6.كتاب : المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري
(المتوفى : 456هـ) |
= قال
أبو محمد: أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ وَتَقْسِيمُ أَحَدِ قَوْلَيْ الثَّوْرِيِّ
فَيُبْطِلُهَا كُلَّهَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ
يَحْيَى نَا أَبُو خَيْثَمَةَ هُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ حَدَّثَنِي جَابِرٌ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَتَلَقَّى عِيرًا
لِقُرَيْشٍ وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ فَكَانَ
أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً, قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَقُلْت
لِجَابِرٍ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا قَالَ: نَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ
الصَّبِيُّ ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إلَى
اللَّيْلِ وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ فَنَبُلُّهُ بِالْمَاءِ
فَنَأْكُلُهُ قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَنَا عَلَى
سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هُوَ
دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ, ثُمَّ قَالَ: لاَ
بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
تَعَالَى وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ
ثَلاَثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ
عَيْنَيْهِ بِالْقِلاَلِ الدُّهْنَ وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ
أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ وَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلاَثَةَ
عَشَرَ رَجُلاً فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ
أَضْلاَعِهِ فَأَقَامَهَا, ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا
وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ, فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ
ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ هُوَ رِزْقٌ
أَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ
فَتُطْعِمُونَا فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ
فَأَكَلَهُ.
قال أبو محمد: فَهَذَا لَيْسَ مِنْ السَّمَكِ بَلْ هُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ مَنْ
ذَكَرْنَا وَلَيْسَ مِمَّا فُكَّتْ لَحْيَاه بَلْ هُوَ مَيْتَةٌ وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ، عَنْ جَابِرٍ لِسَمَاعِ أَبِي الزُّبَيْرِ إيَّاهُ مِنْهُ, وَهَذَا
بَيِّنٌ فِيهِ لِقَوْلِهِ لِجَابِرٍ فِي التَّمْرَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ
بِهَا وَإِذْ مَيْتَةُ الْبَحْرِ حَلاَلٌ فَصَيْدُ الْوَثَنِيِّ وَغَيْرِهِ لَهُ
سَوَاءٌ لأََنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ إنَّمَا ذَكَاتُهُ مَوْتُهُ فَقَطْ,
وَأَمَّا مَنْ حَرَّمَ الطَّافِيَ جُمْلَةً فَالرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ، عَنْ
جَابِرٍ لاَ تَصِحُّ لأََنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سَمَاعًا مِنْ
جَابِرٍ وَهُوَ مَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فَمُدَلَّسٌ عَنْهُ كَمَا نَذْكُرُ
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَهِيَ، عَنْ عَلِيٍّ لاَ تَصِحُّ
لأََنَّ ابْنَ
(7/395)
فُضَيْلٍ
لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ إِلاَّ بَعْدَ اخْتِلاَطِهِ, وَهِيَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ أَجْلَحَ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ لَكِنَّهُ
صَحِيحٌ، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَاحْتَجُّوا
بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ نَا
يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ وَمَا
مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلاَ تَأْكُلُوهُ" وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ وَنُعَيْمِ بْنِ الْمُجْمِرِ، هُوَ
ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُوا مَا حَسِرَ عَنْهُ الْبَحْرُ وَمَا أَلْقَى
وَمَا وَجَدْتُمُوهُ طَافِيًا مِنْ السَّمَكِ فَلاَ تَأْكُلُوهُ".
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ
لأََنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَلَوْ صَحَّ لَمَا تَرَدَّدْنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ فِي
الْقَوْلِ بِهِ إِلاَّ أَنَّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ لَوْ صَحَّ حُجَّةٌ عَلَى
أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لأََنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ وَلِكُلِّ مَا
رُوِّينَا فِي ذَلِكَ، عَنْ صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ لأََنَّهُمْ يُبِيحُونَ بَعْضَ
الطَّافِي إذَا مَاتَ مِنْ عَارِضٍ عَرَضَ لَهُ لاَ حَتْفَ أَنْفِهِ
وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ حَسِرَ عَنْهُ فَخَالَفُوا
الْخَبَرَ فِي مَوْضِعَيْنِ, وَكَذَلِكَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا شَيْءٌ,
وَأَمَّا ضَعْفُ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ, فَأَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ
بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَالآخَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سَمَاعًا. نَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ
الأَزْدِيُّ الْقَاضِي نَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّخِيلُ نَا أَبُو جَعْفَرٍ
الْعُقَيْلِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَزَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى
الْحُلْوَانِيُّ قَالَ زَكَرِيَّا: نَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
مَرْيَمَ, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ, ثُمَّ
اتَّفَقَ أَحْمَدُ وَالْحَسَنُ قَالاَ جَمِيعًا: نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ
نَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: جِئْت أَبَا الزُّبَيْرِ فَدَفَعَ إلَيَّ
كِتَابَيْنِ فَقُلْت لَهُ: هَذَا كُلُّهُ سَمِعْته مِنْ جَابِرٍ فَقَالَ: مِنْهُ
مَا سَمِعْت مِنْهُ, وَمِنْهُ مَا حَدَّثْت عَنْهُ فَقُلْت: أَعْلِمْ لِي عَلَى
مَا سَمِعْت فَأَعْلَمَ لِي عَلَى هَذَا الَّذِي عِنْدِي.
قال أبو محمد: فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، وَلاَ قَالَ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِهِ
جَابِرٌ فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ بِإِقْرَارِهِ، وَلاَ نَدْرِي عَمَّنْ
أَخَذَهُ فَلاَ يَجُوزُ الأَحْتِجَاجُ
(7/396)
بِهِ,
وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ فَسَقَطَ وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى
بَيَانِهِ لَنَا. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ قَوْلنَا، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ
حَلاَلٌ لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهَا. نَا حُمَامُ نَا الْبَاجِيَّ نَا ابْنُ
أَيْمَنَ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُسْلِمٍ نَا أَبُو ثَوْرٍ نَا مُعَلَّى نَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: السَّمَكُ كُلُّهُ ذَكِيٌّ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ نَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ،
عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: طَعَامُ الْبَحْرِ كُلْ
مَا فِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: الْحِيتَانُ وَالْجَرَادُ ذَكِيٌّ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌْ}
فَسَمَّى مَا يَلْتَقِمُ الإِنْسَانَ فِي بَلْعَةٍ وَاحِدَةٍ حُوتًا. وَلَيْسَ
هَذَا مِنْ الصِّفَةِ الَّتِي أَحَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ, وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ بِإِبَاحَتِهِ، وَلاَ يُعْلَمُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا صَالِحُ
بْنُ مُوسَى الطَّلْحِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سَأَلَ، عَنِ الْحِيتَانِ
وَالْجَرَادِ فَقَالَ: الْحِيتَانُ وَالْجَرَادُ ذَكِيٌّ ذَكَاتُهُمَا
صَيْدُهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا هُشَيْمٌ أَنَا
مَنْصُورٌ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَكَلَ سَمَكَةً
طَافِيَةً. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ نَا مُعَلَّى نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنِ
سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ نَا أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنْسِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ سَأَلَ، عَنْ سَمَكَةٍ طَافِيَةٍ
فَقَالَ: كُلْ وَأَطْعِمْنِي. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ الْكَلاَعِيِّ،
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَدْرَكْت سَبْعِينَ رَجُلاً
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُونَ صَيْدَ الْمَجُوسِ
مِنْ الْحِيتَانِ لاَ يَخْتَلِجُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي صُدُورِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَ صَيْدَهُ ذَكَاتَهُ, وَبِأَكْلِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ يَقُولُ ابْنُ
أَبِي
(7/397)
لَيْلَى
وَالأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ الشَّافِعِيُّ
وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَطْفُو الْحُوتُ أَصْلاً إِلاَّ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ
يُقَارِبَ الْمَوْتَ فَإِذَا مَاتَ طَفَا ضَرُورَةً، وَلاَ بُدَّ, فَتَخْصِيصُهُمْ
الطَّافِيَ بِالْمَنْعِ وَإِبَاحَتُهُمْ مَا مَاتَ فِي الْمَاءِ تَنَاقُضٌ.
(7/398)
990- مسألة: وأما ما يعيش في الماء وفي البر فلا يحل أكله الا بذكاة كالسلحفاة والباليمرين وكلب الماء والسمور ونحو ذلك لانه من صيد البر ودوابه وان قتله المحرم جزاه وأما الضفدع فلا يحل أكله اصلا لما ذكرنا في كتاب الحج من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبحها فأغنى عن إعادته.
(7/398)
991- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ حَيَوَانٍ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ مَا دَامَ حَيًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ فَحَرَّمَ عَلَيْنَا أَكْلَ مَا لَمْ نُذَكِّ, وَالْحَيُّ لَمْ يُذَكَّ بَعْدُ. وَكَذَلِكَ لَوْ ذُبِحَ حَيَوَانٌ أَوْ نُحِرَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جَنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ حُكْمَ الْبَدَنِ وَغَيْرِهَا فِي هَذَا سَوَاءٌ, فَلاَ يَحِلُّ بَلْعُ جَرَادَةٍ حَيَّةٍ, وَلاَ بَلْعُ سَمَكَةٍ حَيَّةٍ, مَعَ أَنَّهُ تَعْذِيبٌ, وَقَدْ نُهِيَ، عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ الْفُرَافِصَةِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إنَّ الذَّكَاةَ: الْحَلْقُ وَاللَّبَّةُ لِمَنْ قَدَرَ, وَذَرُوا الأَنْفُسَ حَتَّى تُزْهَقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/398)
992- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ بِفَتْلِ عُنُقٍ, وَلاَ بِشَدْخٍ, وَلاَ بِغَمٍّ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَلَيْسَ هَذَا ذَكَاةً.
(7/398)
993- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْعَذِرَةِ, وَلاَ الرَّجِيعِ, وَلاَ شَيْءٍ مِنْ أَبْوَالِ الْخُيُولِ, وَلاَ الْقَيْءِ, وَلاَ لُحُومِ النَّاسِ وَلَوْ ذُبِحُوا، وَلاَ أَكْلُ شَيْءٍ يُؤْخَذُ مِنْ الإِنْسَانِ إِلاَّ اللَّبَنَ وَحْدَهُ, وَلاَ شَيْءٍ مِنْ السِّبَاعِ ذَوَاتِ الأَنْيَابِ, وَلاَ أَكْلُ الْكَلْبِ, وَالْهِرِّ الإِنْسِيُّ وَالْبَرِّيُّ سَوَاءٌ، وَلاَ الثَّعْلَبِ, حَاشَا الضَّبُعِ وَحْدَهَا, فَهِيَ حَلاَلٌ أَكْلُهَا, وَلَوْ أَمْكَنَتْ ذَكَاةُ الْفِيلِ لَحَلَّ أَكْلُهُ أَمَّا الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ فَ. لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّهْيِ، عَنِ الصَّلاَةِ وَهُوَ يُدَافِعُ الأَخْبَثَيْنِ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ, وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} . وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ قَوْلَهُ عليه السلام: "َأكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ
(7/398)
994- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَّاتِ، وَلاَ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ مِنْ الطَّيْرِ وَهِيَ الَّتِي تَصِيدُ الصَّيْدَ بِمَخَالِبِهَا, وَلاَ الْعَقَارِبِ, وَلاَ الْفِئْرَانِ، وَلاَ الْحِدَاءِ, وَلاَ الْغُرَابِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ نَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ حَدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ عليه السلام يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ, وَالْفَأْرَةِ, وَالْعَقْرَبِ, وَالْحُدَيَّا, وَالْغُرَابِ, وَالْحَيَّةِ, قَالَ: وَفِي الصَّلاَةِ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ نَا إسْمَاعِيلُ وَهُوَ عِنْدَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَوْمًا عِنْدَ هَدْمٍ لَهُ رَأَى وَبِيصَ جَانٍّ فَقَالَ: اُقْتُلُوا فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ الأَنْصَارِيُّ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ إِلاَّ الأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا اللَّذَانِ يَخْطِفَانِ الْبَصَرَ وَيَتْبَعَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ صَيْفِي، هُوَ ابْنُ أَفْلَحَ أَخْبَرَنِي أَبُو السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ" . فَكُلُّ مَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ فَلاَ ذَكَاةَ لَهُ, لأََنَّهُ عليه السلام نَهَى، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ, وَلاَ يَحِلُّ قَتْلُ شَيْءٍ يُؤْكَلُ, وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلَهُ عليه السلام: خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ فَذَكَرَ الْعَقْرَبَ, وَالْفَأْرَةَ, وَالْحِدَأَةَ, وَالْغُرَابَ, وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ. فَصَحَّ أَنَّ فِيهَا فِسْقًا, وَالْفِسْقُ مُحَرَّمٌ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. فَلَوْ ذُبِحَ مَا فِيهِ فِسْقٌ لَكَانَ مِمَّا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ; لأََنَّ ذَبْحَ مَا لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ
(7/403)
مَعْصِيَةٌ,
وَالْمَعْصِيَةُ قَصْدٌ إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ: رُوِّينَا، عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: اُقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهَا.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ قَتَلَ حَيَّةً أَوْ عَقْرَبًا قَتَلَ كَافِرًا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ نَا ابْنُ أَبِي
أُوَيْسٍ نَا أَبِي نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: إنِّي لاََعْجَبُ مِمَّنْ يَأْكُلُ
الْغُرَابَ, وَقَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِهِ
وَسَمَّاهُ فَاسِقًا, وَاَللَّهِ مَا هُوَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: مَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَاسِقًا, وَاَللَّهِ مَا هُوَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: مَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَاسِقًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَرِهَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَكْلَ الْحِدَاءِ
وَالْغُرَابِ حَيْثُ سَمَّاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ
فَوَاسِقِ الدَّوَابِّ الَّتِي تُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ
وَتَرْمِي الْغُرَابَ، وَلاَ تَقْتُلْهُ قلنا: رَوَاهُ مَنْ لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ
بِرِوَايَتِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَضْعِيفَهُ فِي
كِتَابِ الْحَجِّ وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَحَرَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ الْغُرَابَ الأَبْقَعَ, وَلَمْ يُحَرِّمْ الأَسْوَدَ;
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ ذَكَرَ الْغُرَابَ الأَبْقَعَ.
قال أبو محمد: الأَخْبَارُ الَّتِي فِيهَا عُمُومُ ذِكْرِ الْغُرَابِ هُوَ
الزَّائِدُ حُكْمًا لَيْسَ فِي الَّذِي فِيهِ تَخْصِيصُ الأَبْقَعِ, وَمَنْ قَالَ:
إنَّمَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:
"الْغُرَابُ" الْغُرَابَ الأَبْقَعَ خَاصَّةً; لأََنَّهُ قَدْ ذَكَرَ
الْغُرَابَ الأَبْقَعَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: فَقَدْ كَذَبَ, إذْ قَفَا مَا لاَ عِلْمَ
لَهُ بِهِ, وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ عليه السلام بِقَتْلِ
الأَبْقَعِ فِي خَبَرٍ, وَبِقَتْلِ الْغُرَابِ جُمْلَةً فِي خَبَرٍ آخَرَ,
وَكِلاَهُمَا حَقٌّ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ. وَتَرَدَّدَ الْمَالِكِيُّونَ فِي
هَذِهِ الدَّوَابِّ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْعَقَارِبُ وَالْحَيَّاتُ فَمَا
يَمْتَرِي ذُو فَهْمٍ فِي أَنَّهُنَّ مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} . وَأَمَّا الْفِئْرَانُ فَمَا
زَالَ جَمِيعُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ يَتَّخِذُونَ لَهَا الْقِطَاطَ, وَالْمَصَائِدَ
الْقَتَّالَةَ, وَيَرْمُونَهَا مَقْتُولَةً عَلَى الْمَزَابِلِ, فَلَوْ كَانَ
أَكْلُهَا حَلاَلاً لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي, وَمِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَبَاحُوا أَكْلَ الْحَيَّاتِ الْمُذَكَّاةِ, وَهُمْ يُحَرِّمُونَ أَكْلَ مَا
ذُكِّيَ مِنْ قَفَاهُ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى تَذْكِيَةِ الْحَيَّاتِ إِلاَّ مِنْ
أَقْفَائِهَا.
قال أبو محمد: وَهِيَ وَالْخَمْرُ تَقَعُ فِي التِّرْيَاقِ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ
إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاوِي, لأََنَّ الْمُتَدَاوِيَ
مُضْطَرٌّ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}.
وَأَمَّا ذَوَاتُ الْمَخَالِبِ مِنْ الطَّيْرِ: فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ
أَحْمَدُ: نَا هُشَيْمٌ أَنَّ أَبَا بِشْرٍ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي وَحْشِيَّةَ
أَخْبَرَهُ, وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: نَا أَبِي نَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ
بْنِ عُتَيْبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَكَمُ, وَأَبُو بِشْرٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ
مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(7/404)
صلى
الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي
مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا} ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَنْ حَلاَلٍ: وَبِهَذَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ,
وَأَبُو سُلَيْمَانَ. وَأَبَاحَ الْمَالِكِيُّونَ أَكْلَ سِبَاعِ الطَّيْرِ,
وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ ابْتَلاَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَقْلِيدِهِ بِأَنَّ هَذَا
الْخَبَرَ لَمْ يَسْمَعْهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَشَارَ
إلَى خَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبَ أَنَا إسْمَاعِيلُ
بْنُ مَسْعُودٍ الْجَحْدَرِيُّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَعَنْ
كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ.
قال أبو محمد: أَرَادَ هَذَا النَّاقِضُ أَنْ يَحْتَجَّ لِنَفْسِهِ فَدَفَنَهَا, وَأَرَادَ
أَنْ يُوهِنَ الْخَبَرَ فَزَادَهُ قُوَّةً, لأََنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ هُوَ
النَّجْمُ الطَّالِعُ ثِقَةً وَإِمَامَةً وَأَمَانَةً, فَكَيْفَ وَشُعْبَةُ,
وَهُشَيْمٌ, وَالْحَكَمُ, وَأَبُو بِشْرٍ, كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ يَعْدِلُ
بِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ وَأَسْلَمُ الْوُجُوهِ لِعَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ أَنْ
لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ
مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَسَمِعَهُ أَيْضًا مِنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يُسَمَّى ذَا مِخْلَبٍ عِنْدَ الْعَرَبِ إِلاَّ الصَّائِدَ
بِمِخْلَبِهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الدِّيكُ, وَالْعَصَافِيرُ, وَالزُّرْزُورُ,
وَالْحَمَامُ, وَمَا لَمْ يَصِدْ, فَلاَ يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهَا ذَا مِخْلَبٍ فِي
اللُّغَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/405)
995-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْحَلَزُونِ الْبَرِّيِّ, وَلاَ شَيْءٍ مِنْ
الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا كَالْوَزَغِ وَالْخَنَافِسِ, وَالنَّمْلِ, وَالنَّحْلِ,
وَالذُّبَابِ, وَالدُّبْرِ, وَالدُّودِ كُلِّهِ طَيَّارَةٍ وَغَيْرِ طَيَّارَةٍ
وَالْقَمْلِ, وَالْبَرَاغِيثِ, وَالْبَقِّ, وَالْبَعُوضِ وَكُلِّ مَا كَانَ مِنْ
أَنْوَاعِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} .
وَقَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} . وَقَدْ صَحَّ الْبُرْهَانُ عَلَى
أَنَّ الذَّكَاةَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي الْحَلْقِ
أَوْ الصَّدْرِ, فَمَا لَمْ يُقْدَرْ فِيهِ عَلَى ذَكَاةٍ فَلاَ سَبِيلَ إلَى
أَكْلِهِ: فَهُوَ حَرَامٌ, لأَمْتِنَاعِ أَكْلِهِ إِلاَّ مَيْتَةً غَيْرَ
مُذَكًّى.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ: فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ مُبَاحٌ
قَتْلُهُ: كَالْوَزَغِ, وَالْخَنَافِسِ, وَالْبَرَاغِيثِ, وَالْبَقِّ,
وَالدُّبْرِ; وَقِسْمٌ مُحَرَّمٌ قَتْلُهُ: كَالنَّمْلِ, وَالنَّحْلِ,
فَالْمُبَاحُ قَتْلُهُ لاَ ذَكَاةَ فِيهِ, لأََنَّ قَتْلَ مَا تَجُوزُ فِيهِ الذَّكَاةُ
إضَاعَةٌ لِلْمَالِ, وَمَا لاَ يَحِلُّ قَتْلُهُ لاَ تَجُوزُ فِيهِ الذَّكَاةُ:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَلاَ
ذَكَاةَ فِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا
مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ عِنْدَ كُلِّ ذِي نَفْسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ نَا قُتَيْبَةُ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ نَا عُتْبَةُ بْنُ
مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنِ مَوْلَى بَنِي
(7/405)
زُرَيْقٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ
لِيَطْرَحْهُ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَمَرَ عليه السلام بِطَرْحِهِ وَلَوْ
كَانَ حَلاَلاً أَكْلُهُ مَا أَمَرَ بِطَرْحِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ: النَّحْلَةُ,
وَالنَّمْلَةُ, وَالْهُدْهُدُ, وَالصُّرَدُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا
مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عُثْمَانَ أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ
يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ
قَتْلِهَا.
قال أبو محمد: هَذَا يَقْضِي عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا
فَأَحْرَقَ قَرْيَةَ النَّمْلِ لأََنَّ شَرِيعَةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم
نَاسِخَةٌ لِكُلِّ دِينٍ سَلَفَ, وَقَدْ ذَكَرْنَا قَتْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لِلْقِرْدَانِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ.
وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
قَتْلُ الأَوْزَاغِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ نَهَى، عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ وَأَمَرَ
بِقَتْلِ الْوَزَغِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخِيفُوا الْهَوَامَّ قَبْلَ
أَنْ تُخِيفَكُمْ. فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ حَدِيثَ غَالِبِ بْنِ حُجْرَةَ، عَنِ
الْمِلْقَامِ بْنِ التَّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ صَحِبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم فَلَمْ أَسْمَعْ لِلْحَشَرَاتِ تَحْرِيمًا فَغَالِبُ بْنُ حُجْرَةَ,
وَالْمِلْقَامُ مَجْهُولاَنِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ,
لأََنَّهُ لَيْسَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ حُجَّةً عَلَى مَا قَامَ بِهِ بُرْهَانُ
النَّصِّ.
(7/406)
996- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ تَوَحَّشَتْ أَوْ لَمْ تَتَوَحَّشْ, وَحَلاَلٌ أَكْلُ حُمُرِ الْوَحْشِ تَأَنَّسَتْ أَوْ لَمْ تَتَأَنَّسْ, وَحَلاَلٌ أَكْلُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ أَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ, فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ. فَصَحَّ أَنَّهَا كُلَّهَا رِجْسٌ, وَإِهْرَاقُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الْقُدُورَ بِهَا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَانُ أَنَّ وَدَكَهَا وَشَحْمَهَا وَعَظْمَهَا وَكُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا حَرَامٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ،
(7/406)
عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ. وَرُوِّينَا تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ, وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ: وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, وَابْنِ عُمَرَ بِأَسَانِيدَ كَالشَّمْسِ. وَعَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ كَمَا ذَكَرْنَا, فَهُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ لاَ يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَيَأْمُرُ بِلُحُومِ الْخَيْلِ. وَقَدْ رُوِّينَا النَّهْيَ عَنْهَا، عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ أَحَدِ الْمُبَايِعِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي لُحُومِ الْحُمُرِ قَالَ: هِيَ حَرَامٌ أَلْبَتَّةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَنَحَا نَحْوَهُ مَالِكٌ, فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَبَاحَهَا قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِيهَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ نَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ نَا أُبَيٌّ نَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ عَامِرِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ أَدْرِي أَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةَ النَّاسِ فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ, أَوْ حَرَّمَهُ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ لَحْمَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَهَذَا ظَنٌّ مِنْهُ, وَوَهْلَةٌ لأََنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَرِّمْهَا عليه السلام جُمْلَةً لَبَيَّنَ وَجْهَ نَهْيِهِ عَنْهَا, وَلَمْ يَدَعْ النَّاسَ إلَى الْحِيرَةِ; فَكَيْفَ وَقَوْلُهُ عليه السلام فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَيَبْطُلُ كُلُّ ظَنٍّ وَلَقَدْ كَانُوا إلَى الْخَيْلِ بِلاَ شَكٍّ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى الْحُمُرِ, فَمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى نَهْيٍ عَنْهَا; بَلْ أَبَاحَ أَكْلَهَا وَذَكَاتَهَا, إذْ كَانَتْ حَلاَلاً, وَبِذَلِكَ أَيْضًا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّمَا نَهَى عَنْهَا لأََنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّمَا حُرِّمَتْ لأََنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ فَظَنٌّ كَاذِبٌ أَيْضًا بِلاَ بُرْهَانٍ, وَالدَّجَاجُ آكَلُ مِنْهَا لِلْعَذِرَةِ وَهِيَ حَلاَلٌ. فَإِنْ ذَكَرُوا: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ احْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} الآيَةَ قلنا: لَمْ يَبْلُغْهَا التَّحْرِيمُ وَلَوْ بَلَغَهَا لَقَالَتْ بِهِ, كَمَا فَعَلَتْ فِي الْغُرَابِ, وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي هَذِهِ الآيَةِ. فَإِنْ ذَكَرُوا: مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام فِي لُحُومِ الْحُمُرِ أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ, فَإِنَّمَا كَرِهْتُ لَكُمْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ, أَلَيْسَ تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَتَرْعَى الْفَلاَةَ فَأَصِدْ مِنْهَا. فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ, لأََنَّهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ بِشْرٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ لُوَيْمٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ أَوْ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ غَالِبِ
(7/407)
ابْنِ
ديج، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ وَمِنْ طَرِيقِ سَلْمَى بِنْتِ النَّضْرِ
الْخِضْرِيَّةِ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هِيَ. وَأَمَّا حُمُرُ الْوَحْشِ: فَكَمَا
ذَكَرْنَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْلِيلَهَا. وقال مالك: إنْ
دَجَنَ لَمْ يُؤْكَلْ وَهَذَا خَطَأٌ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ; فَهُوَ
قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلاَ يَصِيرُ الْوَحْشِيُّ مِنْ جِنْسِ الأَهْلِيِّ
حَرَامًا بِالدُّجُونِ, وَلاَ يَصِيرُ الأَهْلِيُّ مِنْ جِنْسِ الْوَحْشِيِّ
حَلاَلاً بِالتَّوَحُّشِ.
وَأَمَّا الْبِغَالُ, وَالْخَيْلُ: فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ
يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ كَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ أَكْلِ
لُحُومِ الْخَيْلِ, وَالْبِغَالِ, وَالْحَمِيرِ, وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ
السِّبَاعِ, وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ
عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَالْخَيْلِ
وَالْبِغَالِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ
الطَّيْرِ وَحَرَّمَ الْمُجَثَّمَةَ. وَخَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَلَمْ يَنْهَنَا، عَنِ
الْخَيْلِ. وَذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}. قَالُوا: فَذَكَرَ فِي
الأَنْعَامِ الأَكْلَ, وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْخَيْلِ, وَالْبِغَالِ,
وَالْحَمِيرِ. وَقَالُوا: الْبَغْلُ وَلَدُ الْحِمَارِ فَهُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ
وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْحَرَامِ حَرَامٌ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ فأما الأَخْبَارُ فَلاَ يُحْتَجُّ
بِشَيْءٍ مِنْهَا: أَمَّا حَدِيثُ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ
مَعْدِي كَرِبَ فَهَالِكٌ لأََنَّهُمْ مَجْهُولُونَ كُلُّهُمْ, ثُمَّ فِيهِ
دَلِيلُ الْوَضْعِ, لأََنَّ فِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: غَزَوْت
مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ وَهَذَا بَاطِلٌ; لأََنَّهُ لَمْ
يُسْلِمْ خَالِدٌ إِلاَّ بَعْدَ خَيْبَرَ بِلاَ خِلاَفٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ
عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ, فَعِكْرِمَةَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِهِ
خَبَرًا مَوْضُوعًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ يُتَّهَمُ غَيْرَهُ: فأما أُدْخِلَ
عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْبَهُ لَهُ, وَأَمَّا الْبَلِيَّةُ مِنْ قَبَلِهِ; وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ الإِيصَالِ. وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ;
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِهِ، عَنْ جَابِرٍ, وَلاَ ذَكَرَ فِيهِ سَمَاعًا
مِنْ جَابِرٍ فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ فَصَحَّ مُنْقَطِعًا. وَقَدْ
رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ
جَابِرٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْبِغَالَ وَقَدْ صَحَّ قَبْلُ، عَنْ جَابِرٍ
إبَاحَةُ الْخَيْلِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الآيَةُ: فَلاَ
ذِكْرَ فِيهَا لِلأَكْلِ لاَ بِإِبَاحَةٍ، وَلاَ بِتَحْرِيمٍ, فَلاَ حُجَّةَ
لَهُمْ فِيهَا, وَلاَ ذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا الْبَيْعَ فَيَنْبَغِي أَنْ
يُحَرِّمُوهُ لأََنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الآيَةِ, وَإِبَاحَةُ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم لَهَا حَاكِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ
أَسْمَاءَ بِنْتِ
(7/408)
أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ. رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ
الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،
عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ, وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ, وَسُفْيَانِ
الثَّوْرِيِّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ, وَمَعْمَرٍ, وَأَبِي مُعَاوِيَةَ,
وَأَبِي أُسَامَةَ, كُلُّهُمْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ
الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي
رَبَاحٍ، عَنْ لَحْمِ الْفَرَسِ فَقَالَ: لَمْ يَزَلْ سَلَفُك يَأْكُلُونَهُ
قُلْتُ: أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ
أَدْرَكَ عَطَاءٌ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ مِنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
فَمَنْ دُونَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَعَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: ذَبَحَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَسًا,
قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: فَاقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ; وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقُ:
فَأَكَلُوهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا هُشَيْمٌ أَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ قَالَ: أُهْدِيَ لِلأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ لَحْمُ فَرَسٍ فَأَكَلَ
مِنْهُ وبه إلى هُشَيْمٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ قَالَ: مَا أَكَلْتُ لَحْمًا أَطْيَبَ مِنْ مَعْرَفَةِ بِرْذَوْنٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ
شِهَابٍ، عَنْ لَحْمِ الْفَرَسِ, وَالْبَغْلِ, وَالْبِرْذَوْنِ فَقَالَ: لاَ
أَعْلَمُهُ حَرَامًا، وَلاَ يُفْتِي أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَكْلِهِ.
قال أبو محمد: لَمْ يُحَرِّمْ الزُّهْرِيُّ الْبَغْلَ, وَأَمَّا فُتْيَا
الْعُلَمَاءِ بِأَكْلِ الْفَرَسِ فَتَكَادُ أَنْ تَكُونَ إجْمَاعًا عَلَى مَا
ذَكَرْنَا قَبْلُ وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ كَرَاهَةَ أَكْلِ
لُحُومِ الْخَيْلِ إِلاَّ رِوَايَةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَصِحُّ; لأََنَّهُ،
عَنْ مَوْلَى نَافِعِ بْنِ عَلْقَمَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُهُ
فَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَلَوْ صَحَّ عِنْدَنَا فِي الْبَغْلِ نَهْيٌ لَقُلْنَا
بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْبَغْلَ وَلَدُ الْحِمَارِ, وَمُتَوَلِّدٌ
مِنْهُ, فَإِنَّ الْبَغْلَ مُذْ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَهُوَ غَيْرُ
الْحِمَارِ, وَلاَ يُسَمَّى حِمَارًا, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ
الْحِمَارِ, لأََنَّ النَّصَّ إنَّمَا جَاءَ بِتَحْرِيمِ الْحِمَارِ, وَالْبَغْلُ
لَيْسَ حِمَارًا، وَلاَ جُزْءًا مِنْ الْحِمَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ:
الْحِمَارُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ, وَالْفَرَسُ, وَالْبَغْلُ مِثْلُهُ, لأََنَّهُمَا
ذَوَا حَافِرٍ مِثْلُهُ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْخَفِ قِيَاسٍ فِي الأَرْضِ,
لأََنَّهُ يُقَالُ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَك وَبَيْنَ مَنْ عَارَضَك فَقَالَ:
قَدْ صَحَّ تَحْلِيلُ الْفَرَسِ بِالنَّصِّ الثَّابِتِ, وَالْبَغْلُ وَالْحِمَارُ
ذَوَا حَافِرٍ مِثْلُهُ, فَهُمَا حَلاَلٌ; فَهَلْ أَنْتُمَا فِي مُخَالَفَةِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا فَرَسَا رِهَانٍ أَوْ مَنْ قَالَ لَك:
حِمَارٌ وَحْشٌ حَلاَلٌ بِإِجْمَاعٍ وَهُوَ ذُو حَافِرٍ, فَالْفَرَسُ, وَالْبَغْلُ
مِثْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ, بَلْ حِمَارُ الْوَحْشِ, وَالْفَرَسِ
مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْلِيلِهِمَا, وَالْحِمَارُ الأَهْلِيُّ مَنْصُوصٌ عَلَى
تَحْرِيمِهِ, فَلاَ يَجُوزُ مُخَالَفَةُ النُّصُوصِ.
وَأَمَّا الْبَغْلُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسِ كُلُوا
مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} . فَالْبَغْلُ
حَلاَلٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لأََنَّهُ لَمْ يُفَصَّلْ
(7/409)
تَحْرِيمُهُ، وَلاَ يَحِلُّ مِنْ الْحِمَارِ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ النَّصُّ مِنْ مِلْكِهِ, وَبَيْعِهِ, وَابْتِيَاعِهِ, وَرُكُوبِهِ, فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(7/410)
997- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا حَرُمَ أَكْلُ لَحْمِهِ فَحَرَامٌ بَيْعُهُ وَلَبَنُهُ, لأََنَّهُ بَعْضُهُ وَمَنْسُوبٌ إلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إِلاَّ أَلْبَانَ النِّسَاءِ فَهِيَ حَلاَلٌ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَيُقَالُ: لَبَنُ الأَتَانِ, وَلَبَنُ الْخِنْزِيرِ, وَبَيْضُ الْغُرَابِ, وَبَيْضُ الْحَيَّةِ, وَبَيْضُ الْحِدَأَةِ كَمَا يُقَالُ يَدُ الْخِنْزِيرِ, وَرَأْسُ الْحِمَارِ, وَجَنَاحُ الْغُرَابِ, وَزِمِكَّى الْحِدَأَةِ، وَلاَ فَرْقَ.
(7/410)
998- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْهُدْهُدِ, وَلاَ الصُّرَدِ, وَلاَ الضِّفْدَعِ, لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا, كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
(7/410)
999- مَسْأَلَةٌ: وَالسُّلَحْفَاةُ الْبَرِّيَّةُ وَالْبَحْرِيَّةُ حَلاَلٌ أَكْلُهَا, وَأَكْلُ بَيْضِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا مَعَ قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ السُّلَحْفَاةِ, فَهِيَ حَلاَلٌ كُلُّهَا وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ النُّسُورُ, وَالرَّخَمُ, والبلزج, وَالْقَنَافِذُ, وَالْيَرْبُوعُ, وَأُمُّ حَبِينٍ وَالْوَبْرُ, وَالسَّرَطَانُ, وَالْجَرَاذِينُ, وَالْوَرَلُ, وَالطَّيْرُ كُلُّهُ, وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ أَنْ يُذَكَّى مِمَّا لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ. وَكَذَلِكَ الْخُفَّاشُ, وَالْوَطْوَاطُ, وَالْخَطَّافُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ إبَاحَةَ أَكْلِ السُّلَحْفَاةِ, وَالسَّرَطَانِ. وَعَنْ طَاوُوس, وَالْحَسَنِ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ: إبَاحَةُ أَكْلِ السُّلَحْفَاةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَى الْمُحْرِمَ، عَنْ قَتْلِ الرَّخَمَةِ وَجَعَلَ فِيهَا الْجَزَاءَ, فَإِنْ ذُكِرَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ: الْقُنْفُذُ خَبِيثٌ مِنْ الْخَبَائِثِ فَهُوَ، عَنْ شَيْخٍ مَجْهُولٍ لَمْ يُسَمَّ وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ, وَمَا خَالَفْنَاهُ.
(7/410)
1000- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ لُحُومِ الْجَلَّالَةِ, وَلاَ شُرْبُ أَلْبَانِهَا, وَلاَ مَا تَصَرُّفُ مِنْهَا; لأََنَّهُ مِنْهَا وَبَعْضُهَا, وَلاَ يَحِلُّ رُكُوبُهَا, وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ مِنْ الإِبِلِ وَغَيْرِ الإِبِلِ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ خَاصَّةً. وَلاَ يُسَمَّى الدَّجَاجُ, وَلاَ الطَّيْرُ: جَلَّالَةً, وَإِنْ كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ فَإِذَا قُطِعَ عَنْهَا أَكَلَهَا فَانْقَطَعَ عَنْهَا الأَسْمُ حَلَّ أَكْلُهَا, وَأَلْبَانُهَا, وَرُكُوبُهَا. لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(7/410)
1001-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ لِغَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى, وَلاَ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَقَرِّبًا
بِتِلْكَ الذَّكَاةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى مَعَهُ أَوْ لَمْ
يَذْكُرْ وَكَذَلِكَ مَا ذُكِّيَ مِنْ الصَّيْدِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَلَوْ
قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى الْمَسِيحِ, أَوْ قَالَ عَلَى
مُحَمَّدٍ, أَوْ ذَكَرَ سَائِرَ الأَنْبِيَاءِ, فَهُوَ حَلاَلٌ; لأََنَّهُ لَمْ
يُهِلَّ بِهِ لَهُمْ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ} فَسَوَاءٌ ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ, أَوْ لَمْ يُذْكَرْ
هُوَ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ
ذَبَحَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ. وَقَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ: قَدْ أَبَاحَ
اللَّهُ تَعَالَى لَنَا أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُونَ:
وَهَذَا لَيْسَ حُجَّةً فِي إبَاحَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى, لأََنَّ
الَّذِي أَبَاحَ لَنَا ذَبَائِحَهُمْ; وَعَلِمَ مَا يَقُولُونَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ الْمُحَرِّمُ عَلَيْنَا مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ, فَلاَ يَحِلُّ
تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لأََمْرٍ آخَرَ, وَلاَ بُدَّ مِنْ
اسْتِعْمَالِهِمَا جَمِيعًا, وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ بِاسْتِثْنَاءِ الأَقَلِّ
مِنْ الأَعَمِّ.
وَرُوِيَتْ فِي هَذَا رِوَايَاتٌ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ, وَالْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ,
وَأَبِي أُمَامَةَ, كُلُّهَا، عَنْ مَجَاهِيلَ, أَوْ، عَنْ كَذَّابٍ, أَوْ، عَنْ
ضَعِيفٍ; وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ. وَرُوِّينَا، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا عَمَّا ذُبِحَ
لِعِيدِ النَّصَارَى فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَّا مَا ذُبِحَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ
فَلاَ تَأْكُلُوا مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذُبِحَ لِلْكَنِيسَةِ
فَلاَ تَأْكُلْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ
قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: إذَا سَمِعْت النَّصْرَانِيَّ يَقُولُ: بِاسْمِ الْمَسِيحِ, فَلاَ
تَأْكُلْ, وَإِذَا لَمْ تَسْمَعْ فَكُلْ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
فِي ذَبِيحَةِ
(7/411)
النَّصْرَانِيِّ
إذَا تَوَارَى عَنْك فَكُلْ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي
ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ, قَالَ: كُلُّ مَا لَمْ تَسْمَعْهُ أَهَلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ الْحَسَنِ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ
كَرِهُوا مَا ذُبِحَ لِلآلِهَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ
وَكَّلَ بِهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا عَلَى ذَبَائِحِهِمْ,
وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يُسَمُّوا اللَّهَ تَعَالَى. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: إذَا سَمِعْتَ فِي الذَّبِيحَةِ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى, فَلاَ
تَأْكُلْ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا سَمِعْته يُهِلُّ
بِالْمَسِيحِ, فَلاَ تَأْكُلْ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ,
وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَيُقَالُ لِمَنْ خَالَفَ هَذَا: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى
ذَبَائِحَهُمْ, وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ الْخِنْزِيرَ,
أَفَيَأْكُلُهُ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: لاَ, لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ
الْخِنْزِيرَ فَيُقَالُ لَهُمْ: وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ مَا أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِهِ كَمَا حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ سَوَاءً سَوَاءً, وَلاَ فَرْقَ.
(7/412)
1002- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا يَصِيدُهُ الْمُحْرِمُ فَقَتَلَهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ الْبِلاَدِ, أَوْ يَصِيدُهُ الْمُحِلُّ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, أَوْ الْمَدِينَةِ فَقَطْ, فَقَتَلَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَكُلُّ قَتْلٍ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَحَرَامٌ أَكْلُ مَا أُمِيتَ بِهِ, لأََنَّهُ غَيْرُ الذَّكَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: أَكْلُهُ حَلاَلٌ, كَذَبِيحَةِ الْغَاصِبِ, وَالسَّارِقِ, وَلاَ فَرْقَ.
(7/412)
1003-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
بِعَمْدٍ أَوْ نِسْيَانٍ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}
فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: إنْ تَرَكَ عَمْدًا
لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ, وَإِنْ تَرَكَ نِسْيَانًا حَلَّ أَكْلُهُ. وقال الشافعي:
هُوَ حَلاَلٌ تَرَكَ عَمْدًا, أَوْ نِسْيَانًا. رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا ابْنُ لَهِيعَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا خَرَجْتَ قَانِصًا لاَ
تُرِيدُ إِلاَّ ذَلِكَ, فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ تَخْرُجُ, فَإِنَّ ذَلِكَ
يَكْفِيك. وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَنْ ذَبَحَ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَلَمْ
يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤْكَلُ وَلْيُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا
أَكَلَ. وَعَنْ عَطَاءٍ إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: بِاسْمِ الشَّيْطَانِ فَكُلْ.
وَرُوِّينَا، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ إبَاحَةَ أَكْلِ مَا نُسِيَ
ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ, وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْهُمْ تَحْرِيمُهُ فِي
تَعَمُّدِ تَرْكِ الذِّكْرِ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَهْلُ الإِبَاحَةِ لِذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَخِي سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ الْيَهُودُ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَنَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا,
وَلاَ نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلَى آخِرِ
الآيَةِ.
قال علي: هذا مِنْ التَّمْوِيهِ الْقَبِيحِ, وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ ذِكْرٍ فِي
هَذَا الْخَبَرِ لأَِبَاحَةِ أَكْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ
(7/412)
1004- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَمَّى بِالْعَجَمِيَّةِ فَقَدْ سَمَّى كَمَا أُمِرَ; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ لُغَةً مِنْ لُغَةٍ، وَلاَ تَسْمِيَةً مِنْ تَسْمِيَةٍ, فَكَيْفَمَا سَمَّى فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/414)
و
من ذبح مال غيره بأمره فنسى أن يسمى الله تعالى
...
1005- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ذَبَحَ مَالَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَنَسِيَ أَنْ
يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى, أَوْ تَعَمَّدَ فَهُوَ ضَامِنٌ مِثْلَ الْحَيَوَانِ
الَّذِي أَفْسَدَ, لأََنَّهُ مَيْتَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا فَقَدْ أَفْسَدَ مَالَ
أَخِيهِ, وَأَمْوَالُ النَّاسِ تُضْمَنُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/414)
و
لا يحل أكل ما نحره أو ذبحه إنسان من مال غيره
...
1006- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا نَحَرَهُ أَوْ ذَبَحَهُ إنْسَانٌ مِنْ
مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ مَالِكِهِ بِغَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ تَعَدٍّ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ
وَيَضْمَنُهُ قَاتِلُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ نَظَرًا صَحِيحًا كَخَوْفِ أَنْ
يَمُوتَ فَبَادَرَ بِذَكَاتِهِ, أَوْ نَظَرًا لِصَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ
غَائِبٍ, أَوْ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}. وَقَوْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. فَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ قَوْلَنَا أَبِحَقٍّ ذَبَحَ
هَذَا الْحَيَوَانَ أَوْ نَحَرَ, أَمْ بِبَاطِلٍ, وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا،
وَلاَ يَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّهُ ذَبَحَ بِحَقٍّ, فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ
نَحَرَ وَذَبَحَ بِبَاطِلٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ أَكْلُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَيَوَانَ حَرَامٌ أَكْلُهُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْنَا,
فَالذَّكَاةُ حَقٌّ مَأْمُورٌ بِهِ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَحِلُّ أَكْلُ
مَا حُرِّمَ مِنْ الْحَيَوَانِ إِلاَّ بِهِ, وَذَبْحُ الْمُعْتَدِي بَاطِلٌ
مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِلاَ خِلاَفٍ وَبِنَصِّ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ تَنُوبَ
الْمَعْصِيَةُ، عَنِ الطَّاعَةِ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى
أَنَّ الْفُرُوجَ الْمُحَرَّمَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ بِالْعَقْدِ الْمَأْمُورِ بِهِ
لاَ بِالْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ: فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يُبِيحُوا
الْحَيَوَانَ الْمُحَرَّمَ بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ
تَصَيُّدِ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ, وَبَيْنَ ذَبْحِ
الْمُتَعَدِّي لِمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ
الثَّابِتَةُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نَا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ نَا وَكِيعٌ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلاً فَعَجَّلَ
الْقَوْمُ فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَأُكْفِئَتْ, ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنْ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ. فَهَذَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِهَرْقِ الْقُدُورِ الَّتِي
فِيهَا اللَّحْمُ الْمَذْبُوحُ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ, وَلاَ شَكَّ
فِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَلاَلاً أَكْلُهُ مَا أَمَرَ بِهَرْقِهِ, لأََنَّهُ عليه
السلام نَهَى، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ حَرَامٌ مَحْضٌ,
وَأَنَّ ذَبْحَهُ وَنَحْرَهُ تَعَدٍّ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَلاَ يُبِيحُ الأَكْلَ.
وَمَا نَعْلَمُ لِلْمُخَالِفِ حُجَّةً أَصْلاً لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ
سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ
مَوَّهَ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي جِنَازَةٍ, فَاسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ فَجَاءَ وَجِيءَ
بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ فَأَكَلُوا
وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فِيهِ ثُمَّ قَالَ:
أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا, فَأَرْسَلَتْ
الْمَرْأَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرْسَلْتُ إلَى الْبَقِيعِ
(7/415)
مَنْ
يَشْتَرِي لِي شَاةً فَلَمْ أَجِدْ فَأَرْسَلْتُ إلَى جَارٍ لِي قَدْ اشْتَرَى
شَاةً أَنْ أَرْسِلْ بِهَا إلَيَّ بِثَمَنِهَا, فَلَمْ يُوجَدْ فَأَرْسَلْتُ إلَى
امْرَأَتِهِ, فَأَرْسَلَتْ إلَيَّ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَطْعِمِيهِ الأُُسَارَى.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, بَلْ هُوَ لَوْ صَحَّ حُجَّةٌ
عَلَيْهِمْ: أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ، عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، وَلاَ يُدْرَى
أَصَحَّتْ صُحْبَتُهُ أَمْ لاَ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً
لَنَا لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَحِلَّ أَكْلَهُ،
وَلاَ أَبَاحَ لأََحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَكْلَ شَيْءٍ مِنْهُ, بَلْ أَمَرَ بِأَنْ
يُطْعِمَ الْكُفَّارَ الْمُسْتَحِلِّينَ لِلْمَيْتَةِ, وَلَعَلَّ أُولَئِكَ
الأُُسَارَى كَانُوا مَرْضَى يَحِلُّ لَهُمْ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ, مَعَ
أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ غَصْبًا، وَلاَ مَسْرُوقَةً, وَإِنَّمَا أَخَذَتْهَا
بِشِرَاءٍ صَحِيحٍ عِنْدَ نَفْسِهَا, لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ
مَالِكِهَا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهَا لِمُسْلِمٍ, فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا
الْخَبَرِ. وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ تِلْكَ الشَّاةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ,
وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ "ابْعَثْهَا
إلَيَّ بِثَمَنِهَا" وَنَحْنُ نَأْتِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ
بِعَيْنِهَا بِمَا هُوَ حُجَّةٌ مُبَيَّنَةٌ عَلَيْهِمْ لَنَا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ نَا هَنَّادُ بْنُ
السَّرِيِّ نا أَبُو الأَحْوَصِ هُوَ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ النَّاسَ حَاجَةٌ
شَدِيدَةٌ وَجَهْدٌ, فَأَصَابُوا غَنَمًا فَانْتَهَبُوهَا, فَإِنَّ قُدُورَنَا
لَتَغْلِي, إذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي عَلَى قَوْسِهِ
فَأَكْفَأَ قُدُورَنَا بِقَوْسِهِ ثُمَّ جَعَلَ يُرَمِّلُ اللَّحْمَ بِالتُّرَابِ
ثُمَّ قَالَ: إنَّ النُّهْبَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنْ الْمَيْتَةِ, أَوْ إنَّ الْمَيْتَةَ
لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنْ النُّهْبَةِ; شَكَّ أَبُو الأَحْوَصِ فِي أَيَّتِهِمَا
قَالَ عليه السلام. فَهَذَا ذَلِكَ الإِسْنَادُ نَفْسُهُ بِبَيَانٍ لاَ إشْكَالَ
فِيهِ مِنْ إفْسَادِهِ صلى الله عليه وسلم اللَّحْمَ الْمَذْبُوحَ مُنْتَهَبًا
غَيْرَ مَقْسُومٍ وَخَلَطَهُ بِالتُّرَابِ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ حَرَامٌ
بَحْتٌ لاَ يَحِلُّ أَصْلاً, إذْ لَوْ حَلَّ لَمَا أَفْسَدَهُ عليه السلام; فَمِنْ
الْعَجَائِبِ أَنْ تَكُونَ طَرِيقٌ وَاحِدَةٌ حُجَّةً فِيمَا لاَ بَيَانَ فِيهَا
مِنْهُ, وَلاَ تَكُونُ حُجَّةً فِيمَا فِيهَا الْبَيَانُ الْجَلِيُّ مِنْهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ طَاوُوس, وَعِكْرِمَةَ النَّهْيَ، عَنْ أَكْلِ ذَبِيحَةِ
السَّارِقِ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ,
وَأَصْحَابِهِ, وَلاَ نَعْلَمُ خِلاَفَ قَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عَنْ
أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ عَنْ تَابِعٍ إِلاَّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ,
وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ, فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/416)
و
لا يحل أكل ما ذبح أو نحر فخراً أو مباهاة
...
1007- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ فَخْرًا أَوْ
مُبَاهَاةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ
بِهِ} وَهَذَا مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ
(7/416)
نَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ،- عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ". وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا رِبْعِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَارُودِ قَالَ: سَمِعْت الْجَارُودَ بْنَ أَبِي سَبْرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ وَثِيلٍ هُوَ سُحَيْمٌ قَالَ: وَكَانَ شَاعِرًا نَافِرًا غَالِبًا أَبَا الْفَرَزْدَقِ الشَّاعِرُ بِمَاءٍ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يَعْقِرَ هَذَا مِائَةً مِنْ إبِلِهِ وَهَذَا مِائَةً مِنْ إبِلِهِ إذَا وَرَدَتْ, فَلَمَّا وَرَدَتْ الإِبِلُ الْمَاءَ قَامَا إلَيْهَا بِالسُّيُوفِ فَجَعَلاَ يَكْسَعَانِ عَرَاقِيبَهَا, فَخَرَجَ النَّاسُ عَلَى الْحُمُرَاتِ يُرِيدُونَ اللَّحْمَ وَعَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ فَخَرَجَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِهَا فَإِنَّهَا مِمَّا أُهِلَّ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ لاَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَةٌ ذَبَحَهَا الشُّعَرَاءُ فَخْرًا وَرِيَاءً, وَلاَ مَا ذَبَحَهُ الأَعْرَابُ عَلَى قُبُورِهِمْ, وَلاَ يُعْلَمُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه فِي هَذَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَكُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ, وَالْغَاصِبِ, وَالْمُتَعَدِّي لأََنَّ هَؤُلاَءِ بِلاَ شَكٍّ مِمَّنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَذَبَائِحُهُمْ وَنَحَائِرُهُمْ مِمَّنْ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ بِيَقِينٍ, إذْ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَعْصِيَ أَحَدٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَؤُلاَءِ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِلاَ شَكٍّ, مُخَالِفُونَ لأََمْرِهِ فِي ذَلِكَ الذَّبْحِ نَفْسِهِ, وَفِي ذَلِكَ الْعَقْرِ نَفْسِهِ.
(7/417)
1008- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا جَوَازُ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَمَصْلَحَةً فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ; فَحِفْظُ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَاجِبٌ وَبِرٌّ وَتَقْوَى, وَإِضَاعَتُهُ إثْمٌ وَعُدْوَانٌ وَحَرَامٌ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ نَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ بِأَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ فَأَبْصَرَتْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا فَقَالَ لأََهْلِهِ: لاَ تَأْكُلُوا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ أَوْ أُرْسِلَ إلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهَا.
(7/417)
1009- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ خَرَجَتْ بَيْضَةٌ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ أَوْ طَائِرٍ مَيِّتٍ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ
(7/417)
1010- مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ طُبِخَ بَيْضٌ فَوُجِدَ فِي جُمْلَتِهَا بَيْضَةٌ فَاسِدَةٌ قَدْ صَارَتْ دَمًا أَوْ فِيهَا فَرْخٌ رُمِيَتْ الْفَاسِدَةُ وَأُكِلَ سَائِرُ الْبَيْضِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَالْحَلاَلُ حَلاَلٌ لاَ يُفْسِدُهُ مُجَاوَرَةُ الْحَرَامِ لَهُ, وَالْحَرَامُ حَرَامٌ لاَ يُصْلِحُهُ مُجَاوَرَةُ الْحَلاَلِ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/418)
1011- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ خُبْزٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ لَحْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ طُبِخَ أَوْ شُوِيَ بِعَذِرَةٍ أَوْ بِمَيْتَةٍ فَهُوَ حَلاَلٌ كُلُّهُ, لأََنَّهُ لَيْسَ مَيْتَةً، وَلاَ عَذِرَةً, وَالْعَذِرَةُ وَالْمَيْتَةُ حَرَامٌ, وَمَا أُحِلَّ فَهُوَ حَلاَلٌ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَيْنُ الْعَذِرَةِ أَوْ الْمَيْتَةِ فَهُوَ حَلاَلٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ طَعَامٌ فِي خَمْرٍ, أَوْ فِي عَذِرَةٍ فَغُسِلَ حَتَّى لاَ يَكُونَ لِلْحَرَامِ فِيهِ عَيْنٌ فَهُوَ حَلاَلٌ, إذْ لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ.
(7/418)
1012- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ مَاتَ حَيَوَانٌ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ لَوْ ذُكِّيَ فَحُلِبَ مِنْهُ لَبَنٌ فَاللَّبَنُ حَلاَلٌ, لأََنَّ اللَّبَنَ حَلاَلٌ بِالنَّصِّ, فَلاَ يُحَرِّمُهُ كَوْنُهُ فِي ضَرْعِ مَيْتَةٍ, لأََنَّهُ قَدْ بَايَنَهَا بَعْدُ, وَهُوَ وَمَا حُلِبَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا ثُمَّ مَاتَتْ سَوَاءٌ, وَإِنَّمَا هُوَ لَبَنٌ حَلاَلٌ فِي وِعَاءٍ حَرَامٍ فَقَطْ, فَهُوَ وَاَلَّذِي فِي وِعَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ سَوَاءٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/418)
1013-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ السُّمِّ الْقَاتِلِ بِبُطْءٍ أَوْ تَعْجِيلٍ،
وَلاَ مَا يُؤْذِي مِنْ الأَطْعِمَةِ, وَلاَ الإِكْثَارُ مِنْ طَعَامٍ يُمْرِضُ
الإِكْثَارُ مِنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ
قَالَ: سَمِعْت أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ قَالَ شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ
يُنْزِلْ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ بِهِ دَوَاءً إِلاَّ الْهَرَمَ" .
قَالَ عَلِيٌّ: زِيَادٌ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ رَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ,
وَسُفْيَانُ وَمِسْعَرٌ, وَأَبُو عَوَانَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ,
وَغَيْرُهُمْ. وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ هُمْ الَّذِينَ لاَ يَكْتَوُونَ،
وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
حُمِدَ لِتَرْكِ الدَّوَاءِ أَصْلاً, وَلاَ ذِكْرَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ, وَأَمْرُهُ
عليه السلام بِالتَّدَاوِي: نَهْيٌ، عَنْ تَرْكِهِ, وَأَكْلُ الْمُضِرِّ: تَرْكٌ
لِلتَّدَاوِي, فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/418)
1014-
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ ذَكِيٍّ فَوُجِدَ فِي بَطْنِهِ جَنِينٌ مَيِّتٌ,
وَقَدْ كَانَ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَهُوَ مَيِّتَةٌ لاَ يَحِلُّ
أَكْلُهُ, فَلَوْ أُدْرِكَ حَيًّا فَذُكِّيَ حَلَّ أَكْلُهُ, فَلَوْ كَانَ لَمْ
يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَهُوَ حَلاَلٌ إِلاَّ إنْ كَانَ بَعْدُ دَمًا لاَ
لَحْمَ فِيهِ, وَلاَ مَعْنَى لأَِشْعَارِهِ، وَلاَ لِعَدَمِ إشْعَارِهِ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} . وَبِالْعِيَانِ
نَدْرِي أَنَّ ذَكَاةَ الأُُمِّ لَيْسَتْ ذَكَاةً لِلْجَنِينِ الْحَيِّ, لأََنَّهُ
غَيْرُهَا وَقَدْ يَكُونُ ذَكَرًا وَهِيَ أُنْثَى, فأما إذَا كَانَ لَحْمًا لَمْ
يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَهُوَ بَعْضُهَا وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ حَيًّا
فَيَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ. وَقَدْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِأَخْبَارٍ
وَاهِيَةٍ: مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ
عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" ، وَابْنُ أَبِي
لَيْلَى سَيِّئُ الْحِفْظِ وَعَطِيَّةُ هَالِكٌ. وَمِنْ طَرِيق إسْمَاعِيلَ بْنِ
مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ
إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ
مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ, مُجَالِدٌ ضَعِيفٌ,
وَأَبُو الْوَدَّاكِ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ
أُمِّهِ" حَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّيْثِ
عَنْهُ, أَوْ لَمْ يَقُلْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ;
فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ وَهَذَا مِنْ هَذَا النَّمَطِ لاَ يُدْرَى مِمَّنْ
أَخَذَهُ، عَنْ جَابِرٍ فَهُوَ، عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ.
ثُمَّ لَمْ يَأْتِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
شُعَيْبٍ, وَالْحَسَنِ بْنِ بِشْرٍ, وَعَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْقَدَّاحِ وَكُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي حُذَيْفَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ
أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى قَالَ: ذُكِرَ لِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ إذَا أَشْعَرَ فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ أَبُو
حُذَيْفَةَ ضَعِيفٌ, وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَسْقَطُ مِنْهُ ثُمَّ هُوَ
مُنْقَطِعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَخِيهِ عِيسَى، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ
أُمِّهِ" إذَا أَشْعَرَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى سَيِّئُ الْحِفْظِ, ثُمَّ هُوَ
مُنْقَطِعٌ. وَقَالُوا: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ ذَكَاةُ
الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ فِي جَنِينِ
النَّاقَةِ إذَا تَمَّ وَأَشْعَرَ: فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَيُنْحَرُ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ إذَا أَشْعَرَ جَنِينُ النَّاقَةِ
فَكُلْهُ, فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَعَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَشَارَ إلَى جَنِينِ نَاقَةٍ وَأَخَذَ
بِذَنَبِهِ
(7/419)
وَقَالَ:
هَذَا مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ نَحْرُ
جَنِينِ النَّاقَةِ نَحْرُ أُمِّهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ, وَالشَّعْبِيِّ,
وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وطَاوُوس, وَأَبِي ظَبْيَانَ, وَأَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ, وَالْحَسَنِ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنَافِعٍ,
وَعِكْرِمَةَ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ,
وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَالزُّهْرِيِّ, وَمَالِكٍ,
وَالأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ,
وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ,
وَالشَّافِعِيِّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ
فِي جَنِينِ الْمَذْبُوحَةِ قَالَ: لاَ تَكُونُ ذَكَاةُ نَفْسٍ، عَنْ نَفْسَيْنِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَزُفَرَ, نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ،
نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى غُنْدَرٌ، نا خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ، نا أَبُو
الْمَيْمُونِ، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
رَاشِدٍ الْبَجَلِيُّ، نا أَبُو زُرْعَةَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عُمَرَ
النَّصْرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَيَّانَ قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: يَا
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النَّاقَةُ تُذْبَحُ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ يَرْتَكِضُ
فَيُشَقُّ بَطْنُهَا فَيَخْرُجُ جَنِينُهَا أَيُؤْكَلُ قَالَ: نَعَمْ, قُلْت: إنَّ
الأَوْزَاعِيَّ قَالَ: لاَ يُؤْكَلُ, قَالَ: أَصَابَ الأَوْزَاعِيُّ فَهَذَا
قَوْلٌ لِمَالِكٍ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ: فَرُوِّينَا، عَنِ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَ: إذَا عَلِمَ أَنَّ مَوْتَ
الْجَنِينِ قَبْلَ مَوْتِ أُمِّهِ أُكِلَ وَإِلَّا لَمْ يُؤْكَلْ, قِيلَ لَهُ:
مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ ذَلِكَ قَالَ: إذَا خَرَجَ لَمْ يَنْتَفِخْ وَلَمْ
يَتَغَيَّرْ فَهُوَ مَوْتُهَا. وقال بعضهم: لاَ يُؤْكَلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ
أَشْعَرَ وَتَمَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى, وَالزُّهْرِيِّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَنَافِعٍ, وَعِكْرِمَةَ, وَمُجَاهِدٍ,
وَعَطَاءٍ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ, قَالَ يَحْيَى: فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا لَمْ
يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلاَّ أَنْ يُذَكَّى وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ, إِلاَّ، أَنَّهُ
قَالَ: إنْ خَرَجَ حَيًّا كُرِهَ أَكْلُهُ, وَلَيْسَ حَرَامًا. وَقَالَ آخَرُونَ:
أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ هُوَ حَلاَلٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ,
وَإِبْرَاهِيمَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ,
وَسُفْيَانَ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ, وَالشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: لَوْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَقُلْنَا بِهِ
مُسَارِعِينَ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ الْقُرْآنِ
لِقَوْلِ قَائِلٍ أَوْ قَائِلِينَ: فأما أَبُو حَنِيفَةَ, فَإِنَّهُ يُشَنِّعُ,
بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ, وَخِلاَفِ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ, وَيَرَى ذَلِكَ خِلاَفًا لِلإِجْمَاعِ, هَذَا مَكَانٌ خَالَفَ فِيهِ
الصَّحَابَةَ وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ وَالآثَارُ الَّتِي
يَحْتَجُّ هُوَ بِأَسْقَطَ مِنْهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ. وَأَمَّا مَالِكٌ,
فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ الْجَنِينَ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَبْحِ أُمِّهِ حَيًّا,
وَمَا نَعْلَمُ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَهُ.
وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إنْ
(7/420)
كَانَ عِنْدَهُ ذَكِيًّا بِذَكَاةِ أُمِّهِ أَنَّهُ إنْ عَاشَ وَكَبُرَ وَأَلْقَحَ وَنَتَجَ أَنَّهُ حَلاَلٌ أَكْلُهُ مَتَى مَاتَ, لأََنَّهُ ذُكِّيَ بَعْدُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا, فَكِلاَهُمَا خَالَفَ الإِجْمَاعَ, أَوْ مَا يَرَاهُ إجْمَاعًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/421)
ولا
يحل الأكل ولا الشرب في نية الذهب أو الفضة لا لرجل ولا لأمرأة
...
1015- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الأَكْلُ، وَلاَ الشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ
أَوْ الْفِضَّةِ لاَ لِرَجُلٍ، وَلاَ لأَمْرَأَةٍ, فَإِنْ كَانَ مُضَبَّبًا
بِالْفِضَّةِ جَازَ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ,
لأََنَّهُ لَيْسَ إنَاءَ فِضَّةٍ, فَإِنْ كَانَ مُضَبَّبًا بِالذَّهَبِ, أَوْ
مُزَيَّنًا بِهِ حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ, لأََنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ ذَهَبٍ
وَحَلَّ لِلنِّسَاءِ لأََنَّهُ لَيْسَ إنَاءُ ذَهَبٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا
عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ هُوَ
مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: "الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ"
فَهَذَا عُمُومٌ يَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَصَحَّ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ الذَّهَبَ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِهِ
حِلٌّ لأَِنَاثِهَا". وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أُتِيَ
بفالوذج فِي إنَاءِ فِضَّةٍ فَأَخْرَجَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى رَغِيفٍ وَأَكَلَهُ
إِلاَّ أَنْ يَصِحَّ مَا نا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْعُذْرِيُّ قَاضِي
سَرَقُسْطَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُطَّوِّعِيُّ، نا الْحَاكِمُ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ
الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ بِنَيْسَابُورَ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْخُزَاعِيُّ بِمَكَّةَ, قَالاَ جَمِيعًا، نا أَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي
مَيْسَرَةَ، نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَارِي، نا زَكَرِيَّا بْنُ إبْرَاهِيمَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءِ
ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ, فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ
فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ". فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ قلنا بِهِ
عَلَى نَصِّهِ, وَلَمْ يَحِلَّ الشُّرْبُ فِي إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَهَبٍ
أَوْ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ، وَلاَ لأَمْرَأَةٍ, وَإِنَّمَا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ
لأََنَّ زَكَرِيَّا بْنَ إبْرَاهِيمَ لاَ نَعْرِفُهُ بِعَدْلٍ، وَلاَ جِرَاحَةٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ النُّعْمَانِ
قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: مَنْ شَرِبَ فِي قَدَحٍ مُفَضَّضٍ سَقَاهُ اللَّهُ جَمْرًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَشْرَبُ
بِقَدَحٍ فِيهِ ضَبَّةُ فِضَّةٍ، وَلاَ حَلَقَةُ فِضَّةٍ: وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِثْلُ
هَذَا وَعَنْ آخَرِينَ إبَاحَتُهُ.
(7/421)
1016-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْقِرَانُ فِي الأَكْلِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُؤَاكَلِ,
وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ أَنْتَ شَيْئَيْنِ شَيْئَيْنِ وَيَأْخُذَ هُوَ وَاحِدًا
وَاحِدًا كَتَمْرَتَيْنِ وَتَمْرَةٍ, أَوْ تِينَتَيْنِ وَتِينَةٍ, وَنَحْوِ
ذَلِكَ, إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كُلُّهُ لَك فَافْعَلْ فِيهِ مَا شِئْت.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا آدَم، نا شُعْبَةُ، نا جَبَلَةُ بْنُ
سُحَيْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ وَهُوَ يَمُرُّ بِهِمْ وَهُمْ
يَأْكُلُونَ لاَ تُقَارِنُوا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى،
عَنِ الْقِرَانِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ قَالَ شُعْبَةُ:
الإِذْنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ.
قال علي: هذا أَعَمُّ مِمَّا رَوَاهُ سُفْيَانُ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ,
فَإِذَا أَذِنَ الْمُؤَاكِلُ فَهُوَ حَقُّهُ تَرَكَهُ.
(7/422)
1017-
مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا عُجِنَ بِالْخَمْرِ. أَوْ بِمَا لَا يَحِلُّ
أَكْلُهُ أَوْ شُرْبُهُ. وَلَا قِدْرٌ طُبِخَتْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. إلَّا أَنْ
يَكُونَ مِمَّا عُجِنَ بِهِ الدَّقِيقُ وَطُبِخَ بِهِ الطَّعَامُ شَيْئًا حَلَالًا
وَكَانَ مَا رَمَى فِيهِ مِنْ الْحَرَامِ قَلِيلًا لَا رِيحَ لَهُ فِيهِ وَلَا
طَعْمَ وَلَا لَوْنَ. وَلَا يَظْهَرُ لِلْحَرَامِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ أَصْلًا
فَهُوَ حَلَالٌ حِينَئِذٍ. وَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى مَنْ رَمَى فِيهِ
شَيْئًا مِنْهُ. لِأَنَّ الْحَرَام إذَا بَطَلَتْ صِفَاتُهُ الَّتِي بِهَا سُمِّيَ
بِذَلِكَ الِاسْمِ الَّذِي بِهِ نَصٌّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ
الِاسْمُ عَنْهُ وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ الِاسْمُ سَقَطَ التَّحْرِيمُ. لِأَنَّهُ
إنَّمَا حَرَّمَ مَا يُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ كَالْخَمْرِ. وَالدَّمِ.
وَالْمَيْتَةِ. فَإِذَا اسْتَحَالَ الدَّمُ لَحْمًا. أَوْ الْخَمْرُ خَلًّا. أَوْ
الْمَيْتَةُ بِالتَّغَذِّي أَجْزَأَ فِي الْحَيَوَانِ الْأَكْلُ لَهَا مِنْ
الدَّجَاجِ. وَغَيْرِهِ فَقَدْ سَقَطَ التَّحْرِيمُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَمَنْ خَالَفَ هَذَا لَزِمَهُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّبَنَ. لِأَنَّهُ
دَمٌ اسْتَحَالَ لَبَنًا. وَأَنْ يُحَرِّمَ التَّمْرَ وَالزَّرْعَ الْمَسْقِيَّ
بِالْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ. وَلَزِمَهُ أَنْ يُبِيحَ الْعَذِرَةَ وَالْبَوْلَ.
لِأَنَّهُمَا طَعَامٌ. وَمَاءٌ حَلَالَانِ اسْتَحَالَا إلَى اسْمٍ مَنْصُوصٍ عَلَى
تَحْرِيمِ الْمُسَمَّى بِهِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ مَا عُجِنَ أَوْ طُبِخَ بِهِ.
فَلِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي جَمِيعِ الشَّيْءِ الْمَعْجُونِ وَالْمَطْبُوخِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَثَرُ لِشَيْءٍ حَلَالٍ. وَكَانَ الْحَرَامُ لَا أَثَرَ
لَهُ. فَقَدْ قُلْنَا الْآنَ مَا يَكْفِي.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ
دَاوُد بْنِ عَمْرٍو عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: فِي الْمُرِّيِّ
يُجْعَلُ فِيهِ الْخَمْرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. ذَبَحَتْهُ النَّارُ
وَالْمِلْحُ.
(7/422)
1018- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ جُبْنٍ عُقِدَ بِإِنْفَحَة مَيْتَةٍ لأََنَّ أَثَرَهَا ظَاهِرٌ فِيهِ وَهُوَ عَقْدُهَا لَهُ لِمَا ذَكَرَ آنِفًا وَهَكَذَا كُلُّ مَا مُزِجَ بِحَرَامٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/422)
1019- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ, لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَرْقِهِ, فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ وَلَمْ يَلَغْ فِيهِ فَهُوَ كُلُّهُ حَلاَلٌ وَقَدْ تَقَصَّيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/422)
1020- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الأَكْلُ مِنْ وَسَطِ الطَّعَامِ، وَلاَ أَنْ تَأْكُلَ مِمَّا لاَ يَلِيَك سَوَاءٌ كَانَ
(7/422)
1021- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ فَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِمَّا يَلِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فَإِنْ أَدَارَ الصَّحْفَةَ فَلَهُ ذَلِكَ, لأََنَّهُ لَمْ يُنْهَ، عَنْ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُدِيرَ الصَّحْفَةَ لأََنَّ وَاضِعَهَا أَمْلَكُ بِوَضْعِهَا, وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ إدَارَتَهَا إنَّمَا جَعَلَ لَهُ الأَكْلَ مِمَّا يَلِيهِ فَقَطْ, فَإِنْ كَانَتْ الْقَصْعَةُ وَالطَّعَامُ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُدِيرَهَا كَمَا يَشَاءُ, وَأَنْ يَرْفَعَهَا إذَا شَاءَ; لأََنَّهُ مَالُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ إِلاَّ مِمَّا يَلِيهِ, لأََنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ عُمُومٌ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
(7/424)
وتسمية
اللّه تعالى فرض على كل كل عند ابتداء أكله ولا يحل لأَحد أن يأكل بشماله
...
1022- مَسْأَلَةٌ: وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ عَلَى كُلِّ آكِلٍ عِنْدَ
ابْتِدَاءِ أَكْلِهِ، وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ إِلاَّ
أَنْ لاَ يَقْدِرَ فَيَأْكُلَ بِشِمَالِهِ لأََمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا بِالتَّسْمِيَةِ وَالأَكْلِ
بِالْيَمِينِ. وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ" وَهَذَا عُمُومٌ فِي النَّهْيِ، عَنْ
شِمَالِهِ وَشِمَالِ غَيْرِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
وَمَنْ تَحَكَّمَ فَجَعَلَ بَعْضَ الأَوَامِرِ فَرْضًا وَبَعْضَهَا نَدْبًا فَقَدْ
قَالَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَقَالَ تَعَالَى:
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.
(7/424)
1023- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الأَكْلُ فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى تُغْسَلَ بِالْمَاءِ إذَا لَمْ يَجِدْ
(7/424)
1024- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ السَّيْكَرَانِ لِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلَّ مُسْكِرٍ, وَالسَّيْكَرَانُ مُسْكِرٌ فَإِنْ مَوَّهَ قَوْمٌ بِاللَّبَنِ وَالزُّوَانِ فَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا لأََنَّ اللَّبَنَ وَالزُّوَانَ مُخَدِّرَانِ مُبْطِلاَنِ لِلْحَرَكَةِ لاَ يُسْكِرَانِ, وَالسَّيْكَرَانُ وَالْخَمْرُ مُسْكِرَانِ لاَ يُخَدِّرَانِ، وَلاَ يُبْطِلاَنِ الْحَرَكَةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/426)
1025-
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَآكِلِ
وَالْمَشَارِبِ مِنْ خِنْزِيرٍ أَوْ صَيْدٍ حَرَامٍ, أَوْ مَيْتَةٍ, أَوْ دَمٍ;
أَوْ لَحْمِ سَبُعٍ أَوْ طَائِرٍ, أَوْ ذِي أَرْبَعٍ; أَوْ حَشَرَةٍ, أَوْ خَمْرٍ,
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَهُوَ كُلُّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَلاَلٌ حَاشَا لُحُومِ
بَنِي آدَمَ وَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَنَاوَلَهُ: فَلاَ يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ
أَصْلاً لاَ بِضَرُورَةٍ، وَلاَ بِغَيْرِهَا. فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى شَيْءٍ مِمَّا
ذَكَرْنَا قَبْلُ وَلَمْ يَجِدْ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ: فَلَهُ أَنْ
يَأْكُلَ حَتَّى يَشْبَعَ, وَيَتَزَوَّدَ حَتَّى يَجِدَ حَلاَلاً; فَإِذَا
وَجَدَهُ عَادَ الْحَلاَلُ مِنْ ذَلِكَ حَرَامًا كَمَا كَانَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ
الضَّرُورَةِ. وَحَدُّ الضَّرُورَةِ أَنْ يَبْقَى يَوْمًا وَلَيْلَةً لاَ يَجِدُ فِيهَا
مَا يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ, فَإِنْ خَشِيَ الضَّعْفَ الْمُؤْذِيَ الَّذِي إنْ
تَمَادَى أَدَّى إلَى الْمَوْتِ, أَوْ قَطَعَ بِهِ، عَنْ طَرِيقِهِ وَشُغْلِهِ
حَلَّ لَهُ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيمَا يَدْفَعُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ الْمَوْتَ
بِالْجُوعِ أَوْ الْعَطَشِ. وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ لاَ فَضْلَ لِبَعْضِهَا
عَلَى بَعْضٍ إنْ وَجَدَ مِنْهَا نَوْعَيْنِ, أَوْ أَنْوَاعًا فَيَأْكُلُ مَا
شَاءَ مِنْهَا لِلتَّذْكِيَةِ فِيهَا.
أَمَّا تَحْلِيلُ كُلِّ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ
إلَيْهِ} فَأَسْقَطَ تَعَالَى تَحْرِيمَ مَا فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ عِنْدَ
الضَّرُورَةِ, فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ, فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُنَا إذَا لَمْ يَجِدْ مَالَ مُسْلِمٍ فَلِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى:
أَطْعِمُوا الْجَائِعَ فَهُوَ إذَا وَجَدَ مَالَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ
فَقَدْ وَجَدَ مَالاً قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِطْعَامِهِ مِنْهُ, فَحَقُّهُ
فِيهِ, فَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى الْمَيْتَةِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ,
فَإِنْ مُنِعَ ذَلِكَ ظُلْمًا فَهُوَ مُضْطَرٌّ حِينَئِذٍ. وَخَصَّصَ قَوْمٌ
الْخَمْرَ بِالْمَنْعِ وَهَذَا خَطَأٌ لأََنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ بِلاَ
بُرْهَانٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ,
وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيُّونَ بِأَنَّهَا لاَ تُرْوَى وَهَذَا خَطَأٌ مُدْرَكٌ
بِالْعِيَانِ, وَقَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُدْمِنِينَ
عَلَيْهَا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْخِلاَعِ لاَ يَشْرَبُونَ الْمَاءَ أَصْلاً مَعَ
شُرْبِهِمْ الْخَمْرَ. وَقَدْ اضْطَرَبُوا: فَرُوِيَ، عَنْ مَالِكٍ:
الأَسْتِغَاثَةَ بِالْخَمْرِ لِمَنْ اخْتَنَقَ بِلُقْمَةٍ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ,
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ
(7/426)
1026-
مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِمَنْ كَانَ فِي طَرِيقِ
بَغْيٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُمْتَنِعًا مِنْ حَقٍّ, بَلْ كُلُّ ذَلِكَ
حَرَامٌ عَلَيْهِ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُلُ فَلْيَتُبْ مِمَّا هُوَ فِيهِ
وَلْيُمْسِكْ عَنِ الْبَغْيِ وَلْيَأْكُلْ حِينَئِذٍ وَلْيَشْرَبْ مِمَّا
اُضْطُرَّ إلَيْهِ حَلَالًا لَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ
تَعَالَى فَاسِقٌ, آكِلُ حَرَام.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ:
{فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} فَإِنَّمَا
أَبَاحَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ بِالضَّرُورَةِ مَنْ لَمْ يَتَجَانَفْ لِإِثْمٍ,
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بَاغِيًا وَلَا عَادِيًا: وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ
نَعْلَمُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَّا الْمَالِكِيِّينَ, فَإِنَّهُمْ قَالُوا
فِيمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَانْتَظَرَ رِفَاقَهُمْ مِنْ
الْمُحَارِبِينَ, وَحَاصَرَ قُرَاهُمْ وَمَدَنَهُمْ مِنْ الْبَاغِينَ لِسَفْكِ
دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ, وَيَسْتَبِيحُ أَمْوَالَهُمْ وَفُرُوجَ الْمُسْلِمَاتِ
ظُلْمًا وَعُدْوَانًا, فَلَمْ يَجِدْ
(7/427)
مَأْكَلًا
إلَّا الْخَنَازِيرَ وَالْمَيْتَاتِ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ أَكْلُهُ, فَأَعَانُوهُ
عَلَى أَعْظَمِ الظُّلْمِ, وَأَشَدِّ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالْعَجَبُ
أَنَّهُمْ مَوَّهُوا هَهُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ مَا يَكُونُ مِنْ الإِبْهَامِ وَمَا
أَمَرْنَاهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ بَلْ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
مِنْ التَّوْبَةِ, فَلْيَنْوِهَا بِقَلْبِهِ, وَلْيُمْسِكْ عَنِ الْبَغْيِ
وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْحَقِّ بِيَدَيْهِ, ثُمَّ يَأْكُلُ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ
حَلَالًا لَهُ, وَمَا سَمِعْنَا بِقَوْلٍ أَقْبَحَ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذَا أَنْ لَا
يَأْمُرُوهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْبَغْيِ, وَيُبِيحُوا لَهُ التَّقَوِّي عَلَى
الإِفْسَادِ فِي الأَُرْضِ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ نَبْرَأُ إلَى
اللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ: رُوِّينَا عَنْ مُجَاهِدٍ {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا
عَادٍ} غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَلَا عَادٍ عَلَيْهِمْ - قَالَ
مُجَاهِدٌ: وَمَنْ يَخْرُجُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ, أَوْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ
تَعَالَى, فَاضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ, إنَّمَا تَحِلُّ لِمَنْ
خَرَجَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا فَلْيَأْكُلْ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ:
إذَا خَرَجَ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاضْطُرَّ إلَى
الْمَيْتَةِ أَكَلَ, وَإِنْ خَرَجَ إلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ.
وَمَوَّهُوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ سَابُورٍ عَنْ
عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى الْبَاغِي, وَالْعَادِي, إنَّمَا
هُوَ فِي الأَُكْلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ فِي تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ إسْنَادٌ فَاسِدٌ لَا يَصِحُّ, لِأَنَّ
سَلَمَةَ بْنَ سَابُورٍ ضَعِيفٌ, وَعَطِيَّةَ مَجْهُولٌ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ
لَوْ صَحَّ لَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا لَا لِقَوْلِهِمْ, لِأَنَّ الْبَاغِيَ
فِي الأَُكْلِ, وَالْعَادِيَ فِيهِ: هُوَ مِنْ أَكْلِهِ فِيمَا لَمْ يُبَحْ لَهُ,
وَآكِلُهُ فِي الْبَغْيِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَاغٍ فِي الأَُكْلِ وَعَادٍ فِيهِ,
وَهَكَذَا نَقُولُ. وَمَا قَالَ قَطُّ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُمْ: أَنَّ مَنْ
خَرَجَ مُفْسِدًا فِي الأَُرْضِ فَاضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَهُ أَكْلُهَا
مُصِرًّا عَلَى إفْسَادِهِ مُتَقَوِّيًا عَلَى ظُلْمِ الْمُسْلِمِينَ, وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ. وَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْمُضْطَرَّ
مِنْ التَّحْرِيمِ, فَهُوَ بِلَا شَكٍّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي التَّحْرِيمِ, وَإِذْ
هُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ فَكُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ جُمْلَةً.
(7/428)
1027- مَسْأَلَةٌ: وَالسَّرَفُ حَرَامٌ, وَهُوَ النَّفَقَةُ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ, وَلَوْ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ قَدْرِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ أَوْ التَّبْذِيرُ فِيمَا لاَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ضَرُورَةً مِمَّا لاَ يَبْقَى لِلْمُنْفِقِ بَعْدَهُ غِنًى أَوْ إضَاعَةُ الْمَالِ وَإِنْ قَلَّ بِرَمْيِهِ عَبَثًا; فَمَا عَدَا هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ سَرَفًا وَهُوَ حَلاَلٌ وَإِنْ كَثُرَتْ النَّفَقَةُ فِيهِ. وَقَوْلُنَا هَذَا رُوِّينَاهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَا يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقُلْتُ:
(7/428)
يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ
عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ
غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ". رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ
الأَشْجَعِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ نَفَقَةُ
شَيْءٍ مِنْ الْمَعْرُوفِ, وَلاَ الْمُبَاحِ, إِلاَّ مَا أَبْقَى غِنًى, إِلاَّ
مَنْ اُضْطُرَّ إلَى قُوتِ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ, فَلاَ يَحِلُّ لَهُ قَتْلُ
نَفْسِهِ، وَلاَ تَضْيِيعُ مَنْ مَعَهُ, ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ,
وَأَمَّا مَا دُونَ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {كُلُوا مِنْ
الطَّيِّبَاتِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ، وَلاَ تَعْتَدُوا}. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} {وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ}. فَمَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ فَقَدْ
قَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبَاطِلَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي
حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا فَإِنَّمَا هَذِهِ الآيَةُ فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً
بِنَصِّ الآيَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى
النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}.
قال أبو محمد: التَّمْوِيهُ بِإِيرَادِ بَعْضِ آيَةٍ وَالسُّكُوتِ، عَنْ
أَوَّلِهِمَا أَوْ آخِرِهَا عَادَةُ سُوءٍ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى
خِزْيُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ, لأََنَّهُ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ
مَوَاضِعِهِ وَكَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
(7/429)
1028-
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا تَغَذَّى مِنْ الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ أَكْلُهُ
بِالْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ حَلاَلٌ: كَالدَّجَاجِ الْمُطْلَقِ, وَالْبَطِّ,
وَالنَّسْرِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ جَدْيًا أُرْضِعَ لَبَنَ خِنْزِيرَةٍ
لَكَانَ أَكْلُهُ حَلاَلاً حَاشَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَلَّالَةِ لأََنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . فَلَمْ
يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ مَا يَأْكُلُ إِلاَّ الْجَلَّالَةَ
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى تَحْلِيلُ
الدَّجَاجِ وَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ الْقَذِرَ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَكْلَهَا حَبَسَهَا ثَلاَثًا حَتَّى يَطِيبَ
بَطْنُهَا.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ يَلْزَمُ لأََنَّهُ إنْ كَانَ حَبَسَهَا مِنْ أَجْلِ مَا
فِي قَانِصَتِهَا مِمَّا أَكَلَتْ فَاَلَّذِي فِي الْقَانِصَةِ لاَ يَحِلُّ
أَكْلُهُ جُمْلَةً, لأََنَّهُ رَجِيعٌ, وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ اسْتِحَالَةِ
الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي أُكِلَتْ فَلاَ يَسْتَحِيلُ لَحْمُهَا فِي ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ, وَلاَ فِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ بَلْ قَدْ صَارَ مَا تَغَذَّتْ بِهِ مِنْ
ذَلِكَ لَحْمًا مِنْ لَحْمِهَا, وَلَوْ حَرُمَ مِنْ ذَلِكَ لَحَرُمَ مِنْ
الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ مَا يَنْبُتُ عَلَى الزِّبْلِ وَهَذَا خَطَأٌ. وَقَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَرَامَ إذَا اسْتَحَالَتْ صِفَاتُهُ وَاسْمُهُ بَطَلَ
حُكْمُهُ الَّذِي عُلِّقَ عَلَى ذَلِكَ الأَسْمِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/429)
1029- مَسْأَلَةٌ: وَالْقِرْدُ حَرَامٌ أَكْلُهُ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَخَ نَاسًا عُصَاةً عُقُوبَةً لَهُمْ
(7/429)
1030-
مَسْأَلَةٌ: وَأَكْلُ الطِّينِ لِمَنْ لاَ يَسْتَضِرُّ بِهِ حَلاَلٌ, وَأَمَّا
أَكْلُ مَا يَسْتَضِرُّ بِهِ مِنْ طِينٍ أَوْ إكْثَارٍ مِنْ الْمَاءِ أَوْ
الْخُبْزِ: فَحَرَامٌ; لأََنَّهُ لَيْسَ مِمَّا فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ لَنَا فَهُوَ
حَلاَلٌ, وَأَمَّا كُلُّ مَا أَضَرَّ فَهُوَ حَرَامٌ, لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"
. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, وَسُفْيَانَ, وَهُشَيْمٍ, وَمَنْصُورِ بْنِ
الْمُعْتَمِرِ, وَابْنِ عُلَيَّةَ, وَعَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ,
كُلُّهُمْ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي
الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ حَفِظَ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ, فَمَنْ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ
أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يُحْسِنْ, وَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ
اللَّهِ تَعَالَى الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَحْرِيمِ
الطِّينِ آثَارٌ كَاذِبَةٌ: مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ
الْحَدَثَانِيِّ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ, وَمُرْسَلاَتٌ وَاحْتَجَّ
بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}.
قَالَ: وَالطِّينُ لَيْسَ مِمَّا أَخْرَجَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ. قال أبو محمد:
وَهَذَا مِنْ التَّمْوِيهِ الَّذِي جَرَوْا عَلَى عَادَتِهِمْ فِيهِ فِي
إيهَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ, وَإِنَّمَا يَأْتُونَ بِمَا لاَ حُجَّةَ
لَهُمْ فِيهِ, وَهَذِهِ الآيَةُ حَقٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ أَكْلِ
مَا لَمْ يُخْرِجْ لَنَا مِنْ الأَرْضِ وَإِنَّمَا فِيهَا إبَاحَةُ مَا أَخْرَجَ
لَنَا مِنْ الأَرْضِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ مَا عَدَا ذَلِكَ لاَ بِتَحْلِيلٍ،
وَلاَ بِتَحْرِيمٍ; فَحُكْمُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الأَرْضِ مَطْلُوبٌ مِنْ
غَيْرِهَا. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَانِعَةً مِنْ أَكْلِ مَا لَمْ
يَخْرُجْ مِنْ الأَرْضِ لَحَرُمَ أَكْلُ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ بَرِّيِّهِ
وَبَحْرِيِّهِ, وَلَحَرُمَ أَكْلُ الْعَسَلِ, والطرنجبين, وَالْبَرَدِ, وَالثَّلْجِ,
لأََنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ
الأَرْضِ; فَالطِّينُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ فَكَيْفَ وَهُوَ مِمَّا فِي الأَرْضِ
وَمِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الأَرْضِ لأََنَّهُ مَعَادِنُ فِي
الأَرْضِ مُسْتَخْرَجَةً مِنْ الأَرْضِ, وَلَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ
دِينٌ أَنْ لاَ يَحْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا
(7/430)
مِمَّا يَفْتَضِحُ فِيهِ مِنْ قُرْبٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْفِطَرِ وَالْكَمْأَةِ, وَلَحْمِ التَّيْسِ الْهَرِمِ أَضَرُّ مِنْ قَلِيلِ الطِّينِ, وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِطَرِيفَةٍ فَقَالَ: خُلِقْنَا مِنْ التُّرَابِ فَمَنْ أَكَلَ التُّرَابَ فَقَدْ أَكَلَ مَا خُلِقَ مِنْهُ. فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا وَعَلَى هَذَا الأَسْتِدْلاَلِ السَّخِيفِ يَحْرُمُ شُرْبُ الْمَاءِ لأََنَّنَا مِنْ الْمَاءِ خُلِقْنَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
(7/431)
1031-
مَسْأَلَةٌ: وَالضَّبُّ حَلَالٌ, وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ أَكْلَهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ
كَرِهَ الضَّبَّ. وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: لَا تَطْعَمُوهُ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ
الْمَقَالَةِ بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا صَحِيحٌ: كَاَلَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, وَأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ عَنِ
الأَُعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ
قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ
فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَوَجَدْنَا ضِبَابًا فَبَيْنَمَا الْقُدُورُ تَغْلِي
بِالضِّبَابِ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
"إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فُقِدَتْ, وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ
تَكُونَ هَذِهِ هِيَ فَأَكْفِئُوهَا, فَأَلْقَيْنَا بِهَا" .هَذَا لَفْظُ
أَبِي مُعَاوِيَةَ, وَلَفْظُ يَحْيَى نَحْوُهُ. وَمِنْهَا غَيْرُ صَحِيحٍ: مِنْ
طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ
بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
شِبْلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ.
وَجَاءَتْ أَخْبَارٌ فِيهَا التَّوَقُّفُ فِيهِ كَاَلَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ
دَاوُد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الضَّبِّ؟ فَقَالَ عليه السلام: "إنَّ
أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسِخَتْ" فَلَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَنْهَ
وَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا بِمَعْنَاهُ صَحِيحٌ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ
زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ ثَابِتِ ابْنِ وَدِيعَةَ
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الضَّبِّ: "لَا آمُرُ بِهِ, وَلَا
أَنْهَى عَنْهُ". وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأَُسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِضَبٍّ فَلَمْ
يَأْكُلْهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ؟
قَالَ: لَا تُطْعِمُوهُمْ مَا لَمْ تَأْكُلُوا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَمَّا هَذِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ فَفِيهِ ضُعَفَاءُ وَمَجْهُولُونَ
(7/431)
فَسَقَطَ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ فَهُوَ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِلَا شَكٍّ, لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. إنَّمَا أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ بِالضَّبَابِ خَوْفَ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقَايَا مَسْخِ الأُُمَّةِ السَّالِفَةِ, هَذَا نَصُّ الْحَدِيثِ, فَإِنْ وَجَدْنَا عَنْهُ عليه السلام مَا يُؤَمِّنُ مِنْ هَذَا الظَّنِّ بِيَقِينٍ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الْكَرَاهَةُ أَوْ الْمَنْعُ فِي الضَّبِّ, فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ وَاللَّفْظُ لَهُ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ هِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا, وَإِنَّ الْقِرَدَةَ, وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْقِرَدَةَ ذُكِرَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه السلام: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا وَقَدْ كَانَتْ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ". فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ تِلْكَ الْمَخَافَةَ مِنْهُ عليه السلام فِي الضِّبَابِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا مُسِخَ قَدْ ارْتَفَعَتْ, وَصَحَّ أَنَّ الضِّبَابَ لَيْسَتْ مِمَّا مُسِخَ, وَلَا مِمَّا مُسِخَ شَيْءٌ فِي صُوَرِهَا: فَحَلَّتْ. ثُمَّ وَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ: فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ, فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا, وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ, قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ. فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى تَحْلِيلِهِ, وَهَذَا هُوَ الآخَرُ النَّاسِخُ, لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ بِلَا شَكٍّ لَمْ يَجْتَمِعْ قَطُّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ, وَحُنَيْنٍ, وَالطَّائِفِ, وَلَمْ يَغْزُ عليه السلام بَعْدَهَا إلَّا تَبُوكَ, وَلَمْ تُصِبْهُمْ فِي تَبُوكَ مَجَاعَةٌ أَصْلًا. وَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْخَبَرِ بِلَا مِرْيَةٍ فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً وَصَحَّتْ إبَاحَتُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ: وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/432)
1033- مَسْأَلَةٌ: وَالأَرْنَبُ حَلاَلٌ, لأََنَّهُ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهَا, وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا;
(7/432)
رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ أَوْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الأَرْنَبَ.
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبَاهُ كَرِهَا الأَرْنَبَ وَأَكَلَهَا سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ كَرِهَ
الأَرْنَبَ. وَاحْتَجَّ مَنْ كَرِهَهَا بِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا أَبُو
مَكِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِأَرْنَبٍ
فَقِيلَ لَهُ: إنَّهَا تَحِيضُ فَكَرِهَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ:
سَأَلَ جَرِيرُ بْنُ أَنَسٍ الأَسْلَمِيُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ
الأَرْنَبِ فَقَالَ: لاَ آكُلُهَا أُنْبِئْتُ أَنَّهَا تَحِيضُ.
قال أبو محمد: عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ هَالِكٌ وَحَدِيثُ عِكْرِمَةَ
مُرْسَلٌ, وَقَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ صَادَ أَرْنَبًا فَأَتَى بِهَا أَبَا طَلْحَةَ
فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا
وَفَخْذَيْهَا فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ
بِأَرْنَبٍ مَشْوِيَّةٍ فَلَمْ يَأْكُلْ عليه السلام مِنْهَا وَأَمَرَ عليه السلام
الْقَوْمَ فَأَكَلُوا فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي تَحْلِيلِهَا وَقَدْ يَكْرَهُهَا
عليه السلام خِلْقَةً, لاَ لأَِثْمٍ فِيهَا, وَنَحْنُ لَعَمْرُ اللَّهِ
نَكْرَهُهَا جُمْلَةً، وَلاَ نَقْدِرُ عَلَى أَكْلِهَا أَصْلاً, وَلَيْسَ هَذَا
مِنْ التَّحْرِيمِ فِي شَيْءٍ.
(7/433)
1034- مَسْأَلَةٌ: وَالْخَلُّ الْمُسْتَحِيلُ، عَنِ الْخَمْرِ حَلاَلٌ تَعَمَّدَ تَخْلِيلَهَا أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِلاَّ أَنَّ الْمُمْسِكَ لِلْخَمْرِ لاَ يُرِيقُهَا حَتَّى يُخَلِّلَهَا أَوْ تَتَخَلَّلَ مِنْ ذَاتِهَا: عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجَرَّحُ الشَّهَادَةِ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخَمْرَ مُفَصَّلٌ تَحْرِيمُهَا, وَالْخَلُّ حَلاَلٌ لَمْ يُحَرَّمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ الإِدَامُ الْخَلُّ فَإِذًا الْخَلُّ حَلاَلٌ" , فَهُوَ بِيَقِينٍ غَيْرُ الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ, وَإِذَا سَقَطَتْ، عَنِ الْعَصِيرِ الْحَلاَلِ صِفَاتُ الْعَصِيرِ وَحَلَّتْ فِيهِ صِفَاتُ الْخَمْرِ فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ عَصِيرًا حَلاَلاً, بَلْ هِيَ خَمْرٌ مُحَرَّمَةٌ, وَإِذَا سَقَطَتْ، عَنْ تِلْكَ الْعَيْنِ صِفَاتُ الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ وَحَلَّتْ فِيهَا صِفَاتُ الْخَلِّ الْحَلاَلِ, فَلَيْسَتْ خَمْرًا مُحَرَّمَةً, بَلْ هِيَ خَلٌّ حَلاَلٌ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ إنَّمَا الأَحْكَامُ عَلَى الأَسْمَاءِ فَإِذَا بَطَلَتْ تِلْكَ الأَسْمَاءُ بَطَلَتْ تِلْكَ الأَحْكَامُ الْمَنْصُوصَةُ عَلَيْهَا وَحَدَثَتْ لَهَا أَحْكَامُ الأَسْمَاءِ الَّتِي انْتَقَلَتْ إلَيْهَا فَلِلصَّغِيرِ حُكْمُهُ, وَلِلْبَالِغِ حُكْمُهُ, وَلِلْمَيِّتِ حُكْمُهُ, وَلِلدَّمِ حُكْمُهُ, وَلِلْغِذَاءِ الَّذِي اسْتَحَالَ مِنْهُ حُكْمُهُ, وَلِلَّبَنِ, وَاللَّحْمِ الْمُسْتَحِيلَيْنِ، عَنِ الدَّمِ حُكْمُهُمَا; وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ. وَلاَ مَعْنَى لِتَعَمُّدِ تَخْلِيلِهَا, أَوْ لِتَخْلِيلِهَا مِنْ ذَاتِهَا لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ
(7/433)
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ, وَإِنَّمَا الْحَرَامُ إمْسَاكُ الْخَمْرِ فَقَطْ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ تَخْلِيلِهَا أَوْ تَرْكِ تَخْلِيلِهَا, بَلْ الْمُرِيدُ لِبَقَائِهَا خَمْرًا أَعْظَمُ إثْمًا وَأَكْثَرُ جُرْمًا مِنْ الْمُتَعَمِّدِ لأَِفْسَادِهَا وَالْقَاصِدِ لِتَغْيِيرِهَا وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ. وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: إذَا تَخَلَّلَتْ حَلَّتْ, وَإِنْ خُلِّلَتْ لَمْ تَحِلَّ وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ وَرُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيِّينَ: أَنَّ كُلَّ خَلٍّ تَوَلَّدَ مِنْ خَمْرٍ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا عِصْيَانُ مُمْسِكِ الْخَمْرِ: فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ قَالَ:، نا زَكَرِيَّا، هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يَحْيَى النَّخَعِيِّ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيذِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ, وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِسِقَاءٍ فَجُعِلَ فِيهِ زَبِيبٌ وَمَاءٌ جُعِلَ مِنْ اللَّيْلِ فَأَصْبَحَ فَشَرِبَ مِنْهُ يَوْمَهُ وَاللَّيْلَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ وَمِنْ الْغَدِ حَتَّى أَمْسَى فَشَرِبَ وَسَقَى فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ فَأُهْرِقَ. فَلاَ يَحِلُّ إمْسَاكُ الْخَمْرِ أَصْلاً. فإن قيل: فَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى خَلٍّ لاَ يَأْثَمُ مُعَانِيهِ قلنا: نَعَمْ, بِأَنْ يَكُونَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ يُلْقَى فِي الظَّرْفِ صَحِيحًا فَإِذَا كَانَ فِي اسْتِقْبَالِ الصَّيْفِ الَّذِي يَأْتِي عُصِرَ فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَصِرُ إِلاَّ الْخَلُّ الصِّرْفُ. وَلاَ يُسَمَّى خَمْرًا مَا لَمْ يَبْرُزْ مِنْ الْعِنَبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ عَصَرَ الْعِنَبَ, أَوْ نَبَذَ الزَّبِيبَ أَوْ التَّمْرَ ثُمَّ صَبَّ عَلَى الْعَصِيرِ الْحُلْوِ أَوْ النَّبِيذِ الْحُلْوِ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِمَا الْغَلَيَانُ مِثْلَ كِلَيْهِمَا خَلًّا حَاذِقًا, فَإِنَّهُ يَتَخَلَّلُ, وَلاَ يَصِيرُ خَمْرًا أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/434)
1034 - مَسْأَلَةٌ: وَالسَّمْنُ الذَّائِبُ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ مَاتَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَمُتْ: فَهُوَ حَرَامٌ, لاَ يَحِلُّ إمْسَاكُهُ أَصْلاً, بَلْ يُهْرَاقُ, فَإِنْ كَانَ جَامِدًا أُخِذَ مَا حَوْلَ الْفَأْرِ فَرُمِيَ, وَكَانَ الْبَاقِي حَلاَلاً كَمَا كَانَ. وَأَمَّا كُلُّ مَا عَدَا السَّمْنِ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ أَوْ غَيْرُ الْفَأْرِ فَيَمُوتُ أَوْ لاَ يَمُوتُ فَهُوَ كُلُّهُ حَلاَلٌ كَمَا كَانَ, مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ, فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ الْحَرَامُ فَهُوَ حَرَامٌ. وَكَذَلِكَ السَّمْنُ يَقَعُ فِيهِ غَيْرُ الْفَأْرِ فَيَمُوتُ أَوْ لاَ يَمُوتُ فَهُوَ حَلاَلٌ كُلُّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَغْيِيرُ الْحَرَامِ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَا, وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْقِصَّةَ كُلَّهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهَا وَعُمْدَتُهُ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا جَاءَ فِي السَّمْنِ الذَّائِبِ فِيهِ الْفَأْرُ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى مَا عَدَاهُ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/434)
وما
سقط من الطعام ففرض أكله ولعق الأصابع بعد تمام الأكل فرض
...
1035 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا سَقَطَ مِنْ الطَّعَامِ فَفَرْضٌ أَكْلُهُ, وَلَعْقُ
الأَصَابِعِ بَعْدَ تَمَامِ
(7/434)
1036 مَسْأَلَةٌ: وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مُتَّكِئًا وَلَا نَكْرَهُهُ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرَامًا, لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَمَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَهُوَ حَلَالٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو نُعَيْمٍ نا مِسْعَرٌ هُوَ ابْنُ كِدَامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لَا آكُلُ مُتَّكِئًا" فَلَيْسَ هَذَا نَهْيًا أَصْلًا لَكِنَّهُ آثَرَ الْأَفْضَلَ فَقَطْ. فَإِنْ ذَكَرُوا: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ. قُلْنَا: هَذَا خَبَرٌ لَمْ يَسْمَعْهُ جَعْفَرٌ مِنْ الزُّهْرِيِّ, قَالَ أَبُو دَاوُد: نا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ نا أَبِي نا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثُ نَفْسُهُ, فَسَقَطَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/435)
1037
- مَسْأَلَةٌ: وَغَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ حَسَنٌ: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ
مُعَاوِيَةَ، نا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَامَ
وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنَّ
إِلاَّ نَفْسَهُ".
قال أبو محمد: فَهَذَا نَدْبٌ لاَ أَمْرٌ, وَالْجُرَذُ رُبَّمَا عَضَّ أَصَابِعَ
الْمَرْءِ إذَا شَمَّ فِيهَا رَائِحَةَ الطَّعَامِ وَلَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنْ
غَسْلِ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ, وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: هُوَ مِنْ فِعْلِ
الأَعَاجِمِ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا وَإِنَّ أَكْلَ الْخُبْزِ لَمِنْ فِعْلِ
الأَعَاجِمِ, وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَهُ أَوْ كَرَاهِيَتَهُ
لَنَا لَبَيَّنَهُ فإن قيل: فَقَدْ صَحَّ الْخَبَرُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَنَّهُ قُرِّبَ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَقِيلَ لَهُ: أَلاَ تَتَوَضَّأ؟
(7/435)
1038- مَسْأَلَةٌ: وَحَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الأَكْلِ حَسَنٌ وَلَوْ بَعْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ لأََنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِرٍّ, وَفِي كُلِّ حَالٍ.
(7/436)
1039-
مَسْأَلَةٌ: وَقَطْعُ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ لِلأَكْلِ حَسَنٌ, وَلاَ نَكْرَهُ
قَطْعَ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ لِلأَكْلِ أَيْضًا وَتُسْتَحَبُّ الْمَضْمَضَةُ
مِنْ الطَّعَامِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا
سُفْيَانُ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ، عَنْ بَشِيرِ
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ النُّعْمَانِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَكَلَ سَوِيقًا ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ. وَمِنْ طَرِيقِ
اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
شَرِبَ لَبَنًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ بِالْمَاءِ وَقَالَ: إنَّ لَهُ دَسَمًا. وَصَحَّ
أَنَّهُ عليه السلام شَرِبَ لَبَنًا وَلَمْ يَتَمَضْمَضْ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا
أَمْرٌ، وَلاَ نَهْيٌ فَهِيَ فِعْلٌ حَسَنٌ وَمُبَاحٌ: وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ،
نا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ
فَدُعِيَ إلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا
ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَلَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنْ قَطْعِ
الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ بِالسِّكِّينِ فَهُوَ مُبَاحٌ. وَجَاءَ خَبَرٌ فِيهِ:
"لاَ تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ, فَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ
الأَعَاجِمِ", وَهُوَ لاَ يَصِحُّ لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ
لِلْمَدِينِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/436)
والأكل
في إناء مفضض بالجواهر والياقوت
...
1040- مَسْأَلَةٌ: وَالأَكْلُ فِي إنَاءٍ مُفَضَّضٍ بِالْجَوْهَرِ, وَالْيَاقُوتِ,
وَفِي الْبَلُّورِ, وَالْجَزِعِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ مِنْ السَّرَفِ لأََنَّهُ لَوْ
كَانَ حَرَامًا لَفَصَّلَ تَحْرِيمَهُ, وَمَا لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ فَهُوَ
حَلاَلٌ, وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آنِيَةَ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ فَهِيَ
حَرَامٌ وَأَمْسَكَ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ حَلاَلٌ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، نا
مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ
وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله
عليه وسلم وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلاَلَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ فَمَا
أَحَلَّ فَهُوَ حَلاَلٌ, وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ, وَمَا سَكَتَ عَنْهُ
فَهُوَ عَفْوٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ
يَقُولُ: أَحَلَّ اللَّهُ حَلاَلَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ, فَمَا أَحَلَّ
(7/436)
1041- مَسْأَلَةٌ: وَالثُّومُ, وَالْبَصَلُ, وَالْكُرَّاثُ حَلاَلٌ إِلاَّ أَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا فَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ حَتَّى تَذْهَبَ الرَّائِحَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ وَلَهُ الْجُلُوسُ فِي الأَسْوَاقِ, وَالْجَمَاعَاتِ وَالأَعْرَاسِ وَحَيْثُ شَاءَ إِلاَّ الْمَسَاجِدَ لأََنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ إِلاَّ فِيهَا.
(7/437)
1042-
مَسْأَلَةٌ: وَالْجَرَادُ حَلَالٌ إذَا أُخِذَ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا سَوَاءٌ
بَعْدَ ذَلِكَ مَاتَ فِي الظُّرُوفِ أَوْ لَمْ يَمُتْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ نا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ نا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي
يَعْفُورٍ [قَالَ] سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قَالَ: غَزَوْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ سِتًّا نَأْكُلُ
مَعَهُ الْجَرَادَ وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ لَا بَأْسَ بِالْجَرَادِ, وَعَنْ ابْنِ
عُمَرَ الْجَرَادُ ذَكَاةٌ كُلُّهُ, وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَرَادِ لَا
بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ, فَلَمْ
يَسْتَثْنُوا فِيهِ حَالًا مِنْ حَالٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَحِلُّ وَإِنْ أُخِذَ حَيًّا إلَّا حَتَّى يُقْتَلَ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا
تَمْكُنُ فِيهِ, وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إنْ وُجِدَ مَيِّتًا
فَإِنْ أُخِذَ حَيًّا حَلَّ كَيْفَ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ, رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سَلْمَانَ أَنَّهُ
سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ فِي الْجَرَادِ: مَا أُخِذَ وَهُوَ
حَيٌّ ثُمَّ مَاتَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَخْذُ
الْجَرَادِ ذَكَاتُهُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} . فَمَا وُجِدَ مَيِّتًا فَهُوَ حَرَامٌ, وَقَالَ
تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ
أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} . وَصَحَّ أَكْلُ الْجَرَادِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَصَحَّ بِالْحِسِّ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُمْكِنُ فِيهِ فَسَقَطَتْ,
فَصَحَّ أَنَّ أَخْذَهُ ذَكَاتُهُ لِأَنَّهُ صَيْدٌ نَالَتْهُ أَيْدِينَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا
إبَاحَةُ مَا نَالَتْهُ أَيْدِينَا حَيًّا دُونَ مَا نَالَتْهُ مَيِّتًا, وَصَحَّ
فِي كُلِّ مَقْدُورٍ عَلَى تَذْكِيَتِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّكَاةِ
وَالذَّكَاةُ الشَّقُّ وَهِيَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا فِي الْجَرَادِ
فَارْتَفَعَ حُكْمُهَا عَنْهُ رحمه الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إلَّا وُسْعَهَا} وَقَدْ صَحَّ
(7/437)
واكثار
المرق حسن وتعاهد الجيران منه لو مرة فرض
...
1043- مَسْأَلَةٌ: وَإِكْثَارُ الْمَرَقِ حَسَنٌ, وَتَعَاهُدُ الْجِيرَانِ مِنْهُ
وَلَوْ مَرَّةً فَرْضٌ; وَذَمُّ مَا قُدِّمَ إلَى الْمَرْءِ مِنْ الطَّعَامِ
مَكْرُوهٌ, لَكِنْ إنْ اشْتَهَاهُ فَلْيَأْكُلْهُ وَإِنْ كَرِهَهُ فَلْيَدَعْهُ
وَلْيَسْكُتْ. وَالأَُكْلُ مُعْتَمِدًا عَلَى يُسْرَاهُ مُبَاحٌ: رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا طَبَخْتُمْ اللَّحْمَ فَأَكْثِرُوا الْمَرَقَ وَأَطْعِمُوا
الْجِيرَانَ" . وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا فَلْيُنَاوِلْهُ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ
أُكْلَتَيْنِ" يَعْنِي صَانِعَهُ, فَصَحَّ أَنَّ التَّعْلِيلَ مِنْ الْمَرَقِ
مُبَاحٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ نا سُفْيَانُ
عَنِ الأَُعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ - هُوَ الأَُشْجَعِيُّ - عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ
إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ
عَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَسَارِ شَيْءٌ - وَرُوِيَ فِيهِ أَثَرٌ مُرْسَلٌ لَا
يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ "زَجَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ
الْيُسْرَى عِنْدَ الأَُكْلِ" وَلَا حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/438)
كتاب
التذكية
باب التذكية
لا يحل أكل شئ مما يحل أكله من حيوان البر طائره ودارجه
...
كِتَابُ التَّذْكِيَةِ
1044- مَسْأَلَةٌ: لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ
حَيَوَانِ الْبَرِّ طَائِرُهُ وَدَارِجُهُ إِلاَّ بِذَكَاةٍ كَمَا قَدَّمْنَا
حَاشَا الْجَرَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُ وَالتَّذْكِيَةُ قِسْمَانِ, قِسْمٌ
فِي مَقْدُورٍ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ, وَقِسْمٌ فِي غَيْرِ مَقْدُورٍ
عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُ; وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ;
فَتَذْكِيَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ
لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا شَقٌّ فِي الْحَلْقِ وَقَطْعٌ يَكُونُ الْمَوْتُ فِي
أَثَرِهِ. وَأَمَّا نَحْرٌ فِي الصَّدْرِ يَكُونُ الْمَوْتُ فِي أَثَرِهِ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّيْدِ الشَّارِدِ أَوْ
مِنْ غَيْرِ الصَّيْدِ, وَهَذَا حُكْمٌ وَرَدَ بِهِ النَّصُّ بِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} وَالذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ وَهُوَ
أَيْضًا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى جُمْلَتِهِ إِلاَّ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي
تَقْسِيمِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(7/438)
وأكمال
الذبح هو أن يقطع الودجان والحلقوم والمرئ
...
1045 - مَسْأَلَةٌ: وَإِكْمَالُ الذَّبْحِ هُوَ أَنْ يُقْطَعَ الْوَدَجَانِ
وَالْحُلْقُومُ, وَالْمَرِيءُ وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ.
(7/438)
1046 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ قَطَعَ الْبَعْضَ مِنْ هَذِهِ الآرَابِ الْمَذْكُورَةِ فَأَسْرَعَ الْمَوْتُ كَمَا
(7/438)
1047-
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا جَازَ ذَبْحُهُ جَازَ نَحْرُهُ, وَكُلُّ مَا جَازَ
نَحْرُهُ جَازَ ذَبْحُهُ: الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ, وَالْخَيْلُ,
وَالدَّجَاجُ, وَالْعَصَافِيرُ, وَالْحَمَامُ, وَسَائِرُ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ; فَإِنْ شِئْت فَاذْبَحْ, وَإِنْ شِئْت فَانْحَرْ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ,
وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَبَعْضُ
أَصْحَابِنَا. وقال مالك: الْغَنَمُ, وَالطَّيْرُ, تُذْبَحُ، وَلاَ تُنْحَرُ,
فَإِنْ نُحِرَ شَيْءٌ مِنْهَا لَمْ يُؤْكَلْ وَأَمَّا الإِبِلُ فَتُنْحَرُ, فَإِنْ
ذُبِحَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يُؤْكَلْ, وَأَمَّا الْبَقَرُ فَتُذْبَحُ وَتُنْحَرُ،
وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ سَلَفًا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَصْلاً,
إِلاَّ رِوَايَةً، عَنْ عَطَاءٍ فِي الْبَعِيرِ خَاصَّةً قَدْ رُوِيَ عَنْهُ
خِلاَفُهَا, وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ذَبْحَ الْجَمَلِ تَعْذِيبٌ
لَهُ لِطُولِ عُنُقِهِ, وَغِلَظِ جِلْدِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ, وَمَا تَعْذِيبُهُ بِالذَّبْحِ
إِلاَّ كَتَعْذِيبِهِ بِالنَّحْرِ، وَلاَ فَرْقَ, وَمَا جِلْدُهُ بِأَغْلَظَ مِنْ
جِلْدِ الثَّوْرِ, وَمَا عُنُقُهُ بِأَطْوَلَ مِنْ عُنُقِ الإِبِلِ وَهُوَ يَرَى
الذَّبْحَ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَمَا تَعْذِيبُ الْعُصْفُورِ, وَالْحَمَامَةِ, وَالدَّجَاجَةِ
بِالنَّحْرِ إِلاَّ كَتَعْذِيبِهَا بِالذَّبْحِ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَطْرَفُ شَيْءٍ
احْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ فَيُجِيزُونَ فِيهَا
النَّحْرَ وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ يَلْزَمُنَا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بَنِي
إسْرَائِيلَ. فَإِنْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
نَحَرَ الإِبِلَ بِمِنًى, وَذَبَحَ الْكَبْشَيْنِ إذْ ضَحَّى بِهِمَا قلنا:
نَعَمْ, وَهَذَا فِعْلٌ لاَ أَمْرٌ, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا
الْفِعْلِ, وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ
مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَهَذَا هُوَ
الْفُتْيَا الْمُبِينَةُ الَّتِي لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهَا, لاَ الْعَمَلُ الَّذِي
لَمْ يُنْهَ عَمَّا سِوَاهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ
هَذِهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِ عَبَّاسٍ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ
وَاللَّبَّةِ, وَلَمْ يَخُصَّا بِإِحْدَاهُمَا حَيَوَانًا مِنْ حَيَوَانٍ بَلْ
هَتَفَ عُمَرُ بِذَلِكَ مُجْمَلاً، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ أَصْلاً. بَلْ قَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي
إبَاحَةِ أَكْلِ بَعِيرٍ ضُرِبَ عُنُقُهُ بِالسَّيْفِ وَرَأَى ذَلِكَ ذَكَاةً
وَحَيَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا وَهْبُ بْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ
سَمِعَ
(7/445)
عِكْرِمَةَ
يُحَدِّثُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ جَزُورًا وَهُوَ مُحْرِمٌ,
وَالْجَزُورُ الْبَعِيرُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الذَّبْحَ فِي
الْقُرْآنِ, فَإِنْ ذَبَحْت شَيْئًا يُنْحَرُ أَجْزَى عَنْك. وَمِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، نا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الذَّبْحُ مِنْ النَّحْرِ,
وَالنَّحْرُ مِنْ الذَّبْحِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَقَتَادَةَ, قَالاَ جَمِيعًا: الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ إنْ
شِئْت ذَبَحْت وَإِنْ شِئْت نَحَرْت. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ الذَّبْحُ
فِيهِمْ, وَالنَّحْرُ فِيكُمْ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ, فَصَلِّ
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ.
قال أبو محمد: قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}
وَقَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا" وَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَبْحًا
مِنْ نَحْرٍ, وَلاَ نَحْرًا مِنْ ذَبْحٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ هُوَ زُهَيْرُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ حَدَّثَنِي جُنْدُبُ بْنُ
سُفْيَانَ قَالَ شَهِدْتُ الأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ
نُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى, وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ
بِاسْمِ اللَّهِ" . وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ اليامي، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ
نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ
سُنَّتَنَا وَمِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ
لأََهْلِهِ وَذَكَرَ الْخَبَرَ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
حَاتِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو
الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ صَلَّى بِنَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمَدِينَةِ فَتَقَدَّمَ
رِجَالٌ فَنَحَرُوا وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَحَرَ
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ
بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلاَ يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِ
الأَضَاحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ
بِالْمُصَلَّى فَأَطْلَقَ عليه السلام فِي الأَضَاحِيِّ الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ
عُمُومًا وَفِيهَا الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِنَحْرٍ دُونَ ذَبْحٍ، وَلاَ بِذَبْحٍ دُونَ نَحْرٍ, وَلَوْ
كَانَ أَحَدُ الأَمْرَيْنِ لاَ يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ لَبَيَّنَهُ عليه السلام:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحَرْنَا
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا وَرُوِّينَا عَنْهَا
أَيْضًا ذَبَحْنَا فَرَسًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/446)
وأما
غير المتمكن منه فذكاته أن يمات بذبح أو بنحر حيث أمكن منه من خاصرة
...
1049- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَمَكَّنِ مِنْهُ فَذَكَاتُهُ أَنْ
يُمَاتَ بِذَبْحٍ أَوْ بِنَحْرٍ حَيْثُ
(7/446)
أَمْكَنَ
مِنْهُ مِنْ خَاصِرَةٍ, أَوْ مِنْ عَجُزٍ, أَوْ فَخِذٍ, أَوْ ظَهْرٍ, أَوْ بَطْنٍ,
أَوْ رَأْسٍ, كَبَعِيرٍ, أَوْ شَاةٍ, أَوْ بَقَرَةٍ, أَوْ دَجَاجَةٍ, أَوْ
طَائِرٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: سَقَطَ فِي غَوْرٍ فَلَمْ يُتَمَكَّنْ مِنْ
حَلْقِهِ, وَلاَ مِنْ لِبَتِهِ, فَإِنَّهُ يَطْعَنُ حَيْثُ أَمْكَنَ بِمَا
يُعَجِّلُ بِهِ مَوْتَهُ, ثُمَّ هُوَ حَلاَلٌ أَكْلُهُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا
اسْتَعْصَى مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِهِ; فَإِنَّ
ذَكَاتَهُ كَذَكَاةِ الصَّيْدِ, ثُمَّ يُؤْكَلُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ
الصَّيْدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي ثَوْرٍ,
وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَصْحَابِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ
وَأَصْحَابِنَا. وقال مالك: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُذَكَّى أَصْلاً إِلاَّ فِي
الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ.
قال أبو محمد: وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
الْجَزَرِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ حِمَارًا وَحْشِيًّا
اسْتَعْصَى عَلَى أَهْلِهِ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَسَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ:
تِلْكَ أَسْرَعُ الذَّكَاةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ،
نا سُفْيَانُ, وَشُعْبَةُ كِلاَهُمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ
عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي
بِئْرٍ فَذُكِّيَ مِنْ قِبَلِ شَاكِلَتِهِ, فَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ مِنْهُ عَشِيرًا
بِدِرْهَمَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ حَدَّثَنِي
أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنِي عَبَايَةُ بْنُ
رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: تَرَدَّى بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ, فَكَانَ
أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ
يَنْحَرَهُ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَجِزْ عَلَيْهِ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ, فَأَجَازَ عَلَيْهِ مِنْ شَاكِلَتِهِ فَأُخْرِجَ قِطَعًا قِطَعًا
فَأَخَذَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ عَشِيرًا بِدِرْهَمَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ سَمِعَ أَبَا رَاشِدٍ
السَّلْمَانِيَّ قَالَ: كُنْت فِي مَنَائِحَ لأََهْلِي بِظَهْرِ الْكُوفَةِ
أَرْعَاهَا فَتَرَدَّى بَعِيرٌ مِنْهَا فَنَحَرْتُهُ مِنْ قِبَلِ شَاكِلَتِهِ,
فَأَتَيْت عَلِيًّا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اهْدِ لِي عَجُزَهُ: الشَّاكِلَةَ:
الْخَاصِرَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ، عَنْ
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي بِئْرٍ
فَصَارَ أَسْفَلُهُ أَعْلاَهُ, قَالَ: فَسَأَلْنَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
فَقَالَ: قَطِّعُوهُ أَعْضَاءً وَكُلُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ
هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ, قَالَ: مَا أَعْجَزَك مِنْ الْبَهَائِمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ
مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ: ابْنُ مَسْعُودٍ, وَعَلِيُّ, وَابْنُ
عَبَّاسٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ
الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سَأَلَ، عَنْ قَالِحٍ
تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَذُكِّيَ مِنْ قِبَلِ خَاصِرَتِهِ, فَقَالَ مَسْرُوقٌ:
كُلُوهُ.
(7/447)
وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا حُرَيْثٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إذَا خَشِيت أَنْ
يَفُوتَك ذَكَاتُهَا فَاضْرِبْ حَيْثُ أَدْرَكْت مِنْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
نا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
فِي الْبَعِيرِ يَتَرَدَّى فِي الْبِئْرِ قَالَ: يُطْعَنُ حَيْثُ قَدَرُوا ذِكْرَ
اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: تَرَدَّى بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ فَلَمْ يَجِدُوا
لَهُ مَقْتَلاً فَسُئِلَ الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ذَكُّوهُ
مِنْ أَدْنَى مَقْتَلِهِ; فَفَعَلُوا فَأَخَذَ الأَسْوَدُ مِنْهُ بِدِرْهَمَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْت الضَّحَّاكِ
يَقُولُ فِي بَقَرَةٍ شَرَدَتْ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ وَهُوَ قَوْلُ
عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَالْحَسَنِ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَلاَ نَعْلَمُ لِمَالِكٍ فِي
هَذَا سَلَفًا إِلاَّ قَوْلاً، عَنْ رَبِيعَةَ.
قال أبو محمد: وَقَالَ قَائِلُهُمْ: إنْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ
فَأَبِيحُوا قَتْلَهَا بِالْكِلاَبِ وَالْجَوَارِحِ.فَقُلْنَا: نَعَمْ, إذَا لَمْ
يُقْدَرْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالصَّيْدِ، وَلاَ فَرْقَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى
أَنَّ الصَّيْدَ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّعَمِ
وَالإِنْسِيَّاتِ فِي الذَّكَاةِ, فَهَلاَّ قَالُوا: إنَّ النِّعَمَ
وَالإِنْسِيَّاتِ إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهَا فَمَنْزِلَتُهَا كَمَنْزِلَةِ
الصَّيْدِ وَلَوْ صَحَّ قِيَاسٌ يَوْمًا مَا لَكَانَ هَذَا أَصَحَّ قِيَاسٍ فِي
الْعَالَمِ. وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: إنِّي لأََرَاهُ عَظِيمًا أَنْ
يُعْمَدَ إلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَيُهْرَقَ مِنْ أَجْلِ كَلْبٍ وَلَغَ
فِيهِ وَلَمْ يَقُلْ هَهُنَا: إنِّي لأََرَاهُ عَظِيمًا أَنْ يُعْمَدَ إلَى رِزْقٍ
مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَيُضَيَّعَ وَيُفْسَدَ لأََجْلِ أَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
لَبَّتِهِ, وَلاَ عَلَى حَلْقِهِ; فَلَوْ عُكِسَ كَلاَمُهُ لاََصَابَ; بَلْ
الْعَظِيمُ كُلُّ الْعَظِيمِ هُوَ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ"
فَيَقُولُ قَائِلٌ بِرَأْيِهِ: لاَ يُرَاقُ, وَأَنْ يَنْهَى النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ فَيُضَيَّعُ الْبَعِيرُ, وَالْبَقَرَةُ,
وَالشَّاةُ, وَالدَّجَاجَةُ, وَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى تَذْكِيَتِهَا مِنْ أَجْلِ
عَجْزِنَا، عَنْ أَنْ تَكُونَ التَّذْكِيَةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ; فَهَذَا
هُوَ الْعَظِيمُ حَقًّا.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}. وَقَالَ
تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فَصَحَّ أَنَّ
التَّذْكِيَةَ كَيْفَمَا قَدَرْنَا لاَ نُكَلَّفُ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِي
وُسْعِنَا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا
عَوَانَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْخَبَرَ وَفِيهِ فَنَدَّ بَعِيرٌ
وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ, فَأَهْوَى
إلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ
كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ
(7/448)
فَمَا
نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا
ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ
بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَدَّ عَلَيْنَا بَعِيرٌ فَرَمَيْنَاهُ بِالنَّبْلِ
حَتَّى وَهَصْنَاهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ عَلِيٌّ: الْوَهْصُ الْكَسْرُ وَالإِسْقَاطُ إلَى الأَرْضِ، وَلاَ يَبْلُغُ
الْبَعِيرُ هَذَا الأَمْرَ إِلاَّ وَهُوَ مَنْفَذُ الْمُقَاتِلِ, وَقَدْ أُذِنَ
عليه السلام فِي رَمْيِهِ بِالنَّبْلِ, وَالْمَعْهُودُ مِنْهَا الْمَوْتُ
بِإِصَابَتِهَا وَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ عليه السلام فِي ذَكَاتِهَا بِالرَّمْيِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَهُنَا خَبَرٌ لَوْ ظَفِرُوا بِمِثْلِهِ لَطَغَوْا: كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْعَشْرَاءِ، عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلاَّ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ قَالَ: "لَوْ
طُعِنَتْ فِي فَخْذِهَا لاََجْزَأَكَ".
قال أبو محمد: أَبُو الْعَشْرَاءِ قِيلَ: اسْمُهُ أُسَامَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قَهْطَمٍ,
وَقِيلَ: عُطَارِدُ بْنُ بَرْزٍ وَفِي الصَّحِيحِ الَّذِي قَدَّمْنَا كِفَايَةٌ.
وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَالصَّحَابَةِ,
وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ, وَالْقِيَاسَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/449)
1049- مَسْأَلَةٌ: وَمَا قُطِعَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ قَبْلَ تَمَامِ تَذْكِيَتِهَا فَبَانَ عَنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, فَإِنْ تَمَّتْ الذَّكَاةُ بَعْدَ قَطْعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أُكِلَتْ الْبَهِيمَةُ وَلَمْ تُؤْكَلْ تِلْكَ الْقِطْعَةُ وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ لأََنَّهَا زَايَلَتْ الْبَهِيمَةَ وَهِيَ حَرَامٌ أَكْلُهَا فَلاَ تَقَعُ عَلَيْهَا ذَكَاةٌ كَانَتْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا لَمَّا قُطِعَتْ مِنْهُ.
(7/449)
1050- مَسْأَلَةٌ: وَمَا قُطِعَ مِنْهَا بَعْدَ تَمَامِ التَّذْكِيَةِ وَقَبْلَ مَوْتِهَا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ مَا دَامَتْ الْبَهِيمَةُ حَيَّةً فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ هِيَ وَحَلَّتْ الْقِطْعَةُ أَيْضًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى أَكْلَ شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْجَنْبِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَوْتُ فَإِذَا مَاتَتْ فَالذَّكَاةُ وَاقِعَةٌ عَلَى جَمِيعِهَا إذْ ذُكِّيَتْ, فَاَلَّذِي قُطِعَ مِنْهَا مُذَكًّى فَإِذَا حَلَّتْ هِيَ حَلَّتْ أَجْزَاؤُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنَّ حُكْمَ الْبَدَنِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ مَا يُذَكَّى, وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ عُمَرَ: أَقِرُّوا الأَنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ.
(7/449)
والتذكية
من الذبح والنحر والطعن والضرب جائزة بكل شئ
...
1051- مَسْأَلَةٌ: وَالتَّذْكِيَةُ مِنْ الذَّبْحِ, وَالنَّحْرِ, وَالطَّعْنِ,
وَالضَّرْبِ جَائِزَةٌ بِكُلِّ شَيْءٍ إذَا قَطَعَ قِطْعَةَ السِّكِّينِ أَوْ
نَفَذَ نَفَاذَ الرُّمْحِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: الْعُودُ الْمُحَدَّدُ,
وَالْحَجَرُ الْحَادُّ, وَالْقَصَبُ الْحَادُّ وَكُلُّ شَيْءٍ حَاشَا آلَةٍ
أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَحَاشَا السِّنِّ, وَالظُّفْرِ, وَمَا عُمِلَ مِنْ
سِنٍّ, أَوْ مِنْ ظُفْرٍ مَنْزُوعَيْنِ وَإِلَّا عَظْمُ خِنْزِيرٍ, أَوْ عَظْمُ
حِمَارٍ أَهْلِيٍّ, أَوْ عَظْمُ سَبُعٍ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ أَوْ الطَّيْرِ
حَاشَا الضِّبَاعَ أَوْ عَظْمِ إنْسَانٍ فَلاَ يَكُونُ حَلاَلاً مَا ذُبِحَ أَوْ
نُحِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا بَلْ هُوَ مَيْتَةٌ حَرَامٌ.
وَالتَّذْكِيَةُ جَائِزَةٌ بِعَظْمِ الْمَيِّتَةِ وَبِكُلِّ عَظْمٍ حَاشَا مَا ذَكَرْنَا,
وَهِيَ جَائِزَةٌ بِمُدَى الْحَبَشَةِ وَمَا ذَكَّاهُ الزِّنْجِيُّ,
وَالْحَبَشِيُّ, وَكُلُّ مُسْلِمٍ فَهُوَ حَلاَلٌ. فَلَوْ عُمِلَ مِنْ ضِرْسِ
الْفِيلِ سَهْمٌ, أَوْ رُمْحٌ, أَوْ سِكِّينٌ: لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ
أَوْ نُحِرَ بِهِ, لأََنَّهُ سِنٌّ. فَلَوْ عُمِلَتْ مِنْ سَائِرِ عِظَامِهِ
هَذِهِ الآلاَتُ حَلَّ الذَّبْحُ, وَالنَّحْرُ, وَالرَّمْيُ بِهَا. وقال أبو
حنيفة, وَمَالِكٌ: التَّذْكِيَةُ بِكُلِّ ذَلِكَ حَلاَلٌ حَاشَا السِّنَّ قَبْلَ
أَنْ يُنْزَعَ مِنْ الْفَمِ, وَحَاشَا الظُّفْرَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَعَ مِنْ
الْيَدِ, فَإِنَّهُ لاَ يُؤْكَلُ مَا ذُبِحَ بِهِمَا لأََنَّهُ خَنْقٌ لاَ ذَبْحٌ.
وقال الشافعي: كُلُّ مَا ذُكِّيَ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَحَلاَلٌ أَكْلُهُ حَاشَا
مَا ذُكِّيَ بِشَيْءٍ مِنْ الأَظْفَارِ كُلِّهَا, وَالْعِظَامِ كُلِّهَا,
مَنْزُوعِ كُلِّ ذَلِكَ أَوْ غَيْرِ مَنْزُوعٍ, فَلاَ يُؤْكَلُ وَهُوَ قَوْلُ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ
سَوَاءً سَوَاءً إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُؤْكَلُ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ أَوْ
رُمِيَ بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فأما قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَمَالِكٍ فَلاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمَا، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمَا
فِيهِ سَلَفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, وَلاَ حُجَّةَ أَصْلاً لاَ مِنْ قُرْآنٍ,
وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ; بَلْ
هُوَ خِلاَفُ السُّنَّةِ عَلَى مَا نُورِدُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ جُمْلَةً, وَبَقِيَ قَوْلُنَا, وَقَوْلُ
الشَّافِعِيِّ, وَاللَّيْثِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبِي،
عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ
بْنِ خَدِيجٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لاَقُو الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَ
مَعَنَا مُدًى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ,
وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ,
وَسَأُحَدِّثُكَ, أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ, وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى
الْحَبَشَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا فِي التَّذْكِيَةِ
بِإِسْنَادِهِ. فأما نَحْنُ فَتَعَلَّقْنَا بِنَهْيِهِ عليه السلام وَلَمْ
نَتَعَدَّهُ وَلَمْ نُحَرِّمْ إِلاَّ مَا ذُبِحَ أَوْ رُمِيَ بِسِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ
فَقَطْ, وَلَمْ نَجْعَلْ الْعَظِيمَةَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ مِنْ الذَّكَاةِ إِلاَّ
حَيْثُ جَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَبًا لِذَلِكَ, وَهُوَ
السِّنُّ, وَالظُّفْرُ فَقَطْ. وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ التَّذْكِيَةِ بِعِظَامِ
الْخِنْزِيرِ, وَالْحِمَارِ الأَهْلِيِّ, أَوْ سِبَاعِ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ, أَوْ
الطَّيْرِ لقوله تعالى فِي الْخِنْزِيرِ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وَلِقَوْلِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ
فَهِيَ كُلُّهَا رِجْسٌ, وَالرِّجْسُ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ, وَلاَ يَحِلُّ
إمْسَاكُهَا إِلاَّ حَيْثُ أَبَاحَهَا نَصٌّ, وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ مِلْكُهَا
وَرُكُوبُهَا
(7/450)
وَاسْتِخْدَامُهَا
وَبَيْعُهَا وَابْتِيَاعُهَا يَعْنِي الْحُمُرَ فَقَطْ. وَمَنَعْنَا مِنْ
التَّذْكِيَةِ بِعِظَامِ سِبَاعِ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ, وَالطَّيْرِ لِنَهْيِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا جُمْلَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ
فَلَمْ نُحِلَّ مِنْهَا إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ النَّصُّ مِنْ تَمَلُّكِهَا
لِلصَّيْدِ بِهَا وَابْتِيَاعِهَا لِذَلِكَ فَقَطْ وَإِلَّا فَهِيَ حَرَامٌ
وَبَعْضُ الْحَرَامِ حَرَامٌ.
وَأَمَّا عَظْمُ الإِنْسَانِ فَلأََنَّ مُوَارَاتَهُ فَرْضٌ كَافِرًا كَانَ أَوْ
مُؤْمِنًا. وَأَبَحْنَا التَّذْكِيَةَ بِعِظَامِ الْمَيِّتَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا وَحُرِّمَ عليه
السلام بَيْعُهَا وَالدُّهْنُ بِشَحْمِهَا, فَلاَ يَحْرُمُ مِنْ الْمَيِّتَةِ
شَيْءٌ إِلاَّ ذَلِكَ، وَلاَ مَزِيدَ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فَإِنَّهُ عَظْمٌ فَجَعَلَ الْعَظْمِيَّةَ عِلَّةٌ لِلْمَنْعِ مِنْ التَّذْكِيَةِ
حَيْثُ كَانَ الْعَظْمُ أَوْ أَيُّ عَظْمٍ كَانَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ لأََنَّهُ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى
وَحُدُودِ رَسُولِهِ عليه السلام لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوْ
أَرَادَ ذَلِكَ لَمَا عَجَزَ، عَنْ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ الْعَظْمُ وَالظُّفْرُ,
وَهُوَ عليه السلام قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَأُمِرَ عليه السلام
بِالْبَيَانِ. فَلَوْ أَنَّهُ عليه السلام أَرَادَ تَحْرِيمَ الذَّكَاةِ
بِالْعَظْمِ لَمَا تَرَكَ أَنْ يَقُولَهُ، وَلاَ اسْتَعْمَلَ التَّحْلِيقَ
وَالإِكْثَارَ بِلاَ مَعْنَى فِي الأَقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ السِّنِّ, فَهَذَا
هُوَ التَّلْبِيسُ وَالإِشْكَالُ لاَ الْبَيَانُ, وَنَحْنُ وَهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ
أَنَّهُ عليه السلام حَكَمَ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّذْكِيَةِ بِالسِّنِّ
إنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ عَظْمًا, وَنَحْنُ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ عليه
السلام لَوْ أَرَادَ كُلَّ عَظْمٍ لَمَا سَكَتَ، عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ زَادُوا فِي
حُكْمِهِ عليه السلام مَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ. وَأَيْضًا فَقَدْ تَنَاقَضُوا فِي
هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ, لأََنَّهُ عليه السلام جَعَلَ السَّبَبَ فِي مَنْعِ
التَّذْكِيَةِ بِالظُّفْرِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُهُ مُدَى الْحَبَشَةِ
فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَطْرُدُوا أَصْلَهُمْ فَيَمْنَعُوا التَّذْكِيَةَ بِمُدَى
الْحَبَشَةِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا فَإِنْ
ادَّعَوْا هَهُنَا إجْمَاعًا كَانُوا كَاذِبِينَ قَائِلِينَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ
بِهِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الأَعْلَى،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَرِهَ
ذَبِيحَةَ الزِّنْجِيِّ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَجْعَلُ كَوْنَ مَا يُذَكَّى بِهِ
مِنْ مُدَى الْحَبَشَةِ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ أَكْلِهِ إِلاَّ فِي الظُّفْرِ
وَحْدَهُ, حَيْثُ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ نَجْعَلُ
الْعَظْمِيَّةَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ أَكْلِ مَا ذُكِّيَ بِمَا هِيَ فِيهِ إِلاَّ
فِي السِّنِّ وَحْدَهُ, حَيْثُ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام, وَهَذَا فِي
غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ
رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ قَالَ: يُذْبَحُ بِكُلِّ شَيْءٍ غَيْرِ أَرْبَعَةٍ السِّنِّ,
وَالظُّفْرِ, وَالْعَظْمِ, وَالْقَرْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كُلُّ مَا فَرَى الأَوْدَاجَ
وَأَهْرَاقَ الدَّمَ, إِلاَّ الظُّفْرَ, وَالنَّابَ, وَالْعَظْمَ.
وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَيْضًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ قَالَ: مَا فَرَى الأَوْدَاجَ فَكُلٌّ إِلاَّ السِّنَّ, وَالظُّفْرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ
(7/451)
سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ، نا خَدِيجُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ
قَالَ: كَانَ يُكْرَهُ النَّابُ وَالظُّفْرُ.
قال أبو محمد: وَخَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ هَذِهِ السُّنَّةَ
بِآرَائِهِمْ, وَلَيْسَ فِي الْعَجَبِ أَعْجَبُ مِنْ إخْرَاجِهِمْ الْعِلَلَ
الْكَاذِبَةَ الْفَاسِدَةَ الْمُفْتَرَاةَ: مِنْ مِثْلِ تَعْلِيلِ الرِّبَا
بِالأَدِّخَارِ وَالأَكْلِ, وَتَعْلِيلِ مِقْدَارِ الصَّدَاقِ بِأَنَّهُ عِوَضُ
مَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْعُضْوُ, وَسَائِرُ تِلْكَ الْعِلَلِ السَّخِيفَةِ
الْبَارِدَةِ الْمَكْذُوبَةِ, ثُمَّ يَأْتُونَ إلَى مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم سَبَبًا لِتَحْرِيمِ أَكْلِ مَا ذُكِّيَ بِهِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ
عَظْمٌ وَإِنَّهُ مُدَى الْحَبَشَةِ، وَلاَ يُعَلِّلُونَ بِهِمَا بَلْ
يَجْعَلُونَهُ لَغْوًا مِنْ الْكَلاَمِ وَيُخْرِجُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عِلَّةً
كَاذِبَةً سَخِيفَةً وَهِيَ الْخَنْقُ. وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ أَطَالَ ظُفْرَهُ
جِدًّا وَشَحَذَهُ وَرَقَّقَهُ حَتَّى ذَبَحَ بِهِ عُصْفُورًا صَغِيرًا فَبُرِيَ
كَمَا تُبْرَى السِّكِّينُ أَيُؤْكَلُ أَمْ لاَ فَإِنْ قَالُوا: لاَ, تَرَكُوا
عِلَّتَهُمْ فِي الْخَنْقِ. وَإِنْ قَالُوا: يُؤْكَلُ, تَرَكُوا قَوْلَهُمْ فِي
الظُّفْرِ الْمَنْزُوعِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُرَيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ
وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ" . قلنا: هَذَا خَبَرٌ سَاقِطٌ, لأََنَّهُ، عَنْ
سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ وَهُوَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ، عَنْ مُرَيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ
وَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ خَبَرُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ زَائِدًا
عَلَيْهِ تَخْصِيصًا يَلْزَمُ إضَافَتُهُ إلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ لِيَسْتَعْمِلَ
الْخَبَرَيْنِ مَعًا. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ
عَوْفٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ
أَرْنَبٍ ذَبَحْتُهَا بِظُفْرِي فَقَالَ: لاَ تَأْكُلْهَا فَإِنَّهَا
الْمُنْخَنِقَةُ, وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا قَتَلْتهَا خَنْقًا, فَلاَ
حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ
وَخِلاَفُ قَوْلِهِمْ; لأََنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَشْتَرِطْهُ مَنْزُوعًا مِنْ
غَيْرِ مَنْزُوعٍ.
وَأَمَّا مَنْعُنَا مِنْ أَكْلِ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ أَوْ رُمِيَ بِآلَةٍ
مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . وَلاَ
شَكَّ فِي أَنَّ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ,
فَبِالْبَاطِلِ تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُ, وَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ بِيَقِينٍ
فَبِالْبَاطِلِ يُؤْكَلُ, وَهَذَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ
الذَّكَاةَ فِعْلٌ مُفْتَرَضٌ مَأْمُورٌ بِهِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ,
وَاسْتِعْمَالُ الْمَأْخُوذَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الذَّبْحِ, وَالنَّحْرِ,
وَالرَّمْيِ: فِعْلٌ مُحَرَّمٌ مَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى. هَذَانِ قَوْلاَنِ
مُتَيَقَّنَانِ بِلاَ خِلاَفٍ, فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَمِنْ الْبَاطِلِ الْبَحْتِ,
وَالْكَذِبِ الظَّاهِرِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ، عَنِ الطَّاعَةِ وَأَنْ
يَكُونَ مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَ بِهِ مُؤَدِّيًا
لِمَا أُمِرَ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/452)
وما
ثرد وخزق ولم ينفذ نفاذ السكين والسهم لم يحل أكل ما قتل به
...
1052- مَسْأَلَةٌ: وَمَا ثَرَدَ وَخَزَقَ وَلَمْ يَنْفُذْ نَفَاذَ السِّكِّينِ,
وَالسَّهْمِ: لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ
(7/452)
مَا قُتِلَ بِهِ, وَكَذَلِكَ مَا ذُبِحَ بِمِنْشَارٍ, أَوْ بِمِنْجَلٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ, وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ, وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" . فَالْمُثْرِدُ وَالذَّابِحُ بِشَيْءٍ مُضْرِسٍ لَمْ يَذْبَحْ كَمَا أُمِرَ، وَلاَ ذَكَّى كَمَا أُمِرَ, فَهِيَ مَيْتَةٌ وَالْعَجَبُ مِنْ مَنْعِهِمْ الأَكْلَ هَهُنَا, لأََنَّهُ لَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ وَلَمْ يَذْبَحْ بَلْ بِآلَةِ نُهِيَ عَنْهَا, ثُمَّ يُجِيزُونَ أَكْلَ مَا نُحِرَ أَوْ ذُبِحَ بِآلَةٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/453)
و
لا يجوز التذكية بآلة ذهب أو مذهبة أصلاً للرجال
...
1053- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ التَّذْكِيَةُ بِآلَةٍ ذَهَبٍ أَوْ مُذَهَّبَةٍ
أَصْلاً لِلرِّجَالِ, فَإِنْ فَعَلَ الرَّجُلُ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ. فَإِنْ ذَكَّتْ بِهَا امْرَأَةٌ فَهُوَ حَلاَلٌ لِلرِّجَالِ
وَلِلنِّسَاءِ, لِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذَّهَبَ عَلَى
ذُكُورِ أُمَّتِهِ وَإِبَاحَتِهِ إيَّاهُ لأَِنَاثِهَا. فَمَنْ ذَكَّى مِنْ
الرِّجَالِ بِآلَةِ ذَهَبٍ أَوْ مُذَهَّبَةٍ فَقَدْ اسْتَعْمَلَ آلَةً مُحَرَّمَةٌ
عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهَا فَلَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ وَالْمَرْأَةُ بِخِلاَفِ
ذَلِكَ.
(7/453)
1054- مَسْأَلَةٌ: التَّذْكِيَةُ بِآلَةِ فِضَّةٍ حَلاَلٌ, لأََنَّهُ لَمْ يُنْهَ إِلاَّ، عَنْ آنِيَتِهَا فَقَطْ, وَلَيْسَ السِّكِّينُ, وَالرُّمْحُ وَالسَّهْمُ, وَلاَ السَّيْفُ: آنِيَةٌ.
(7/453)
فمن
لم يجد سناً أو ظفراً أو عظم سبع أو طائر
...
1055- مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ سِنًّا, أَوْ ظُفْرًا, أَوْ عَظْمَ
سَبُعٍ, أَوْ طَائِرٍ, أَوْ ذِي أَرْبَعٍ أَوْ خِنْزِيرٍ, أَوْ حِمَارٍ, أَوْ إنْسَانٍ,
أَوْ ذَهَبٍ, وَخَشِيَ مَوْتَ الْحَيَوَانِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا
ذُكِّيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, لأََنَّهُ لاَ يَكُونُ ذَكَاةٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا
كُلِّهِ أَصْلاً, فَهُوَ عَادِمُ مَا يُذْكِي بِهِ, وَلَيْسَ مُضَيِّعًا لَهُ,
لأََنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَا يَجُوزُ أَنْ يُذَكِّيَهُ بِهِ, فَذَلِكَ الْحَيَوَانُ
غَيْرُ مُذَكًّى أَصْلاً.
(7/453)
1056- مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ آلَةً مَغْصُوبَةً, أَوْ مَأْخُوذَةً بِغَيْرِ حَقٍّ وَخَشِيَ الْمَوْتَ عَلَى حَيَوَانِهِ ذَكَّاهُ بِهَا وَحَلَّ لَهُ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَحَرَامٌ عَلَى صَاحِبِ الآلَةِ مَنْعُهُ مِنْهَا إذَا خَشِيَ ضَيَاعَ مَالِهِ بِمَوْتِهِ جِيفَةً, فَإِذْ هُوَ حَرَامٌ عَلَى صَاحِبِهَا مَنْعُهُ مِنْهَا, فَفُرِضَ عَلَى صَاحِبِ الْحَيَوَانِ أَخْذُهَا وَالتَّذْكِيَةُ بِهَا فَهُوَ مُطِيعٌ بِذَلِكَ أَحَبَّ صَاحِبُ الآلَةِ أَوْ كَرِهَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/453)
1057- مَسْأَلَةٌ: وَتَذْكِيَةُ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ, وَالزِّنْجِيِّ, وَالأَقْلَفِ, وَالأَخْرَسِ, وَالْفَاسِقِ, وَالْجُنُبِ, وَالآبِقِ, وَمَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ عَمْدًا, أَوْ غَيْرِ عَمْدٍ: جَائِزٌ أَكْلُهَا إذَا ذَكَّوْا وَسَمَّوْا عَلَى حَسْبِ طَاقَتِهِمْ, بِالإِشَارَةِ مِنْ الأَخْرَسِ, وَيُسَمَّى الأَعْجَمِيُّ بِلُغَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَخَاطَبَ كُلَّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ, وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ
(7/453)
وكل
ماذبحه أو نحره يهودي أو نصراني أو مجوسي نساؤهم أو رجالهم فهو حلال لنا
...
1058- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ذَبَحَهُ, أَوْ نَحَرَهُ يَهُودِيٌّ, أَوْ
نَصْرَانِيٌّ, أَوْ مَجُوسِيٌّ نِسَاؤُهُمْ, أَوْ رِجَالُهُمْ: فَهُوَ حَلاَلٌ
لَنَا, وَشُحُومُهَا حَلاَلٌ لَنَا إذَا ذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ.
وَلَوْ نَحَرَ الْيَهُودِيُّ بَعِيرًا أَوْ أَرْنَبًا حَلَّ أَكْلُهُ, وَلاَ
نُبَالِي مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَا لَمْ يُحَرَّمْ. وقال
مالك: لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شُحُومِ مَا ذَبَحَهُ الْيَهُودِيُّ, وَلاَ مَا
ذَبَحُوهُ مِمَّا لاَ يَسْتَحِلُّونَهُ وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ,
لأََنَّهُ خِلاَفُ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} . وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
بِذَلِكَ مَا ذَكَّوْهُ, لاَ مَا أَكَلُوهُ, لأََنَّهُمْ يَأْكُلُونَ
الْخِنْزِيرَ, وَالْمَيْتَةَ, وَالدَّمَ, وَلاَ يَحِلُّ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ وَمِنَّا, فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ اللَّهُ
تَعَالَى مَا أَكَلُوهُ مِمَّا لَمْ يَأْكُلُوهُ {وَمَا كَانَ
(7/454)
رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَأَمَّا الْقُرْآنُ, وَالإِجْمَاعُ: فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ, وَصَحَّ الإِجْمَاعُ بِأَنَّ دِينَ الإِسْلاَمِ نَسَخَ كُلَّ دِينٍ كَانَ قَبْلَهُ, وَأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ أَوْ الإِنْجِيلُ, وَلَمْ يَتَّبِعْ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُشْرِكٌ, غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ, فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ شَرِيعَةٍ كَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ, وَالإِنْجِيلِ, وَسَائِرِ الْمِلَلِ, وَافْتَرَضَ عَلَى الْجِنِّ, وَالإِنْسِ: شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ, فَلاَ حَرَامَ إِلاَّ مَا حُرِّمَ فِيهِ, وَلاَ حَلاَلَ إِلاَّ مَا حُلِّلَ فِيهِ, وَلاَ فَرْضَ إِلاَّ مَا فُرِضَ فِيهِ وَمَنْ قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ خِلاَفَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الأَئِمَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مِنْ حَدِيثِ جِرَابِ الشَّحْمِ الْمَأْخُوذِ فِي خَيْبَرَ فَلَمْ يَمْنَعْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِهِ, بَلْ أَبْقَاهُ لِمَنْ وَقَعَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلاَلٍ الْعَدَوِيِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَأَخَذْتُهُ وَالْتَزَمْتُهُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ لَكَ. وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةً مَسْمُومَةً فَأَكَلَ مِنْهَا وَلَمْ يُحَرِّمْ عليه السلام مِنْهَا لاَ شَحْمَ بَطْنِهَا، وَلاَ غَيْرَهُ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ تَقَعَ الذَّكَاةُ عَلَى بَعْضِ شَحْمِ الشَّاةِ دُونَ بَعْضٍ, وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ هَهُنَا حُجَّةً أَصْلاً, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قِيَاسٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وَمِنْ طَعَامِنَا الشَّحْمُ, وَالْجَمَلُ, وَسَائِرُ مَا يُحَرِّمُونَهُ أَوْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى, ثُمَّ نَسَخَهُ وَأَبْطَلَهُ وَأَحَلَّهُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام بِقَوْلِهِ تَعَالَى، عَنْ عِيسَى وَلأَُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى، عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {النَّبِيَّ الأُُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ، عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ثُمَّ يُصِرُّونَ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُحَرِّمُونَهُ مِمَّا هُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ حَلاَلٌ لَهُمْ وَيَسْأَلُونَ، عَنِ الشَّحْمِ وَالْجَمَلِ أَحَلاَلٌ هُمَا الْيَوْمَ لِلْيَهُودِ أَمْ هُمَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ إلَى الْيَوْمِ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ إلَى الْيَوْمِ كَفَرُوا, بِلاَ مِرْيَةٍ; إذْ قَالُوا: إنَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْسَخْهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُمَا حَلاَلٌ صُدِّقُوا وَلَزِمَهُمْ تَرْكُ قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ فِي ذَلِكَ. وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ يَهُودِيٍّ مُسْتَخْفٍ بِدِينِهِ يَأْكُلُ الشَّحْمَ فَذَبَحَ شَاةً. أَيَحِلُّ لَنَا أَكْلُ شَحْمِهَا لأَسْتِحْلاَلِ ذَابِحِهَا لَهُ أَمْ يَحْرُمُ عَلَيْنَا تَحْقِيقًا فِي اتِّبَاعِ دِينِ الْيَهُودِ دِينِ الْكُفْرِ وَدِينِ الضَّلاَلِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا, وَكِلاَهُمَا خُطَّةُ خَسْفٍ. وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لاَ يَسْتَحِلُّوا أَكْلَ مَا ذَبَحَهُ يَهُودِيٌّ يَوْمَ سَبْتٍ، وَلاَ أَكْلَ حِيتَانٍ صَادَهَا يَهُودِيٌّ يَوْمَ سَبْتٍ, وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَالْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: وَأَبِي أُمَامَةَ, وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, وَابْنِ
(7/455)
عُمَرَ:
إبَاحَةَ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ دُونَ اشْتِرَاطٍ لِمَا يَسْتَحِلُّونَهُ
مِمَّا لاَ يَسْتَحِلُّونَهُ. وَكَذَلِكَ، عَنْ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ
كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَجُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ, وَأَبِي مُسْلِمٍ
الْخَوْلاَنِيِّ, وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ,
وَمَكْحُولٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَالْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ, وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ,
وَعَطَاءٍ, وَالشَّعْبِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ, وطَاوُوس,
وَعَمْرِو بْنِ الأَسْوَدِ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ,
لَمْ نَجِدْ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ إِلاَّ، عَنْ قَتَادَةَ ثُمَّ،
عَنْ مَالِكٍ, وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ. وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ
طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ وَخَالَفُوا فِيهِ
جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ,
وَالأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ,
وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَصْحَابِهِمْ.
وَأَمَّا الْمَجُوسُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ أَنَّهُمْ أَهْلُ
كِتَابٍ فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ ذَلِكَ: فَإِنْ
ذَكَرُوا: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
مُسْلِمٍ الْجَدَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم إلَى مَجُوسٍ مِنْ أَهْلِ هَجَرَ يَدْعُوهُمْ إلَى الإِسْلاَمِ
فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ
الْجِزْيَةُ، وَلاَ تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلاَ تُنْكَحُ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ
فَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ. نا حُمَامٌ، نا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، نا أَحْمَدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا أَبُو ثَوْرٍ
إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ
رَجُلٍ مَرِيضٍ أَمَرَ مَجُوسِيًّا أَنْ يَذْبَحَ وَيُسَمِّيَ, فَفَعَلَ ذَلِكَ
فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ,
وَأَبِي ثَوْرٍ.
قال أبو محمد: لَمْ يُفْسِحْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ غَيْرِ
كِتَابِيٍّ, وَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَجُوسِ وَمَا
كَانَ لِيُخَالِفَ أَمْرَ رَبِّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ
الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا، عَنْ دِرَاسَتِهِمْ
لَغَافِلِينَ. قلنا: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بِنَصِّ الآيَةِ
نَهْيًا، عَنْ هَذَا الْقَوْلِ لاَ تَصْحِيحًا لَهُ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
{وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}.
(7/456)
و
لايحل أكل ما ذكاه غير اليهودي والنصراني والمجوسي
...
1060- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذَكَّاهُ غَيْرُ الْيَهُودِيِّ,
وَالنَّصْرَانِيِّ, وَالْمَجُوسِيِّ, وَلاَ مَا ذَكَّاهُ مُرْتَدٌّ إلَى دِينٍ
كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِ كِتَابِيٍّ, وَلاَ مَا ذَكَّاهُ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ دِينٍ
كِتَابِيٍّ إلَى دِينٍ كِتَابِيٍّ, وَلاَ مَا ذَكَّاهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينٍ
كِتَابِيٍّ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأََنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يُبِحْ لَنَا إِلاَّ مَا ذَكَّيْنَاهُ أَوْ ذَكَّاهُ الْكِتَابِيُّ
كَمَا قَدَّمْنَا. وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا لَيْسَ كِتَابِيًّا لأََنَّ كُلَّ مَنْ
كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِمْ
أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الإِسْلاَمِ إذْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صلى
الله عليه وسلم بِهِ, أَوْ الْقَتْلُ فَدُخُولُهُ فِي دِينٍ كِتَابِيٍّ غَيْرِ
مَقْبُولٍ مِنْهُ، وَلاَ هُوَ مِنْ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَكْلِ
ذَبَائِحِهِمْ, وَالْمُرْتَدُّ مِنَّا إلَيْهِمْ كَذَلِكَ, وَالْخَارِجُ مِنْ
دِينٍ كِتَابِيٍّ إلَى دِينٍ كِتَابِيٍّ
(7/456)
كَذَلِكَ, لأََنَّهُ إنَّمَا تَذَمَّمَ وَحَرُمَ قَتْلُهُ بِالدِّينِ الَّذِي كَانَ آبَاؤُهُ عَلَيْهِ, فَخُرُوجُهُ إلَى غَيْرِهِ نَقْضٌ لِلذِّمَّةِ لاَ يَقَرُّ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/457)
1061- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ذَبَحَ وَهُوَ سَكْرَانُ أَوْ فِي جُنُونِهِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ فِي حَالِ ذَهَابِ عُقُولِهِمَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَإِنْ ذَكَّيَا بَعْدَ الصَّحْوِ وَالإِفَاقَةِ حَلَّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُمَا مُخَاطَبَانِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/457)
1062-
مَسْأَلَةٌ: وَمَا ذَبَحَهُ أَوْ نَحَرَهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَمْ يَحِلَّ
أَكْلُهُ, لأََنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا
ذَكَّيْتُمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ
الصَّبِيَّ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ حَتَّى يَبْلُغَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ
الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ، عَنْ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ, وَالصَّبِيِّ
لاَ يَقُولُ فِيهِمَا شَيْئًا. وَبِالْمَنْعِ مِنْهُمَا يَقُولُ أَبُو
سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابُنَا. وَأَبَاحَهَا: النَّخَعِيُّ: وَالشَّعْبِيُّ,
وَالْحَسَنُ, وَعَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ.
قال أبو محمد: قَدْ وَافَقُونَا أَنَّ إنْكَاحَهُ لِوَلِيَّتِهِ, وَنِكَاحَهُ,
وَبَيْعَهُ, وَابْتِيَاعَهُ, وَتَوْكِيلَهُ: لاَ يَجُوزُ, وَأَنَّهُ لاَ
تَلْزَمُهُ صَلاَةٌ, وَلاَ صَوْمٌ, وَلاَ حَجٌّ, لأََنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ
بِذَلِكَ، وَلاَ يُجْزِي حَجُّهُ، عَنْ غَيْرِهِ فَمِنْ أَيْنَ أَجَازُوا
ذَبِيحَتَهُ؟
(7/457)
1063- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَذَكَّاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الآخَرِ, فَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ مِثْلَ حِصَّتِهِ مُشَاعًا فِي حَيَوَانٍ مِثْلِهِ, فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَصْلاً فَقِيمَتُهُ, إِلاَّ أَنْ يَرَى بِهِ مَوْتًا أَوْ تَعْظُمُ مُؤْنَتُهُ فَيَضِيعُ, فَلَهُ تَذْكِيَتُهُ حِينَئِذٍ, وَهُوَ حَلاَلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْلَ أَمْوَالِنَا بِالْبَاطِلِ. وَقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَبْحِهِ مَتَاعَ غَيْرِهِ, فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَلاَحًا جَازَ كَمَا قلنا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
(7/457)
1064- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَمَرَ أَهْلَهُ, أَوْ وَكِيلَهُ, أَوْ خَادِمَهُ بِتَذْكِيَةِ مَا شَاءُوا مِنْ حَيَوَانِهِ, أَوْ مَا احْتَاجُوا إلَيْهِ فِي حَضْرَتِهِ, أَوْ مَغِيبِهِ جَازَ ذَلِكَ, وَهِيَ ذَكَاةٌ صَحِيحَةٌ لأََنَّهُ بِإِذْنِهِ كَانَ ذَلِكَ, وَلَمْ يَتَعَدَّ الْمُذَكِّي حِينَئِذٍ وَلَهُ ذَلِكَ فِي مَالِ نَفْسِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/457)
1065- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ كَسْرُ قَفَا الذَّبِيحَةِ حَتَّى تَمُوتَ فَإِنْ فَعَلَ بَعْدَ تَمَامِ الذَّكَاةِ فَقَدْ عَصَى وَلَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا بِذَلِكَ, لأََنَّهُ لَمْ يُرِحْ ذَبِيحَتَهُ, إذْ كَسَرَ عُنُقَهَا, وَلَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا, لأََنَّهُ إذَا تَمَّتْ ذَكَاتُهَا فَقَدْ حَلَّ أَكْلُهَا بِذَلِكَ إذَا مَاتَتْ.
(7/457)
1066- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا غَابَ عَنَّا مِمَّا ذَكَّاهُ مُسْلِمٌ فَاسِقٌ, أَوْ جَاهِلٌ, أَوْ كِتَابِيٌّ فَحَلاَلٌ أَكْلُهُ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ أَبُو ثَابِتٍ الْمَدِينِيُّ، نا أُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا
(7/457)
1066-
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا تَرَدَّى أَوْ أَصَابَهُ سَبُعٌ أَوْ نَطَحَهُ نَاطِحٌ,
أَوْ انْخَنَقَ فَانْتَثَرَ دِمَاغُهُ, أَوْ انْقَرَضَ مُصْرَانُهُ, أَوْ
انْقَطَعَ نُخَاعُهُ, أَوْ انْتَشَرَتْ حَشْوَتُهُ فَأُدْرِكَ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ
الْحَيَاةِ فَذُبِحَ أَوْ نُحِرَ: حَلَّ أَكْلُهُ, وَإِنَّمَا حَرَّمَ تَعَالَى
مَا مَاتَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
بُرْهَانُهُ: قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ مَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ, وَلاَ نُبَالِي مِنْ أَيِّهِمَا مَاتَ قَبْلُ,
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ بَلْ أَبَاحَ مَا ذَكَّيْنَا
قَبْلَ الْمَوْتِ, فَلَوْ قَطَعَ السَّبُعُ حَلْقَهَا نُحِرَتْ وَحَلَّ أَكْلُهَا,
وَلَوْ بَقِيَ فِي الْحَلْقِ مَوْضِعٌ يُذْبَحُ فِيهِ ذُبِحَتْ وَحَلَّ أَكْلُهَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
ذُؤَيْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى
عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ وَجَدَ شَاةً لَهُمْ تَمُوتُ فَذَبَحَهَا
فَتَحَرَّكَتْ فَسَأَلْت زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: إنَّ الْمَيْتَةَ لاَ
تَتَحَرَّكُ; فَسَأَلْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: كُلْهَا إذَا طَرَفَتْ
عَيْنُهَا, أَوْ تَحَرَّكَتْ قَائِمَةً مِنْ قَوَائِمهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: إذَا ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا أَوْ طَرَفَتْ
بِعَيْنِهَا فَهِيَ ذَكِيٌّ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ
الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الأَسَدِيِّ قَالَ: عَدَا
الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَفَرَى بَطْنَهَا فَسَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى الأَرْضِ,
فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَا سَقَطَ مِنْهَا إلَى الأَرْضِ
فَلاَ تَأْكُلْهُ, وَأَمَرَهُ أَنْ يُذَكِّيَهَا فَيَأْكُلَهَا.وَمِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد الْخُرَيْبِيُّ، عَنْ
أَبِي شِهَابٍ هُوَ مُوسَى بْنُ رَافِعٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ:
رَأَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي دَارِنَا نَعَامَةً تَرْكُضُ بِرِجْلِهَا,
فَقَالَ: مَا هَذِهِ قلنا: وَقِيذٌ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ, فَقَالَ: ذَكُّوهَا,
فَإِنَّ الْوَقِيذَ مَا مَاتَ فِي وَقْذِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ
إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ}
قَالَ: هِيَ الَّتِي تَمُوتُ فِي خِنَاقِهَا. {وَالْمَوْقُوذَةُ} الَّتِي تُوقَذُ
فَتَمُوتُ. {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} الَّتِي تَتَرَدَّى فَتَمُوتُ. {وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} مِنْ هَذَا كُلِّهِ, فَإِذَا وَجَدْتهَا
تَطْرِفُ عَيْنَهَا, أَوْ تُحَرِّكُ أُذُنَهَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ: مُنْخَنِقَةً,
أَوْ مَوْقُوذَةً, أَوْ مُتَرَدِّيَةً, أَوْ مَا أَكَلَ السَّبُعُ, أَوْ نَطِيحَةً
فَهِيَ لَك حَلاَلٌ إذَا ذَكَّيْتَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا
جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي
طَلْحَةَ الأَسَدِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ، عَنْ شَاةٍ بَقَرَ
الذِّئْبُ بَطْنَهَا فَوَضَعَ قَصَبَهَا إلَى الأَرْضِ, ثُمَّ ذُبِحَتْ فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا سَقَطَ, مِنْ قَصَبِهَا إلَى الأَرْضِ
(7/458)
فَلاَ
تَأْكُلْهُ, فَإِنَّهُ مَيْتَةٌ, وَكُلْ مَا بَقِيَ، وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ
ذَكَرْنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ
مَالِكٍ وَبِهِ يَأْخُذُ إسْمَاعِيلُ, وَمَا نَعْلَمُ لِلْقَوْلِ الآخَرِ حُجَّةً
أَصْلاً، وَلاَ مُتَعَلِّقًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا وَجَدَ الْمَوْقُوذَةَ,
وَالْمُتَرَدِّيَةَ, وَالنَّطِيحَةَ, وَمَا أَصَابَ السَّبُعُ: فَوَجَدْتَ
تَحْرِيكَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَذَكِّهَا وَكُلْ. قَالَ هُشَيْمٌ: وَأَخْبَرَنَا
حُصَيْنٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّ ابْنَ أَخِي مَسْرُوقٍ سَأَلَ
ابْنَ عُمَرَ، عَنْ صَيْدِ الْمَنَاجِلِ فَقَالَ: إنَّهُ يَبِينُ مِنْهُ الشَّيْءُ
وَهُوَ حَيٌّ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا مَا أَبَانَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَلاَ
تَأْكُلْ وَكُلْ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُنْظَرُ مِنْ أَيِّ
الأَمْرَيْنِ مَاتَ قَبْلُ فَقَوْلٌ فَاسِدٌ, لأََنَّهُ لاَ يُقْدَرُ فِيهِ عَلَى
بُرْهَانٍ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَنَسْأَلُهُ عَمَّنْ ذَبَحَ, أَوْ
نَحَرَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى, ثُمَّ رَمَى رَامٍ حَجَرًا, وَشَدَخَ
رَأْسَ الذَّبِيحَةِ, أَوْ النَّحِيرَةِ, بَعْدَ تَمَامِ الذَّكَاةِ فَمَاتَتْ
لِلْوَقْتِ أَتُؤْكَلُ أَمْ لاَ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ.فَصَحَّ أَنَّ
الْمُرَاعَى إنَّمَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِمَّا ذُكِّيَ, ثُمَّ لاَ
نُبَالِي مِمَّا مَاتَ أَمِنْ الذَّكَاةِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا لأََنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ لَنَا ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَمِنْ
الْبَاطِلِ أَنْ يُلْزِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى حُكْمًا, وَلاَ يُعَيِّنَهُ
عَلَيْنَا.
(7/459)
كتاب
الصيد
باب الصيد
ما شرد فلم يقدر عليه من حيوان البر كله وحشية أو إنسية
...
كِتَابُ الصَّيْدِ
1067- مَسْأَلَةٌ: مَا شَرَدَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ
كُلِّهِ وَحْشِيِّهِ وَأَنِيسِهِ لاَ تُحَاشِ شَيْئًا, لاَ طَائِرًا، وَلاَ ذَا
أَرْبَعٍ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَنْ يُرْمَى بِمَا يَعْمَلُ
عَمَلَ الرُّمْحِ, أَوْ عَمَلَ السَّهْمِ, أَوْ عَمَلَ السَّيْفِ, أَوْ عَمَلَ
السِّكِّينِ حَاشَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ تَحِلُّ التَّذْكِيَةُ بِهِ, فَإِنْ
أُصِيبَ بِذَلِكَ, فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ فَأَكْلُهُ حَلاَلٌ,
فَإِنْ أُدْرِكَ حَيًّا إِلاَّ أَنَّهُ فِي سَبِيلِ الْمَوْتِ السَّرِيعِ فَإِنْ
ذُبِحَ, أَوْ نُحِرَ فَحَسَنٌ, وَإِلَّا فَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ, وَإِنْ كَانَ
لاَ يَمُوتُ سَرِيعًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلاَّ بِذَبْحٍ أَوْ نَحْرٍ, أَوْ
بِأَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهِ سَبُعٌ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ, أَوْ ذَوَاتِ
الأَرْبَعِ, لاَ ذَكَاةَ لَهُ إِلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ: "إذَا أَصَابَ
بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ
تَأْكُلْ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ
ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ،
هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ
(7/459)
رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ
فَخَرَقَ فَكُلْهُ, وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلاَ تَأْكُلْهُ" . وَقَدْ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: كَمَا رُوِّينَا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ
يَاسِرٍ قَالَ: إذَا رَمَيْت بِالْحَجَرِ أَوْ الْبُنْدُقَةِ ثُمَّ ذَكَرْتَ اسْمَ
اللَّهِ فَكُلْ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ, وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ, وَابْنِ عُمَرَ. وَمِنْ
طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كُلُّ وَحْشِيَّةٍ قَتَلْتَهَا بِحَجَرٍ, أَوْ
بِخَشَبَةٍ, أَوْ بِبُنْدُقَةٍ فَكُلْهَا وَإِذَا رَمَيْتَ فَنَسِيتَ أَنْ
تُسَمِّيَ فَكُلْ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: كُلُّ
وَحْشِيَّةٍ قَتَلْتَهَا بِحَجَرٍ, أَوْ بِبُنْدُقَةٍ, أَوْ بِمِعْرَاضٍ فَكُلْ,
وَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تَأْكُلَ فَأْتِنِي بِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ,
وَالأَوْزَاعِيِّ. وَرُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا، عَنْ عُمَرَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ،
عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لاَ
يَحْذِفَنَّ أَحَدُكُمْ الأَرْنَبَ بِعَصَاهُ أَوْ بِحَجَرٍ, ثُمَّ يَأْكُلُهَا
وَلْيُذَكِّ لَكُمْ الأَسَلُّ: النَّبْلُ, وَالرِّمَاحُ.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو
حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِ عَمَّارٍ, وَسَلْمَانَ, وَسَعِيدٍ بِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ
أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} . وَبِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ،
عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ
حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيَّ
يَقُولُ: أَنَا أَبُو إدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيِّ قَالَ سَمِعْتُ
أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا أَصَبْتَ
بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكُلْ. قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ
لَهُمْ فِي هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ, لأََنَّ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الَّذِي
ذَكَرْنَا فَرَضَ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمَا فَيُسْتَثْنَى مِنْهُمَا مَا اسْتَثْنَى
فِيهِ, فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ تَرْكُ نَصٍّ لِنَصٍّ. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ
هَذَيْنِ مِنْ الصَّيْدِ لَيْسَا عَلَى عُمُومِهِمَا, لأََنَّهُ قَدْ تَنَالُ
فِيهِ الْيَدُ الْمَيْتَةَ, وَقَدْ تُصَابُ بِالْقَوْسِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ
فَلاَ يَكُونُ ذَكَاةً بِلاَ خِلاَفٍ. وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ
الْحَنَفِيُّونَ لأََنَّهُمْ أَخَذُوا بِخَبَرِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ, وَهُوَ
زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, وَقَدْ امْتَنَعُوا مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي
إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ, وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ أُدْرِكَ حَيًّا إِلاَّ أَنَّهُ فِي سَبِيلِ الْمَوْتِ
السَّرِيعِ فَلاَ بَأْسَ بِنَحْرِهِ وَذَبْحِهِ، وَلاَ بَأْسَ بِتَرْكِهِ,
فَلأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَكْلِ مَا خُزِقَ, وَلَمْ
يَنْهَ، عَنْ ذَبْحِهِ, أَوْ نَحْرِهِ، وَلاَ أَمَرَ بِهِ فَهُوَ
(7/460)
حَلاَلٌ مُذَكًّى عَلَى كُلِّ حَالٍ, وَأَمَّا إذَا كَانَ لاَ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ مَوْتَ الْمُذَكَّى فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ بِذَكَاةٍ, لأََنَّ حُكْمَ الذَّكَاةِ إرَاحَةُ الْمُذَكَّى, وَتَعْجِيلُ الْمَوْتِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ إرْسَالِ الْجَارِحِ.
(7/461)
1068- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّذْكِيَةُ بِهِ فَلاَ يَحِلُّ مَا قُتِلَ بِهِ مِنْ الصَّيْدِ, وَكُلُّ مَنْ قلنا: إنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ مَا قَتَلَ مِنْ الصَّيْدِ كَغَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالصَّبِيِّ, وَمَنْ تَصَيَّدَ بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَكُلُّ مَنْ قلنا: إنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ أُكِلَ مَا قَتَلَ مِنْ الصَّيْدِ كَالْكِتَابِيِّ, وَالْمَرْأَةِ, وَالْعَبْدِ, وَغَيْرِهِمْ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ مِمَّا قُتِلَ مِنْ الصَّيْدِ بِعَمْدٍ, أَوْ بِنِسْيَانٍ لأََنَّ الصَّيْدَ ذَكَاةٌ, وَقَدْ ذَكَرْنَا بُرْهَانَ ذَلِكَ: فِي كَلاَمِنَا فِي كِتَابِ التَّذْكِيَةِ آنِفًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَكَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ أَكْلَ مَا قَتَلَهُ الْكِتَابِيُّونَ مِنْ الصَّيْدِ وَهَذَا بَاطِلٌ لأََنَّ الصَّيْدَ ذَكَاةٌ, وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مَا ذَكَّوْا وَلَمْ يَخُصَّ ذَبِيحَةً مِنْ نَحِيرَةٍ مِنْ صَيْدٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ هَذَا, فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَفَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَهُ, فَإِذْ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ مَحْضٌ. فَإِنْ مَوَّهُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} . قلنا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَحَرَّمُوا بِهَذِهِ الآيَةِ أَكْلَ مَا ذَبَحُوا إذًا, وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضْتُمْ وَقَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} زَائِدٌ عَلَى مَا فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ, فَالأَخْذُ بِهِ وَاجِبٌ. وَقَوْلُنَا هَهُنَا هُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَاللَّيْثِ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالثَّوْرِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمْ. وَالْقَوْلُ الآخَرُ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِي هَذَا أَصْلاً;، وَلاَ جَاءَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ التَّابِعِينَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ صَيْدِهِمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَيُرْسِلُ الْمَجُوسِيُّ بَازِيَ قَالَ: نَعَمْ, إذَا أَرْسَلَ الْمَجُوسِيُّ كَلْبَك فَقَتَلَ فَكُلْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ, وَغَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إذَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْمَسِيحَ, فَسَوَاءٌ أَعْلَنَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ أَوْ لَمْ يُعْلِنْ وَهَذَا بَاطِلٌ, لأََنَّنَا إنَّمَا نَتْبَعُ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَلاَ نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِآرَائِنَا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فَحَسْبُنَا إذَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا بِهَا أَكْلَ مَا ذَكَّى، وَلاَ نُبَالِي مَا عَنَى, لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْنَا بِمُرَاعَاةِ نِيَّتِهِ الْخَبِيثَةِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى, أَوْ ذَكَرَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى, فَقَدْ أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الأَكْلَ مَعَ وُجُودِهَا, لأََنَّهُ أَهَلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ, وَلاَ نُبَالِي بِنِيَّتِهِ الْخَبِيثَةِ,
(7/461)
إذْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ إِلاَّ كُلَّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ خَاصَّةً.
(7/462)
1069- مَسْأَلَةٌ: وَوَقْتُ تَسْمِيَةِ الذَّابِحِ اللَّهَ تَعَالَى فِي الذَّكَاةِ هِيَ مَعَ أَوَّلِ وَضْعِ مَا يَذْبَحُ بِهِ أَوْ يَنْحَرُ فِي الْجِلْدِ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَلاَ بُدَّ. وَوَقْتُهَا فِي الصَّيْدِ مَعَ أَوَّلِ إرْسَالِ الرَّمْيَةِ أَوْ مَعَ أَوَّلِ الضَّرْبَةِ, أَوْ مَعَ أَوَّلِ إرْسَالِ الْجَارِحِ لاَ تُجْزِي قَبْلَ ذَلِكَ، وَلاَ بَعْدَهُ, لأََنَّ هَذِهِ مَبَادِئُ الذَّكَاةِ فَإِذَا شَرَعَ فِيهَا قَبْلَ التَّسْمِيَةِ فَقَدْ مَضَى مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ فَلَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ, وَإِذَا كَانَ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَبَيْنَ الشُّرُوعِ فِي التَّذْكِيَةِ مُهْلَةٌ فَلَمْ تَكُنْ الذَّكَاةُ مَعَ التَّسْمِيَةِ كَمَا أُمِرَ, فَلَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمُهْلَةِ وَبَيْنَ كَثِيرِهَا, وَلَوْ جَازَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِطَرْفَةِ عَيْنٍ جَازَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِطَرْفَتَيْنِ وَثَلاَثٍ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الأَمْرُ إلَى الْعَامِّ وَأَكْثَرَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ لِي, رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ" ثُمَّ ذَكَرَ كَلاَمًا وَفِيهِ "وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ". وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، نا الشَّعْبِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَكَانَ لِي جَارًا وَدَخِيلاً وَرَبِيطًا بِالنَّهَرَيْنِ, أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَ كَلْبِي آخَرَ قَدْ أَخَذَ لاَ أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَ قَالَ: "فَلاَ تَأْكُلْ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ" فَلَمْ يَجْعَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِرْسَالَ, إِلاَّ مَعَ التَّسْمِيَةِ بِلاَ مُهْلَةٍ, وَحَرَّمَ أَكْلُ مَا لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَكَمِ الْبَلَوِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي أَخْرُجُ إلَى الصَّيْدِ فَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ حِينَ أَخْرُجُ فَرُبَّمَا مَرَّ بِي الصَّيْدُ حَثِيثًا فَأُعَجِّلُ فِي رَمْيِهِ قَبْلَ أَنْ أَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا خَرَجْتَ قَانِصًا لاَ تُرِيدُ إِلاَّ ذَلِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ تَخْرُجُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْفِيك، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ وَرِوَايَةُ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ سَاقِطٌ ثُمَّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ الْبَلَوِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
(7/462)
1070- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ضُرِبَ بِحَجَرٍ, أَوْ عُودٍ, أَوْ فَرَى مَقَاتِلَهُ سَبُعٌ بَرِّيٌّ أَوْ طَائِرٌ كَذَلِكَ, أَوْ وَثَنِيٌّ, أَوْ مَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى فَأُدْرِكَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ الْحَيَاةِ ذُكِّيَ بِالذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ, وَحَلَّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُ مِمَّا قَالَ فِيهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} وَقَدْ تَقَصَّيْنَا هَذَا "فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ" مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/462)
1071- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ وَضَعَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا أَيْدِيَهُمْ عَلَى شَفْرَةٍ, أَوْ رُمْحٍ فَذَكَّوْا بِهِ حَيَوَانًا بِأَمْرِ مَالِكِهِ وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى أَحَدُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ فَهُوَ حَلاَلٌ. وَكَذَلِكَ, لَوْ رَمَى جَمَاعَةٌ سِهَامًا وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى أَحَدُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ فَأَصَابُوا صَيْدًا فَأَكْلُهُ حَلاَلٌ وَهُوَ بَيْنَهُمْ إذَا أَصَابَتْ سِهَامُهُمْ مَقْتَلَهُ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى جَمِيعُهُمْ وَإِذَا لَمْ يُصِبْ أَحَدُهُمْ مَقْتَلَهُ, فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ, فَإِنْ كَانَ الَّذِي لَمْ يُصِبْ مَقْتَلَهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَدٌ مِمَّنْ أَصَابَ مَقْتَلَهُ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ, وَهُوَ كُلُّهُ الَّذِي سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى بِخِلاَفِ الْقَوْلِ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الْمُتَمَلَّكِ, وَذَلِكَ لأََنَّ التَّسْمِيَةَ صَحَّتْ عَلَيْهِ فَهُوَ حَلاَلٌ, فأما الصَّيْدُ فَلاَ يُمْلَكُ إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ أَوْ بِأَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَهَذَا لَمْ يُذَكِّهِ, لَكِنْ جَرَحَهُ فَلَمْ يَمْلِكْهُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ الَّذِي ذَكَّاهُ بِالتَّسْمِيَةِ, وَأَمَّا الْمُتَمَلَّكُ قَبْلَ أَنْ يُذَكَّى فَهُوَ مُذَكًّى بِتَسْمِيَةِ مَنْ سَمَّى, وَالْمِلْكُ بَاقٍ لِمَنْ سَلَفَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ كَمَا كَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/463)
1072-
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَغَابَ عَنْهُ يَوْمًا أَوْ
أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ, ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا, فَإِنْ مَيَّزَ سَهْمَهُ
وَأَيْقَنَ أَنَّهُ أَصَابَ مَقْتَلَهُ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ وَإِلَّا فَلاَ
يَحِلُّ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَاهُ فَأَصَابَهُ, ثُمَّ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ
أَوْ فِي مَاءٍ, فَإِنْ مَيَّزَ أَيْضًا سَهْمَهُ وَأَيْقَنَ أَنَّهُ أَصَابَ
مَقْتَلَهُ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ وَإِلَّا فَلاَ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا
بْنِ أَبِي زَائِدَةَ حَدَّثَنِي عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا
وَقَعَتْ رَمْيَتُكَ فِي مَاءٍ فَغَرِقَ فَمَاتَ فَلاَ تَأْكُلْ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا غُنْدَرٌ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي
بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إذَا عَرَفْتَ سَهْمَكَ
تَعْلَمُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرًا لِغَيْرِهِ فَكُلْ".
(7/463)
1073- مَسْأَلَةٌ: وَسَوَاءٌ أَنْتَنَ أَمْ لَمْ يُنْتِنْ, وَلاَ يَصِحُّ الأَثَرُ الَّذِي فِيهِ فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ, لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ, وَلاَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي قَالَ: كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنْكَ مَا لَمْ يَضِلَّ أَوْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِكَ لأََنَّهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مُسْنَدًا, وَلاَ الأَثَرُ الَّذِي فِيهِ كُلْ مَا أَصْمَيْتَ، وَلاَ تَأْكُلْ مَا أَنْمَيْتَ. وَتَفْسِيرُ الإِصْمَاءِ أَنْ تُقْعِصَهُ وَالإِنْمَاءُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِسَهْمِهِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْهُ فَيَجِدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَيِّتًا بِيَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ وَهَكَذَا رُوِّينَا تَفْسِيرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لأََنَّ رَاوِيَ الْمُسْنَدِ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ مَسْمُولٍ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَأَبُوهُ مَجْهُولٌ. وَلاَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
(7/463)
1074- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ فَمَنَعَهُ ذَلِكَ الأَمْرُ مِنْ الْجَرْيِ أَوْ الطَّيَرَانِ وَلَمْ يُصِبْ لَهُ مَقْتَلاً أَوْ أَصَابَ فَهُوَ لَهُ, وَلاَ يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهُ لأََنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ غَيْرَ
(7/464)
مُمْتَنِعٍ فَمَلَكَهُ بِذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/465)
1075- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَقَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا, أَيَّ عُضْوٍ كَانَ فَمَاتَ مِنْهُ بِيَقِينٍ مَوْتًا سَرِيعًا كَمَوْتِ سَائِرِ الذَّكَاةِ, أَوْ بَطِيئًا إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ إِلاَّ وَقَدْ مَاتَ, أَوْ هُوَ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْحَاضِرِ: أَكَلَهُ كُلَّهُ, وَأَكَلَ أَيْضًا الْعُضْوَ الْبَائِنَ. فَلَوْ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ مَوْتًا سَرِيعًا وَأَدْرَكَهُ حَيًّا وَكَانَ يَعِيشُ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ عَيْشِ الْمُذَكَّى, ذَكَّاهُ وَأَكَلَهُ, وَلَمْ يَأْكُلْ الْعُضْوَ الْبَائِنَ, أَيَّ عُضْوٍ كَانَ; لأََنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْهُ كَمَوْتِ الذَّكَاةِ فَهُوَ ذَكِيٌّ كُلُّهُ. فَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ حَيًّا فَهُوَ ذَكِيٌّ مَتَى مَاتَ مِمَّا أَصَابَهُ وَهُوَ مُذَكًّى كُلُّهُ, وَمَا كَانَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُذَكًّى, وَقَالَ عليه السلام, إذَا خُزِقَ فَكُلْ فَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ. وَإِذَا أُدْرِكَ حَيًّا فَذَكَاتُهُ فَرْضٌ لأََنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ وَالإِرَاحَةِ. وَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَاجِلِ فَلاَ مَعْنَى لِذَبْحِهِ حِينَئِذٍ، وَلاَ لِنَحْرِهِ لأََنَّهُ لَيْسَ إرَاحَةً بَلْ هُوَ تَعْذِيبٌ, وَهُوَ بَعْدُ مُذَكًّى, فَهُوَ حَلاَلٌ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَعِكْرِمَةَ, وَقَتَادَةَ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَأَبِي ثَوْرٍ: إذَا رَمَى الصَّيْدَ فَغَدَا حَيًّا وَقَدْ سَقَطَ مِنْهُ عُضْوٌ, فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ سَائِرُهُ حَاشَا ذَلِكَ الْعُضْوِ, فَإِنْ مَاتَ حِينَ ذَلِكَ أُكِلَ كُلُّهُ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَسُفْيَانُ, وَالأَوْزَاعِيُّ: إنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ أَكَلَ النِّصْفَيْنِ مَعًا, فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَقَلَّ مِنْ الأُُخْرَى, فَإِنْ كَانَتْ الْقِطْعَةُ الَّتِي فِي الرَّأْسِ هِيَ الصُّغْرَى أُكِلَ كِلْتَاهُمَا, وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي فِيهَا الرَّأْسُ هِيَ الْكُبْرَى أُكِلَتْ هِيَ وَلَمْ تُؤْكَلْ الأُُخْرَى. وقال الشافعي: إنْ قَطَعَ مِنْهُ مَا يَمُوتُ بِهِ مَوْتَ الْمَنْحُورِ أَوْ الْمَذْبُوحِ أُكِلاَ مَعًا, وَإِنْ قَطَعَ مِنْهُ مَا يَعِيشُ بَعْدَهُ سَاعَةً فَأَكْثَرَ, ثُمَّ أَدْرَكَهُ فَذَكَّاهُ أُكِلَ, حَاشَا مَا قُطِعَ مِنْهُ. وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ حَدَّ الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ مُتَعَلِّقًا أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/465)
1076- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى جَمَاعَةَ صَيْدٍ, وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وَنَوَى أَيَّهَا أَصَابَ, فَأَيُّهَا أَصَابَ حَلاَلٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ. وَقَوْلِهِ عليه السلام: "إذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ إِلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ" فَعَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَخُصَّ أَنْ يَقْصِدَ صَيْدًا مِنْ الْجُمْلَةِ بِعَيْنِهِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.
(7/465)
1077- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَإِنْ أَصَابَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ, وَإِنْ أَصَابَ غَيْرَهُ فَإِنْ أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ, فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَكَاتَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَنْوِ صَيْدًا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلاَّ أَنْ يُدْرِكَ ذَكَاتَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ ذَبْحَ حَيَوَانٍ مُتَمَلَّكٍ بِعَيْنِهِ فَذَبَحَ غَيْرَهُ مُخْطِئًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لأََنَّهُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ قَاصِدًا إلَيْهِ, وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
(7/465)
1078- مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ أَنَّ امْرَأً رَمَى صَيْدًا فَأَثْخَنَهُ وَجَعَلَهُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ, ثُمَّ رَمَاهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَقَتَلَهُ فَهُوَ مَيْتَةٌ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُ إذْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ ذَكَاتُهُ إِلاَّ بِالذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ, فَلَمْ يُذَكِّهِ كَمَا أُمِرَ, فَهُوَ غَيْرُ مُذَكًّى, وَعَلَى قَاتِلِهِ إنْ كَانَ غَيْرَهُ ضَمَانُ مِثْلِهِ لِلَّذِي أَثْخَنَهُ, لأََنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِالإِثْخَانِ وَخُرُوجِهِ، عَنِ الأَمْتِنَاعِ, فَقَاتِلُهُ مُعْتَدٍ عَلَيْهِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . وَلَوْ جَرَحَهُ إِلاَّ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ بَعْدُ, فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ, لأََنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ إِلاَّ بِالْخُرُوجِ، عَنِ الأَمْتِنَاعِ, فَمَا دَامَ مُمْتَنِعًا فَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بَعْدُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/466)
1079-
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَصَبَ فَخًّا, أَوْ حِبَالَةً, أَوْ حَفَرَ زُبْيَةً كُلُّ
ذَلِكَ لِلصَّيْدِ, فَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ، وَلاَ
يَحِلُّ لأََحَدٍ سِوَاهُ; فَإِنْ نَصَبَهَا لِغَيْرِ الصَّيْدِ فَوَقَعَ فِيهَا
صَيْدٌ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَدَ صَيْدًا قَدْ صَادَهُ
جَارِحٌ أَوْ فِيهِ رَمْيَةٌ قَدْ جَعَلْته غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ
أَخْذُهُ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" . وَإِذَا نَوَى الصَّيْدَ
فَقَدْ مَلَكَ كُلَّ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِمَّا قَصَدَ تَمَلُّكَهُ, وَإِذَا لَمْ
يَنْوِ الصَّيْدَ فَلَمْ يَتَمَلَّكْ مَا وَقَعَ فِيهَا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى
حَالِهِ لِكُلِّ مَنْ تَمَلَّكَهُ وَكَذَلِكَ مَا عَشَّشَ فِي شَجَرَةٍ أَوْ
جُدْرَانِ دَارِهِ هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ إِلاَّ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ تَمَلُّكًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ أَنا
مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ
أَخْبَرَهُ، عَنِ الْبَهْزِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ
بِالرَّوْحَاءِ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ عَقِيرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "دَعُوهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ" ,
ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا كَانَ بِالأُُثَايَةِ إذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ وَفِيهِ
سَهْمٌ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَثْبُتُ عِنْدَهُ لاَ يَرِيبُهُ
أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ رَمَى صَيْدًا
فَوَقَعَ بِحَضْرَةِ قَوْمٍ فَلَمْ يُذَكُّوهُ حَتَّى مَاتَ, فَهُوَ حَرَامٌ,
لأََنَّهُ عليه السلام لَمْ يَأْمُرْ بِتَذْكِيَةِ ذَلِكَ الظَّبْيِ وَتَرَكَهُ
لِصَاحِبِهِ الَّذِي رَمَاهُ, وَهَذَا الْبَهْزِيُّ هُوَ كَانَ صَاحِبَ ذَلِكَ
الْحِمَارِ الْعَقِيرِ.
(7/466)
1080-
مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ مَاتَ فِي الْحِبَالَةِ, أَوْ الزُّبْيَةِ, لَمْ يَحِلَّ
أَكْلُهُ سَوَاءٌ جَعَلَ هُنَالِكَ حَدِيدَةً أَمْ لَمْ يَجْعَلْ, لأََنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ تَذْكِيَتَهُ كَمَا أُمِرَ أَنْ يُذَكِّيَهُ بِهِ مِنْ رَمْيٍ أَوْ
قَتْلِ جَارِحٍ, وَالْحَيَوَانُ كُلُّهُ حَرَامٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ, فَلاَ
يَنْتَقِلُ إلَى التَّحْلِيلِ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي هَذَا. وَقَدْ
أَبَاحَهُ بَعْضُ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ
الشَّعْبِيَّ عَمَّنْ وَضَعَ مِنْجَلَهُ فَيَمُرُّ بِهِ طَائِرٌ فَيَقْتُلُهُ
فَكَرِهَ أَكْلَهُ وَسَأَلْتُ عَنْهُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَرَ
بِهِ بَأْسًا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا
(7/466)
1081- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ حَيَوَانًا وَحْشِيًّا حَيًّا أَوْ مُذَكًّى أَوْ بَعْضَ صَيْدِ الْمَاءِ كَذَلِكَ فَهُوَ لَهُ كَسَائِرِ مَالِهِ بِلاَ خِلاَفٍ, فَإِنْ أَفْلَتَ وَتَوَحَّشَ وَعَادَ إلَى الْبَرِّ أَوْ الْبَحْرِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ أَبَدًا, وَلاَ يَحِلُّ لِسِوَاهُ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِ مَالِكِهِ, وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَنَاسَلَ مِنْ الإِنَاثِ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". وَهَذَا مَالٌ مِنْ مَالِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُخَالِفِينَ مَعَنَا فَلاَ يَحِلُّ لِسِوَاهُ إِلاَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ سَائِرُ مَالِهِ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ. وقال مالك: إذَا تَوَحَّشَ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ وَهَذَا قَوْلٌ بَيِّنُ الْفَسَادِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ, وَالسُّنَّةِ, وَالنَّظَرِ, وَهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُمْ إنْ أَفْلَتَ فَأُخِذَ مِنْ يَوْمِهِ, أَوْ مِنْ الْغَدِ فَلاَ يَحِلُّ لِغَيْرِ مَالِكِهِ فَلِيُبَيِّنُوا لَنَا الْحَدَّ الَّذِي إذَا بَلَغَهُ خَرَجَ بِهِ، عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ. وَيَسْأَلُونَ عَمَّنْ مَلَكَ وَحْشِيًّا فَتَنَاسَلَ عِنْدَهُ ثُمَّ شَرَدَ نَسْلُهَا فَإِنْ قَالُوا: يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ فِي الْعَالَمِ, لأََنَّ جَمِيعَهَا فِي أَوَّلِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَمَلَّكَةٍ ثُمَّ مُلِّكَتْ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حَمَامِ الأَبْرَاجِ, وَالنَّحْلُ كُلُّ مَا مَيَّزَ فَهُوَ وَنَسْلُهُ لِمَالِكِهِ أَبَدًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَقَوْلُ اللَّيْثِ: مَنْ تَرَكَ دَابَّتَهُ بِمَضْيَعَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا لاَ تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا وَكَقَوْلِ اللَّيْثِ, أَوْ غَيْرِهِ مِنْ نُظَرَائِهِ: مَا عَطِبَ فِي الْبَحْرِ مِنْ السُّفُنِ فَرَمَى الْبَحْرُ مَتَاعًا مِمَّا غَرِقَ فِيهَا فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ لاَ لِصَاحِبِهِ, وَلَوْ قَامَتْ لَهُ بِكُلِّ ذَلِكَ بَيِّنَةُ عَدْلٍ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ ظَاهِرَةُ الْبُطْلاَنِ, لأََنَّهُ إيكَالُ مَالِ مُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ بِالْبَاطِلِ.
(7/467)
1082- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا حُكْمُ إرْسَالِ الْجَارِحِ, فَلاَ يَخْلُو ذَلِكَ الْجَارِحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَالْمُعَلَّمُ هُوَ الَّذِي لاَ يَنْطَلِقُ حَتَّى يُطْلِقَهُ صَاحِبُهُ, فَإِذَا أَطْلَقَهُ انْطَلَقَ, وَإِذَا أَخَذَ وَقَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ ذَلِكَ الصَّيْدِ شَيْئًا, فَإِذَا تَعَلَّمَ هَذَا الْعَمَلَ, فَبِأَوَّلِ مُدَّةٍ يُقْتَلُ، وَلاَ يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ مُعَلَّمٌ حَلاَلٌ أَكْلُ مَا قَتَلَ مِمَّا أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إطْلاَقِهِ. وَسَوَاءٌ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ أَوْ بِرَضٍّ, أَوْ بِصَدْمٍ, أَوْ بِخَنْقٍ كُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ. فَإِنْ قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا فَذَلِكَ الصَّيْدُ حَرَامٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا الْكَلْبُ, وَغَيْرُهُ مِنْ سِبَاعِ دَوَابِّ الأَرْبَعِ, وَالْبَازِي وَغَيْرُهُ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ، وَلاَ فَرْقَ. فأما الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . وَمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ
(7/467)
1083- مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ شَرِبَ الْجَارِحُ الْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ شَيْئًا وَحَلَّ أَكْلُ مَا قَتَلَ لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا أَكْلَ مَا قَتَلَ إذَا أَكَلَ, وَلَمْ يَنْهَنَا، عَنْ أَكْلِ مَا قَتَلَ إذَا وَلَغَ فِي الدَّمِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَإِذَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ فَقَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى مُرْسِلِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/474)
1084- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَكَلَ مِنْ الرَّأْسِ, أَوْ الرِّجْلِ, أَوْ الْحَشْوَةِ, أَوْ قِطْعَةً انْقَطَعَتْ مِنْهُ, فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا قَتَلَ, لأََنَّهُ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ.
(7/474)
1085- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ الْجَارِحُ مُعَلَّمًا كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّهُ عَادَ فَأَكَلَ مِمَّا قَتَلَ لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ، عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا, لَكِنْ يَحْرُمُ أَكْلُ الَّذِي قَتَلَ وَأَكَلَ مِنْهُ فَقَطْ, وَلاَ يَحْرُمُ أَكْلُ مَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ. وقال أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَ تَعْلِيمُهُ وَعَادَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ, فَلاَ يُؤْكَلُ مَا قَتَلَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَيَعُودُ مُعَلَّمًا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لاَ يَبْطُلُ بِذَلِكَ تَعْلِيمُهُ, لَكِنْ يُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ حَتَّى لاَ يَأْكُلَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ, لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، نا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا, فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ, وَإِنْ قَتَلَ, إِلاَّ إنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ" فَقَدْ سَمَّاهَا عليه السلام مُعَلَّمَةً وَلَمْ يُسْقِطْ حُكْمَ التَّعْلِيمِ بِأَكْلِ مَا أَكَلَ مِنْهَا, بَلْ نَهَى، عَنْ أَكْلِ مَا أَكَلَ مِنْهُ فَقَطْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهُ, فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مُعَلَّمًا وَإِنْ أَكَلَ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا أَكَلَ فَبِئْسَ مَا عَلَّمْتَهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/474)
1086- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ مُرْسِلُهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَهُوَ يُرِيدُ الأَكْلَ مِنْهُ فَأَخَذَهُ وَالْجَارِحُ يُنَازِعُهُ إلَى الأَكْلِ مِنْهُ, لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ أَصْلاً, وَهُوَ مَيْتَةٌ, لأََنَّنَا عَلَى يَقِينٍ حِينَئِذٍ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ لاَ عَلَى مُرْسِلِهِ, وَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم الأَكْلَ مِمَّا قَتَلَهُ الْجَارِحُ عَلَيْنَا.
(7/474)
1087- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الأَكْلِ مِنْهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ فَبَاقِيهِ حَلاَلٌ, لأََنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الأَكْلِ مِنْهُ فَلَمْ يُمْسِكْ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى مُرْسِلِهِ, وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ حَلاَلٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَإِذْ قَدْ صَحَّ تَحْلِيلُهُ بِذَلِكَ وَتَمَّتْ ذَكَاتُهُ فَلاَ يَضُرُّهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لأََنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ
(7/474)
1088- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ; ثُمَّ أَخَذَهُ مُرْسِلُهُ فَقَطَعَ لَهُ قِطْعَةً فَأَكَلَهَا أَوْ خَلَّاهُ بَيْنَ يَدِهِ يَأْكُلُهُ فَأَكَلَ مِنْهُ فَالْبَاقِي حَلاَلٌ, لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ إمْسَاكُهُ عَلَى مُرْسِلِهِ فَتَمَّتْ ذَكَاتُهُ بِذَلِكَ.
(7/475)
1089- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَسَوَاءٌ كَانَ مُتَمَلَّكًا أَوْ بَرِّيًّا مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ أَوْ دَوَابِّ الأَرْبَعِ غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ أُرْسِلَ أَوْ لَمْ يُرْسَلْ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَحُكْمُهُ أَنْ لاَ يُؤْكَلَ مَا قَتَلَ أَصْلاً, فَإِنْ أَدْرَكَ فِيهِ بَقِيَّةً مِنْ الرُّوحِ وَذَكَّى حَلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَاسْتَثْنَى تَعَالَى مَا ذَكَّيْنَا مِنْ كُلِّ مَا حَرَّمَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ. وَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ أَنَا حَيْوَةُ، هُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ, وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ" فَلَمْ يَسْتَثْنِ عليه السلام رَجَاءَ حَيَاةٍ مِنْ غَيْرِهَا, فَاسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَخِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(7/475)
1090-
مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا انْطَلَقَ الْجَارِحُ الْمُعَلَّمُ أَوْ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ مَا قَتَلَ إِلاَّ
أَنْ تُدْرَكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ الرُّوحِ فَيُذَكَّى وَيُؤْكَلُ لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ
اللَّهَ" فَلَمْ يَجْعَلْ عليه السلام الذَّكَاةَ إِلاَّ بِإِرْسَالِهِ مَعَ
تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى, وَالذَّكَاةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مِنْ
الإِنْسَانِ الْمُذَكِّي وَقَصْدٍ لِقَوْلِهِ عليه السلام: "وَلِكُلِّ
امْرِئٍ مَا نَوَى" . وَصَحَّ بِالنَّصِّ أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَ جَارِحَهُ
الْمُعَلَّمَ وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَقَتَلَ الْجَارِحُ فَهِيَ ذَكَاةٌ
صَحِيحَةٌ وَلَمْ يَصِحَّ فِي كَوْنِ مَا دُونَ ذَلِكَ ذَكَاةً نَصٌّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ،
أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ، عَنْ إنْسَانٍ كَانَ يُعَلِّمُ
(7/475)
1091- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ فَوَجَدَ الصَّيْدَ مَيِّتًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلاَّ إنْ كَانَ السَّهْمُ أَنْفَذَ مَقَاتِلَهُ إنْفَاذًا كَأَنْ يَمُوتَ مِنْهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُومًا لأََنَّ مَا قُتِلَ بِالسُّمِّ فَهُوَ مَيْتَةٌ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنَّهُ ذَكَاةٌ إِلاَّ أَنْ تُدْرَكَ فِيهِ بَقِيَّةُ رُوحٍ فَيُذَكَّى فَيَحِلَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/476)
1092-
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ جَارِحٍ مُعَلَّمٍ فَحَلاَلٌ أَكْلُ مَا قَتَلَ كَمَا
ذَكَرْنَا سَوَاءٌ عَلَّمَهُ وَثَنِيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ, وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ
بِسَهْمٍ صَنَعَهُ وَثَنِيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ" وَلَمْ يَخُصَّ
عليه السلام تَعْلِيمَ مُسْلِمٍ مِنْ تَعْلِيمِ وَثَنِيٍّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لاَ
يُؤْكَلُ صَيْدُ جَارِحٍ عَلَّمَهُ مَنْ لاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذَكَّى.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ
عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَرِهَ صَيْدَ بَازِي
الْمَجُوسِيِّ وَصَقْرِهِ; وَصَيْدُ الْمَجُوسِيِّ لِلسَّمَكِ كَرِهَهُ أَيْضًا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ رُومَانَ، عَنِ
الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لاَ تَأْكُلْ صَيْدَ
كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، وَلاَ مَا أَصَابَ بِسَهْمِهِ. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا
أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَا
خُصَيْفٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ تَأْكُلْ مَا صِدْت بِكَلْبِ
الْمَجُوسِ وَإِنْ سَمَّيْت فَإِنَّهُ مِنْ تَعْلِيمِ الْمَجُوسِيِّ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ}. وَجَاءَ هَذَا
الْقَوْلُ، عَنْ عَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَالنَّخَعِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ
اللَّهُ} قَالُوا فَجَعَلَ التَّعْلِيمَ لَنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا, لأََنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى
بِأَحْكَامِ الإِسْلاَمِ لاَزِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ صَحَابَةٍ لاَ
يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/476)
1093- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَصَيَّدَ بِجَارِحٍ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا قَتَلَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} وَهَذَا مُعْتَدٍ فَلاَ يَكُونُ التَّعَدِّي ذَكَاةً أَصْلاً. فَلَوْ أُدْرِكَ حَيًّا, أَوْ نَصَبَ الْمَرْءُ حِبَالَةً مَأْخُوذَةً بِغَيْرِ حَقٍّ, أَوْ رَمَى بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ, فَأَدْرَكَ كُلَّ ذَلِكَ فِيهِ بَقِيَّةُ حَيَاةٍ ذَكَّاهَا وَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ, وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ ذَلِكَ الْجَارِحِ, وَذَلِكَ السَّهْمِ, وَالرُّمْحِ, وَتِلْكَ الْحِبَالَةِ لِصَاحِبِ كُلِّ ذَلِكَ, لأََنَّ الصَّيْدَ الَّذِي لاَ مِلْكَ لأََحَدٍ عَلَيْهِ هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ صَاحِبُ الآلَةِ, وَالْحِبَالَةِ, وَالْجَارِحِ; لأََنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ ذَلِكَ، وَلاَ أَرْسَلَهُ قَاصِدًا لِتَمَلُّكِ مَا أَصَابَ
(7/476)
1094- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَجَدَ مَعَ جَارِحِهِ جَارِحًا آخَرَ أَوْ سَبُعًا لَمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا قَتَلَ الصَّيْدَ فَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ فَيُذَكَّى فَيَحِلَّ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سُوَيْد بْنُ نَصْرٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فَإِنْ خَالَطَ كَلْبُكَ كِلاَبًا فَقَتَلْنَ فَلَمْ يَأْكُلْنَ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَ".
(7/477)
1095-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ إمْسَاكُ كَلْبٍ أَسْوَدَ بَهِيمٍ أَوْ ذِي
نُقْطَتَيْنِ لاَ لِصَيْدٍ، وَلاَ لِغَيْرِهِ, وَلاَ يَحِلُّ تَعْلِيمُهُ, وَلاَ
أَكْلُ مَا قَتَلَ مِنْ الصَّيْدِ أَصْلاً, إِلاَّ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ;،
وَلاَ اتِّخَاذُ كَلْبٍ سِوَى ذَلِكَ أَصْلاً إِلاَّ لِزَرْعٍ, أَوْ مَاشِيَةٍ,
أَوْ صَيْدٍ, أَوْ ضَرُورَةِ خَوْفٍ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، نا ابْنُ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ
الْكِلاَبِ ثُمَّ نَهَى، عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ
الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ الشَّيْطَانُ". وَمِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،
نا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ أَنَّ الْكِلاَبَ
أُمَّةٌ مِنْ الأُُمَمِ لاََمَرْتُ بِقَتْلِهَا فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ
الْبَهِيمَ وَأَيُّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ حَرْثٍ, أَوْ
صَيْدٍ, أَوْ مَاشِيَةٍ, فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ
قِيرَاطٌ" وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} فَإِذَا حَرَّمَ عليه السلام آنِفًا الأَسْوَدَ
الْبَهِيمَ أَوْ ذَا النُّقْطَتَيْنِ فَلاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُهُ, وَإِذْ لاَ
يَحِلُّ اتِّخَاذُهُ فَاِتِّخَاذُهُ مَعْصِيَةٌ, وَالذَّكَاةُ بِالْجَارِحِ
طَاعَةٌ, وَلاَ تَنُوبُ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، عَنْ طَاعَتِهِ
وَالْعَاصِي لَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ فَهِيَ مَيْتَةٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ
قَالَ: أَكْرَهُ صَيْدَ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ الْبَهِيمِ, لأََنَّ رَسُول اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ صَيْدَ الْكَلْبِ
الأَسْوَدِ الْبَهِيمِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ،
عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَيْفَ نَأْكُلُ
صَيْدَ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ الْبَهِيمِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِقَتْلِهِ وَهُوَ
قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ:
مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي أَكْلِ مَا قَتَلَ الْكَلْبُ الأَسْوَدُ مِنْ
الصَّيْدِ وَقَدْ أَدْرَكَ أَحْمَدُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أُمَمًا.
قال أبو محمد: سَوَاءٌ حَيْثُ كَانَتْ النُّقْطَتَانِ مِنْ جَسَدِهِ فَإِنْ
كَانَتْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ أَكْثَرُ
(7/477)
1096-
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ خَرَجَ بِجَارِحِهِ فَأَرْسَلَهُ وَسَمَّى وَنَوَى مَا أَصَابَ
مِنْ الصَّيْدِ فَسَوَاءٌ فَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْ فِي
الصَّحْرَاءِ مَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ الإِرْسَالِ مِنْ الصَّيْدِ; فَقَتَلَهُ
فَأَكْلُهُ حَلاَلٌ, لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذَا
أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ: وَأَنْتَ تَرَى صَيْدًا مِنْ
أَنْ لاَ تَرَاهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ زَيْدٍ عَمَّنْ
حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إنْ غَدَا بِكِلاَبٍ مُعَلَّمَةٍ
فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ يَغْدُو كَانَ كُلُّ شَيْءٍ صَادَهُ إلَى اللَّيْلِ
حَلاَلاً. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ
الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي إيَاسٍ قَالَ: إنَّا كُنَّا نَخْرُجُ بِكِلاَبِنَا إلَى
الصَّيْدِ فَنُرْسِلُهَا, وَلاَ نَرَى شَيْئًا فَنَأْكُلُ مَا أَخَذَتْ.
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة: مَنْ رَمَى كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا إنْسِيًّا
فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ, فَلَوْ رَمَى أَسَدًا أَوْ ذِئْبًا أَوْ
خِنْزِيرًا بَرِّيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ, فَلَوْ أَرْسَلَ جَارِحَهُ
عَلَى صَيْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَصَابَ غَيْرَهُ حَلَّ أَكْلُهُ فَلَوْ أَرْسَلَهُ
عَلَى سَمَكَةٍ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ. قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ
تَخَالِيطُ لاَ تُعْقَلُ، وَلاَ يُقْبَلُ مِثْلُهَا إِلاَّ مِمَّنْ لاَ يَسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فَسَوَاءٌ لاَ يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْهُ
لأََنَّهُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى, وَلاَ أَرْسَلَ جَارِحَهُ, وَلاَ
سَهْمَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَ, فَهُوَ غَيْرُ مُذَكًّى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/478)
1097- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلاً لاَ الْمُبَاحُ اتِّخَاذُهُ، وَلاَ غَيْرُهُ; لِصِحَّةِ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ فَلَهُ أَخْذُهُ مِمَّنْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ بِلاَ ثَمَنٍ, وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَهُ, فَلَهُ ابْتِيَاعُهُ وَالثَّمَنُ حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا هُوَ كَالرِّشْوَةِ فِي الْمَظْلَمَةِ, وَفِدَاءِ الأَسِيرِ, لأََنَّهُ أَخْذُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/478)
كتاب
الأشرِبة وما يحل منها وما يحرم
باب الأشرِبة وما يحل منها وما يحرم
كل شئ أسكر كثير أحدا من الناس فالنقطة منه فما فوقها إلى أكثر المقادير خمر حرام
ملكه
...
كِتَابُ الأَشْرِبَةِ وَمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ
1098- مَسْأَلَةٌ: كُلُّ شَيْءٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ
فَالنُّقْطَةُ مِنْهُ فَمَا فَوْقَهَا إلَى أَكْثَرِ الْمَقَادِيرِ: خَمْرٌ
حَرَامٌ: مِلْكُهُ, وَبَيْعُهُ, وَشُرْبُهُ, وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى أَحَدٍ
وَعَصِيرُ الْعِنَبِ, وَنَبِيذُ التِّينِ, وَشَرَابُ الْقَمْحِ, وَالسَّيْكَرَانِ,
وَعَصِيرُ كُلِّ مَا سِوَاهَا وَنَقِيعُهُ, وَشَرَابُهُ طُبِخَ كُلُّ ذَلِكَ أَوْ
لَمْ يُطْبَخْ ذَهَبَ أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا،
وَلاَ فَرْقَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ وَفِي هَذَا اخْتِلاَفٌ قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ بَعْدَ
صِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا:
فَرُوِّينَا، عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: شَرَابُ الْبُسْرِ وَحْدَهُ
(7/478)
1099
- مَسْأَلَةٌ: وَحَدُّ الإِسْكَارِ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ الشَّرَابُ وَيَنْتَقِلُ
بِهِ مِنْ التَّحْلِيلِ إلَى التَّحْرِيمِ هُوَ أَنْ يَبْدَأَ فِيهِ الْغَلَيَانُ
وَلَوْ بِحَبَابَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْثَرَ, وَيَتَوَلَّدُ مِنْ شُرْبِهِ
وَالإِكْثَارِ مِنْهُ عَلَى الْمَرْءِ فِي الأَغْلَبِ أَنْ يَدْخُلَ الْفَسَادُ
فِي تَمْيِيزِهِ, وَيَخْلِطَ فِي كَلاَمِهِ بِمَا يَعْقِلُ وَبِمَا لاَ يَعْقِلُ,
وَلاَ يَجْرِي كَلاَمُهُ عَلَى نِظَامِ كَلاَمِ التَّمْيِيزِ, فَإِذَا بَلَغَ
الْمَرْءُ مِنْ النَّاسِ مِنْ الإِكْثَارِ مِنْ الشَّرَابِ إلَى هَذِهِ الْحَالِ
فَذَلِكَ الشَّرَابُ مُسْكِرٌ حَرَامٌ, سَكِرَ مِنْهُ كُلُّ مَنْ شَرِبَهُ سَوَاءٌ
أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ, طُبِخَ أَوْ لَمْ يُطْبَخْ, ذَهَبَ بِالطَّبْخِ
أَكْثَرُهُ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ, وَذَلِكَ الْمَرْءُ سَكْرَانُ, وَإِذَا بَطَلَتْ
هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ الشَّرَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِيهِ مَوْجُودَةً فَصَارَ
لاَ يَسْكَرُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ الإِكْثَارِ مِنْهُ, فَهُوَ حَلاَلٌ,
خَلٌّ لاَ خَمْرٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}
فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ سَكْرَانَ, وَإِنْ كَانَ
قَدْ يَفْهَمُ بَعْضَ الأَمْرِ. أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَقُومُ إلَى الصَّلاَةِ
فِي تِلْكَ الْحَالِ فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ ذَلِكَ وَالْمَجْنُونُ
مِثْلُهُ سَوَاءً سَوَاءً قَدْ يَفْهَمُ الْمَجْنُونُ فِي حَالِ تَخْلِيطِهِ
كَثِيرًا، وَلاَ يُخْرِجُهُ ذَلِكَ، عَنْ أَنْ يُسَمَّى مَجْنُونًا فِي اللُّغَةِ
وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سَوَّارُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْعَنْبَرِيُّ نَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ هُوَ الثَّقَفِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ
ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْتَبِذْ فِي سِقَائِكَ وَأَوْكِهِ
وَاشْرَبْهُ حُلْوًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلُنَا; لأََنَّهُ إذَا بَدَأَ يَغْلِي حَدَثَ فِي
طَعْمِهِ تَغْيِيرٌ، عَنِ الْحَلاَوَةِ, وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ نَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ لَيْسَ بِشُرْبِ الْعَصِيرِ
وَبَيْعِهِ بَأْسٌ حَتَّى يَغْلِيَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَائِذٍ الأَسَدِيِّ قَالَ:
سَأَلْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، عَنِ الْعَصِيرِ فَقَالَ: اشْرَبْهُ مَا لَمْ
يَتَغَيَّرْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ
عَطَاءٍ فِي الْعَصِيرِ قَالَ:
(7/506)
"اشْرَبْهُ
حَتَّى يَغْلِيَ" وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ
بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَيْسَ بِشَرَابِ
الْعَصِيرِ بَأْسٌ مَا لَمْ يُزْبِدْ فَإِذَا أَزْبَدَ فَاجْتَنِبُوهُ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا
سُوَيْد بْنُ نُصَيْرٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي
يَعْفُورٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي ثَابِتٍ الثَّعْلَبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ
عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي الْعَصِيرِ: اشْرَبْهُ مَا دَامَ طَرِيًّا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ فِي الْعَصِيرِ هَكَذَا, وَفِي مَا عَدَا الْعَصِيرِ إذَا تَجَاوَزَ
عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَهَذَا حَدٌّ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لاَ
يُعَضِّدُهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ, وَلاَ قِيَاسٌ,
وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ, وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُمَا. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا سُوَيْد بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الدِّمَشْقِيُّ نَا ثَابِتُ بْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ
عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَقُولُ: اشْرَبْ الْعَصِيرَ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَا لَمْ يَغْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: اشْرَبُوا الْعَصِيرَ مَا لَمْ
يَأْخُذْهُ شَيْطَانُهُ, قَالَ: وَمَتَى يَأْخُذُهُ شَيْطَانُهُ قَالَ: بَعْدَ
ثَلاَثٍ, أَوْ قَالَ: فِي ثَلاَثٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مِينَا أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ
مُحَمَّدٍ يَقُول: نَهَى أَنْ يُشْرَبَ النَّبِيذُ بَعْدَ ثَلاَثٍ. وَمِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ نَا دَاوُد بْنُ أَبِي
هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مَا لَمْ يَغْلِ
يَعْنِي الْعَصِيرَ. وَحَدَّتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ. كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كَانَ يَقُولُ: إذَا فَضَخْتَهُ نَهَارًا فَأَمْسَى فَلاَ
تَقْرَبْهُ, وَإِذَا فَضَخْتَهُ لَيْلاً فَأَصْبَحَ, فَلاَ تَقْرَبْهُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِثَلاَثٍ: بِالْخَبَرِ الَّذِي
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ هُوَ يَحْيَى
الْبَهْرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ
إلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ فَإِذَا أَمْسَى أَمَرَ بِهِ أَنْ يُهْرَاقَ أَوْ
يُسْقَى. وَاحْتَجَّ مَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ. رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو عُمَيْرٍ الرَّمْلِيُّ نَا
ضَمْرَةُ، عَنِ السَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَعْنَابِهِمْ
فَقَالَ: "زَبِّبُوهَا. قلنا: مَا نَصْنَعُ بِالزَّبِيبِ قَالَ: انْبِذُوهُ
عَلَى غَدَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَانْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ
وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ وَانْبِذُوهُ فِي الشِّنَانِ، وَلاَ تَنْبِذُوهُ
فِي الْقُلَلِ فَإِنَّهُ إذَا تَأَخَّرَ، عَنْ عَصِيرِهِ
(7/507)
صَارَ
خَلًّا".
هَذَا السَّيْبَانِيُّ بِالسِّينِ غَيْرِ مَنْقُوطَةٍ هُوَ يَحْيَى بْنُ أَبِي
عَمْرٍو وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ،
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أُمِّهِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَتْ: كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِقَاءٍ
يُوكَأُ أَعْلاَهُ وَلَهُ عَزْلاَءُ يُنْبَذُ غُدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عِشَاءً,
وَيُنْبَذُ عِشَاءً فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً.
قال أبو محمد: هَذَا الْخَبَرُ, وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحَانِ, وَلَيْسَا
حَدًّا فِيمَا يَحْرُمُ مِنْ ذَلِكَ; لأََنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ, وَلَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الآخَرِ, إنَّمَا هَذَا عَلَى قَدْرِ الْبِلاَدِ
وَالآنِيَةِ فَتَجِدُ بِلاَدًا بَارِدَةً لاَ يَسْتَحِيلُ فِيهَا مَاءُ الزَّبِيبِ
إلَى ابْتِدَاءِ الْحَلاَوَةِ إِلاَّ بَعْدَ جُمُعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ, وَآنِيَةً
غَيْرَ ضَارِيَةٍ كَذَلِكَ, وَتَجِدُ بِلاَدًا حَارَّةً وَآنِيَةً ضَارِيَةً
يَتِمُّ فِيهَا النَّبِيذُ مِنْ يَوْمِهِ, وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه
السلام الَّذِي ذَكَرْنَا وَاشْرَبْهُ حُلْوًا وَكُلُّ مَا أَسْكَرَ حَرَامٌ
فَقَطْ. وقال أبو حنيفة: إذَا غَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَهُوَ حِينَئِذٍ
حَرَامٌ وَهَذَا قَوْلٌ بِلاَ دَلِيلٍ وَقَالَ آخَرُونَ: إذَا انْتَهَى
غَلَيَانُهُ وَابْتَدَأَ بِأَنْ يَقِلَّ غَلَيَانُهُ فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ إذَنْ إذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ وَهَذَا
كُلُّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَأَمَّا حَدُّ سُكْرِ الإِنْسَانِ فَإِنَّنَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ السَّكْرَانِ
فَقَالَ: أَنَا آخُذُ فِيهِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِيهِ سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ، عَنْ حَدِّ السَّكْرَانِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي إذَا اُسْتُقْرِئَ
سُورَةً لَمْ يَقْرَأْهَا, وَإِذَا خُلِطَتْ ثَوْبُهُ مَعَ ثِيَابٍ لَمْ
يُخْرِجْهُ. قال أبو محمد: وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِنَا فِي أَنْ لاَ يَدْرِيَ مَا
يَقُولُ, وَلاَ يُرَاعِيَ تَمْيِيزَ ثَوْبِهِ, وقال أبو حنيفة لَيْسَ سَكْرَانَ
إِلاَّ حَتَّى لاَ يُمَيِّزَ الأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ, وَأَبَاحَ كُلُّ سُكْرٍ
دُونَ هَذَا فَاعْجَبُوا يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ.
(7/508)
1100- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ نُبِذَ تَمْرٌ, أَوْ رُطَبٌ, أَوْ زَهْوٌ, أَوْ بُسْرٌ, أَوْ زَبِيبٌ مَعَ نَوْعٍ مِنْهَا أَوْ نَوْعٍ مِنْ غَيْرِهَا, أَوْ خُلِطَ نَبِيذُ أَحَدِ الأَصْنَافِ بِنَبِيذِ صِنْفٍ مِنْهَا, أَوْ بِنَبِيذِ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِهَا, أَوْ بِمَائِعِ غَيْرِهَا حَاشَا الْمَاءِ حَرُمَ شُرْبُهُ أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ, وَنَبِيذُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادِهِ حَلاَلٌ, فَإِنْ مُزِجَ نَوْعٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ مَعَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا أَوْ نُبِذَا مَعًا, أَوْ خُلِطَ عَصِيرٌ بِنَبِيذٍ فَكُلُّهُ حَلاَلٌ: كَالْبَلَحِ وَعَصِيرِ الْعِنَبِ, وَنَبِيذِ التِّينِ, وَالْعَسَلِ, وَالْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ, وَغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا لاَ تَحَاشَ شَيْئًا: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ نَا عَفَّانَ
(7/508)
ابْنُ
مُسْلِمٍ، نا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْعَطَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ, وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ نَبِيَّ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ, وَعَنْ
خَلِيطِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ, وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالرُّطَبِ, وَقَالَ:
"انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ".
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَأَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَابْنِ عُمَرَ,
وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا
أَيْضًا آثَارًا مُتَوَاتِرَةً مُتَظَاهِرَةً فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ يَجْمَعُ
كُلَّ مَا فِيهَا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الْمَذْكُورُ. وَبِهِ يَقُولُ جُمْهُورُ
السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى أَنْ يُنْتَبَذَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا,
وَالْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا, وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ
قَالَ: كَانَ أَنَسٌ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْبِذَ يَقْطَعُ مِنْ الثَّمَرَةِ مَا
نَضِجَ مِنْهَا فَيَضَعُهُ وَحْدَهُ وَيَنْبِذُ التَّمْرَ وَحْدَهُ وَالْبُسْرَ
وَحْدَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ
حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ الْمَدَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ كَانُوا يَأْخُذُونَ
الْبُسْرَ فَيَقْطَعُونَ مِنْهُ كُلَّ مُذَنَّبٍ ثُمَّ يَأْخُذُ الْبُسْرَ
فَيَفْضَخُهُ ثُمَّ يَشْرَبُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
أَشْعَثَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ
الأَنْصَارِيُّ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِقَطْعِ الْمُذَنَّبِ فَيَنْبِذُ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:
كَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ
مُتَوَافِرُونَ فَيَلْعَنُونَهُ وَيَقُولُونَ: هَذَا يَشْرَبُ الْخَلِيطَيْنِ الزَّبِيبَ
وَالتَّمْرَ.
قال أبو محمد: هَذَا عِنْدَهُمْ إذَا وَافَقَهُمْ إجْمَاعٌ, وَقَدْ جَاءَ، عَنْ
عُثْمَانَ أَيْضًا كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَخْبَرَنِي عَنْهُ مَنْ
أُصَدِّقُ: أَنْ لاَ يَجْمَعَ بَيْنَ الْبُسْرِ, وَالرُّطَبِ, وَالتَّمْرِ,
وَالزَّبِيبِ, قُلْت لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ قَالَ: لاَ;
قُلْت لِعَمْرٍو: فَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِي الْحَبَلَةِ وَالنَّخْلَةِ, قَالَ:
لاَ أَدْرِي, قُلْت لِعَمْرٍو: أَوْ لَيْسَ إنَّمَا نَهَى، عَنْ أَنْ يَجْمَعَ
بَيْنَهُمَا فِي النَّبِيذِ وَأَنْ يَنْبِذَ جَمِيعًا قَالَ: بَلَى, وَقُلْت
لِعَطَاءٍ: أَذَكَرَ جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ
أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ غَيْرِ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ, وَالتَّمْرِ
وَالزَّبِيبِ قَالَ: لاَ, إِلاَّ أَنْ أَكُونَ نَسِيتُ قُلْت لِعَطَاءٍ:
أَيُجْمَعُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ يُنْبَذَانِ, ثُمَّ يُشْرَبَانِ
(7/509)
حُلْوَيْنِ
قَالَ: لاَ قَدْ نُهِيَ، عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا, قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَوْ
نُبِذَ شَرَابٌ فِي ظَرْفٍ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ لَمْ
يُشْرَبْ حُلْوًا وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ
الْعَالَمِينَ. فَهَذَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لَمْ يَرَ النَّهْيَ يُتَعَدَّى
بِهِ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُنَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي إحْدَى يَدَيَّ نَبِيذُ تَمْرٍ,
وَفِي الأُُخْرَى نَبِيذُ زَبِيبٍ فَشَرِبْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ
لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا, وَلَوْ خَلَطْته لَمْ أَشْرَبْهُ. وَصَحَّ عَنْ جَابِرِ
بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْبُسْرِ, وَالتَّمْرِ
يُجْمَعَانِ فِي النَّبِيذِ فَقَالَ: لاََنْ تَأْخُذَ الْمَاءَ فَتَغْلِيَهُ فِي
بَطْنِك خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَجْمَعَهُمَا جَمِيعًا فِي بَطْنِك.
وقال مالك بِتَحْرِيمِ خَلِيطِ كُلِّ نَوْعَيْنِ فِي الأَنْتِبَاذِ وَبَعْدِ
الأَنْتِبَاذِ, وَكَذَلِكَ فِيمَا عُصِرَ, وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ.
وقال أبو حنيفة بِإِبَاحَةِ كُلِّ خَلِيطَيْنِ وَاحْتَجَّ لأََبِي حَنِيفَةَ
مُقَلِّدُوهُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْبَذُ لَهُ زَبِيبٌ فَيُلْقَى فِيهِ تَمْرٌ
أَوْ تَمْرٌ فَيُلْقَى فِيهِ زَبِيبٌ وَهَذَا لاَ شَيْءَ; لأََنَّهُ، عَنْ
امْرَأَةٍ لَمْ تُسَمَّ. وَمِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ يَحْيَى الْحَسَّانِيِّ
أَنَا أَبُو بَحْرٍ نَا عَتَّابُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحِمَّانِيُّ
حَدَّثَتْنِي صَفِيَّةُ بِنْتُ عَطِيَّةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
تَقُولُ وَقَدْ سُئِلَتْ، عَنِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَقَالَتْ: كُنْت آخُذُ
قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ فَأُلْقِيهِ فِي إنَاءٍ
فَأَمْرُسُهُ, ثُمَّ أَسْقِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُرَدَّدٌ
فِي السُّقُوطِ; لأََنَّهُ، عَنْ أَبِي بَحْرٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ
عَتَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحِمَّانِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ صَفِيَّةَ
بِنْتِ عَطِيَّةَ، وَلاَ تُعْرَفُ مَنْ هِيَ فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْخَفَ مِمَّنْ
يَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذَا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْتَرِضُ فِي رِوَايَةِ
أَبِي عُثْمَانَ الأَنْصَارِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ
حَرَامٌ" . وَأَبُو عُثْمَانَ مَشْهُورٌ قَاضِي الرَّيِّ رَوَى عَنْهُ الأَئِمَّةُ.
وَزَادُوا ضَلاَلاً فَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أُخْبِرْتُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ
رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ: أَجْمَعُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَقَالَ:
لاَ, قَالَ: لِمَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِمَ قَالَ:
سَكِرَ رَجُلٌ فَحَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ أَنْ يُنْظَرَ
مَا شَرَابُهُ فَإِذَا هُوَ تَمْرٌ وَزَبِيبٌ, فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم عَنْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَقَالَ: يُلْقَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ. وَمِنْ طَرِيق أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ
النَّجْرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم سَكْرَانَ وَقَالَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ شَرِبْتَ قَالَ: تَمْرٌ وَزَبِيبٌ,
قَالَ: لاَ تَخْلِطُوهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ يُلْقَى وَحْدَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
التَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
(7/510)
الْخُدْرِيِّ,
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِنَشْوَانَ فَقَالَ: "إنِّي
لَمْ أَشْرَبْ خَمْرًا إنَّمَا شَرِبْتُ زَبِيبًا وَتَمْرًا فِي إنَاءٍ. فَنُهِزَ
بِالأَيْدِي وَخُفِقَ بِالنِّعَالِ وَنَهَى، عَنِ الزَّبِيبِ, وَالتَّمْرِ أَنْ
يُخْلَطَا".
قال أبو محمد: أَمَا لِهَؤُلاَءِ الْمَخَاذِيلِ دِينٌ يَرْدَعُهُمْ, أَوْ حَيَاءٌ
يَزَعُهُمْ, أَوْ عَقْلٌ يَمْنَعُهُمْ، عَنِ الأَحْتِجَاجِ بِالْبَاطِلِ عَلَى
الْحَقِّ; ثُمَّ بِمَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَعْظَمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ, ابْنُ
جُرَيْجٍ يَقُولُ: أُخْبِرْت، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَلاَ يُسَمِّي مَنْ
أَخْبَرَهُ, ثُمَّ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ النَّجْرَانِيِّ وَمَنْ النَّجْرَانِيُّ
لَيْتَ شِعْرِي ثُمَّ هَبْكَ أَنَّنَا سَمِعْنَا كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ,
وَمِنْ ابْنِ عُمَرَ أَلَيْسَ قَدْ أَخْبَرَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم نَهَى، عَنْ جَمْعِهِمَا وَأَمَرَ بِإِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَكَيْف يُجْعَلُ نَهْيُهُ نَفْسُهُ حُجَّةً فِي اسْتِبَاحَةِ مَا نَهَى عَنْهُ
مَا بَعْدَ هَذَا الضَّلاَلِ ضَلاَلٌ, وَلاَ وَرَاءَ هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ
مُجَاهَرَةٌ, وَلَوْلاَ كَثْرَةُ مَنْ ضَلَّ بِاتِّبَاعِهِمْ لَكَانَ الإِعْرَاضُ
عَنْهُمْ أَوْلَى. وَقَالُوا: إنَّمَا نُهِيَ، عَنْ ذَلِكَ; لأََنَّ أَحَدَهُمَا
يُعَجِّلُ غَلَيَانَ الآخَرِ. فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ وَقَفَوْتُمْ مَا لاَ عِلْمَ
لَكُمْ بِهِ, وَافْتَرَيْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ
يَقُلْهُ قَطُّ، وَلاَ أَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ هَبْ الأَمْرَ كَمَا قُلْتُمْ أَلَيْسَ
قَدْ نَهَى عليه السلام عَنْهُ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَانْهَوْا عَمَّا نَهَاكُمْ
عَنْهُ إنْ كَانَ فِي قُلُوبِكُمْ إيمَانٌ بِهِ فَإِنْ قَالُوا: هَذَا نَدْبٌ
قلنا: كَذَبْتُمْ وَقُلْتُمْ مَا لاَ دَلِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ هَبْ الأَمْرَ
كَمَا قُلْتُمْ فَاكْرَهُوهُ إذًا وَانْدُبُوا إلَى تَرْكِهِ, وَأَنْتُمْ لاَ
تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ عِنْدَكُمْ وَمَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ أَصْلاً
سَوَاءً. وَقَالُوا: إنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِضِيقِ الْعَيْشِ, وَلأََنَّهُ مِنْ
السَّرَفِ وَهَذَا قَوْلٌ يُوجِبُ عَلَى قَائِلِهِ مَقْتَ اللَّهِ تَعَالَى;
لأََنَّهُ كَذِبٌ بَحْتٌ, وَمَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ بَارِدٌ مِنْ الْكَذِبِ
سَخِيفٌ مِنْ الْبُهْتَانِ; لأََنَّهُ مَا كَانَ قَطُّ عِنْدَ ذِي عَقْلٍ رِطْلُ
تَمْرٍ وَرِطْلُ زَبِيبٍ, سَرَفًا, أَوْ رِطْلُ زَهْوٍ وَرِطْلُ بُسْرٍ سَرَفًا,
وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ قَرِيبٌ, وَهُمَا بِلاَدُ التَّمْرِ
وَالزَّبِيبِ. ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ رِطْلَ تَمْرٍ, وَرِطْلَ زَبِيبٍ, أَوْ رِطْلَ
زَهْوٍ, وَرِطْلَ رُطَبٍ يُجْمَعَانِ سَرَفًا يَمْنَعُ مِنْهُ ضِيقُ الْعَيْشِ
فَيُنْهَوْنَ عَنْهُ لِذَلِكَ، وَلاَ يَكُونُ مِائَةَ رِطْلِ تَمْرٍ, وَمِائَةَ
رِطْلِ زَبِيبٍ, وَمِائَةَ رِطْل عَسَلٍ يُنْبَذُ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا عَلَى
حِدَتِهِ سَرَفًا. وَكَيْفَ يَكُونُ رِطْلَ تَمْرٍ, وَرِطْلَ زَهْوٍ يُنْبَذَانِ
مَعًا سَرَفًا، وَلاَ وَيَكُونُ أَكْلُهُمَا مَعًا سَرَفًا كَذَلِكَ التَّمْرُ
وَالزَّبِيبُ فِي الأَكْلِ مَعًا, لَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ مِنْ سُخْفِ
الْعَقْلِ, مَنْ هَذَا مِقْدَارُ عَقْلِهِ, وَلَقَدْ عَظُمَتْ بَلِيَّتُهُمْ
بِأَنْفُسِهِمْ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَكْلَ الدَّجَاجِ وَالنِّقْيِ وَالسُّكَّرِ أَدْخَلُ عَلَى
أُصُولِكُمْ الْفَاسِدَةِ فِي السَّرَفِ, وَأَبْعَدُ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ, وَمَا
نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ, ثُمَّ هَبْكُمْ أَنَّهُ
كَمَا تَقُولُونَ, فَأَيُّ رَاحَةٍ لَكُمْ فِي ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ الْمَالِ, قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَذَوِي الْيَسَارَةِ, وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ ذَهَبَ
أَصْحَابُ الدُّثُورِ بِالأُُجُورِ وَكَانَ فِيهِمْ عُثْمَانُ; وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ,
(7/511)
وَسَعْدُ
بْنُ عُبَادَةَ, وَغَيْرُهُ وَفِينَا نَحْنُ وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذُو
ضِيقٍ مِنْ الْعَيْشِ وَفَاقَةٍ شَدِيدَةٍ, فَالْعِلَّةُ بَاقِيَةٌ بِحَسْبِهَا,
فَالنَّهْيُ بَاقٍ، وَلاَ بُدَّ, اسْخَفُوا مَا شِئْتُمْ لاََنْ تُفَوِّتُوا
حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَافِعٍ قُلْت
لأَبْنِ عُمَرَ: أَنْبِذُ نَبِيذَ زَبِيبٍ فَيُلْقَى لِي فِيهِ تَمْرٌ فَيَفْسُدُ
عَلَيَّ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ مَجْهُولٌ.
وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الرُّجُوعُ، عَنْ هَذَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ
ابْنُ عُلَيَّةَ نَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِزَبِيبٍ وَتَمْرٍ أَنْ يُنْبَذَا لَهُ, ثُمَّ تَرَكَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ نَافِعٌ: فَلاَ أَدْرِي أَلِشَيْءٍ ذَكَرَهُ أَمْ لِشَيْءٍ
بَلَغَهُ فَصَحَّ أَنَّهُ ذَكَرَ النَّهْيَ بَعْدَ أَنْ نَسِيَهُ أَوْ بَلَغَهُ
وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقٍ
غَيْرِ مَشْهُورَةٍ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ رَجُلاً مِنْ
جِيرَانِنَا قَالَ: سَمِعْت شِهَابَ بْنَ عَبَّادٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ، عَنِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَقَالَ: لاَ يَضُرُّك أَنْ تَخْلِطَهُمَا
جَمِيعًا أَوْ تُنْبَذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ, فَلاَ أَكْثَرَ, أُسَامَةُ رَجُلٌ مِنْ
جِيرَانِ شُعْبَةَ وَمَا نَعْلَمُ أَتَمَّ جَهْلاً, أَوْ أَقَلَّ حَيَاءً مِمَّنْ
يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلاَ يَصِحُّ أَصْلاً ثُمَّ يُخَالِفُ
رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ
نَصْرِ بْنِ عِمْرَان الضُّبَعِيِّ قَالَ: قُلْت لأَبْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي أَنْتَبِذْ
فِي جَرَّةٍ خَضْرَاءَ نَبِيذًا حُلْوًا فَأَشْرَبُ مِنْهُ فَيُقَرْقِرُ بَطْنِي.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ تَشْرَبْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْخُ
النَّهْيِ، عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ. قلنا: النَّهْيُ وَاَللَّهِ، عَنْ خَلْطِ
الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ أَصَحُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَسْخِ
النَّهْيِ، عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الَّذِي لَمْ يَأْتِ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ
بُرَيْدَةَ وَجَابِرٍ فَقَطْ, وَالنَّهْيُ، عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ
وَالزَّبِيبِ فِي الأَنْتِبَاذِ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قَتَادَةَ, وَجَابِرٍ,
وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, فَهُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ
وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ لاَ ضَعِيفٌ، وَلاَ قَوِيٌّ. وَقَالُوا: أَيُّ
فَرْقٍ بَيْنَ جَمْعِهِمَا فِي الإِنَاءِ, وَبَيْنَ جَمْعِهِمَا فِي الْبَطْنِ.
فَقُلْنَا: لاَ يُعَارَضُ بِهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَيُّ
فَرْقٍ بَيْنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الأُُخْتَيْنِ وَبَيْنَ نِكَاحِهِمَا وَاحِدَةً
بَعْدَ أُخْرَى وَلَوْ عَارَضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي فَرْقِكُمْ بَيْنَ الآبِقِ
يُوجَدُ فِي الْمِصْرِ, وَبَيْنَ الآبِقِ يُوجَدُ خَارِجَ الْمِصْرِ عَلَى ثَلاَثٍ
لاََصَبْتُمْ. وَفِي فَرْقِكُمْ بَيْنَ السَّرِقَةِ مِنْ الْحِرْزِ أَقَلَّ مِنْ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلاَ يُوجِبُ الْقَطْعَ وَبَيْنَ سَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلاَ يُوجِبُ الْقَطْعَ, فَإِذَا اجْتَمَعَا فَسَرَقَ
عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ حِرْزٍ وَجَبَ الْقَطْعُ, وَبَيْنَ الْقَهْقَهَةِ تَكُونُ
فِي الصَّلاَةِ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَتَكُونُ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَلاَ
تَنْقُضُهُ لَكَانَ أَسْلَمَ لَكُمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ،
(7/512)
عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَفْضَخَ الْعِذْقَ بِمَا فِيهِ,
وَمَا نَعْلَمُ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ غَيْرِهِ, عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ بَيَانٌ لأَِبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَسَائِرِ مَا
جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ،
عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ صَفْوَانَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ أُمِّهِ
أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْت أَمْغَثُ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه الزَّبِيبَ غُدْوَةً
فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً, وَأَمْغَثُهُ عَشِيَّةً فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً, قَالَتْ:
فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: لَعَلَّك تَجْعَلِينَ فِيهِ زَهْوًا قُلْت: رُبَّمَا
فَعَلْت, فَقَالَ: فَلاَ تَفْعَلِي.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ نَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ
الْخَلِيطَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ
عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ الْخَلِيطَيْنِ
أَنْ يُشْرَبَا قلنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْخَلِيطَانِ قَالَ:
"التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ, وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَا وِقَاءُ بْنُ إيَاسٍ، عَنِ
الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَنْ نَجْمَعَ شَيْئَيْنِ نَبِيذًا مِمَّا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى
صَاحِبِهِ وَكَانَ أَنَسٌ يَكْرَهُ الْمُذَنَّبَ مِنْ الْبُسْرِ مَخَافَةَ أَنْ
يَكُونَا شَيْئَيْنِ فَكُنَّا نَقْطَعُهُ. وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ نَهْيُ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يُجْمَعَ التَّمْرُ, وَالزَّبِيبُ,
وَالْبُسْرُ, وَالزَّهْوُ, وَالرُّطَبُ: اثْنَانِ مِنْهُمَا أَوْ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا وَآخَرُ مِنْ غَيْرِهِمَا فِي الأَنْتِبَاذِ مَعًا, أَوْ يَنْبِذَهُمَا
فِي إنَاءٍ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ مَا يَنْبِذُ وَيَعْصِرُ كَذَلِكَ. قال
أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَكُلُّهُ لاَ يَصِحُّ: أَمَّا
الْحَدِيثُ الأَوَّلُ: فَمُدَلَّسٌ لَمْ يَسْمَعْهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ
مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ،
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى مَا أَوْرَدْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ مِنْ
تَفْصِيلِ الأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ فَإِنَّنَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ نَا
أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ نَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ أَنَّ كِلاَبَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَ الْبُسْرِ
وَالرُّطَبِ, وَبَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ:
وَأَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا أَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ نَا
عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ
كِلاَبٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "انْتَبِذُوا الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جَمِيعًا, وَلاَ
تَنْتَبِذُوا الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ
(7/513)
جَمِيعًا" فَإِنَّمَا سَمِعَهُ يَحْيَى مِنْ كِلاَبِ بْنِ عَلِيٍّ, وَثُمَامَةَ بْنِ كِلاَبٍ, وَكِلاَهُمَا لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ فَسَقَطَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ; لأََنَّ الْخَلِيطَيْنِ هَكَذَا مُطْلَقًا لاَ يُدْرَى مَا هُمَا أَهُمَا الْخَلِيطَانِ فِي الزَّكَاةِ أَمْ فِي مَاذَا وَأَيْضًا فَإِنَّ ثَرِيدَ اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ خَلِيطَانِ, وَاللَّبَنَ وَالْمَاءَ خَلِيطَانِ, فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ مُرَادِهِ عليه السلام بِذَلِكَ, وَلاَ يُؤْخَذُ بَيَانُ مُرَادِهِ إِلاَّ مِنْ لَفْظِهِ عليه السلام فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الأَثَرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ الأُُبُلِّيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, بَلْ كَانَ يَكُونُ حُجَّةً عَظِيمَةً قَاطِعَةً عَلَيْهِمْ; لأََنَّ فِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَمْ يَعْرِفُوا مَا الْخَلِيطَانِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُمَا حَتَّى سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَفَسَّرَهُمَا لَهُمْ عليه السلام بِأَنَّهُمَا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُمَا, فَلَوْ أَرَادَ غَيْرَهُمَا لَمَا سَكَتَ، عَنْ ذِكْرِهِ وَقَدْ سَأَلُوهُ الْبَيَانَ هَذَا مَا لاَ يُحِيلُ عَلَى مُسْلِمٍ; لأََنَّهُ كَانَ يَكُونُ أَعْظَمَ التَّلْبِيسِ عَلَيْهِمْ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ هَهُنَا شَيْئًا زَائِدًا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ لأَُمَّتِهِ فَقَدْ افْتَرَى الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَلْحَدَ فِي الدِّينِ بِلاَ شَكٍّ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا خَبَرُ أَنَسٍ فَمِنْ طَرِيقِ وِقَاءِ بْنِ إيَاسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ, مَعَ أَنَّهُ كَلاَمٌ فَاسِدٌ لاَ يُعْقَلُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلْبَتَّةَ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا مَعْنَى يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي النَّبِيذِ. فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَاهُ يُعَجِّلُ أَحَدُهُمَا غَلَيَانَ الآخَرِ قلنا: هَذَا الْكَذِبُ الْعَلاَنِيَةُ وَمَا يَغْلِي تَمْرٌ وَزَبِيبٌ جَمْعًا فِي النَّبِيذِ إِلاَّ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَغْلِي فِيهَا الزَّبِيبُ وَحْدَهُ; أَوْ التَّمْرُ وَحْدَهُ وَهُوَ عليه السلام لاَ يَقُولُ إِلاَّ الْحَقَّ; فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قِسْنَا سَائِرَ الْخَلْطِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ. فَقُلْنَا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لأََنَّكُمْ لَسْتُمْ بِأَوْلَى أَنْ تَقِيسُوا التِّينَ, وَالْعَسَلَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ آخَرَ أَرَادَ أَنْ يَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ اللَّبَنَ وَالسُّكَّرَ مَجْمُوعَيْنِ, أَوْ الْخَلَّ, وَالْعَسَلَ فِي السَّكَنْجَبِينِ مَجْمُوعَيْنِ, أَوْ الزَّبِيبَ, وَالْخَلَّ مَجْمُوعَيْنِ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ. فَإِنْ قَالُوا: لاَ نَتَعَدَّى النَّبِيذَ. قلنا لَهُمْ: بَلْ قِيسُوا عَلَى الْجَمْعِ فِي النَّبِيذِ الْجَمْعَ فِي غَيْرِ النَّبِيذِ, أَوْ لاَ تَتَعَدَّوْا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ لاَ فِي نَبِيذٍ, وَلاَ غَيْرِهِ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/514)
1101- مَسْأَلَةٌ: وَالأَنْتِبَاذُ فِي الْحَنْتَمِ, وَالنَّقِيرِ, وَالْمُزَفَّتِ, وَالْمُقَيَّرِ, وَالدُّبَّاءِ, وَالْجِرَارِ الْبِيضِ, وَالسُّودِ, وَالْحُمْرِ, وَالْخُضْرِ, وَالصُّفْرِ, وَالْمُوَشَّاةِ, وَغَيْرِ الْمَدْهُونَةِ, وَالأَسْقِيَةِ, وَكُلُّ
(7/514)
ظَرْفٍ
حَلاَلٌ, إِلاَّ إنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ, أَوْ
جِلْدَ مَيْتَةٍ غَيْرَ مَدْبُوغٍ, أَوْ إنَاءً مَأْخُوذًا بِغَيْرِ حَقٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ
أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ، عَنِ الأَوْعِيَةِ
فَانْتَبِذُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ, وَإِيَّاكُمْ وَكُلَّ مُسْكِرٍ" . وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ وَاصِلٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ
ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ، عَنِ الأَشْرِبَةِ إِلاَّ فِي ظُرُوفِ الأُُدْمِ
فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا" وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نَا الْحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرُ نَا
الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ
مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "نَهَيْتُكُمْ، عَنِ الظُّرُوفِ وَإِنَّ الظُّرُوفَ ظَرْفًا
لاَ يُحِلُّ شَيْئًا، وَلاَ يُحَرِّمُهُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" وَمِنْ
طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الظُّرُوفِ فَقَالَتْ
الأَنْصَارُ: إنَّهُ لاَ بُدَّ لَنَا مِنْهَا. قَالَ: فَلاَ إذًا. فَصَحَّ أَنَّ
إبَاحَةَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الظُّرُوفِ نَاسِخَةٌ لِلنَّهْيِ, وَقَدْ كَانَ
عليه السلام نَهَى عَنْهَا, فَقَدْ صَحَّ عَنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ الأَنْتِبَاذِ وَالشُّرْبِ فِي
الْحَنْتَمِ, وَالْمُقَيَّرِ, وَالدُّبَّاءِ, وَالْمَزَادَةِ الْمَجْبُوبَةِ,
وَكُلِّ شَيْءٍ صُنِعَ مِنْ مَدَرٍ, وَالْجَرِّ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ
أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ كُلَّ شَيْءٍ صُنِعَ مِنْ مَدَرٍ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمُزَادَةَ الْمَجْبُوبَةَ وَذَكَرَ الْجُرَّ.
وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَابْنِ عُمَرَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ الْمُزَفَّتِ, وَالْحَنْتَمِ,
وَالنَّقِيرِ, وَالْجَرِّ. وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ,
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَنَسٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَعْمُرَ
كُلِّهِمْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ الدُّبَّاءِ
وَالْمُزَفَّتِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أَيْضًا مُسْنَدًا، عَنِ الْجَرِّ.
وَعَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ الْجَرِّ الأَخْضَرِ وَالأَبْيَضِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ عليه السلام: نَهَى، عَنِ الْجَرِّ.
فَهَؤُلاَءِ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم رَوَوْا، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيَ, وَرَوَاهُ عَنْهُمْ
(7/515)
أَعْدَادٌ
كَثِيرَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ, وَهَذَا نَقْلُ تَوَاتُرٍ وَلَمْ يَأْتِ النَّسْخُ
إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ
أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ فَقَطْ وَقَدْ ثَبَتَ عَلَى تَحْرِيمِ مَا صَحَّ
النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, وَعَلِيٌّ, وَابْنُ
عُمَرَ, وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ,
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاخْتَلَفَ التَّابِعُونَ أَيْضًا. وَعَهْدُنَا
بِالْحَنَفِيِّينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ إذَا جَاءَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا نَقْلُ
تَوَاتُرٍ, وَالآخَرُ نَقْلُ آحَادٍ: أَخَذْنَا بِالتَّوَاتُرِ, وَتَنَاقَضُوا
هَهُنَا. وقال مالك: أَكْرَهُ أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ, وَالْمُزَفَّتِ
فَقَطْ, وَأَبَاحَ الْجَرَّ كُلَّهُ غَيْرَ الْمُزَفَّتِ, وَالْحَنْتَمِ,
وَالْمُقَيَّرِ وَهَذَا فَاسِدٌ جِدًّا; لأََنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ، وَلاَ
نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُ قَسَّمَ هَذَا التَّقْسِيمَ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ تَحْرِيمُ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الأَكْلَ. وَالشُّرْبَ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ أَوْ
الْفِضَّةِ أَوْ إنَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ أَنْ لاَ يُوجَدَ غَيْرُهُ
فَيَغْسِلَ بِالْمَاءِ وَيَحِلُّ ذَلِكَ فِيهِ حِينَئِذٍ, وَالْبُرْهَانُ عَلَى
تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ الإِنَاءِ الْمَأْخُوذِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَذَكَرْنَا فِي
كِتَابِ الطَّهَارَةِ تَحْرِيمَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْبُغَ,
فَبَقِيَ كُلُّ هَذَا عَلَى التَّحْرِيمِ لِصِحَّةِ الْبُرْهَانِ بِأَنَّ كُلَّ
ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ مُذْ حُرِّمَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/516)
1102- مَسْأَلَةٌ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ هَذَا الدِّيوَانِ إبَاحَةَ الْخَمْرِ لِمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
(7/516)
1103- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ شُرْبُهُ فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَلاَ إمْسَاكُهُ, وَلاَ الأَنْتِفَاعُ بِهِ, فَمَنْ خَلَّلَهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحَلَّ أَكْلُ ذَلِكَ الْخَلِّ, إِلاَّ أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ سَقَطَ، عَنِ الشَّرَابِ الْحَلاَلِ إذَا أَسْكَرَ وَصَارَ خَمْرًا فَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ بِغَلَبَةٍ أَوْ بِسَرِقَةٍ فَهُوَ حَلاَلٌ, إِلاَّ أَنْ يَسْبِقَ الَّذِي خَلَّلَهُ إلَى تَمَلُّكِهِ فَهُوَ حِينَئِذٍ لَهُ, كَمَا لَوْ سَبَقَ إلَيْهِ غَيْرِهِ, وَلاَ فَرْقَ; لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ نَا عَبْدُ الأَعْلَى أَبُو هَمَّامٍ نَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ, وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ" فَمَا لَبِثْنَا إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلاَ يَشْرَبْ، وَلاَ يَبِعْ" , قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ, وَسُلَيْمَانَ
(7/516)
1104-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ كَسْرُ أَوَانِي الْخَمْرِ, وَمَنْ كَسَرَهَا مِنْ
حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا, لَكِنْ تُهْرَقُ وَتُغْسَلُ
الْفَخَّارُ, وَالْجُلُودُ, وَالْعِيدَانُ, وَالْحَجَرُ, وَالدُّبَّاءُ, وَغَيْرُ
ذَلِكَ, كُلُّهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيِّ وقال مالك: يُكْسَرُ الْفَخَّارُ وَالْعُودُ وَيُشَقُّ الْجِلْدُ
وَيُغْسَلُ مَا عَدَا ذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ الآنَ مِنْ فَتْحِ الَّذِي أَهْدَى رَاوِيَةَ
الْخَمْرِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لاَ
يَحِلُّ بَيْعُهَا فَتَحَ الْمُزَادَةَ وَأَهْرَقَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ عليه
السلام بِخَرْقِهَا, وَنَهْيِهِ عليه السلام، عَنْ إضَاعَةِ
(7/517)
الْمَالِ,
وَالْكَسْرُ وَالْخَرْقُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ, وَمُتْلِفُ مَالِ غَيْرِهِ مُعْتَدٍ
وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ هَذَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ: أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَسَرَ كُوزًا فِيهِ شَرَابٌ وَشَقَّ الْمَشَاعِلَ
يَوْمَ خَيْبَرَ وَهِيَ الزِّقَاقُ. وَهَذَا مُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ.
وَبِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: شَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم زُقَاقَ الْخَمْرِ. وَبِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عليه
السلام شَقَّ زُقَاقَ الْخَمْرِ. وَبِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ أَنَّهُ عليه
السلام أَرَاقَ الْخَمْرَ وَكَسَرَ جِرَارَهَا. وَكُلُّ هَذَا لاَ يَصِحُّ مِنْهُ
شَيْءٌ.
أَمَّا خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ: فَأَحَدُ طُرُقِهِ فِيهَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ
الْخَوْلاَنِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَالثَّانِي: مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ هَالِكٌ، عَنْ أَبِي طُعْمَةَ وَهُوَ نُسَيْرُ
بْنُ ذُعْلُوقٍ وَهُوَ لاَ شَيْءَ. وَالثَّالِثُ: مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ وَهُوَ هَالِكٌ، عَنْ طَلْقٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَفِيهِ عُمَرُ بْنُ صَهْبَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ
ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ أَيْضًا آخَرُ لَمْ يُسَمِّ. وَحَدِيثُ
جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ مُطَّرَحٌ فَلَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا
الْبَابِ شَيْءٌ, وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا لُحُومَ الْخَنَازِيرِ
وَيَشْرَبُونَ فِيهَا الْخَمْرَ وَعَرَفَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَأَمَرَ بِغَسْلِهَا بِالْمَاءِ, ثُمَّ أَبَاحَ الأَكْلَ فِيهَا
وَالشُّرْبَ, وَلاَ حُجَّةَ إِلاَّ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ عليه السلام.
(7/518)
1105- مَسْأَلَةٌ: وَفُرِضَ عَلَى مَنْ أَرَادَ النَّوْمَ لَيْلاً أَنْ يُوكِيَ قِرْبَتَهُ, وَيُخَمِّرَ آنِيَتَهُ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرِضُهُ عَلَيْهَا, وَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَنْ يُطْفِئَ السِّرَاجَ, وَيُخْرِجَ النَّارَ مِنْ بَيْتِهِ جُمْلَةً إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إلَيْهَا لِبَرْدٍ أَوْ لِمَرَضٍ, أَوْ لِتَرْبِيَةِ طِفْلٍ, فَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ لاَ يُطْفِئَ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: نَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ نَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ" فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةً مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا, وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ, وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا, وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ
(7/518)
صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ. وَفِيهِ وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ" وَأَمَّا مَنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}.
(7/519)
1106-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الشُّرْبُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ نَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ أَنَا عِكْرِمَةُ نَا أَبُو
هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ
فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ. وَرُوِيَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا
مُسْنَدًا صَحِيحًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي
الله عنهم.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ شَرِبَ مِنْ فَمِ
قِرْبَةٍ قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ; لأََنَّ أَحَدَهَا مِنْ طَرِيقِ
الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ وَقَدْ تُرِكَ وَفِيهِ الْبَرَاءُ ابْنُ بِنْتِ
أَنَسٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَخَبَرٌ آخَرُ: مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
جَارِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، وَلاَ أَعْرِفُهُ.
وَآخَرُ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ
مُوَافَقَةً لِمَعْهُودِ الأَصْلِ, وَالنُّهَى بِلاَ شَكٍّ إذَا وَرَدَ نَاسِخٌ
لِتِلْكَ الإِبَاحَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَعُودَ الْمَنْسُوخُ
نَاسِخًا، وَلاَ يَأْتِي بِذَلِكَ بَيَانٌ جَلِيٌّ, إذَنْ كَانَ يَكُونُ الدِّينُ
غَيْرَ مُبَيَّنٍ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا, وَهُوَ عليه السلام مَأْمُورٌ
بِالْبَيَانِ. فإن قيل: قَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ فَمِ
إدَاوَةٍ. قلنا: نَعَمْ, هَذَا حَسَنٌ; لأََنَّهُ الإِدَاوَةُ وَلَيْسَتْ
قِرْبَةً، وَلاَ سِقَاءً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/519)
1107- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الشُّرْبُ قَائِمًا, وَأَمَّا الأَكْلُ قَائِمًا فَمُبَاحٌ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ, وَقُتَيْبَةُ, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, قَالَ هَدَّابٌ: نَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: نَا عَبْدُ الأَعْلَى نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ, وَقَالَ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: نَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ, ثُمَّ اتَّفَقَ هَمَّامٌ, وَهِشَامٌ, وَسَعِيدٌ, كُلُّهُمْ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا وَلَفْظُ هَدَّابٍ زَجَرَ، عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا. وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَذَكَرَ لأَبْنِ عُمَرَ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ. فإن قيل: قَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ قَائِمًا
(7/519)
ولا
يحل النفخ في الشرب ويستحب أن يبن الشارِب الإناء عن فمه ثلاثاً
...
1108- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ النَّفْخُ فِي الشُّرْبِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ
يُبِينَ الشَّارِبُ الإِنَاءَ، عَنْ فَمِهِ ثَلاَثًا لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ نَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ نَا الثَّقَفِيُّ هُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ أَيُّوبَ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ. وَرَوَاهُ
أَيْضًا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُسْنَدًا وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ الأَعْلَى نَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ النَّفْخِ فِي الإِنَاءِ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُسْنَدًا. فإن قيل: قَدْ رَوَاهُ
هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَحْسَبُهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قلنا: هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ وَقَدْ تُرِكَ
وَحَتَّى لَوْ شَكَّ هِشَامٌ فِي إسْنَادِهِ فَلَمْ يَشُكَّ أَيُّوبُ، وَلاَ
مَعْمَرٌ, وَكِلاَهُمَا فَوْقَ هِشَامٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو
نُعَيْمٍ, وَأَبُو عَاصِمٍ قَالاَ: نَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ نَا
ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي
الإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاَثًا.
قال أبو محمد: التَّنَفُّسُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ النَّفْخُ فِيهِ كَمَا
بَيَّنَهُ مَعْمَرٌ وَالتَّنَفُّسُ الْمُسْتَحَبُّ هُوَ أَنْ يَتَنَفَّسَ
بِإِبَانَتِهِ، عَنْ فِيهِ, إذْ لَمْ نَجِدْ مَعْنًى يُحْمَلُ عَلَيْهِ سِوَاهُ.
(7/520)
1109-
مَسْأَلَةٌ: وَالْكَرْعُ مُبَاحٌ, وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ بِفَمِهِ مِنْ النَّهْرِ,
أَوْ الْعَيْنِ, أَوْ السَّاقِيَةِ; إذْ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَهْيٌ. رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ فُلَيْحِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ
جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:، أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ
الأَنْصَارِ وَهُوَ فِي حَائِطِهِ: إنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ
وَإِلَّا كَرَعْنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ
بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ
تَكْرَعُوا, وَلَكِنْ اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ فَاشْرَبُوا فِيهَا, فَإِنَّهُ لَيْسَ
مِنْ إنَاءٍ أَطْيَبَ مِنْ الْيَدِ".
قال أبو محمد: فُلَيْحِ, وَلَيْثٌ مُتَقَارِبَانِ, فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ نَهْيٌ،
وَلاَ أَمْرٌ, فَكُلُّ شَيْءٍ مُبَاحٌ; لِقَوْلِهِ عليه السلام الثَّابِتِ
ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ, وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَاتْرُكُوهُ فَلاَ وَاجِبَ
أَنْ يُؤْتِيَ إِلاَّ مَا أُمِرَ بِهِ عليه السلام, وَلاَ وَاجِبَ أَنْ يَتْرُكَ
إِلاَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ عليه السلام وَمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ وَاجِبَ، وَلاَ
مُحَرَّمَ فَهُوَ مُبَاحٌ.
(7/521)
1110- مَسْأَلَةٌ: وَالشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ مُبَاحٌ; لأََنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا نَهْيٌ, إنَّ مَا رُوِّينَا النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُسْنَدًا وَقُرَّةُ هَذَا، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَيْوِيلَ وَهُوَ سَاقِطٌ وَلَيْسَ هُوَ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ الَّذِي يَرْوِي، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ, ذَلِكَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يُشْرَبَ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ, أَوْ مِنْ عِنْدِ أُذُنِهِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَقَدْ خَالَفَهُمَا هَؤُلاَءِ.
(7/521)
1111- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ شَرِبَ فَلْيُنَاوِلْ الأَيْمَنَ مِنْهُ فَالأَيْمَنَ، وَلاَ بُدَّ كَائِنًا مَنْ كَانَ, وَلاَ يَجُوزُ مُنَاوَلَةُ غَيْرِ الأَيْمَنِ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَيْمَنِ, وَمَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُنَاوِلَ أَحَدًا فَلَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ جَمَاعَةٌ فَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ أَمَامَهُ أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ أَوْ، عَنْ يَسَارِهِ: فَلْيُنَاوِلْ الأَكْبَرَ فَالأَكْبَرَ، وَلاَ بُدَّ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ دَارَهُمْ, قَالَ: فَحَلَبْنَا لَهُ مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ وَشُيِّبَ لَهُ مِنْ بِئْرٍ فِي الدَّارِ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ شِمَالِهِ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
(7/521)
1112-
مَسْأَلَةٌ: وَسَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ هُوَ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا" .
تم كتاب الأشربة بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما.
(7/522)
كتاب
العقيقة
باب العقيقة
العقيقة فرض واجب يجبر الإنسان عليها إذا فضل له عن قوته مقدارها
...
كِتَابُ الْعَقِيقَةِ
1113- مَسْأَلَةٌ: الْعَقِيقَةُ فَرْضٌ وَاجِبٌ يُجْبَرُ الإِنْسَانُ عَلَيْهَا
إذَا فَضَلَ لَهُ، عَنْ قُوتِهِ مِقْدَارُهَا. وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَ، عَنْ كُلِّ
مَوْلُودٍ يُولَدُ لَهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَقَعُ عَلَيْهِ
اسْمُ غُلاَمٍ أَوْ اسْمُ جَارِيَةٍ. إنْ كَانَ ذَكَرًا فَشَاتَانِ وَإِنْ كَانَ
أُنْثَى فَشَاةٌ وَاحِدَةٌ. يَذْبَحُ كُلَّ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ
الْوِلاَدَةِ، وَلاَ تُجْزِئُ قَبْلَ الْيَوْمِ السَّابِعِ أَصْلاً فَإِنْ لَمْ
يَذْبَحْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ ذَبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ مَتَى أَمْكَنَ فَرْضًا.
وَيُؤْكَلُ مِنْهَا وَيُهْدَى وَيُتَصَدَّقُ, هَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ لاَ فَرْضٌ.
وَيُعَدُّ فِي الأَيَّامِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَوْمُ الْوِلاَدَةِ
وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ يَسِيرٌ. وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ فِي الْيَوْمِ
السَّابِعِ, وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ دَمِ الْعَقِيقَةِ, وَلاَ
بَأْسَ بِكَسْرِ عِظَامِهَا. وَلاَ يُجْزِئُ فِي الْعَقِيقَةِ إِلاَّ مَا يَقَعُ
عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ إمَّا مِنْ الضَّأْنِ, وَأَمَّا مِنْ الْمَاعِزِ فَقَطْ،
وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا لاَ مِنْ الإِبِلِ، وَلاَ
مِنْ الْبَقَرِ الإِنْسِيَّةِ, وَلاَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلاَ تُجْزِئُ فِي
ذَلِكَ جَذَعَةٌ أَصْلاً, وَلاَ يُجْزِئُ مَا دُونَهَا مِمَّا لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ
اسْمُ شَاةٍ. وَيُجْزَى الذَّكَرُ وَالأُُنْثَى مِنْ كُلِّ ذَلِكَ; وَيُجْزِئُ
الْمَعِيبُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ فِي الأَضَاحِيّ أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَجُوزُ
فِيهَا, وَالسَّالِمُ أَفْضَلُ. وَيُسَمَّى الْمَوْلُودُ يَوْمَ وِلاَدَتِهِ,
فَإِنْ أُخِّرَتْ تَسْمِيَتُهُ إلَى الْيَوْمِ السَّابِعِ فَحَسَنٌ. وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يَطْعَمَ أَوَّلَ وِلاَدَتِهِ التَّمْرَ مَمْضُوغًا وَلَيْسَ فَرْضًا.
وَالْحُرُّ, وَالْعَبْدُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ, وَالْمُؤْمِنُ,
وَالْكَافِرُ كَذَلِكَ. وَهِيَ فِي مَالِ
(7/523)
الأَبِ
أَوْ الأُُمِّ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلُودِ مَالٌ,
فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَهِيَ فِي مَالِهِ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ السَّابِعِ
عُقَّ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ بُدَّ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ
بْنِ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ نَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ وَحَبِيبٌ، هُوَ
ابْنُ الشَّهِيدِ وَيُونُسُ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ وَقَتَادَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا
عَنْهُ دَمًا, وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ إلَى حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ, وَجَرِيرِ بْنِ
حَازِمٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ
عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبَابِ،
عَنِ ابْنِ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِنَحْوِهِ.
وَبِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ نَا عَفَّانَ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ طَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ
وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ" . نَا حُمَامٌ نَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنُ أَيْمَنَ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ
التِّرْمِذِيُّ نَا الْحُمَيْدِيُّ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ نَا عَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ أَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ
مَيْسَرَةَ الْفِهْرِيَّةَ مَوْلاَتُه مِنْ فَوْقُ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ
أُمَّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةَ تَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ فِي الْعَقِيقَةِ: "عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ, وَعَنِ
الْجَارِيَةِ شَاةٌ" فَسَّرَ عَطَاءٌ الْمُكَافَأَتَانِ بِأَنَّهُمَا
الْمِثْلاَنِ. وَفَسَّرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّهُمَا الْمُتَقَارِبَتَانِ
أَوْ الْمُتَسَاوِيَتَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سِبَاعِ بْنِ ثَابِتٍ،
عَنْ أُمِّ كُرْزٍ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ لاَ يَضُرُّكُمْ
ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إنَاثًا". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ
أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ نَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، هُوَ
ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ نَا قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ
جُنْدُبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ غُلاَمٍ
مُرْتَهِنٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ
وَيُسَمَّى". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ
النَّمَرِيُّ نَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى نَا قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ،
عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
(7/524)
الله
عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ حَتَّى تُذْبَحَ
عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُدَمَّى" فَكَانَ قَتَادَةَ
إذَا سُئِلَ، عَنِ الدَّمِ كَيْفَ يُصْنَعُ قَالَ: "إذَا ذُبِحَتْ
الْعَقِيقَةُ أُخِذَتْ مِنْهَا صُوفَةٌ فَاسْتُقْبِلَتْ بِهَا أَوْدَاجُهَا, ثُمَّ
تُوضَعُ عَلَى يَافُوخِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَسِيلَ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الْخَيْطِ,
ثُمَّ يُغْسَلُ رَأْسُهُ بَعْدُ وَيُحْلَقُ" . قَالَ أَبُو دَاوُد: أَخْطَأَ
هَمَّامٌ إنَّمَا هُوَ يُسَمَّى.
قال أبو محمد: بَلْ وَهَمَ أَبُو دَاوُد; لأََنَّ هَمَّامًا ثَبَّتَ وَبَيَّنَ
أَنَّهُمْ سَأَلُوا قَتَادَةَ، عَنْ صِفَةِ التَّدْمِيَةِ الْمَذْكُورَةِ
فَوَصَفَهَا لَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي
الأَسْوَدِ نَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ قَالَ: أَمَرَنِي
ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ
فَسَأَلْته فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَصِحُّ لِلْحَسَنِ سَمَاعٌ مِنْ سَمُرَةَ إِلاَّ حَدِيثُ
الْعَقِيقَةِ وَحْدَهُ فَهَذِهِ الأَخْبَارُ نَصُّ مَا قلنا وَهُوَ قَوْلُ
جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ وَلَدَتْ لِلْمُنْذِرِ بْنِ
الزُّبَيْرِ غُلاَمًا فَقُلْت لَهَا: هَلَّا عَقَقْت جَزُورًا عَلَى ابْنِك
قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ كَانَتْ عَمَّتِي عَائِشَةُ تَقُولُ عَلَى الْغُلاَمِ
شَاتَانِ, وَعَلَى الْجَارِيَةِ شَاةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ, وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وَهُوَ
قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نَا جَعْفَرُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ نَا عَفَّانَ نَا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ
سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ
دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُلَطِّخُهُ بِالدَّمِ,
وَيُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِهِ فِضَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ
مَكْحُولٍ: بَلَغَنِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: الْمَوْلُودُ مُرْتَهِنٌ
بِعَقِيقَتِهِ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ: إنَّ النَّاسَ يُعْرَضُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْعَقِيقَةِ كَمَا يُعْرَضُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ وَمِثْلُهُ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يُصْنَعُ بِالْعَقِيقَةِ مَا يُصْنَعُ بِالأُُضْحِيَّةِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَأْكُلُ أَهْلُ الْعَقِيقَةِ وَيُهْدُونَهَا أَمَرَ صلى الله
عليه وسلم بِذَلِكَ زَعَمُوا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ.
(7/525)
قال
أبو محمد: أَمْرُهُ عليه السلام بِالْعَقِيقَةِ فَرْضٌ كَمَا ذَكَرْنَا لاَ
يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِهِ عليه السلام عَلَى
جَوَازِ تَرْكِهَا إِلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ وَارِدٍ بِذَلِكَ, وَإِلَّا فَالْقَوْلُ
بِذَلِكَ كَذِبٌ وَقَفْوٌ لِمَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِهِ. وَقَدْ قَالَ عليه
السلام: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ".
وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا: أَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابُنَا. وَمِمَّنْ
قَالَ: بِالشَّاتَيْنِ، عَنِ الذَّكَرِ, وَشَاةِ، عَنِ الأُُنْثَى: الشَّافِعِيُّ,
وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَلاَ تُسَمَّى: "السَّخْلَةُ" شَاةً. وَقَدْ
ذَكَرْنَا فِي الأَضَاحِيّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ
تُجْزِي جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" فَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَخُصُّ مِنْهُ
إِلاَّ مَا خَصَّهُ نَصٌّ. وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الضَّانِيَةِ
وَالْمَاعِزَةِ بِلاَ خِلاَفٍ إطْلاَقًا بِلاَ إضَافَةٍ وَقَالَ الأَعْشَى يَصِفُ
ثَوْرًا وَحْشِيًّا:
فَلَمَّا أَضَاءَ الصُّبْحُ ثَارَ مُبَادِرًا ... وَكَانَ انْطِلاَقُ الشَّاةِ
مِنْ حَيْثُ خَيَّمَا
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يُخَاطِبُ ظَبْيَةً:
أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... وَبَيْنَ النَّقَا أَأَنْتِ
أَمْ أُمُّ سَالِمٍ
فَأَجَابَهُ أَخُو هِشَامٍ وَكِلاَهُمَا عَرَبِيٌّ أَعْرَابِيٌّ فَصِيحٌ:
فَلَوْ تُحْسِنُ التَّشْبِيهَ وَالشِّعْرَ لَمْ تَقُلْ ... لِشَاةِ النَّقَا
أَأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمٍ
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سَلْمَى يَصِفُ حَمِيرَ وَحْشٍ:
فَبَيْنَا نَبْغِي الْوَحْشَ جَاءَ غُلاَمُنَا ... يَدِبُّ وَيُخْفِي شَخْصَهُ
وَيُضَائِلُهُ
فَقَالَ شِيَاهٌ رَائِعَاتٌ بِقَفْرَةٍ ... بِمُسْتَأْسِدِ الْقِرْيَانِ حُوٌّ
مَسَائِلُهُ
ثَلاَثٌ كَأَقْوَاسِ السِّرَاءِ وَمِسْحَلٌ ... قَدْ اخْضَرَّ مِنْ لَسِّ
الْغَمِيرِ جَحَافِلُهُ
وَقَدْ خَرَمَ الطِّرَادَ عَنْهُ جِحَاشُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ نَفْسُهُ
وَحَلاَئِلُهُ
ثُمَّ مَضَى فِي الْوَصْفِ إلَى أَنْ قَالَ:
فَتَبِعَ آثَارَ الشِّيَاهِ وَلِيدُنَا ... كَشُؤْبُوبِ غَيْثٍ يَحْفِشُ الأَكَمَ
وَابِلُهُ
فَرَدَّ عَلَيْنَا الْعَيْرَ مِنْ دُونِ إلْفِهِ ... عَلَى رَغْمِهِ يَدْمَى
نَسَاهُ وَفَائِلُهُ
(7/526)
فَسَمَّى:
"الشِّيَاهَ" ثُمَّ فَسَّرَهَا بِأَنَّ لَهَا "مِسْحَلاً
وَجِحَاشًا" وَأَنَّهَا عَيْرٌ وَأَتَانُهُ.
فإن قال قائل: فَهَلاَّ قُلْتُمْ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَبِأَخْذِ ذَلِكَ
فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ وَزَكَاةِ الإِبِلِ, وَفِي الْعَقِيقَةِ, وَالنُّسُكِ قلنا:
لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ; لأََنَّ النَّصَّ فِي الزَّكَاةِ إنَّمَا جَاءَ كَمَا
أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم نَصَّ كِتَابِهِ
فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ
وَمِائَةٍ شَاةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ فِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
شَاةً شَاةٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ فِي
كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ" . وَاسْمُ الْغَنَمِ لاَ يَقَعُ فِي اللُّغَةِ إِلاَّ
عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ فَقَطْ, فَوَجَبَ بِالأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي
الزَّكَاةِ أَنْ لاَ يَأْخُذَ إِلاَّ مِنْ الْغَنَمِ, وَلاَ يُعْطِي فِي زَكَاةِ
الإِبِلِ إِلاَّ الْغَنَمَ. وَأَمَّا الْمَأْخُوذُ مِنْ الْغَنَمِ فَاَللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . وَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي
بِظَاهِرِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ
الصَّدَقَةُ, وَاَلَّذِي هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ
فِي الصَّدَقَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الأَمْوَالِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهَا
الصَّدَقَةُ, فَلاَ تُجْزِئُ مِنْ غَيْرِهَا إِلاَّ مَا جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّهُ
يَجْزِي كَزَكَاةِ الإِبِلِ مِنْ الْغَنَمِ, وَزَكَاةِ الْغَنَمِ مِنْ غَنَمٍ
يَأْتِي بِهَا مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْعَقِيقَةُ, وَالنُّسُكُ فَقَدْ قلنا: لاَ يَقَعُ اسْمُ شَاةٍ
بِالإِطْلاَقِ فِي اللُّغَةِ أَصْلاً عَلَى غَيْرِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ
وَإِنَّمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ عَلَى الظِّبَاءِ, وَحُمْرِ الْوَحْشِ, وَبَقَرِ
الْوَحْشِ, اسْتِعَارَةً, وَبَيَانًا وَإِضَافَةً, لاَ عَلَى الإِطْلاَقِ أَصْلاً
وَلَيْسَ الأَقْتِصَارُ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ إجْمَاعًا فِي الْعَقِيقَةِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْت
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْعَقِيقَةُ وَلَوْ بِعُصْفُورٍ وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمْ فِي
ذَلِكَ الْجَزُورِ وَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا لِئَلَّا يُدْعَى عَلَيْنَا
الإِجْمَاعُ فِي ذَلِكَ. فإن قيل: فَهَلاَّ أَجَزْتُمْ أَنْ يَعُقَّ بِمَا شَاءَ
مَتَى شَاءَ لِحَدِيثِ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ أَرِيقُوا عَنْهُ دَمًا قلنا:
ذَلِكَ خَبَرٌ مُجْمَلٌ, فَسَّرَهُ الَّذِي فِيهِ، عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ,
وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ, تُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ, فَكَانَتْ هَذِهِ
الصِّفَةُ وَاجِبَةً, وَكَانَ مَنْ عَقَّ بِخِلاَفِهَا مُخَالِفًا لِهَذَا
النَّصِّ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَلاَ يَحِلُّ, وَكَانَ مَنْ عَقَّ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ مُوَافِقًا سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ
الَّذِي لاَ يَحِلُّ سِوَاهُ. فإن قيل: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ الذَّبْحَ بَعْدَ
السَّابِعِ قلنا: لأََنَّهُ قَدْ وَجَبَ الذَّبْحُ يَوْمَ السَّابِعِ وَلَزِمَ
إخْرَاجُ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ الْمَالِ فَلاَ يَحِلُّ إبْقَاؤُهَا فِيهِ فَهُوَ
دَيْنٌ وَاجِبٌ إخْرَاجُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ
حَاتِمٍ نَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ نَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ
هُوَ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ أُمَّهُ
وَلَدَتْ غُلاَمًا فَقَالَتْ
(7/527)
لَهُ: يَا أَنَسُ لاَ يُرْضِعُهُ أَحَدٌ حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ انْطَلَقْتُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَعَلَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ قُلْتُ: نَعَمْ, فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ وَدَعَا عليه السلام بِعَجْوَةٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلاَكَهَا فِي فِيهِ ثُمَّ قَذَفَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهَا فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ نَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ أَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ نَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّ، عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَمَا جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يُبَالِي أَنْ يَذْبَحَ الْعَقِيقَةَ قَبْلَ السَّابِعِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا, وَلاَ يَجْزِي قَبْلَ السَّابِعِ; لأََنَّهُ خِلاَفُ النَّصِّ وَلَمْ تَجِبْ الْعَقِيقَةُ بَعْدُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إذَا لَمْ يُعَقَّ عَنْك فَعُقَّ، عَنْ نَفْسِك وَإِنْ كُنْت رَجُلاً. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالْعَقِيقَةِ يَوْمَ سَابِعِ الْمَوْلُودِ وَتَسْمِيَتِهِ. قلنا: هَذَا مُرْسَلٌ وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ كَسْرِ عِظَامِهَا شَيْءٌ. فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ قِيلَ لَهَا فِي الْعَقِيقَةِ بِجَزُورٍ, فَقَالَتْ: لاَ, بَلْ السُّنَّةُ أَفْضَلُ, عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ, وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ تُقْطَعُ جُدُولاً، وَلاَ يُكْسَرُ لَهَا عَظْمٌ فَيَأْكُلُ وَيُطْعِمُ وَيَتَصَدَّقُ, وَلْيَكُنْ
(7/528)
ذَلِكَ
يَوْمَ السَّابِعِ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ, فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فَفِي إحْدَى وَعِشْرِينَ. قلنا: هَذَا لاَ يَصِحُّ; لأََنَّهُ مِنْ
رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ ثُمَّ لَوْ
كَانَ صَحِيحًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لأََنَّهُ عَمَّنْ دُونَ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم: وَعَنْ عَطَاءٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لاَ يُكْسَرَ
لَهَا عَظْمٌ, فَإِنْ أَخْطَأَهُمْ أَنْ يَعُقُّوا يَوْمَ السَّابِعِ فَأَحَبُّ
إلَيَّ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى السَّابِعِ الآخَرِ وَلَيْسَ هَذَا، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مِنْ عَقِيقَةِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ
إلَى الْقَابِلَةِ بِرِجْلِهَا, وَقَالَ: لاَ تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْمًا قلنا:
هَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ, وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِالْمُرْسَلِ
أَنْ يَقُولَ بِهَذَا لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَطَاءٍ,
وَغَيْرِهِمَا بِذَلِكَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
نَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي
الْعَقِيقَةِ قَالَ: تُكْسَرُ عِظَامُهَا وَرَأْسُهَا، وَلاَ يُمَسُّ الصَّبِيُّ
بِشَيْءٍ مِنْ دَمِهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ فِي الْعَقِيقَةِ تُطْبَخُ بِمَاءٍ
وَمِلْحٍ آرَابًا, وَتُهْدَى فِي الْجِيرَانِ, وَالصَّدِيقِ, وَلاَ يُتَصَدَّقُ
مِنْهَا بِشَيْءٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ:
يُعَقُّ، عَنِ الْغُلاَمِ، وَلاَ يُعَقُّ، عَنِ الْجَارِيَةِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ, وَسَهْلِ بْنِ يُوسُفَ, قَالَ سَهْلٌ: عَنْ
عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى عَلَى
الْجَارِيَةِ عَقِيقَةً وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: لاَ يُعَقُّ، عَنِ الْجَارِيَةِ،
وَلاَ كَرَامَةَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ يَلْزَمُ مِنْهَا شَيْءٌ, لاَ حُجَّةَ
إِلاَّ فِي وَحَيٍّ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وَلَمْ
يَعْرِفْ أَبُو حَنِيفَةَ الْعَقِيقَةَ, فَكَانَ مَاذَا لَيْتَ شِعْرِي إذْ لَمْ
يَعْرِفْهَا أَبُو حَنِيفَةَ مَا هَذَا بِنَكِرَةٍ فَطَالَمَا لَمْ يَعْرِفْ
السُّنَنَ. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَهَا وَاجِبَةً بِرِوَايَةٍ وَاهِيَةٍ، عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ نَسَخَ الأَضْحَى كُلَّ
ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهُ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ; لأََنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ، وَلاَ يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ إِلاَّ بِنَصٍّ مُسْنَدٍ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
(7/529)
عليه
وسلم. وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ, وَسُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِيهِ, قَالَ الثَّوْرِيُّ: مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ,
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْ، عَنْ عَمِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم وَقَدْ سُئِلَ، عَنِ الْعَقِيقَةِ لاَ أُحِبُّ الْعُقُوقَ, مَنْ وُلِدَ لَهُ
وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:
أَوْ، عَنْ عَمِّهِ شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لاَ شَيْءَ;
لأََنَّهُ، عَنْ رَجُلٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ فِي الْخَلْقِ. وقال الشافعي,
وَالنَّخَعِيُّ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ
الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: لاَ أُحِبُّ الْعُقُوقَ, مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ
يَنْسُكَ، عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ: عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ,
وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ.
قال أبو محمد: وَهَذَا صَحِيفَةٌ, وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ;
لأََنَّ فِيهِ إيجَابَ ذَلِكَ عَلَى الْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ, وَأَنَّ ذَلِكَ
يَلْزَمُ الأَبَ إِلاَّ أَنْ يَشَأْ هَذَا نَصُّ الْخَبَرِ وَمُقْتَضَاهُ, فَهِيَ
كَالزَّكَاةِ, وَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي هَذَا، وَلاَ فَرْقَ وقال مالك:
الْعَقِيقَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً, لَكِنَّهَا شَاةٌ، عَنِ الذَّكَرِ وَالأُُنْثَى
سَوَاءً تُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ, وَلاَ يُعَدُّ فِيهَا يَوْمَ وِلاَدَتِهِ,
فَإِنْ لَمْ يَعُقُّوا فِي السَّابِعِ عَقُّوا فِي الثَّانِي فَإِنْ لَمْ
يَفْعَلُوا لَمْ يَعُقُّوا بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ سَلَفًا فِي أَنْ
لاَ يُعَدَّ يَوْمُ الْوِلاَدَةِ, وَلاَ فِي الأَقْتِصَارِ عَلَى السَّابِعِ
الثَّانِي فَقَطْ، وَلاَ نَدْرِي أَحَدًا قَالَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِشَاةٍ، عَنِ الذَّكَرِ وَالأُُنْثَى; فَقَدْ رُوِيَ، عَنْ
طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: مِنْهُمْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَسْمَاءُ
أُخْتُهَا، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُمَا; لأََنَّهَا، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ
وَهُوَ سَاقِطٌ أَوْ، عَنْ سُلاَفَةَ مَوْلاَةِ حَفْصَةَ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ أَوْ،
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ، عَنْ مَخْرَمَةَ
بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ, وَهِيَ صَحِيفَةٌ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ، عَنْ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ مَا ذَكَرْنَا عَنْهَا قَبْلُ, لَكِنَّهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
صَحِيحٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى هَذَا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ نَا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ نَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو الرَّقِّيِّ نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ نَا
أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّ، عَنِ الْحَسَنِ كَبْشًا وَعَنِ الْحُسَيْنِ كَبْشًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ التَّمْتَامُ نَا
الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ نَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّ، عَنِ
الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ شَاتَيْنِ. قال أبو محمد: وَهَذَانِ عِنْدَنَا أَثَرَانِ
صَحِيحَانِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِمَا لَهُمْ, لِوُجُوهٍ, أَوَّلُهَا:
(7/530)
أَنَّ
حَدِيثَ أُمِّ كُرْزٍ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ
وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْعَدْلِ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّنَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةَ نَا سُفْيَانُ،
هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ سِبَاعِ
بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ أَسْأَلُهُ، عَنْ لُحُومِ الْهَدْيِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ
عَلَى الْغُلاَمِ شَاتَانِ, وَعَلَى الْجَارِيَةِ شَاةٌ, لاَ يَضُرُّكُمْ
ذُكْرَانًا كَانَتْ أَمْ إنَاثًا. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَوْلِدَ الْحَسَنِ رضي
الله عنه كَانَ "عَامَ أُحُدٍ "، وَأَنَّ مَوْلِدَ الْحُسَيْنِ رضي الله
عنه كَانَ فِي الْعَامِ الثَّانِي لَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ
بِسَنَتَيْنِ, فَصَارَ الْحُكْمُ لِقَوْلِ الْمُتَأَخِّرِ, لاَ لِفِعْلِهِ
الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي إنَّمَا كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُ عليه السلام. وَالْوَجْهُ
الثَّالِثُ: أَنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نَا مُعَاذٌ نَا
الْقَعْنَبِيُّ نَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ, عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّتْ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ حِينَ
وَلَدَتْهُمَا شَاةً شَاةً.
قال أبو محمد: لاَ شَكَّ فِي أَنَّ الَّذِي عَقَّتْ بِهِ فَاطِمَةُ، رضي الله
عنها، هُوَ غَيْرُ الَّذِي عَقَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَمَعَ
مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّهُ عليه السلام عَقَّ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِكَبْشٍ وَعَقَّتْ فَاطِمَةُ، رضي الله عنها، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِشَاةٍ, فَحَصَلَ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَبْشٌ وَشَاةٌ,
كَبْشٌ وَشَاةٌ. وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا خَبَرًا لَوْ ظَفَرُوا بِمِثْلِهِ
لاَسْتَبْشَرُوا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نَا
أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ
طَهْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ
الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما بِكَبْشَيْنِ كَبِيرَيْنِ. وَرُوِّينَا
أَيْضًا مِثْلَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ
وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَالْعَجَبُ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ رَوَى ذَلِكَ
الْخَبَرَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
عَقَّ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا
أَرْسَلَهُ، عَنْ أَيُّوبَ وَبِأَقَلَّ مِنْ هَذَا يَتَعَلَّلُونَ فِي رَدِّ
الأَخْبَارِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ اضْطِرَابٌ, وَنَحْنُ لاَ نُرَاعِي هَذَا,
وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الأَخْذِ بِالزَّائِدِ
وَالآخَرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تم كتاب العقيقة بحمد الله.
(7/531)
المجلد
الثامن
كتاب النذور
مدخل
يكره النذر وينهى عنه ومع ذلك لو نذر طاعة لله عز وجل لزمه الوفاء به
...
كِتَابُ النُّذُورِ
1114 - مَسْأَلَةٌ: نَكْرَهُ النَّذْرَ وَنَنْهَى عَنْهُ ; لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ
مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا
فَرْضًا إذَا نَذَرَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجَرَّدًا أَوْ
شُكْرًا لِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى ; أَوْ إنْ أَرَاهُ اللَّهُ
تَعَالَى أَمَلاً لاَ ظُلْمَ فِيهِ لِمُسْلِمٍ، وَلاَ لِمَعْصِيَةٍ: مِثْلُ أَنْ
يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَقُولَ: صَوْمُ كَذَا
وَكَذَا فَأَكْثَرَ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ جِهَادٌ، أَوْ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى،
أَوْ رِبَاطٌ، أَوْ عِيَادَةُ مَرِيضٍ، أَوْ شُهُودُ جِنَازَةٍ، أَوْ زِيَارَةُ
قَبْرِ نَبِيٍّ، أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ، أَوْ الْمَشْيُ أَوْ الرُّكُوبُ، أَوْ
النُّهُوضُ إلَى مَشْعَرٍ مِنْ مَشَاعِرِ مَكَّةَ، أَوْ الْمَدِينَةِ، أَوْ إلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ عِتْقُ مُعَيَّنٍ، أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، أَوْ أَيُّ
طَاعَةٍ كَانَتْ: فَهَذَا هُوَ التَّقَرُّبُ الْمُجَرَّدُ. أَوْ يَقُولَ: لِلَّهِ
عَلَيَّ إذَا خَلَّصَنِي مِنْ كَذَا، أَوْ إذَا مَلَّكَنِي أَمْرَ كَذَا، أَوْ
إذَا جَمَعَنِي مَعَ أَبِي، أَوْ فُلاَنٍ صَدِيقِي، أَوْ مَعَ أَهْلِي صَدَقَةٌ،
أَوْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي ذَكَرْنَا. أَوْ يَقُولَ: عَلَيَّ
لِلَّهِ إنْ أَنْزَلَ الْغَيْثَ، أَوْ إنْ صَحَحْت مِنْ عِلَّتِي، أَوْ إنْ
تَخَلَّصْت، أَوْ إنْ مَلَكْت أَمْرَ كَذَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا. فَإِنْ
نَذَرَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ، أَوْ مَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً: لَمْ
يَلْزَمْ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: مِثْلُ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ
أَنْ يَصْبُغَ ثَوْبَهُ أَحْمَرَ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ
طَاعَةً إنْ نَالَ مَعْصِيَةً، أَوْ إذَا رَأَى مَعْصِيَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ:
لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ إنْ قُتِلَ فُلاَنٌ، أَوْ إنْ ضُرِبَ، وَذَلِكَ الْفُلاَنُ
لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. أَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ إذَا
أَرَانِي مَصْرَعَ فُلاَنٍ وَذَلِكَ الْفُلاَنُ مَظْلُومٌ: فَكُلُّ هَذَا لاَ
يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلْيَسْتَغْفِرْ
اللَّهَ تَعَالَى فَقَطْ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ نَذْرَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ،
فَقَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا
(8/2)
أَوْ
عَلَيَّ عِتْقُ خَادِمِي فُلاَنَةَ إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا، أَوْ إنْ زُرْت
فُلاَنًا، فَكُلُّ هَذَا لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ كَفَّارَةٌ فِيهِ
إِلاَّ الأَسْتِغْفَارُ فَقَطْ. فَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ وَلَمْ يُسَمِّ
شَيْئًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَا
خَرَجَ مِنْ هَذَا مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَالَ
آخَرُونَ: مَا خَرَجَ مِنْ هَذَا مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
قال أبو محمد: بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ النَّذْرِ
فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: " إنَّهُ لاَ
يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنْ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ " هَذَا لَفْظُ
سُفْيَانَ. وَلَفْظُ شُعْبَةَ " إنَّهُ لاَ يَأْتِي بِخَيْرٍ " مَكَانَ
" إنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ
" وَاتَّفَقَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَصَحَّ أَيْضًا مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقِ
أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ
ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ " أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لاَ أَنْذِرُ أَبَدًا " وَهَذَا يُوجِبُ
مَا قلنا: مِنْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِذَا وَقَعَ لَزِمَ وَاسْتُخْرِجَ
بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ. وَأَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} . وَقَوْله تَعَالَى {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : وَقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. وَقَوْله تَعَالَى {قُلْ
إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . فَصَحَّ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فَصَحَّ مِنْ
هَذَا أَنَّ مَنْ نَذَرَهُ فَقَدْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
وَقَدْ نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ مَعْصِيَتِهِ. فَقَدْ صَحَّ يَقِينًا أَنَّ
النُّذُورَ وَالْعُقُودَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهَا
إنَّمَا هِيَ نَذْرُ الطَّاعَةِ فَقَطْ، وَلَيْسَ نَذْرُ الطَّاعَةِ إِلاَّ مَا
ذَكَرْنَا
(8/3)
مُذْ
عَقَلْت لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ،
عَنِ النَّذْرِ يُنْذِرُهُ الإِنْسَانُ فَقَالَ: إنْ كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ
فَعَلَيْهِ وَفَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ فَلْيَتَقَرَّبْ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى بِمَا شَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ أَبَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ: إنِّي نَذَرْت
إنْ نَجَا أَبِي مِنْ الأَسْرِ أَنْ أَقُومَ عُرْيَانًا، وَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَسْ ثِيَابَك، وَصُمْ يَوْمًا، وَصَلِّ قَائِمًا
وَقَاعِدًا. وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: لاَ
وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلاً نَذَرَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ
مَعَ بَنِي أَخِيهِ يَتَامَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: "اذْهَبْ فَكُلْ مَعَهُمْ.
وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله تعالى
عنه أَمَرَ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ سَاكِتَةً بِأَنْ تَتَكَلَّمَ. وَعَنْ
مَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ: لاَ وَفَاءَ فِي نَذْرِ مَعْصِيَةٍ، وَلاَ كَفَّارَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ
جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ
يَحْلِفْ إِلاَّ بِاَللَّهِ ".
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ: " مَنْ كَانَ حَالِفًا
فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ". فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم كُلَّ يَمِينٍ إِلاَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَهَى عَنْهَا،
فَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى، وَلاَ وَفَاءَ
لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: مَنْ أَخْرَجَ نَذْرَهُ مَخْرَجَ
الْيَمِينِ مِثْلَ مَنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ إنْ كَلَّمْت
فُلاَنًا، فَإِنْ كَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ. وقال الشافعي:
كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ إِلاَّ فِي الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَحَدِّهِ. وَقَالَ
أَبُو ثَوْرٍ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ
وَحَدِّهِ فَفِيهِ الْوَفَاءُ بِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا مَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ ;
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ
وَقَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى الطَّلاَقِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ ; لأََنَّ النَّذْرَ مَا قَصَدَ نَاذِرُهُ
الرَّغْبَةَ فِي فِعْلِهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ،
وَاسْتَدْعَى مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْجِيلَ تَبْلِيغِهِ مَا يُوجِبُ
عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَهَذَا بِخِلاَفِ ذَلِكَ، لأََنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ
الأَمْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ الْبِرِّ، وَإِبْعَادِهِ، عَنْ نَفْسِهِ جُمْلَةً
وَمَنَعَ
(8/5)
نَفْسَهُ
مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْعَمَلَ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ
نَاذِرًا، وَإِذْ لَيْسَ نَاذِرًا، فَلاَ وَفَاءَ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ. وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ عَاصٍ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الأَلْتِزَامِ إذْ أَخْرَجَهُ
مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ
بِغَيْرِهِ فَصَارَ مَعْصِيَةً، وَلاَ وَفَاءَ لِنَذْرِ مَعْصِيَةٍ. فَصَحَّ
يَقِينًا أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا لَيْسَ نَذْرَ طَاعَةٍ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ
بِهِ، وَلَيْسَ يَمِينًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
فَبَطَلَ أَنْ يَجِبَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، إذْ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ ;، وَلاَ
سُنَّةٌ وَالأَمْوَالُ مَحْظُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ إِلاَّ بِنَصٍّ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ إيَّاهُ عَلَى الطَّلاَقِ: فَالْخِلاَف أَيْضًا فِي
الطَّلاَقِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ أَشْهَرِ مِنْ أَنْ يُجْهَلَ فَظَهَرَ بُطْلاَنُ
هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ،
فَبَاطِلٌ أَيْضًا، لأََنَّهُ لاَ يَمِينَ إِلاَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ
يُوجِبْ عَزَّ وَجَلَّ كَفَّارَةً فِي غَيْرِ الْيَمِينِ بِهِ، فَلاَ كَفَّارَةَ
فِي يَمِينٍ بِغَيْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِتْقِ
الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ فَخَطَأٌ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عِتْقٌ
بِصِفَةٍ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا بَلْ هُوَ يَمِينٌ بِالْعِتْقِ فَهُوَ بَاطِلٌ
أَيْضًا لاَ يَلْزَمُ. وَقَالُوا: قِسْنَا الْعِتْقَ الْمُعَيَّنَ عَلَى الطَّلاَقِ
الْمُعَيَّنِ .فَقُلْنَا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لاَ يَصِحُّ
قَوْلُكُمْ فِي الطَّلاَقِ الْمُعَيَّنِ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ، لاَ مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الَّذِي
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ". وَهَذَا خَبَرٌ لَمْ
يَسْمَعْهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، إنَّمَا رَوَاهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
وَسُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ. وَخَبَرٌ آخَرُ: مِنْ طَرِيقِ
طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي هِنْدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ كُرَيْبٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نَذَرَ
نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا
لاَ يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَطَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى
الأَنْصَارِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: " لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ".
وَخَبَرٌ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: : " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ
وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ
(8/6)
يَمِينٍ
" مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيُّ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ
وَزِيَادَةٌ: فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ
الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ
الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ
نَفْسَهُ. قَالَ الْمُعْتَمِرُ: فَقُلْت لِمُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ
أَحَدَّثَكَهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ عِمْرَانَ فَقَالَ: لاَ وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ
رَجُلٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، فَبَطَلَ جُمْلَةً. وَآخَرُ: مِنْ
طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ دَاوُد بْنِ
الْحُصَيْنِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى
الأَنْصَارِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ رَوْحٍ، عَنْ سَلَّامٍ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ،
عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ ".
سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ هَالِكٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ مَعْمَرٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ،
عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ; وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَدَّثْت، عَنْ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ثُمَّ اتَّفَقَا، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم: " لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَلاَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ
وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ". أَحَدُهُمَا مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ،
وَالآخَرُ مُرْسَلٌ وَعَمَّنْ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَهُوَ
مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ: لاَ نَذْرَ فِي
مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ سَاقِطٌ.
قال أبو محمد: ثُمَّ كُلُّ هَذَا عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ،
وَالشَّافِعِيِّ: مُخَالِفَانِ لَهُ: أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلاَ يَرَى فِيمَنْ
أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إِلاَّ الْوَفَاءَ بِهِ وَهُوَ نَذْرُ
مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا يَرَى كَفَّارَةَ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ
فِي مَوْضِعَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا إذَا قَالَ: أَنَا كَافِرٌ إنْ فَعَلْت
كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ قُتِلَ الْيَوْمَ فُلاَنٌ،
وَأَرَادَ الْيَمِينَ، وَلَمْ يَرَ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَزْنِيَ، أَوْ أَنْ
يَقْتُلَ، أَوْ أَنْ يَكْفُرَ، أَوْ أَنْ يَلُوطَ، أَوْ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ
كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَصْلاً، فَخَالَفَ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا إلَى غَيْرِ سَلَفٍ
يُعْرَفُ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّذُورِ فِي
الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِلاَّ فِيمَنْ نَذَرَ طَاعَةً أَخْرَجَهُ
مَخْرَجَ الْيَمِينِ ; فَكِلاَهُمَا مُخَالِفٌ لِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا
(8/7)
، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ بِشَيْءٍ أَصْلاً وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ: قَالَتْ لِي مَوْلاَتِي لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ، أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك ; فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك إنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ حُرٌّ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ فَقَالَتْ لَهَا زَيْنَبُ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ: فَكَأَنَّهَا لَمْ تَقْبَلْ فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ مَعِي إلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك إنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ ; فَقَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ قَالَ لِغَرِيمِهِ: إنْ فَارَقْتُك فَمَا لِي عَلَيْك فِي الْمَسَاكِين صَدَقَةٌ، فَفَارَقَهُ، إنَّ هَذَا لاَ شَيْءَ يَلْزَمُهُ فِيهِ. وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَفْتَى ابْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قلنا: نَعَمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصِّحَابَةُ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ بِلاَ بُرْهَانٍ وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَاحِدَةً. وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ فِيمَنْ قَالَ فِي يَمِينٍ: مَالِي ضَرَائِبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: مَالِي كُلُّهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَعَائِشَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ الْحُمْرَانِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْهُمَا. وَرُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: النَّذْرُ كَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ هَذَا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَحْوَهُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، فِيمَنْ قَالَ: مَالِي كُلُّهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَصَحَّ عَنْ طَاوُوس، وَعَطَاءٍ، أَمَّا طَاوُوس فَقَالَ: الْحَالِفُ بِالْعَتَاقِ، وَمَالِي هَدْيٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ لِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا النَّحْوُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ فِيمَنْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ بَدَنَةٍ، أَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ حَجَّةٍ، أَوْ قَالَ: مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ: كُلُّ ذَلِكَ يَمِينٌ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ
(8/8)
وَسُلَيْمَانَ
بْنِ يَسَارٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قال أبو محمد: كُلُّ هَذَا خِلاَفٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ ; لأََنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعِتْقَ
الْمُعَيَّنَ وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ،
وَالتَّابِعِينَ هُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَشَرِيكٍ، وَأَبِي
ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ
.وَبِهِ يَقُولُ الطَّحَاوِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ
وَأَحَدُ قَوْلَيْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ
ثَابِتَةٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَفْتَى ابْنَهُ فِي
الْمَشْيِ إلَى مَكَّة بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَقَالَ لَهُ: إنْ عُدْت أَفْتَيْتُك
بِقَوْلِ مَالِكٍ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا:
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي تَمَّامٍ، ثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنِي بِذَلِكَ
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلاً آخَرَ وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ،
عَنِ النَّذْرِ فَقَالَ: أَفْضَلُ الأَيْمَانِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، فَاَلَّتِي
تَلِيهَا يَقُولُ: الْعِتْقُ، ثُمَّ الْكِسْوَةُ، ثُمَّ الإِطْعَامُ، إِلاَّ
أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَرُوِّينَا مِثْلَ
تَفْرِيقِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا بِخِلاَفِ قَوْلِهِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
أَبِي حَاضِرٍ قَالَ: حَلَفَتْ امْرَأَةٌ: مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَجَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ:
أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا: مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
فَيُتَصَدَّقُ بِزَكَاةِ مَالِهَا. وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ. وَقَدْ خَالَفُوهُ أَيْضًا فِيهَا:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ
حَلَفَ عَلَى يَمِينِ إصْرٍ فَلاَ كَفَّارَةَ لَهُ وَالإِصْرُ أَنْ يَحْلِفَ
بِطَلاَقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ نَذْرٍ، أَوْ مَشْيٍ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
غَيْرِ ذَلِكَ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ.
جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ سَاقِطٌ. وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا قَدْ خَالَفُوهُ فِي هَذَا
الْخَبَرِ نَفْسِهِ ; لأََنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ فِيمَنْ أَتَى خَيْرًا مِمَّا
حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَهُ كَفَّارَةٌ، إِلاَّ فِعْلُهُ ذَلِكَ فَقَطْ. فَإِنْ
قَالُوا: قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا بِالْكَفَّارَةِ
قلنا: نَعَمْ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى وَنَهَى، عَنِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ كَانَ
قَوْلُهُ يَمِينًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ نَذْرًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ،
إذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ قَصْدَ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ وَفَاءَ
فِيهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فَحَصَلَ قَوْلُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ خَارِجًا، عَنْ
أَقْوَالِ جَمِيعِ السَّلَفِ.
وَمِمَّا ذَكَرْنَا مَسَائِلُ فِيهَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ، وَهِيَ: مَنْ نَذَرَ
الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَمَنْ نَذَرَ
(8/9)
أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مَسْجِدِ إيلْيَاءَ، أَوْ الرُّكُوبَ، أَوْ النُّهُوضَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ سَمَّاهُ مِنْ الْحَرَمِ، وَمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ إنْ بَاعَهُ، أَوْ عِتْقَ عَبْدِ فُلاَنٍ إنْ مَلَكَهُ. فأما الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ وَهُوَ قَوْلُنَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فِي الْمَسَاكِينِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلَّهُ، صَحَّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ جَعَلْت مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَرُوِّينَا، عَنْ سَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُمَا قَالاَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى بَعْضِ بَنَاتِهِ. وَصَحَّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّهُمَا كَانَا يُلْزِمَانِهِ مَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ هَؤُلاَءِ: فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِلاَّ أَبَا سُلَيْمَانَ فَقَالَ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ حَاشَا قُوتِ شَهْرٍ فَإِذَا أَفَادَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمَا كَانَ أَبْقَى لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَرَأَى فِيهِ إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَيَجْزِيهِ: رُوِّينَا ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَصَحَّ نَحْوُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ: رُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ. وَرُوِّينَا ذَلِكَ قَبْلُ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُمَرُ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ جَعَلَ مَالَهُ هَدْيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ أَنْ يَغْتَصِبَ أَحَدًا مَالَهُ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيُهْدِ خُمُسَهُ وَإِنْ كَانَ وَسَطًا فَسُبُعَهُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً فَعُشُرُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: الْكَثِيرُ أَلْفَانِ، وَالْوَسَطُ أَلْفٌ، وَالْقَلِيلُ خَمْسُمِائَةٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى قَتَادَةَ، قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِخُمُسِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِرُبْعِ الْعُشْرِ كَمَا رُوِّينَا ذَلِكَ آنِفًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَسَوَّى بَيْنَ مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ بِصَدَقَةِ جُزْءٍ مِنْهُ سَمَّاهُ وَإِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْيَمِينِ بِذَلِكَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ قَوْلَ رَبِيعَةَ هَذَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَا رُوِّينَا
(8/10)
مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَعُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، كِلاَهُمَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ
قَالَ: إبِلِي نَذْرٌ، أَوْ هَدْيٌ، أَنَّهُ يُجْزِيه بَعِيرٌ مِنْهَا. قَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ: لَعَلَّهُ يُجْزِيه إنْ كَانَتْ إبِلُهُ كَثِيرَةً.
وَقَالَ ابْنُ ذَرٍّ عَنْهُ: يُهْدِي جَزُورًا ثَمِينًا، وَيُمْسِكُ بَقِيَّةَ
إبِلِهِ.
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَلَهُمْ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ: قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ نَذْرًا، أَوْ عَلَى
سَبِيلِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِكُلِّ
نَوْعٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَقَطْ، كَالْمَوَاشِي، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،
سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصَابٌ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ، أَوْ
كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ.
قال أبو محمد: وَلاَ نَدْرِي مَا قَوْلُهُمْ فِي الْحُبُوبِ وَمَا يُزْرَعُ،
وَالثِّمَارُ، وَالْعَسَلُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ هَذَا عِنْدَهُ نَعَمْ،
وَفِي كُلِّ عَرَضٍ إذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلاَ
يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُ بِقُرْآنٍ،
وَلاَ بِسُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ سَلَفٍ، وَلاَ قِيَاسٍ،
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: الْمَالُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} .
قال أبو محمد: الصَّدَقَةُ الْمَأْخُوذَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا
يَمْلِكُ الْمَرْءُ، وَمَا اخْتَلَفَ قَطُّ عَرَبِيٌّ، وَلاَ لُغَوِيٌّ، وَلاَ
فَقِيهٌ، أَنَّ الْحَوَائِطَ، وَالدُّورَ تُسَمَّى: مَالاً، وَأَمْوَالاً، وَأَنَّ
مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ لاَ مَالَ لَهُ وَلَهُ حَمِيرٌ، وَدُورٌ، وَضِيَاعٌ،
فَإِنَّهُ حَانِثٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ: وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءُ
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ "
أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَقَالَ: إنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي
بِخَيْبَرَ". وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ أَنْ لاَ تُجْزِئَ
صَدَقَةٌ أَصْلاً إِلاَّ بِمَالٍ فِيهِ زَكَاةٌ أَوْ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ فَقَطْ.
وقال مالك: سَوَاءٌ نَذَرَ ذَلِكَ أَوْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إنْ قَالَ:
مَالِي كُلُّهُ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ، فَإِنْ قَالَ:
دُورِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَضِيَاعِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى
الْمَسَاكِينِ، وَثِيَابِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَرَقِيقِي
كُلُّهُمْ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَلَمْ يَزَلْ هَكَذَا حَتَّى سَمَّى
نَوْعًا نَوْعًا حَتَّى أَتَى عَلَى كُلِّ مَا يَمْلِكُ: لَزِمَهُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ ذَلِكَ أَوَّلُهُ، عَنْ آخِرِهِ، لاَ يُجْزِيه مِنْهُ
الثُّلُثُ إِلاَّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ، وَلاَ يُجْبَرُ. فَلَوْ قَالَ مَكَانَ
الْمَسَاكِينِ عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ: لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ
بِكُلِّ ذَلِكَ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالُوا: فَلَوْ نَذَرَ، أَوْ حَلَفَ
أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، إِلاَّ دِينَارًا أَنَّهُ تَلْزَمُهُ
الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ إِلاَّ دِينَارًا: وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ
الْفَسَادِ، لأََنَّهُ لاَ قُرْآنَ يُعَضِّدُهُ، وَلاَ سُنَّةَ، وَلاَ رِوَايَةٌ
ضَعِيفَةٌ، وَلاَ قَوْلٌ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ
رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ بَلْ هُوَ
(8/11)
مُخَالِفٌ
لِكُلِّ ذَلِكَ. وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ
كُلِّهِ إِلاَّ نِصْفَ دِينَارٍ، أَوْ دِرْهَمًا حَتَّى نَبْلُغَهُمْ إلَى
الْفَلْسِ، وَحَبَّةِ الْخَرْدَلَةِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إنْ كَانَ مَالُهُ
كَثِيرًا تَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَرُبْعُ عُشْرِهِ، وَإِنْ
كَانَ عَلَقَةً قَلِيلَةً، فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ
وَجْهَ لَهُ.
قال أبو محمد لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ مُتَعَلَّقٌ يَحْتَاجُ إلَى
ذِكْرِهِ إِلاَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مَنْ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ ;
وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: كَفَّارَةُ
يَمِينٍ فَقَطْ. فأما مَنْ قَالَ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ
الثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ " كَفَّارَةُ
النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ".
قال علي: وهذا خَبَرٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ
يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ ; فَلاَ يَخْلُو النَّذْرُ بِصَدَقَةِ الْمَالِ كُلِّهِ
مِنْ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، أَوْ
يَكُونَ مَعْصِيَةً فَلاَ يَلْزَمُهُ أَصْلاً إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ صَحِيحٌ
فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ مَا فَيُوقَفُ عِنْدَهُ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ
عليه السلام: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلِهَذَا الْخَبَرِ وَجْهٌ
ظَاهِرٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ نَذْرُ
طَاعَةٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلْ لَيْسَ هُوَ نَذْرَ طَاعَةٍ عَلَى مَا
نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُجْزِيه الثُّلُثُ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِخَبَرٍ:
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ قَالَ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَدِّهِ فِي قِصَّتِهِ إذْ تَخَلَّفَ، عَنْ
تَبُوكَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللَّهِ
أَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم صَدَقَةً قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَنِصْفَهُ، قَالَ: لاَ ، قُلْتُ: فَثُلُثَهُ
قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ. وَبِخَبَرٍ:
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ السَّائِبِ بْنِ
أَبِي لُبَابَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي،
وَأُسَاكِنَكَ، وَأَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ قَالَ:
يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ .
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي السَّائِبِ بْنِ أَبِي
لُبَابَةَ، عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بِمِثْلِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ،
وَفِيهِ أَنَّ "أَبَا لُبَابَةَ قَالَ:
(8/12)
يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
قَالَ: يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِيهِ ; لأََنَّهَا كُلَّهَا مَرَاسِيلُ، وَالأَوَّلُ مُنْقَطِعٌ ; لأََنَّ ابْنَ
إدْرِيسَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَأَمَّا تَمْوِيهُ
الْمَالِكِيِّينَ بِالأَحْتِجَاجِ بِهَذَا الْخَبَرِ فَعَارٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِمْ ;
لأََنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ كُلِّهِ بِتِلْكَ التَّقَاسِيمِ الْفَاسِدَةِ،
وَبِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِصَدَقَةِ نِصْفِ مَالِهِ إذَا
نَذَرَهُ وَفِي هَذَا الْخَبَرِ خِلاَفُ ذَلِكَ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّذْرِ
بِصَدَقَةِ جَمِيعِهِ، وَصَدَقَةِ نِصْفِهِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا
الْقَوْلِ مُتَعَلَّقٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ إِلاَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ:
يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ ; لأََنَّهُ طَاعَةٌ مَنْذُورَةٌ فَهَهُنَا نَتَكَلَّمُ
مَعَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَقُولُ: قَالَ اللَّه تَعَالَى {وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، وَلاَ تُبَذِّرْ
تَبْذِيرًا} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى
عُنُقِكَ، وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} .
وَقَالَ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ
يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فَلاَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُحِبَّ مَنْ تَصَدَّقَ
بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ تَخَلُّفِهِ، عَنْ
تَبُوكَ وَ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ
أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكَ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِإِسْنَادِهِ
مِثْلُهُ، وَزَادَ فِيهِ فَقُلْتُ: إنْ أُمْسِكَ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنَّ
خَيْرَ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، أَوْ تَصَدَّقَ، عَنْ غِنًى، وَابْدَأْ
بِمَنْ تَعُولُ ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ
شَيْءٌ فَلأََهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ، عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ،
فَإِنْ فَضَلَ، عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا وَهَكَذَا ".
وَالأَحَادِيثُ هَهُنَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ
النُّعْمَانِ الظَّفَرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ
(8/13)
أَصَبْتُ
هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ، مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا
فَأَعْرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ مِرَارًا وَهُوَ يُرَدِّدُ
كَلاَمَهُ هَذَا ثُمَّ أَخَذَهَا عليه السلام فَحَذَفَهُ بِهَا، فَلَوْ أَنَّهَا
أَصَابَتْهُ لاََوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ وَقَالَ عليه السلام: يَأْتِي
أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ
فَيَتَكَفَّفُ النَّاسَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى . وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
بِإِسْنَادِهِ نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: خُذْ عَنَّا
مَالَكَ، لاَ حَاجَةَ لَنَا بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بْنِ
عَجْلاَنَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه
صلى الله عليه وسلم النَّاسَ أَنْ يَطْرَحُوا ثِيَابًا فَطَرَحُوا فَأَمَرَ لَهُ
مِنْهَا بِثَوْبَيْنِ، ثُمَّ حَثَّ عليه السلام عَلَى الصَّدَقَةِ فَطَرَحَ
الرَّجُلُ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَصَاحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَقَالَ " خُذْ ثَوْبَكَ ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى .
فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ بِإِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِمَا زَادَ
عَلَى مَا يُبْقِي غِنًى، وَإِذَا كَانَ الصَّدَقَةُ بِمَا أَبْقَى غِنًى خَيْرًا
وَأَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِمَا لاَ يُبْقِي غِنًى ; فَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي
كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ صَدَقَتَهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ لاَ أَجْرَ لَهُ فِيهَا،
بَلْ حَطَّتْ مِنْ أَجْرِهِ فَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَمَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ
يَحُطُّ مِنْ الأَجْرِ، أَوْ لاَ أَجْرَ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَالِ فَلاَ
يَحِلُّ إعْطَاؤُهُ فِيهِ ; لأََنَّهُ إفْسَادٌ لِلْمَالِ وَإِضَاعَةٌ لَهُ
وَسَرَفٌ حَرَامٌ، فَكَيْفَ وَرَدُّهُ عليه السلام الصَّدَقَةَ بِذَلِكَ بَيَانٌ
كَافٍ
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . وَقَوْلَهُ عليه السلام إذْ سُئِلَ " أَيُّ
الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ فَقَالَ: جَهْدُ الْمُقِلِّ ". وَقَوْلَهُ عليه السلام
سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ
بِأَجْوَدِهِمَا . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ
جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} . وَبِحَدِيثِي أَبِي
مَسْعُودٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْمُرُنَا بِالصَّدَقَةِ ; فَيَنْطَلِقُ
أَحَدُنَا فَيَتَحَامَلُ فَيَجِيءُ بِالْمُدِّ، وَصَدَقَةِ أَبِي عَقِيلٍ بِصَاعِ
تَمْرٍ فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ وَحُجَّةٌ لَنَا لاَ لَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْقُوا لأََنْفُسِهِمْ مَعَاشًا،
إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِلِّينَ، وَيُؤْثِرُونَ مِنْ
(8/14)
بَعْضِ
قُوتِهِمْ. وَأَمَّا قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}
فَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " جَهْدُ الْمُقِلِّ "
فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْمَوْصُولَةُ بِقَوْلِهِ
عليه السلام: " وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " فَبَيَّنَ هَذَا الْقَوْلُ
أَنَّهُ جَهْدُهُ بَعْدَ كَفَافِ مَنْ تَعُولُ. وَكَذَلِكَ حَدِيثَا أَبِي
مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ فَتَصَدَّقَ
بِأَجْوَدِهِمَا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ ضَيْعَةٌ أَوْ لَهُ
غَلَّةٌ تَقُومُ بِهِ فَتَصَدَّقَ بِأَحَدِ دِرْهَمَيْنِ كَانَا لَهُ وَلَمْ
يَقُلْ عليه السلام: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُمَا فَإِنْ ذَكَرُوا
صَدَقَةَ أَبِي بَكْرٍ بِمَا يَمْلِكُهُ قلنا: هَذَا لاَ يَصِحُّ ; لأََنَّهُ مِنْ
طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية
وسلم بِالصَّدَقَةِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِنْدِي فَقُلْتُ: الْيَوْمَ
أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: مَا أَبْقَيْتَ لأََهْلِكَ قُلْتُ:
مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله علية وسلم: مَا أَبْقَيْت لأََهْلِكَ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قال أبو محمد: ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لأََنَّهُ
بِلاَ شَكٍّ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ وَدَارٌ بِمَكَّةَ
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله علية
وسلم لِيُضَيِّعَهُ فَكَانَ فِي غِنًى. فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ
أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ مُجْمَلاً، أَوْ مُنَوَّعًا عَلَى سَبِيلِ
الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ
إِلاَّ بِمَا أَبْقَى لِنَفْسِهِ، وَلأََهْلِهِ غِنًى، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ. فَإِنْ ذَكَرُوا
حَدِيثَ سَعْدٍ فِي الْوَصِيَّةِ قلنا: هُوَ عَلَيْكُمْ ; لأََنَّ أَمْرَ
الْوَصِيَّةِ غَيْرُ أَمْرِ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فِي الْحَيَاةِ
بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَأَيْضًا فَقَدْ مَنَعَهُ عليه السلام مِنْ
الصَّدَقَةِ بِنِصْفِهِ، وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ هَذَا، وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ
يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ; وَلَوْ تَرَكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ
أَكْثَرَ وَيُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ: بِرَدِّ
مَا نَفَذَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ نَحْرَ نَفْسِهِ أَوْ ابْنِهِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
يَقُولُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ فَقَالَ:
لاَ يَنْحَرْ ابْنَهُ، وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ، فَقِيلَ لأَبْنِ عَبَّاسٍ:
كَيْفَ تَكُونُ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ كَفَّارَةٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ مَا رَأَيْت.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ لأَبْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ. أَوَّلُ ذَلِكَ
أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هُوَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي شَبَّهَهَا
بِطَاعَتِهِ فِي الظِّهَارِ، الْكَفَّارَةَ الَّتِي فِي الظِّهَارِ وَيَكْفِي
هَذَا ثُمَّ لَوْ طَرَدَ هَذَا الْقَوْلُ لَوَجَبَتْ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ هُوَ، وَلاَ غَيْرُهُ. وَقَدْ صَحَّ
عَنْهُ فِيمَنْ
(8/15)
قَالَ
لأَمْرَأَتِهِ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنَّهَا لاَ تَحْرُمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ
يَجْعَلْ فِيهِ كَفَّارَةً وَهَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِهِ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ
غَيْرَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ
إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: نَذَرْت لاََنْحَرَنَّ نَفْسِي فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ فَأَمَرَهُ بِكَبْشٍ، قَالَ عَطَاءٌ: يُذْبَحُ
الْكَبْشُ بِمَكَّةَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْت لِعَطَاءٍ: نَذَرَ
لَيَنْحَرَنَّ فَرَسَهُ أَوْ بَغْلَتَهُ فَقَالَ: جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ فَقُلْت
لَهُ: أَمَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَبْشٍ فِي نَفْسِهِ، وَتَقُولُ فِي الدَّابَّةِ
جَزُورٌ فَأَبَى عَطَاءٌ إِلاَّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَيْضًا حُجَّةٌ لأَبْنِ عَبَّاسٍ ;
لأََنَّ إبْرَاهِيمَ عليه السلام لَمْ يَنْذُرْ ذَبْحَ وَلَدِهِ، لَكِنْ أَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِهِ فَكَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَكَانَ
نَذْرُ النَّاذِرِ نَحْرُ وَلَدِهِ أَوْ نَفْسِهِ مَعْصِيَةً مِنْ كِبَارِ
الْمَعَاصِي، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُشَبَّهَ الْكَبَائِرُ بِالطَّاعَاتِ. وَأَيْضًا
فَإِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَا كَانَ ذَلِكَ الذَّبْحُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ
إسْمَاعِيلُ عليه السلام، فَبَطَلَ هَذَا التَّشْبِيهُ وَرُوِّينَا عَنْهُ قَوْلاً
ثَالِثًا أَيْضًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ
فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، قَالَ: لِيُهْدِ مِائَةَ نَاقَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْت سَالِمَ بْنَ
أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: إنِّي
كُنْت أَسِيرًا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَنَذَرْت إنْ نَجَّانِي اللَّهُ أَنْ
أَفْعَلَ كَذَا، وَأَنْ أَنْحَرَ نَفْسِي، وَإِنِّي قَدْ فَعَلْت ذَلِكَ قَالَ
وَفِي عُنُقِهِ قِدٌّ فَأَقْبَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى امْرَأَةٍ سَأَلَتْهُ
وَغَفَلَ، عَنِ الرَّجُلِ، فَانْطَلَقَ لِيَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَسَأَلَ ابْنَ
عَبَّاسٍ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: ذَهَبَ لِيَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَقَالَ عَلَيَّ
بِالرَّجُلِ فَجَاءَ، فَقَالَ: لَمَّا أَعْرَضْت عَنِّي انْطَلَقْت أَنْحَرُ
نَفْسِي فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ فَعَلْت مَا زِلْت فِي نَارِ
جَهَنَّمَ، اُنْظُرْ دِيَتَك فَاجْعَلْهَا فِي بُدْنٍ فَأَهْدِهَا فِي كُلِّ عَامٍ
شَيْئًا، وَلَوْلاَ أَنَّك شَدَدْت عَلَى نَفْسِك لَرَجَوْت أَنْ يُجْزِيك كَبْشٌ
وَهَذِهِ آثَارٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَفْتَى رَجُلاً نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ:
أَتَجِدُ مِائَةَ بَدَنَةٍ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْحَرْهَا، فَلَمَّا وَلَّى
الرَّجُلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا لَوْ أَمَرْته بِكَبْشٍ لاََجْزَأَ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّ
عِكْرِمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ
أَذْنَبْت ذَنْبًا لَئِنْ أَمَرْتنِي لاََنْحَرَنَّ السَّاعَةَ نَفْسِي وَاَللَّهِ
لاَ أُخْبِرُكَهُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، لَعَلِّي أَنْ أُخْبِرَك
بِكَفَّارَةٍ، قَالَ فَأَبَى، فَأَمَرَهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ وَهَذَا أَيْضًا
إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ سَاقِطَةٍ فِيهَا ابْنُ حَبِيبٍ
الأَنْدَلُسِيُّ: أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ أَفْتَوْا
فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ ابْنَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ قَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ الْمُغِيرَةِ عَنِ
(8/16)
الثَّوْرِيِّ،
عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ أَنَّهُمْ
ثَلاَثَتُهُمْ سُئِلُوا، عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالُوا: يَنْحَرُ بَدَنَةً،
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَكَبْشًا.
قال أبو محمد: فَهَذِهِ أَقْوَالٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صِحَاحٌ لَيْسَ بَعْضُهَا
أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
علية وسلم وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ لَمْ يُعْصَمْ مِنْ الْخَطَأِ، وَمَنْ
قَلَّدَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ لاَ نَتَّبِعَ مَا
أُنْزِلَ إلَيْنَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَضَائِلُ
وَمُشَاهَدٌ تَعْفُو، عَنْ كُلِّ تَقْصِيرٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ
قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ نَذْرًا لاَ
يَنْبَغِي لَهُ ذَكَرَ ; لأََنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يُوَفِّيَهُ ثُمَّ
سَأَلَ عِكْرِمَةَ فَنَهَاهُ، عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَأَمَرَهُ بِكَفَّارَةِ
يَمِينٍ فَرَجَعَ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ سَعِيدٌ:
لَيَنْتَهِيَنَّ عِكْرِمَةُ أَوْ لَيُوجِعَنَّ الأُُمَرَاءُ ظَهْرَهُ، فَرَجَعَ
إلَى عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: إذْ بَلَّغَتْنِي
فَبَلِّغْهُ، أَمَّا هُوَ فَقَدْ ضَرَبَتْ الأُُمَرَاءُ ظَهْرَهُ، وَأَوْقَفُوهُ
فِي تُبَّانِ شَعْرٍ، وَسَلْهُ، عَنْ نَذْرِك أَطَاعَةٌ لِلَّهِ هُوَ أَمْ
مَعْصِيَةٌ فَإِنْ قَالَ: مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ، فَقَدْ أَمَرَك بِالْمَعْصِيَةِ
وَإِنْ قَالَ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، إذْ زَعَمَ
أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ طَاعَةٌ لَهُ
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
الْعَلاَءِ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً
قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ
نَفْسِي فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم بِأَنْ يُهْدِيَ مِائَةَ
نَاقَةٍ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، قَالَ: فَإِنَّكَ لاَ تَجِدُ
مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْكَ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ: أَلَكَ مَالٌ فَقَالَ: نَعَمْ.
وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ مَا رُوِيَ، عَنِ
الصَّحَابَةِ فِي هَذَا، فَلاَ مَا يُوهَمُونَ مِنْ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ
الْتَزَمُوا، وَلاَ النَّصَّ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ اتَّبَعُوا، وَلاَ
بِالْمُرْسَلِ أَخَذُوا، وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ
سَوَاءٌ: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: مَنْ نَذَرَ نَحْرَ وَلَدِهِ، أَوْ
نَحْرَ نَفْسِهِ، أَوْ نَحْرَ غُلاَمِهِ، أَوْ نَحْرَ وَالِدِهِ، أَوْ نَحْرَ
أَجْنَبِيٍّ، أَوْ إهْدَاءَهُ، أَوْ إهْدَاءَ وَلَدِهِ، أَوْ إهْدَاءَ وَالِدِهِ
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، إِلاَّ فِي وَلَدِهِ خَاصَّةً،
فَيَلْزَمُهُ فِيهِ هَدْيُ شَاةٍ وَهَذَا مِنْ التَّخْلِيطِ الَّذِي لاَ نَظِيرَ
لَهُ وَوَافَقَهُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلاَّ، أَنَّهُ
قَالَ: وَعَلَيْهِ فِي عَبْدِهِ أَيْضًا شَاةٌ.
وَاضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ، فَمَرَّةً قَالَ: مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: أَنَا
أَنْحَرُ ابْنِي إنْ فَعَلْت كَذَا، فَحِنْثَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ:
وَمَرَّةً قَالَ: إنْ كَانَ نَوَى بِذَلِكَ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَإِنْ
كَانَ لَمْ يَنْوِ هَدْيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لاَ هَدْيٌ، وَلاَ كَفَّارَةٌ.
وَمَرَّةً قَالَ: إنْ نَذَرَ ذَلِكَ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، فَعَلَيْهِ
هَدْيٌ
(8/17)
وَإِنْ
لَمْ يَقُلْ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ صَاحِبُهُ: إنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ، إنْ
فَعَلْت كَذَا وَكَذَا، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي
الأَبْنِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ ذَلِكَ بِمِنًى، أَوْ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ، فَكَمَا لَوْ نَذَرَهُ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَهَذِهِ
أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَخِلاَفٌ لِلسَّلَفِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ: مَنْ قَالَ: أَنَا أَنْحَرُ ابْنِي عِنْدَ الْبَيْتِ، فَعَلَيْهِ أَنْ
يَحُجَّ، وَيَحُجَّ بِابْنِهِ وَيُهْدِيَ هَدْيًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ:
مَنْ قَالَ: أَنَا أَنْحَرُ فُلاَنًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَإِنَّهُ يُحِجُّهُ،
أَوْ يُعْمِرُهُ، وَيُهْدِي، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدٌ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ مَا
نَوَى فَقَطْ: وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهَا، فَلاَ وَجْهَ
لِلأَشْتِغَالِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ الأَسْتِغْفَارَ
فَقَطْ.
قال أبو محمد: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} .
وَقَالَ تَعَالَى {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}
. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ
اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ " وَلَمْ يَأْمُرْهُ فِي ذَلِكَ بِكَفَّارَةٍ، وَلاَ
هَدْيٍ وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا} . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْت
سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يُحَدِّثُ عَطَاءً أَنَّ رَجُلاً أَتَى إلَى ابْنِ عُمَرَ
فَقَالَ لَهُ: نَذَرْت لاََنْحَرَنَّ نَفْسِي فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَوْفِ
مَا نَذَرْت، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَفَأَقْتُلُ نَفْسِي قَالَ لَهُ إذْنَ
تَدْخُلُ النَّارَ، قَالَ لَهُ: أَلْبَسْت عَلَيَّ قَالَ: أَنْتَ أَلْبَسْت عَلَى
نَفْسِك
قال أبو محمد: وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي ابْنُ عُمَرَ، صَحَّ أَنَّ آتِيًا أَتَاهُ
فَقَالَ: نَذَرْت صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية
وسلم، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ . وَأَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهُ فَقَالَتْ:
نَذَرْت أَنْ أَمْشِيَ حَاسِرَةً فَقَالَ: أَوْفِي بِنَذْرِك، وَاخْتَمِرِي .
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سُقُوطَ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ
جُمْلَةً وَبِهَذَا نَقُولُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ نَحْرَ فَرَسِهِ أَوْ بَغْلَتِهِ،
فَلْيَنْحَرْهُمَا لِلَّهِ،
وَكَذَلِكَ مَا يُؤْكَلُ ; لأََنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ
مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ إلَى مَكَان سَمَّاهُ مِنْ الْحَرَمِ، أَوْ
إلَى مَسْجِدٍ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّهُ إنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ
رُكُوبًا، أَوْ نُهُوضًا إلَى مَكَّةَ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ
لَزِمَهُ ; لأََنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ عَلَى مَا
ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَجِّ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ نُهُوضًا، أَوْ رُكُوبًا إلَى الْمَدِينَةِ،
لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام،
فَإِنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ رُكُوبًا، أَوْ اعْتِكَافًا، أَوْ نُهُوضًا إلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَزِمَهُ. فَإِنْ نَذَرَ صَلاَةً فِيهِ كَانَ مُخَيَّرًا
بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ
(8/18)
الأَفْضَلُ أَنْ يَنْهَضَ إلَى مَكَّةَ فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُجْزِيه. وَالثَّانِي أَنْ يَنْهَضَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنْ نَذَرَ مَشْيًا، وَنُهُوضًا، أَوْ رُكُوبًا إلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الأَرْضِ غَيْرِ هَذِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ أَصْلاً. بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله علية وسلم نَهَى، عَنْ شَدِّ الرَّحَّالِ إِلاَّ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ فَقَطْ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: " إنَّمَا الرِّحْلَةُ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ إيلْيَاءَ " فَصَارَ الْقَصْدُ إلَى مَا سِوَاهَا مَعْصِيَةً، وَالْمَعْصِيَةُ لاَ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ مَا لَمْ يَنْذُرْهُ مِنْ صَلاَةٍ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي سَمَّى.، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ النُّهُوضِ، وَالذَّهَابِ، وَالْمَشْيِ، وَالرُّكُوبِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَشْيَ طَاعَةٌ، وَالرُّكُوبَ أَيْضًا طَاعَةٌ ; لأََنَّ فِيهِ نَفَقَةٌ زَائِدَةٌ فِي بِرٍّ. وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مَكَّةَ، أَوْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ كَانَ نَذَرَ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ هُنَالِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ فَرْضٍ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ لَزِمَهُ ; لأََنَّ كَوْنَهُ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهَا. وَإِنَّمَا قلنا: لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي نَذْرِهِ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ فِيهَا لِلأَثَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله علية وسلم عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَالَ " لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ إذْ فَرَضَ، عَزَّ وَجَلَّ، الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ: هُنَّ خَمْسٌ، وَهُنَّ خَمْسُونَ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ " فَآمَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أَنْ تَكُونَ صَلاَةً مُفْتَرَضَةً، غَيْرَ الْخَمْسِ لاَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ، مُعَيَّنَةً عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ أَبَدًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَعْمَالِ بِمِثْلِ هَذَا وَبِهَذَا أَسْقَطْنَا وُجُوبَ الْوَتْرِ فَرْضًا مَعَ وُرُودِ الأَمْرِ، وَوُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ فَرْضًا عَلَى الدَّاخِلِ الْمَسْجِدَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. فإن قيل: قَدْ قُلْتُمْ فِيمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا قُلْتُمْ قلنا: نَعَمْ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِمَكَّةَ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ:" يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ، أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: صَلِّ هَهُنَا ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَهَا، فَقَالَ: شَأْنَكَ إذًا ". وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
(8/19)
قَالَ:
قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: صَلِّ هَهُنَا،
فَأَعَادَ الرَّجُلُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: فَشَأْنَكَ إذًا ".
قال أبو محمد: وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ هَذَا فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا فِي
مَسْجِدِ إيلْيَاءَ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِيهِ فَقَطْ: وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا. فَإِنْ عَجَزَ رَكِبَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: لِمَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ
نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم صَلِّ هَهُنَا يَعْنِي بِمَكَّةَ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ
عَلَيْهِ وُجُوبُ نَذْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَصَحَّ
أَنَّهُ نَدْبٌ مُبَاحٌ وَكَانَ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ لاَزِمًا لَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَاجَعَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
إِلاَّ وُسْعَهَا فَقَالَ عليه السلام: فَشَأْنَكَ إذًا تَبَيَّنَ وَصَحَّ أَنَّ
أَمْرَهُ عليه السلام لَهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ نَدْبٌ لاَ فَرْضٌ أَيْضًا،
هَذَا مَا لاَ يُمْكِنُ سِوَاهُ، وَلاَ يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ غَيْرَهُ فَصَارَ
كُلُّ ذَلِكَ نَدْبًا فَقَطْ. فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تُوجِبُونَ صَلاَةَ
الْجِنَازَةِ فَرْضًا قلنا: نَعَمْ، عَلَى الْكِفَايَةِ لاَ مُتَعَيِّنًا عَلَى
أَحَدٍ بِعَيْنِهِ. وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ هَذَا عَمَّنْ نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ
فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنْ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ كَانَتْ
صَلاَةً سَادِسَةً وَبَدَّلَ الْقَوْلَ الَّذِي أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ
لَدَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ سَأَلْنَاهُ: مَا الْفَرْقُ، وَلاَ
سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ أَبَدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَلَوْ نَذَرَ النُّهُوضَ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
لِيُصَلِّيَ فِيهَا لَزِمَهُ النُّهُوضُ إلَيْهَا، وَلاَ بُدَّ فَقَطْ ; لأََنَّهُ
طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَلْزَمُهُ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ هُنَالِكَ
مَا أَدْرَكَهُ وَقْتُهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِيهَا مِنْ التَّطَوُّعِ مَا
يُسْتَحَبُّ لِمَنْ هُوَ هُنَالِكَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ
لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اذْهَبْ فَتَجَهَّزْ فَتَجَهَّزَ، ثُمَّ أَتَاهُ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اجْعَلْهَا عُمْرَةً. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا،عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِ
الْمَقْدِسِ فَأَمَرَتْهَا بِأَنْ تُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم . وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَذَرَ
أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ إيلْيَاءَ فَاعْتَكَفَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ
فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَ
عَنْهُ. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ فَإِنَّهُ لاَ
يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَلْيَعْتَكِفْ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ،
عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
قُلْت لِعَطَاءٍ: رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ
الْبَصْرَةِ قَالَ: إنَّمَا أُمِرْتُمْ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ
(8/20)
فِي
الْجِوَارِ قُلْت: فَأَوْصَى فِي أَمْرٍ فَرَأَيْت خَيْرًا مِنْهُ قَالَ: افْعَلْ
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مَا لَمْ تُسَمِّ لأَِنْسَانِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إنْ قَالَ
لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْت خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ
فَافْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ رَجَعَ عَطَاءٌ، عَنْ هَذَا وَقَالَ:
لِيَفْعَلْ الَّذِي قَالَ وَلْيُنَفِّذْ أَمْرَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
وَقَوْلُهُ الأَوَّلُ أَحَبُّ إلَيَّ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ
طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَنْ قَالَ لَهُ: نَذَرْت مَشْيًا إلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ زِيَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ لَهُ طَاوُوس:
عَلَيْك بِمَكَّةَ مَكَّةَ. وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ: مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ
إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَوْ إلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، أَوْ إتْيَانَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ إتْيَانَ مَسْجِدِ
الْمَدِينَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ أَصْلاً. وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم بِالْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْكَنِهِ مِنْ الْبِلاَدِ
حَيْثُ كَانَ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَذَرَ
صَلاَةً فِي مَوْضِعٍ فَصَلَّى فِي أَفْضَلَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ صَلَّى فِي
دُونِهِ لَمْ يُجْزِهِ. وقال مالك: إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ
إلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ،
إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ صَلاَةً هُنَالِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ رَاكِبًا،
وَالصَّلاَةُ هُنَالِكَ ; فَإِنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَسْجِدِ
الْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ: إلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعَلَيْهِ
الذَّهَابُ إلَى مَا هُنَالِكَ رَاكِبًا وَالصَّلاَةُ هُنَالِكَ قَالَ: فَإِنْ
نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى عَرَفَةَ، أَوْ إلَى مُزْدَلِفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ
نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ لَزِمَهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: مَنْ نَذَرَ أَنْ
يَمْشِيَ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَشَى إلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وقال
الشافعي: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِهِ إِلاَّ فِيهَا،
فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ
أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي ذَكَرَ لاَ فِيمَا
سِوَاهُ، فَإِنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الْمَسَاجِدِ لَمْ
يَلْزَمْهُ، لَكِنْ يُصَلِّي حَيْثُ هُوَ، فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ
الْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ الرُّكُوبُ إلَيْهِمَا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَخِلاَفُ
السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِيمَنْ نَذَرَ طَاعَةً، وَفِي أَنَّ صَلاَةً فِي
مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، وَإِنَّ
صَلاَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا
سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ عُمُومًا لاَ يَخُصُّ
مِنْهُ نَافِلَةً مِنْ فَرْضٍ، وَهَذِهِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ
اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ " فَقَالُوا: لاَ يُطِعْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي
يُوسُفَ فَفَاسِدٌ أَيْضًا ; لأََنَّهُ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ
يَوْمٍ فَجَاهَدَ فَإِنَّهُ يُجْزِيه مِنْ الصَّوْمِ ; لأََنَّهُ قَدْ فَعَلَ
خَيْرًا مِمَّا نَذَرَ، وَإِنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ
فَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ، أَنَّهُ يُجْزِيه وَهَذَا خَطَأٌ ; لأََنَّهُ لَمْ يَفِ
بِنَذْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ
(8/21)
من
قال لله علي عتق رفبة أو بدمة أو قال مائة درهم أو شيء من البر كهذا لم يعنيه فكله
نذر لازم
...
1115 - مَسْأَلَةٌ وَهَذَا بِخِلاَفِ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ عِتْقُ
رَقَبَةٍ، أَوْ قَالَ: بَدَنَةً، أَوْ قَالَ: مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ
الْبُرِّ، هَكَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ: فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ نَذْرٌ لاَزِمٌ ;
لأََنَّهُ لَمْ يَنْذُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ لاَ يَمْلِكُهُ ; لأََنَّ
الَّذِي نَذَرَ لَيْسَ مُعَيَّنًا فَيَكُونُ مُشَارًا إلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ،
فَإِنَّمَا نَذَرَ عِتْقًا فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ صَدَقَةً فِي ذِمَّتِهِ.
بُرْهَانُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ
لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} ثُمَّ لاَمَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ إذْ
لَمْ يَفُوا بِذَلِكَ إذْ آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ: فَخَرَجَ هَذَا عَلَى مَا
الْتَزَمَ فِي الذِّمَّةِ جُمْلَةً، وَخَرَجَ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم عَنِ النَّذْرِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ عَلَى مَا نَذَرَ فِي مُعَيَّنٍ لاَ
يَمْلِكُهُ. وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ اللَّازِمِ مَنْ نَذَرَ عِتْقَ أَوَّلِ
عَبْدٍ يَمْلِكُهُ، أَوْ أَوَّلِ وَلَدٍ تَلِدُهُ أَمَتُهُ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ
رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ ثُمَّ أَعْتَقَ فِي الإِسْلاَمِ مِائَةَ
رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَشْيَاءُ كُنْتُ أَفْعَلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(8/23)
أَسْلَمْتَ
عَلَى مَا أَسْلَفْتَ لَكَ مِنْ الْخَيْرِ قَالَ حَكِيمٌ: قُلْتُ: فَوَاَللَّهِ
لاَ أَدَعُ شَيْئًا صَنَعَتْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلاَّ فَعَلْتُ فِي
الإِسْلاَمِ مِثْلَهُ فَهَذَا نَذْرٌ مِنْ حَكِيمٍ فِي عِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ،
وَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ كَمَا
أَنْكَرَ نَذْرَ الأَنْصَارِيَّةِ نَحْرَ النَّاقَةِ الَّتِي لَمْ تَمْلِكْهَا
فَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُعَيَّنِ، وَأَنَّ
الْجَائِزَ هُوَ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ حِينَئِذٍ
لأََنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ،
وَلاَ بُدَّ، لاَ يُجْزِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِمَاسَةَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَفَّارَةُ
النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ".
قال أبو محمد: قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ
نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ
يَعْصِهِ " وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي
مَعْصِيَةِ اللَّهِ ". وَأَمْرُهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ، وَلاَ
يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ: بِأَنْ يَصُومَ وَيَطْرَحَ مَا
سِوَى ذَلِكَ وَنَهْيُهُ، عَنِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ
نَجِدْ نَذْرًا فِي الْعَالَمِ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ بَيَّنَ
عليه السلام لِكُلِّ وَجْهٍ حُكْمَهُ، فَكَانَ مَنْ اسْتَعْمَلَ فِي أَحَد تِلْكَ
الْوُجُوهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ فَقَدْ أَخْطَأَ; لأََنَّهُ زَادَ فِي ذَلِكَ مَا
لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْخَبَرِ
عَلَى مَا لاَ يُحَالُ بِهِ حُكْمُ تِلْكَ النُّصُوصِ، عَنْ أَحْكَامِهَا:
فَوَجَدْنَاهُ إذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ صَحَّ حُكْمُهُ، وَهُوَ مَنْ نَذَرَ
نَذْرًا فَقَطْ كَمَا فِي نَصِّ الْخَبَرِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْزَمَ شَيْئًا
مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَمْ يَلْتَزِمْهَا، وَلاَ جَاءَ بِالْتِزَامِهِ إيَّاهَا
نَصٌّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَسَوَاءٌ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ قَالَ: إنْ تَخَلَّصْت مِمَّا أَنَا فِيهِ
فَعَلَيَّ نَذْرٌ، وَسَوَاءٌ تَخَلَّصَ أَوْ لَمْ يَتَخَلَّصْ: عَلَيْهِ كُلُّ
ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلاَ بُدَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: عَلَيَّ حَرَامٌ، عَلَيَّ نَذْرٌ قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً،
أَوْ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ
سَعِيدٌ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النَّذْرُ
أَغْلَظُ الْيَمِينِ، وَفِيهَا أَغْلَظُ الْكَفَّارَةِ: عِتْقُ رَقَبَةٍ
وَكِلاَهُمَا صَحِيحٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ
الصَّحَابَةِ. وَمِمَّنْ قَالَ: فِيهِ يَمِينٌ كَقَوْلِنَا: الشَّعْبِيُّ،
رُوِّينَاهُ، عَنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
(8/24)
من
قال في النذر اللازم الذي قدمنا إلا أن يشاء الله أو ذكر الارادة مكان المشيئة إلخ
...
1116 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ قَالَ فِي النَّذْرِ اللَّازِمِ الَّذِي قَدَّمْنَا:
إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ، أَوْ ذَكَرَ الإِرَادَةَ مَكَانَ الْمَشِيئَةِ،
أَوْ إِلاَّ إنْ بَدَّلَ اللَّهُ مَا فِي نَفْسِي، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَبْدُوَ لِي
(8/24)
أَوْ نَحْوِ هَذَا مِنْ الأَسْتِثْنَاءِ وَوَصَلَهُ بِكَلاَمِهِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ، وَلاَ يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَلأََنَّهُ إذَا عَلَّقَ نَذْرَهُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ تَمَامَهُ لاََنْفَذَهُ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ كَوْنَهُ. وَهُوَ لَمْ يَلْتَزِمْهُ إِلاَّ إنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنَهُ، فَإِذْ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنَهُ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ بَدَا لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/25)
نذر
الرجل والمرأة البكر ذات الأب وغيرها وذات الزوج وغيرها والعبد سواء في ما تقدم
...
1117 - مَسْأَلَةٌ وَنَذْرُ الرَّجُلِ. وَالْمَرْأَةِ الْبِكْرِ ذَاتِ الأَبِ
وَغَيْرِ ذَاتِ الأَبِ وَذَاتِ الزَّوْجِ، وَغَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ، وَالْعَبْدِ،
وَالْحُرِّ، سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا;
لأََنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ صلى
الله عليه وسلم بِذَلِكَ عُمُومٌ لَمْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ
اللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ تَخْصِيصَ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا فَلاَ يُبَيِّنُهُ
لَنَا، هَذَا أَمْرٌ قَدْ أَمِنَّاهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ إِلاَّ الصِّيَامَ
وَحْدَهُ فَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ غَيْرَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي "
كِتَابِ الصِّيَامِ " وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/25)
من
نذر ما لا يطيق أبدا لم يلزمه شيء
...
1118- مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ مَا لاَ يُطِيقُ أَبَدًا لَمْ يَلْزَمْهُ ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} .
وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ فَجَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ
وَهُوَ لاَ يُطِيقُهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ لَهُ، لاَ حِينَئِذٍ، وَلاَ بَعْدَ
ذَلِكَ.
(8/25)
من
نذر في حال كفره طاعة لله عز وجل ثم أسلم لزمه الوفاء به
...
1119 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ فِي حَالَةِ كُفْرِهِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاك مَا
الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا
مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا}
فَحَضَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَأَوْجَبَهُ لِفَاعِلِهِ،
ثُمَّ عَلَى الإِيمَانِ، وَعَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ فِيهِ أَيْضًا، لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّه
فَلْيُطِعْهُ . وَهُوَ عليه السلام مَبْعُوثٌ إلَى الْجِنِّ وَالإِنْسِ،
وَطَاعَتُهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا
فَلَيْسَ مُسْلِمًا: وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ
يَدَّعِي الإِسْلاَمَ ثُمَّ نَقَضُوا فِي التَّفْصِيلِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحَلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
أَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ
قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْ رَسُولَ اللَّهِ
أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحْنَثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ،
أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ . حَدَّثَنَا
يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، حَدَّثَنَا
سَعِيدُ
(8/25)
1120
- مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ لِلَّهِ صَوْمَ يَوْمٍ يَقْدُمُ فِيهِ فُلاَنٌ، أَوْ
يَوْمٍ يَبْرَأُ أَوْ يَنْطَلِقُ فَكَانَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا لَمْ
يَلْزَمْهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْءٌ ;
لأََنَّهُ إنْ كَانَ لَيْلاً فَلَمْ يَكُنْ مَا نَذَرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ
نَهَارًا فَقَدْ مَضَى وَقْتُ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ:
لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي أَنْطَلِقُ فِيهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ
كَذَا فِي الأَبَدِ، أَوْ مُدَّةً يُسَمِّيهَا، فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ ذَلِكَ
الْيَوْمِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/26)
من
نذر صياما أو صلاة أو صدقة ولم يسم عددا ما لزمه في الصيام صوم يوم ولا مزيد في
الصدقة ما طابت به نفسه ولزمه في الصلاة ركعتان
...
1121 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ صِيَامًا، أَوْ صَلاَةً، أَوْ صَدَقَةً، وَلَمْ
يُسَمِّ عَدَدًا مَا:
لَزِمَهُ فِي الصِّيَامِ صَوْمُ يَوْمٍ، وَلاَ مَزِيدٍ، وَفِي الصَّدَقَةِ مَا
طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِمَّا يُسَمَّى صَدَقَةً، وَلَوْ شَقَّ تَمْرَةً، أَوْ
أَقَلَّ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ فِي
الصَّلاَةِ رَكْعَتَانِ; لأََنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا أَقَلُّ مِمَّا يَقَعُ
عَلَيْهِ الأَسْمُ الْمَذْكُورُ، فَهُوَ اللَّازِمُ بِيَقِينٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُ
زِيَادَةٌ; لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا شَرْعٌ، وَلاَ لُغَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/21)
1122
- مَسْأَلَةٌ وَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ، أَوْ صِيَامٌ، أَوْ
صَلاَةٌ، هَكَذَا جُمْلَةً: لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ،
وَيُجْزِيهِ ;
لأََنَّهُ نَذَرَ طَاعَةً، فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ:
لِلَّهِ عَلَيَّ عَمَلُ بِرٍّ: فَيُجْزِيهِ تَسْبِيحَةٌ، أَوْ تَكْبِيرَةٌ، أَوْ
صَدَقَةٌ، أَوْ صَوْمٌ، أَوْ صَلاَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ
الْبِرِّ. وَسَوَاءٌ قَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ نَذْرًا، أَوْ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ،
أَوْ قَالَ عَلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلاَ يُجْزِي فِي
ذَلِكَ لَفْظٌ دُونَ نِيَّةٍ، وَلاَ نِيَّةٌ دُونَ لَفْظٍ لِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ
مَا نَوَى ". فَلَمْ يُفْرِدْ عليه السلام نِيَّةً دُونَ عَمَلٍ، وَلاَ
عَمَلاً دُونَ نِيَّةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/27)
1123
- مَسْأَلَةٌ وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ فَفَرْضٌ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ مِنْ
رَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ دُيُونِ النَّاسِ كُلِّهَا،
فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ لِدُيُونِ النَّاسِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ
الصِّيَامِ وَكِتَابِ الْحَجِّ " دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى
". وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ هُوَ
الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَنَا شُعَيْبٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ
الأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ
عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَأَفْتَاهُ عليه السلام أَنْ
يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ.
قال أبو محمد: إنَّ مِنْ رَغِبَ، عَنْ فُتْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَسَارَعَ إلَى قَبُولِ فُتْيَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ:
لَمَخْذُولٌ مَحْرُومٌ مِنْ التَّوْفِيقِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ فِي أَنَّ فِي ثَلاَثَةِ أَصَابِعَ تُقْطَعُ
لِلْمَرْأَةِ ثَلاَثِينَ مِنْ الإِبِلِ، وَفِي أَرْبَعِ أَصَابِعَ تُقْطَعُ لَهَا
عِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ، لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ تِلْكَ السُّنَّةُ
ثُمَّ لاَ يَرَى قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَهُنَا، أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ الزُّهْرِيِّ فَكَانَتْ سُنَّةً حُجَّةً لِبَعِيدٍ مِنْ
الْقَوْلِ بِالْحَقِّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ مُصْعَبٍ
أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَكَفَتْ، عَنْ أَخِيهَا بَعْدَمَا
مَاتَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أُمَّهُ نَذَرَتْ اعْتِكَافًا فَمَاتَتْ وَلَمْ
تَعْتَكِفْ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:
(8/27)
اعْتَكِفْ،
عَنْ أُمِّك. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي
حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ
نَذْرٌ قَضَاهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوس، وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْت عَطَاءً
عَمَّنْ نَذَرَ جِوَارًا أَوْ مَشْيًا فَمَاتَ وَلَمْ يُنَفِّذْ قَالَ:
يُنَفِّذُهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، قُلْتُ: فَغَيْرُهُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ قَالَ:
نَعَمْ، وَأَحَبُّ إلَيْنَا الأَوْلِيَاءُ.
قال أبو محمد: فَإِنْ كَانَ نَذَرَ صَلاَةً صَلَّاهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ، أَوْ
صَوْمًا كَذَلِكَ، أَوْ حَجًّا كَذَلِكَ، أَوْ عُمْرَةً كَذَلِكَ، أَوْ
اعْتِكَافًا كَذَلِكَ، أَوْ ذِكْرًا كَذَلِكَ، وَكُلَّ بِرٍّ كَذَلِكَ فَإِنْ
أَبَى الْوَلِيُّ اُسْتُؤْجِرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يُؤَدِّي دَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى قِبَلَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/28)
1124-
مَسْأَلَةٌ قَالَ عَلِيٌّ: وَمَنْ تَعَمَّدَ النُّذُورَ لِيُلْزِمَهَا مَنْ
بَعْدَهُ، فَهِيَ غَيْرُ لاَزِمَةٍ،
لاَ لَهُ، وَلاَ لِمَنْ بَعْدَهُ; لأََنَّ النَّذْرَ اللَّازِمَ الْوَفَاءِ بِهِ
هُوَ نَذْرُ الطَّاعَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ الآنَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لاَ
نَذْرُ طَاعَةٍ; لأََنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا
قَصَدَ إدْخَالَ الْمَشَقَّةِ عَلَى مُسْلِمٍ، فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/28)
الوعد
ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بان يعنيه في عمل ما حلف له على
ذلك أو لم يحلف لم يلومه الوفاء به
...
{الْوَعْدُ}
1125 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ وَعَدَ آخَرَ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَالاً مُعَيَّنًا أَوْ
غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَوْ بِأَنْ يُعَيِّنَهُ فِي عَمَلٍ مَا حَلَفَ لَهُ عَلَى
ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ،
وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ الأَفْضَلُ لَوْ وَفَّى بِهِ. وَسَوَاءٌ
أَدْخَلَهُ بِذَلِكَ فِي نَفَقَةٍ أَوْ لَمْ يُدْخِلْهُ كَمَنْ قَالَ: تَزَوَّجْ
فُلاَنَةَ وَأَنَا أُعِينُك فِي صَدَاقِهَا بِكَذَا وَكَذَا، أَوْ نَحْوِ هَذَا
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك:
لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُدْخِلَهُ بِوَعْدِهِ ذَلِكَ فِي
كُلْفَةٍ، فَيَلْزَمُهُ وَيَقْضِي عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ الْوَعْدُ
كُلُّهُ لاَزِمٌ، وَيَقْضِي بِهِ عَلَى الْوَاعِدِ وَيُجْبَرُ.
فأما تَقْسِيمُ مَالِكٍ: فَلاَ وَجْهَ لَهُ، وَلاَ بُرْهَانَ يُعَضِّدُهُ، لاَ
مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ وَلاَ قِيَاسٍ. فَإِنْ قَالُوا
قَدْ أَضَرَّ بِهِ إذْ كَلَّفَهُ مِنْ أَجْلِ وَعْدِهِ عَمَلاً وَنَفَقَةً قلنا:
فَهَبْكُمْ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَيْنَ وَجَبَ عَلَى مِنْ أَضَرَّ
بِآخَرَ، وَظَلَمَهُ وَغَرَّهُ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ مَالاً مَا عَلِمْنَا هَذَا فِي
دِينِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَقَطْ وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ
تَفْعَلُونَ} . وَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ
مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ
(8/28)
كتاب
الأيمان
مدخل
لا يمين إلا بالله عز وجل
...
كِتَابُ الأَيْمَانِ
1126 - مَسْأَلَةٌ لاَ يَمِينَ إِلاَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إمَّا بِاسْمٍ
مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، أَوْ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَلاَ يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ،
مِثْلَ: مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَوَارِثِ الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، الَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ،
وَيَكُونُ ذَلِكَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ أَوْ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ
قُدْرَتِهِ، أَوْ عِزَّتِهِ، أَوْ قُوَّتِهِ، أَوْ جَلاَلِهِ، وَكُلِّ مَا جَاءَ
بِهِ النَّصُّ مِنْ مِثْلِ هَذَا ; فَهَذَا هُوَ الَّذِي إنْ حَلَفَ بِهِ
الْمَرْءُ كَانَ حَالِفًا، فَإِنْ حَنِثَ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ.
وَأَمَّا مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ
شَيْئًا فَلَيْسَ حَالِفًا، وَلاَ هِيَ يَمِينًا، وَلاَ كَفَّارَةٌ فِي ذَلِكَ إنْ
حَنِثَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ عَاصٍ
لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ
وَالأَسْتِغْفَارُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي " كِتَابِ النُّذُورِ "
مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ
يَحْلِفْ إِلاَّ بِاَللَّهِ ". وَقَوْله تَعَالَى {قُلْ اُدْعُوَا اللَّهَ
أَوْ اُدْعُوَا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
وَقَالَ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ
فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، لاَ شَيْءَ سِوَاهُ، وَلاَ يُرْجَعُ
مِنْ كُلِّ ذَلِكَ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَنَا
شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ[رضي الله عنه] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:" إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا
مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ".
وَقَالَ تَعَالَى {إنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . فَصَحَّ
(8/30)
أَنَّهُ
لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ بِمَا سَمَّى بِهِ
نَفْسَهُ. وَصَحَّ أَنَّ أَسْمَاءَهُ لاَ تَزِيدُ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ
شَيْئًا، لِقَوْلِهِ عليه السلام: " مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا " فَنَفَى
الزِّيَادَةَ، وَأَبْطَلَهَا، لَكِنْ يُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا يَفْعَلُ تَعَالَى.
وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي إحْصَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ أَسْمَاءٌ
مُضْطَرِبَةٌ لاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ أَصْلاً، فَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ نَصِّ
الْقُرْآنِ. وَمِمَّا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَقَدْ بَلَغَ
إحْصَاؤُنَا مِنْهَا إلَى مَا نَذْكُرُ.
وَهِيَ: اللَّهُ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، الْعَلِيمُ، الْحَكِيمُ، الْكَرِيمُ،
الْعَظِيمُ، الْحَلِيمُ، الْقَيُّومُ، الأَكْرَمُ، السَّلاَمُ، التَّوَّابُ،
الرَّبُّ، الْوَهَّابُ، الإِلَهُ، الْقَرِيبُ، السَّمِيعُ، الْمُجِيبُ،
الْوَاسِعُ، الْعَزِيزُ، الشَّاكِرُ، الْقَاهِرُ، الآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْكَبِيرُ،
الْخَبِيرُ، الْقَدِيرُ، الْبَصِيرُ، الْغَفُورُ، الشَّكُورُ، الْغَفَّارُ،
الْقَهَّارُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْمُصَوِّرُ، الْبَرُّ، مُقْتَدِرٌ،
الْبَارِي، الْعَلِيُّ، الْغَنِيُّ، الْوَلِيُّ، الْقَوِيُّ، الْحَيُّ،
الْحَمِيدُ، الْمَجِيدُ، الْوَدُودُ، الصَّمَدُ، الأَحَدُ، الْوَاحِدُ، الأَوَّلُ،
الأَعْلَى، الْمُتَعَالِ، الْخَالِقُ، الْخَلَّاقُ، الرَّزَّاقُ، الْحَقُّ،
اللَّطِيفُ، رَءُوف، عَفُوٌّ، الْفَتَّاحُ، الْمَتِينُ، الْمُبِينُ، الْمُؤْمِنُ،
الْمُهَيْمِنُ، الْبَاطِنُ، الْقُدُّوسُ، الْمَلِكُ، مَلِيكٌ، الأَكْبَرُ،
الأَعَزُّ، السَّيِّدُ، سُبُّوحٌ، وِتْرٌ، مِحْسَانٌ، جَمِيلٌ، رَفِيقٌ،
الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الشَّافِي، الْمُعْطِي، الْمُقَدِّمُ،
الْمُؤَخِّرُ، الدَّهْرُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثَ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفِيهِ
"أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام لَمَّا رَأَى الْجَنَّةَ وَأَنَّهَا حُفَّتْ
بِالْمَكَارِهِ قَالَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ
يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . وَقَالَ تَعَالَى {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} .
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو
مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الأَسْتِخَارَةَ فِي الأُُمُورِ
كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنْ الْقُرْآنِ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ
فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ
بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ". وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} . وَقَالَ تَعَالَى {ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} .
وَقَالَ تَعَالَى {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى {يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . وَقَالَ تَعَالَى
{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} . فَهَذِهِ جَاءَ النَّصُّ بِهَا.
وَأَمَّا الْيَمِينُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَكَرَمِهِ، وَحِلْمِهِ،
وَحِكْمَتِهِ، وَسَائِرِ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
يَمِينًا ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَا نَصٌّ، فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهَا.
(8/31)
من
حلف بما ذكرنا أن لا يفعل أمرا كذا أو أن يفعل أمرا كذا فإن وقت وقتا ولم يفعل ما
حلف عليه فعليه كفارة اليمين
...
1127 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ لاَ يَفْعَلَ أَمْرًا
كَذَا، أَوْ أَنْ يَفْعَلَ أَمْرًا كَذَا فَإِنْ وَقَّتَ وَقْتًا مِثْلَ:
غَدًا، أَوْ يَوْمَ كَذَا، أَوْ الْيَوْمَ أَوْ فِي وَقْتٍ يُسَمِّيهِ، فَإِنْ
مَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِيهِ
عَامِدًا ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ، أَوْ فَعَلَ مَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ فِيهِ
عَامِدًا ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. هَذَا مَا لاَ
خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنْ لَمْ
يُوَقِّتْ وَقْتًا فِي قَوْلِهِ: لاََفْعَلَن كَذَا، فَهُوَ عَلَى الْبِرِّ
أَبَدًا حَتَّى يَمُوتَ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَّتَ وَقْتًا، وَلاَ فَرْقَ، وَلاَ
حِنْثَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَكَانٌ فِيهِ خِلاَفٌ: قَالَ مَالِكٌ: هُوَ حَانِثٌ فِي
كِلاَ الأَمْرَيْنِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وقال الشافعي: هُوَ عَلَى الْبِرِّ
إلَى آخِرِ أَوْقَاتِ صِحَّتِهِ الَّتِي يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ
أَنْ يَفْعَلَهُ، فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أَبُو
ثَوْرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَقَوْلِنَا.
قال أبو محمد: فَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ: أَحَانِثٌ هُوَ مَا لَمْ
يَفْعَلْ مَا حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَمْ بَارٌّ؟ وَلاَ سَبِيلَ إلَى قَسَمٍ
ثَالِثٍ: فَإِنْ قَالُوا: هُوَ بَارٌّ قلنا: صَدَقْتُمْ، وَهُوَ قَوْلُنَا لاَ
قَوْلُكُمْ وَإِنْ قَالُوا: هُوَ حَانِثٌ قلنا: فَأَوْجِبُوا عَلَيْهِ
الْكَفَّارَةَ، وَطَلاَقَ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِكُمْ إنْ كَانَ حَانِثًا وَهُمْ
لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ. فَظَهَرَ يَقِينُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِلاَ مِرْيَةٍ،
وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: هُوَ عَلَى حِنْثٍ، وَلَيْسَ حَانِثًا، وَلاَ حِنْثَ بَعْدُ:
كَلاَمٌ مُتَنَاقِضٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالتَّخْلِيطِ. وَأَمَّا قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ ; لأََنَّهُ أَوْجَبَ الْحِنْثَ بَعْدَ الْبِرِّ بِلاَ
نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ، وَلاَ يَقَعُ الْحِنْثُ عَلَى مَيِّتٍ بَعْدَ مَوْتِهِ
فَلاَحَ أَنَّ قَوْلَهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/32)
أما
الحلف بالأمانة وبعهد الله وميثاقه وحق المصحف إلخ فكل هذا ليس يمينا واليمين بها
معصية ليس فيها إلا التوبة والإستغفار
...
1128 - مَسْأَلَةٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالأَمَانَةِ، وَبِعَهْدِ اللَّهِ
وَمِيثَاقِهِ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ، وَأَشَدَّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ
عَلَى أَحَدٍ،
وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَقِّ الْمُصْحَفِ، وَحَقِّ
الإِسْلاَمِ، وَحَقِّ الْكَعْبَةِ، وَأَنَا كَافِرٌ، وَلَعَمْرِي، وَلَعَمْرُك،
وَلأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَأُقْسِمُ، وَأَقْسَمْت، وَأَحْلِفُ، وَحَلَفْت،
وَأَشْهَدُ، وَعَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ عَلَيَّ أَلْفُ يَمِينٍ، أَوْ جَمِيعُ
الأَيْمَانِ تَلْزَمُنِي: فَكُلُّ هَذَا لَيْسَ يَمِينًا وَالْيَمِينُ بِهَا
مَعْصِيَةٌ، لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ التَّوْبَةُ وَالأَسْتِغْفَارُ ; لأََنَّهُ
كُلَّهُ غَيْرُ اللَّهِ، وَلاَ يَجُوزُ الْحَلِفُ إِلاَّ بِاَللَّهِ.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَرَى هَذِهِ الأَلْفَاظَ يَمِينًا، وَيَرَى
الْحَلِفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ، وَبِالطَّلاَقِ، وَبِالْعِتْقِ، وَبِصَدَقَةِ
الْمَالِ: أَيْمَانًا ثُمَّ لاَ يُحَلَّفُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ مِنْ الدِّمَاءِ،
وَالْفُرُوجِ، وَالأَمْوَالِ، وَالأَبْشَارِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ أَوْكَدُ
عِنْدَهُمْ ; لأََنَّهَا لاَ كَفَّارَةَ لَهَا، وَيُحَلِّفُونَهُمْ بِاَللَّهِ،
وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، أَلَيْسَ هَذَا عَجَبًا وَلَئِنْ كَانَتْ أَيْمَانًا
عِنْدَهُمْ: بَلْ مِنْ أَغْلَظِ الأَيْمَانِ وَأَشَدِّهَا: فَالْوَاجِبُ أَنْ
يُحَلِّفُوا النَّاسَ بِالأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ، وَلَئِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ
أَيْمَانًا فَلِمَ يَقُولُونَ إنَّهَا أَيْمَانٌ؟ حَسْبُنَا اللَّهُ وَهُوَ
الْمُسْتَعَانُ.
(8/32)
وَفِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ مِنْ السَّلَفِ يَرَوْنَ كُلَّ ذَلِكَ أَيْمَانًا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لاََنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ ابْنُ عُمَرَ: لاََنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ سَمِعْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: إنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ وَقَدْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِالْكَعْبَةِ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك فَكَّرْت فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَحْلِفَ لَعَاقَبْتُك، احْلِفْ بِاَللَّهِ فَأْثَمْ أَوْ ابْرَرْ
(8/33)
من
حلف بالقرآن أو بكلام الله عز وجل فإن نوى في نفسه المصحف الصوت المسموع المحفوظ
في الصدور فليس يمينا وإن لم ينو ذلك وعليه الكفارة
...
1129 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِكَلاَمِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَإِنْ نَوَى فِي نَفْسِهِ الْمُصْحَفَ، أَوْ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ،
أَوْ الْمَحْفُوظَ فِي الصُّدُورِ فَلَيْسَ يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ
بَلْ نَوَاهُ عَلَى الإِطْلاَقِ، فَهِيَ يَمِينٌ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ إنْ حَنِثَ
;
لأََنَّ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ عِلْمُهُ. قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلاَ
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} .
وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقُرْآنُ
كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا [رُوِّينَا ] مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، قَالَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ
الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ: ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ قَالاَ جَمِيعًا: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ بِسُورَةٍ مِنْ
الْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا يَمِينُ صَبْرٍ فَمَنْ شَاءَ بَرَّ
وَمَنْ شَاءَ فَجَرَ ". وَلَفْظُ الْحَسَنِ إنْ شَاءَ بَرَّ وَإِنْ شَاءَ
فَجَرَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
الْهُذَيْلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: أَتَيْت مَعَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ السُّوقَ فَسَمِعَ رَجُلاً يَحْلِفُ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَمَا إنَّ عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينًا. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْ
الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ، وَمَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ
بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ. وَرُوِّينَا، عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنْجَابٍ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ
فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ خَطِيئَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ يَمِينٌ
وَاحِدَةٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
سَمِعْت عَطَاءً وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: قُلْت: وَالْبَيْتُ، وَكِتَابُ
اللَّهِ فَقَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَا لَك بِرَبٍّ، لَيْسَا يَمِينًا .وَبِهِ يَقُولُ
أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ أَنْ
يَقُولُوا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ; لأََنَّهُ لاَ يُعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ
مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
(8/33)
1130
- مَسْأَلَةٌ: وَلَغْوُ الْيَمِينِ لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلاَ إثْمَ، وَهُوَ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ وَهُوَ لاَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ كَمَا
حَلَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَالثَّانِي: مَا جَرَى بِهِ
لِسَانُ الْمَرْءِ فِي خِلاَلِ كَلاَمِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَيَقُولُ فِي
أَثْنَاءِ كَلاَمِهِ: لاَ وَاَللَّهِ، وَأَيْ وَاَللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ
الأَيْمَانَ} . وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: رُبَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِبَعْضِ
بَنِيهِ: لَقَدْ حَفِظْت عَلَيْك فِي هَذَا الْمَجْلِسِ أَحَدَ عَشَرَ يَمِينًا،
وَلاَ يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا عَطَاءً أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَدْ سَأَلَهَا عُبَيْدُ بْنَ عُمَيْرٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ
الرَّجُلِ لاَ وَاَللَّهِ . وَبَلَى وَاَللَّهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِي اللَّغْوِ: هُوَ
قَوْلُ الْقَوْمِ يَتَدَارَءُونَ فِي الأَمْرِ يَقُولُ هَذَا: لاَ وَاَللَّهِ،
وَبَلَى وَاَللَّهِ، وَكَلاَ وَاَللَّهِ، وَلاَ تَعْقِدُ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ.
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وطَاوُوس، وَالْحَسَنِ،
وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي قِلاَبَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلاَ يَصِحُّ عَنْهُ ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ
الْكَلْبِيِّ: لَغْوُ الْيَمِينِ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ هَذَا وَاَللَّهِ فُلاَنٌ،
وَلَيْسَ بِفُلاَنٍ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى
وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ،
وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ الْمَرْءِ: لاَ وَاَللَّهِ، وَأَيْ وَاَللَّهِ
بِغَيْرِ نِيَّةٍ، فَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ لاَ إشْكَالَ فِيهِ ; لأََنَّهُ نَصُّ
الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، .
وَأَمَّا مَنْ أَقْسَمَ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ يَرَى، وَلاَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ
كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْمِدْ الْحِنْثَ، وَلاَ قَصَدَ لَهُ،
وَلاَ حِنْثَ إِلاَّ عَلَى مَنْ قَصَدَ إلَيْهِ إِلاَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا
تَنَاقَضَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ، فَأَسْقَطُوا الْكَفَّارَةَ
هَهُنَا، وَأَوْجَبُوهَا عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ
مُكْرَهًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَالْعَجَبُ أَيْضًا أَنَّهُمْ رَأَوْا اللَّغْوَ فِي الْيَمِينِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَرَوْهُ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى،
كَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعِتْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ
جَاءَ أَثَرٌ بِقَوْلِنَا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد
السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ،
هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ هُوَ الصَّائِغُ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ قَالَتْ عَائِشَةُ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلاَمُ الرَّجُلِ
(8/34)
فِي بَيْتِهِ: كَلاَ وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/35)
من
حلف ألا يفعل أمرا كذا ففعله ناسيا أو مكرها أو غلب بأمر حيل بينه وبينه إلخ فلا
كفارة على الحالف في شيء من كل ذلك ولا إثم
...
1131 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَ أَمْرًا كَذَا، فَفَعَلَهُ
نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ غُلِبَ بِأَمْرٍ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِهِ،
أَوْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلاً ذَكَرَهُ لَهُ،
أَوْ أَنْ لاَ يَفْعَلَ فِعْلاً كَذَا فَفَعَلَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَامِدًا
أَوْ نَاسِيًا، أَوْ شَكَّ الْحَالِفُ أَفْعَلَ مَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ
أَمْ لاَ أَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ عَقْلِهِ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى الْحَالِفِ
فِي شَيْءٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلاَ إثْمَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ،
عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ: هُوَ
أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْسَى قَالَ هُشَيْمٌ: وَأَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ،
عَنِ الْحَسَنِ بِمِثْلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ} . وَقَدْ قلنا: إنَّ الْحِنْثَ لَيْسَ إِلاَّ عَلَى قَاصِدِ إلَى
الْحِنْثِ يَتَعَمَّدُ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ غَيْرُ
قَاصِدِينَ إلَيْهِ، فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِمْ، إذْ لَمْ يَتَعَمَّدُوهُ
بِقُلُوبِهِمْ. وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " عُفِيَ
لأَُمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ".
وَأَنَّهُ رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَالْمَجْنُونِ
حَتَّى يُفِيقَ. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلاَّ وُسْعَهَا}. وَبِالْمُشَاهَدَةِ نَدْرِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ النَّاسِ،
وَلاَ الْمَغْلُوبِ بِأَيِّ وَجْهٍ: مَنْعٌ أَنْ يَفْعَلَ مَا نَسِيَ، وَلاَ مَا
غُلِبَ عَلَى فِعْلِهِ فَصَحَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ فِعْلَ
ذَلِكَ، وَإِذْ لَيْسَ مُكَلَّفًا لِذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْوَفَاءُ بِمَا
لَمْ يُكَلَّفْ الْوَفَاءَ بِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا
مَنْصُورٌ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا
أَقْسَمَ عَلَى غَيْرِهِ فَأَحْنَثَ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
هُشَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ فِيمَنْ أَقْسَمَ عَلَى
غَيْرِهِ فَأَحْنَثَهُ أَحَبُّ إلَيَّ لِلْمُقْسِمِ أَنْ يُكَفِّرَ، فَلَمْ يُوجِبْهُ
إِلاَّ اسْتِحْبَابًا.
(8/35)
من
حلف على ما لا يدري أهو كذلك أم لا وعلى ما قد يكون ولا يكون فلا كفارة عليه ولا
إثم
...
1132 - مَسْأَلَةٌ وَمِنْ هَذَا مَنْ حَلَفَ عَلَى مَا لاَ يَدْرِي أَهْوَ
كَذَلِكَ أَمْ لاَ، وَعَلَى مَا قَدْ يَكُونُ، وَلاَ يَكُونُ؟ كَمَنْ حَلَفَ
لَيَنْزِلَنَّ الْمَطَرُ غَدًا، فَنَزَلَ أَوْ لَمْ يَنْزِلْ، فَلاَ كَفَّارَةَ
فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ;
لأََنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْحِنْثَ، وَلاَ كَفَّارَةَ إِلاَّ عَلَى مَنْ
تَعَمَّدَ الْحِنْثَ وَقَصَدَهُ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ} . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ حَلَفَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ فَلَمْ يَأْمُرْهُ عليه السلام
بِكَفَّارَةٍ. وقال مالك: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَانَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَوْ
لَمْ يَكُنْ وَهَذَا خَطَأٌ ; لأََنَّهُ لاَ نَصَّ بِمَا قَالَ، وَالأَمْوَالُ
مَحْظُورَةٌ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَالشَّرَائِعُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ
(8/35)
من
حلف عامدا للكذب فيما حلف فعليه الكفارة
...
1133 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ عَامِدًا لِلْكَذِبِ فِيمَا يَحْلِفُ، فَعَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ
وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمَالِكٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَرُوِّينَا مِثْلَ
قَوْلِنَا، عَنِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت
الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، عَنِ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ
أَفِيه كَفَّارَةٌ قَالَ: نَعَمْ. وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى كَذِبٍ يَتَعَمَّدُ فِيهِ
الْكَذِبَ، قَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلاَ يَزِيدُ بِالْكَفَّارَةِ
إِلاَّ خَيْرًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} قَالَ:
بِمَا تَعَمَّدْتُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قوله تعالى:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} قَالَ:
بِمَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ الْمَأْثَمَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ
الْيَمِينُ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ
فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ يَتَعَمَّدُهُ كَاذِبًا يَقُولُ: وَاَللَّهِ
لَقَدْ فَعَلْت، وَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت، وَقَدْ فَعَلَ،
قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُكَفِّرَ. وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ مِنْ
طَرِيقِ رُفَيْعٍ أَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ:
كُنَّا نَعُدُّ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي لاَ كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ
أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ كَاذِبًا عَلَى مَالِ أَخِيهِ لِيَقْتَطِعَهُ. وَعَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَنَّ
هَذَا الْيَمِينَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ أَوْ أَنَّهَا كِذْبَةٌ، لاَ
كَفَّارَةَ فِيهَا.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ الْكَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ بِالأَخْبَارِ
الثَّابِتَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:: " مَنْ حَلَفَ عَلَى
يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ" ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ إنَّ
{الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً
أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ، وَلاَ
يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} .
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "
ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ
إلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَذَكَرَ عليه السلام
فِيهِمْ الْمُنْفِقَ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ". وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "
الْكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ
النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ".
(8/36)
وَمِنْ
طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ مَصْبُورَةٍ كَاذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ بِوَجْهِهِ
مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ". وَمِنْ طَرِيقِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ
فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". وَمِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا
بِيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ". وَزَادَ بَعْضُهُمْ
" وَلَوْ كَانَ سِوَاكًا أَخْضَرَ " هَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ صِحَاحٌ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا: خَبَرًا صَحِيحًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
" مَنْ اسْتَلَجَّ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا لَيْسَ
تُغْنِي الْكَفَّارَةُ ". وَبِخَبَرٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الضَّحَّاكِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلِ: فَعَلْتَ
كَذَا وَكَذَا قَالَ: لاَ وَاَلَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا فَعَلْتُ، فَجَاءَ
جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: بَلَى قَدْ فَعَلَ، لَكِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ
بِالإِخْلاَصِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ،
عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
أَخْطَأَ فِيهِ يُوسُفُ بْنُ الضَّحَّاكِ فَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ، وَإِلَّا فَهُوَ
ضَعِيفٌ قَالُوا: فَلَمْ يَأْمُرْهُ عليه السلام بِكَفَّارَةٍ قَالُوا: إنَّمَا
الْكَفَّارَةُ فِيمَا حَلَفَ فِيهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ. وَمَوَّهُوا فِي ذَلِكَ
بِذَكَرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ. قَالُوا:
وَحِفْظُهَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُوَاقَعَتِهَا. هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا
بِهِ وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ.
أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَعِمْرَانَ، وَجَابِرٍ،
وَالأَشْعَثِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إسْقَاطُ
الْكَفَّارَةِ، وَلاَ إيجَابُهَا، كَمَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِتَوْبَةٍ أَصْلاً،
وَإِنَّمَا فِيهَا كُلِّهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِالنَّارِ وَالْعِقَابِ.
فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ. ثُمَّ الْعَجَبُ
كُلُّهُ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ، وَفِي هَذِهِ الآيَةِ عَلَى
قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ
الآيَةِ، وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ يَقْطَعُ
(8/37)
بِكَوْنِهِ
وَلاَ بُدَّ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِسْمٌ
قَالُوا: هُوَ نَافِذٌ مَا لَمْ يَتُبْ فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ احْتَجَّ
بِآيَةٍ وَأَخْبَارٍ صِحَاحٍ فِي إسْقَاطِ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ
ذَلِكَ ذِكْرٌ أَصْلاً، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا كُلَّ مَا فِيهَا عَلاَنِيَةً
وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا
وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: " مَنْ اسْتَلَجَّ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ
فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا لَيْسَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ " فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِيهِ أَصْلاً ; لأََنَّ الأَيْمَانَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، مِنْهَا لَغْوٌ لاَ
إثْمَ فِيهِ، وَلَمْ يَرِدْ هَذَا الصِّنْفُ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِلاَ شَكٍّ.
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الْمَرْءُ بِهَا حَالِفًا عَلَى مَا غَيْرُهُ خَيْرٌ
مِنْهُ، وَلاَ خِلاَفَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُغْنِي
فِي هَذَا. وَبِهِ جَاءَ النَّصُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا
نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا الْيَمِينُ
الْغَمُوسُ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا، وَبِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ نَدْرِي
نَحْنُ وَهُمْ أَنَّ الْحَالِفَ بِهَا لاَ يُسَمَّى مُسْتَلِجًا فِي أَهْلِهِ،
فَبَطَلَ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الْخَبَرِ هَذَا الْقَسَمَ، وَبَطَلَ
احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِي إسْقَاطِهِمْ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.
فإن قيل: فَمَا مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَكُمْ وَهُوَ صَحِيحٌ قلنا: نَعَمْ،
مَعْنَاهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ بَيِّنٌ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ دُونَ تَبْدِيلٍ،
وَلاَ إحَالَةٍ، وَلاَ زِيَادَةٍ، وَلاَ نَقْصٍ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الْمَرْءُ
أَنْ يُحْسِنَ إلَى أَهْلِهِ، أَوْ أَنْ لاَ يَضُرَّ بِهِمْ، ثُمَّ لَجَّ فِي أَنْ
يَحْنَثَ، فَيَضُرَّ بِهِمْ، وَلاَ يُحْسِنَ إلَيْهِمْ وَيُكَفِّرَ، عَنْ
يَمِينِهِ فَهَذَا بِلاَ شَكٍّ مُسْتَلِجٌ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ أَنْ لاَ
يَفِيَ بِهَا، وَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا بِلاَ شَكٍّ وَالْكَفَّارَةُ لاَ تُغْنِي
عَنْهُ، وَلاَ تَحُطُّ إثْمَ إسَاءَتِهِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً
عَلَيْهِ لاَ يَحْتَمِلُ أَلْبَتَّةَ هَذَا الْخَبَرُ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَسُفْيَانَ، فَطَرِيقُ سُفْيَانَ لاَ
تَصِحُّ، فَإِنْ صَحَّتْ طَرِيقُ حَمَّادٍ فَلَيْسَ فِيهِ لأَِسْقَاطِ
الْكَفَّارَةِ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ لَهُ
بِالإِخْلاَصِ فَقَطْ، وَلَيْسَ كُلُّ شَرِيعَةٍ تُوجَدُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ، وَلاَ
شَكٍّ فِي أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْحَلِفِ عَلَى
الْكَذِبِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ لَهَا ذِكْرٌ، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ
عليه السلام، عَنْ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ حُجَّةً فِي سُقُوطِهَا فَسُكُوتُهُ، عَنْ
ذِكْرِ التَّوْبَةِ حُجَّةٌ فِي سُقُوطِهَا، وَلاَ بُدَّ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ
بِهَذَا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَمَرَ بِالتَّوْبَةِ فِي نُصُوصٍ أُخُرَ قلنا:
وَقَدْ أَمَرَ بِالْكَفَّارَةِ فِي نُصُوصٍ أُخُرَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَنَقُولُ لَهُمْ: إنْ كَانَ سُكُوتُهُ عليه السلام، عَنْ ذِكْرِ
الْكَفَّارَةِ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا حُجَّةً فِي إسْقَاطِهَا
فَسُكُوتُهُ عليه السلام، عَنْ ذِكْرِ سُقُوطِهَا حَجَّةٌ فِي إيجَابِهَا، وَلاَ
فَرْقَ وَهِيَ دَعْوَى كَدَعْوَى ; فَالْوَاجِبُ طَلَبُ حُكْمِ الْكَفَّارَةِ فِي
نَصٍّ غَيْرِ هَذِهِ
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فَحَقٌّ. وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: إنَّ الْحِفْظَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ مُوَاقَعَةِ الْيَمِينِ
فَكَذِبٌ، وَافْتِرَاءٌ، وَبُهْت، وَضَلاَلٌ مَحْضٌ، بَلْ حِفْظُ الأَيْمَانِ
وَاجِبٌ قَبْلَ الْحَلِفِ بِهَا، وَفِي الْحَلِفِ بِهَا، وَبَعْدَ الْحَلِفِ
بِهَا، فَلاَ يَحْلِفُ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ عَلَى حَقٍّ
(8/38)
ثُمَّ
هَبْكَ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالُوا، وَأَنَّ قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ} إنَّمَا هُوَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ، فَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا
عَلَى أَنْ لاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْحَلِفَ كَاذِبًا وَهَلْ هَذَا
مِنْهُمْ إِلاَّ الْمُبَاهَتَةَ وَالتَّمْوِيهَ، وَتَحْرِيفَ كَلاَمِ اللَّهِ،
عَنْ مَوَاضِعِهِ وَمَا يَشُكُّ كُلُّ ذِي مَسْكَةِ تَمْيِيزٍ فِي أَنَّ مَنْ
تَعَمَّدَ الْحَلِفَ كَاذِبًا فَمَا حَفِظَ يَمِينَهُ فَظَهَرَ فَسَادُ كُلِّ مَا
يُمَخْرِقُونَ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا حَلَفَ
عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ فَبَاطِلٌ، وَدَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ، لاَ مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ. فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم " أَنَّهُ لاَ يَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَيَرَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرَ، عَنْ يَمِينِهِ
". فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لأََنَّ الْكَفَّارَةَ عِنْدَهُمْ
وَعِنْدَنَا تَجِبُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى
يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا شَرًّا مِنْهَا فَفَعَلَ الَّذِي هُوَ شَرٌّ، فَإِنَّ
الْكَفَّارَةَ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: هِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ فَمِنْ
أَيْنَ لَهُمْ هَذَا؟ وَأَيْنَ وَجَدُوهُ؟ وَهَلْ هُوَ إِلاَّ حُكْمٌ مِنْهُمْ لاَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَيُعَارَضُونَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: دَعْوَى
أَحْسَنُ مِنْ دَعْوَاهُمْ، بَلْ كُلَّمَا عَظُمَ الذَّنْبُ كَانَ صَاحِبُهُ
أَحْوَجَ إلَى الْكَفَّارَةِ، وَكَانَتْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا فِيمَا لَيْسَ ذَنْبًا
أَصْلاً، وَفِيمَا هُوَ صَغِيرٌ مِنْ الذُّنُوبِ، وَهَذَا الْمُتَعَمِّدُ
لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ نَحْنُ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ
عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ حَالِفٍ عَلَى يَمِينٍ غَمُوسٍ، أَوْ
مِثْلِهِ وَهُمْ يَرَوْنَ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ إفْسَادَ حَجِّهِ
بِالْهَدْيِ بِآرَائِهِمْ، وَلَعَلَّهُ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ حَالِفِ يَمِينٍ
غَمُوسٍ أَوْ مِثْلِهِ.
وأعجب مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا، وَأَنْ يُصَلِّيَ الْيَوْمَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ، وَأَنْ
لاَ يَزْنِيَ بِحَرِيمَةٍ وَأَنْ لاَ يَعْمَلَ بِالرِّبَا، ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ
مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَقَتَلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَزَنَى،
وَأَرْبَى فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي أَيْمَانِهِ تِلْكَ فَيَا لِلَّهِ
وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ أَيُّمَا أَعْظَمُ إثْمًا: مَنْ حَلَفَ عَامِدًا لِلْكَذِبِ
أَنَّهُ مَا رَأَى زَيْدًا الْيَوْمَ، وَهُوَ قَدْ رَآهُ فَأَسْقَطُوا فِيهِ
الْكَفَّارَةَ لِعَظْمِهِ. أَوْ مَنْ حَنِثَ بِأَنْ لاَ يُصَلِّيَ الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ،
وَبِأَنْ قَتَلَ النَّفْسَ، وَبِأَنْ زَنَى بِابْنَتِهِ أَوْ بِأُمِّهِ، وَبِأَنْ
عَمِلَ بِالرِّبَا ثُمَّ لاَ يَرَوْنَ عِظَمَ حِنْثِهِ فِي إتْيَانِهِ هَذِهِ
الْكَبَائِرِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ وَاَللَّهِ قَطْعًا عِنْدَ كُلِّ مَنْ
لَهُ عِلْمٌ بِالدِّينِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ أَلْفِ يَمِينٍ تَعَمَّدَ فِيهَا
الْكَذِبَ، لاَ تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ ; لأََنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَ
فَهَلْ تَجْرِي أَقْوَالُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى اتِّبَاعِ نَصٍّ أَوْ عَلَى
الْتِزَامِ قِيَاسٍ؟
وَأَمَّا تَمْوِيهُهُمْ بِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلاَ
يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَهِيَ رِوَايَةٌ
مُنْقَطِعَةٌ لاَ تَصِحُّ ; لأََنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ لَمْ يَلْقَ ابْنَ
مَسْعُودٍ، وَلاَ أَمْثَالَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ
(8/39)
رضي
الله عنهم إنَّمَا أَدْرَكَ أَصَاغِرَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِثْلِهِ،
رَضِيَ اللَّهُ، عَنْ جَمِيعِهِمْ. وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ مَسْعُودٍ فِي
قَوْلِهِ: إنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِسُورَةٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ
بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ ; فَابْنُ مَسْعُودٍ حُجَّةٌ إذَا اُشْتُهُوا، وَغَيْرُ حُجَّةٍ إذَا
لَمْ يَشْتَهُوا أَنْ يَكُونَ حُجَّةً.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ سَقَطَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ فَلْنَأْتِ
بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إلَى قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا
حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} . فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ إيجَابُ
الْكَفَّارَةِ فِي كُلِّ يَمِينٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُسْقَطَ كَفَّارَةٌ، عَنْ
يَمِينٍ أَصْلاً إِلاَّ حَيْثُ أَسْقَطَهَا نَصُّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، وَلاَ
نَصَّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةَ، أَصْلاً فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ، عَنِ
الْحَالِفِ يَمِينًا غَمُوسًا ; فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ أَسْقَطَهَا عَنْهُ وَالْقُرْآنُ يُوجِبُهَا، ثُمَّ
يُوجِبُونَهَا عَلَى مَنْ حَنِثَ نَاسِيًا مُخْطِئًا وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ
قَدْ أَسْقَطَاهَا عَنْهُ. وَأَوْجَبُوهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ
الْيَمِينَ، وَلاَ نَوَاهَا وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَسْقُطَانِهَا عَنْهُ ;
وَهَذِهِ كَمَا تَرَى. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ الآيَةُ فِيهَا حَذْفٌ بِلاَ
شَكٍّ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ حَلَفَ
سَاعَةَ حَلَفَ بَرَّ أَوْ حَنِثَ قلنا: نَعَمْ لاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّ
ذَلِكَ الْحَذْفَ لاَ يَصْدُقُ أَحَدٌ فِي تَعْيِينِهِ لَهُ إِلاَّ بِنَصٍّ
صَحِيحٍ، أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ
تَعَالَى لاَ مَا سِوَاهُ، وَأَمَّا بِالدَّعْوَى الْمُفْتَرَاةِ فَلاَ:
فَوَجَدْنَا الْحَذْفَ الْمَذْكُورَ فِي الآيَةِ قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ
الْمُتَيَقَّنُ وَالنَّصُّ عَلَى أَنَّهُ فَحَنِثْتُمْ وَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا
فَالْمُتَعَمِّدُ لِلْيَمِينِ عَلَى الْكَذِبِ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَذِبٌ حَانِثٌ
بِيَقِينِ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، وَحُكْمِ اللُّغَةِ. فَصَحَّ إذْ هُوَ حَانِثٌ
أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، وَقَدْ قَاسُوا حَالِقَ
رَأْسِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مُحْرِمًا غَيْرَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى. فَهَلاَّ
قَاسُوا الْحَالِفَ عَامِدًا لِلْكَذِبِ حَانِثًا عَاصِيًا عَلَى الْحَالِفِ أَنْ
لاَ يَعْصِيَ، فَحَنِثَ عَاصِيًا، أَوْ عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَبَرَّ
فَبَرَّ: غَيْرَ عَاصٍ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَلَكِنَّ
هَذَا مِقْدَارُ عِلْمِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/40)
اليمين
في الغضب والرضا وعلى أن يطيع أو على ان يعصي فعليه الكفارة إن تعمد الحنث وإلا
فلا
...
1134 - مَسْأَلَةٌ وَالْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَعَلَى أَنْ يُطِيعَ،
أَوْ عَلَى أَنْ يَعْصِيَ، أَوْ عَلَى مَا لاَ طَاعَةَ فِيهِ، وَلاَ مَعْصِيَةَ
سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا إنْ تَعَمَّدَ الْحِنْثَ فِي كُلِّ ذَلِكَ
فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْحِنْثَ، أَوْ لَمْ يَعْقِدْ
الْيَمِينَ بِقَلْبِهِ فَلاَ كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ حِنْثٍ قَصَدَهُ
الْمَرْءُ.
(8/40)
وَقَدْ
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ: فَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَغْوَ
الْيَمِينِ هُوَ الْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، بَلْ الْبُرْهَانُ
قَائِمٌ بِخِلاَفِهِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا
أَبُو مَعْمَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الرَّقِّيِّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ
السِّخْتِيَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ زَهْدَمٍ
الْجَرْمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: "أَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ
فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا ". فَصَحَّ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي
الْيَمِينِ فِي الْغَضَبِ قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} وَالْحَالِفُ فِي الْغَضَبِ مُعَقِّدٌ لِيَمِينِهِ
فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَأَمَّا الْيَمِينُ فِي الْمَعْصِيَةِ: فَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي
الْبَخْتَرِيِّ: أَنَّ رَجُلاً أَضَافَهُ رَجُلٌ فَحَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ، فَحَلَفَ
الضَّيْفُ أَنْ لاَ يَأْكُلَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُلْ وَإِنِّي لاَ
أَظُنُّ أَنَّ أَحَبَّ إلَيْك أَنْ تُكَفِّرَ، عَنْ يَمِينِك فَلَمْ يَرَ
الْكَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ اسْتِحْبَابًا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ هِنْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَابِسٍ أَنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ حَلَفَ أَنْ يَجْلِدَ غُلاَمَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، ثُمَّ لَمْ
يَجْلِدْهُ، قَالَ: .فَقُلْنَا لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ مَا صَنَعْت
تَرَكْته، فَذَاكَ بِذَاكَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلْكِ يَمِينِهِ: أَنْ
يَضْرِبَهُ، فَإِنَّ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ أَنْ لاَ يَضْرِبَهُ، وَهِيَ مَعَ
الْكَفَّارَةِ حَسَنَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مَمْلُوكَهُ قَالَ إبْرَاهِيمُ: لاََنْ يَحْنَثَ
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَهُ، قَالَ الْمُعْتَمِرُ: وَحَلَفْت أَنْ
أَضْرِبَ مَمْلُوكَةً لِي، فَنَهَانِي أَبِي وَلَمْ يَأْمُرْنِي بِكَفَّارَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ
قَالَ: سُئِلَ طَاوُوس عَمَّنْ حَلَفَ: أَنْ لاَ يَعْتِقَ غُلاَمًا لَهُ
فَأَعْتَقَهُ فَقَالَ طَاوُوسٌ: تُرِيدُ مِنْ الْكَفَّارَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ
جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي لَغْوِ
الْيَمِينِ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الْحَرَامِ فَلاَ يُؤَاخِذُهُ
اللَّهُ بِتَرْكِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا
مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ كُلُّ يَمِينٍ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَيْسَتْ
لَهَا كَفَّارَةٌ
(8/41)
مَنْ
يُكَفِّرُ لِلشَّيْطَانِ وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْت عِكْرِمَةَ
قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيَأْتِهِ: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فِيهِ
نَزَلَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي
هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ
أَنْ لاَ يَصِلَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: كَفَّارَتُهُ تَرْكُهُ، فَسَأَلْت
سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى
مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ
يَمِينَ لَهُ .
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: " لاَ نَذْرَ، وَلاَ يَمِينَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ
آدَمَ، وَلاَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلاَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَمَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَدَعْهَا وَلْيَأْتِ
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا ". وَمِنْ طَرِيقِ
حَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم: قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَهُوَ كَفَّارَتُهَا ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لاَ يَمِينَ عَلَيْكَ،
وَلاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلاَ فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَفِيمَا
لاَ تَمْلِكُ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا
إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ حَيَّانَ بْنِ
شُعَيْبِ بْنِ دِرْهَمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُعَاذٍ، عَنْ مُسْلِمِ
بْنِ عَقْرَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ حَلَفَ
عَلَى مَمْلُوكِهِ لَيَضْرِبَنَّهُ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يَدَعَهُ، وَلَهُ
مَعَ كَفَّارَتِهِ خَيْرٌ ". وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا حَزْمُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ الْقَطَعِيُّ سَمِعْت الْحَسَنَ يَقُولُ:
بَلَغَنَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ
(8/42)
قَالَ:
" لاَ نَذْرَ لأَبْنِ آدَمَ فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَلاَ يَمِينَ فِي
مَعْصِيَةٍ ". قال أبو محمد: كُلُّ هَذَا لاَ يَصِحُّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ صَحِيفَةٌ، وَلَكِنْ لاَ مُؤْنَةَ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ،
وَالشَّافِعِيِّينَ، وَالْحَنَفِيِّينَ فِي أَنْ يَحْتَجُّوا بِرِوَايَتِهِ إذَا
وَافَقَتْهُمْ وَيُصَحِّحُونَهَا حِينَئِذٍ، فَإِذَا خَالَفَتْهُمْ كَانَتْ
حِينَئِذٍ صَحِيفَةً ضَعِيفَةً. مَا نَدْرِي كَيْفَ يَنْطِقُ بِهَذَا مَنْ يُوقِنُ
أَنَّهُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أَمْ كَيْفَ
تَدِينُ بِهِ نَفْسٌ تَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَمُنْقَطِعٌ، لأََنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمْ
يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ شَيْئًا إِلاَّ نَعْيَهُ النُّعْمَانَ بْنَ مُقْرِنٍ
الْمُزَنِيّ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَطْ، وَهَؤُلاَءِ يَقُولُونَ: إنَّ
الْمُنْقَطِعَ، وَالْمُتَّصِلَ سَوَاءٌ، فَأَيْنَ هُمْ، عَنْ هَذَا الأَثَرِ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَعَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ
سَاقِطٌ مَتْرُوكٌ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمِ
بْنِ عَقْرَبٍ فَفِيهِ شُعَيْبُ بْنُ حَيَّانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيَزِيدُ بْنُ
أَبِي مُعَاذٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ فَسَقَطَ
كُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ.
وَوَجَدْنَا نَصَّ الْقُرْآنِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِهِ،
وَمَعَ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
وَلْيُكَفِّرْهُ ". فإن قيل: إنَّ هَذَا فِيمَا كَانَ فِي كِلَيْهِمَا خَيْرٌ
إِلاَّ أَنَّ الآخَرَ أَكْثَرُ خَيْرًا قلنا: هَذِهِ دَعْوَى، بَلْ كُلُّ شَرٍّ
فِي الْعَالَمِ، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ، فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى خَيْرٌ مِنْهُمَا،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ}. فَصَحَّ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ الأَوْثَانِ، وَلاَ شَيْءَ مِنْ الْخَيْرِ فِي
الأَوْثَانِ. وَقَالَ تَعَالَى {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ، وَلاَ خَيْرَ فِي جَهَنَّمَ أَصْلاً. وَمِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ [ثنا مَعْمَرٌ]، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَاَللَّهِ
لاََنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ
مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّه "ُ. فَصَحَّ بِهَذَا
الْخَبَرِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يَكُونُ
التَّمَادِي عَلَى الْوَفَاءِ بِهَا إثْمًا وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَاضِرِينَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/43)
اليمين
محمولة على لغة الحالف وعلى نيته وهو مصدوق فيما ادعى من ذلك
...
1135 - مَسْأَلَةٌ وَالْيَمِينُ مَحْمُولَةٌ عَلَى لُغَةِ الْحَالِفِ وَعَلَى
نِيَّتِهِ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ فِيمَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ
إِلاَّ مَنْ لَزِمَتْهُ يَمِينٌ فِي حَقٍّ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ وَالْحَالِفُ
مُبْطِلٌ فَإِنَّ الْيَمِينَ هَهُنَا عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ. وَمَنْ
قِيلَ لَهُ: قُلْ كَذَا أَوْ كَذَا فَقَالَ وَكَانَ ذَلِكَ الْكَلاَمُ يَمِينًا
بِلُغَةٍ لاَ يُحْسِنُهَا الْقَائِلُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْلِفْ
وَمَنْ حَلَفَ بِلُغَتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمْ فَهُوَ حَالِفٌ،
فَإِنْ حَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْيَمِينَ
إنَّمَا هِيَ إخْبَارٌ مِنْ الْحَالِفِ عَمَّا يَلْتَزِمُ بِيَمِينِهِ تِلْكَ
وَكُلُّ
(8/43)
وَاحِدٍ
فَإِنَّمَا يُخْبِرُ، عَنْ نَفْسِهِ بِلُغَتِهِ، وَعَمَّا فِي ضَمِيرِهِ. فَصَحَّ
مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا
الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ". وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِير} . وَقَالَ تَعَالَى
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .
وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ لُغَةٍ اسْمٌ، فَبِالْفَارِسِيَّةِ: أوزمز،
وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ: أذوناي، والوهيم، والوهاء، وَإِسْرَائِيلُ،
وَبِاللَّاتِينِيَّةِ: داوش، وقريطور، وبالصقلبية: بغ، وَبِالْبَرْبَرِيَّةِ: يكش.
فَإِنْ حَلَفَ هَؤُلاَءِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ فَهِيَ يَمِينٌ صَحِيحَةٌ ; وَفِي
الْحِنْثِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَأَمَّا مَنْ لَزِمَتْهُ يَمِينٌ لِخَصْمِهِ
وَهُوَ مُبْطِلٌ فَلاَ يَنْتَفِعُ بِتَوْرِيَتِهِ، وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِي
جُحُودِهِ الْحَقَّ، عَاصٍ لَهُ فِي اسْتِدْفَاعِ مَطْلَبِ خَصْمِهِ بِتِلْكَ
الْيَمِينِ، فَهُوَ حَالِفُ يَمِينٍ غَمُوسٍ، وَلاَ بُدَّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَمِينُكَ عَلَى
مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ ". وَقَدْ قِيلَ: عَبَّادٌ، وَعَبْدُ
اللَّهِ وَاحِد، وَلاَ يَكُونُ صَاحِبُ الْمَرْءِ إِلاَّ مَنْ لَهُ مَعَهُ أَمْرٌ
يَجْمَعُهُمَا يَصْطَحِبَانِ فِيهِ، وَلَيْسَ إِلاَّ ذُو الْحَقِّ الَّذِي لَهُ
عَلَيْك يَمِينٌ تُؤَدِّيهَا إلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ. وَأَمَّا مَنْ لاَ يَمِينَ
لَهُ عِنْدَك فَلَيْسَ صَاحِبَك فِي تِلْكَ الْيَمِينِ.
(8/44)
من
حلف ثم قال نويت بعض ما يقع عليه اللفظ الذي نطق به صدق
...
1136 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ ثُمَّ قَالَ: نَوَيْت بَعْضَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ
اللَّفْظُ الَّذِي نَطَقَ صُدِّقَ،
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: جَرَى لِسَانِي وَلَمْ يَكُنْ لِي نِيَّةٌ فَإِنَّهُ
يُصَدَّقُ، فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ حُمِلَ عَلَى عُمُومِ
لَفْظِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/44)
من
حلف على شيء ثم قال موصولا بكلامه إن شاء الله وإلا أن يشاء الله فهو استثناء صحيح
وقد سقطت اليمين عنه بذلك ولا كفارة
...
1137 - مَسْأَلَةٌ ومن حلف على شيء ثم قال موصولا بكلامه: إن شاء الله تعالى، أو
إلا أن يشاء الله، أو إلا أن لا يشاء الله، أو نحو هذا،
أو إلا أن أشاء، أو إلا أن لا أشاء، أو إلا إن بدل الله ما في قلبي، أو إلا أن
يبدو إلي، أو إلا أن يشاء فلان، أو إن شاء فلان، فهو استثناء صحيح وقد سقطت اليمين
عنه بذلك، ولا كفارة عليه إن خالف ما حلف عليه . فلو لم يصل الاستثناء بيمينه لكن
قطع قطع ترك للكلام ثم ابتدأ الاستثناء لم ينتفع بذلك، وقد لزمته اليمين، فإن حنث
فيها فعليه الكفارة . ولا يكون الاستثناء إلا باللفظ، وأما بنية دون لفظ فلا، لقول
الله تعالى: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فهذا لم
يعقد اليمين . ونحن على يقين من أن الله تعالى لو شاء تمام تلك اليمين لأنفذها،
وأتمها، فإذ لم ينفذها عز وجل ولا أتمها، فنحن على يقين من أنه تعالى لم يشأ كونها
وهو إنما التزمها إن شاء الله تعالى، والله تعالى لم يشأها، فلم يلتزمها قط .
وكذلك اشتراطه
(8/44)
يمين
الأبكم واستثناؤه لا زمان على حسب طاقته من صوت أو اشارة وبرهان ذلك
...
1138 - مَسْأَلَةٌ- وَيَمِينُ الأَبْكَمِ وَاسْتِثْنَاؤُهُ لاَزِمَانِ عَلَى
حَسَبِ طَاقَتِهِ مِنْ صَوْتٍ يُصَوِّتُهُ أَوْ إشَارَةٍ إنْ كَانَ مُصْمَتًا لاَ
يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ،
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الأَيْمَانَ إخْبَارٌ مِنْ الْحَالِفِ، عَنْ نَفْسِهِ،
وَالأَبْكَمُ، وَالْمُصْمَتُ، مُخَاطَبَانِ بِشَرَائِعِ الإِسْلاَمِ
كَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلاَّ وُسْعَهَا}.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ
فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ". فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا مِنْ هَذِهِ
الشَّرِيعَةِ مَا اسْتَطَاعَاهُ، وَأَنْ يُسْقِطَ عَنْهُمَا مَا لَيْسَ
(8/48)
فِي وُسْعِهِمَا، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمَا مَا يُخْبِرَانِ بِهِ، عَنْ أَنْفُسِهِمَا حَسْبَ مَا يُطِيقَانِ وَيَلْزَمُهُمَا مَا الْتَزَمَاهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/49)
الرجال
والنساء الأحرار المملوكون وذوات الأزواج والأبكار وغيرهن في ذلك سواء
...
1139 –مَسْأَلَةٌ وَالرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ، الأَحْرَارُ، وَالْمَمْلُوكُونَ،
وَذَوَاتُ الأَزْوَاجِ وَالأَبْكَارُ، وَغَيْرُهُنَّ، فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا
وَنَذْكُرُ سَوَاءٌ،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا
حَلَفْتُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ
الأَيْمَانَ} . وَقَالَ عليه السلام: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ
إِلاَّ بِاَللَّهِ " وَقَالَ فِي الأَسْتِثْنَاءِ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ
يَأْتِ نَصٌّ بِتَخْصِيصِ عَبْدٍ مِنْ حُرٍّ، وَلاَ ذَاتِ زَوْجٍ مِنْ أَيِّمٍ،
وَلاَ بِكْرٍ مِنْ ثَيِّبٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَالتَّحَكُّمُ فِي
الدِّينِ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وقَدْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا مُخَاطَبٌ بِالصَّلاَةِ
وَبِالصِّيَامِ، وَتَحْرِيمِ مَا يُحَرَّمُ، وَتَحْلِيلِ مَا يَحِلُّ سَوَاءٌ،
فَأَنَّى لَهُمْ تَخْصِيصُ بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ، وَالدَّعَاوَى
الْكَاذِبَةِ ؟فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ،
وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِمَا: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لاَ يَمِينَ لِوَلَدٍ مَعَ يَمِينِ
وَالِدٍ، وَلاَ يَمِينَ لِزَوْجَةٍ مَعَ يَمِينِ زَوْجٍ، وَلاَ يَمِينَ
لِلْمَمْلُوكِ مَعَ يَمِينِ مَلِيكِهِ، وَلاَ يَمِينَ فِي قَطِيعَةٍ، وَلاَ نَذْرَ
فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ طَلاَقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلاَ عَتَاقَةَ قَبْلَ الْمِلْكِ،
وَلاَ صَمْتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ، وَلاَ مُوَاصَلَةَ فِي الصِّيَامِ، وَلاَ
يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ، وَلاَ رَضَاعَةَ بَعْدَ الْفِطَامِ، وَلاَ تَغَرُّبَ
بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ " فَحَرَامُ بْنُ
عُثْمَانَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَيَلْزَمُ مَنْ
قَلَّدَ رِوَايَتَهُ فِي اسْتِظْهَارِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِثَلاَثٍ بَعْدَ
أَيَّامِهَا، فَأَسْقَطَ بِهَا الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ وَالصِّيَامَ
الْمَفْرُوضَ، وَحَرَّمَ الْوَطْءَ الْمُبَاحَ أَنْ يَأْخُذُوا بِرِوَايَتِهِ
هَهُنَا، وَإِلَّا فَهُمْ مُتَلاَعِبُونَ بِالدِّينِ. بِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَقَدْ خَالَفُوا أَكْثَرَ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ وَأَمَّا نَحْنُ
فَوَاَللَّهِ لَوْ صَحَّ بِرِوَايَتِهِ الثِّقَاتُ مُتَّصِلاً لَبَادَرْنَا إلَى
الْقَوْلِ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/49)
لا
يمين لسكران ولا لمجنون في حال جنونه ولا لهاذ في مرضه ولا لنائم في نومه إلخ
...
1140- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَمِينَ لِسَكْرَانَ، وَلاَ لِمَجْنُونٍ فِي حَالِ
جُنُونِهِ، وَلاَ لِهَاذٍ فِي مَرَضِهِ، وَلاَ لِنَائِمٍ فِي نَوْمِه، وَلاَ
لِمَنْ لَمْ يَبْلُغَ .
وَوَافَقَنَا فِي كُلِّ هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ،
إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُونَا فِي السَّكْرَانِ وَحْدَهُ، وَوَافَقَ فِي
السَّكْرَانِ أَيْضًا قَوْلُنَا هَهُنَا قَوْلَ الْمُزَنِيّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَغَيْرِهِمْ. وَحُجَّتُنَا فِي السَّكْرَانِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ
تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}
فَمَنْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، فَلاَ
يَحِلُّ أَخْذُهُ بِمَا لاَ يَدْرِي مَا هُوَ مِنْ
(8/49)
1141
- مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي كُفْرِهِ ثُمَّ حَنِثَ فِي
كُفْرِهِ، أَوْ بَعْدَ إسْلاَمِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ،
لأََنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِينُ
اللَّهِ تَعَالَى لاَزِمٌ لَهُمْ قَالَ تَعَالَى
(8/50)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وَلاَ يَجْزِيهِ أَنْ يُكَفِّرَ فِي حَالِ كُفْرِهِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا أَنَّهَا دِينُ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا. قَالَ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} .
(8/51)
من
حلف باللات والعزى فكفارته أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير
...
1142 - مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ حَلَفَ وَاللَّاتِ، وَالْعُزَّى، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ
يَقُولَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقُولُهَا مَرَّةً ; أَوْ
يَقُولُ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ،
وَلاَ بُدَّ. وَيَنْفُثُ، عَنْ شِمَالِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ لاَ يَعُدْ فَإِنْ عَادَ
عَادَ لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا. وَمَنْ قَالَ لأَخَرَ: تَعَالَ أُقَامِرْك
فَلْيَتَصَدَّقْ، وَلاَ بُدَّ بِمَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ قَلَّ أَمْ كَثُرَ:
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ
بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مَخْلَدٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، هُوَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: " حَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَأَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: قُلْ لاَ
إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَانْفُثْ، عَنْ شِمَالِك ثَلاَثًا،
وَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ لاَ تَعُدْ .
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الْحَرَّانِيُّ،
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ أَعْيَنَ ثِقَةٌ، حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ،
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَلَفْتُ
بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَقَالَ لِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: بِئْسَ مَا قُلْتَ ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [فَأَخْبِرْهُ]
فَإِنَّا لاَ نَرَاكَ إِلاَّ قَدْ كَفَرْتَ فَلَقِيتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ
لِي: " قُلْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ وَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَانْفُثْ،
عَنْ شِمَالِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلاَ تَعُدْ لَهُ ". وَمِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ:
بِاللَّاتِ، فَلْيَقُلْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ:
تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ ".
قَالَ عَلِيٌّ: فِي هَذَا إبْطَالُ التَّعَلُّقِ بِقَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لِسَعْدٍ:
"مَا نَرَاك إِلاَّ قَدْ كَفَرْت، وَلَمْ يَكُنْ كَفَرَ".
(8/51)
من
حلف أيمانا على أشياء كثيرة على كل شيء منها يمين فهي أيمان كثيرة إن حنث في شيء
منها فعليه كفارة
...
1143- مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ حَلَفَ أَيْمَانًا عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا يَمِينٌ مِثْلُ
(8/51)
لو
حلف كذلك ثم قال في آخرها إن شاء الله أو استثنى بشيء ما فيه خلاف
...
1144- مَسْأَلَةٌ- فَلَوْ حَلَفَ كَذَلِكَ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: إنْ شَاءَ
اللَّهُ أَوْ اسْتَثْنَى بِشَيْءٍ مَا،
فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: إنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْصُولاً فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا
نَوَى، فَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِالأَسْتِثْنَاءِ جَمِيعَ الأَيْمَانِ، فَلاَ حِنْثَ
عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت آخِرَهَا، فَهُوَ كَمَا قَالَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الأَسْتِثْنَاءُ
رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الأَيْمَانِ. وقال أبو حنيفة: لاَ يَكُونُ الأَسْتِثْنَاءُ
إِلاَّ لِلْيَمِينِ الَّتِي تَلِي الأَسْتِثْنَاءَ.
قال أبو محمد: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لأََنَّهُ قَدْ عَقَّدَ الأَيْمَانَ
السَّالِفَةَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا وَقَطَعَ الْكَلاَمَ فِيهَا وَأَخَذَ فِي
كَلاَمٍ آخَرَ، فَبَطَلَ أَنْ يَتَّصِلَ الأَسْتِثْنَاءُ بِهَا، فَوَجَبَ
الْحِنْثُ فِيهَا إنْ حَنِثَ وَالْكَفَّارَةُ، وَكَانَ الأَسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ
الَّتِي اتَّصَلَ بِهَا كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/52)
إن
حلف يمينا واحدة على أشياء كثيرة كمن قال والله لا كلمت زيدا ولا خالدا ولا دخلت
دار عبد الله ولا أعطيتك شيئا فهي يمين واحدة ولا يحنث بفعله شيئا ولاكفارة عليه
حتى يفعل كل ما حلف عليه
...
1145 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ،
كَمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا، وَلاَ خَالِدًا، وَلاَ دَخَلْت
دَارَ عَبْدِ اللَّهِ، وَلاَ أَعْطَيْتُك شَيْئًا، فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ،
وَلاَ يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ شَيْئًا مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ حَتَّى يَفْعَلَ كُلَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ
لاَ أَفْعَلُ كَذَا، وَاَللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، لأَُمُورٍ شَتَّى قَالَ: هُوَ
قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِيَمِينٍ، قَالَ:
كَفَّارَتَانِ. وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا،
وَكَذَا لأََمْرَيْنِ شَتَّى فَعَمَّهُمَا بِالْيَمِينِ قَالَ: كَفَّارَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَلاَ نَعْلَمُ لِمُتَقَدِّمٍ فِيهَا قَوْلاً آخَرَ. وَقَالَ
الْمَالِكِيُّونَ: هُوَ حَانِثٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُخَرَّجُ
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ فِعْلٍ كَفَّارَةٌ
وَقَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ بِأَوَّلِ مَا يَحْنَثُ، ثُمَّ لاَ
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: الْيَمِينُ لاَ تَكُونُ بِالنِّيَّةِ دُونَ الْقَوْلِ وَهُوَ لَمْ
يَلْفِظْ إِلاَّ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، فَلاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرَ مِنْ يَمِينٍ
أَصْلاً، إذْ لَمْ يُوجِبْ لُزُومَهَا إيَّاهُ قُرْآنٌ; وَلاَ سُنَّةٌ، فَإِذْ
هِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهَا عَلَى حِنْثٍ،
وَفِي بَعْضِهَا عَلَى بِرٍّ; إنَّمَا هُوَ حَانِثٌ، أَوْ غَيْرُ حَانِثٌ: وَلَمْ
يَأْتِ بِغَيْرِ هَذَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلٌ
مُتَقَدِّمٌ. فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ حَانِثًا إِلاَّ بِأَنْ يَفْعَلَ كُلَّ
مَا عَقَّدَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ وَأَيْضًا: فَالأَمْوَالُ
مَحْظُورَةٌ وَالشَّرَائِعُ لاَ تَجِبُ بِدَعْوَى لاَ نَصَّ مَعَهَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/52)
إن
حلف أيمانا كثيرة على شيء واحد فهي كلها يمين واحدة ولو كررها ألف مرة
...
1146 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ حَلَفَ أَيْمَانًا كَثِيرَةً عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ،
مِثْلُ: أَنْ يَقُولَ: بِاَللَّهِ
(8/52)
من
حلف بالله لا أكلت هذ الرغيف أو قال لا شربت ماء هذا الكوز فلا يحنث بأكل بعض
الرغيق ولا بشرب بعض ما في الكوز
...
1147 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لاَ أَكَلْت هَذَا الرَّغِيفَ; أَوْ
قَالَ: لاَ شَرِبْت مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، فَلاَ يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِ
الرَّغِيفِ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ فُتَاتُهُ، وَلاَ بِشُرْبِ بَعْضِ
مَا فِي الْكُوزِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لاَكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ،
فَأَكَلَهُ كُلَّهُ إِلاَّ فُتَاتَهُ وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ حَنِثَ وَهَكَذَا
فِي الرُّمَّانَةِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ لاَ يَحْنَثُ بِبَعْضِ مَا
حَلَفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي
سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ وَشُرْبِ
بَعْضِهِ.
قال أبو محمد: نَسْأَلُهُمْ، عَنْ رَجُلٍ أَكَلَ بَعْضَ رَغِيفٍ لِزَيْدٍ فَشَهِدَ
عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَكَلَ رَغِيفَ زَيْدٍ أَصَادِقَانِ هُمَا أَمْ
كَاذِبَانِ فَمِنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُمَا كَاذِبَانِ مُبْطِلاَنِ، فَأَقَرُّوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْفُتْيَا بِالْكَذِبِ، وَبِالْبَاطِلِ، وَبِالْمُشَاهَدَةِ
يُدْرَى فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ، لأََنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَهُ،
لَمْ يَحْلِفْ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ إذَا أَبْقَى مِنْهُ
شَيْئًا فَلَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَالأَمْوَالُ مَحْظُورَةٌ إِلاَّ
بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي صِحَّةِ قَوْلِهِمْ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: الْحِنْثُ،
وَالتَّحْرِيمُ، وَكِلاَهُمَا يَدْخُلُ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ .فَقُلْنَا: هَذَا
بَاطِلٌ مَا يَدْخُلُ الْحِنْثُ وَالتَّحْرِيمُ لاَ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ، وَلا
(8/54)
بِأَغْلَظِهَا،
وَلاَ يَدْخُلُ التَّحْلِيلُ أَيْضًا لاَ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ، وَلاَ
بِأَغْلَظِهَا وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ وَإِفْكٌ، وَلاَ يَدْخُلُ الْحِنْثُ،
وَالْبِرُّ، وَالتَّحْرِيمُ، وَالتَّحْلِيلُ ; إِلاَّ حَيْثُ أَدْخَلَ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْهَا فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَأَطْرَفُ شَيْءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَحْرِيمُ زَوْجَةِ الأَبِ عَلَى
الأَبْنِ يَدْخُلُ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَحْدَهُ .فَقُلْنَا
لَهُمْ: نَسِيتُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْجُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ
حَرَامًا عَلَى الأَبِ، كَمَا هِيَ عَلَى الأَبْنِ، ثُمَّ دَخَلَ التَّحْلِيلُ
لِلأَبِ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَحْدَهُ فَأَيْنَ قَوْلُكُمْ:
إنَّ التَّحْلِيلَ لاَ يَدْخُلُ إِلاَّ بِأَغْلَظِ الأَسْبَابِ وَكَمْ هَذَا
التَّخْلِيطُ بِمَا لاَ يُعْقَلُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا:
وَالتَّحْلِيلُ لاَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لاَ يَدْخُلُ إِلاَّ بِأَغْلَظِ
الأَسْبَابِ وَهُوَ الْعَقْدُ، وَالْوَطْءُ فَقُلْنَا: نَقَضْتُمْ قَوْلَكُمْ
قُولُوا بِقَوْلِ الْحَسَنِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَفْسَدْتُمْ بُنْيَانَكُمْ،
لأََنَّهُ يَقُولُ: لاَ تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ بِالْعَقْدِ،
وَالْوَطْءِ، وَالإِنْزَالِ فِيهَا، وَإِلَّا فَلاَ، وَهَذَا أَغْلَظُ الأَسْبَابِ
وَالْقَوْمُ فِي لاَ شَيْءَ وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ. وَابْنَةُ
الزَّوْجَةِ لاَ تُحَرَّمُ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ الَّذِي
هُوَ الْعَقْدُ، لَكِنْ بِالدُّخُولِ بِالأُُمِّ مَعَ الْعَقْدِ، فَهَذَا
تَحْرِيمٌ لَمْ يَدْخُلْ إِلاَّ بِأَغْلَظِ الأَسْبَابِ. ثُمَّ تَنَاقُضُهُمْ
هَهُنَا طَرِيفٌ جِدًّا، لأََنَّ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ
يَأْكُلَ رَغِيفًا فَأَكَلَ نِصْفَ رَغِيفٍ يَحْنَثُ، وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ
يَهَبَ لِزَيْدٍ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَوَهَبَ لَهُ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ أَنَّهُ
لاَ يَحْنَثُ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا كُلِّهِ لَوْ كَانَ هَهُنَا تَقْوَى؟
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ: بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ دَارَ
زَيْدٍ فَدَخَلَ شَيْئًا مِنْهَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ;.
فَقُلْنَا لَهُمْ: إنَّمَا يَكُونُ الْحِنْثُ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ،
وَلاَ يَكُونُ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولُ دُخُولُ الدَّارِ إِلاَّ بِدُخُولِ
بَعْضِهَا، لاَ بِأَنْ يَمْلاََهَا بِجُثَّتِهِ، بِخِلاَفِ أَكْلِ الرَّغِيفِ،
وَلَوْ أَنَّهُ دَخَلَ بَعْضُهُ الدَّارَ لاَ كُلُّهُ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ
لَمْ يَدْخُلْهَا وَهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى: أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ
يَهْدِمَ هَذَا الْحَائِطَ فَهَدَمَ مِنْهُ مَدَرَةً أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ
(8/55)
لو
حلف بالله لا أكلت هذ الرغيف أو قال لا شربت ماء هذا الكوز فإنه يحنث بأكل شيء منه
وشرب شيء منه
...
1148 - مَسْأَلَةٌ - فَلَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مِنْ هَذَا الرَّغِيفِ، أَوْ
أَنْ لاَ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ هَذَا الْكُوزِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ شَيْءٍ
مِنْهُ وَشُرْبِ شَيْءٍ مِنْهُ،
لأََنَّهُ خِلاَفُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/55)
لو
حلف أن لا يشرب ماء النهر فإن كانت له نية في شرب شيء من حنث بأي شيء شرب منه
...
1149 - مَسْأَلَةٌ - فَلَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ مَاءَ النَّهْرِ، فَإِنْ
كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي شُرْبِ شَيْءٍ مِنْهُ حَنِثَ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهُ
لأََنَّهُ بِهَذَا يُخْبِرُ، عَنْ شُرْبِ بَعْضِ مَائِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
نِيَّةٌ فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ، لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
" إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ".
(8/55)
من
حلف ألا يدخل دار زيد فإن كان من الدور المباحة الدهاليز لم يحنث بدخول الدهاليز
حتى يدخل منها ما يقع عليه أنه داخل دار زيد وإن لم تكن كذلك حنث بدخول الدهاليز
...
1150 – مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَتْ
مِنْ الدُّورِ الْمُبَاحَةِ
(8/55)
من
حلف ألا يدخل دار فلان وأن لا يدخل الحمام فمشى على سقوف ذلك أو دخل دهليز الحمام
لم يحنث
...
1151 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ دَارَ فُلاَنٍ، أَوْ أَنْ
لاَ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ فَمَشَى عَلَى سُقُوفِ كُلِّ ذَلِكَ، أَوْ دَخَلَ
دِهْلِيزَ الْحَمَّامِ لَمْ يَحْنَثْ،
لأََنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلاَ الْحَمَّامَ، وَلاَ يُسَمَّى دُخُولُ
دِهْلِيزِ الْحَمَّامِ دُخُولَ حَمَّامٍ
(8/56)
من
حلف ألا يكلم فلانا فأوصى إليه أو كتب إليه لم يحنث وكذلك لو أشار إليه
...
1152 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ فُلاَنًا، فَأَوْصَى
إلَيْهِ أَوْ كَتَبَ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لاَ يُسَمَّى الْكِتَابُ، وَلاَ
الْوَصِيَّةُ: كَلاَمًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَشَارَ إلَيْهِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {آيَتُكَ أَلاَ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ
سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَنْ
سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .وَقَالَ تَعَالَى {فأما تَرَيِنَّ مِنْ الْبَشَرِ
أَحَدًا فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
إنْسِيًّا} إلَى قَوْلِهِ: {فَأَشَارَتْ إلَيْه}ِ. فَصَحَّ أَنَّ الإِشَارَةَ،
وَالإِيمَاءَ لَيْسَ كَلاَمًا.
(8/56)
من
حلف ألا يشتري إداما فأي شيء اشتراه من لحم أو غيره ليأكل به الخبز حنث أكل به أو
لم يأكل
...
1153 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ إدَامًا فَأَيُّ شَيْءٍ
اشْتَرَاهُ مِنْ لَحْمٍ، أَوْ غَيْرِهِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ بِهِ
الْخُبْزُ فَاشْتَرَاهُ لِيَأْكُلَ بِهِ الْخُبْزَ حَنِثَ أَكَلَ بِهِ أَوْ لَمْ
يَأْكُلْ
لأََنَّهُ قَدْ اشْتَرَى الإِدَامَ فَلَوْ اشْتَرَاهُ لِيَأْكُلَهُ بِلاَ خُبْزٍ
لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَيْسَ إدَامًا حِينَئِذٍ. وقال أبو حنيفة: مَنْ حَلَفَ
أَنْ لاَ يَأْكُلَ إدَامًا فَأَكَلَ خُبْزًا بِشِوَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ
أَكَلَهُ بِمِلْحٍ أَوْ بِزَيْتِ أَوْ بِشَيْءٍ يُصْنَعُ فِيهِ الْخُبْزُ حَنِثَ.
قال علي: وهذا كَلاَمٌ فَاسِدٌ جِدًّا لأََنَّهُ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ لاَ مِنْ
شَرِيعَةٍ، وَلاَ لُغَةٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا خَلَفُ
بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمَيْمُونِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ
الرَّحْمَانِ بْنُ عَمْرٍو النَّصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ثِقَةٌ، عَنْ يَزِيدَ
الأَعْوَرِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ:" رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ كِسْرَةَ خُبْزِ شَعِيرٍ وَوَضَعَ
عَلَيْهَا تَمْرَةً وَقَالَ: هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَصْلُ الإِدَامِ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُبْزِ،
فَذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا فَكُلُّ شَيْءٍ جُمِعَ إلَى الْخُبْزِ
لِيَسْهُلَ أَكْلُهُ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ.
(8/56)
من
حلف أن يضرب غلامه عددا من الجلد أكثر من العشرة لم يحل له ذلك ويبر في يمينه بأن
يجمع ذلك العدد فيضربه به ضربة واحدة
...
1154 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ غُلاَمَهُ عَدَدًا مِنْ
الْجَلْدِ أَكْثَرَ مِنْ الْعَشْرِ
(8/56)
لا
معنى للبساط في الأيمان ولا للمن وأقوال المجتهدين في ذلك
...
1155 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ مَعْنَى لِلْبِسَاطِ فِي الأَيْمَانِ، وَلاَ لِلْمَنِّ،
وَلَوْ مَنَّتْ امْرَأَتُهُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهَا بِمَالِهَا فَحَلَفَ أَنْ لاَ
يَلْبَسَ مِنْ مَالِهَا ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ بِمَا سَمَّى فَقَطْ،
وَيَأْكُلُ مِنْ مَالِهَا مَا شَاءَ، وَيَأْخُذُ مَا تُعْطِيهِ، وَلاَ يَحْنَثُ
بِذَلِكَ، وَيَشْتَرِي بِمَا تُعْطِيهِ مَا يَلْبَسُ، وَلاَ يَحْنَثُ بِذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ مَنَّ عَلَى آخَرَ بِلَبَنِ شَاتِه فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ
مِنْهُ شَيْئًا، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الشَّاةِ، وَمِنْ
جُبْنِهَا، وَمِنْ زُبْدِهَا، وَرَائِبِهَا، لأََنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
شُرْبَ لَبَنٍ. فَإِنْ بَاعَتْ تِلْكَ الشَّاةَ وَاشْتَرَتْ أُخْرَى كَانَ لَهُ
أَنْ يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا، وَلاَ كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ، إنَّمَا يَحْنَثُ
بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَسَمَّاهُ فَقَطْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يَحْنَثُ بِكُلِّ ذَلِكَ، ثُمَّ
تَنَاقَضَ فَقَالَ: إنْ وَهَبَتْ لَهُ شَاةً ثُمَّ مَنَّتْ بِهَا عَلَيْهِ
فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مِنْ لَبَنِهَا شَيْئًا فَبَاعَهَا وَابْتَاعَ
بِثَمَنِهَا ثَوْبًا لَبِسَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَلاَ يَحْنَثُ بِإِمْسَاكِهَا
فِي مِلْكِهِ، وَلاَ بِبَيْعِهَا وَقَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِهَا وَهَذَا
قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ أَحْنَثَهُ بِغَيْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذِكْرَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ: أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ رَبَطَ نَفْسَهُ إلَى سَارِيَةٍ وَقَالَ: لاَ
أَحُلُّ نَفْسِي حَتَّى يَحُلَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ
تَنْزِلَ تَوْبَتِي، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَحُلُّهُ فَأَبَى إِلاَّ أَنْ يَحُلَّهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه السلام: " إنَّ فَاطِمَةَ
بِضْعَةٌ مِنِّي " فَهَذَا لاَ يَصِحُّ، لأََنَّهُ مُرْسَلٌ ثُمَّ، عَنْ
عَلِيِّ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ
لِمَا فِيهِ، لأََنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ زَيْدًا
فَضَرَبَ وَلَدَ زَيْدٍ أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ.
(8/57)
من
حلف ألا يفعل أمر كذا حينا أو دهرا أو زمانا إلخ فبقي مقدار طرفة عين لم يفعله ثم
فعله فلا حنث عليه
...
1156 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَ أَمْرًا كَذَا حِينًا أَوْ
دَهْرًا أَوْ زَمَانًا أَوْ مُدَّةً أَوْ بُرْهَةً أَوْ وَقْتًا، أَوْ ذَكَرَ
كُلَّ ذَلِكَ بِالأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ قَالَ مَلِيًّا، أَوْ قَالَ: عُمْرًا،
أَوْ الْعُمْرَ، فَبَقِيَ مِقْدَارَ طَرْفَةِ عَيْنٍ لَمْ يَفْعَلْهُ، ثُمَّ
فَعَلَهُ، فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ،
لأََنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ زَمَانٌ، وَدَهْرٌ، وَحِينٌ، وَوَقْتٌ،
وَبُرْهَةٌ، وَمُدَّةٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْحِينِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْحِينُ سَنَةٌ:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ كَانَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: أَرَى الْحِينَ سَنَةً. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
الْحِينُ سَنَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ
(8/57)
إن
حلف ألا يكلمه طويلا فهو مزاد على أقل المدد وإن حلف ألا يكلمه أياما أو جمعا أو
شهورا فكل ذلك على ثلاثة ولا يحنث فيما زاد
...
1157 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَهُ طَوِيلاً، فَهُوَ مَا
زَادَ عَلَى أَقَلِّ الْمُدَدِ، فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَهُ أَيَّامًا
أَوْ جُمَعًا أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ، أَوْ ذَكَرَ كُلَّ ذَلِكَ بِالأَلِفِ
وَاللَّامِ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةٍ، وَلاَ يَحْنَثُ فِيمَا زَادَ ، ل
أََنَّهُ الْجَمْعُ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى
التَّثْنِيَةِ. قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}. فَإِنْ
قَالَ فِي كُلِّ ذَلِكَ: كَثِيرَةٌ، فَهِيَ عَلَى أَرْبَعٍ; لأََنَّهُ لاَ "
كَثِيرَ " إِلاَّ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يَحْنَثَ أَحَدٌ إِلاَّ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكِّ فِيهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/59)
من
حلف ألا يساكن من كان ساكنا معه من امرأته أو قريبه أو أجنبي فليفارق حاله التي هو
عليها إلى غيرها ولا يحنث
...
1158 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُسَاكِنَ مَنْ كَانَ سَاكِنًا مَعَهُ
مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ قَرِيبِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ فَلْيُفَارِقْ الَّتِي هُوَ
فِيهَا إلَى غَيْرِهَا، وَلاَ يَحْنَثُ.
فَإِنْ أَقَامَ مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا أَنْ لاَ يُسَاكِنَهُ فَلَمْ
يُفَارِقْهُ حَنِثَ فَإِنْ رَحَلَ كَمَا ذَكَرْنَا مُدَّةً قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ
ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يَحْنَثْ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: إنْ كَانَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ
أَنْ يَرْحَلَ أَحَدُهُمَا إلَى بَيْتٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ
(8/59)
من
حلف ألا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وآخر معه لم يحنث وكذلك لو
حلف ألا يدخل دار زيد فدخل دارا بين زيد وغيره لم يحنث
...
1159 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ
فَأَكَلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَآخَرُ مَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَ دَارًا
يُسْكِنُهَا زَيْدٌ بَكْرًا[وَكَذَلِكَ دَارًا بَيْنَ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ لَمْ
يَحْنَثْ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ دَارًا يَسْكُنُهَا زَيْدٌ فَيَحْنَثَ، لأََنَّ
الْمَنْظُورَ إلَيْهِ فِي الأَيْمَانِ مَا تَعَارَفَهُ أَهْلُ تِلْكَ اللُّغَةِ
فِي كَلاَمِهِمْ الَّذِي بِهِ حَلَفَ، وَعَلَيْهِ حَلَفَ فَقَطْ، وَلاَ يُطْلَقُ
عَلَى طَعَامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَخَالِدٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، وَلاَ
عَلَى دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ أَنَّهَا لأََحَدِ مَنْ هِيَ لَهُ.
(8/60)
من
حلف ألا يهب لأحد عشرة دنانير فوهب له أكثر حنث إلا أن ينوي العدد الذي سمى
...
1160 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَهَبَ لأََحَدٍ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ
فَوَهَبَ لَهُ أَكْثَرَ حَنِثَ،
إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْعَدَدَ الَّذِي سَمَّى فَقَطْ فَلاَ يَحْنَثُ.
(8/60)
من
حلف ألا يجامعه مع فلان سقف فدخل بيتا فوجده فيه ولم يكن عرف إذ دخل إنه فيه لم
يحنث
...
1161 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَجْمَعَهُ مَعَ فُلاَنٍ سَقْفٌ
فَدَخَلَ بَيْتًا فَوَجَدَهُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ عَرَفَ إذْ دَخَلَ أَنَّهُ فِيهِ
لَمْ يَحْنَثْ،
لَكِنْ لِيَخْرُجْ مِنْ وَقْتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْحِنْثَ لاَ يَلْحَقُ إِلاَّ قَاصِدًا إلَيْهِ، عَالِمًا
بِهِ.
(8/60)
من
حلف ألا يأكل لحما أو أن لا يشتريه فاشترى شحما أو كبدا أو سناما أو مصرانا إلخ لم
يحنث
...
1162 – مسألة – ومن حلف أن لا يأكل لحما أو ان لا يشتريه فاشترى شحما أو كبدا
(8/60)
من
حلف ألا يأكل شحما حنث بأكل شحم الظهر والبطن وكل ما يطلق عليه اسم شحم ولا يحنث
بأكل اللحم المحصن
...
1163 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ شَحْمًا حَنِثَ بِأَكْلِ
شَحْمِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، وَكُلِّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ شَحْمٍ،
وَلَمْ يَحْنَثْ
بِأَكْلِ اللَّحْمِ الْمَحْضِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ: لاَ يَحْنَثُ إِلاَّ بِشَحْمِ الْبَطْنِ وَحْدَهُ،
وَلاَ يَحْنَثُ بِشَحْمِ الظَّهْرِ. وقال مالك: مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ
لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا حَنِثَ، وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ شَحْمًا
فَأَكَلَ لَحْمًا يَحْنَثُ: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ: {وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُمَا} قَالُوا: فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى شَحْمِ الْبَطْنِ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: وَهَذَا احْتِجَاجٌ مُحَالٌ، عَنْ مَوْضِعِهِ، لأََنَّهُ لَمْ
يَخُصَّ شَحْمَ الْبَطْنِ بِالتَّحْرِيمِ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِ هَذَا اللَّفْظِ
لَكِنْ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ
الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فَبِهَذَا خَصَّ شَحْمَ الْبَطْنِ
بِالتَّحْرِيمِ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَحُرِّمَتْ الشُّحُومُ كُلُّهَا فَالآيَةُ
حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيُّونَ بِأَنْ قَالُوا: حَرَّمَ اللَّهُ
تَعَالَى لَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَحَرَّمَ شَحْمَهُ، وَحَرَّمَ عَلَى بَنِي
إسْرَائِيلَ الشَّحْمَ فَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّحْمَ. وَقَالُوا: الشَّحْمُ
مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ وَلَيْسَ اللَّحْمُ مُتَوَلِّدًا مِنْ الشَّحْمِ.
قال أبو محمد: وَهَذَانِ الأَحْتِجَاجَانِ فِي غَايَةِ التَّمْوِيهِ بِالْبَاطِلِ،
لأََنَّ تَحْرِيمَ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ
(8/61)
لَمْ
يُحَرَّمْ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ، لَكِنْ بِبُرْهَانٍ آخَرَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ
فِي " بَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيُحَرَّمُ ". وَلَوْ كَانَ
تَحْرِيمُ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ دَلِيلاً عَلَى
أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا حَنِثَ لَكَانَ
تَحْرِيمُ لَبَنِ الْخِنْزِيرَةِ وَعَظْمِهَا عَلَى قَوْلِهِمْ مِنْ أَجْلِ
تَحْرِيمِ لَحْمِهَا مُوجِبًا لِلْحِنْثِ عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ
لَحْمًا فَشَرِبَ لَبَنًا، وَلاَ فَرْقَ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الشَّحْمَ تَوَلَّدَ مِنْ اللَّحْمِ، فَيُقَالُ لَهُمْ
فَكَانَ مَاذَا أَلَيْسَ اللَّحْمُ، وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدَيْنِ مِنْ الدَّمِ،
وَالدَّمُ حَرَامٌ، وَهُمَا حَلاَلاَنِ أَوَلَيْسَ الْخَمْرُ مُتَوَلِّدَةً مِنْ
الْعَصِيرِ وَالْخَلُّ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْخَمْرِ وَهِيَ حَرَامٌ، وَمَا
تَوَلَّدَتْ مِنْهُ حَلاَلٌ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا حَلاَلٌ، فَبَطَلَ
قَوْلُهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/62)
من
حلف ألا يأكل رأسا لم يحنث بأكل رؤوس الطير ولا السمك
...
1164 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ رَأْسًا لَمْ يَحْنَثْ
بِأَكْلِ رُءُوسِ الطَّيْرِ، وَلاَ رُءُوسِ السَّمَكِ، وَلاَ يَحْنَثُ إِلاَّ
بِأَكْلِ رُءُوسِ الْغَنَمِ، وَالْمَاعِزِ،
فَإِنْ كَانَ أَهْلُ مَوْضِعِهِ لاَ يُطْلِقُونَ اسْمَ الرُّءُوس فِي الْبَيْعِ
وَالأَكْلِ عَلَى رُءُوسِ الإِبِلِ، وَالْبَقَرِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهَا وَإِنْ
كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا فِي الْبَيْعِ وَالأَكْلِ اسْمَ الرُّءُوس حَنِثَ
بِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الأَيْمَانَ إنَّمَا هِيَ عَلَى لُغَةِ
الْحَالِفِ، وَمَعْهُودِ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلاَمِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. أَلاَ تَرَى: أَنَّ الْمِسْكَ
دَمٌ جَامِدٌ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ دَمٍ حَلَّ وَلَمْ
يَحْرُمْ.
(8/62)
من
حلف ألا يأكل بيضا لم يحنث إلا بأكل بيض الدجاج خاصة
...
1165 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ بِيضًا لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ
بِأَكْلِ بَيْضِ الدَّجَاجِ خَاصَّةً
وَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ بَيْضِ النَّعَامِ وَسَائِرِ الطَّيْرِ، وَلاَ بِيضِ
السَّمَكِ لِمَا ذَكَرْنَا; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
(8/62)
من
حلف ألا يأكل عنبا يأكل زبيبا أو شرب عصير أو أكل ربا أو خلا لم يحنث هكذا
...
1166 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ عِنَبًا فَأَكَلَ زَبِيبًا
أَوْ شَرِبَ عَصِيرًا، أَوْ أَكَلَ رُبًّا أَوْ خَلًّا لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ
مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ زَبِيبًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْعِنَبِ، وَلاَ
بِشُرْبِ نَبِيذِ الزَّبِيبِ وَأَكْلِ خَلِّهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي
التَّمْرِ، وَالرُّطَبِ، وَالزَّهْوِ، وَالْبَسْرِ، وَالْبَلَحِ، وَالطَّلْعِ
وَالْمُنَكِّتِ، وَنَبِيذِ كُلِّ ذَلِكَ وَخَلِّهِ، وَذُو شَائِبَةٍ، وَنَاطِفَةٍ:
لاَ يَحْنَثُ. وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهَا حَنِثَ بِأَكْلِ
سَائِرِهَا، وَلاَ يَحْنَثُ بِشُرْبِ مَا يَشْرَبُ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، لأََنَّ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهَا لاَ يُطْلَقُ عَلَى الآخَرِ، وَالْعَالَمُ كُلُّهُ بَعْضُهُ مُتَوَلِّدٌ
مِنْ بَعْضٍ وَنَحْنُ مَخْلُوقُونَ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ. فَلَوْ أَنَّ امْرَأً
حَلَفَ أَنْ لاَ يُدْخِلَ فِي دَارِهِ حَيَوَانًا فَأَدْخَلَ التُّرَابَ
وَالْمَاءَ لَمْ يَحْنَثْ بِلاَ خِلاَفٍ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا. وقال مالك: مَنْ
حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ عِنَبًا فَأَكَلَ زَبِيبًا أَوْ شَرِبَ
(8/62)
من
حلف ألا يأكل لبنا لم يحنث بأكل اللباء ولا العقيد
...
1167 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ لَبَنًا لَمْ يَحْنَثْ
بِأَكْلِ اللِّبَإِ، وَلاَ بِأَكْلِ الْعَقِيدِ،
لاَ الرَّائِبِ، وَلاَ الزُّبْدِ، وَلاَ السَّمْنِ، وَلاَ الْمَخِيضِ، وَلاَ
الْمَيْسِ، وَلاَ الْجُبْنِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الزُّبْدِ، وَالسَّمْنِ،
وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا لأَخْتِلاَفِ أَسْمَاءِ كُلِّ ذَلِكَ.
(8/63)
من
حلف ألا يأكل خبزا فأكل كعكا أو حريرة إلخ وكذلك من حلف أن لا يأكل قمحا فإن كانت
له نية في خبزه حنث وإلا لم يحنث إلا بأكله صرفا
...
1168 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ خُبْزًا فَأَكَلَ كَعْكًا
أَوْ بشماطا أَوْ حَرِيرَةً، أَوْ عَصِيدَةً، أَوْ حَسْوَ فَتَاةٍ، أَوْ فَتِيتًا
لَمْ يَحْنَثْ.
وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ قَمْحًا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي
خُبْزِهِ حَنِثَ وَإِلَّا لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ بِأَكْلِهِ صِرْفًا، وَلاَ
يَحْنَثُ بِأَكْلِ هَرِيسَةٍ، وَلاَ أَكْلِ حَشِيشٍ، وَلاَ سَوِيقٍ، وَلاَ أَكْلِ
فَرِيكٍ، لأََنَّهُ لاَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ اسْمُ قَمْحٍ وَمَنْ حَلَفَ
أَنْ لاَ يَأْكُلَ تِينًا حَنِثَ بِالأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، لأََنَّ اسْمَ
التِّينِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ.
(8/63)
من
حلف ألا يشرب شرابا فإن كانت له نية حمل عليها وإلا حنث بالخمر وبجميع الأنبذة
...
1169 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ شَرَابًا فَإِنْ كَانَتْ
لَهُ نِيَّةٌ حَمَلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ
بِالْخَمْرِ، وَبِجَمِيعِ الأَنْبِذَةِ،
وَبِالْجَلَّابِ، وَالسَّكَنْجِينِ، وَسَائِرِ الأَشْرِبَةِ; لأََنَّ اسْمَ
شَرَابٍ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ. وَلاَ يَحْنَثُ بِشُرْبِ اللَّبَنِ، وَلاَ
بِشُرْبِ الْمَاءِ، لأََنَّهُ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ شَرَابٍ وَمَنْ حَلَفَ
أَنْ لاَ يَأْكُلَ لَبَنًا فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ
وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَهُ فَأَكَلَهُ بِالْخُبْزِ لَمْ يَحْنَثْ،
لأََنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهُ. وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ الْمَاءَ يَوْمَهُ
هَذَا فَأَكَلَ خُبْزًا مَبْلُولاً بِالْمَاءِ لَمْ يَحْنَثْ وَمَنْ حَلَفَ أَنْ
لاَ يَأْكُلَ سَمْنًا، وَلاَ زَيْتًا فَأَكَلَ خُبْزًا مَعْجُونًا بِهِمَا أَوْ
بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ زَيْتًا، وَلاَ سَمْنًا.
وَلَوْ حَنِثَ فِي هَذَا لَحَنِثَ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ يَوْمَهُ هَذَا
مَاءً فَأَكَلَ خُبْزًا، لأََنَّهُ بِالْمَاءِ عُجِنَ، وَلاَ يَحْنَثُ بِأَكْلِ
طَعَامٍ طُبِخَ بِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ فِيهِ لَمْ يَزُلْ
الأَسْمُ عَنْهُمَا فَيَحْنَثُ حِينَئِذٍ. وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ
مِلْحًا فَأَكَلَ
(8/63)
من
حلف ألا يبيع هذا الشيء بدينار فباعه بدينار غير فلس فأكثر أو بدينار وفلس فصاعدا
لم يحنث
...
1170 – مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَبِيعَ هَذَا الشَّيْءَ بِدِينَارٍ
فَبَاعَهُ بِدِينَارٍ غَيْرَ فَلْسٍ فَأَكْثَرَ، أَوْ بِدِينَارٍ وَفَلْسٍ
فَصَاعِدًا لَمْ يَحْنَثْ،
لأََنَّهُ لاَ يُسَمَّى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَائِعًا لَهُ بِدِينَارٍ.
(8/64)
من
حلف ليقضين غريمه حقه رأس الهلال فإن قضاه حقه أول ليلة من الشهر أو أول يوم منه
مالم تغرب الشمس لم يحنث
...
1171 – مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ غَرِيمَهُ حَقَّهُ رَأْسَ
الْهِلاَلِ فَإِنَّهُ إنْ قَضَاهُ حَقَّهُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ، أَوْ
أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْهُ مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ لَمْ يَحْنَثْ،
لأََنَّ هَذَا هُوَ رَأْسُ الْهِلاَلِ فِي اللُّغَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ فِي
اللَّيْلَةِ أَوْ الْيَوْمِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى قَضَائِهِ
ذَاكِرًا حَنِثَ.
(8/64)
من
حلف أن لا يشتري أمر كذا أو لا يزوج وليته أو أن يضرب عبده إلخ فأمر من فعل له ذلك
كله ففيه تفصيل
...
1172 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ أَمْرَ كَذَا، أَوْ لاَ
يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ، أَوْ أَنْ لاَ يَضْرِبَ عَبْدَهُ، أَوْ أَنْ لاَ يَبْنِيَ
دَارِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ،
فَأَمَرَ مَنْ فَعَلَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى
الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ، وَالْبِنَاءَ، وَالضَّرْبَ، أَوْ فِعْلَ مَا حَلَفَ
عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ
يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ ذَلِكَ حَنِثَ بِأَمْرِهِ مَنْ يَفْعَلُهُ، لأََنَّهُ
هَكَذَا يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْخَبَرُ، عَنْ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا، وَلاَ
يَحْنَثُ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ بِالزَّوَاجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لأََنَّ كُلَّ
أَحَدٍ يُزَوِّجُ وَلِيَّتَهُ فَإِذَا لَمْ يُزَوِّجْهَا وَأَمَرَ غَيْرَهُ فَلَمْ
يُزَوِّجْهَا هُوَ.
(8/64)
من
حلف ألا يبيع عبده فباعه بيعا فاسدا أو صدفة أو أجره أو بيع عليه في حق لم يحنث
...
1173 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَبِيعَ عَبْدَهُ فَبَاعَهُ بَيْعًا
فَاسِدًا، أَوْ أَصْدَقَهُ، أَوْ أَجَرَهُ، أَوْ بِيعَ عَلَيْهِ فِي حَقٍّ لَمْ
يَحْنَثْ،
لأََنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا بَيْعًا. وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ
حَرَامٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، وَلاَ
شَكَّ عِنْدَ مَنْ دِمَاغُهُ صَحِيحٌ فِي أَنَّ الْحَرَامَ غَيْرُ الْحَلاَلِ،
فَإِنْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، عَنْ
مَوْضِعَيْهِمَا، فَإِنْ تَفَرَّقَا وَهُوَ مُخْتَارٌ ذَاكِرٌ: حَنِثَ حِينَئِذٍ،
لأََنَّهُ حِينَئِذٍ بَاعَ، لِمَا نَذْكُرُ فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ "
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(8/64)
1174
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ الْيَوْمَ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ
فِي صَلاَةٍ، أَوْ غَيْرِ صَلاَةٍ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحْنَثْ،
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ
يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ،
وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ " وَلِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ
يُؤْثَرُ إنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَر}َ .
فَصَحَّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ قَوْلَ الْبَشَرِ، وَأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ سَيَصْلَى سَقَرَ فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ، وَلاَ فِي
الشَّرِيعَةِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا اسْمُ كَلاَمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/64)
كفارات
الأيمان
من حنث بمخالفة ما حلف عليه فقد وحبت عليه الكفارة وهذا لا خلاف فيه
...
كَفَّارَاتُ الأَيْمَانِ
1175 - مَسْأَلَةٌ - مَنْ حَنِثَ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَقَدْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بَعْدَ الْحِنْثِ
لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ.
(8/65)
1176
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْنَثَ فَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْكَفَّارَةَ
قَبْلَ أَنْ يَحْنَثَ
أَيَّ الْكَفَّارَاتِ لَزِمَتْهُ: مِنْ الْعِتْقِ، أَوْ الْكِسْوَةِ، أَوْ
الإِطْعَامِ، أَوْ الصِّيَامِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وقال أبو حنيفة، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ: لاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ الْحِنْثِ. وقال الشافعي:
أَمَّا الْعِتْقُ، أَوْ الْكِسْوَةُ، أَوْ الإِطْعَامُ، فَيُجْزِئُتَقْدِيمُهُ
قَبْلَ الْحِنْثِ وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلاَ يُجْزِئُ إِلاَّ بَعْدَ الْحِنْثِ.
وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّينَ: أَنَّ الْعِتْقَ، وَالْكِسْوَةَ، وَالإِطْعَامَ: مِنْ
فَرَائِضِ الأَمْوَالِ، وَالأَمْوَالُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، وَحُقُوقُ النَّاسِ
جَائِزٌ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ آجَالِهَا وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمِنْ فَرَائِضِ
الأَبَدَانِ، وَفَرَائِضُ الأَبَدَانِ لاَ يُجْزِئُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ
أَوْقَاتِهَا.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فَاسِدَةٌ، وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى
أَنَّ تَعْجِيلَ أَمْوَالِ النَّاسِ إنَّمَا تَجِبُ بِرِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ،
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مَعًا، لاَ بِرِضَا أَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ،
وَأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَجِبُ أَيْضًا فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلإِنْسَانِ بِعَيْنِهِ
فَتَرَاضَى هُوَ وَغَرِيمُهُ عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ إسْقَاطِهِ
أَوْ إسْقَاطِ بَعْضِهِ. وَأَمَّا كُلُّ مَا لَيْسَ لأَِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ
وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَقْتُهُ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ، وَلَيْسَ
هَهُنَا مَالِكٌ بِعَيْنِهِ يَصِحُّ رِضَاهُ فِي تَقْدِيمِهِ، لاَ فِي تَأْخِيرِهِ،
وَلاَ فِي إسْقَاطِهِ، وَلاَ فِي إسْقَاطِ بَعْضِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ
تَعَالَى لاَ يَحِلُّ فِيهِ إِلاَّ مَا حُدَّ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وَيُقَالُ
لَهُمْ أَيْضًا: إنَّ حُقُوقَ النَّاسِ يَجُوزُ فِيهَا التَّأْخِيرُ
وَالإِسْقَاطُ، فَهَلْ يَجُوزُ فِي الْكَفَّارَاتِ الإِسْقَاطُ، أَوْ التَّأْخِيرُ
إلَى أَجَلٍ أَوْ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَصَابُوا هَهُنَا فَقَدْ
تَنَاقَضُوا جِدًّا لأََنَّهُمْ أَجَازُوا تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ إثْرَ
الْيَمِينِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ. وَلَمْ يُجِيزُوا تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ إثْرَ
كَسْبِ الْمَالِ لَكِنْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ وَنَحْوِهِ، وَلاَ أَجَازُوا
تَقْدِيمَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إثْرَ ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ لَكِنْ قَبْلَ الْفِطْرِ
بِيَوْمَيْنِ فَأَقَلَّ فَقَطْ. وَلَمْ يُجِيزُوا تَقْدِيمَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ
أَصْلاً، وَلاَ بِسَاعَةٍ قَبْلَ مَا يُوجِبُهَا عِنْدَهُمْ مِنْ إرَادَةِ
الْوَطْءِ، وَلاَ أَجَازُوا تَقْدِيمَ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ قَبْلَ مَا
يُوجِبُهَا مِنْ مَوْتِ الْمَقْتُولِ، وَلاَ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلاَ كَفَّارَةِ
قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ قَتْلِهِ. وَأَجَازُوا إذْنَ الْوَرَثَةِ
لِلْمُوصِي فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ لَهُمْ الْمَالُ
بِمَوْتِهِ، فَظَهَرَ تَنَاقُضُ أَقْوَالِهِمْ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَتَنَاقَضُوا أَقْبَحَ تَنَاقُضٍ، لأََنَّهُمْ
أَجَازُوا تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ
(8/65)
بِثَلاَثَةِ
أَعْوَامٍ، وَتَقْدِيمَ زَكَاةِ الزَّرْعِ إثْرَ زَرْعِهِ فِي الأَرْضِ،
وَأَجَازُوا تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بَعْدَ جِرَاحِهِ
وَقَبْلَ مَوْتِهِ. وَتَقْدِيمَ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ قَبْلَ مَوْتِ
الْمَجْرُوحِ. وَلَمْ يُجِيزُوا لِلْوَرَثَةِ الإِذْنَ فِي الْوَصِيَّةِ
بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ قَبْلَ وُجُوبِ الْمَالِ لَهُمْ بِالْمَوْتِ، وَلاَ
أَجَازُوا إسْقَاطَ الشَّفِيعِ حَقَّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ عَرْضِ شَرِيكِهِ
أَخْذَ الشِّقْصِ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُوبِ أَخْذِهِ لَهُ بِالْبَيْعِ; فَظَهَرَ
تَخْلِيطُهُمْ وَسُخْفُ أَقْوَالِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَعُوذُ مِنْ
الْخِذْلاَنِ.
وَكُلُّهُمْ لاَ يُجِيزُ الأَسْتِثْنَاءَ قَبْلَ الْيَمِينِ، وَلاَ قَضَاءَ دَيْنٍ
قَبْلَ أَخْذِهِ، وَلاَ صَلاَةَ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ
قَوْلُنَا، وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا الْمَانِعِينَ مِنْ تَقْدِيمِ كُلِّ حَقٍّ لَهُ
وَقْتٌ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْكَفَّارَةُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ
بِالْحِنْثِ، وَهِيَ فَرْضٌ بَعْدَ الْحِنْثِ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ،
فَتَقْدِيمُهَا قَبْلَ أَنْ تَجِبَ تَطَوُّعٌ لاَ فَرْضٌ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ
يُجْزِئَ التَّطَوُّعُ، عَنِ الْفَرْضِ. وَقَالُوا: قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وَالدَّلاَئِلُ هَهُنَا
تَكْثُرُ جِدًّا.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ صِحَاحٌ; وَنَحْنُ مُوَافِقُونَ لَهُمْ فِي
أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ قَبْلَ وَقْتِهِ إِلاَّ فِي
مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَجَائِزٌ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ
الْحِنْثِ، لَكِنْ بَعْدَ إرَادَةِ الْحِنْثِ، وَلاَ بُدَّ. وَالثَّانِي: إسْقَاطُ
الشَّفِيعِ حَقَّهُ بَعْدَ عَرْضِ الشَّفِيعِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ أَوْ
يَتْرُكَ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَإِسْقَاطُهُ حَقَّهُ حِينَئِذٍ لاَزِمٌ لَهُ فَقَطْ.
وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِلنُّصُوصِ الْمُخْرِجَةِ لِهَذَيْنِ الشَّرْعَيْنِ،
عَنْ حُكْمِ سَائِرِ الشَّرِيعَةِ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ، وَلاَ يَجُوزُ
أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مَنْ وَافَقَنَا هَهُنَا فِي تَصْحِيحِ
قَوْلِنَا بِأَنْ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إذَا حَلَفْتُمْ} . قَالَ: فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ بِنَفْسِ الْيَمِينِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَنَا فِي هَذَا، لأََنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّصُّ
وَالإِجْمَاعُ الْمُتَيَقِّنُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْنَثْ فَلاَ كَفَّارَةَ
تَلْزَمُهُ.فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَفْسِ الْيَمِينِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِي الآيَةِ حَذْفًا بِلاَ خِلاَفٍ وَأَنَّهُ:
فَأَرَدْتُمْ الْحِنْثَ، أَوْ حَنِثْتُمْ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ دَعْوَى مِنْهُمْ فِي أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ "
فَأَرَدْتُمْ الْحِنْثَ " لاَ يُقْبَلُ إِلاَّ بِبُرْهَانٍ، فَوَجَبَ طَلَبُ
الْبُرْهَانِ فِي ذَلِكَ: فَنَظَرْنَا فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي
حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ
بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَفَّانَ، هُوَ ابْنُ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْت الْحَسَنَ هُوَ
الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ سَمُرَةَ
(8/66)
قَالَ:
قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إذَا حَلَفْتَ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ
ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر "ٌ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَمِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ
سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ يُحَدِّثُ،
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ ".
فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ أَحْكَامِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ
جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ، لأََنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ تَقْدِيمَ الْحِنْثِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَفِي
حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحِنْثِ وَالْكَفَّارَةِ بِوَاوِ
الْعَطْفِ الَّتِي لاَ تُعْطِي رُتْبَةً هَكَذَا جَاءَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَوْلَى
بِالطَّاعَةِ مِنْ بَعْضٍ، وَلاَ تَحِلُّ مُخَالَفَةُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، فَكَانَ
ذَلِكَ جَائِزًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ
الْحَذْفَ الَّذِي فِي الآيَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا أَرَدْتُمْ الْحِنْثَ أَوْ
حَنِثْتُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُبَيِّنُ، عَنْ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: " فَلْيُكَفِّرْ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ "
هُوَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} . وَكَقَوْلِهِ
تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قلنا
لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لأَدَمَ} . قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: وَلَفْظَةُ "
ثُمَّ " فِي هَذِهِ الآيَاتِ لاَ تُوجِبُ تَعْقِيبًا، بَلْ هِيَ وَاقِعَةٌ
عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ مَا عَطَفَ اللَّفْظَ عَلَيْهِ " بِثُمَّ ".
قال أبو محمد: لَيْسَ كَمَا ظَنُّوا: أَمَّا قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنْ
الَّذِينَ آمَنُوا} فَإِنَّ نَصَّ الآيَاتِ هُوَ قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا
الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا
مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . وَقَدْ ذَكَرْنَا
قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَسْلَمْتَ
عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ الْخَيْرِ فَصَحَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَظِيمُ نِعْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي قَبُولِهِ كُلَّ عَمَلِ بِرٍّ عَمِلُوهُ فِي
كُفْرِهِمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَالآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَى
سَائِرِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَبُولِهِ تَعَالَى أَعْمَالَ مَنْ آمَنَ ثُمَّ
عَمِلَ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا قوله تعالى:
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا لأََنَّ
(8/67)
أَوَّلَ
الآيَةِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ، وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ، عَنْ سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ
يَهُودِيًّا، وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} وَقَالَ
تَعَالَى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} . فَصَحَّ أَنَّ الصِّرَاطَ الَّذِي
أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ وَأَتَانَا بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله
عليه وسلم هُوَ صِرَاطُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ مُوسَى
بِلاَ شَكٍّ ثُمَّ آتَى اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى الْكِتَابَ، فَهَذَا تَعْقِيبٌ
بِمُهْلَةٍ لاَ شَكَّ فِيهِ. فأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قلنا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لأَدَمَ} فَعَلَى
ظَاهِرِهِ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَنْفُسَنَا وَصَوَّرَهَا، وَهِيَ
الَّتِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعَهْدَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةَ لأَدَمَ عليه السلام، فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الآيَاتِ ثُمَّ حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ، عَنْ ظَاهِرِهَا،
أَوْ كَانَتْ " ثُمَّ " لِغَيْرِ التَّعْقِيبِ فِيهَا لَمْ يَجِبْ
لِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ " ثُمَّ " لِغَيْرِ التَّعْقِيبِ حَيْثُمَا
وُجِدَتْ، لأََنَّ مَا خَرَجَ، عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ بِدَلِيلٍ فِي
مَوْضِعٍ مَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، عَنْ
مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ وَهَذَا مِنْ تَمْوِيهِهِمْ الْفَاسِدِ الَّذِي لاَ
يَنْتَفِعُونَ بِهِ إِلاَّ فِي تَحْيِيرِ مَنْ لَمْ يُمْعِنْ النَّظَرَ فِي
أَوَّلِ مَا يَفْجَئُونَهُ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَوْلُنَا
هَذَا هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ
مَخْلَدٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ كَانَا يُكَفِّرَانِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وبه
إلى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ
أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ دَعَا غُلاَمًا لَهُ
فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ حَنِثَ، فَصَنَعَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ.
وبه إلى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ: كَانَ يُكَفِّرُ قَبْلَ الْحِنْثِ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنِ، وَرَبِيعَةَ، وَسُفْيَانَ، وَالأَوْزَاعِيِّ،
وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد
الْهَاشِمِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَلاَ يُعْلَمُ
لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إِلاَّ أَنَّ
مُمَوِّهًا مَوَّهَ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الأَسْلَمِيِّ هُوَ
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ
يُكَفِّرُ حَتَّى يَحْنَثَ وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ ابْنَ أَبِي يَحْيَى
مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ، ثُمَّ عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لِمَا كَانَ
لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُجِزْ
الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ، إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ
الْكَفَّارَةَ بَعْدَ الْحِنْثِ فَقَطْ وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ هَذَا.
(8/68)
من
حلف ألا يعتق عبده هذا فأعتقه ينوي بعتقه ذلك كفارة تلك اليمين لم يجزه
...
1177 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُعْتِقَ عَبْدَهُ هَذَا،
فَأَعْتَقَهُ يَنْوِي بِعِتْقِهِ ذَلِكَ كَفَّارَةَ تِلْكَ الْيَمِينِ لَمْ
يُجْزِهِ.
وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةِ الْمَسَاكِينِ
(8/68)
فَأَطْعَمَهُمْ يَنْوِي بِذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ، لَكِنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَصُومَ فِي هَذِهِ الْجُمُعَةِ، وَلاَ يَوْمًا، ثُمَّ صَامَ مِنْهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَنْوِي بِهَا كَفَّارَةَ يَمِينِهِ تِلْكَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ بِالصِّيَامِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِأَنْ يَصُومَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لأََنَّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ بِلاَ شَكٍّ إسْقَاطُ الْحِنْثِ، وَالْحِنْثُ قَدْ وَجَبَ بِالْعِتْقِ، وَالإِطْعَامِ، وَالْكِسْوَةِ، فَلاَ يَحْنَثُ بَعْدُ فِي يَمِينٍ قَدْ حَنِثَ فِيهَا، وَالْكَفَّارَةُ لاَ تَكُونُ الْحِنْثَ بِلاَ شَكٍّ، بَلْ هِيَ الْمُبْطِلَةُ لَهُ، وَالْحَقُّ لاَ يُبْطِلُ نَفْسَهُ.
(8/69)
بيان
صفة الكفارة
...
1178 - مَسْأَلَةٌ - وَصِفَةُ الْكَفَّارَةِ:
هِيَ أَنَّ مَنْ حَنِثَ، أَوْ أَرَادَ الْحِنْثَ وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ بَعْدُ،
فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ: وَهُوَ إمَّا أَنْ يُعْتِقَ
رَقَبَةً، وَأَمَّا أَنْ يَكْسُوَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، وَأَمَّا أَنْ
يُطْعِمَهُمْ: أَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ فَرْضٌ، وَيَجْزِيهِ، فَإِنْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: فَفَرْضُهُ صِيَامَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَلاَ
يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ مَا دَامَ يَقْدِرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعِتْقِ،
أَوْ الْكِسْوَةِ، أَوْ الإِطْعَامِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} . وَمَا
نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا، وَلاَ نُبْعِدُهُ، لأََنَّ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ
ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} أَنَّ هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ، لاَ
عَلَى التَّخْيِيرِ فَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي كَفَّارَةِ
الأَيْمَانِ أَيْضًا: إنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَنَسْأَلُ اللَّهَ
التَّوْفِيقَ.
(8/69)
لا
يجزي من وجبت عليه الكفارة بدل ما ذكر صدقة ولا قيمة
...
1179 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يُجْزِيهِ بَدَلَ مَا ذَكَرْنَا صَدَقَةٌ، وَلاَ
هَدْيٌ، وَلاَ قِيمَةٌ، وَلاَ شَيْءٌ سِوَاهُ أَصْلاً،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، فَمَنْ أَوْجَبَ فِي
ذَلِكَ قِيمَةً فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَقَدْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ
بِهِ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .
(8/69)
1180
– مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَنِثَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الإِطْعَامِ، أَوْ
الْكِسْوَةِ، أَوْ الْعِتْقِ، ثُمَّ افْتَقَرَ فَعَجَزَ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ: لَمْ
يُجْزِهِ الصَّوْمُ أَصْلاً،
لأََنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حِينَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَحَدُ هَذِهِ
الْوُجُوهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى يَقِينًا بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ، لَكِنْ يُمْهَلُ حَتَّى يَجِدَ أَوْ لاَ
يَجِدَ، فَاَللَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ حِسَابِهِ; وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْنَثْ
فَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ وُجُوبُ كَفَّارَةٍ بَعْدُ إِلاَّ أَنْ يُعَجِّلَهَا
فَتُجْزِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/69)
من
حنث وهو عاجز عن كل ذلك ففرضه الصوم قدر عليه أو لم يقدر
...
1181 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَنِثَ وَهُوَ عَاجِزٌ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ: فَفَرْضُهُ
الصَّوْمُ قَدَرَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ،
مَتَى قَدَرَ فَلاَ يُجْزِيهِ إِلاَّ الصَّوْمُ، فَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
وَقَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ،
(8/69)
يجزي
العتق في كل ذلك الكافر والمؤمن والصغير والكبير والمعيب والسالم إلخ
...
1182 - مَسْأَلَةٌ - وَيُجْزِئُ فِي الْعِتْقِ فِي كُلِّ ذَلِكَ: الْكَافِرُ،
وَالْمُؤْمِنُ، وَالصَّغِيرُ، وَالْكَبِيرُ، وَالْمَعِيبُ، وَالسَّالِمُ،
وَالذَّكَرُ، وَالأُُنْثَى، وَوَلَدُ الزِّنَى، وَالْمُخْدِمُ، وَالْمُؤَاجِرُ،
وَالْمَرْهُونُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُدَبَّرُ،
وَالْمَنْذُورُ عِتْقُهُ، وَالْمُعْتَقُ إلَى أَجَلٍ، وَالْمُكَاتَبُ مَا لَمْ
يُؤَدِّ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ
يُجْزِ فِي ذَلِكَ،
وَلاَ يُجْزِئُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى الْمَرْءِ بِحُكْمٍ وَاجِبٍ، وَلاَ نِصْفَا
رَقَبَتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ ذَلِكَ فِي " كِتَابِ الصِّيَامِ
" فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ.
وَعُمْدَةُ الْبُرْهَانِ فِي ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ} . فَلَمْ يَخُصَّ رَقَبَةً مِنْ رَقَبَةٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا} . فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا الرَّقَبَةَ فِي هَذَا عَلَى رَقَبَةِ
الْقَتْلِ لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ مُؤْمِنَةٌ قلنا: فَقِيسُوهَا عَلَيْهَا فِي
تَعْوِيضِ الإِطْعَامِ مِنْهَا. فَإِنْ قَالُوا: لاَ نَفْعَلُ، لأََنَّنَا
نُخَالِفُ الْقُرْآنَ وَنَزِيدُ عَلَى مَا فِيهِ قلنا: وَزِيَادَتُكُمْ فِي
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً، وَلاَ بُدَّ خِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ
وَزِيَادَةٌ عَلَى مَا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ
جَائِزًا فَهُوَ فِي الآخَرِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ
جَائِزٍ فَهُوَ فِي الآخَرِ غَيْرُ جَائِزٍ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ
الَّذِي فِيهِ: إنَّ الْقَائِلَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
إنَّهُ لَطَمَ وَجْهَ جَارِيَةٍ لَهُ وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُهَا فَقَالَ
لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ: فِي
السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عليه
السلام:" أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ
" لأََنَّهَا بِنَصِّ الْخَبَرِ لَمْ تَكُنْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَلاَ
وَطْءٍ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ عَنْ ظِهَارٍ.وَهُمْ يُجِيزُونَ الْكَافِرَةَ فِي
الرَّقَبَةِ الْمَنْذُورَةِ عَلَى الإِنْسَانِ، فَقَدْ خَالَفُوا مَا فِي هَذَا
الْخَبَرِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَيْضًا:
فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ
مُؤْمِنَةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، وَنَحْنُ لاَ
نُنْكِرُ عِتْقَ الْمُؤْمِنَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ يَجُوزَ عِتْقُ
الْكَافِرَةِ، فَنَحْنُ لاَ نَمْنَعُ مِنْ عِتْقِهَا. فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ
هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ الشَّرِيدَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ
أُمِّيَ أَمَرَتْنِي أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً، وَعِنْدِي أَمَةٌ سَوْدَاءُ
أَفَأُعْتِقُهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اُدْعُ بِهَا فَقَالَ
لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: اللَّهُ قَالَ:
فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا
(8/71)
لا
يجزي اطعام مسكين واحد وما دون العشرة يردد عليهم
...
1183- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَوْ مَا دُونَ
الْعَشَرَةِ يُرْدَدُ عَلَيْهِمْ،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، وَهُنَا خِلاَفُ أَمْرِ
اللَّهِ تَعَالَى. وقال أبو حنيفة يَجُوزُ وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَخَالَفَهُ الشَّعْبِيُّ، وَلاَ يُجْزِئُ إِلاَّ
مِثْلُ مَا يُطْعِمُ الإِنْسَانُ أَهْلَهُ، فَإِنْ كَانَ يُعْطِي أَهْلَهُ الدَّقِيقَ،
فَلْيُعْطِ الْمَسَاكِينَ الدَّقِيقَ، وَإِنْ كَانَ يُعْطِي أَهْلَهُ
(8/72)
الْحَبَّ
فَلْيُعْطِ الْمَسَاكِينَ الْحَبَّ، وَإِنْ كَانَ يُعْطِي أَهْلَهُ الْخُبْزَ،
فَلْيُعْطِ الْمَسَاكِينَ الْخُبْزَ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَطْعَمَ أَهْلَهُ
فَمِنْهُ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ أَصْلاً،
لأََنَّهُ خِلاَفُ نَصِّ الْقُرْآنِ وَيُعْطِي مِنْ الصِّفَةِ، وَالْمَكِيلِ
الْوَسَطِ لاَ الأَعْلَى، وَلاَ الأَدْنَى كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعُ
تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:
لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ
أَوْ صَاعُ تَمْرٍ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ،
وَقَالَ: أَوْ أَكْلَةٌ مَأْدُومَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَكُّوكُ حِنْطَةٍ،
وَمَكُّوكُ تَمْرٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَالْمَكُّوكُ نِصْفُ صَاعٍ. قَالَ
الْحَسَنُ: وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَهُمْ أَكْلَةً خُبْزًا، وَلَحْمًا، فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ فَخُبْزًا وَسَمْنًا وَلَبَنًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَخُبْزًا وَخَلًّا
وَزَيْتًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ قَتَادَةَ
أَيْضًا: مَكُّوكُ تَمْرٍ، وَمَكُّوكُ حِنْطَةٍ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
مُدُّ بُرٍّ، وَمُدُّ تَمْرٍ هَذَا كُلُّهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَقَالَ
عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ: عَشْرَةُ أَمْدَادٍ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَمُدَّانِ
لِلْحَطَبِ، وَالإِدَامِ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ: يَجْمَعُهُمْ
فَيُشْبِعُهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: مُدُّ تَمْرٍ وَمُدُّ حِنْطَةٍ لِكُلِّ
مِسْكِينٍ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدُّ حِنْطَةٍ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ مِثْلُهُ أَيْضًا.
وَعَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ
بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ إنْ كَانَ خُبْزًا يَابِسًا: فَعَشَاءٌ وَغَدَاءٌ. وَعَنْ
عَلِيٍّ يُغَدِّيهِمْ، وَيُعَشِّيهِمْ: خُبْزًا، وَزَيْتًا، وَسَمْنًا، وَلاَ
يَصِحُّ عَنْهُمَا. وَعَنِ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَالنَّخَعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ: غَدَاءٌ، وَعَشَاءٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا: بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُحَيَّاةِ، عَنْ
لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: " إنْ كَانَ خُبْزًا يَابِسًا فَغَدَاءٌ وَعَشَاءٌ "
وَهَذَا مُرْسَلٌ وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ. وقال أبو حنيفة: نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ لِكُلِّ
مِسْكِينٍ، أَوْ صَاعُ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، وَمِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ وَسَوِيقِهِ
نِصْفُ صَاعٍ، وَمِنْ دَقِيقِ الشَّعِيرِ وَسَوِيقِهِ صَاعٌ، فَإِنْ أَطْعَمَهُمْ:
فَغَدَاءٌ، وَعَشَاءٌ أَوْ غَدَاءٌ، وَغَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ وَعَشَاءٌ أَوْ
سَحُورٌ وَغَدَاءٌ أَوْ سَحُورٌ وَعَشَاءٌ. وَلاَ يُجْزِئُ عِنْدَ مَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ: دَقِيقٌ، وَلاَ سَوِيقٌ.
قال أبو محمد: هَذِهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ لاَ حُجَّةَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَوْجَبَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ لِلأَذَى لِلْمُحْرِمِ نِصْفَ صَاعٍ
بَيْنَ سِتَّةِ
(8/73)
مَسَاكِينَ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لأََنَّ نَصَّ ذَلِكَ الْخَبَرِ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُعْطُوا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ ". وَهَذَا خَبَرٌ سَاقِطٌ، لأََنَّ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ضَعِيفٌ، وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ وَقَدْ يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ خِلاَفًا لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ نِصْفَ صَاعِ تَمْرٍ أَلْبَتَّةَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ الضَّرِيرُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قَالَ: الْخُبْزُ وَاللَّبَنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالسَّمْنُ وَمِنْ أَعْلَى مَا يُطْعِمُهُمْ: الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ كَفَّرَ، عَنْ يَمِينٍ فَعَجَنَ فَأَطْعَمَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ وَكَانَ ثِقَةً، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ يُقَوِّتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا دُونًا، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا وَسَطًا، فَقِيلَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَرُوِّينَا نَحْوَ هَذَا، عَنْ شُرَيْحٍ، وَالأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ قَوْلُنَا، وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَنْ حَدَّ كَيْلاً مَا، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ إطْعَامِ الْخُبْزِ، وَالدَّقِيقِ، وَمَنْ أَوْجَبَ أَكْلَتَيْنِ، فَأَقْوَالٌ لاَ حُجَّةَ لَهَا مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ لاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنْهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(8/74)
1184
- مَسْأَلَةٌ - وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ كِسْوَةٍ:
قَمِيصٌ، أَوْ سَرَاوِيلُ، أَوْ مُقَنِّعٌ، أَوْ قَلَنْسُوَةٌ، أَوْ رِدَاءٌ، أَوْ
عِمَامَةٌ، أَوْ بُرْنُسٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ
وَلَمْ يَخُصَّ. وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى كِسْوَةً دُونَ كِسْوَةٍ
لَبَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ لاَ
يَجُوزُ. وَرُوِّينَا، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ،
عَنِ الْكِسْوَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ
وَفْدًا دَخَلُوا عَلَى أَمِيرِهِمْ فَكَسَا كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَلَنْسُوَةً،
قَالَ النَّاسُ: إنَّهُ قَدْ كَسَاهُمْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ، عَنْ
عَبْدِ الْوَارِثِ التَّنُّورِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
أَبِيهِ: وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ،
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: تُجْزِئُ الْعِمَامَةُ فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: لاَ تُجْزِي إِلاَّ مَا تَجُوزُ
فِيهِ الصَّلاَةُ وَهَذَا لاَ وَجْهَ لَهُ، لأََنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ
وَاخْتَلَفَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّرَاوِيلِ وَحْدَهَا، وَلاَ يُجْزِئُ
عِنْدَهُ عِمَامَةٌ فَقَطْ،
(8/74)
وَقَالُوا:
لَوْ أَنَّ إنْسَانًا لَمْ يَلْبَسْ إِلاَّ عِمَامَةً فَقَطْ، لَقَالَ النَّاسُ:
هَذَا عُرْيَانُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ
لَنَا: اُكْسُوهُمْ مَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بِهِ اسْمُ عُرْيَانَ {وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَلَوْ أَنَّ امْرَءأً لَبِسَ قَمِيصًا، وَسَرَاوِيلَ فِي
الشِّتَاءِ لَقَالَ النَّاسُ: هَذَا عُرْيَانُ وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ أَبِي
حَنِيفَةَ إذْ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تُجْزِئُ الْعِمَامَةُ وَهِيَ كِسْوَةٌ ثُمَّ
يَقُولُ: لَوْ كَسَاهُمْ ثَوْبًا وَاحِدًا يُسَاوِي عَشْرَةَ أَثْوَابٍ، أَوْ
أَعْطَاهُمْ بَغْلَةً، أَوْ حِمَارَةً تُسَاوِي عَشْرَةَ أَثْوَابٍ أَجْزَأَهُ:
ثُمَّ تَدَبَّرْنَا هَذَا: فَرَأَيْنَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْكِسْوَةَ عَلَى الإِطْلاَقِ
مُنَافِيَةٌ لِلْعُرْيِ، إذْ مُمْتَنَعٌ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ كَاسِيًا عَارِيًّا
مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ يَكُونُ كَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِثْلُ أَنْ
يَكُونَ بَعْضُهُ كَاسِيًا، وَبَعْضُهُ عَارِيًّا أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِ كِسْوَةٌ
تَعُمُّهُ، وَلاَ تَسْتُرُ بَشَرَتَهُ كَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:" نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ لاَ يَدْخُلْنَ
الْجَنَّةَ " فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الْكِسْوَةَ لاَ يَكُونُ مَعَهَا عُرْيٌ
إذَا كَانَتْ عَلَى الإِطْلاَقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَطْلَقَهَا، وَلَمْ
يَذْكُرْهَا بِإِضَافَةٍ. وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ كِسْوَةٌ سَابِغَةٌ
إِلاَّ أَنَّ رَأْسَهُ عَارٍ أَوْ ظَهْرَهُ أَوْ عَوْرَتَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ
مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُسَمَّى كَاسِيًا، وَلاَ مُكْتَسِيًا إِلاَّ بِإِضَافَةٍ،
فَوَجَبَ ضَرُورَةً أَنْ لاَ تَكُونَ الْكِسْوَةُ إِلاَّ عَامَّةً لِجَمِيعِ
الْجِسْمِ، سَاتِرَةً لَهُ، عَنِ الْعُيُونِ، مَانِعَةً مِنْ الْبَرْدِ، لأََنَّهُ
بِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي " كَانُونَ الأَوَّلِ "
مُغَطًّى بِرِدَاءِ قَصَبٍ فَقَطْ أَنَّهُ لاَ يُسَمِّيهِ أَحَدٌ كَاسِيًا، بَلْ
هُوَ عُرْيَانُ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/75)
تجزي
كسوة أهل الذمة واطعامهم إذا كانوا مساكين بخلاف الزكاة
...
1185 - مَسْأَلَةٌ - وَيُجْزِئُ كِسْوَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِطْعَامُهُمْ إذَا
كَانُوا مَسَاكِينَ، بِخِلاَفِ الزَّكَاةِ،
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ هَهُنَا نَصٌّ بِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ جَاءَ
النَّصُّ فِي الزَّكَاةِ: أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ
فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ.
(8/75)
يجزي
الصوم للثلاثة الأيام متفرقة إن شاء
...
1186 - مَسْأَلَةٌ - وَيُجْزِئُ الصَّوْمُ لِلثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ مُتَفَرِّقَةٍ
إنْ شَاءَ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وقال أبو حنيفة: لاَ تُجْزِي إِلاَّ
مُتَتَابِعَةً وَاحْتَجُّوا بِقِيَاسِهَا عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ،
وَالْقَتْلِ، وَقَالُوا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مُتَتَابِعَاتٍ
".
قال أبو محمد: مِنْ الْعَجَائِبِ أَنْ يَقِيسَ الْمَالِكِيُّونَ: الرَّقَبَةَ فِي
أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ،
وَلاَ يَقِيسُهَا الْحَنَفِيُّونَ عَلَيْهَا، وَيَقِيسُ الْحَنَفِيُّونَ الصَّوْمَ
فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي وُجُوبِ كَوْنِهِ مُتَتَابِعًا عَلَى صَوْمِ
كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ، وَالظِّهَارِ، وَلاَ يَقِيسُهُ الْمَالِكِيُّونَ
عَلَيْهِ، فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْمَقَايِيسِ الْمُتَخَاذِلَةِ الْمَحْكُومِ
بِهَا فِي الدِّينِ مُجَازَفَةً وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهِيَ مِنْ
شَرْقِ الأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ،
وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ لَيْسَ فِيهَا مَا ذَكَرُوا ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ
مِنْ أَنْ يَزِيدُوا
(8/75)
1187
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ، عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ مَا
يُطْعِمُ مِنْهُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ أَصْلاً،
لأََنَّهُ وَاجِدٌ، وَلاَ يُجْزِئُ الْوَاجِدُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِلاَّ مَا
وَجَدَ، وَلاَ يُجْزِئُ الصَّوْمُ إِلاَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ. وَالْعَبْدُ،
وَالْحُرُّ، فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَمَنْ حَدَّ
بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا مِنْ قُوتِ جُمُعَةٍ، أَوْ أَشْهُرٍ، أَوْ سَنَةٍ; كُلِّفَ
الدَّلِيلَ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ.
(8/76)
لا
يجزي اطعام بعض العشرة وكسوة بعضهم
...
1188 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ بَعْضِ الْعَشَرَةِ وَكِسْوَةُ
بَعْضِهِمْ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وقال أبو حنيفة، وَسُفْيَانُ: يُجْزِئُ
وَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَ أَبِي
حَنِيفَةَ.
(8/76)
1189
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ عَلَى إثْمٍ فَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ
وَيُكَفِّرَ،
فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَا لَيْسَ إثْمًا فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا رَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلْيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ.
قال أبو محمد: كَانَ هَذَا احْتِجَاجًا صَحِيحًا لَوْلاَ مَا رُوِّينَاهُ فِي
" كِتَابِ الصَّلاَةِ فِي بَابِ الْوَتْرِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ
لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ ذَكَرَ لَهُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَالَ:
هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ وَقَالَ فِي صَوْمِ
رَمَضَانَ وَالزَّكَاةِ كَذَلِكَ، وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ، وَلاَ
أَنْقُصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ عليه السلام: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ
إنْ صَدَقَ . وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ
تَرْكِ التَّطَوُّعِ وَخَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ عليه
السلام يَمِينَهُ تِلْكَ، وَلاَ أَمْرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ،
بَلْ حَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ. فَصَحَّ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ نَدْبٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/76)
كتاب
القرض وهو الدين
القرض فعل خير وبيان تعريفه
...
كِتَابُ الْقَرْضِ وَهُوَ الدَّيْنُ
1190 - مَسْأَلَةٌ - الْقَرْضُ فِعْلُ خَيْرٍ،
وَهُوَ أَنْ تُعْطِيَ إنْسَانًا شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ مَالِك تَدْفَعُهُ
إلَيْهِ لِيَرُدَّ عَلَيْك مِثْلَهُ إمَّا حَالًّا فِي ذِمَّتِهِ وَأَمَّا إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}
(8/77)
1191
- مَسْأَلَةٌ - وَالْقَرْضُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ
وَتَمْلِيكُهُ بِهِبَةِ أَوْ غَيْرِهَا سَوَاءٌ جَازَ بَيْعَةُ أَوْ لَمْ يَجُزْ
لأََنَّ الْقَرْضَ هُوَ غَيْرُ الْبَيْعِ،
لأََنَّ الْبَيْعَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِثَمَنٍ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِ نَوْعِ مَا
بِعْت. وَلاَ يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ إِلاَّ رَدُّ مِثْلِ مَا اُقْتُرِضَ لاَ مِنْ
سِوَى نَوْعِهِ أَصْلاً.
(8/77)
لا
يحل أن يشترط رد أكثر مما أخذ ولا أقل
...
1192 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَشْتَرِطَ رَدًّا أَكْثَرَ مِمَّا
أَخَذَ، وَلاَ أَقَلَّ،
وَهُوَ رِبًا مَفْسُوخٌ، وَلاَ يَحِلُّ اشْتِرَاطُ رَدِّ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ،
وَلاَ أَدْنَى وَهُوَ رِبًا، وَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ نَوْعٍ غَيْرِ النَّوْعِ
الَّذِي أَخَذَ، وَلاَ اشْتِرَاطُ أَنْ يَقْضِيَهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَلاَ
اشْتِرَاطُ ضَامِنٍ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم:" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَا بَالُ
أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ
شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ
شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ". وَلاَ
خِلاَفَ فِي بُطْلاَنِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الْقَرْضِ.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّأْيِيدُ.
(8/77)
إن
تطوع عند قضاء ما عليه بأن يعطي أكثر مما أخذ أو أجود أو أدنى فكل ذلك حسن مستحب
...
1193 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ تَطَوَّعَ عِنْدَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ بِأَنْ
يُعْطِيَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا أَخَذَ، أَوْ أَجْوَدَ
مِمَّا أَخَذَ، أَوْ أَدْنَى مِمَّا أَخَذَ، فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ.
وَمُعْطِي أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَرَضَ وَأَجْوَدَ مِمَّا اقْتَرَضَ مَأْجُورٌ.
وَاَلَّذِي يَقْبَلُ أَدْنَى مِمَّا أَعْطَى، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا أَعْطَى
مَأْجُورٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَادَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ، مَا لَمْ يَكُنْ،
عَنْ شَرْطٍ، وَكَذَلِكَ إنْ قَضَاهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَلاَ فَرْقَ: فَهُوَ
حَسَنٌ مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ،
وَمُوسَى بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَلَّادٌ وَقَالَ
مُوسَى: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ خَلَّادٌ، وَوَكِيعٌ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " كَانَ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي " وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِنًّا
فَأَعْطَاهُ سِنًّا فَوْقَ سِنِّهِ وَقَالَ: "خِيَارُكُمْ مَحَاسِنُكُمْ
قَضَاءً"وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
(8/77)
1194
- مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ مَا اسْتَقْرَضَ لَمْ يَحِلَّ
أَصْلاً لاَ بِشَرْطٍ، وَلاَ بِغَيْرِ شَرْطٍ
.مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ أَقْرَضَهُ ذَهَبًا فَيَرُدُّ عَلَيْهِ فِضَّةً، أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {وَلاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً،
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَهُوَ إذَا رَدَّ غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَقَدْ
أَخَذَ غَيْرَ حَقِّهِ، وَمَنْ أَخَذَ غَيْرَ حَقِّهِ فَقَدْ أَكَلَ الْمَالَ
بِالْبَاطِلِ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ كَأَنَّهُ بَاعَ
مِنْهُ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ قلنا: هَذَا حَرَامٌ لاَ
يَحِلُّ، لأََنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ، وَلاَ يَحِلُّ
الْبَيْعُ إِلاَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك،
وَبَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ. وَكُلُّ هَذَا قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ عَلَى مَا
نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ
الرِّبَا رِبًا مَحْضٌ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي " أَبْوَابِ الرِّبَا "
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ
عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; لأََنَّهُ مِنْ
رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ
عَلَى مَا نَذْكُرُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(8/79)
من
استقرض شيئا فقد ملكه وله بيعه وهبته
...
1195 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا فَقَدْ مَلَكَهُ،
وَلَهُ بَيْعُهُ إنْ شَاءَ، وَهِبَتُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، كَسَائِرِ مِلْكِهِ
وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ وَبِهِ جَاءَتْ النُّصُوصُ.
(8/79)
1196
- مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا كَانَ لِلَّذِي أَقْرَضَ أَنْ
يَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَقْرَضَ مَتَى أَحَبَّ
إنْ شَاءَ إثْرَ إقْرَاضِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْظَرَهُ بِهِ إلَى
انْقِضَاءِ حَيَاتِهِ. وقال مالك: لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ إيَّاهُ بِهِ إِلاَّ
بَعْدَ مُدَّةٍ يَنْتَفِعُ فِيهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِمَا اسْتَقْرَضَ وَهَذَا
خَطَأٌ، لأََنَّهُ دَعْوًى بِلاَ بُرْهَانٍ.وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَوْجَبَ هَاهُنَا
أَجَلاً مَجْهُولَ الْمِقْدَارِ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ ثُمَّ هُوَ
الْمُوجِبُ لَهُ لاَ يَحُدُّ مِقْدَارَهُ، فَأَيُّ دَلِيلٍ أَدَلُّ عَلَى فَسَادِ
هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَائِلُهُ يُوجِبُ فِيهِ مِقْدَارًا [ مَا] لاَ
يَدْرِي هُوَ، وَلاَ غَيْرُهُ مَا هُوَ وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَمَنْ مَنَعَ مِنْ هَذَا فَقَدْ
خَالَفَ أَمْرَهُ عليه السلام.
(8/79)
إن
طالبه صاحب الدين بدينه والشيء المستقرض لم يجز أن يجبر المستقرض على شيء من ماله
...
1197 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ طَالَبَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ وَالشَّيْءُ
الْمُسْتَقْرَضُ حَاضِرٌ عِنْدَ
(8/79)
إن
كان القرض إلى أجل ففرض عليهما أن يكتباه وأن يشهد عليه عدلين إلخ
...
1198 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ إلَى أَجَلٍ، فَفَرْضٌ عَلَيْهِمَا
أَنْ يَكْتُبَاهُ وَأَنْ يُشْهِدَا عَلَيْهِ عَدْلَيْنِ فَصَاعِدًا أَوْ رَجُلاً
وَامْرَأَتَيْنِ، عُدُولاً فَصَاعِدًا.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي سَفَرٍ وَلَمْ يَجِدَا كَاتِبًا فَإِنْ شَاءَ الَّذِي
لَهُ الدَّيْنُ أَنْ يَرْتَهِنَ بِهِ رَهْنًا فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ
يَرْتَهِنَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ
الْحَالِّ لاَ فِي السَّفَرِ، وَلاَ فِي الْحَضَرِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {
وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ} : إلَى
قوله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَا ءِ} إلَى
قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ
أَمَانَتَه}ُ وَلَيْسَ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ الطَّاعَةُ. وَمَنْ
قَالَ: إنَّهُ نَدْبٌ، فَقَدْ قَالَ: الْبَاطِلَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ
تَعَالَى فَاكْتُبُوهُ فَيَقُولُ قَائِلٌ: لاَ أَكْتُبُ إنْ شِئْت. وَيَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا} فَيَقُولُ قَائِلٌ: لاَ أُشْهِدُ، وَلاَ
يَجُوزُ نَقْلُ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنِ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ
إِلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ بِضَرُورَةِ جَسٍّ. وَكُلُّ هَذَا قَوْلُ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَطَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَنَتَقَصَّى
ذَلِكَ فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(8/80)
من
لقي غريمه في بلد بعيد أو قريب وكان الدين حالا أو قد بلغ أجله فله مطالبته أو
أخذه بحقه ويجبره الحاكم على انصافه
...
وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنْ كَانَ التَّدَايُنُ
بِالأَنْدَلُسِ، ثُمَّ لَقِيَهُ بِصِينِ الصِّينِ سَاكِنًا هُنَالِكَ، أَوْ
كِلاَهُمَا، أَتَرَى حَقَّهُ قَدْ سَقَطَ أَوْ يُكَلَّفُ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ هُوَ وَصَاحِبُ الْحَقِّ النُّهُوضَ إلَى الأَنْدَلُسِ لِيُنْصِفهُ
هُنَالِكَ مِنْ مَدِينٍ. ثُمَّ لَوْ طَرَدُوا قَوْلَهُمْ لَلَزِمَهُمْ أَنْ لاَ
يُجِيزُوا الإِنْصَافَ إِلاَّ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَا فِيهَا
بِأَبْدَانِهِمَا حِينَ التَّدَايُنِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا، فَنَحْنُ
نَزِيدُهُمْ مِنْ الأَرْضِ شِبْرًا شِبْرًا حَتَّى نَبْلُغَهُمْ إلَى أَقْصَى
الْعَالَمِ. وَلَوْ حَقَّقَ كُلُّ ذِي قَوْلٍ قَوْلَهُ، وَحَاسَبَ نَفْسَهُ بِأَنْ
لاَ يَقُولَ فِي الدِّينِ إِلاَّ مَا جَاءَ بِهِ قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةً; لَقَلَّ
الْخَطَأُ، وَلَكَانَ أَسْلَمَ لِكُلِّ قَائِلٍ. وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلاَّ
بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ.
(8/71)
1200-
مَسْأَلَةٌ - وَإِنْ أَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ أَنْ
يُعَجِّلَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يُجْبَرْ الَّذِي لَهُ
الْحَقُّ عَلَى قَبُولِهِ أَصْلًا
وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ أَنْ يَتَعَجَّلَ قَبْضَ دَيْنِهِ
قَبْلَ أَجَلِهِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ عَلَى أَدَائِهِ سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ الدَّنَانِيرُ
وَالدَّرَاهِمُ، وَالطَّعَامُ كُلُّهُ، وَالْعَرُوضُ كُلُّهَا، وَالْحَيَوَانُ.
فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى تَعْجِيلِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضِهِ قَبْلَ حُلُولِ
أَجَلِهِ، أَوْ عَلَى تَأْخِيرِهِ بَعْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ، أَوْ بَعْضِهِ: جَازَ
كُلُّ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا . وَقَالَ
الْمَالِكِيُّونَ: إنْ كَانَ مِمَّا لَا مُؤْنَةَ فِي حَمْلِهِ وَنَقْلِهِ
أُجْبِرَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ عَلَى قَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ
مُؤْنَةٌ فِي حَمْلِهِ وَنَقْلِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ
.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، أَوَّلُ ذَلِكَ
أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا بُرْهَانٍ، لَا مِنْ قُرْآنٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا
إجْمَاعٍ، وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ لَا مُخَالِف لَهُ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا رَأْيٍ
سَدِيدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ شَرْطَ الأَُجَلِ قَدْ صَحَّ بِالْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ مَا صَحَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ أَبْطَلُوا هَذَا الشَّرْطَ الصَّحِيحَ الَّذِي أَثْبَتَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ . وَأَجَازُوا الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي
أَبْدَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، كَمَنْ اشْتَرَطَ لِامْرَأَتِهِ
أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَكُلَّ
سُرِّيَّةٍ يَتَّخِذُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَأَنْ لَا يُرَحِّلَهَا عَنْ
دَارِهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا وَاحْتَجُّوا هَاهُنَا بِرِوَايَةِ
مَكْذُوبَةٍ وَهِيَ " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَهَلَّا
احْتَجُّوا بِهَا إذْ هِيَ عِنْدَهُمْ صَحِيحَةٌ فِي إنْفَاذِ شَرْطِ التَّأْجِيلِ
الْمُسَمَّى بِالدَّيْنِ، فَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الأُُمُورَ تَرَوْا الْعَجَبَ
وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي هَذَا بِعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فِيمَا
رُوِيَ عَنْهُمَا فِي الْقَضَاءِ بِقَبُولِ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ
أَجَلِهَا، وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي هَذَا مِنْ وُجُوهٍ . أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَا
حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي أَنَّهُ
إنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَعُثْمَانَ، فِي الْكِتَابَةِ خَاصَّةً،
فَقَاسُوا عَلَيْهَا سَائِرَ الدُّيُونِ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ حُكْمَ
الْكِتَابَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الدُّيُونِ فِي جَوَازِ الْحَمَّالَة وَغَيْرِ
ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ عُمَرُ، وَعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ أَنَسٍ
فَلَمْ يَرَ تَعْجِيلَ الْكِتَابَةِ قَبْلَ أَجَلِهَا. وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا
عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فِي مُئِينَ مِنْ الْقَضَايَا، مِنْهَا إجْبَارُ عُمَرَ
سَادَات
(8/81)
الْعَبِيدِ
عَلَى كِتَابَتِهِمْ بِالضَّرْبِ إذَا طَلَبَ الْعَبِيدُ ذَلِكَ، وَغَيْرُ هَذَا
كَثِيرٌ، فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً فِي مَوْضِعٍ غَيْرَ
حُجَّةٍ فِي آخَر. وَالْخَامِسُ أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا عُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، لِأَنَّهُ جَاءَ عَنْهُمَا وَضْعُ
الْكِتَابَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ يُعْطِي السَّيِّدَ فِي كُلِّ نَجْمٍ
حَقَّهُ; فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ،
وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: " مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ
وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ" .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا تَحْرِيفٌ مِنْهُمْ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ،
لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَطَاءِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي
نُهِينَا عَنِ السُّؤَالِ فِيهِ عَنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ
وَلَا فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْوَاجِبِ السُّؤَالِ عَنْهَا وَطَلَبِهَا
أَوْ الإِبْرَاءِ مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إرَادَةِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ تَعْجِيلَ مَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَجَلِهِ مَعَ إبَايَةِ الَّذِي
لَهُ الْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ إرَادَةِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ تَعْجِيلَ مَا
لَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ مَعَ إبَايَةِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ ؟ إذْ
أَوْجَبُوا الْوَاحِدَ وَمَنَعُوا الآخَرَ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ يُرِيدُ أَنْ يَبْرَأَ مِمَّا عَلَيْهِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ: وَاَلَّذِي
لَهُ الْحَقُّ يُرِيدُ أَنْ يُبْرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِمَّا عَلَيْهِ .
فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ يُرِيدُ ذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ إلَّا إلَى
أَجَلِهِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ: وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ إلَّا
إلَى أَجَلِهِ .
(8/82)
1201
- مَسْأَلَةٌ - وَالْقَرْضُ جَائِزٌ فِي الْجَوَارِي، وَالْعَبِيدِ،
وَالدَّوَابِّ، وَالدُّورِ، وَالأَرْضِينَ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ فَلاَ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ فِي ذَلِكَ
بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ بِغَيْرِ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ. وقولنا في هذا هُوَ
قَوْلُ الْمُزَنِيّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ،
وَأَصْحَابِنَا. وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ، فِي الْجَوَارِي خَاصَّةً، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً
أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ،
وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ
رَأْيٍ سَدِيدٍ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، لأََنَّهُ
يَطَؤُهَا، ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَيْهِ فَيَكُونُ فَرْجًا مُعَارًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُهُمْ: يَطَؤُهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ، فَهُمْ
يُوجِبُونَ هَذَا نَفْسَهُ فِي الَّتِي يَجِدُ بِهَا عَيْبًا فَإِنْ ادَّعَوْا
إجْمَاعًا قلنا: كَذَبْتُمْ، قَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ: الْمَنْعُ مِنْ
الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْوَطْءِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ إجْمَاعٌ
لَلَزِمَهُمْ لأََنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ أَنْ يَقِيسُوا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ
عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ اُتُّفِقَ عَلَيْهِ فَهَذَا أَصْلُهُمْ فِي
الْقِيَاسِ، فَأَنَّى بَدَا لَهُمْ عَنْهُ ثم نقول لَهُمْ: فَإِذَا وَطِئَهَا
ثُمَّ رَدَّهَا فَكَانَ مَاذَا وَطِئَهَا بِحَقٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ قَالَ
تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} ثُمَّ إنْ رَدَّهَا رَدَّهَا
بِحَقٍّ، لأََنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ فَانْتَقَلَتْ مِنْ حَقٍّ إلَى حَقٍّ،
(8/82)
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ فَرْجٌ مُعَارٌ: فَكَذِبٌ وَبَاطِلٌ، لأََنَّ الْعَارِيَّةَ لاَ يَزُولُ عَنْهَا مِلْكُ الْمُعِيرِ، فَحَرَامٌ عَلَى غَيْرِهِ وَطْؤُهَا، لأََنَّهُ مِلْكُ يَمِينِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمُسْتَقْرَضَةُ فَهِيَ مِلْكُ يَمِينِ الْمُسْتَقْرِضِ فَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدّهَا، أَوْ يُمْسِكَهَا أَوْ يَرُدَّ غَيْرَهَا، وَلَيْسَتْ الْعَارِيَّةُ كَذَلِكَ. وَقَالُوا: هُوَ بِشِيَعِ شَنِيعٌ قلنا: لاَ شُنْعَةَ، وَلاَ بَشَاعَةَ فِي الْحَلاَلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَسْتَبْشِعُونَ مِثْلَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ يَبِيعُ جَارِيَةً مِنْ غَيْرِهِ فَيَطَؤُهَا، ثُمَّ يَبْتَاعهَا الَّذِي بَاعَهَا فَيَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةِ، ثُمَّ يَطَؤُهَا، ثُمَّ يَبْتَاعُهَا الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ وَهَكَذَا أَبَدًا. وَمِنْ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَيَطَؤُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَتَعْتَدُّ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا جَارُهُ فَيَطَؤُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَتَعْتَدُّ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا الأَوَّلُ فَيَطَؤُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا وَهَكَذَا أَبَدًا. فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا مَنَعُوا مِنْهُ مِنْ قَرْضِ الْجَوَارِي إنَّمَا الشَّنِيعُ الْبَشِيعُ الْفَظِيعُ مِمَّا يَقُولُونَهُ: مِنْ أَنَّ رِجَالاً تَكُونُ بَيْنَهُمْ أَمَةٌ يَطَؤُهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلاَ يَرَوْنَ فِي ذَلِكَ حَدًّا وَيُلْحِقُونَ الْوَلَدَ بِهَذَا الْوَطْءِ الْحَرَامِ الْخَبِيثِ. وَمِنْ أَنْ يَطَأَ الْوَالِدُ أُمَّ وَلَدِ ابْنِهِ فَلاَ يَرَوْنَ عَلَيْهِ حَدًّا وَيُلْحِقُونَ الْوَلَدَ فِي هَذَا الْوَطْءِ الْفَاحِشِ، لاَ سِيَّمَا الْحَنَفِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَنْ عَشِقَ امْرَأَةَ جَارِهِ فَرَشَا شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا لَهُ بِأَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، وَأَنَّهَا اعْتَدَّتْ، وَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ هَذَا وَهِيَ مُنْكِرَةٌ وَزَوْجُهَا مُنْكِرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ، فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَطَؤُهَا حَلاَلاً طَيِّبًا فَهَذِهِ هِيَ الشَّنَاعَةُ الْمُضَاهِيَةُ لِخِلاَفِ الإِسْلاَمِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/83)
كل
ما يمكن وزنه أو كيله أو زرعه لم يجز أن يقرض جزافا
...
1202 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ وَزْنُهُ أَوْ كَيْلُهُ أَوْ عَدَدُهُ
أَوْ زَرْعُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْرَضَ جُزَافًا،
لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي مِقْدَارَ مَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدّهُ، فَيَكُونُ أَكْلَ
مَالٍ بِالْبَاطِلِ.
(8/83)
كل
ما اقترض من ذلك معلوم العدد أو الزرع أو الكيل أو الوزن فإن رده جزافا فكان ظاهرا
متيقنا أنه أقل مم يفترض فرضي ذلك المقرض أو كان ظاهرا أكثر مما اقترض وطابت به
نفسه جاز وهو حسن
...
1203 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا اُقْتُرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَعْلُومَ الْعَدَدِ أَوْ
الزَّرْعِ أَوْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، فَإِنْ رَدَّهُ جُزَافًا فَكَانَ
ظَاهِرًا مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ أَقَلُّ مِمَّا اقْتَرَضَ فَرَضِيَ ذَلِكَ
الْمُقْرِضُ، أَوْ كَانَ ظَاهِرًا مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا اقْتَرَضَ
وَطَابَتْ نَفْسُ الْمُقْتَرِضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَسَنٌ،
لِمَا قَدَّمْنَا. فَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَهُوَ مِثْلُ مَا اقْتَرَضَ أَمْ أَقَلُّ
أَمْ أَكْثَرُ لَمْ يَجُزْ لَهُ، لأََنَّهُ لاَ يَجُوزُ مَالُ أَحَدٍ إِلاَّ
بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَرِضَاهُ، وَلاَ يَكُونُ الرِّضَا وَطِيبُ النَّفْسِ
إِلاَّ عَلَى مَعْلُومٍ، وَلاَ بُدَّ، عَلَى مَجْهُولٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/83)
لا
يجوز تعجيل بعض الدين المؤجل على أن يبريه من الباقي فإن وقع رد صرف إلى الغريم ما
أعطى
...
1204 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عَلَى
أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ الْبَاقِي، فَإِنْ وَقَعَ رَدٌّ وَصَرَفَ إلَى الْغَرِيمِ
مَا أَعْطَى،
لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
فَهُوَ بَاطِلٌ " فَلَوْ عَجَّلَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بَعْضَ مَا
عَلَيْهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ثُمَّ رَغِبَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ
الْبَاقِيَ أَوْ بَعْضَهُ، فَأَجَابَهُ إلَى
(8/83)
من
كان له دين حال أو مؤجل فحل فرغب إليه الذي عليه الحق في أن ينظره إلى أجل مسمى
ففعل أو نظره كذلك بغير رغبة لم يلزمه شيء من ذلك
...
1205 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ حَالٌ أَوْ مُؤَجَّلٌ فَحَلَّ
فَرَغِبَ إلَيْهِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي أَنْ يَنْظُرَهُ أَيْضًا إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَفَعَلَ،
أَوْ أَنْظَرَهُ كَذَلِكَ بِغَيْرِ رَغْبَةٍ وَأَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ
يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَالدِّينُ حَالٌ يَأْخُذُهُ بِهِ مَتَى شَاءَ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ زُفَرَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ امْرَأَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ
فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ الأَجَلَ وَجَعَلَهُ حَالًّا،
فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَالدَّيْنُ إلَى أَجَلِهِ كَمَا كَانَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مِنْ الْعُقُودِ
الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَفَاءَ بِهَا لأََنَّ الْعُقُودَ
الْمَأْمُورَ بِالْوَفَاءِ بِهَا مَنْصُوصَةُ الأَسْمَاءِ فِي الْقُرْآنِ. وَلاَ خِلاَفَ
فِي أَنَّ كُلَّ الْعُقُودِ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا كَمَنْ عَقَدَ: أَنْ
يُكَفِّرَ أَوْ أَنْ يَزْنِيَ. وَكُلُّ عَقْدٍ صَحَّ مُؤَجَّلاً بِالْقُرْآنِ أَوْ
السُّنَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ الْبَتَّةُ إبْطَالُ التَّأْجِيلِ إِلاَّ بِنَصِّ آخَر.
وَكُلُّ عَقْدٍ صَحَّ حَالًّا بِالْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ
أَلْبَتَّةَ إبْطَالُ الْحُلُولِ إِلاَّ بِنَصِّ آخَر، وَلاَ سَبِيلَ إلَى نَصٍّ
فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فإن قيل: قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ
إنْ عَجَّلَ لَهُ مَا عَلَيْهِ قَبْلَ الأَجَلِ إنَّ ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهُ لاَ
رُجُوعَ فِيهِ قلنا نَعَمْ، لأََنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ حَقِّهِ وَصَيَّرَهُ إلَى
غَيْرِهِ وَوَهَبَهُ، فَهَذَا جَائِزٌ، إذْ قَدْ أَمْضَاهُ، وَأَمَّا مَا لَمْ
يُمْضِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَعْدٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْوَعْدَ لاَ يَلْزَمُ
إنْجَازُهُ فَرْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقال مالك: يَلْزَمُهُ التَّأْجِيلُ وقال أبو حنيفة: إنْ أَجَّلَهُ فِي قَرْضٍ
لَمْ يَلْزَمْهُ وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَيَأْخُذُهُ حَالًّا، فَإِنْ أَجَّلَهُ
فِي غَصْبٍ غَصَبَهُ إيَّاهُ أَوْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ مَا عَدَا الْقَرْضَ
لَزِمَهُ التَّأْجِيلُ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي يُوسُفَ،
وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ اسْتَهْلَكَ لَهُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ
يُوزَنُ ثُمَّ أَجَّلَهُ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ
التَّأْجِيلُ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَ لَهُ شَاةً أَوْ ثَوْبًا فَأَجَّلَهُ فِي
قِيمَتِهِمَا لَزِمَهُ التَّأْجِيلُ.
قال أبو محمد: فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْخَف مِنْ هَذِهِ الْفُرُوقِ. وَاحْتَجَّ
بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: إنَّ التَّأْجِيلَ فِي أَصْلِ الْقَرْضِ لاَ يَصِحُّ
فَمَا زَادَ هَذَا الْمُحْتَجُّ عَلَى خِلاَفِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:
{إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} قال أبو محمد: وَإِنَّمَا
الْحُجَّةُ مَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(8/84)
كل
من مات وله ديون على الناس مؤجلة أو للناس عليه ديون مؤجلة فكل ذلك سوء وبطلت
الآجال كلها وصارت الديون حالة كلها
...
1206 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَلَهُ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ
مُؤَجَّلَةٌ، أَوْ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ دُيُونٌ
(8/84)
1207
- مَسْأَلَةٌ - وَهَدِيَّةُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ إلَى الَّذِي لَهُ
عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَلاَلٌ وَكَذَلِكَ ضِيَافَتُهُ إيَّاهُ مَا لَمْ يَكُنْ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ.
فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ حَرَامٌ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي
شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ
ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمُهُ
(8/85)
وَلَيْلَتُهُ،
وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ
" وَكَانَ عليه السلام يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَقَالَ عليه السلام:"
لَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ ". رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا عُمُومٌ لَمْ يَخُصَّ عليه السلام مِنْ
ذَلِكَ غَرِيمًا مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَجُوزُ قَبُولُ
هَدِيَّتِهِ، وَلاَ النُّزُولُ عِنْدَهُ، وَلاَ أَكْلُ طَعَامِهِ صَحَّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا أَسْلَفْت رَجُلاً سَلَفًا فَلاَ تُقْبَلُ مِنْهُ هَدِيَّةٌ
قِرَاعٍ، وَلاَ عَارِيَّةُ رُكُوبِ دَابَّةٍ وَأَنَّهُ اسْتَفْتَاهُ رَجُلٌ
فَقَالَ لَهُ: أَقْرَضْتُ سَمَّاكًا خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَكَانَ يَبْعَثُ إلَيَّ
مِنْ سَمَكِهِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَاسِبِهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْلاً
فَرُدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَفَافًا فَقَاصِصْهُ. وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ مَالٌ
فَأَهْدَى لَك حَمَلَة مِنْ تِبْنٍ فَلاَ تَقْبَلْهَا فَإِنَّهَا رِبًا، اُرْدُدْ
عَلَيْهِ هَدِيَّتَهُ أَوْ أَثِبْهُ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ
سَائِلٌ فَقَالَ لَهُ: أَقْرَضْت رَجُلاً فَأَهْدَى لِي هَدِيَّةً فَقَالَ:
أَثِبْهُ أَوْ اُحْسُبْهَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ أَوْ اُرْدُدْهَا عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ نَحْوُ هَذَا.
وَاحْتَجُّوا فَقَالُوا: هُوَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَصَحَّ النَّهْيُ عَنْ
هَذَا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ.
قال أبو محمد: أَمَّا هَؤُلاَءِ الصِّحَابَةُ رضي الله عنهم فَلاَ حُجَّةَ فِي
أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ،
وَابْنَ عَبَّاسٍ فِي مُئِينَ مِنْ الْقَضَايَا، وَقَدْ جَاءَ خِلاَفُهُمْ، عَنْ
غَيْرِهِمْ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ، كِلاَهُمَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ تَسَلَّفَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
عَشَرَةَ آلاَفٍ فَبَعَثَ إلَيْهِ أُبَيٌّ مِنْ ثَمَرِهِ وَكَانَتْ تُبَكِّر،
وَكَانَ مِنْ أَطْيَبِ ثَمَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ عُمَرُ
فَقَالَ لَهُ: أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: لاَ حَاجَةَ لِي بِمَا مَنَعَك طِيبَ
ثَمَرَتِي، فَقِبَلهَا عُمَرُ، وَقَالَ: إنَّمَا الرِّبَا عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ
يُرْبِيَ وَيُنْسِئَ. وبه إلى سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَذَكَرَ نَهَى عَلْقَمَةَ، عَنْ أَكْلِ الْمَرْءِ
عِنْدَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَعْرُوفًا كَانَ يَتَعَاطَيَانِهِ.
قال أبو محمد: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئِ
مَا نَوَى ". وَلَوْ كَانَتْ هَدِيَّةُ الْغَرِيمِ وَالضِّيَافَةُ مِنْهُ
حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا لَمَا أَغْفَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَهُ عَلَى
لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فَإِذَا
لَمْ يَنْهَ تَعَالَى عَنْ
(8/86)
ذَلِكَ فَهُوَ حَلاَلٌ مَحْضٌ، وَإِلَّا مَا كَانَ، عَنْ شَرْطٍ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، فَكَانَ مَاذَا أَيْنَ وَجَدُوا النَّهْيَ، عَنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَلْيَعْلَمُوا الآنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ سَلَفٌ إِلاَّ وَهُوَ يَجُرُّ مَنْفَعَةً وَذَلِكَ انْتِفَاعُ الْمُسَلِّفِ بِتَضْمِينِ مَالِهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا تَلِفَ أَوْ لَمْ يَتْلَفْ مَعَ شُكْرِ الْمُسْتَقْرِضِ إيَّاهُ، وَانْتِفَاعِ الْمُسْتَقْرِضِ بِمَالِ غَيْرِهِ مُدَّةَ مَا، فَعَلَى قَوْلِهِمْ كُلُّ سَلَفٍ فَهُوَ حَرَامٌ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَتَمَّ " كِتَابُ الْقَرْضِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ[ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ.
(8/87)
كتاب
الرهن
لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى إلخ
...
كِتَابُ الرَّهْنِ
1208 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ إِلاَّ فِي الْبَيْعِ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى فِي السَّفَرِ،
أَوْ فِي السَّلَمِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي السَّفَرِ خَاصَّةً، أَوْ فِي
الْقَرْضِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي السَّفَرِ خَاصَّةً، مَعَ عَدَمِ الْكَاتِبِ
فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ اشْتِرَاطَ الرَّهْنِ شَرْطٌ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلَى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ
عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَهَاهُنَا يَجُوزُ
اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ حَيْثُ أَجَازَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى لاَ يَعْدُو أَنْ يَكُونَ بَيْعًا أَوْ سَلَمًا، أَوْ قَرْضًا. فَهَذِهِ
الْوُجُوهُ يَجُوزُ فِيهَا اشْتِرَاطُ التَّأْجِيلِ لِوُرُودِ النُّصُوصِ
بِوُجُوبِهِ فِي السَّلَمِ، وَجَوَازُهُ فِي الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَلاَ يَجُوزُ
فِيمَا عَدَا ذَلِكَ أَصْلاً ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ
الْمُعَامَلاَت سِوَى مَا ذَكَرْنَا نَصٌّ بِجَوَازِ اشْتِرَاطِ التَّأْجِيلِ،
فَهُوَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَصَحَّ
عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الرَّهْنُ إِلاَّ فِي السَّفَرِ. وَأَمَّا
الْحَضَرُ: فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا
مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَهُ الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا
إبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، [رضي
الله عنها]، " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ
طَعَامًا إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى
حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ دِرْعَهُ لَمَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ
بِعِشْرِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَخَذَهَا طَعَامًا لأََهْلِهِ. فإن قيل: قَدْ
رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ شَعِيرًا مِنْ
يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ
(8/87)
أَجَلٍ قلنا: وَلاَ فِيهِ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ، وَنَحْنُ لاَ نَمْنَعُ مِنْ الرَّهْنِ بِغَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ، لأََنَّهُ تَطَوُّعٌ مِنْ الرَّاهِنِ حِينَئِذٍ، وَالتَّطَوُّعُ بِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ حَسَنٌ. فَإِنْ ذُكِرَ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ فِي بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ إلَى يَهُودِيٍّ لِيُسَلِّفهُ طَعَامًا لِضَيْفٍ نَزَلَ بِهِ فَأَبَى إِلاَّ بِرّهنَّ فَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. فَهَذَا خَبَرٌ انْفَرَدَ بِهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدٍ الرَّبَذِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ.
(8/88)
1209
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ الرَّهْنُ إِلاَّ مَقْبُوضًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّ
شَرْطَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّهْنَ عِنْدَ ثِقَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ .وَبِهِ يَقُولُ أَبُو
حَنِيفَةَ: وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ يَجُوزُ هَذَا
وَلَيْسَ هُوَ قَبْضًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ مَعْمَرٌ: عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ
سُفْيَانُ: عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ ثُمَّ اتَّفَقَ قَتَادَةَ، وَالْحَكَمُ
عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَلَيْسَ مَقْبُوضًا. قَالَ
سُفْيَانُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى .وَبِهِ يَقُولُ أَبُو سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابُنَا. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيُّ مِنْ طَرِيقِ
هُشَيْمٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْهُ.
قال أبو محمد: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ مَعَ
ذِكْرِهِ الْمُتَدَايِنَيْنِ فِي السَّفَرِ إلَى أَجَلٍ عِنْدَ عَدَمِ الْكَاتِبِ
وَإِنَّمَا أَقْبِض رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدِّرْعَ الَّذِي لَهُ
الدَّيْنُ فَهُوَ الْقَبْضُ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا قَبْضُ غَيْرِ صَاحِبِ الدَّيْنِ
فَلَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَاشْتِرَاطُ أَنْ يَقْبِضَهُ فُلاَنٌ
لاَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ
بَاطِلٌ.
(8/88)
رهن
المرء حصته من شيء مشاع مما ينقسم أولا ينقسم عند الشريك فيه وعند وغيره جائز
...
1210 - مَسْأَلَةٌ - وَرَهْنُ الْمَرْءِ حِصَّتَهُ مِنْ شَيْءٍ مُشَاعٍ مِمَّا
يَنْقَسِمُ أَوْ لاَ يَنْقَسِمُ عِنْدَ الشَّرِيكِ فِيهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ
جَائِزٌ،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى
مَشَاعًا مِنْ مَقْسُومٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ
الْبَتِّيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَسَنِ، وَسَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ. وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ: لاَ يَجُوزُ
رَهْنُ الْمُشَاعِ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ لاَ عِنْدَ
الشَّرِيكِ فِيهِ، وَلاَ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَأَجَازُوا أَنْ يَرْهَنَ اثْنَانِ
أَرْضًا مُشَاعَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ إنْسَانٍ وَاحِدٍ، وَمَنَعُوا مِنْ أَنْ يَرْهَنَ
الْمَرْءُ أَرْضَهُ عِنْدَ اثْنَيْنِ دَايَنَهُمَا دَيْنًا وَاحِدًا فِي صَفْقَةٍ
وَاحِدَةٍ. وَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيك بِهِ: أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ
نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُمْ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ دَلِيلٍ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ تَنَاقَضُوا فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ
لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ بَيْعَ الْمُشَاعِ جَائِزٌ فِيمَا يَنْقَسِمُ، وَمَا
لاَ يَنْقَسِمُ مِنْ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ
إجَازَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ إِلاَّ مِنْ
الشَّرِيكِ فِيهِ وَحْدَهُ، فَأَجَازَهُ لَهُ. وَهَذِهِ تَخَالِيطُ وَمُنَاقَضَاتٌ
لاَ خَفَاءَ بِهَا وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا
(8/88)
1211
- مَسْأَلَةٌ - وَصِفَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ وَغَيْرِهِ:
هُوَ أَنْ يُطْلِقَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ نَقَلَهُ إلَى
نَفْسِهِ وَمَا كَانَ مِمَّا لاَ يُنْقَلُ كَالدُّورِ وَالأَرْضِينَ أُطْلِقَتْ
يَدُهُ عَلَى ضَبْطِهِ، كَمَا يَفْعَلُ فِي الْبَيْعِ وَمَا كَانَ مُشَاعًا كَانَ
قَبْضُهُ لَهُ كَقَبْضِ صَاحِبِهِ لِحِصَّتِهِ مِنْهُ مَعَ شَرِيكِهِ وَلاَ فَرْقَ
وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ لاَ يَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ لَكَانَ الشَّرِيكَانِ فِيهِ
غَيْرَ قَابِضَيْنِ لَهُ وَلَوْ كَانَا غَيْرَ قَابِضَيْنِ لَهُ لَكَانَ مُهْمَلاً
لاَ يَدَ لأََحَدِ عَلَيْهِ وَهَذَا أَمْرٌ يُكَذِّبُهُ الدَّيْنُ وَالْعِيَانُ:
أَمَّا الدَّيْنُ: فَتَصَرُّفُهُمَا فِيهِ تَصَرُّفُ ذِي الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ
وَأَمَّا الْعِيَانُ: فَكَوْنُهُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مُدَّةٌ يَتَّفِقَانِ
فِيهَا، أَوْ عِنْدَ مَنْ يَتَّفِقَانِ عَلَى كَوْنِهِ عِنْدَهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/89)
1212
- مَسْأَلَةٌ - وَالرَّهْنُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَلاَ
يَجُوزُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ:
كَالْحُرِّ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالسِّنَّوْرِ، وَالْكَلْبِ، وَالْمَاءِ،
لأََنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ لِيَنْتَصِف إنْ مَطَلَ، وَلاَ يُمْكِنُ
الأَنْتِصَافُ لِلْغَرِيمِ إِلاَّ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
نَتَأَيَّدُ.
(8/89)
منافع
الرهن كلها لا تحاش منها شيئا لصاحبه الراهن له كما كانت قبل الرهن حاشا ركوب
الدابة المرهونة وحاشا لبن الحيوانات المرهونة فإنه لصاحب الرهن
...
1213 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنَافِعُ الرَّهْنِ كُلُّهَا لاَ تَحَاشٍ مِنْهَا شَيْئًا
لِصَاحِبِهِ الرَّاهِنِ لَهُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الرَّهْنِ، وَلاَ فَرْقَ حَاشَا
رُكُوبِ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ، وَحَاشَا لَبَنِ الْحَيَوَانِ الْمَرْهُونِ،
فَإِنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ
كَمَا ذَكَرْنَا إِلاَّ أَنْ يُضَيِّعَهُمَا فَلاَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا.
وَيُنْفِقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَيَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ: رُكُوبُ
الدَّابَّةِ، وَلَبَنُ الْحَيَوَانِ، بِمَا أَنْفَقَ لاَ يُحَاسَبُ بِهِ مِنْ
دَيْنِهِ كَثُرَ ذَلِكَ أَمْ قَلَّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "
إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " وَحَكَمَ عليه السلام
بِأَنَّهُ لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئِ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ وَمِلْكُ
الشَّيْءِ الْمُرْتَهَن بَاقٍ لِرَاهِنِهِ بِيَقِينِ وَبِإِجْمَاعِ لاَ خِلاَفَ
فِيهِ، فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ، فَحَقُّ الرَّهْنِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ
لِلْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ يُنْقَلُ مِلْكُ الرَّاهِنِ، عَنِ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ
لاَ يُوجِبُ حُدُوثَ حُكْمٍ فِي مَنْعِهِ مَا لِلْمَرْءِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ
مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ بِذَلِكَ، فَلَهُ الْوَطْءُ، وَالأَسْتِخْدَامُ،
وَالْمُؤَاجَرَةُ، وَالْخِيَاطَةُ، وَأَكْلُ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ،
وَالْوَلَدُ الْحَادِثُ، وَالزَّرْعُ، وَالْعِمَارَةُ، وَالأَصْوَافُ
الْحَادِثَةُ، وَالسُّكْنَى، وَسَائِرُ مَا لِلْمَرْءِ فِي مِلْكِهِ، إِلاَّ
كَوْنَ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَطْ، بِحَقِّ الْقَبْضِ الَّذِي جَاءَ
بِهِ الْقُرْآنُ، وَلاَ مَزِيدَ.
وَأَمَّا الرُّكُوبُ، وَالأَحْتِلاَبُ خَاصَّةً، لِمَنْ أَنْفَقَ عَلَى
الْمَرْكُوبِ وَالْمَحْلُوبِ فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ
(8/89)
إن
مات الرهن أو تلف أو أبق أو فسد أو كانت أمة فحملت من سيدها أو أعتقها فكل ذلك
نافذ وبطل الرهن وبقي الدين كله بحسبه
...
1214 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ مَاتَ الرَّهْنُ، أَوْ تَلِفَ، أَوْ أَبِقَ، أَوْ
فَسَدَ، أَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فَحَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، أَوْ أَعْتَقَهَا، أَوْ
بَاعَ الرَّهْنَ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ أَصْدَقَهُ:
فَكُلُّ ذَلِكَ نَافِذٌ، وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ وَبَقِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ
بِحَسْبِهِ، وَلاَ يُكَلَّفُ الرَّاهِنُ عِوَضًا مَكَانَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ،
وَلاَ يُكَلَّفُ الْمُعْتَقُ، وَلاَ الْحَامِلُ اسْتِسْعَاءً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
الرَّاهِنُ لاَ شَيْءَ لَهُ مِنْ أَيْنَ يُنْصِفُ غَرِيمَهُ غَيْرَهُ، فَيَبْطُلُ
عِتْقُهُ ; وَصَدَقَتُهُ، وَهِبَتُهُ، وَلاَ يَبْطُلُ بَيْعُهُ، وَلاَ إصْدَاقُهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ،
حَدَّثَنَا إسْرَائِيلُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِيمَنْ رَهَنَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ قَالَ:
الْعِتْقُ جَائِزٌ، وَيَتْبَعُ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ، قَالَ يَحْيَى:
وَسَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ يَقُولُ فِيمَنْ رَهَنَ عَبْدًا ثُمَّ أَعْتَقَهُ:
الْعِتْقُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الدَّيْنَ قَدْ ثَبَتَ فَلاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ إِلاَّ
نَصُّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، فَلاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِ
(8/93)
إبْطَالِهِ
فِيهِمَا. وَلاَ يَجُوزُ تَكْلِيفُ عِوَضٍ، وَلاَ اسْتِسْعَاءٍ، لأََنَّهُ لَمْ
يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم
وَالذِّمَمُ بَرِيئَةٌ إِلاَّ بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ. فأما الْعِتْقُ،
وَالْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ، وَالإِصْدَاقُ وَالصَّدَقَةُ; فَإِنَّ الرَّهْنَ مَالُ
الرَّاهِنِ بِلاَ خِلاَفٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُبَاحَةٌ لِلْمَرْءِ فِي
مَالِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ، إِلاَّ
مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
" كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ " وَقَوْلِهِ: " الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ
غِنًى ". فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الأَرْتِهَانَ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ وَدَعْوَاهُ فَاسِدَةٌ إذْ لاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى قُرْآنٍ،
وَلاَ سُنَّةٍ، بِتَصْحِيحِ دَعْوَاهُ. قَالَ تَعَالَى {قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ
عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: الْعِتْقُ بَاطِلٌ
بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ
مُوسِرًا نَفَذَ عِتْقُهُ وَكُلِّفَ قِيمَةً يَجْعَلُهَا رَهْنًا مَكَانَهُ، وَإِنْ
كَانَ مُعَسِّرًا فَالْعِتْقُ بَاطِلٌ. وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: الْعِتْقُ
نَافِذٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كُلِّفَ قِيمَتَهُ تَكُونُ
رَهْنًا، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا لَمْ يُكَلَّفْ قِيمَتَهُ، وَلاَ كُلِّفَ
الْعَبْدُ اسْتِسْعَاءً وَنَفَذَ الْعِتْقُ. وقال أبو حنيفة: الْعِتْقُ نَافِذٌ
بِكُلِّ حَالٍ، ثُمَّ قَسَّمَ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا. وقال الشافعي: إنْ
رَهَنَ أَمَةً لَهُ فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا خَرَجَتْ مِنْ
الرَّهْنِ وَكُلِّفَ رَهْنًا آخَر مَكَانَهَا، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا، فَمَرَّةً
قَالَ: تَخْرُجُ مِنْ الرَّهْنِ، وَلاَ يُكَلَّفُ رَهْنًا مَكَانَهَا، وَلاَ
تُكَلَّفُ هِيَ شَيْئًا وَمَرَّةً قَالَ: تُبَاعُ إذَا وَضَعَتْ، وَلاَ يُبَاعُ
الْوَلَدُ، وَتَكْلِيفُ رَهْنٍ آخَر: وَالتَّفْرِيقُ هَاهُنَا بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعَسِّر،
وَبَيْعِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا دُونَ وَلَدِهَا أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ بِلاَ
بُرْهَانٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ خَارِجَةٌ مِنْ الرَّهْنِ، وَلاَ يُكَلَّفُ
لاَ هُوَ، وَلاَ هِيَ شَيْئًا سَوَاءٌ مُعَسِّرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا تُبَاعُ هِيَ، وَيُكَلَّفُ سَيِّدُهَا أَنْ
يُفْتِك وَلَدَهُ مِنْهَا.
قال أبو محمد: افْتِكَاكُ الْوَلَدِ لاَ نَدْرِي وَجْهَهُ، وَلَئِنْ كَانَ
مَمْلُوكًا فَلأََيِّ مَعْنَى يُكَلَّفُ وَالِدُهُ افْتِكَاكَهُ؟ وَإِنْ كَانَ
حُرًّا فَلِمَ يُبَاعُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى افْتِكَاكِهِ. وَرُوِّينَا، عَنِ
ابْنِ شُبْرُمَةَ: أَنَّهَا تُسْتَسْعَى وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا
أُعْتِقَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا عَجَبٌ: وَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ حَلَّ أَخْذُ مَالِهِمَا
وَتَكْلِيفِهِمَا غَرَامَةً لَمْ يُكَلِّفْهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ إيَّاهَا،
وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا
شِرْكًا لِلْمُرْتَهِنِ فَيُسْتَسْعَى لَهُ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: إنْ كَانَ
مُوسِرًا كُلِّفَ أَنْ يَأْتِيَ بِقِيمَتِهَا فَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا
وَتَخْرُجُ هِيَ مِنْ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ
إلَيْهِ وَتَأْتِيه فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ الرَّهْنِ، وَلاَ تُتْبَعُ بِغَرَامَةٍ،
وَلاَ يُكَلَّفُ هُوَ رَهْنًا مَكَانَهَا، وَلَكِنْ يُتْبَعُ بِالدَّيْنِ الَّذِي
عَلَيْهِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا بِيعَتْ هِيَ وَأُعْطِيَ هُوَ
وَلَدَهُ مِنْهَا.
قال أبو محمد: فِي هَذَا الْقَوْلِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ مِنْ الْخَطَإِ: وَهِيَ:
تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْمُعْسِرِ وَالْمُوسِر
(8/94)
فِي
ذَلِكَ وَالْحَقُّ عَلَيْهِمَا وَاحِدٌ. وَتَكْلِيفُهُ إحْضَارَ قِطْعَةٍ مِنْ
مَالِهِ لِتُرْهَنَ لَمْ يَعْقِدْ قَطُّ فِيهَا رَهْنًا. وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ
خُرُوجِهَا إلَى سَيِّدِهَا وَبَيْنَ تَسَوُّرِهِ عَلَيْهَا. وَهُمَا آمِنَةٌ فِي
كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، وَهِيَ مَرْهُونَةٌ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، وَهَذَا عَجَبٌ
جِدًّا. وَبَيْعِهِ إيَّاهَا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ، وَإِخْرَاجِهِ وَلَدَهَا مِنْ
حُكْمِ الرَّهْنِ بِلاَ تَكْلِيفِ عِوَضٍ بِخِلاَفِ الأُُمِّ، وَكِلاَهُمَا
عِنْدَهُ لاَ يَجُوزُ رَهْنُهُمَا. وَكُلُّ هَذِهِ أَوْجُهٌ فَاحِشَةُ الْخَطَإِ
لاَ مُتَعَلِّقَ لَهَا فِيهَا بِقُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ
سَقِيمَةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ، وَلاَ دَلِيلٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ
وَجْهٌ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ نَعَمْ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ.
وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ إنْ حَمَلَتْ فَأَقَرَّ بِحَمْلِهَا، فَإِنْ كَانَ
مُوسِرًا خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ وَكُلِّفَ قَضَاءَ الدَّيْنِ إنْ كَانَ حَالًّا،
أَوْ كُلِّفَ رَهْنًا بِقِيمَتِهَا إنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ. فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا
كُلِّفَتْ أَنْ تُسْتَسْعَى فِي الدَّيْنِ الْحَالِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلاَ
تَرْجِعُ بِهِ عَلَى سَيِّدِهَا، وَلاَ يُكَلَّفُ وَلَدُهَا سِعَايَةً، فَإِنْ
كَانَ الدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ كُلِّفَتْ أَنْ تُسْتَسْعَى فِي قِيمَتِهَا فَقَطْ،
فَجَعَلَتْ رَهْنًا مَكَانَهَا، فَإِذَا حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ كُلِّفَتْ مِنْ ذِي
قَبْلِ أَنْ تُسْتَسْعَى فِي بَاقِي الدَّيْنِ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ
قِيمَتِهَا. قَالُوا: فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ اسْتَلْحَقَ وَلَدَهَا بَعْدَ
وَضْعِهَا لَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ قَسَّمَ الدَّيْنَ عَلَى قِيمَتِهَا يَوْمَ
ارْتَهَنَهَا، وَعَلَى قِيمَةِ وَلَدِهَا يَوْمَ اُسْتُلْحِقَ، فَمَا أَصَابَ
الأُُمَّ سَعَتْ فِيهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ تَرْجِعْ بِهِ
عَلَى سَيِّدِهَا، وَمَا أَصَابَ الْوَلَدَ سَعَى فِي الأَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ
أَوْ قِيمَتِهِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى أَبِيهِ وَيَأْخُذُ الْمُرْتَهِنُ كُلَّ
ذَلِكَ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ فِيهِ
الْعِتْقُ، وَخَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ. فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا
وَالدَّيْنُ حَالًّا كُلِّفَ غُرْمَ الدَّيْنِ. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ إلَى
أَجَلٍ كُلِّفَ السَّيِّدُ قِيمَةَ الْعَبْدِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ. فَإِنْ
كَانَ مُعَسِّرًا اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ فِي الأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ
الدَّيْنِ، وَرَجَعَ بِهِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى
الرَّاهِنِ بِبَاقِي دَيْنِهِ.
قال أبو محمد: إنَّ فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ لَعِبْرَةً لِمَنْ اعْتَبَرَ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ وَإِنَّ مِنْ الْعَجَبِ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ مَا
تُسْتَسْعَى فِيهِ الأُُمُّ وَبَيْنَ مَا يُسْتَسْعَى فِيهِ الْعَبْدُ
الْمُعْتَقُ، وَبَيْنَ مَا يُسْتَسْعَى فِيهِ الْوَلَدُ وَهُوَ عِنْدَهُ حُرٌّ
لاَحِقُ النَّسَبِ فَمَا بَالُ أَمَةٍ خَرَجَتْ أُمَّ وَلَدٍ مِنْ سَيِّدِهَا
بِوَطْءِ مُبَاحٍ. وَمَا بَالُ إنْسَانٍ حُرٍّ ابْنِ حُرٍّ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ
أَبِيهِ. وَمَا بَالُ عَبْدٍ عَتَقَ يُكَلَّفُونَ الْغَرَامَات دُونَ جِنَايَةٍ
جَنَوْهَا، وَلاَ ذَنْبٍ اقْتَرَفُوهُ فَتُسْتَبَاحُ أَمْوَالُهُمْ بِالْبَاطِلِ،
وَيُكَلَّفُونَ مَا لَمْ يُكَلِّفْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَطُّ، وَلاَ
رَسُولُهُ عليه السلام، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ
ثُمَّ يُكَلِّفُونَهُمْ مَا ذَكَرْنَا، وَيُسَلِّمُونَ صَاحِبَ الْجِنَايَةِ
عِنْدَهُمْ مِنْ الْغَرَامَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَكُلُّ مَا يَدْخُلُ
عَلَى مَالِكٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
إِلاَّ فَرْقَ مَالِكٍ بَيْنَ خُرُوجِهَا إلَيْهِ وَبَيْنَ تُسَوِّرهُ عَلَيْهَا.
======
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق