو رفعه أفضل الخلق إيمانا قوم في
أصلاب الرجال يؤمنون بي ولا يروني
وأخرج أحمد والدارمي والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي جمعة قال قال أبو عبيدة يا
رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك قال قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي
ولم يروني وقد صححه الحاكم وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رفعه بدا الإسلام غيبا
وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء
وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة رفعه تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل
منهم أو منا يا رسول الله قال بل منكم وجمع الجمهور بأن الصحبة لها فضيلة ومزية لا
يوازيها شيء من الأعمال فلمن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الصحبة وإن
قصر في الأعمال وفضيلة من بعد الصحابة باعتبار كثرة الأعمال المستلزمة لكثرة الأجور
فحاصل هذا الجمع أن التنصيص على فضيلة الصحابة باعتبار فضيلة الصحبة وأما باعتبار
أعمال الخير فهم كغيرهم قد يوجد فيمن بعدهم من هو أعمالا منهم أو من بعضهم فيكون
أجره باعتبار ذلك أكثر فكان أفضل من هذه الحيثية ويشكل على هذا الجمع ما ثبت في
الأحاديث الصحيحة في الصحابة بلفظ " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد
أحدهم ولا نصيفه " فإن هذا التفضيل باعتبار خصوص أجور الأعمال لا باعتبار
فضيلة الصحبة ويشكل عليه أيضا حديث ثعلبة المذكور فإنه قال للعامل فيهن أجر خمسين
رجلا ثم بين أن الخمسين من الصحابة وهذا صريح في أن التفضيل باعتبار الأعمال
فاقتضى الأول أفضيلة الصحابة في الأعمال إلى حد يفضل نصف مدهم مثل أحد ذهبا واقتضى
الثاني تفضيل من بعدهم إلى حد يكون أجر العامل أجر خمسين رجلا من الصحابة وفي بعض
ألفاظ حديث ثعلبة فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كالقبض على الجمر أجر العامل
فيهن أجر خمسين رجلا فقال بعض الصحابة منا يا رسول الله أو منهم فقال بل منكم
فتقرر بما ذكرناه عدم صحة ما جمع به الجمهور وقال النووي في حديث " أمتي
كالمطر " أنه يشبته على الدين يرون عيسى ويدركون زمانه وما فيه من الخير أي
الزمانين أفضل قال وهذا الأشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وآله وسلم خير
القرون ولا يخفى ما في هذا من التعسف الظاهر والذي أوقعه فيه عدم ذكر فاعل يدري
فحمله على هذا وغفل عن التشبيه بالمطر المفيد لوقوع التردد في الخيرية من كل أحد
والذي يستفاد من مجموع الأحاديث أن للصحابة مزية لا يشاركهم فيها من بعدهم وهي
صحبته صلى الله عليه وآله وسلم ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره ونواهيه
ولمن بعده مزية لا يشاركه الصحابة فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون فيه
الذات الشريفة التي جمعت من المحاسن ما يقود بزمام كل مشاهد إلى الإيمان إلا من
حقت عليه الشقاوة وأما باعتبار الأعمال فأعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد
لحالة مخصوصة كما يدل عليه لو أنفق أحدكم ومثل أحد الحديث . إلا أن هذه المزية
للسابقين منهم فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطب بهذه المقالة جماعة من
الصحابة الذين تأخر إسلامهم كما يشعر بذلك السبب وفيه قصة مذكورة في كتب الحديث
فالذين قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا هم
جماعة من الصحابة الذين تأخرت صحبتهم فكان بين منزلة أول الصحابة وأخرهم أن إنفاق
مثل أحد ذهبا من متأخيرهم لا يبلغ مثل إنفاق نصف مد من متقدميهم وأما أعمال من بعد
الصحابة فلم يرد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق إنما ورد ذلك مقيدا بأيام
الفتنة وغلبة الدين حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة فلم يرد ما
يدل على كونها أفضل على الإطلاق إنما ورد ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغربة الدين حتى كان
أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة فيكون هذا مخصصا لعموم ما ورد في أعمال
الصحابة فأعمال الصحابة فاضلة وأعمال من بعدهم مفضولة إلا في مثل تلك الحالة ومثل
حالة من أدرك المسيح إن صح ذلك المرسل وبانضمام أفضلية الأعمال إلى مزية الصحبة
يكونون خير القرون ويكون قوله لا يدري خير أوله أم أخره باعتبار أن في المتأخرين
من يكون بتلك المثابة من كون أجر خمسين هذا باعتبار أجور الأعمال وأما باعتبار
غيرها فلكل طائفة مزية كما تقدم ذكره لكن مزية الصحابة فاضلة مطلقة باعتبار مجموع
القرن لحديث خير القرون قرني فإذا اعتبرت كل قرن قرن ووازنت بين مجموع القرن الأول
مثلا ثم الثاني ثم كذلك إلى إنقراض العالم فالصحابة خير القرون ولا ينافي هذا
تفضيل الواحد من أهل قرن أو الجماعة على الواحد أو الجماعة من أهل قرن أخر فإن قلت
ظاهر الحديث المتقدم أن أبي عبيدة قال يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك
وجاهدنا معك فقال قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولا يروني يقتضي تفضيل مجموع قرن
هؤلاء على مجموع قرن الصحابة قلت ليس هذا الحديث ما يفيد تفضيل المجموع على
المجموع وإن سلم ذلك وجب المصير إلى الترجيح لتعذر الجمع ولا شك أن حديث خير
القرون قرني ارجح من هذا الحديث بمسافات لو لم يكن إلا كونه في الصحيحين وكونه
ثابتا من طرق وكونه متلقي بالقبول فظهر بهذا وجه الفرق بين المزيتين من غير نظر
إلى الأعمال كما ظهر وجه الجمع باعتبار الأعمال على ما تقدم تقريره فلم يبق ههنا
إشكال والله أعلم
قوله : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان " سبب ذلك أن
الرجل يرغب إلى المرأة لما جبل عليه من الميل إليها لما ركب فيه من شهوة النكاح
وكذلك المرأة ترغب إلى الرجل لذلك فمع ذلك يجد الشيطان السبيل إلى إثارة شهوة كل
واحد منهما إلى الآخر فتقع المعصية
قوله : " بحبوحة الجنة " قال في النهاية بحبوحة الدار وسطها يقال بحبح
إذا تمكن وتوسط المنزل والمقام والبحبوحة بمهملتين وموحدتين والمراد أن لزوم
الجماعة سبب الكون في بحبوحة الجنة لأن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار
كما ثبت في الحديث قوله " من سره حسنته " الخ فيه دليل على أن السرور
لأجل الحسنة والحزن لأجل السيئة من خصال الإيمان لأن من ليس من أهل الإيمان لا
يبالي أحسن أم أساء وأما من كان صحيح الإيمان خالص الدين فإنه لا يزال من سيئته في
غم لعلمه بأنه مأخوذ بها محاسب عليها ولا يزال من حسنته في سرور لأنه يعلم أنها
مدخرة له في صحائفه فلا يزال حريصا على ذلك حتى يوفقه الله عز و جل لحسن الخاتمة .
وإلى هنا انتهى الشرح الموسوم بنيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار بعناية مؤلفة (
محمد بن علي بن محمد الشوكاني ) غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه وتقبل أعماله وأصلح
أقواله وأفعاله وختم له بخير ودفع عنه كل بؤس وضير . وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وسلم [ قلت المدون : تم بعون الله وحمده
===========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق