بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب:فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير{ ج 1}
اسم المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني
دار النشر : دار الفكر - بيروت
عدد الأجزاء / 5
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
""""""
صفحة رقم 11 """"""
( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون )
( المقدمة )
بسم الله الرحمن الرحيم
يروي المفتقر إلى رحمة الله سبحانه وتعالى محمد بن محمد بن يحيى زبارة الحسنى
اليمني غفر الله له وللمؤمنين للقاضي الحافظ الشهير محمد بن علي بن محمد الشوكاني
الصنعاني المتوفى سنة 1250 هجرية عن المولى الجهبذ الكبير سيف الإسلام أحمد بن
قاسم بن عبدالله حميد الدين أبقاه الله تعالى عن السيد الحافظ عبدالكريم بن
عبدالله أبي طالب الحسن اليمني المتوفي سنة 1309 ه عن القاضي الحافظ أحمد بن محمد
بن علي الشوكاني المتوفي سنة 1281 ه عن أبيه المؤلف قال رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل كتابه المبين كافلا ببيان الأحكام شاملا لما شرعها لعباده من
الحلال والحرام مرجعا للأعلام عند تفاوت الأفهام وتباين الأقدام وتخالف الكلام
قاطعا للخصام شافيا للسقام مرهما للأوهام فهو العروة الوثقى التي من تمسك بها فاز
بدرك الحق القويم والجادة الواضحة التي من سلكها فقد هدى إلى الصراط المستقيم فأي
عبارة تبلغ أدنى ما يستحقه كلام الحكيم من التعظيم وأي لفظ يقوم ببعض ما يليق به
من التكريم والتفخيم كلا والله إن بلاغات البلغاء المصاقع وفصاحات الفصحاء البواقع
وإن طالت ذيولها وسالت سيولها واستنت بميادينها خيولها تتقاصر عن الوفاء بأوصافه
وتتصاغر عن التشبث بأدنى أطرافه فيعود جيدها عنه عاطلا وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
فهو كلام من لا تحيط به العقول علما ولا تدرك كنهه الطباع البشرية فهما فالإعتراف
بالعجز عن القيام بما يستحقه من الأوصاف العظام أولى بالمقام وأوفق بما تقتضيه
الحال من الإجلال والإعظام والصلاة والسلام على من نزل إليه الروح الأمين بكلام رب
العالمين محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله المطهرين وصحبه المكرمين
وبعد فإن اشرف العلوم على الإطلاق وأولاها بالتفضيل على الإستحقاق وأرفعها قدرا
بالإتفاق هو
""""""
صفحة رقم 12 """"""
علم التفسير لكلام القوي القدير إذا كان على الوجه المعتبر في الورود والصدر غير
مشوب بشيء من التفسير بالرأي الذي هو من أعظم الخطر وهذه الأشرفية لهذا العلم غنية
عن البرهان قريبة إلى الفهام والأذهان يعرفها من يعرف الفرق بين كلام الخلق والحق
ويدري بها من يميز بين كلام البشر وكلام خالق القوى والقدر فمن فهم هذا استغنى عن
التطويل ومن لم يفهمه فليس بمتأهل للتحصيل ولقد صدق رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) حيث يقول فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ( فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه )
ولما كان هذا العلم بهذه المنزلة الشافخة الأركان العالية البنيان المرتفعة المكان
رغبت إلى الدخول من أبوابه ونشطت إلى القعود في محرابه والكون من أحزابه ووطنت
النفس على سلوك طريقة هي بالقبول عند الفحول حقيقة وها أنا أوضح لك منارها وأبين
لك إيرادها وإصدارها فأقول
إن غالب المفسرين تفرقوا فريقين وسلكوا طريقين الفريق الأول اقتصروا في تفاسيرهم
على مجرد الرواية وقنعوا برفع هذه الراية والفريق الآخر جردوا أنظارهم إلى ما
تقتضيه اللغة العربية وما تفيده العلوم الآلية ولم يرفعوا إلى الرواية رأسا وإن
جاءوا بها لم يصححوا لها أساسا وكلا الفريقين قد أصاب وأطال وأطاب وإن رفع عماد
بيت تصنيفه على بعض الأطناب وترك منها ما لا يتم بدونه كمال الإنتصاب فإن ما كان
من التفسير ثابتا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان المصير إليه متعينا
وتقديمه متحتما غير أن الذي صح عنه من ذلك إنما هو تفسير آيات قليلة بالنسبة إلى
جميع القرآن ولا يختلف في مثل ذلك من أئمة هذا الشأن اثنان وأما ما كان منها ثابتا
عن الصحابة رضي الله عنهم فإن كان من الألفاظ التي قد نقلها الشرع إلى معنى مغاير
للمعنى اللغوي بوجه من الوجوه فهو مقدم على غيره وإن كان من الألفاظ التي لم
ينقلها الشرع فهو كواحد من أهل اللغة الموثوق بعربيتهم فإذا خالف المشهور المستفيض
لم تقم الحجة علينا بتفسيره الذي قاله على مقتضى لغة العرب فبالأولى تفاسير من
بعدهم من التابعين وتابعيهم وسائر الأئمة وأيضا كثيرا ما يقتصر الصحابي ومن بعده
من السلف على وجه واحد مما يقتضيه النظم القرآني باعتبار المعنى اللغوي ومعلوم أن
ذلك لا يستلزم إهمال سائر المعاني التي تفيدها اللغة العربية ولا إهمال ما يستفاد
من العلوم التي تتبين بها دقائق العربية وأسرارها كعلم المعاني والبيان فإن
التفسير بذلك هو تفسير باللغة لا تفسير بمحض الرأي المنهي عنه وقد أخرج سعيد بن
منصور في سننه وابن المنذر والبيهقي في كتاب الرؤية عن سفيان قال ليس في تفسير
القرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد منه هذا وهذا وأخرج ابن سعد في الطبقات وأبو
نعيم في الحلية عن أبي قلابة قال قال أبو الدرداء لا تفقه كل الفقه حتى ترى القرآن
وجوها وأخرج ابن سعد أن عليا قال لابن عباس اذهب إليهم يعني الخوارج ولا تخاصمهم
بالقرآن فإنه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسنة فقال له أنا أعلم بكتاب الله منهم فقال
صدقت ولكن القرآن حمال ذو وجوه وأيضا لا يتيسر في كل تركيب من التراكيب القرآنية
تفسير ثابت عن السلف بل قد يخلو عن ذلك كثير من القرآن ولا اعتبار بما لم يصح
كالتفسير المنقول بإسناد ضعيف ولا بتفسير من ليس بثقة منهم وإن صح إسناده إليه
وبهذا تعرف أنه لا بد من الجمع بين الأمرين وعدم الاقتصار على مسلك أحد الفريقين
وهذا هو المقصد الذي وطنت نفسي عليه والمسلك الذي عزمت على سلوكه إن شاء الله مع
تعرضه للترجيح بين التفاسير
""""""
صفحة رقم 13 """"""
المتعارضة مهما أمكن واتضح لي وجهه وأخذي من بيان المعنى العربي والإعرابي
والبياني بأوفر نصيب والحرص على إيراد ما ثبت من التفسير عن رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) أو الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو الأئمة المعتبرين وقد أذكر ما
في إسناده ضعف إما لكون في المقام ما يقويه أو لموافقته للمعنى العربي وقد أذكر
الحديث معزوا إلى راويه من غير بيان حال الإسناد لأني أجده في الأصول التي نقلت
عنها كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم ويبعد كل
البعد أن يعلموا في الحديث ضعفا ولا يبينونه ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم
قد علموا ثبوته فإن من الجائز أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد بل هذا هو الذي
يغلب به الظن لأنهم لو كشفوا عنه فثبتت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك كما يقع
منهم كثيرا التصريح بالصحة أو الحسن فمن وجد الاصول التي يروون عنها ويعزون ما في
تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقا إن شاء الله واعلم أن تفسير السيوطي
المسمى بالدر المنثور قد اشتمل على غالب ما في تفاسير السلف من التفاسير المرفوعة
إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتفاسير الصحابة ومن بعدهم وما فاته إلا القليل
النادر وقد اشتمل هذا التفسير على جميع ما تدعو إليه الحاجة منه مما يتعلق بالتفسير
مع اختصار لما تكرر لفظا واتحد معنى بقولي ومثله أو نحوه وضممت إلى ذلك فوائد لم
يشتمل عليها وجدتها في غيره من تفاسير علماء الرواية أو من الفوائد التي لاحت لي
من تصحيح أو تحسين أو تضعيف أو تعقب أو جمع أو ترجيح
فهذا التفسير وإن كبر حجمه فقد كثر علمه وتوفر من التحقيق قسمه وأصاب غرض الحق
سهمه واشتمل على ما في كتب التفاسير من بدائع الفوائد مع زوائد فوائد وقواعد شوارد
فإن أحببت أن تعتبر صحة هذا فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة انظر تفاسير
المعتمدين على الرواية ثم ارجع إلى تفاسير المعتمدين على الدراية ثم انظر في هذا
التفسير بعد النظرين فعند ذلك يسفر الصبح لذي عينين ويتبين لك أن هذا الكتاب هو لب
اللباب وعجب العجاب وذخيرة الطلاب ونهاية مارب الألباب وقد شميته
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
مستمدا من الله سبحانه بلوغ الغاية والوصول بعد هذه البداية إلى النهاية راجيا منه
جل جلاله أن يديم به الانتفاع ويجعله من الذخائر التي ليس لها انقطاع
واعلم أن الأحاديث في فضائل القرآن كثيرة جدا ولا يتم لصاحب القرآن ما يطلبه من
الأجر الموعود به في الأحاديث الصحيحة حتى يفهم معانيه فإن ذلك هو الثمرة من قراءة
قال القرطبي ينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه
فينتفع بما قرأ ويعمل بما يتلو فما أقبح بحامل القرآن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر
قلب وهو لا يفهم معنى ما يتلوه فكيف يعمل بما لا يفهم معناه وما أقبح به أن يسال
عن فقه ما يتلوه ولا يدريه فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا
وينبغي له أن يعرف المكي من المدني ليفرق بين ما خاطب الله به عباده في أول
الإسلام وما ندبهم إليه في آخر الإسلام وما فرض في أول الإسلام وما زاد عليهم من
الفرائض في آخره فالمدني هو الناسخ للمكي في أكثر القرآن
""""""
صفحة رقم 14 """"""
وقال أيضا قال علماؤنا وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين فمن ذلك
أن علي بن أبي طالب ذكر جابر بن عبدالله ووصفه بالعلم فقال له رجل جعلت فداك تصف
جابرا بالعلم وأنت أنت فقال إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى ) إن الذي فرض عليك
القرآن لرادك إلى معاد ( وقال مجاهد أحب الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل الله وقال
الحسن والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيمن نزلت وما يعني بها وقال الشعبي
رحل مسروق في تفسير آية إلى البصرة فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز
ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها وقال عكرمه في قوله عز وجل ) ومن يخرج من بيته
مهاجرا إلى الله ورسوله ( طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته قال ابن
عبدالبر هو ضميرة بن حبيب وقال ابن عباس مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين
اللتين تظاهرتا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما يمنعني الامهابته فسألته
فقال هي حفصة وعائشة وقال إياس بن معاوية مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون
تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من عند مليكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة
لا يدرون ما في الكتاب ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في
الكتاب وذكر ابن أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم لو
طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون فقالوا قد تعلمنا القرآن فقال إن في
تعلمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم فقالوا كيف يا أبا علي قال لن تعلموا
القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمة ومتشابهة وناسخة من منسوخة فإذا عرفتم ذلك
استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة وللسلف رحمهم الله من هذا الجنس ما لا يأتي عليه
الحصر
S1
سورة الفاتحة
حول السورة
معنى الفاتحة في الأصل أول ما من شأنه أن يفتتح به ثم أطلقت على أول كل شيء
كالكلام والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية فمسيت هذه السورة فاتحة الكتاب لكونه
افتتح بها إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف وأول ما يتلوه التالي من الكتاب
العزيز وإن لم تكن أول ما نزل من القرآن وقد اشتهرت هذه السورة الشريفة بهذا الإسم
في أيام النبوة قيل هي مكية وقيل مدنية
وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول والثعلبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه قال
نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأبو نعيم
والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة والثعلبي والواحدي من حديث عمرو بن شرحبيل ( أن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحي
فذهبت بن إلى ورقة فأخبره فقال له إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد
يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض فقال لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم
ائتني فأخبرني فلما خلا ناداه يا محمد قل بسم الله الرحمن الرحيم حتى بلغ ولا
الضالين ) الحديث وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن رجل من بني سلمة قال لما أسلمت
فتيان بني سلمة وأسلم ولد عمرو بن الجموح قالت إمرأة عمرو له هل لك أن تسمع من
أبيك ما روى عنه فساله فقرأ عليه الحمد لله رب العالمين وكان ذلك قبل الهجرة وأخرج
أبو بكر بن الأنباري في المصاحف عن عبادة قال فاتحة الكتاب نزلت بمكة فهذا جملة ما
استدل به من قال إنها نزلت بمكة واستدل من قال إنها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن
أبي شيبة في المصنف وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه
""""""
صفحة رقم 15 """"""
والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد عن أبي هريرة ( رن إبليس حين أنزلت فاتحة
الكتاب ) وأنزلت بالمدينة
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابونعيم في الحلية وغيرهم
من طرق عن مجاهد قال نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة وقيل إنها نزلت مرتين مرة بمكة
ومرة بالمدينة جمعا بين هذه الروايات
أسمائها
وتسمى أم الكتاب قال البخاري في أول التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها
في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن أيوب عن
محمد بن سيرين كان يكره أن يقول أم الكتاب ويقول قال الله تعالى ) وعنده أم الكتاب
( ولكن يقول فاتحة الكتاب ويقال لها الفاتحة لأنها يفتتح بها القراءة وافتتحت
الصحابة بها كتابة المصحف الإمام
قال ابن كثير في تفسيره وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا لأنهت تثني في الصلاة
فتقرأ في كل ركعة وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
قال ( لأم القرآن هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم ) وأخرج ابن
جرير في تفسيره عن أبي هريرة أيضا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( هي
أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني ) وأخرج نحوه ابن مردويه في تفسيره
والدارقطني من حديثه وقال كلهم ثقات وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة
أنهم فسروا قوله تعالى ( سبعا من المثاني ) بالفاتحة ومن جملة أسمائها كما حكاه في
الكشاف سورة الكنز والوافية وسورة الحمد وسورة الصلاة وقد أخرج الثعلبي أن سفيان
بن عيينة كان يسمي فاتحة الكتاب الواقية وأخرج الثعلبي أيضا عن عبدالله بن يحيى بن
أبي كثير أنه سأله سائل عن قراءة الفاتحة خلف الإمام فقال عن الكافية تسأل قال
السائل وما الكافية قال الفاتحة أما علمت أنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها
وأخرج أيضا عن الشعبي أن رجلا اشتكى إليه وجع الخاصرة فقال عليك بأساس القرآن قال
وما أساس القرآن قال فاتحة الكتاب وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) قال ( إن الله أعطاني فيما من به علي فاتحة الكتاب وقال هي من
كنوز عرشي ) وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده عن علي نحوه مرفوعا وقد ذكر القرطبي
في تفسيره للفاتحة إثنى عشر اسما وهي سبع آيات بلا خلاف كما حكاه ابن كثير في
تفسيره وقال القرطبي أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روى عن حسين
الجعفي أنها ست وهو شاذ وإلا ما روى عن عمرو بن عبيد أنه جعل إياك نعبد آية فهي
عنده ثمان وهو شاذ انتهى وإنما اختلفوا في البسلمة كما سيأتي إن شاء الله وقد أخرج
عبد بن حميد ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن الأنباري في المصاحف عن محمد بن
سيرين أن أبي بن كعب وعثمان بن عفان كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين ولم يكتب
ابن مسعود شيئا منهن وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال كان عبدالله بن مسعود لا
يكتب فاتحة الكتاب في المصحف وقال لو كتبتها لكتبت في أول كل شيء
فضلها
وقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث منها ما أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي
من حديث أبي سعيد بن المعلى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له ( لأعلمنك
أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد قال فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من
المسجد قلت يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال نعم الحمد لله
رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) وأخرج أحمد والترمذي
وصححه من حديث أبي من كعب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له ( أتحب أن أعلمك
سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ثم
أخبره أنها الفاتحة ) وأخرجه النسائي وأخرج أحمد في المسند
""""""
صفحة رقم 16 """"""
من حديث عبدالله بن جابر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له ( ألا أخبرك
بأخير سورة في القرآن قلت بلى يا رسول الله قال اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى
تختمها ) وفي إسناده ابن عقيل وقد احتج به كبار الائمة وبقية رجاله ثقات وعبد الله
بن جابر هذا هو العبدي كما قال ابن الجوزي وقيل الأنصاري البياضي كما قال ابن
عساكر وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
قال لما أخبروه بأن رجلا رقى سليما بفاتحة الكتاب وما كان يدريه أنها رقية )
الحديث وأخرج مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث ابن عباس قال بينا رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء
فقال هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط قال فنزل منه ملك فأتى النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) فقال أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب
وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته ) وأخرج مسلم والنسائي
والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج
ثلاثا غير تامة ) وأخرج البزار في مسنده بسند ضعيف عن أنس قال قال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ( إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد
فقد أمنت من كل شيء إلا الموت ) وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن أبي زيد
وكان له صحبة قال ( كنت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض فجاج المدينة فسمع
رجلا يتهجد ويقرأ بأم القرآن فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستمع حتى ختمها
ثم قال ما في القرآن مثلها ) وأخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في شعب الإيمان
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( فاتحة الكتاب شفاء
من كل سقم ) وأخرج أبو الشيخ نحوه من حديثه وحديث أبي هريرة مرفوعا وأخرج الدارمي
والبيهقي في شعب الإيمان بسند رجاله ثقات عن عبدالملك بن عمير قال قال رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) في فاتحة الكتاب ( شفاء من كل داء ) وأخرج أحمد وأبو داود
والنسائي وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن جرير والحاكم وصححه عن خارجة بن
الصلت التميمي عن عمه ( أنه أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أقبل راجعا
من عنده فمر على قوم وعندهم رجل مجنون موثق بالحديد فقال أهله أعندك ما تداوي به
هذا فإن صاحبكم قد جاء بخير قال فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام في كل يوم
مرتين غدوة وعشية أجمع بزاقي ثم أتفل فبرأ فأعطاني مائة شاة فأتيت النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) فذكرت ذلك له فقال كل فمن أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق )
وأخرج الفريابي في تفسيره عن ابن عباس قال ( فاتحة الكتاب ثلث القرآن ) وأخرج
الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) ( من قرأ أم القرآن وقل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن ) وأخرج عبد بن حميد
في مسنده بسند ضعيف عن ابن عباس يرفعه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاتحة
الكتاب تعدل بثلثي القرآن ) وأخرج الحاكم وصححه وأبو ذر الهروي في فضائله والبيهقي
في الشعب عن أنس قال ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مسير له فنزل فمشى رجل
من أصحابه إلى جنبه فالتفت إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ألا أخبرك
بأفضل القرآن فتلا عليه الحمد لله رب العالمين ) وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أبي
الدرداء قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزي
شيء من القرآن ولو أن أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة
الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات ) وأخرج أو عبيد في فضائله عن
الحسن مرسلا قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ فاتحة الكتاب
فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان )
""""""
صفحة رقم 17 """"""
( سورة الفاتحة )
بسم الله الرحمن الرحيم
الفاتحة : ( 1 ) بسم الله الرحمن . . . . .
فوائد
اختلف أهل العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في اولها أو هي بعض آية من
أول كل سور أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها أو أنها ليست بآية في الجميع
وإنما كتبت للفصل والأقوال وأدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك وقد اتفقوا على
أنها بعض آية في سورة النمل وقد جزم قراء مكة والكوفة بأنها آية من الفاتحة ومن كل
سورة وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة ولا من
غيرها من السور قالوا وإنما كتبت للفصل والتبرك وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن
ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل
عليه بسم الله الرحمن الرحيم وأخرجه الحاكم في المستدرك وأخرج ابن خزيمة في صحيحه
عن أم سلمة ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ البسملة في أول الفاتحة في
الصلاة وغيرها آية ) وفي إسناده عمرو بن هارون البلخي وفيه ضعف وروى نحوه
الدارقطني مرفوعا عن أبي هريرة
وكما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة وقد أخرج النسائي
في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة ( أنه
صلى فجهر في قراءته بالبسلمة وقال بعد أن فرغ إني لأشبهكم صلاة برسول ( صلى الله
عليه وسلم ) ) وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم وروى أبو داود والترمذي عن
ابن عباس ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفتتح الصلاة ببسم الله
الرحمن الرحيم ) قال الترمذي وليس إسناده بذاك وقد أخرجه الحاكم في المستدرك عن
ابن عباس بلفظ ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجهر ببسم الله الرحمن
الرحيم ) ثم قال صحيح وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) فقال كانت قراءته مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم
الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم وأخرج أحمد في المسند وأبو داود في السنن وابن خزيمة
في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أم سلمة أنها قالت ( كان رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) يقطع قراءته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن
الرحيم مالك يوم الدين ) وقال الدارقطني إسناده صحيح
واحتج من قال بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم عن عائشة قالت (
كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله
رب العالمين ) وفي الصحيحين عن أنس قال ( صليت خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ) ولمسلم ( لايذكرون
بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها ) وأخرج أهل السنن نحوه عن
عبدالله بن مغفل وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة وأحاديث الترك
وإن كانت أصح ولكن الإثبات ارجح مع كونه خارجا من مخرج صحيح فالأخذ به أولى ولا
سيما مع إمكانه تأويل الترك وهذا يقتضي الإثبات الذاتي أعني كونها قرآنا والوصفي
أعني الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة ولتنقيح البحث
والكلام على أطرافه استدلالا وردا وتعقبا ودفعا ورواية ودراية موضع غير هذا ومتعلق
الباء محذوف وهو أقرأ أو أتلو لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له فمن قدره
متقدما كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل ومن قدره متأخرا كان
غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الإسم
والإشارة إلى أن البداية به أهم لكون التبرك حصل به وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل
متأخرا في مثل هذا المقام
""""""
صفحة رقم 18 """"""
ولا يعارضه قوله تعالى ) اقرأ باسم ربك الذي خلق ( لأن ذلك المقام مقام القراءة
فكان الأمر بها أهم وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسما أو فعلا فلا
يتعلق بذلك كثير فائدة والباء للاستعانة أو للمصاحبة ورجح الثاني الزمخشري واسم
أصله سمو حذفت لامه ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في
أوله الهمزة إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن وهو اللفظ الدال على المسمى
ومن زعم أن الإسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة وسيبويه والباقلاني وابن فورك
وحكاه الرازي عن الحشوية والكرامية والأشهرية فقد غلط غلطا بينا وجاء بما لا يعقل
مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب
بل العلم الضروري حاصل بأن الإسم الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة غير المسمى الذي
هو مدلوله والبحث مبسوط في علم الكلام وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( إن
لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ) وقال الله عز وجل ) ولله الأسماء
الحسنى فادعوه بها ( وقال تعالى ) قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله
الأسماء الحسنى ( والله علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره وأصله إله حذفت
الهمزة وعوضت عنها أداة التعريف فلزمت وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس يقع على كل
معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق كالنجم والصعق فهو قبل الحذف من الأعلام
الغالبة وبعده من الأعلام المختصة والرحمن الرحيم اسمان مشتقان من الرحمة على
طريقة المبالغة ورحمن أشد مبالغة من رحيم وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق
على هذا ولذلك قالوا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وقد تقرر أن زيادة البناء
تدل على زيادة المعنى وقال ابن الأنباري والزجاج إن الرحمن عبراني والرحيم عربي
وخالفهما غيرهما والرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عز وجل وأما قول
بني حنيفة في مسيلمة رحمن اليمامة فقال في الكشاف إنه باب من تعنتهم في كفرهم قال
أبو علي الفارسي الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم
إنما هو في جهة المؤمنين قال الله تعالى ) وكان بالمؤمنين رحيما ( وقد ورد في
فضلها أحاديث منها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه وابن خزيمة في كتاب البسملة
والبيهقي عن ابن عباس قال استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن بسم الله
الرحمن الرحيم وأخرج نحوه أبو عبيد وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا
وأخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال (
كان جبريل إذا جاءني بالوحي أول ما يلقى علي بسم الله الرحمن الرحيم وأخرج ابن أبي
حاتم في تفسيره والحاكم في المستدرك وصححه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس (
أن عثمان بن عفان سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن بسم الله الرحمن الرحيم
فقال هو اسم من أسماء الله وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين
وبياضها من القرب ) وأخرج ابن جرير وابن عدي في الكامل وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية
وابن عساكر في تاريخ دمشق والثعلبي بسند ضعيف جدا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب لتعلمه
فقال له المعلم اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال له عيسى وما بسم الله الرحمن
الرحيم قال المعلم لا أدري فقال له عيسى الباء بهاء الله والسين سناه والميم
مملكته والله إله الآلهة والرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة ) وفي
إسناده إسماعيل بن يحيى وهو كذاب وقد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات
وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر قال لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم هرب الغيم
إلى المشرق وسكنت الريح وهاج البحر وأصغت البهائم بآذانها ورجمت الشياطين من
السماء وحلف الله بعزته وجلاله أن لا تسمى على شيء إلا بارك فيه وأخرج
""""""
صفحة رقم 19 """"""
أبو نعيم والديلمي عن عائشة قالت لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم ضجت الجبال حتى
سمع أهل مكة دويها فقالوا سحر محمد الجبال فبعث الله دخانا حتى أظل على أهل مكة
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم موقنا
سبحت معه الجبال إلا أنه لا يسمع ذلك منها ) وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال قال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله له
بكل حرف أربعة آلاف حسنة ومحا عنه أربعة آلاف سيئة ورفع له أربعة آلاف درجة )
وأخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن علي قال قال رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ( بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب ) وهذه الأحاديث ينبغي البحث
عن اسانيدها والكلام عليها بما يتبين بعد البحث إن شاء الله وقد شرعت التسمية في
مواطن كثيرة قد بينها الشارع منها عند الوضوء وعند الذبيحة وعند الأكل وعند الجماع
وغير ذلك
الفاتحة
الفاتحة : ( 2 ) الحمد لله رب . . . . .
) الحمد لله ( الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري وبقيد الاختيار فارق
المدح فإنه يكون على الجميل وإن لم يكن الممدوح مختارا كمدح الرجل على جماله وقوته
وشجاعته وقال صاحب الكشاف إنهما أخوان والحمد أخص من الشكر موردا وأعم منه متعلقا
فمورد الحمد اللسان فقط ومتعلقه النعمة وغيرها ومورد الشكر اللسان والجنان
والأركان ومتعلقه النعمة وقيل إن مورد الحمد كمورد الشكر لأن كل ثناء باللسان لا
يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح ليس بحمد بل سخرية واستهزاء وأجيب بأن
اعتبار موافقة القلب والجوارح في الحمد لا يستلزم أن يكون موردا له بل شرطا وفرق
بين الشرط والشطر وتعريفه لاستغراق أفراد الحمد وأنها مختصة بالرب سبحانه على معنى
أن حمد غيره لا اعتداد به لأن المنعم هو الله عز وجل أو على أن حمده هو الفرد
الكامل فيكون الحصر إدعائيا ورجح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا
الاستغراق والصواب ما ذكرناه وقد جاء في الحديث ( اللهم لك الحمد كله ) وهو مرتفع
بالابتداء وخبره الظرف وهو لله وأصله النصب على المصدرية بإضمار فعله كسائر
المصادر التي تنصبها العرب فعدل عنه إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات
المستفاد من الجمل الاسمية دون الحدوث والتجديد اللذين تفيدهما الجمل الفعلية
واللام الداخلة على الإسم الشريف هي لام الاختصاص قال ابن جرير الحمد ثناء أثنى به
على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال قولوا الحمد لله ثم رجح
اتحاد الحمد والشكر مستدلا على ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب
يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر قال ابن كثير وفيه نظر لأنه اشتهر عند كثير
من العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة
والمتعدية والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان انتهى
ولا يخفى أن المرجع في هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من
العلماء المتأخرين فإن ذلك لا يرد على ابن جرير ولا تقوم به الحجة هذا إذا لم يثبت
للحمد حقيقة
""""""
صفحة رقم 20 """"""
الله جل ذكره شرعية فإن ثبتت وجب تقديمها وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال
قال عمر قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله فما الحمد لله فقال علي كلمة رضيها
لنفسه وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس أنه قال الحمد لله كلمة الشكر وإذا قال
العبد الحمد لله قال شكرني عبدي وروى هو وابن جرير عن ابن عباس أيضا أنه قال الحمد
لله هو الشكر لله والاستحذاء له والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك وروى
ابن جرير عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (
إذا قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك ) وأخرج عبدالرزاق في المصنف والحكيم
الترمذي في نوادر الأصول والخطابي في الغريب والبيهقي في الأدب والديلمي في مسند
الفردوس عن عبدالله ابن عمرو بن العاص عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه
قال ( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده ) وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
عن أبي عبدالرحمن الحبلي قال ( الصلاة شكر والصيام وكل خير تفعله شكر وأفضل الشكر
الحمد ) وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال ( سرقت ناقة
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لئن ردها الله علي لأشكرن ربي فرجعت فلما
رآها قال الحمد لله فانتظروا هل يحدث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صوما أو
صلاة فظنوا أنه نسي فقالوا يا رسول الله قد كنت قلت لئن ردها الله علي لأشكرن ربي
قال الم أقل الحمد لله )
فضل الحمد
وقد ورد في فضل الحمد أحاديث منها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبخاري
في الأدب المفرد عن الأسود بن سريع قال ( قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت
بها ربي تبارك وتعالى فقال أما إن ربك يحب الحمد ) وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي
وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن جابر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (
أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ) وأخرج ابن ماجة والبيهقي
بسند حسن عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أنعم الله على عبد
نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ ) وأخرج الحكيم الترمذي في
نوادر الأصول والقرطبي في تفسيره عن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لو
أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكان الحمد أفضل من
ذلك ) قال القرطبي معناه لكان إلهامه الحمد أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب
الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال قال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من عبد ينعم عليه بنعمة إلا كان الحمد أفضل
منها ) وأخرج عبدالرزاق في المصنف نحوه عن الحسن مرفوعا وأخرج مسلم والنسائي وأحمد
عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الطهور شطر
الإيمان والحمد لله تملأ الميزان ) الحديث وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي
وحسنه وابن مردويه عن رجل من بني سليم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال (
سبحان الله نصف الميزان والحمد لله تملأ الميزان والله أكبر تملأ ما بين السماء
والأرض والطهور نصف الإيمان والصوم نصف الصبر ) وأخرج الحكيم الترمذي عن عبدالله
بن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( التسبيح نصف الميزان والحمد
لله تملؤه ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه ) وأخرج البيهقي
عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( التأني من الله والعجلة من
الشيطان وما شيء أكثر معاذير من الله وما شيء أحب إلى الله من الحمد ) وأخرج ابن
شاهين في السنة والديلمي عن أبان بن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
( التوحيد
""""""
صفحة رقم 21 """"""
ثمن الجنة والحمد ثمن كل نعمة ويتقاسمون الجنة بأعمالهم ) وأخرج أهل السنن وابن
حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل آمر ذي
بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ) وأخرج ابن ماجة في سننه عن ابن عمر ( أن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حدثهم أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد
كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فلم يدر الملكان كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء
فقال يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله وهو أعلم بما قال
عبده ماذا قال عبدي قالا يا رب إنه قال لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم
سلطانك فقال الله لهما أكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني وأجزيه بها ) وأخرج مسلم
عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله ليرضى عن العبد أن
يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها )
( رب العالمين ) قال في الصحاح الرب اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا
بالإضافة وقد قالوه في الجاهلية للملك وقال في الكشاف الرب المالك ومنه قول صفوان
لأبي سفيان لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن ثم ذكر نحو
كلام الصحاح قال القرطبي في تفسيره والرب السيد ومنه قوله تعالى ) اذكرني عند ربك
( وفي الحديث ( أن تلد الأمة ربها ) والرب المصلح والمدبر والجابر والقائم قال
والرب معبود ومنه قوله الشاعر أرب يبول الثعلبان برأسه
لقد هان من بالت عليه الثعالب
و ) العالمين ( جمع العالم وهو كل موجود سوى الله تعالى قال قتادة وقيل أهل كل
زمان عالم قاله الحسين بن الفضل وقال ابن عباس العالمون الجن والإنس وقال الفراء
وأبو عبيد العالم عبارة عمن يعقل وهم أربعة أمم الإنس والجن والملائكة والشياطين
ولا يقال للبهائم عالم لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل حكى هذه الأقوال القرطبي
في تفسيره وذكر أدلتها وقال إن القول الأول أصح هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق
وموجود دليله قوله تعالى ) قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما
بينهما ( وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده كذا قال الزجاج وقال
العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة انتهى وعلى هذا يكون جمعه على هذه الصيغة
المختصة بالعقلاء تغليبا للعقلاء على غيرهم وقال في الكشاف ساغ ذلك لمعنى الوصفية
فيه وهي الدلالة على معنى العلم وقد أخرج ما تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأخرجه عبد بن
حميد وابن جرير عن مجاهد وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير وأخرج ابن جبير وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى ) رب العالمين ( قال إله الخلق كله السموات كلهن
ومن فيهن والأرضون كلهن ومن فيهن ومن بينهن مما يعلم ومما لا يعلم
الفاتحة : ( 3 ) الرحمن الرحيم
) الرحمن الرحيم ( قد تقدم تفسيرهما قال القرطبي وصف نفسه تعالى بعد رب العالمين
بأنه الرحمن الرحيم لأنه لما كان في اتصافه برب العالمين ترهيب قرنه بالرحمن
الرحيم لما تضمن من الترغيب ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه فيكون
أعون على طاعته وأمنه كما قال تعالى ) نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي
هو العذاب الأليم ( وقال ) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ( وفي صحيح مسلم عن
أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لو يعلم المؤمن ما عند الله
من العقوبة ما طمع في جنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من
جنته أحد ) انتهى وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله ) الحمد لله رب العالمين
( قال ما وصف من خلقه وفي قوله الرحمن الرحيم قال مدح نفسه
""""""
صفحة رقم 22 """"""
الفاتحة : ( 4 ) مالك يوم الدين
ثم ذكر بقية الفاتحة ) مالك يوم الدين ( قرئ ملك ومالك وملك بسكون اللام وملك
بصيغة الفعل وقد اختلف العلماء أيما أبلغ ملك أو مالك فقيل إن ملك أعم وأبلغ من
مالك إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه
حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قاله أبو عبيد والمبرد ورجحه الزمخشري وقيل مالك
أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم وقال أبو حاتم إن
مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك لأن المالك
من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا واختار هذا
القاضي أبو بكر بن العربي والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في
الآخر فالمالك يقدر على ما لا يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع
والهبة والعتق ونحوها والملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة
إلى تدبير الملك وحياطته ورعاية مصالح الرعية فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور
والملك أقوى من المالك في بعض الأمور والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه
أن الملك صفة لذاته والمالك صفة لفعله ويوم الدين يوم الجزاء من الرب سبحانه
لعباده كما قال ) وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك
نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ( وهذه الإضافة إلى الظرف على طريق الإتساع كقولهم
يا سارق الليلة أهل الدار ويوم الدين وإن كان متأخرا فقد يضاف اسم الفاعل وما في
معناه إلى المستقبل كقولك هذا ضارب زيدا غدا وقد أخرج الترمذي عن أم سلمة ( أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ ملك بغير ألف وأخرج نحوه ابن الأنباري عن
أنس وأخرج أحمد والترمذي عن أنس أيضا ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر
وعمر وعثمان كانوا يقرءون مالك باللف ) وأخرج نحوه سعيد ابن منصور عن ابن عمر
مرفوعا وأخرج نحوه أيضا وكيع في تفسيره وعبد بن حميد وأبو داود عن الزهري يرفعه
مرسلا وأخرجه أيضا عبدالرزاق في تفسيره وعبد بن حميد وأبو داود عن ابن المسيب
مرفوعا مرسلا وقد روى هذا من طرق كثيرة فهو أرجح من الأول وأخرج الحاكم وصححه عن
أبي هريرة ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ مالك يوم الدين ) وكذا
رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعا وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن
مسعود وناس من الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب وكذا رواه ابن جرير وابن
أبي حاتم عن ابن عباس وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال يوم
الدين يوم يدين الله العباد بأعمالهم
الفاتحة : ( 5 ) إياك نعبد وإياك . . . . .
) إياك نعبد وإياك نستعين ( قراءة السبعة وغيرهم بتشديد الياء وقرأ عمرو بن فايد
بتخفيفها مع الكسر وقرأ الفضل والرقاشي بفتح الهمزة وقرأ أبو السوار الغنوي ( هياك
) في الموضعين وهي لغة مشهورة والضمير المنفصل هو ( إيا ) وما يلحقه من الكاف
والهاء والياء هي حروف لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ولا محل لها من الإعراب كما
ذهب إليه الجمهور وتقديمه على الفعل لقصد الإختصاص وقيل للإهتمام والصواب أنه لهما
ولا تزاحم بين المقتضيات والمعنى نخصك بالعبادة ونخصك بالإستعانة لا نعبد غيرك ولا
نستعينه والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلل قال ابن كثير وفي الشرع عبارة عما
يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف وعدل عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الالتفات لأن
الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظا له كما
تقرر في علم المعاني والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه
وعن جنسه من العباد وقيل إن المقام لما كان عظيما لم يستقل به الواحد استقصارا
لنفسه واستصغارا لها فالمجيء بالنون لقصد
""""""
صفحة رقم 23 """"""
التواضع لا لتعظيم النفس وقدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى
الثانية وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب وإطلاق الاستعانة لقصد التعميم وقد
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله إياك نعبد يعني إياك نوحد ونخاف
يا ربنا لا غيرك وإياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها وحكى ابن كثير عن قتادة
أنه قال في إياك نعبد وإياك نستعين يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على
أمركم وفي صحيح مسلم من حديث المعلى بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال
حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال
مجدني عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل
فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) وأخرج أبو القاسم البغوي والباوردي معا في
معرفة الصحابة والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك عن أبي
طلحة قال ( كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزاة فلقي العدو فسمعته
يقول يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإيام نستعين قال فلقد رأيت الرجال تصرع فتضربها
الملائكة من بين يديها ومن خلفها )
الفاتحة : ( 6 ) اهدنا الصراط المستقيم
) اهدنا الصراط المستقيم ( قرأه الجمهور بالصاد وقرأ السراط بالسين والزراط بالزاي
والهداية قد يتعذر فعلها بنفسه كما هنا وكقوله ) وهديناه النجدين ( وقد يتعدى بإلى
كقوله ) اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ( ) فاهدوهم إلى صراط الجحيم ( ) وإنك لتهدي
إلى صراط مستقيم ( وقد يتعدى باللام كقوله ) الحمد لله الذي هدانا لهذا ( ) إن هذا
القرآن يهدي للتي هي أقوم ( قال الزمخشري أصله أن يتعدى باللام أو بإلى انتهى وهي
الإرشاد أو التوفيق أو الإلهام أو الدلالة وفرق كثير من المتأخرين بين معنى
المتعدي بنفسه وغير المتعدي فقالوا معنى الأول الدلالة والثاني الإيصال وطلب
الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى ) والذين اهتدوا زادهم هدى ( )
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( والصراط الطريق قال ابن جرير أجمعت الأمة من
أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه
وهو كذلك في لغة جميع العرب قال ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم
باستقامته والمعوج باعوجاجه وقد أخرج الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة (
أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ اهدنا الصراط المستقيم الصاد ) وأخرج
سعيد ابن منصور وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن ابن عباس ( أنه قرأ الصراط بالسين
) وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ السراط بالسين وأخرج أيضا عن حمزة
أنه كان يقرأ الزراط بالزاي قال الفراء هي لغة لعذرة وكلب وبني القين وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال ( اهدنا الصراط المستقيم يقول ألهمنا دينك الحق )
وأخرج ابن جرير عنه وابن المنذر نحوه وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر والحاكم وصححه عن جابر بن عبدالله أنه قال ( هو دين الإسلام وهو أوسع مما
بين السماء والأرض ) وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس وأخرج نحوه أيضا عن ابن
مسعود وناس من الصحابة وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر
وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن النواس بن سمعان
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ) وعلى
جنبتي
""""""
صفحة رقم 24 """"""
الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول
يا أيها الناس ادخوا الصراط جميعا ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد
الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه )
فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على
رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم قال ابن كثير
بعد إخراجه وهو إسناد حسن صحيح وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو بكر
الأنباري والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أنه قال ( هو كتاب الله
) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن عساكر عن
أبي العالية قال هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصاحباه من بعده وأخرج
الحاكم وصححه عن أبي العالية عن ابن عباس مثله وروى القرطبي عن الفضيل بن عياض أنه
قال الصراط المستقيم طريق الحج قال وهذا خاص والعموم أولى انتهى وجميع ما روى في
تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروي عن الفضيل يصدق بعضه على بعض فإن من اتبع
الإسلام أو القرآن أو النبي فقد اتبع الحق وقد ذكر ابن جرير نحو هذا فقال والذي هو
أولى بتأويل هذه الآية عندي معنيا به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من
أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل وذلك هو الصراط المستقيم لأن من وفق إليه ممن
أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق
الرسل والتمسك بالكتاب والعمل بما أمره الله به والإنزجار عما زجره عنه واتباع
منهاج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومنهاج الخلفاء الأربعة وكل عبد صالح وكل ذلك
من الصراط المستقيم انتهى
الفاتحة : ( 7 ) صراط الذين أنعمت . . . . .
) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( انتصب صراط على أنه بدل
من الأول وفائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير ويجوز أن يكون عطف بيان
وفائدته الإيضاح والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال )
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ( ) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (
وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام وغير المغضوب عليهم بدل من الذين أنعمت عليهم على
معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال أو صفة له على معنى أنهم
جمعوا بين النعمتين نعمة الإيمان والسلامة من ذلك وصح جعله صفة للمعرفة مع كون غير
لا تتعرف بالإضافة إلى المعارف لما فيها من الإبهام لأنها هنا غير مبهمة لاشتهار
المغايرة بين الجنسين والغضب في اللغة قال القرطبي الشدة ورجل غضوب أي شديد الخلق
والغضوب الحية الخبيثة لشدتها قال ومعنى الغضب في صفة الله إرادة العقوبة فهو صفة
ذاته أو نفس العقوبة ومنه الحديث ( إن الصدقة لتطفئ غضب الرب ) فهو صفة فعله قال
في الكشاف هو إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله
الملك إذا غضب على من تحت يده والفرق بين عليهم الأولى وعليهم الثانية أن الأولى
في محل نصب على المفعولية والثانية في محل رفع على النيابة عن الفاعل ولا في قوله
ولا الضالين تأكيد للنفي المفهوم من غير والضلال في لسان العرب قال القرطبي هو
الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق ومنه ضل اللبن في الماء أي غاب ومنه ) أئذا ضللنا
في الأرض ( أي غبنا بالموت وصرنا ترابا وأخرج وكيع وأبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد
بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ ) صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين ( وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد أن عبدالله بن الزبير
قرأ كذلك وأخرج
""""""
صفحة رقم 25 """"""
الأنباري عن الحسن أنه كان يقرأ ( عليهمي ) بكسر الهاء والميم وإثبات الياء وأخرج
ابن الأنباري عن الأعرج أنه كان يقرأ ( عليهمو ) بضم الهاء والميم وإلحاق الواو
وأخرج أيضا عن ابن كثير أنه كان يقرأ ( عليهمو ) بكسر الهاء وضم الميم مع إلحاق
الواو وأخرج أيضا عن أبي إسحاق أنه قرأ ( عليهم ) بضم الهاء والميم من غير إلحاق
واو وأخرج ابن أبي داود عن عكرمة والأسود أنهما كانا يقرآن كقراءة عمر السابقة
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) صراط الذين أنعمت عليهم (
يقول طريق من أنعمت عليهم من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين
الذين أطاعوك وعبدوك وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنهم المؤمنون وأخرج عبد بن حميد
عن الربيع بن أنس في قوله ) صراط الذين أنعمت عليهم ( قال النبيون ) غير المغضوب
عليهم ( قال اليهود ) ولا الضالين ( قال النصارى وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله
وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير مثله وأخرج عبدالرزاق وأحمد في مسنده وعبد بن حميد
وابن جرير والبغوي وابن المنذر وأبو الشيخ عن عبدالله ابن شقيق قال ( أخبرني من
سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بوادي القرى على فرس له وسأله رجل من
بني القين فقال من المغضوب عليهم يا رسول الله قال اليهود قال فمن الضالون قال
النصارى ) وأخرجه ابن مردويه عن عبدالله بن شقيق عن أبي ذر قال سألت رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) فذكره وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن عبدالله بن شقيق
قال ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحاصر أهل وادي القرى فقال له رجل )
إلى آخره ولم يذكر فيه أخبرني من سمع النبي كالأول وأخرجه البيهقي في الشعب عن
عبدالله بن شقيق عن رجل من بني القين عن ابن عم له أنه قال ( أتيت رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ) فذكره وأخرجه سفيان بن عيينة في تفسيره وسعيد بن منصور عن
إسماعيل بن أبي خالد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( المغضوب عليهم اليهود
والضالون النصارى ) وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ( إن المغضوب عليهم هم اليهود وإن الضالين النصارى ) وأخرج أحمد
وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه والطبراني عن الشريد قال ( مر بي رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على
ألية يدي فقال أتقعد قعدة المغضوب عليهم ) قال ابن كثير بعد ذكره لحديث عدي بن
حاتم وقد روى حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها انتهى والمصير إلى
هذا التفسير النبوي متعين وهو الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف قال ابن أبي
حاتم لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين
بالنصارى ويشهد لهذا التفسير النبوي آيات من القرآن قال الله تعالى في خطابه لبني
إسرائيل في سورة البقرة ) بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن
ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين
( وقال في المائدة ) قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب
عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل
( وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام
يطلبون الدين الحنيف قال اليهود إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب
الله فقال أنا من غضب الله أفر وقالت له النصارى إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى
تأخذ بنصيبك من سخط الله فقال لا أستطيعه فاستمر على فطرته وجانب عبادة الأوثان
فائدة في مشروعية التأمين بعد قراءة الفاتحة اعلم أن السنة الصحيحة الصريحة
الثابتة تواترا قد دلت على
""""""
صفحة رقم 26 """"""
ذلك فمن ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال ( سمعت رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال آمين مد بها
صوته ) ولأبي داود ( رفع بها صوته ) وقد حسنه الترمذي وأخرجه أيضا النسائي وابن
أبي شيبة وابن ماجة والحاكم وصححه وفي لفظ من حديثه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) (
قال رب اغفر لي آمين ) أخرجه الطبراني والبيهقي وفي لفظ أنه قال ( آمين ثلاث مرات
) أخرجه الطبراني وأخرج وكيع وابن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال ( لما أقرأ جبريل رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاتحة الكتاب فبلغ ولا الضالين قال قل آمين فقال آمين
) وأخرج ابن ماجة عن علي قال ( سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قال ولا
الضالين قال آمين ) وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي موسى قال قال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا قرأ ) يعني الإمام ( غير المغضوب عليهم
ولا الضالين فقولوا آمين يحبكم الله ) وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وأحمد وابن
أبي شيبة وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا أمن
الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) وأخرج
أحمد وابن ماجة والبيهقي بسند قال السيوطي صحيح عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) قال ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين ) وأخرج ابن
عدي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن اليهود قوم
حسد حسدوكم على ثلاثة إفشاء السلام وإقامة الصف وآمين ) وأخرج الطبراني في الأوسط
من حديث معاذ مثله وأخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عباس قال ( ما حسدتكم اليهود
على شيء ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين ) ووجه ضعفه أن في إسناده طلحة بن
عمرو وهو ضعيف وأخرج الديلمي عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (
من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ فاتحة الكتاب ثم قال آمين لم يبق ملك في
السماء مقرب إلا استغفر له ) وأخرج أبو داود عن بلال أنه قال ( يا رسول الله لا
تسبقني بآمين ) ومعنى آمين استجب قال القرطبي في تفسيره معنى آمين عند أكثر أهل
العلم اللهم استجب لنا وضع موضع الدعاء وقال في الصحاح معنى آمين كذلك فليكن وأخرج
جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس قال ( قلت يا رسول الله ما معنى آمين قال
رب افعل ) وأخرج الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله وأخرج وكيع وابن أبي شيبة في
المصنف عن هلال بن يساف ومجاهد قالا آمين اسم من أسماء الله وأخرج ابن أبي شيبة عن
حكيم بن جبير مثله وقال الترمذي معناه لا تخيب رجاءنا وفيه لغتان المد على وزن
فاعيل كياسين والقصر على وزن يمين قال الشاعر في المد يا رب لا تسلبني حبها أبدا
ويرحم الله عبدا قال آمينا
وقال آخر آمين آمين لا أرضى بواحدة
حتى أبلغها ألفين آمينا
قال الجوهري وتشديد الميم خطأ وروى عن الحسن وجعفر الصادق والحسين بن فضل التشديد
من أم إذا قصد أي نحن قاصدون نحوك حكى ذلك القرطبي قال الجوهري وهو مبني على الفتح
مثل أين وكيف لاجتماع الساكنين وتقول منه أمن فلان تأمينا وقد اختلف أهل العلم في
الجهر بها وفي أن الإمام يقولها أم لا وذلك مبين في مواطنه
""""""
صفحة رقم 27 """"""
S2
سورة البقرة
حول السورة
قال القرطبي في تفسير
سورة البقرة مدنية نزلت في مدد شتى وقيل هي أول سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى
) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ( فإنها آخر آية نزلت من السماء ونزلت يوم
النحر في حجة الوداع بمنى وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن انتهى وأخرج
أبو الضريس في فضائله وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ وابن مردويه والبيهقي
في دلائل النبوة من طرق عن ابن عباس قال نزلت بالمدينة سورة البقرة وأخرج ابن
مردويه عن عبدالله بن الزبير مثله وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن عكرمة قال
أول سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة
فضلها
وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه مسلم والترمذي وأحمد والبخاري في تاريخه
ومحمد بن نصر عن النواس بن سمعان قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول
( يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل
عمران ) قال وضرب لهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة أمثال ما نسيتهن
بعد قال ( كأنهما غمامتان أو كأنهما غيابتان أو كأنهما ظلتان سوداوان أو كأنهما
فرقان م من طير صواف تحاجان عن صاحبهما ) وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي ومحمد
بن نصر والحاكم وصححه عن بريدة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تعلموا
سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ثم سكت ساعة ثم قال
تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما
غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف ) قال ابن كثير وإسناده حسن على شرط مسلم
وأخرج نحوه أبو عبيد وأحمد وحميد بن زنجويه ومسلم وابن حبان والطبراني والحاكم
والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا وأخرج نحوه أيضا الطبراني وبو ذر الهروي بسند
ضعيف عن ابن عباس مرفوعا وأخرج نحوه أيضا البزار في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة
مرفوعا وأخرج مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) قال ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة
البقرة ) وأخرج أبو عبيد عن أنس نحوه مرفوعا وأخرج ابن عدي في الكامل وابن عساكر
في تاريخه عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن عبدالله بن
مغفل مرفوعا نحوه وأخرج النسائي والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود مرفوعا نحوه
وسنده ضعيف وأخرجه الدارمي والبيهقي والحاكم وصححه من حديثه بنحوه وأخرج أبو يعلى
وابن حبان والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال قال رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ( إن لكل شيء سناما وسنام القرآن سورة القرآن من قرأها في بيته نهارا
لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال )
وأخرج أحمد ومحمد بن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار أن رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) قال ( البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا
واستخرجت ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ( من تحت العرش فوصلت بها وأخرج البغوي
في معجم الصحابة وابن عساكر في تاريخه عن ربيعة الجرسي قال ( سئل رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) أي القرآن أفضل قال السورة التي يذكر فيها البقرة قيل فأي البقرة
أفضل قال آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش ) وأخرج أبو عبيد
وأحمد والبخاري في صحيحه تعليقا ومسلم والنسائي عن أسيد بن حضير قال ( بينما هو
يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت
الفرس فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس
""""""
صفحة رقم 28 """"""
فسكت فسكنت فانصرف إلى ابنه يحيى وكان قريبا منها فأشفق أن تصيبه فلما أخذه رفع
رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما
يراها فلما أصبح حدث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فقال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) أتدري ما ذاك قال لا يا رسول الله قال تلك الملائكة دنت لصوتك
ولو قرأت لأصبحت تنظر إليها الناس لا تتوارى منهم ) ولهذا الحديث ألفاظ وأخرج
الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال ( بعث
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعثا فاستقرأ كل رجل منهم ) يعني ما معه من
القرآن ( فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال ما معك يا فلان قال معي كذا وكذا وسورة
البقرة قال أمعك سورة البقرة قال نعم قال اذهب فأنت أميرهم ) وأخرج البيهقي في الدلائل
عن عثمان بن أبي العاص قال استعملني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أصغر
القوم الذين وفدوا عليه من ثقيف وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة وأخرج البيهقي في
الشعب بسند صحيح عن الصلصال بن الديهمس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال (
اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا ) قال ( ومن قرأ سورة البقرة في
ليلة توج بتاج في الجنة ) وأخرج أبو عبيد عن عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه
جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قيل
له ألم تر إلى ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح قال فلعله قرأ
سورة البقرة قال فسئل ثابت فقال قرأت سورة البقرة قال ابن كثير وهذا إسناد جيد إلا
أن فيه إبهاما ثم هو مرسل
وقد روى أئمة الحديث في فضائلها أحاديث كثيرة وآثارا عن الصحابة واسعة ومن فضائلها
ما هو خاص بآية الكرسي وما هو خاص بخواتم هذه السورة وقد سبق بعض ذلك وما هو في
فضلها وفضل آل عمران وقد سبق أيضا بعض من ذلك وما هو في فضل السبع الطوال كما أخرج
أبو عبيد عن واثلة بن الأسقع عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أعطيت السبع
مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزبور وفضلت
بالمفصل ) وفي إسناده سعيد بن بشير وفيه لين وقد رواه بسند آخر عن سعيد بن أبي
هلال وأخرج أيضا عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من أخذ السبع فهو
خير ) وقد رواه عنها أحمد في المسند باللفظ أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
قال ( من أخذ السبع الأول من القرآن فهو خير ) وأخرج أبو عبيد عن سعيد بن جبير في
قوله تعالى ) ولقد آتيناك سبعا من المثاني ( قال هي السبع الطوال البقرة وآل عمران
والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس وبذلك قال مجاهد ومكحول وعطية بن قيس
وأبو محمد القاري شداد بن عبدالله ويحيى بن الحارث الذماري
وقد ورد ما يدل على كراهة أن يقول القائل سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة
النساء وكذا القرآن كله فأخرج ابن الضريس والطبراني في الأوسط وابن مردويه
والبيهقي في الشعب بسند ضعيف عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (
لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله ولكن
قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن
كله ) قال ابن كثير هذا حديث غريب لا يصح رفعه وفي إسناده يحيى بن ميمون الخواص
وهو ضعيف الرواية لا يحتج به وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن ابن عمر قال (
لا تقولوا سورة البقرة ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة ) وقد روى عن
جماعة من الصحابة خلاف هذا فثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن
الوادي فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة
البقرة وأخرج
""""""
صفحة رقم 29 """"""
ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأهل السنن والحاكم وصححه عن حذيفة قال ( صليت مع رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة من رمضان فافتتح البقرة فقلت يصلي بها في ركعة
ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا ) الحديث وأخرج أحمد وابن
الضريس والبيهقي عن عائشة قالت ( كنت أقوم مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في
الليل فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء ) وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل
والنسائي والبيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال ( قمت مع رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف ) الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
البقرة 1
البقرة : ( 1 ) الم
) الم ( قال القرطبي في تفسيره اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور
فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين هي سر الله في القرآن ولله في كل
كتاب من كتبه سر فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ولا نحب أن نتكلم فيها
ولكن نؤمن بها وتمد كما جاءت وروى هذا القول عن أبي بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب
قال وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا الحروف المقطعة
من المكتوم الذي لا يفسر وقال أبو حاتم لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل
السور ولا ندري ما أراد الله عز وجل قال وقال جمع من العلماء كثير بل نحب أن نتكم
فيها ونلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها واختلفوا في ذلك على
أقوال عديدة فروى عن ابن عباس وعلي أيضا أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله
الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها وقال قطرب والفراء وغيرهما هي إشارة إلى حروف
الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي بناء
كلامهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم قال قطرب
كان ينفرون عند استماع القرآن فلا نزل الم والمص استنكروا هذا اللفظ فلما أنصتوا
له ( صلى الله عليه وسلم ) أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم
ويقيم الحجة عليهم وقال قوم روى أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة ) وقال
الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ( فأنزلها استغربوها فيفتحون
أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة وقال جماعة هي حروف دالة على أسماء
أخذت منها وحذفت بقيتها كقول ابن عباس وغيره الألف من الله واللام من جبريل والميم
من محمد وذهب إلى هذا الزجاج فقال أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى وقد تكلمت
العرب بالحروف المقطعة كقوله فقلت لها قفي فقالت قاف أي وقفت وفي الحديث ( من أعان
على قتل مسلم بشطر كلمة ) قال شقيق هو أن يقول في اقتل اق كما قال ( صلى الله عليه
وسلم ) ( كفى بالسيف شا ) أي شافيا وفي نسخة شاهدا وقال زيد بن أسلم هي أسماء
للسور وقال الكلبي هي أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه ومن أدق ما
أبرزه المتكلمون في معاني الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف فإنه قال واعلم أنك
إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي
حروف المعجم أربعة عشر سواء وهي الألف واللام والميم والصاد والراد والكاف والهاء
والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد
حروف المعجم ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف
بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ومن
المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون
ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء
""""""
صفحة رقم 30 """"""
والقاف ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء
والياء والنون ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء ومن المنفتحة نصفها الألف واللام
والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون ومن
المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم
والراء والكاف والهاء والتاء والعين والسين والحاء والنون ومن حروف القلقلة نصفها
القاف والطاء ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من
هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته وقد
علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته
فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما
ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم وما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف
المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم أن الألف واللام لما تكاثر وقوعها فيها جاءتا
في معظم هذه الفواتح مكررتين وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت
ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر انتهى وأقول هذا
التدقيق لا يأتي بفائدة يعتد بها وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة
والتبكيت كما قال فهذا متيسر بأن يقال لهم هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون
بها ليس هو من حروف مغايرة لها فيكون هذا تبكيتا وإلزاما يفهمه كل سامع منهم من
دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة فإن هذا مع ما فيه
من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح هو أيضا مما لا
يفهمه أحد من السامعين ولا يتعقل شيئا منه فضلا عن أن يكون تبكيتا له وإلزاما
للحجة أيا كان فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه ولم يفهم السامع هذا ولا ذكر
أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ فهمه
إلى بعض هذا فضلا عن كله ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي
تركبت لغة العرب منها وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة
بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهلي ولا إسلامي ولا مقر ولا منكر ولا
مسلم ولا معارض ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الرب سبحانه الذي أنزل كتابه
للإرشاد إلى شرائعه والهداية به وهب أن هذه صناعة عجيبة ونكتة غريبة فليس ذلك مما
يتصف بفصاحة ولا بلاغة حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح وذلك لأن هذه الحروف
الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين وغاية ما هناك
أنها من جنس حروف كلامهم ولا مدخل لذلك فيما ذكر وأيضا لو فرض أنها كلمات متركبة
بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا
بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية وليس ذلك
من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر بل من عكسهما وضد رسمهما وإذا عرفت هذا فاعلم
أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازما بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل فقد
غلط أقبح الغلط وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها
به راجعا إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك
وإذا سمعه السامع منهم كان معدودا عنده من الرطانة ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون
على أحرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن
تقدمه ما يدل عليه ويفيد معناه بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدم ذكره ومن هذا
القبيل ما يقع منهم من الترخيم وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا
وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذ إلا
أحد امرين
الأول التفسير بمحض الرأي الذي ورد
""""""
صفحة رقم 31 """"""
النهي عنه والوعيد عليه وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصد عنه والتنكب عن طريقه
وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به ويضعون
حماقات أنظارهم وخزعبلات أفكارهم عليه
الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع وهذا هو المهيع الواضح والسبيل القويم بل
الجادة التي ما سواها مردوم والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم فمن وجد شيئا من
هذا فغير ملوم أن يقول بملء فيه ويتكلم بما وصل إليه علمه ومن لم يبلغه شيء من ذلك
فليقل لا أدري أو الله أعلم بمراده فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة
الوقوف على علمه مع كونه ألفاظا عربية وتراكيب مفهومة وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع
الذين في قلوبهم زيغ فكيف بما نحن بصدده فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه
المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلا ولكلام العرب فيه مدخلا فكيف وهو خارج عن
ذلك على كل التقدير وانظر كيف فهم اليهود عند سماع الم فإنهم لما لم يجدوها على
نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي
يجعلونه لها كما أخرج ابن إسحاق والبخاري في تاريخه وابن جرير بسند ضعيف عن ابن
عباس عن جابر بن عبدالله قال ( مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ) الم ذلك الكتاب لا ريب ( فأتى
أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما
أنزل عليه ) الم ذلك الكتاب ( فقال أنت سمعته فقال نعم فمشى حيي في أولئك النفر
إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل
عليك ) الم ذلك الكتاب ( قال بلى قالوا أجاءك بهذا جبريل من عند الله قال نعم
قالوا لقد بعث الله قبلك الأنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل
أمته غيرك فقال حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه الألف واحد واللام ثلاثون والميم
أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه واجل أمته إحدى
وسبعون سنة ثم أقبل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا محمد هل مع هذا
غيره قال نعم قال وما ذاك قال ) المص ( قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام
ثلاون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وستون ومائة سنة هل مع هذا يا محمد
غيره قال نعم قال وما ذاك قال ) الر ( قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام
ثلاثون والراء مائتان هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان فهل مع هذا غيره قال نعم )
المر ( قال فهذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء
مائتان فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان ثم قال لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما
ندري قليلا أعطيت أم كثيرا ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار
ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون
ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة فقالوا لقد تشابه
علينا أمره فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم ) هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات
محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر
المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء وتأمل أي موضع أحق
بالبيان من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من هذا الموضع فإن هؤلاء الملاعين قد
جعلوا ما فهموه عند سماع ) الم ذلك الكتاب ( من ذلك العدد موجبا للتثبيط عن
الإجابة له والدخول في شريعته فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم لدفع رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك
على من معهم
فإن قلت هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به قلت لا أعلم أن
رسول الله
""""""
صفحة رقم 32 """"""
( صلى الله عليه وسلم ) تكلم في شيء من معانيها بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد
حروفها فأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وصححة والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة
والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) وله طرق
عن ابن مسعود وأخرج ابن أبي شيبة والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه
مرفوعا فإن قلت هل روى عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما
تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعلي قلت قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب
الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال الم حرف اشتقت من حروف اسم الله وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله آلم وحم ون قال اسم مقطع
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء
عن ابن عباس أيضا في وقوله الم والمص والر والمر وكهيعص وطه وطسم وطس ويس وص وحم
وق ون قال هو قسم أقسمه الله وهو من أسماء الله وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في
قوله الم قال هي اسم الله الأعظم وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله الم
قال ألف مفتاح اسمه الله ولام مفتاح اسمه لطيف وميم مفتاح اسمه مجيد وقد روى نحو
هذه التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسدي وقتادة ومجاهد
والحسن فإن قلت هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة قال في تفسير شيء من هذه الفواتح
قولا صح إسناده إليه قلت لا لما قدمنا إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قلت هذا مما لا مجال للإجتهاد فيه ولا مدخل
للغة العرب فلم لا يكون له حكم الرفع قلت تنزيل هذا منزلة المرفوع وإن قال به
طائفة من أهل الأصول وغيرهم فليس مما ينشرح له صدور المنصفين ولا سيما إذا كان في
مثل هذا المقام وهو التفسير لكلام الله سبحانه فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا
برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه
فيما لا مجال فيه للإجتهاد وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوغا للوقوع في خطر الوعيد
الشديد على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه كما تجده كثيرا
في تفاسيرهم المنقولة عنهم ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه ثم ها هنا مانع آخر
وهو أن المروي عن الصحابة في هذا مختلف متناقض فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر
كان تحكما لا وجه له وإن عملنا بالجميع كان عملا بما هو مختلف متناقض ولا يجوز ثم
ها هنا مانع غير هذا المانع وهو أنه لو كان شيء لما قالوه مأخوذا عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه فلما اختلفوا في
هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم لو كان عندهم شيء
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا لما تركوا حكياته عنه ورفعه إليه لا سيما
عند اختلافهم واضطراب اقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا
مدخل لها والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأمة أن لا يتكلم
بشيء من ذلك مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا ولا
تهتدي إليها أفهامنا وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه وسيأتي لنا عند
تفسير قوله تعالى ) منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ( كلام طويل
الذيول وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول
""""""
صفحة رقم 33 """"""
البقرة 2
البقرة : ( 2 ) ذلك الكتاب لا . . . . .
الإشارة بقوله ذلك إلى الكتاب المذكور بعده قال ابن جرير قال ابن عباس ) ذلك
الكتاب ( هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدى ومقاتل وزيد بن
أسلم وابن جريج وحكاه البخاري عن أبي عبيدة والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد
الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا أنني أنا ذلكا
أي أنا هذا ومنه قوله تعالى ) ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ( ) وتلك
حجتنا آتيناها إبراهيم ( ) تلك آيات الله نتلوها عليك ( ) ذلكم حكم الله يحكم
بينكم ( وقيل إن الإشارة إلى غائب واختلف في ذلك الغائب فقيل هو الكتاب الذي كتب
على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق ) لا ريب فيه ( أي لا مبدل له وقيل
ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل أن رحمته سبقت غضبه كما في صحيح مسلم
عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما قضى الله الخلق كتب
في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي ) وفي رواية ( سبقت ) وقيل
الإشارة إلى ما قد نزل بمكة وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل وقيل إشارة إلى قوله
قبله الم ورجحه الزمخشري وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه
القرطبي وارجحها ما صدرناه واسم الإشارة مبتدأ والكتاب صفته والخبر لا ريب فيه ومن
جوز الابتداء بالم جعل ذلك مبتدأ ثانيا وخبره الكتاب أو هو صفته والخبر لا ريب فيه
والجملة خبر المبتدأ ويجوز أن يكون المبتدأ مقدرا وخبره الم وما بعده والريب مصدر
وهو قلق النفس واضطرابها وقيل إن الريب الشك قال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذا
خلافا وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة حكى ذلك القرطبي ومعنى هذا النفي العام
أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحا يقوم مقام البرهان المقتضي لكونه لا
ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه والوقف على فيه هو المشهور وقد روى عن نافع
وعاصم الوقف على لا ريب قال في الكشاف ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا ونظيره قوله
تعالى ) قالوا لا ضير ( وقول العرب لا بأس وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز والتقدير
لا ريب فيه فيه هدى والهدى مصدر قال الزمخشري وهو الدلالة الموصلة إلى البغية
بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور
قبله على ما سبق قال القرطبي الهدى هديان هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل
وأتباعهم قال الله تعالى ) ولكل قوم هاد ( وقال ) وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (
فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه وتفرد سبحانه بالهدى الذي
معناه التأييد والتوفيق فقال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنك لا تهدي من أحببت
( فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ومنه قوله تعالى ) أولئك على
هدى من ربهم ( وقوله ) ولكن الله يهدي من يشاء ( انتهى والمتقين من ثبتت لهم
التقوى قال ابن فارس واصلها في اللغة قلة الكلام وقال في الكشاف المتقي في اللغة
اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى والوقاية الصيانة ومنه فرس واق وهذه الدابة تقي من
وجارها إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء
يؤلمه وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك
انتهى وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن الكتاب القرآن لا ريب فيه لا
شك فيه وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ( لا ريب فيه
) قال لا شك فيه وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال الريب الشك
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله وكذا ابن جرير عن مجاهد وأخرج ابن جرير عن ابن
مسعود في قوله ) هدى للمتقين ( قال نور للمتقين وهم المؤمنون وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير
""""""
صفحة رقم 34 """"""
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) هدى للمتقين ( أي الذين يحذرون من الله
عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق مما جاء منه وأخرج ابن
أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له من المتقون فقال قوم اتقوا الشرك وعبادة
الأوثان وأخلصوا لله العبادة وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلا قال له ما
التقوى قال هل وجدت طريقا ذا شوك قال نعم قال فكيف صنعت قال إذا رأيت الشوك عدلت
عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال ذاك التقوى وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال
تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه
حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام وقد روي نحو ما قاله أبو
الدرداء عن جماعة من التابعين وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه
والترمذي وحسنة وابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية
السعدي قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يبلغ العبد أن يكون من
المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس ) فالمصير إلى ما افاده هذا
الحديث واجب ويكون هذا معنى شرعيا للمتقي أخص من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف
زاعما أنه المعنى الشرعي
3 ) الذين يؤمنون بالغيب (
البقرة : ( 3 ) الذين يؤمنون بالغيب . . . . .
هو وصف للمتقين كاشف والإيمان في اللغة التصديق وفي الشرع ما سيأتي والغيب في كلام
العرب كل ما غاب عنك قال القرطبي واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا فقالت فرقة
الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه وضعفه ابن العربي وقال آخرون القضاء والقدر
وقال آخرون القرآن وما فيه من الغيوب وقال آخرون الغيب كل ما أخبر به الرسول مما
لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان
والجنة والنار قال ابن عطية وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها قال
وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال للنبي ( صلى الله عليه
وسلم ) ( فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت ) انتهى وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ ( أن
تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره )
الآيات الواردة في تفسير الآية
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن
تويلة بنت أسلم قالت ( صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد
إيليا فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد
استقبل البيت فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فصلينا السجدتين
الباقتين ونحن مستقبلون البيت الحرام فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال
أولئك قوم آمنوا بالغيب ) وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب
قال ( كنت جالسا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أنبئوني بأفضل أهل الإيمان
إيمانا فقالوا يا رسول الله الملائكة قال هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم
الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله
برسالته والنبوة قال هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي
أنزلهم بها قالوا يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء قال هم كذلك
وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة قالوا فمن يا رسول الله قال أقوام في أصلاب
الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني يجدون الورق المعلق
فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا ) وفي إسناده محمد بن أبي حميد
وفيه ضعف وأخرج الحسن بن
""""""
صفحة رقم 35 """"""
عرفة في حزبه المشهور والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر نحو الحديث الأول وفي إسناده المغيرة بن
قيس البصري وهو منكر الحديث وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا والإسماعيلي
عن أبي هريرة مرفوعا أيضا والبزار عن أنس مرفوعا وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن
عوف بن مالك قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا ليتني قد لقيت إخواني
قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال بلى ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي
إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم فيا لتني قد لقيت إخواني ) وأخرج نحوه ابن
عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس وفي إسناده أبو هدبة وهو كذاب وزاد فيه (
ثم قرا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة (
الآية ) وأخرج أحمد والدارمي والبارودي وابن قانع معا في معجم الصحابة والبخاري في
تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال ( قلت يا رسول الله هل من قوم
أعظم منا اجرا آمنا بك واتبعناك قال ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم
يأتيكم بالوحي من السماء بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين
فيؤمنون بي ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا ) وأخرج أحمد وابن أبي شيبة
والحاكم عن أبي عبدالرحمن الجهني قال ( بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) إذ طلع راكبان فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كنديان أو مذحجيان
حتى أتيا فإذا رجلان من مذحج فدنا أحدهما ليبايعه فلما أخذ بيده قال يا رسول الله
أرأيت من جاءك فآمن بك واتبعك وصدقك فماذا له قال طوبى له فمسح على زنده وانصرف ثم
جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك
ولم يرك قال طوبى له ثم طوبى له ثم مسح على زنده وانصرف ) وأخرج الطيالسي وأحمد
والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ( طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبي لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات
) وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد ( أن رجلا قال يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن
بك قال طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني ) وأخرج
الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث
أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدم وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور
وأحمد ابن منيع في مسنده وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم وصححه عن ابن مسعود
أنه قال والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ ) الم ذلك الكتاب
لا ريب فيه ( إلى قوله ) المفلحون ( وللتابعين أقوال والراجح ما تقدم من الإيمان
الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا قال ابن جرير والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان
بالغيب قولا واعتقادا وعملا قال وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق
القول بالعمل والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار
بالفعل وقال ابن كثير إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا
هكذا ذهب إليه اكثير الأئمة بل قد حكاه الشافي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد
إجماعا أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وقد ورد فيه آيات كثيرة انتهى
3 ) ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (
هو معطوف على يؤمنو والإقامة في الأصل الدوام والثبات يقال قام الشيء أي دام وثبت
وليس من القيام على الرجل وإنما هو من قولك قام الحق أي ظهر وثبت قال الشاعر وقامت
الحرب بنا على ساق
وقال آخر وإذا يقال أقيموا لم تبرحوا
حتى تقيم الخيل سوق طعان
""""""
صفحة رقم 36 """"""
وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها والصلاة أصلها في اللغة
الدعاء من صلى يصلي إذا دعا وقد ذكر هذا الجوهري وغيره وقال قوم هي مأخوذة من
الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه
يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوي السابق فاشتقت منه الصلاة لأنها ثانية للإيمان
فشبهت بالمصلى من الخيل وإما لأن الراكع يثني صلويه والصلا مغرز الذنب من الفرس
والإثنان صلوان والمصلى تالي السابق لأن رأسه عند صلوه ذكر هذا القرطبي في تفسيره
وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف هذا المعنى اللغوي وأما المعنى الشرعي فهو هذه
الصلاة التي هي ذات الأركان والأذكار وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة على أصلها
اللغوي أو موضوعة وضعا شرعيا ابتدائيا فقيل بالأول وإنما جاء الشرع بزيادات هي
الشروط والفروض الثابتة فيها وقال قوم بالثاني والرزق عند الجمهور ما صلح للإنتفاع
به حلالا كان أو حراما خلافا للمعتزلة فقالوا إن الحرام ليس برزق وللبحث في هذه المسألة
موضع غير هذا والإنفاق إخراج المال من اليد وفي المجيء بمن التبعيضية ههنا نكتة
سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق عن
ابن عباس في قوله ) يقيمون الصلاة ( قال الصلوات الخمس ) ومما رزقناهم ينفقون (
قال زكاة أموالهم وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن إقامة الصلاة المحافظة على
مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها ) ومما رزقناهم ينفقون ( قال أنفقوا في فرائض
الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله ) ومما رزقناهم ينفقون ( قال هي نفقة الرجل
على أهله وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله
عز وجل على قدر ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة هن الناسخات
المبينات واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات وهو الحق من غير فرق
بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنفل وعدم التصريح بنوع من الأنواع
التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتم إشعار بالتعميم
البقرة 4
البقرة : ( 4 ) والذين يؤمنون بما . . . . .
قيل هم مؤمنو أهل الكتاب فإنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على محمد ( صلى
الله عليه وسلم ) وما انزله على من قبله وفيهم نزلت وقد رجح هذا ابن جرير ونقله
السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة واستشهد له ابن جرير
بقوله تعالى ) وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم (
وبقوله تعالى ) الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا
آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين ( الآية
والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب وقيل الآيتان جميعا في المؤمنين على العموم
وعلى هذا فهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة ويجوز أن تكون
مرفوعة على الاستئناف ويجوز أن تكون معطوفة على المتقين فيكون التقدير هدى للمتقين
وللذين يؤمنون بما أنزل إليك والمراد بما أنزل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
هو القرآن وما أنزل من قبله هو الكتب السالفة والإيقان إيقان العلم بانتفاء الشك
والشبهة عنه قاله في الكشاف والمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة
من دون شك والآخرة تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار كما في قوله
تعالى ) تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ( وفي
تقديم الظرف مع بناء
""""""
صفحة رقم 37 """"""
الفعل على الضمير المذكور إشعار بالحصر وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان
ورأسه ليس بمستأهل للإيقان به والقطع بوقوعه وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ
ذاك إلا البعض لا الكل تغليبا للموجود على ما لم يوجد أو تنبيها على تحقق الوقوع
كأنه بمنزلة النازل قبل نزوله وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله تعالى ) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ( أي يصدقونك
بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما
جاءوهم به من ربهم ) وبالآخرة هم يوقنون ( إيمانا بالبعث والقيامة والجنة والنار
والحساب والميزان أي لا هؤلاء الذي يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما
جاء من ربك وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه
والحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفا لمؤمني
أهل الكتاب ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك وقد
ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية فمن ذلك قوله تعالى )
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي
أنزل من قبل ( وكقوله ) وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ( وقوله ) آمن
الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق
بين أحد من رسله ( وقال ) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم (
سورة البقرة 5
البقرة : ( 5 ) أولئك على هدى . . . . .
هذا كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى
والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل ) أولئك على هدى
( ويمكن أن يكون هذا خبرا عن الذين يؤمنون بالغيب إلخ فيكون متصلا بما قبله قال في
الكشاف ومعنى الاستعلاء في قوله ) على هدى ( مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه
وتمسكهم به شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونحوه هو على الحق وعلى الباطل
وقد صرحوا بذلك في قوله جعل الغواية مركبا وامتطى الجهل واقتعد عارب الهوى انتهى
وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام واشتهر الخلاف في ذلك بين
المحقق السعد والمحقق الشريف واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين وقد جمعت
في ذلك رسالة سميتها [ الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف ]
فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام قال
ابن جرير إن معنى ) أولئك على هدى من ربهم ( على نور من ربهم وبرهان وإستقامة
وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم و ) المفلحون ( أي المنجحون المدركون ما
طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله هذا معنى كلامه والفلاح أصله
في اللغة الشق والقطع قاله أبو عبيد ويقال الذي شقت شفته أفلح ومنه سمى الأكار
فلاحا لأنه شق الأرض بالحرث فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه قال
القرطبي وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضا في اللغة فمعنى ) أولئك هم
المفلحون ( الفائزون بالجنة والباقون وقال في الكشاف المفلح الفائز بالبغية كأنه
الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه انتهى وقد استعمل الفلاح في السحور
ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود ( حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ) قلت وما الفلاح قال السحور فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء
الصوم فلهذا سمي فلاحا وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أن كلا من
""""""
صفحة رقم 38 """"""
الهدى والفلاح المستقل بتميزهم به عن غيرهم بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزا على
حياله وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره وقد روى
السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس
من الصحابة أن الذي يؤمنون بالغيب هم المؤمنون من العرب الذين يؤمنون بما أنزل إلى
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل إلى من قبله هم والمؤمنون من أهل
الكتاب ثم جمع الفريقين فقال ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( وقد
قدمنا الإشارة إلى هذا وإلى ما هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية
والربيع بن أنس وقتادة وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) قال ( قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن
نيأس أو كما قال فقال ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار قالوا بلى يا رسول الله
قال ) الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( إلى قوله ) المفلحون ( هؤلاء أهل
الجنة قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء ثم قال ) إن الذين كفروا سواء عليهم ( إلى
قوله ) عظيم ( هؤلاء أهل النار قالوا ألسنا هم يا رسول الله قال أجل )
وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث منها ما أخرجه عبدالله بن أحمد في زوائد
المسند والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب قال ( كنت عند النبي ( صلى الله عليه وسلم
) فجاء أعرابي فقال يا نبي الله إن لي أخا وبه وجع فقال وما وجعه قال به لمم قال
فائتني به فوضعه بين يديه فعوذه النبي بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة
البقرة وهاتين الآيتين ) وإلهكم إله واحد ( وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة
البقرة وآية من آل عمران ) شهد الله أنه لا إله إلا هو ( وآية من الأعراف ) إن
ربكم الله ( وآخر سورة المؤمنين ) فتعالى الله الملك الحق ( وآية من سورة الجن )
وأنه تعالى جد ربنا ( وعشر آيات من أول الصافات وثلاث آيات من آخر سورة الحشر وقل
هو الله أحد والمعوذتين فقام الرجل كأنه لم يشتك قط ) وأخرج نحوه ابن السني في عمل
اليوم والليلة من طريق عبدالرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبي مثله وأخرج الدارمي
وابن الضريس عن ابن مسعود قال من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة وآية الكرسي
وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثا من آخر سورة البقرة لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان
ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق وأخرج الدارمي وابن
المنذر والطبراني عنه قال من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك
البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث
خواتمها أولها ) لله ما في السماوات ( ) وأخرج سعيد بن منصور والدارمي والبيهقي عن
المغيرة بن سبيع وكان من أصحاب عبدالله بن مسعود بنحوه وأخرج الطبراني والبيهقي عن
ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا مات أحدكم فلا تحبسوه
واسرعوا به إلى قبره وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة
) وقد ورد في ذلك غير هذا
البقرة 6 7
البقرة : ( 6 ) إن الذين كفروا . . . . .
ذكر سبحانه فريق الشر بعد الفراغ من ذكر فريق الخير قاطعا لهذا الكلام عن الكلام
الأول معنونا له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم وأنه لا يترتب
عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان وأن وجود ذلك كعدمه وسواء اسم بمعنى الاستواء
وصف به كما يوصف بالمصادر والهمزة وأم مجردتان لمعنى
""""""
صفحة رقم 39 """"""
الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام وصح الابتداء بالفعل والإخبار
عنه بقوله سواء هجرا لجانب اللفظ إلى جانب المعنى كأنه قال الإنذار وعدمه سواء
كقولهم تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي سماعك وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية
قال الشاعر في ليلة كفر النجوم غمامها
أي سترها ومنه سمى الكافر كافرا لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان
والإنذار الإبلاغ والإعلام قال القرطبي واختلف العلماء في تأويل هذه الاية فقيل هي
عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب وسبق في علم الله أنه يموت على
كفره أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحدا وقال
ابن عباس والكلبي نزلت في رؤساء اليهود حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما وقال
الربيع بن أنس نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب والأول أصح فإن من عين أحدا
فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى وقوله ) لا يؤمنون ( خبر مبتدأ
محذوف أي هم لا يؤمنون وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل هؤلاء
الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم فقيل لا يؤمنون أي هم لا
يؤمنون وقال في الكشاف إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى أو خبر لأن والجملة قبلها
اعتراض انتهى والأولى ما ذكرناه لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم
وأنه لا يجدي شيئا بل بمنزلة العدم فهذه الجملة هي التي وقعت خبرا لأن وما بعدها
من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي وقال
ابن كيسان إن خبر إن سواء وما بعده يقوم مقام الصلة وقال محمد ابن يزيد المبرد
سواء رفع بالابتداء وخبره أأنذرتهم أم لم تنذرهم والجملة خبر إن
البقرة : ( 7 ) ختم الله على . . . . .
والختم مصدر ختمت الشيء ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء
ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره
والغشاوة الغطاء ومنه غاشية السرج والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا
الحسيان أي لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها والأسماع غير مؤدية لما
يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم والأبصار غير مهدية للنظر في
مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختما حسيا والمستوثق
منها استيثاقا حقيقيا والمغطاة بغطاء مدرك استعارة أو تمثيلا وإسناد الختم إلى
الله قد احتج به أهل السنة على المعتزلة وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب
الكشاف والكلام على مثل هذا متقرر في مواطنه
وقد اختلف في قوله تعالى ) وعلى سمعهم ( هل هو داخل في حكم الختم فيكون معطوفا على
القلوب أو في حكم التغشية فقيل إن الوقف على قوله ) وعلى سمعهم ( تام وما بعده
كلام مستقل فيكون الطبع على القلوب والأسماع والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة
وقد قرئ ) غشاوة ( بالنصب قال ابن جرير يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره وجعل
على أبصارهم غشاوة ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل ) وعلى سمعهم ( كقوله
تعالى ) وحور عين ( وقول الشاعر
علفتها تبنا وماء باردا
وإنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار لأنه مصدر يقع على القليل والكثير والعذاب
هو ما يؤلم وهو مأخوذ من الحبس والمنع يقال في اللغة أعذبه عن كذا حبسه ومنعه ومنه
عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه والبيهقي عن ابن
عباس في قوله ) سواء عليهم أأنذرتهم ( قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق
له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في
الذكر الأول وأخرج
""""""
صفحة رقم 40 """"""
ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا في تفسير الآية أنهم قد كفروا
بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فكيف يسمعون منك انذارا وتحذيرا
وقد كفروا بما عندهم من علمك ) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة
( وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) إن الذين كفروا
( قال نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية )
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ( قال فهم الذين قتلوا يوم بدر ولم يدخل
القادة في الإسلام إلا رجلان أبو سفيان والحكم بن العاص وأخرج ابن المنذر عن السدي
في قوله ) أأنذرتهم أم لم تنذرهم ( قال أوعظتهم أم لم تعظهم وأخرج عبد بن حميد عن
قتادة في هذه الآية قال أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم فختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال الختم على قلوبهم وعلى سمعهم
والغشاوة على أبصارهم وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون وجعل على أبصارهم يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون
وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال الختم على
القلب والسمع والغشاوة على البصر قال الله تعالى ) فإن يشأ الله يختم على قلبك (
وقال ) وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ( قال ابن جرير في معنى الختم
والحق عندي في ذلك ما صح نظيره عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ذكر إسنادا
متصلا بأبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن المؤمن إذا أذنب
ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تغلق
قلبه ) فذلك الران الذي قال الله ) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( ) وقد
رواه من هذا الوجه الترمذي وصححه والنسائي ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها
حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع فلا يكون اليها مسلك ولا للكفر منها مخلص
فذلك هو الختم الذي أذكره الله في قوله ) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ( نظير
الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها
إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على
قولبهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها
البقرة 8 9
البقرة : ( 8 ) ومن الناس من . . . . .
ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص ثم ذكر
ثالثا المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين بل صاروا فرقة ثالثة لأنهم
وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى وفي الباطن الطائفة الثانية ومع ذلك فهم أهل
الدرك الأسفل من النار وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفا وهو من النوس وهو الحركة
يقال ناس ينوس أي تحرك وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه واللام
الداخلة عليه للجنس ومن تبعضية أي بعض الناس ومن موصوفة أي ومن الناس ناس يقول
والمراد باليوم الآخر الوقت الذي لا ينقطع بل هو دائم أبدا
البقرة : ( 9 ) يخادعون الله والذين . . . . .
والخداع في أصل اللغة الفساد حكاه ثعلب وقال عن ابن الأعرابي وأنشد
""""""
صفحة رقم 41 """"""
أبيض اللون رقيق طعمه
طيب الريق إذا الريق خدع
وقيل أصله الإخفاء ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء حكاه ابن فارس وغيره
والمراد من مخادعتهم لله أنهم صنعوا معه صنع المخادعين وإن كان العالم الذي لا
يخفى عليه شيء لا يخدع وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل فكونهم يخادعون الله
والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم والمراد بالمخادعة من الله
أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء فكأنه خادعهم بذلك كما
خادعوه بإظهار الإسلام وإبطال الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه والمراد
بمخادعة المؤمنين لهم هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام
ظاهرا وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام
وإبطان الكفر والمراد بقوله تعالى ) وما يخدعون إلا أنفسهم ( الإشعار بأنهم لما
خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف
البواطن وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك
ومن هذا قول من قال من خادعته فانخدع لك فقد خدعك وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو
عمرو ) يخادعون ( في الموضعين وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني )
يخدعون ( والمراد بمخادعتهم أنفسهم أنه يمنونها الأماني الباطلة وهي كذلك تمنيهم
قال أهل اللغة شعرت بالشيء فطنت قال في الكشاف والشعور علم الشيء علم حس من الشعار
ومشاعر الإنسان حواسه والمعنى أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس وهم لتمادي غفلتهم
كالذي لا حس له والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى
النفس كالروح والدم والقلب
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس
والخزرج ومن كان على أمرهم وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال والمراد بهذه
الآية المنافقون وأخرج عبدالرزاق وابن جرير عن قتادة مثله وأخرج ابن المنذر عن ابن
سيرين قال لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية ) ومن الناس من يقول آمنا بالله
وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له ما النفاق قال
أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من
الصحابة أن قائلا من المسلمين قال يا رسول الله ما النجاة غدا قال لا تخادع الله
قال وكيف نخادع الله قال أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره فاتقوا الرياء
فإنه الشرك بالله فإن المرائي ينادى يوم القيامة على رءوس الخلائق بأربعة أسماء يا
كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله
فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع وقرأ آيات من القرآن ) فمن كان يرجو لقاء
ربه فليعمل عملا صالحا ( الآية و ) إن المنافقين يخادعون الله ( الآية وأخرج ابن
جرير عن ابن وهب قال سألت ابن زيد عن قوله ) يخادعون الله والذين آمنوا ( قال
هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا أنهم مؤمنون بما أظهروه وعن
قوله ) وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ( أنهم ضروا أنفسهم بما أضمروا من الكفر
والنفاق وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله ) يخادعون الله ( قال يظهرون لا
إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك
البقرة 10
البقرة : ( 10 ) في قلوبهم مرض . . . . .
المرض كل ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر قاله ابن
فارس وقيل هو الألم فيكون على هذا مستعارا للفساد الذي في عقائدهم إما شكا ونفاقا
أو جحدا وتكذيبا وتقديم
""""""
صفحة رقم 42 """"""
الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها مبالغة في تعلق هذا الداء بتلك القلوب لما كانوا
عليه من شدة الحسد وفرط العداوة والمراد بقوله ) فزادهم الله مرضا ( الإخبار بأنهم
كذلك بما يتجدد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من النعم ويتكرر له من منن الله
الدنيوية والدينية ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط
النفاق والأليم المؤلم أي الموجع و ( ما ) في قوله ) بما كانوا يكذبون ( مصدرية أي
بتكذيبهم وهو قولهم ) آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( والقراء مجمعون
على فتح الراء من قوله مرض إلا ما رواه الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ بإسكان الراء
وقرأ حمزة وعاصم والكسائي ( يكذبون ) بالتخفيف والباقون بالتشديد
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى ) في
قلوبهم مرض ( قال شك ) فزادهم الله مرضا ( قال شكا وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي
حاتم في قوله ) في قلوبهم مرض ( قال النفاق ) ولهم عذاب أليم ( قال نكال موجع )
بما كانوا يكذبون ( قال يبدلون ويحرفون وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله
ابن عباس أولا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كل شيء في القرآن اليم فهو
الموجع وأخرج أيضا عن أبي العالية مثله وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله أيضا وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ) في قلوبهم مرض ( أي ريبة وشك في أمر الله )
فزادهم الله مرضا ( ريبة وشكا ) ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ( قال إياكم
والكذب فإنه باب النفاق وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال هذا مرض في الدين وليس مرضا
في الأجساد وهم المنافقون والمرض الشك الذي دخل في الإسلام وروى عن عكرمة وطاوس أن
المرض الرياء
البقرة 11 12
البقرة : ( 11 ) وإذا قيل لهم . . . . .
( إذا ) في موضع نصب على الظرف والعامل فيه قالوا المذكور بعده وفيه معنى الشرط
والفساد ضد الصلاح وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها فسد الشيء يفسد فسادا
وفسودا فهو فاسد وفسيد والمراد في الآية لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة
الكفرة وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن فإنكم إذا
فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الزرائع كما هو
مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع و ( إنما ) من أدوات القصر كما هو مبين في علم
المعاني والصلاح ضد الفساد لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دابهم أجابوا بهذه
الدعوى العريضة ونقلوا أنفسهم من الأتصاف بما هي عليه حقيقة وهو الفساد إلى
الإتصاف بما هو ضد لذلك وهو الصلاح ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض
حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم
البقرة : ( 12 ) ألا إنهم هم . . . . .
فرد الله عليهم ذلك أبلغ رد لما يفيده حرف التنبيه من تحقيق ما بعده ولما في إن من
التأكيد وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين
أمرين من الأمور المفيدة له وردهم إلى صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة
ردا مؤكدا مبالغا فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد
من إنما وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم
على الفساد الخاص ظنوا أن ذلك ينفق على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وينكتم عنه
بطلان ما أضمروه ولم يشعروا بأنه عالم به وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء فكان نفي
الشعور عنهم من هذه
""""""
صفحة رقم 43 """"""
الله تبارك وتعالى الرب عز وجل الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد
ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحا لما استقر في عقولهم من محبة الكفر وعداوة
الإسلام
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال الفساد هنا هو الكفر والعمل بالمعصية
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) إنما نحن مصلحون (
أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب وأخرج ابن جرير عن
مجاهد في تفسير هذه الآية قال إذا ركبوا معصية فقيل لهم لا تفعلوا كذا قالوا إنما
نحن على الهدى وأخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان أنه قرأ هذه
الآية فقال لم يجيء أهل هذه الآية بعد قال ابن جرير يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن
الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) لا أنه عني أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه
الآية ليست في المنافقين بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف
في المسلمين كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه
الباطلة
البقرة 13
البقرة : ( 13 ) وإذا قيل لهم . . . . .
أي وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من
المهاجرين والأنصار أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحق والصواب فنسبوا إلى المؤمنين
السفه استهزاء واستخفافا فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة
وآكد قول وحصر السفاهة وهي رقة الحلوم وفساد البصائر وسخافة العقول فيهم مع كونهم
لا يعلمون أنهم كذلك إما حقيقة أو مجازا تنزيلا لإصرارهم على السفه منزلة عدم
العلم بكونهم عليه وأنهم متصفون به ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم
لأنه لا يتسافه إلا جاهل والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف أي إيمانا
كإيمان الناس
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في وقوله ) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس (
أي صدقوا كما صدق أصحاب محمد أنه نبي ورسول وأن ما أنزل عليه حق ) قالوا أنؤمن كما
آمن السفهاء ( يعنون أصحاب محمد ) ألا إنهم هم السفهاء ( يقول الجهال ) ولكن لا
يعلمون ( يقول لا يعقلون وروى عن ابن عساكر في تاريخه بسند واه أنه قال ) آمنوا
كما آمن الناس ( أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله )
كما آمن السفهاء ( قال يعنون أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخرج عن الربيع
وابن زيد مثله وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود أي
إذا قيل لهم يعني اليهود ) آمنوا كما آمن الناس ( عبدالله بن سلام وأصحابه ) قالوا
أنؤمن كما آمن السفهاء (
البقرة 14 15
البقرة : ( 14 ) وإذا لقوا الذين . . . . .
( لقوا ) أصله لقيوا نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين ومعنى
لقيته ولاقيته استقبلته قريبا وقرأ محمد بن السميفع اليماني وأبو حنيفة لاقوا
وأصله لاقيوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا
""""""
صفحة رقم 44 """"""
ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت به وإنما عدى بإلى
وهو يتعدى بالباء فيقال خلوت به لا خلوت إليه لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا
والشياطين جمع شيطان على التكسير وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان فجعلها في
موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة فعلى الأول هو من شطن أي بعد عن الحق وعلى
الثاني من شط أي بعد أو شاط أي بطل وشاط أي احترق وأشاط إذا هلك قال وقد يشيط على
أرماحنا البطل
أي يهلك وقال آخر وأبيض ذي تاج أشاطت رماحنا
لمعترك بين الفوارس أقتما
أي أهلكت وحكي سيبويه أن العرب تقول تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين ولو كان من
شاط لقالوا تشيط ومنه قول أمية بن أبي الصلت أيما شاطن عصاه عكا
ورماه في السجن والأغلال
وقوله ( إنا معكم ) معناه مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه والهزوء السخرية
واللعب قال الراجز قد هزئت مني أم طيسله
قالت أراه معدما لا مال له
قال في الكشاف واصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع وهزأ يهزأ مات على
المكان عن بعض العرب مشيت فلغبت فظننت لأهزأن على مكاني وناقته تهزأ به أي تسرع
وتخف انتهى وقيل أصله الانتقام قال الشاعر قد استهزءوا منهم بألفي مدجج
سراتهم وسط الصحاصح جثم
فافاد قولهم ) إنا معكم ( أنهم ثابتون على الكفر وأفاد قولهم ) إنما نحن مصلحون (
ردهم للإسلام ورفعهم للحق وكأنه جواب سؤال مقدر ناشيء من قولهم إنا معكم أي إذا
كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم فقالوا إنما نحن مستهزءون بهم
في تلك الموافقة ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم
البقرة : ( 15 ) الله يستهزئ بهم . . . . .
فرد الله ذلك عليهم بقوله ) الله يستهزئ بهم ( أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم
منهم ويستخف بهم انتصافا منهم لعباده المؤمنين وإنما جعل سبحانه ما وقع منه
استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة ماشكلة وقد كانت العرب إذا وضعت لفظا بإزاء لفظ
جوابا له وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفا له في معناه وورد ذلك في
القرآن كثيرا ومنه ) وجزاء سيئة سيئة مثلها ( ) فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم ( والجزاء لا يكون سيئة والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حتى ومنه )
ومكروا ومكر الله ( و ) إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ( ) يخادعون الله والذين
آمنوا ( ) يخادعون الله وهو خادعهم ( ) تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ( وهو
في السنة كثير كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله لا يمل حتى تملوا ) وإنما
قال ) الله يستهزئ بهم ( لأنه يفيد التجدد وقتا بعد وقت وهو أشد عليهم وأنكأ
لقلوبهم وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الإسمية لما هو
محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتا بعد وقت والمتجددة حينا بعد حين أشد على من وقعت
عليه من العذاب الدائم المستمر لأنه يألفه ويوطن نفسه عليه والمد الزيادة قال يونس
بن حبيب يقال مد في الشر وأمد في الخير ومنه ) وأمددناكم بأموال وبنين ( )
وأمددناهم بفاكهة ولحم ( وقال الأخفش مددت له إذا تركته وأمددته إذا أعطيته وقال
الفراء واللحياني مددت فيما كانت زيادته من مثله يقال مد النهر ومنه ) والبحر يمده
من بعده سبعة أبحر ( وأمددت فيما كانت زيادته من غيره ومنه ) يمددكم ربكم بخمسة
آلاف من الملائكة ( والطغيان مجاوزة الحد والغلو في الكفر ومنه ) إنا لما طغى
الماء ( أي تجاوز المقدار الذي قدرته الخزان وقوله في فرعون ) إنه طغى ( أي أسرف
في الدعوى حيث قال ) أنا ربكم الأعلى ( والعمه والعامه الحائر المتردد
""""""
صفحة رقم 45 """"""
وذهبت إبله لعمهى إذا لم يدر أين ذهبت والعمه في القلب كالعمى في العين قال في الكشاف
العمه مثل العمى إلا أن العمى في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة انتهى والمراد
أن الله سبحانه يطيل لهم المدة ويمهلهم كما قال ) إنما نملي لهم ليزدادوا إثما (
قال ابن جرير ) في طغيانهم يعمهون ( في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى
ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها وأعمى
أبصارهم عن الهدى وأغشاها فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج الواحدي والثعلبي بسند واه لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك عن ابن عباس
قال نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي وأصحابه وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر
وعلي رضي الله عنهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال كان رجال من اليهود إذا
لقوا أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو بعضهم قالوا إنا على دينكم ) وإذا
خلوا إلى شياطينهم ( وهم إخوانهم قالوا ) إنا معكم ( على مثل ما أنتم عليه ) إنما
نحن مستهزؤون ( بأصحاب محمد ) الله يستهزئ بهم ( قال يسخر بهم للنقمة منهم )
ويمدهم في طغيانهم ( قال في كفرهم ) يعمهون ( قال يترددون وأخرج البيهقي في
الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم
عنه بنحو الأول وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله ) وإذا خلوا إلى شياطينهم (
قال رؤسائهم في الكفر وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال ) وإذا خلوا ( أي مضوا
واخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود وأخرج ابن جرير عن
ابن مسعود في قوله ) ويمدهم ( قال يملي لهم ) في طغيانهم يعمهون ( قال في كفرهم
يتمادون وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن
مسعود في تفسير يعمهون وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر عن مجاهد ) يمدهم ( يزيدهم ) في طغيانهم يعمهون ( قال يلعبون ويترددون في
الضلالة وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقلت يا رسول الله وللإنس شياطين قال نعم
البقرة 16
البقرة : ( 16 ) أولئك الذين اشتروا . . . . .
قال سيبويه صحت الواو في ) اشتروا ( فرقا بينها وبين الواو الأصلية في نحو ) وأن
لو استقاموا ( وقال الزجاج حركت بالضم كما يفعل في نحن وقرأ يحيى بن يعمر بكسر
الواو على أصل إلتقاء الساكنين وقرأ أبو السماك العدوي بفتحها لخفة الفتحة وأجاز
الكسائي همز الواو والشراء هنا مستعار للإستبدال أي استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله
تعالى ) فاستحبوا العمى على الهدى ( فأما أن يكون معنى الشراء المعاوصة كما هو
أصله حقيقة فلا لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعوا إيمانهم والعرب قد تستعمل
ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء قال أبو ذؤيب فإن تزعميني كنت أجهل فيكمو
فإن شريت الحلم بعدك بالجهل
واصل الضلالة الحيرة والجور عن القصد وفقد الاهتداء وتطلق على النسيان ومنه قوله
تعالى ) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ( وعلى الهلاك كقوله ) وقالوا أئذا ضللنا
في الأرض ( وأصل الربح الفضل والتجارة صناعة التاجر وأسند الربح إليها على عادة
العرب في قولهم ربح بيعك وخسرت صفقتك وهو من الإسناد المجازي وهو إسناد الفعل إلى
ملابس للفاعل كما هو مقرر في علم المعاني والمراد ربحوا وخسروا والاهتداء قد سبق
تحقيقه أي وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة وقيل في سابق علم الله
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن إسحاق وابن
""""""
صفحة رقم 46 """"""
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ) اشتروا الضلالة بالهدى ( أي الكفر بالإيمان
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال أخذوا الضلالة وتركوا الهدى وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال آمنوا ثم كفروا وأخرج عبدالرزاق وعبد بن
حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال استحبوا الضلالة على الهدى قد والله
رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف
ومن السنة إلى البدعة
البقرة 17 18
البقرة : ( 17 ) مثلهم كمثل الذي . . . . .
) مثلهم ( مرتفع بالإبتداء وخبره إما الكاف في قوله ( كمثل ) لأنها اسم أي مثل مثل
كما في قول الأعشي أتنتهون ولن تنهي ذوي شطط
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول امرئ القيس ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا
تصوب فيه العين طورا وترتقي
أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء ويجوز أن يكون الخبر محذوفا أي مثلهم مستنير كمثل
فالكاف على هذا حرف والمثل الشبه والمثلان المتشابهان ( والذي ) موضوع موضع الذين
أي كمثل الذين استوقدوا وذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر وإن الذي حانت بفلج
دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
ومنه ) وخضتم كالذي خاضوا ( ومنه ) والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (
ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها ) استوقد ( بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب
فالسين والتاء زائدتان قاله الأخفش ومنه قول الشاعر وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
البقرة : ( 18 ) صم بكم عمي . . . . .
أي يجبه والإضاءة فرط الإنارة وفعلها يكون لازما ومتعديا و ( ما حوله ) قيل ما
زائدة وقيل هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضات وحوله منصوب على الظرفية و (
ذهب ) من الذهاب وهو زوال الشيء و ( تركهم ) أي أبقاهم ) في ظلمات ( جمع ظلمة وقرأ
الأعمش بإسكان اللام على الاصل وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام وهي عدم النور و ( صم
) وما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم وقرأ ابن مسعود صما بكما عميا بالنصب على الذم
ويجوز أن ينتصب بقوله تركهم والصمم الإنسداد يقال قناة صماء إذا لم تكن مجوفة
وصممت القارورة إذا سددتها وفلان أصم إذا انسدت خروق مسامعه والأبكم الذي لا ينطق
ولا يفهم فإذا فهم فهو الأخرس وقيل الأخرس والأبكم واحد والعمى ذهاب البصر والمراد
بقوله ) فهم لا يرجعون ( أي إلى الحق والجواب لما في قوله فلما أضاءت قيل هو ) ذهب
الله بنورهم ( وقيل محذوف تقديره طفئت فبقوا حائرين وعلى الثاني فيكون قوله ) ذهب
الله بنورهم ( كلاما مستأنفا أو بدلا من المقدر
ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان ان ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من
النفاق لا يثبت لهم به أحكام
""""""
صفحة رقم 47 """"""
الإسلام كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه
تلك الإضاءة اليسيرة فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته
وتردده وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تسطع
ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت ومنه قولهم للباطل صولة ثم يضمحل وقد تقرر عند علماء
البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات
الدقائق ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز وكان رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه قال ابن جرير إن هؤلاء المضروب لهم المثل
ها هنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى ) ومن الناس من يقول آمنا
بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( وقال ابن كثير إن الصواب أن هذا إخبار عنهم
في حال نفاقهم وكفرهم وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع
على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى ) ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم
لا يفقهون ( قال ابن جرير وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال ) رأيتهم ينظرون
إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ( أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من
الموت وقال تعالى ) مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل
أسفارا ( ا ه
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى ( مثلهم
كمثل الذي استوقد نارا ) قال هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام
فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء فلما ماتوا سلبهم الله العز كما
سلب صاحب النار ضوءه ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) يقول في عذاب ( صم بكم عمي )
فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من
الصحابة في قوله ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) قالوا إن ناسا دخلوا في الإسلام
عند مقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان
في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي فبينما هو
كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك
فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف
الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم صم بكم هم الخرس فهم لا يرجعون إلى
الإسلام وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله ) كمثل الذي استوقد نارا ( قال ضربه
الله مثلا للمنافق وقوله ) ذهب الله بنورهم ( قال أما النور فهو إيمانهم الذي
يتكلمون به وأما الظلمة فهو ضلالهم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله
وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه وأخرج ابن
أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم
البقرة 19 20
البقرة : ( 19 ) أو كصيب من . . . . .
عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين أي مثلوهم بهذا
أو هذا وهي وإن
""""""
صفحة رقم 48 """"""
كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرد التساوى من غير شك وقيل إنها
بمعنى الواو قاله الفراء وغيره وأنشد وقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقال آخر نال الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر
والمراد بالصيب المطر واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل قال علقمة فلا تعدلي بيني وبين
معمر
سقتك روايا الموت حيث تصوب
وأصله صيوب اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت كما
فعلوا في ميت وسيد والسماء في الأصل كل ما علاك فأظلك ومنه قيل لسقف البيت سماء
والسماء أيضا المطر سمى بها لنزوله منها وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا
يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب وإطلاق السماء على المطر
واقع كثيرا في كلام العرب فمنه قول حسان ديار من بني الحسحاس قفر
تعفيها الدوامس والسماء
وقال آخر إذا نزل السماء بأرض قوم
والظلمات قد تقدم تفسيرها وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضم إلى ظلمة الليل ظلمة
الغيم والرعد اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس
قال ( سألت اليهود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرعد ما هو قال ملك من
الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله قالوا فما هذا الصوت
الذي نسمع قال زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر قالت صدقت ) الحديث
بطوله وفي إسناده مقال قال القرطبي وعلى هذا التفسير أكثر العلماء وقيل هو اضطراب
أجرام السحاب عند نزول المطر منها وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعا للفلاسفة
وجهلة المتكلمين وقيل غير ذلك والبرق مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب وإليه
ذهب كثير من الصحابة وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق وقال بعض المفسرين تبعا
للفلاسفة إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة
المشتملة على جزء ناري يلتهب عند الإصطكاك وقوله ) يجعلون أصابعهم في آذانهم (
جملة مستأنفة لا محل لها كأن قائلا قال فكيف حالهم عند ذلك الرعد فقيل يجعلون
أصابعهم في آذانهم وإطلاق الأصبع على بعضها مجاز مشهور والعلاقة الجزئية والكلية
لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الأصبع لا كلها والصواعق ويقال الصواقع هي
قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها ويدل على
ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريبا وبه قال كثير من علماء الشريعة
ومنهم من قال إنها نار تخرج من فم الملك وقال الخليل هي الواقعة الشديدة من صوت
الرعد يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه وقال أبو زيد الصاعقة نار تسقط
من السماء في رعد شديد وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة ومن قال بقولهم إنها نار
لطيفة تنقدح من السحاب اذا اصطكت أجرامها وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في
تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح ونصب ( حذر الموت ) على أنه
مفعول لأجله وقال الفراء منصوب على التمييز والموت ضد الحياة والإحاطة الأخذ من
جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه
البقرة : ( 20 ) يكاد البرق يخطف . . . . .
وقوله ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) جملة مستأنفة كأنه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق
ويكاد يقارب والخطف الأخذ بسرعة ومنه سمى الطبر خطافا لسرعته وقرأ مجاهد ( يخطف )
بكسر الطاء والفتح أفصح وقوله ) كلما أضاء لهم مشوا فيه (
""""""
صفحة رقم 49 """"""
كلام مستأنف كأنه قيل كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق ويكونه وهو تمثيل لشدة الأمر
على المنافقين بشدته على أهل الصيب ) ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم (
بالزيادة في الرعد والبرق ) إن الله على كل شيء قدير ( وهذا من جملة مقدوراته
سبحانه
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ( أو كصيب ) هو
المطر ضرب مثله في القرآن ) فيه ظلمات ( يقول ابتلاء ) ورعد وبرق ( تخويف ( يكاد
البرق يخطف أبصارهم ) يقول يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين ( كلما أضاء
لهم مشوا فيه ) يقول كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا أطمأنوا فإن أصاب الإسلام
نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله ) ومن الناس من يعبد الله على حرف ( الآية
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا كان رجلان من المنافقين من أهل
المدينة هربا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المشركين فأصابهما هذا
المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان
أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع
البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان
ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع ايدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا
أيديهما في يده وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا
للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن
ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان
أصابعهما في آذانهما واذا أضاء لهم مشوا فيه أي فإذا كثرت أموالهم وأولادهم أصابوا
غنيمة وفتحا مشوا فيه وقالوا إن دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حينئذ صدق
واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا اضاء لهم البرق وإذا أظلم عليهم
قاموا فكانوا إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد
( صلى الله عليه وسلم ) وارتدوا كفرا كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال ( أو كصيب ) قال هو المطر وهو مثل للمنافق في ضوئه
يتكلم بما معه من كتاب الله مراآة الناس فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما
أقام على ذلك وأما الظلمات فالضلالات وأما البرق فالإيمان وهم أهل الكتاب وإذا
أظلم عليهم فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه وأخرج ابن إسحاق وابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا نحو ما سلف وقد روى تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من
التابعين
فائدة : أصناف المنافقين
واعلم أن المنافقين أصناف فمنهم من يظهر الإسلام ويبطن الكفر ومنهم من قال فيه
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ( ثلاث من كن فيه كان
منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها من إذا
حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان ) وورد بلفظ أربع وزاد ( وإذا خاصم فجر )
وورد بلفظ ( وإذا عاهد غدر ) وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين
لصنف واحد من المنافقين
البقرة 21 22
""""""
صفحة رقم 50 """"""
البقرة : ( 21 ) يا أيها الناس . . . . .
لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافين أقبل عليهم بالخطاب إلتفاتا
للنكتة السابقة في الفاتحة ويا حرف نداء والمنادى أي وهو اسم مفرد مبني على الضم
وها حرف تنبيه مقحم بين المنادى وصفته قال سيبويه كأنك كررت ( يا ) مرتين وصار
الإسم بينهما كما قالوا ها هو ذا وقد تقدم الكلام في تفسير الناس والعبادة وإنما
خص نعمة الخلق وامتن بها عليهم لأن جميع النعم مترتبة عليها وهي أصلها الذي لا
يوجد شيء منها بدونها وأيضا فالكفار مقرون بأن الله هو الخالق ) ولئن سألتهم من
خلقهم ليقولن الله ( فامتن عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه وفي أصل معنى الخلق
وجهان أحدهما التقدير يقال خلفت الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع قال زهير ولأنت
تفري ما خلقت وبع
ض القوم يخلق ثم لا يفري
الثاني الإنشاء والإختراع والإبداع ولعل أصلها الترجي والطمع والتوقع والإشتفاق
وذلك مستحيل على الله سبحانه ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة
قوله لهم افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم
سيبويه وقيل إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي والمعنى هنا لتتقوا
وكذلك ما وقع هذا الموقع ومنه قول الشاعر وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا
نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
كشبه سراب في الملا متألق
أي كفوا عن الحرب لنكف ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق وبهذا قال جماعة
منهم قطرب وقيل إنها بمعنى التعرض للشيء كأنه قال متعرضين للتقوى
البقرة : ( 22 ) الذي جعل لكم . . . . .
وجعل هنا بمعنى صير لتعديه إلى المفعولين ومنه قول الشاعر وقد جعلت أرى الإثنين
أربعة
والأربع اثنين لما هدني الكبر
و ( فراشا ) أي وطاء يستقرون عليها لما قدم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض
فراشا لهم لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعوا إليه
حاجتهم ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم والسقف للبيت الذي
يسكنونه كما قال ) وجعلنا السماء سقفا محفوظا ( وأصل البناء وضع لبنة على أخرى ثم
امتن عليهم بإنزال الماء من السماء وأصل ماء موه قلبت الواو لتحركها وانفتاح ما
قبلها ألفا فصار ماه فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة والثمرات جمع ثمرة
والمعنى أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات وأنواعا من النبات ليكون ذلك متاعا لكم إلى
حين والأنداد جمع ند وهو المثل والنظير وقوله ( وأنتم تعلمون ) جملة حالية والخطاب
للكفار والمنافقين فإن قيل كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال ) ولكن
لا يعلمون ( ) ولكن لا يشعرون ( ) وما كانوا مهتدين ( ) صم بكم عمي ( فيقال إن
المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره
من الأنداد فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية وقد
يقال المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم وفيه دليل
على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد قال ابن فورك المراد وتجعلون لله أنداد بعد
علمكم الذي هو في الجهل بأن الله واحد انتهى وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم
اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج البزار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال ما كان
""""""
صفحة رقم 51 """"""
) يا أيها الذين آمنوا ( فهو أنزل بالمدينة وما كان ) يا أيها الناس ( فهو أنزل
بمكة وروى نحو ذلك عن ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد والطبراني في الأوسط والحاكم
وصححه وروى نحوه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر من قول علقمة
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن المنذر عن الضحاك مثله وكذا
أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران وأخرج نحوه أيضا ابن أبي شيبة وابن مردويه عن
عروة وعكرمة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) يا أيها الناس (
قال هي للفريقين جميعا من الكفار والمؤمنين وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في
قوله ( لعلكم ) يعني كي وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبدالله بن عتبة
قال لعل من الله واجب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة
في قوله ( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) أي تمشون عليها وهي المهاد والقرار (
والسماء بناء ) قال كهيئة القبة وهي سقف الأرض وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن
أنه سئل المطر من السماء أم من السحاب قال من السماء وأخرج ابن أبي حاتم وأبو
الشيخ عن كعب قال السحاب غربال المطر ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد
ما يقع عليه من الأرض والبذر وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال
المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا
فيجتمع في موضع يقال له الأبزم فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة
فيسوقها الله حيث يشاء وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال ينزل الماء من
السماء السابعة فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير وأخرج ابن أبي حاتم وأبو
الشيخ عن خالد بن يزيد قال المطر منه من السماء ومنه ما يستقيه الغيم من البحر
فيعذبه الرعد والبرق وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال إذا جاء
القطر من السماء تفتحت له الأصداف فكان لؤلؤا وأخرج الشافعي في الأم وابن أبي
الدنيا في كتاب المطر وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) قال ( ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله
حيث يشاء ) وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عباس قال ما نزل مطر من السماء
إلا ومعه البذر أما لو أنكم بسطتم نطعا لرأيتموه وأخرج ابن أبي الدينا وأبو الشيخ
عن ابن عباس قال المطر مزاجة من الجنة فإذا كثر المزاج عظمت البركة وإن قل المطر
وإذا قل المزاج قلت البركة وإن كثر المطر وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال ما من عام
بأمطر من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة
يكتبون حيث يقع ذلك المطر ومن يرزقه ومن يخرج منه مع كل قطرة وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) فلا تجعلوا لله أندادا ( أي لا تشركوا
به غيره من الأنداد التي لا تضر ولا تنفع ( وأنتم تعلمون ) لأنه لا رب لكم يرزقكم
غيره وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عباس ( أندادا ) قال أشباها وأخرج ابن جرير
عن ابن مسعود ( أندادا ) قال أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله وأخرج عبد بن
حميد عن قتادة ( أندادا ) قال شركاء وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب
المفرد والنسائي وابن ماجة وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال ( قال رجل للنبي (
صلى الله عليه وسلم ) ما شاء الله وشئت قال جعلتني لله ندا ما شاء الله وحده )
وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفي قالت ( جاء حبر من الأحبار إلى النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) فقال يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون قال وكيف قال يقول
أحدكم لا والكعبة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من حلف فليحلف برب الكعبة
فقال يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندا قال وكيف ذلك قال يقول
أحدكم ما شاء الله وشئت فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمن قال منكم ما شاء
الله قال ثم شئت )
""""""
صفحة رقم 52 """"""
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن حذيفة بن
اليمان قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء
فلان قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ) وأخرج أحمد وابن ماجة والبيهقي وابن مردويه
عن طفيل بن سخبرة ( أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال أنتم نعم
القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله فقالوا وأنتم نعم القوم لولا أنكم
تقولون ما شاء الله وشاء محمد ثم مر برهط من النصارى فقال أنتم نعم القوم لولا
أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله
وشاء محمد فلما أصبح اخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخطب فقال إن طفيلا رأى
رؤيا وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم فلا تقولوها ولكن قولوا ما شاء
الله وحده لا شريك له ) وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال الأنداد هو الشرك أخفى
من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل وهو أن تقول والله وحياتك يا فلان
وحياتي وتقول لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص ولولا القط في الدار لأتى اللصوص وقول
الرجل ما شاء الله وشئت وقول الرجل لولا الله وفلان هذا كله شرك وأخرج البخاري
ومسلم عن ابن مسعود قال ( قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو
خلقك ) الحديث
البقرة 23 24
البقرة : ( 23 ) وإن كنتم في . . . . .
( في ريب ) أي شك مما نزلنا على عبدنا أي القرآن أنزله على محمد ( صلى الله عليه
وسلم ) والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل والتنزيل التدريج والتنجيم وقوله ( فأتوا
) الفاء جواب الشرط وهو أمر معناه التعجيز لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية
ويبطل الشرك عقبه بما هو الحجة على إثبات نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما
يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة فتحداهم بأن يأتوا بسورة من سوره والسورة الطائفة
من القرآن المسماة باسم خاص سميت بذلك لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد
عليها و ( من ) في قوله ( من مثله ) زائدة لقوله فأتوا بسورة مثله والضمير في مثله
عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم وقيل عائد على التوراة والإنجيل لأن المعنى
فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه وقيل يعود على النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) والمعنى من بشر مثل محمد أي لا يكتب ولا يقرأ والشهداء جمع شهيد بمعنى
الحاضر أو القائم بالشهادة أو المعاون والمراد هنا الآلهة ومعنى ( دون ) أدنى مكان
من الشيء واتسع فيه حتى استعمل في تخطي الشيء إلى شيء آخر ومنه ما في هذه الآية
وكذلك قوله تعالى ) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ( وله معان
آخر منها التقصير عن الغاية والحقارة يقال هذا الشيء دون أي حقير ومنه إذا ما علا
المرء رام العلا
ويقنع بالدون من كان دونا
والقرب يقال هذا دون ذاك أي أقرب منه ويكون إغراء تقول دونك زيدا أي خذه من أدنى
مكان ( من دون الله ) متعلق بادعوا أي أدعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم
صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم
والصدق خلاف الكذب وهو مطابقة الخبر للواقع أو للإعتقاد أو لهما على الخلاف
المعروف في علم المعاني
البقرة : ( 24 ) فإن لم تفعلوا . . . . .
) فإن لم تفعلوا ( يعني فيما مضى ) ولن تفعلوا ( أي تطيقوا ذلك فيما يأتي
""""""
صفحة رقم 53 """"""
وتبين لكم عجزكم عن المعارضة ( فاتقوا النار ) بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام
بفرائضه واجتناب مناهيه وعبر عن الإتيان بالفعل لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد
الاختصار وجملة لن تفعلوا لا محل لها من الإعراب لأنها اعتراضية ولن للنفي المؤكد
لما دخلت عليه وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها لأنها لم تقع
المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوة وفيما بعدها وإلى الآن والوقود بالفتح
الحطب وبالضم التوقيد أي المصدر وقد جاء فيه الفتح والمراد بالحجارة الأصنام التي
كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدينا فجعلت وقودا للنار معهم ويدل على
هذا قوله تعالى ) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ( أي حطب جهنم وقيل المراد
بها حجارة الكبريت وفي هذا من التهويل ما لا يقدر قدره من كون هذه النار تتقد
بالناس والحجارة فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها والمراد بقوله ( أعدت ) جعلت عدة
لعذابهم وهيئت لذلك وقد كرر الله سبحانه تحدي الكفار بهذا في مواضع في القرآن منها
هذا ومنها قوله تعالى في سورة القصص ) قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما
أتبعه إن كنتم صادقين ( وقال في سورة سبحان ) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن
يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( وقال في سورة
هود ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون
الله إن كنتم صادقين ( وقال في سورة يونس ) وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون
الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون
افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية
من البلاغة الخارجة عن طوق البشر أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه
لهم عن ان يعارضوه والحق الأول والكلام في هذا مبسوط في مواطنه
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال قال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن
عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فارجو أن أكون أكثرهم تابعا
يوم القيامة ) وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله ( وإن كنتم في ريب ) قال
هذا قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأخرج
عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله ( وإن كنتم في
ريب ) قال في شك ( مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) قال من مثل القرآن
حقا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد ) فأتوا
بسورة من مثله ( قال مثل القرآن ) وادعوا شهداءكم ( قال ناس يشهدون لكم إذا أتيتم
بها أنها مثله وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (
شهداءكم ) قال أعوانكم على ما أنتم عليه ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) فقد بين لكم
الحق وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) يقول لن
تقدروا على ذلك ولن تطيقوه وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه كان يقرأ كل شيء في
القرآن وقودها برفع الواو الأولى إلا التي في السماء ذات البروج ) النار ذات
الوقود ( بنصب الواو وأخرج عبدالرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال إن الحجارة
التي ذكرها الله في القرآن في قوله ) وقودها الناس والحجارة ( حجارة من كبريت
خلقها الله عنده كيف شاء وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله وأخرج ابن جرير أيضا عن
عمرو بن ميمون مثله أيضا وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال (
تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ) وقودها الناس والحجارة ( قال
أوقد عليها ألف عام حتى احمرت
""""""
صفحة رقم 54 """"""
وألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها ) وأخرج ابن
أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا مثله وأخرج أحمد
ومالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( نار
بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا يا رسول الله إن كانت
لكافية قال فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها ) واخرج الترمذي
وحسنه عن أبي سعيد مرفوعا نحوه وأخرج ابن ماجة والحاكم وصححه عن أنس مرفوعا نحوه
أيضا وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال أترونها حمراء مثل
ناركم هذه التي توقدون إنها لأشد سوادا من القار وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) أعدت للكافرين ( قال أي لمن كان مثل ما أنتم عليه
من الكفر
البقرة 25
البقرة : ( 25 ) وبشر الذين آمنوا . . . . .
لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبه بجزاء المؤمنين ليجمع بين الترغيب والترهيب
والوعد والوعيد كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز لما في ذلك من تنشيط عباده
المؤمنين لطاعاته وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه والتبشير الإخبار بما يظهر أثره
على البشرة وهي الجلدة الظاهرة من البشر والسرور قال القرطبي أجمع العلماء على أن
المكلف إذا قال من بشرني من عبيدي فهو حر فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم
يكون حرا دون الثاني واختلفوا إذا قال من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فقال أصحاب
الشافعي يعم لأن كل واحد منهم مخبر وقال علماؤنا لا لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون
بشارة وذلك مختص بالأول انتهى والحق أنه إن أراد مدلول الخبر عتقوا جميعا وإن أراد
الخبر المقيد بكونه بشارة عتق الأول فالخلاف لفظي والمأمور بالتبشير قيل هو النبي
( صلى الله عليه وسلم ) وقيل هو كل أحد كما في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بشر
المشائين ) وهذه الجمل وإن كانت مصدرة بالإنشاء فلا يقدح ذلك في عطفها على ما
قبلها لأن المراد عطف جملة وصف ثواب المطيعين على جملة وصف عقاب العاصين من دون
نظر إلى ما اشتمل عليه الوصفان من الأفراد المتخالفة خبرا وإنشاء وقيل إن قوله (
وبشر ) معطوف على قوله ( فاتقوا النار ) وليس هذا بجيد و ( الصالحات ) الأعمال
المستقيمة والمراد هنا الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم وفيه رد على من يقول
إن الإيمان بمجرده يكفي فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح والجنات البساتين
وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها وهو اسم لدار الثواب كلها وهي
مشتملة على جنات كثيرة والأنهار جمع نهر وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر
والمراد الماء الذي يجري فيها وأنشد الجرى إليها مجازا والجاري حقيقة هو الماء كما
في قوله تعالى ) واسأل القرية ( أي أهلها وكما قال الشاعر ونبئت أن النار بعدك
أوقدت
واستب بعدك يا كليب المجلس
والضمير في قوله ( من تحتها ) عائد إلى الجنات لاشتمالها على الأشجار أي من تحت
أشجارها وقوله ( كلما رزقوا ) وصف آخر للجنات أو هو جملة مستأنفة كأن سائلا قال
كيف ثمارها و ( من ثمرة ) في معنى من أي
""""""
صفحة رقم 55 """"""
ثمرة أي نوع من أنواع الثمرات والمراد بقوله ( هذا الذي رزقنا من قبل ) أنه شبيهه
ونظيره لا أنه هو لأن ذات الحاضر لا تكون عين ذات الغائب لاختلافهما وذلك أن اللون
يشبه اللون وإن كان الحجم والطعم والرائحة والماوية متخالفة والضمير في به عائد
إلى الرزق وقيل المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابها فما يأتيهم في أول
النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل فإذا أكلوا وجدوا
له طعما غير طعم الأول و ( متشابها ) منصوب على الحال والمراد بتطهير الأزواج أنه
لا يصيبهن ما يصيب النساء من قذر الحيض والنفاس وسائر الأدناس التي لا يمتنع
تعلقها بنساء الدنيا والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع وقد يستعمل مجازا فيما
يطول والمراد هنا الأول
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن ماجة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان
والبيهقي وابن مردويه عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (
ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز
وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام في أبد في
دار سليمة وفاكهة خضراء ) الحديث والأحاديث في وصف الجنة كثيرة جدا ثابتة في
الصحيحين وغيرهما وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه
والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنهار
الجنة تفجر من تحت جبال مسك ) وأخرج ابن أبي شيبة وأبو حاتم وأبو الشيخ وابن حبان
والبيهقي في البعث وصححه عن ابن مسعود نحوه موقوفا وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك
في قوله ( تجري من تحتها الأنهار ) قال يعني المساكن تجري اسفلها أنهارها وأخرج
ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله ) كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا (
قال أتوا بالثمرة في الجنة فنظروا إليها ) قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ( في
الدنيا ) وأتوا به متشابها ( في اللون والمرأى وليس يشبه الطعم عبد بن حميد عن علي
بن زيد وقتادة نحوه وأخرج مسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء وأخرج عبد بن حميد عن
عكرمة قال قولهم ) من قبل ( معناه هذا مثل الذي كان بالأمس وأخرج ابن جرير عن يحيى
بن أبي كثير نحوه وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال ( متشابها
) في اللون مختلفا في الطعم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله )
متشابها ( قال خيار كله يشبه بعضه بعضا لا رذل فيه ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف
ترذلون بعضه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله وأخرج الحاكم وصححه وابن
مردويه عن أبي سعيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ) ولهم فيها أزواج
مطهرة ( قال من الحيض والغائط والبزاق والنخامة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال من القذر والأذى وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال لا
يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين وقد ثبت عن النبي
( صلى الله عليه وسلم ) في صفات أهل الجنة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من
الصحابة أن أهل الجنة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون وثبت أيضا عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من صفات نساء أهل الجنة ما
لا يتسع المقام لبسطه فلينظر في دواوين الإسلام وغيرها وأخرج ابن جرير وابن إسحاق
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) وهم فيها خالدون ( أي خالدون أبدا يخبرهم أن
الثواب بالخير والشر مقيم على أهله ابدا لا انقطاع له وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد
بن جبير في قوله ) وهم فيها خالدون ( يعني لا يموتون وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما
عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يدخل أهل الجنة الجنة وأهل
النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت
""""""
صفحة رقم 56 """"""
ويا أهل الجنة لا موت كل هو خالد فيما هو فيه ) وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة
نحوه وأخرج الطبراني والحاكم وصححه من حديث معاذ نحوه وأخرج الطبراني وابن مردويه
وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو قيل
لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها ولو قيل لأهل
الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الأبد )
البقرة 26 27
البقرة : ( 26 ) إن الله لا . . . . .
أنزل الله هذه الآية ردا على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله )
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( وقوله ) أو كصيب من السماء ( فقالوا الله أجل وأعلا
من أن يضرب الأمثال وقال الرازي إنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزا أورد
ها هنا شبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها وتقرير الشبهة أنه جاء في
القرآن ذكر النحل والعنكبوت والنمل وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء
فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلا عن كونه معجزا وأجاب الله عنها بأن صغر
هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكمة بالغة انتهى ولا يخفاك
أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له
ولا دليل عليه وقد تقدمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف والظاهر ما ذكرناه أولا لكون
هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها ولا يستلزم استنكارهم لضرب
الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحا في الفصاحة والإعجاز والحياء
تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم كذا في الكشاف وتبعه الرازي
في مفاتيح الغيب وقال القرطبي أصل الإستحياء الإنقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا
من مواقعة القبيح وهذا محال على الله انتهى وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية
من ذكر الحياء فقيل ساغ ذلك لكونه واقعا في الكلام المحكي عن الكفار وقيل هو من
باب المشاكلة كما تقدم وقيل هو جار على سبيل التمثيل قال في الكشاف مثل تركه تخييب
العبد وأنه لا يرد يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء
منه انتهى وقد قرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية عنه ( يستحي ) بياء واحدة وهي لغة
تميم وبكر بن وائل نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ثم استثقلت الضمة
على الثانية فسكنت فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين وضرب المثل اعتماده وصنعه و ( ما
) في قوله ) ما بعوضة ( إبهامية أي موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعم مما
كان عليه وأكثر شيوعا في أفراده وهي في موضع نصب على البدل من قوله ( مثلا ) و (
بعوضة ) نعت لها لإبهامها قاله الفراء والزجاج وثعلب وقيل إنها زائدة وبعوضة بدل
من مثل ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر وقيل إنها منصوبة بنزع الخافض والتقدير أن
يضرب مثلا ما بين بعوضة فخذف لفظ بين وقد روى هذا عن الكسائي وقيل إن يضرب بمعنى
يجعل فتكون
""""""
صفحة رقم 57 """"""
بعوضة المفعول الثاني وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤية بن العجاج ( بعوضة )
بالرفع وهي لغة تميم قال أبو الفتح وجه ذلك أن ( ما ) اسم بمنزلة الذي وبعوضة رفع
على إضمار المبتدأ ويحتمل أن تكون ( ما ) استفهامية كأنه قال تعالى ) ما بعوضة فما
فوقها ( حتى لا يضرب المثل به بل يدان لمثل بما هو أقل من ذلك بكثير والبعوضة
فعولة من بعض إذا قطع يقال بعض وبضع بمعنى والبعوض البق الواحدة بعوضة سميت بذلك
لصغرها قاله الجوهري وغيره وقوله ( فما فوقها ) قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما
فما فوقها والله أعلم ما دونها أي أنها فوقها في الصغر كجناحها قال الكسائي وهذا
كقولك في الكلام أتراه قصيرا فيقول القائل أو فوق ذلك أي أقصر مما ترى ويمكن أن
يراد فما زاد عليها في الكبر وقد قال بذلك جماعة وقوله ) فأما الذين آمنوا ( أما
حرف فيه معنى الشرط وقدره سيبويه بمهما يكن من شيء فكذا وذكر صاحب الكشاف أن
فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد وجعل تقدير سيبويه دليلا على ذلك والضمير في
( أنه ) راجع إلى المثل و ( الحق ) الثابت وهو المقابل للباطل والحق واحد الحقوق
والمراد هنا الأول وقد اختلف النحاة في ( ماذا ) فقيل هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي
شيء أراد الله فتكون في موضع نصب بأراد قال ابن كيسان وهو الجيد وقيل ( ما ) اسم
تام في موضع رفع بالابتداء و ( ذا ) بمعنى الذي وهو خبر المبتدأ مع صلته وجوابه
يكون على الأول منصوبا وعلى الثاني مرفوعا والإرادة نقيض الكراهة وقد اتفق
المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه و ( مثلا ) قال ثعلب منصوب
على القطع والتقدير أراد مثلا وقال ابن كيسان هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع
الحال وهذا أقوى من الأول وقوله ) يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ( هو كالتفسير
للجملتين السابقتين المصدرتين بأما فهو خبر من الله سبحانه وقيل هو حكاية لقول
الكافرين كأنهم قالوا ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى
هدى وليس هذا بصحيح فإن الكافرين لا يقرون بأن في القرآن شيئا من الهداية ولا
يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة قال القرطبي ولا خلاف أن قوله ) وما يضل به
إلا الفاسقين ( من كلام الله سبحانه وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال
المذكور هنا وفي نسبته إلى الله سبحانه وقد نقح البحث الرازي في تفسيره مفاتيح
الغيب في هذا الموضع تنقيحا نفيسا وجوده وطوله وأوضح فروعه وأصوله فليرجع إليه
فإنه مفيد جدا وأما صاحب الكشاف فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في
تفسيره فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سببا فهو من الإسناد المجازي إلى
ملابس للفاعل الحقيقي وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله ( يضل
) يخذل والفسق الخروج عن الشيء يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها والفأرة من
جحرها ذكر معنى هذا الفراء وقد استشهد أبو بكر بن الأنباري في كتاب الزاهر له على
معنى الفسق بقول رؤبة بن العجاج يهوين في نجد وغورا غائرا
فواسقا عن قصدها جوائر
قد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق وهذا
مردود عليه فقد حكى ذلك عن العرب وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس
والجوهري وابن الأنباري وغيرهم وقد ثبت في الصحيح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أنه قال ( خمس فواسق ) الحديث وقال في الكشاف الفسق الخروج عن القصد ثم ذكر عجز
بيت رؤبة المذكور ثم قال والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة
انتهى وقال القرطبي والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل
فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان انتهى وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي
ولا وجه لقصره على
""""""
صفحة رقم 58 """"""
بعض الخارجين دون بعض قال الرازي في تفسيره واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن أو كافر
فعند أصحابنا أنه مؤمن وعند الخوارج أنه كافر وعند المعتزلة لا مؤمن ولا كافر
واحتج المخالف بقوله تعالى ) بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ( وقوله ) إن المنافقين
هم الفاسقون ( وقوله ) حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر
والفسوق والعصيان ( وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام انتهى
البقرة : ( 27 ) الذين ينقضون عهد . . . . .
وقوله ) الذين ينقضون ( في محل نصب وصفا للفاسقين والنقض إفساد ما أبرم من بناء
حبل أو عهد والنقاضة ما نقض من حبل الشعر والعهد قيل هو الذي أخذه الله على بني
آدم حين استخرجهم من ظهره وقيل هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من
طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله ونقضهم ذلك ترك
العمل به وقيل بل هو نصب الأدلة على وحدانيته بالسموات والأرض وسائر مخلوقاته
ونقضه ترك النظر فيه وقيل هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس
والميثاق العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدة في العقد والربط والجمع
المواثيق والمياثيق وأنشد ابن الأعرابي حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا
ولا نسأل الأقوام عهد المياثق
واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الاستعارة والقطع معروف والمصدر في الرحم
القطيعة وقطعت الحبل قطعا وقطعت النهر قطعا ( وما ) في قوله ( ما أمر الله به ) في
موضع نصب بيقطعون و ( أن يوصل ) في محل نصب بأمر ويحتمل أن يكون بدلا من ما أو من
الهاء في به واختلفوا ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله فقيل الأرحام وقيل أمر أن
يوصل القول بالعمل وقيل أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه فقطعوه بتصديق بعضهم
وتكذيب البعض الآخر وقيل المراد به حفظ شرائعه وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة
وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها فهي عامة وبه قال الجمهور وهو الحق والمراد
بالفساد في الأرض الأفعال والأقوال المخالفة لما أمر الله به كعبادة غيره والإضرار
بعباده وتغيير ما أمر بحفظه وبالجملة فكل ما خالف الصلاح شرعا أو عقلا فهو فساد
والخسران النقصان والخاسر هو الذي نقص نفسه من الفلاح والفوز وهؤلاء لما استبدلوا
النقض بالوفاء والقطع بالوصل كان عملهم فسادا لما نقصوا أنفسهم من الفلاح والربح
الآثار الواردة في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مسعود وناس من الصحابة قال لما ضرب الله هذين
المثلين للمنافقين قوله ) مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( وقوله ) أو كصيب من
السماء ( قال المنافقون الله أعلا وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فانزل الله ( إن
الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ) الآية وأخرج الواحدي في تفسيره عن ابن عباس قال إن
الله ذكر آلهة المشركين فقال ) وإن يسلبهم الذباب شيئا ( وذكر كيد الآلهة فجعله
كبيت العنكبوت فقالوا أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن
على محمد أي شيء كان يصنع بهذا فأنزل الله ) إن الله لا يستحيي ( وأخرج عبدالرزاق
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحو قول ابن عباس
وأخرج ابن أبي خاتم عن الحسن قال لما نزلت ) يا أيها الناس ضرب مثل ( قال المشركون
ما هذا من الأمثال فيضرب فأنزل الله هذه الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
أبي العالية في قوله تعالى ) فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ( قال
يؤمن به المؤمن ويعلمون أنه الحق من ربهم ويهديهم الله به ويعرفه الفاسقون فيكفرون
به وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله ) يضل به كثيرا ( يعني
المنافقين ) ويهدي به كثيرا ( يعني المؤمنين ) وما يضل به إلا الفاسقين ( قال هم
المنافقون وفي قوله ) ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ( قال هو ما عهد إليهم في
القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس
""""""
صفحة رقم 59 """"""
في قوله ) وما يضل به إلا الفاسقين ( يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به وأخرج ابن
جرير عن قتادة قال فسقوا فأضلهم الله بفسقهم وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص قال الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد
ميثاقه وكان يسميهم الفاسقين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو
الشيخ عن قتادة قال ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق فمن أعطى
عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليوف به الله وقد ثبت عن رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن
نقض العهد والوعيد الشديد عليه واخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله )
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ( قال الرحم والقرابة وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي
في قوله ) ويفسدون في الأرض ( قال يعملون فيها بالمعصية وأخرج ابن المنذر عن مقاتل
في قوله ) أولئك هم الخاسرون ( يقول هم أهل النار وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر ومسرف وظالم ومجرم
وفاسق فإنما يعني به الكفر وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذم
البقرة 28
البقرة : ( 28 ) كيف تكفرون بالله . . . . .
كيف مبنية على الفتح لخفته وهي في موضع نصب بتكفرون ويسأل بها عن الحال وهذا
الإستفهام هو للإنكار عليهم والتعجيب من حالهم وهي متضمنة لهمزة الإستفهام والواو
في ) وكنتم ( للحال وقد مقدرة كما قال الزجاج والفراء وإنما صح جعل هذا الماضي
حالا لأن الحال ليس هو مجرد قوله ) وكنتم أمواتا ( بل هو وما بعده إلى قوله )
ترجعون ( كما جزم به صاحب الكشاف كأنه قال كيف تكفرون وقصتكم هذه أي وأنتم عالمون
بهذه القصة وبأولها وآخرها والأموات جمع ميت واختلف المفسرون في ترتيب هاتين
الموتتين والحياتين فقيل إن المراد ) وكنتم أمواتا ( قبل أن تخلقوا أي معدومين
لأنه يجوز إطلاق اسم الموت على المعدوم لاجتماعهما في عدم الإحساس ) فأحياكم ( أي
خلقكم ) ثم يميتكم ( عند انقضاء آجالكم ) ثم يحييكم ( يوم القيامة وقد ذهب إلى هذا
جماعة من الصحابة فمن بعدهم قال ابن عطية وهذا القول هو المراد بالاية وهو الذي لا
محيد للكفار عنه وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين ثم أحياء في الدنيا
ثم أمواتا فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى قال غيره والحياة التي تكون في القبر
على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا وقيل إن المراد كنتم أمواتا في ظهر آدم ثم
أخرجكم من ظهره كالذر ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم وقيل ) وكنتم أمواتا ( أي
نطفا في أصلاب الرجال ) ثم يحييكم ( حياة الدنيا ) ثم يميتكم ( بعد هذه الحياة )
ثم يحييكم ( في القبور ) ثم يميتكم ( في القبر ) ثم يحييكم ( الحياة التي ليس
بعدها موت قال القرطبي فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات وثلاث إحياءات وكونهم موتى
في ظهر آدم وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال فعلى
هذا يجيء أربع موتات وأربع إحياءات وقد قيل إن الله أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم
وأمهاتهم فيكون على هذا خمس موتات وخمس إحياءات وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد (
صلى الله عليه وسلم ) كما ورد في الحديث ( ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فاماتهم
الله إماتة حتى اذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم إلى أن قال فينبتون نبات
الحبة في حميل السيل ) وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد وقوله ) ثم إليه ترجعون (
أي إلى الله سبحانه فيجازيكم
""""""
صفحة رقم 60 """"""
بأعمالكم وقد قرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وسلام ويعقوب بفتح حرف
المضارعة وقرأ الجماعة بضمه قال في الكشاف عطف الأول بالفاء وما بعده بثم لأن
الإحياء الأول قد تعقب الموت بغير تراخ وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء والإحياء
الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيا ظاهرا وإن أريد به إحياء
القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور انتهى
ولا يخفاك أنه إن أراد بقوله أن الإحياء الأول قد تعقب الموت أنه وقع على ما هو
متصف بالموت فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة وإن أراد أنه وقع الإحياء
الأول عند أول اتصافه بالموت بخلاف الثاني فغير مسلم فإنه وقع عند آخر أوقات موته
كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته فتأمل هذا
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى ) وكنتم أمواتا (
الآية قال لم تكونوا شيئا فخلقكم ) ثم يميتكم ثم يحييكم ( يوم القيامة وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
قتادة نحوه أيضا وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال يميتكم ثم يحيكم في القبر ثم
يميتكم وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) وكنتم أمواتا ( قال حين لم تكونوا
شيئا ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة ثم يرجعون إليه بعد الحياة وأخرج ابن جرير
عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم قال خلقهم من ظهر آدم فأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم
ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة والصحيح الأول
البقرة 29
البقرة : ( 29 ) هو الذي خلق . . . . .
قال ابن كيسان ) خلق لكم ( أي من أجلكم وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء
المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل ولا فرق بين الحيوانات
وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر وفي التأكيد بقوله ) جميعا ( أقوى دلالة على هذا
وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس
الأرض وقال الرازي في تفسيره إن لقائل أن يقول إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه
في الأرض فيكون جامعا للوصفين ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض
وما يجري مجرى البعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه
انتهى وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال فإن قلت هل لقول من زعم أن
المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة قلت إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون
الغبراء كما تذكر السماء ويراد الجهات العلوية جاز ذلك فإن الغبراء وما فيها واقعة
في الجهات السفلية انتهى وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه وهو أيضا ضار فليس
مما ينتفع به أكلا ولكنه ينتفع فيه في منافع أخرى وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة
الأكل بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه وجميعا منصوب على الحال
والاستواء في اللغة الاعتدال والاستقامة قاله في الكشاف ويطلق على الإرتفاع والعلو
على الشيء قال تعالى ) فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ( وقال ) لتستووا على
ظهوره ( وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية وقد قيل إن هذه الآية من المشكلات وقد
ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها وخالفهم آخرون والضمير
في قوله ) فسواهن ( مبهم يفسره ما بعده كقولهم زيد رجلا وقيل إنه راجع إلى السماء
لأنها في معنى الجنس والمعنى أنه عدل خلقهن فلا اعوجاج فيه وقد استدل بقوله ) ثم
استوى ( على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء وكذلك الآية التي في حم السجدة
وقال في النازعات
""""""
صفحة رقم 61 """"""
) أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ( فوصف خلقها ثم قال ) والأرض بعد ذلك دحاها (
فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض وكذلك قوله تعالى ) الحمد لله الذي خلق
السماوات والأرض ( وقد قيل إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ودحوها متأخر وقد
ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم وهذا جمع جيد لابد من المصير إليه ولكن خلق ما في
الأرض لا يكون إلا بعد الدحو والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل
خلق السماء وهذا يقتضي بقاء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع وقوله ) سبع
سماوات ( فيه التصريح بأن السموات سبع وأما الأرض فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله
تعالى ) ومن الأرض مثلهن ( فقيل أي في العدد وقيل أي في غلظهن وما بينهن وقال
الداودي إن الأرض سبع ولكن لم يفتق بعضها من بعض والصحيح أنها سبع كالسموات وقد
ثبت في الصحيح قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه الله
من سبع أرضين ) وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد بن زيد ومعنى قوله تعالى ) فسواهن (
سوى سطوحهن بالإملاس وقيل جعلهن سواء قال الرازي في تفسيره فإن قيل فهل يدل
التنصيص على سبع سموات أي فقط قلنا الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي
الزائد والله أعلم انتهى وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع
ونحن نقول إنه لم يأتنا عن الله ولا عن رسوله إلا السبع فنقتصر على ذلك ولا نعمل
بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع ولم يأت شيء من ذلك وإنما أثبت لنفسه سبحانه
أنه بكل شيء عليم لأنه يجب أن يكون عالما بجميع ما ثبت أنه خالقه
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى ) هو الذي خلق لكم ما في
الأرض جميعا ( قال سخر لكم ما في الأرض جميعا كرامة من الله ونعمة لابن آدم وبلغة
ومنفعة إلى أجل وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ
في العظمة عن مجاهد في قوله ) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ( قال سخر لكم ما
في الأرض جميعا ) ثم استوى إلى السماء ( قال خلق الأرض قبل السماء فلما خلق الأرض
ثار منها دخان فذلك قوله ) ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ( يقول خلق سبع
سموات بعضهن فوق بعض وسبع أرضين بعضهن فوق بعض وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في
قوله ) هو الذي خلق لكم ما في الأرض ( الآية قالوا إن الله كان عرشه على الماء ولم
يخلق شيئا قبل الماء فلما أراد يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء
فسما عليه فسماه سماء ثم انبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها سبع أرضين في يومين
الأحد والإثنين فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله ) ن والقلم ( والحوت في
الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح
وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب
فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فذلك قوله تعالى ) وألقى في الأرض رواسي أن
تميد بكم ( وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها سخرها وما ينبغي لها في يومين في
الثلاثاء والأربعاء وذلك قوله ) أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض ( إلى قوله ) وبارك
فيها ( يقول أنبت شجرها ) وقدر فيها أقواتها ( يقول أقوات أهلها ) في أربعة أيام
سواء للسائلين ( يقول لمن سأل فهكذا الامر ) ثم استوى إلى السماء وهي دخان ( وكان
ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات
في يومين في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض
) وأوحى في كل سماء أمرها ( قال خلق في كل أسماء خلقها من الملائكة والخلق الذي
فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها
زينة وحفظا من الشياطين فلما فرغ
""""""
صفحة رقم 62 """"""
من خلق ما أحب استوى على العرش وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس ي
قوله ) ثم استوى إلى السماء ( يعني صعد أمره إلى السماء فسواهن يعني خلق سبع سموات
قال أجرى النار على الماء فبخر البحر فصعد في الهواء فجعل السموات منه وقد ثبت عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من حديث أبي هريرة في الصحيح قال ( أخذ النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) بيدي فقال خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد
وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث
فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر ) وقد ثبت عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) من طرق عند أهل السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف
السموات وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام
وأنها سبع سموات وان الأرض سبع ارضين وكذلك ثبت في وصف السماء آثار عن جماعة من
الصحابة وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية وإنما تركنا
ذكره ها هنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص بل هو متعلق بما هو أعم منها
البقرة 30
البقرة : ( 30 ) وإذ قال ربك . . . . .
( إذ ) من الظروف الموضوعة للتوقيت وهي للمستقبل وإذا للماضي وقد توضع إحداهما
موضع الأخرى وقال المبرد هي مع المستقبل للمضي ومع الماضى للاستقبال وقال أبو
عبيدة إنها هنا زائدة وحكاه الزجاج وابن النحاس وقالا هي ظرف زمان ليست مما يزاد
وهي هنا في موضع نصب بتقدير اذكر أو بقالوا وقيل هو متعلق بخلق لكم وليس بظاهر
والملائكة جمع ملك بوزن فعل قاله ابن كيسان وقيل جمع ملأك بوزن مفعل قاله أبو
عبيدة من لأك إذا أرسل والألوكة الرسالة قال لبيد وغلام أرسلته أمه
بألوك فبذلنا ما سأل
وقال عدي بن زيد أبلغ النعمان عني مألكا
أنه قد طال حبسي وانتظار
ويقال ألكني أي أرسلني وقال النضر بن شميل لا اشتقاق لملك عند العرب والهاء في
الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع ومثله الصلادمة والصلادم الخيل الشداد واحدها صلدم
وقيل هي المبالغة كعلامة ونسابة و ( جاعل ) هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين وذكر
المطرزي أنه بمعنى خالق وذلك يقتضي أنه متعد إلى مفعول واحد والأرض هنا هي هذه
الغبراء ولا يختص ذلك بمكان دون مكان وقيل إنها مكة والخليفة هنا معناه الخالف لمن
كان قبله من الملائكة ويجوز أن يكون معنى المخلوف أي يخلفه غيره قيل هو آدم وقيل
كل من له خلافة في الأرض ويقوي الأول قول خليفة دون خلائف واستغني بآدم عن ذكر من
بعده قيل خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة ولكن لاستخراج ما عندهم وقيل
خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب وقيل لأجل تعليم
عباده مشروعية المشاورة لهم وأما قولهم ) أتجعل فيها من يفسد فيها ( فظاهره أنهم
استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض لكونهم مظنة للإفساد في الأرض وإنما قالوا هذه
المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم بل قبل وجود آدم فضلا عن ذريته لعلم قد
علموه من
""""""
صفحة رقم 63 """"""
الله سبحانه بوجه من الوجوه لأنهم لا يعلمون الغيب قال بهذا جماعة من المفسرين
وقال بعض المفسرين إن في الكلام حذفا والتقدير إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا
وكذا فقالوا ) أتجعل فيها من يفسد فيها ( وقوله ( يفسد ) قائم مقام المفعول الثاني
والفساد ضد الصلاح وسفك الدم صبه قاله ابن فارس والجوهري ولا يستعمل السفك إلا في
الدم وواحد الدماء دم وأصله دمي حذف لامه وجملة ونحن نسبح بحمدك حالية والتسبيح في
كلام العرب التنزيه والتبعيد من السوء على وجه التعظيم قال الأعشى اقول لما جاءني
فخره
سبحان من علقمة الفاخر
( وبحمدك ) في موضع الحال أي حامدين لك وقد تقدم معنى الحمد والتقديس التطهير أي
ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون وافتراه الجاحدون وذكر في الكشاف أن
معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تبعيد الله من السوء وأنهما من سبح في الأرض
والماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد وفي القاموس وغيره من كتب اللغة ما يرشد
إلى ما ذكرناه والتأسيس خير من التأكيد خصوصا في كلام الله سبحانه ولما كان سؤالهم
واقعا على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم أجاب الله سبحانه عليهم بقوله )
إني أعلم ما لا تعلمون ( وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل لأن من علم ما لا
يعلم المخاطب له كان حقيقا بأن يسلم له ما يصدر عنه وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن
يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة
البالغة ولم يذكر متعلق قوله ( تعلمون ) ليفيد التعميم ويذهب السامع عند ذلك كل
مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال إن الله أخرج آدم من
الجنة قبل أن يخلقه ثم قرأ ) إني جاعل في الأرض خليفة ( وأخرج الحاكم وصححه عنه
أيضا نحوه وزاد وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان فأفسدوا في
الأرض وسفكوا الدماء فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنودا من الملائكة
فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور فلما قال الله ) إني جاعل في الأرض خليفة قالوا
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( كما فعل أولئك الجان فقال الله ) إني أعلم
ما لا تعلمون ( وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو مثله وأخرج ابن جرير عن ابن عباس
أطول منه وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال لما فرغ
الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا وكان من قبيلة
من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه
خازنا فوقع في صدره كبر وقال ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي فاطلع الله على ذلك
منه فقال للملائكة ) إني جاعل في الأرض خليفة ( قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة
قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا ربنا ) قالوا
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما
لا تعلمون ( وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن قتادة في الآية قال قد علمت الملائكة وعلم الله أنه لا شيء أكره عند
الله من سفك الدماء والفساد في الأرض وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال إياكم
والرأي فإن الله رد الرأي على الملائكة وذلك أن الله قال ) إني جاعل في الأرض
خليفة ( قالت الملائكة ) أتجعل فيها من يفسد فيها ( قال ) إني أعلم ما لا تعلمون (
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سابط أن النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) قال ( دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت ) فهي أول من طاف به
وهي الأرض التي قال الله ) إني جاعل في الأرض خليفة ( قال ابن كثير وهذا مرسل في
سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة والظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك
انتهى وأخرج
""""""
صفحة رقم 64 """"""
عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال التسبيح والتقديس المذكور في الآية
هو الصلاة وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن أنس قال قال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ( إن أول من لبي الملائكة قال الله تعالى ) إني جاعل في الأرض
خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( قال فرادوه فأعرض عنهم فطافوا
بالعرش ست سنين يقولون لبيك لبيك اعتذارا إليك لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك )
وثبت في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أحب الكلام
إلى الله ما اصطفاه لملائكته سبحان ربي وبحمده ) وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس
من الصحابة في قوله ) ونقدس لك ( قال نصلي لك وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال
التقديس التطهير وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) ونقدس لك ( قال
نعظمك ونكبرك وأخرجا عن أبي صالح قال نعظمك ونمجدك وأخرج عبدالرزاق وسعيد بن منصور
وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) أعلم ما لا تعلمون ( قال علم من إبليس
المعصية وخلقه لها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في تفسيرها قال كان في
علم الله أنه سيكون من الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة وأخرج أحمد
وعبد بن حميد وابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب عن عبدالله بن عمر أنه سمع
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت
الملائكة أي رب ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( الآية قالوا ربنا نحن
أطوع لك من بني آدم قال الله لملائكته هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبطا إلى
الأرض فننظر كيف يعملان فقالوا ربنا هاروت وماروت قال فاهبطا إلى الأرض فتمثلت
لهما الزهرة إمرأة من أحسن البشر وذكر القصة وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة
أحاديث من طريق جماعة من الصحابة في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطول
بذكرها
البقرة 31 33
البقرة : ( 31 ) وعلم آدم الأسماء . . . . .
( آدم ) أصله أأدم بهمزتين إلا أنهم لينوا الثانية وإذا حركت قلبت واو كما قالوا
في الجمع أوادم قاله الأخفش واختلف في اشتقاقه فقيل من أديم الأرض وهو وجهها وقيل
من الأدمة وهي السمرة قال في الكشاف وما آدم إلا اسم عجمي واقرب أمره أن يكون على
فاعل كآزر وعازر وعابر وشالخ وفالغ وأشباه ذلك و ( الأسماء ) هي العبارات والمراد
أسماء المسميات قال بذلك أكثر بذلك العلماء وهو المعنى الحقيقي للاسم والتأكيد
بقوله ( كلها ) يفيد أنه علمه جميع الأسماء ولم يخرج عن هذا شيء منها كائنا ما كان
وقال ابن جرير إنها أسماء الملائكة واسماء ذرية آدم ثم رجع هذا وهو غير راجح وقال
عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أسماء الذرية وقال الربيع بن خيثم أسماء الملائكة واختلف
أهل العلم هل عرض على الملائكة المسميات أو الأسماء والظاهر الأول لأن عرض نفس
الأسماء غير واضح وعرض الشيء إظهاره ومنه عرض الشيء للبيع وإنما
""""""
صفحة رقم 65 """"""
ذكر ضمير المعروضين تغليبا للعقلاء على غيرهم وقرأ ابن مسعود ( عرضهن ) وقرأ أبي (
عرضها ) وإنما رجع ضمير عرضهم إلى مسميات مع عدم تقدم ذكرها لأنه قد تقدم ما يدل
عليها وهو أسماؤها قال ابن عطية والذي يظهر أن الله علم آدم الأسماء وعرض عليه مع
ذلك الأجناس أشخاصا ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن أسماء مسمياتها التي قد
تعلمها آدم فقال لهم آدم هذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا قال الماوردي فكان الأصح توجه
العرض إلى المسمين ثم في زمن عرضهم قولان أحدهما أنه عرضهم بعد أن خلقهم الثاني
أنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم وأما أمره سبحانه للملائكة بقوله ) أنبئوني
بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( فهذا منه تعالى لقصد التبكيت لهم مع علمه بأنهم
يعجزون عن ذلك والمراد ) إن كنتم صادقين ( أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني
كذا قال المبرد وقال أبو عبيد وابن جرير إن بعض المفسرين قال معنى ) إن كنتم
صادقين ( إذ كنتم قالا وهذا خطأ ومعنى ( أنبؤني ) أخبروني فلما قال لهم ذلك
اعترفوا بالعجز والقصور
البقرة : ( 32 ) قالوا سبحانك لا . . . . .
فقالوا ) سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ( وسبحان منصوب على المصدرية عند الخليل
وسيبويه وقال الكسائي هو منصوب على أنه منادى مضاف وهذا ضعيف جدا والعليم للمبالغة
والدلالة على كثرة المعلومات والحكيم صيغة مبالغة في إثبات الحكمة له
البقرة : ( 33 ) قال يا آدم . . . . .
ثم أمر الله سبحانه آدم أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة فعجزوا
واعترفوا بالقصور ولهذا قال سبحانه ) ألم أقل لكم ( الآية قال فيما تقدم ) أعلم ما
لا تعلمون ( ثم قال هنا ) أعلم غيب السماوات والأرض ( تدرجا من المجمل إلى ما هو
مبين بعض بيان ومبسوط بعض بسط وفي اختصاصه بعلم غيب السموات والأرض رد لما يتكلفه
كثير من العباد من الاطلاع على شيء من علم الغيب كالمنجمين والكهان وأهل الرمل
والسحر والشعوذة والمراد بما يبدون وما يكتمون ما يظهرون ويسرون كما يفيده معنى
ذلك عند العرب ومن فسره بشيء خاص فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج الفريابي وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس
قال إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن
سعيد بن جبير وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله )
وعلم آدم الأسماء كلها ( قال علمه اسم الصحفة والقدر وكل شيء وأخرج ابن جرير عنه
نحوه واخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه في تفسير الآية قال عرض عليه أسماء ولده
إنسانا إنسانا والدواب فقيل هذا الجمل هذا الحمل هذا الفرس وأخرج الحاكم في تاريخه
وابن عساكر والديلمي عن عطية بن بشر مرفوعا في قوله ) وعلم آدم الأسماء كلها ( قال
علم الله آدم في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف وقال له قل لأولادك ولذريتك إن لم
تصبروا عن الدنيا فاطلبوها بهذه الحرف ولا تطلبوها بالدين فإن الدين لي وحدي خالصا
ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له وأخرج الديلمي عن أبي رافع قال قال رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ( مثلت لي أمتي في الماء والطين وعلمت الأسماء كلها كما علم
آدم الأسماء كلها ) وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في تفسير الآية قال أسماء ذريته
أجمعين ) ثم عرضهم ( قال أخذهم من ظهره وأخرج عن الربيع بن أنس قال أسماء الملائكة
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس (
ثم عرضهم ) يعني عرض أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف الخلق ) فقال
أنبئوني ( يقول أخبروني ) بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( إن كنتم تعلمون أني لم
أجعل في الأرض خليفة ) قالوا سبحانك ( تنزيها لله من أن يكون يعلم الغيب أحد غيره
تبنا إليك ) لا علم لنا ( تبرءوا منهم من علم الغيب ) إلا ما علمتنا ( كما علمت
آدم وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال عرض أصحاب الأسماء على الملائكة وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس في قوله ) إنك أنت العليم الحكيم ( قال
""""""
صفحة رقم 66 """"""
العليم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمه وأخرج ابن جرير عن ابن
مسعود وناس من الصحابة في قوله ( إن كنتم صادقين ) أن بني آدم يفسدون في الأرض
ويسفكون الدماء ( وأعلم ما تبدون ) قال قولهم ( أتجعل فيها من يفسد فيها وما كنتم
تكتمون ) يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال ( ما
تبدون ) ما تظهرون ( وما كنتم تكتمون ) يقول أعلم السر كما أعلم العلانية
البقرة 34
البقرة : ( 34 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . .
( إذ ) متعلق بمحذوف تقديره واذكر إذ قلنا وقال أبو عبيدة إذ زائدة وهو ضعيف وقد
تقدم الكلام في الملائكة وآدم السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع وغايته
وضع الوجه على الأرض قال ابن فارس سجد إذا تطامن وكل ما سجد فقد ذل والإسجاد إدامة
النظر وقال أبو عمر وسجد إذا طأطأ رأسه وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام
عظيمة حيث اسجد الله له ملائكته وقيل إن السجود كان لله ولم يكن لآدم وإنما كانوا
مستقبلين له عند السجود ولا ملجىء لهذا فإن السجود للبشر قد يكون جائزا في بعض
الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم وكذلك الآية
الأخرى أعني قوله ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( وقال تعالى )
ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ( فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكون كذلك في سائر الشرائع ومعنى السجود هنا هو
وضع الجبهة على الأرض واليه ذهب الجمهور وقال قوم هو مجرد التذلل والإنقياد وقد
وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الأسماء أم بعده وقد أطال
البحث في ذلك البقاعي في تفسيره وظاهر السياق أنه وقع التعليم وتعقبه الأمر
بالسجود وتعقبه إسكانه الجنة ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض وقوله ( إلا إبليس )
استثناء متصل لأنه كان من الملائكة على ما قاله الجمهور وقال شهر بن حوشب وبعض
الأصوليين ( كان من الجن ) الذين كانوا في الأرض فيكون الاستنثاء على هذا منقطعا
واستدلوا على هذا بقوله تعالى ) لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (
وبقوله تعالى ) إلا إبليس كان من الجن ( والجن غير الملائكة وأجاب الأولون بأنه لا
يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة لما سبق في علم الله من شقائه عدلا منه ) لا
يسأل عما يفعل ( وليس في خلقه من نار ولا تركيب الشهوة فيه حين غضب عليه ما يدفع
أنه من الملائكة وأيضا على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستنثاء متصلا تغليبا
للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم ومعنى ( أبى
) امتنع من فعل ما أمر به والاستكبار الاستعظام للنفس وقد ثبت في الصحيح عنه ( صلى
الله عليه وسلم ) ( أن الكبر بطر الحق وغمط الناس ) وفي رواية ( غمص ) بالصاد
المهملة ( وكان من الكافرين ) أي من جنسهم قيل إن ( كان ) هنا بمعنى صار وقال ابن
فورك إنه خطأ ترده الأصول
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كانت السجدة لآدم والطاعة لله وأخرج ابن
أبي حاتم عن الحسن قال سجدوا كرامة من الله أكرم بها آدم وأخرج ابن عساكر عن
إبراهيم المزني قال إن الله جعل آدم كالكعبة وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم
وابن الأنباري عن ابن عباس قال كان إبليس اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة من
ذوي الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال
إنما سمي إبليس لأن الله أبلسه من الخير كله أي آيسه منه وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير وابن الأنباري عنه
""""""
صفحة رقم 67 """"""
قال كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض
وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما فذلك دعاه إلى الكبر وكان من حي يسمون
جنا وأخرج ابن المنذر والبيهقي في الشعب عنه قال كان إبليس من خزان الجنة وكان
يدبر أمر سماء الدنيا وأخرج محمد بن نصر عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ( إن الله أمر آدم بالسجود فسجد فقال لك الجنة ولمن سجد من ولدك وامر إبليس
بالسجود فأبي أن يسجد فقال لك النار ولمن أبي من ولدك أن يسجد ) وأخرج ابن المنذر
عن ابن عباس في قوله ( وكان من الكافرين ) قال جعله الله كافرا لا يستطيع أن يؤمن
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر
والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره إلى ما ابتدىء إليه خلقه من الكفر قال الله (
وكان من الكافرين )
البقرة 35 39
الآثار الوارده في تفسير الآيات
( اسكن ) أي اتخذ الجنة مسكنا وهو محل السكون وأما ما قاله بعض المفسرين من أن في
قوله ( اسكن ) تنبيها على الخروج لأن السكنى لا تكون ملكا وأخذ ذلك من قول جماعة
من العلماء أن من أسكن رجلا منزلا له فإنه لا يملكه بذلك وإن له أن يخرجه منه فهو
معنى عرفي والواجب الأخذ بالمعنى العربي إذا لم تثبت في اللفظ حقيقة شرعية و ( أنت
) تأكيد للضمير المستكن في الفعل ليصح العطف عليه كما تقرر في علم النحو أنه لا
يجوز العطف على الضمير المرفوع المستكن إلا بعد تأكيده بمنفصل وقد يجيء العطف
نادرا بغير تأكيد كقول الشاعر قلت إذا أقبلت وزهر تهادى
كنعاج الملا تعسفن رملا
وقوله ( وزوجك ) أي حواء وهذه هي اللغة الفصيحة زوج بغير هاء وقد جاء بها قليلا
كما في صحيح مسلم من حديث أنس ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مع إحدى
نسائه فمر به رجل فدعاه وقال يا فلان هذه زوجتي فلانة ) الحديث ومنه قول الشاعر
وإن الذي يسعي ليفسد زوجتي
كساع إلى أسد الشرى يستميلها
و ( رغدا ) بفتح المعجمة وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها والرغد العيش الهنيء الذي
لا عناء فيه وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف و ( حيث ) مبنية على الضم وفيها لغات
كثيرة مذكورة في كتب العربية القرب الدنو قال في الصحاح قرب الشيء بالضم يقرب قربا
أي دنا وقربته بالكسر أقربه قربانا أي دنوت منه وقربت أقرب قرابة مثل كتبت أكتب
كتابة إذا سرت إلى الماء وبينك وبينة ليلة والاسم القرب
""""""
صفحة رقم 68 """"""
قال الأصمعي قلت لأعرابي ما القرب قال سير الليل لورود الغد والنهي عن القرب فيه
سد للذريعة وقطع للوسيلة ولهذا جاء به عوضا عن الأكل ولا يخفى أن النهي عن القرب
لا يستلزم النهي عن الأكل لأنه قد يأكل من ثمر الشجرة من هو بعيد عنها إذا يحمل
إليه فالأولى أن يقال المنع من الأكل مستفاد من المقام والشجر ما كان له ساق من
نبات الأرض وواحده شجرة وقريء بكسر الشين وبالياء المثناة من تحت مكان الجيم وقرأ
ابن محيصن ( هذي ) بالياء بدل الهاء وهو الأصل واختلف أهل العلم في تفسير هذه الشجرة
فقيل هي الكرم وقيل النسنبلة وقيل التين وقيل الحنطة وسيأتي ما روى عن الصحابة فمن
بعدهم في تعيينها وقوله ( فتكونا ) معطوف على ( تقربا ) في الكشاف أو نصب في جواب
النهي وهو الأظهر والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه والأرض المظلومة التي لم
تحفر قط ثم حفرت ورجل ظليم شديد الظلم والمراد هنا ( فتكونا من الظالمين ) لأنفسهم
بالمعصية وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء واختلاف مذاهبهم في ذلك مدون في مواطنه
وقد أطال البحث في ذلك الرازي في تفسيره في هذا الموضع فليرجع إليه فإنه مفيد
البقرة : ( 36 ) فأزلهما الشيطان عنها . . . . .
وأزلهما من الزلة وهي الخطيئة أي استزلهما وأوقعهما فيها وقرأ حمزة ( فأزالهما )
بإثبات الألف من الإزالة وهي التنحية أي نحاهما وقرأ الباقون بحذف الألف قال ابن
كيسان هو من الزوال أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية قال القرطبي
وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى يقال منه
أزللته فزل و ( عنها ) متعلق بقوله أزلهما على تضمينه معنى أصدر أي أصدر الشيطان
زلتهما عنها أي بسببها يعني الشجرة وقيل الضمير للجنة وعلى هذا فالفعل مضمن معنى
أبعدهما أي أبعدهما عن الجنة وقوله ) فأخرجهما ( تأكيد لمضمون الجملة الأولى أي
أزلهما إن كان معناه زال عن المكان وإن لم يكن معناه كذلك فهو تأسيس لأن الإخراج
فيه زيادة على مجرد الصرف والإبعاد ونحوهما لأن الصرف عن الشجرة والإبعاد عنها قد
يكون مع البقاء في الجنة بخلاف الاخراج لهما عما كانا فيه من النعيم والكرامة أو
من الجنة وإنما نسب ذلك إلى الشيطان لأنه الذي تولى إغواء آدم حتى أكل من الشجرة
وقد اختلف أهل العلم في الكيفية التي فعلها الشيطان في إزلالهما فقيل إنه كان ذلك
بمشافهة منه لهما واليه ذهب الجمهور واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ) وقاسمهما إني
لكما لمن الناصحين ( والمقاسمة ظاهرها المشافهة وقيل لم يصدر منه إلا مجرد الوسوسة
وقيل غير ذلك مما سيأتي في المروي عن السلف وقوله ) اهبطوا ( خطاب لآدم وحواء
وخوطبا بما يخاطب به الجمع لأن الإثنين أقل الجمع عند البعض من أئمة العربية وقيل
إنه خطاب لهما ولذريتهما لأنهما لما كانا أصل هذا النوع الإنساني جعلا بمنزلته
ويدل على ذلك قوله ) بعضكم لبعض عدو ( فإن هذه الجملة الواقعة حالا مبينا للهيئة
الثابتة للمأمورين بالهبوط تفيد ذلك والعدو خلاف الصديق وهو من عدا إذا ظلم ويقال
ذئب عدوان أي يعدو على الناس والعدوان الظلم الصراح وقيل إنه مأخوذ من المجاوزة
يقال عداه إذا جاوزه والمعنيان متقاربان فإن من ظلم فقد تجاوز وإنما أخبر عن قوله
( بعضكم ) بقوله ( عدو ) مع كونه مفردا لأن لفظ بعض وإن كان معناه محتملا للتعدد
فهو مفرد فروعي جانب اللفظ واخبر عنه بالمفرد وقد يراعى المعنى فيخبر عنه بالمتعدد
وقد يجاب بأن ( عدو ) وإن كان مفردا فقد يقع موقع المتعدد كقوله تعالى ) وهم لكم
عدو ( وقوله ) يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو ( قال ابن فارس العدو اسم جامع
للواحد والإثنين والثلاثة والمراد بالمستقر موضع الاستقرار ومنه ) أصحاب الجنة
يومئذ خير مستقرا ( وقد يكون بمعنى الاستقرار ومنه ) إلى ربك يومئذ المستقر (
فالآية محتملة للمعنيين ومثلها قوله ) جعل لكم الأرض قرارا ( والمتاع ما يستمتع به
من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها واختلف المفسرون في قوله
""""""
صفحة رقم 69 """"""
( إلى حين ) فقيل إلى الموت وقيل إلى قيام الساعة واصل معنى الحين في اللغة الوقت
البعيد ومنه ) هل أتى على الإنسان حين من الدهر ( والحين الساعة ومنه ) أو تقول
حين ترى العذاب ( والقطعة من الدهر ومنه ) فذرهم في غمرتهم حتى حين ( أي حتى تفنى
آجالهم ويطلق على السنة وقيل على ستة أشهر ومنه ) تؤتي أكلها كل حين ( ويطلق على
المساء والصباح ومنه ) حين تمسون وحين تصبحون ( وقال الفراء الحين حينان حين لا
يوقف على حده ثم ذكر الحين الآخر واختلافه بحسب اختلاف المقامات كما ذكرنا وقال
ابن العربي الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم سنة
البقرة : ( 37 ) فتلقى آدم من . . . . .
ومعنى تلقي آدم للكلمات أخذه لها وقبوله لما فيها وعمله بها وقيل فهمه لها وفطانته
لما تضمنته واصل معنى التلقي الاستقبال أي استقبل الكلمات الموحاة إليه ومن قرأ
بنصب ( آدم ) جعل معناه استقبلته الكلمات وقيل إن معنى تلقي تلقن ولا وجه له في
العربية واختلف السلف في تعيين هذه الكلمات وسيأتي والتوبة الرجوع يقال تاب العبد
إذا رجع إلى طاعة مولاه وعبد تواب كثير الرجوع فمعنى تاب عليه رجع عليه بالرحمة
فقبل توبته أو وفقه للتوبة واقتصر على ذكر التوبة على آدم دون حواء مع اشتراكهما
في الذنب لأن الكلام من أول القصة معه فاستمر على ذلك واستغنى بالتوبة عليه عن ذكر
التوبة عليها لكونها تابعة له كما استغنى بنسبة الذنب إليه عن نسبته إليها في قوله
) وعصى آدم ربه فغوى )
البقرة : ( 38 ) قلنا اهبطوا منها . . . . .
وأما قوله ) قلنا اهبطوا ( بعد قوله ) قلنا اهبطوا ( فكرره للتوكيد والتغليظ وقيل
إنه لما تعلق به حكم غير الحكم الأول كرره ولا تزاحم بين المقتضيات فقد يكون
التكرير للأمرين معا وجواب الشرط في قوله ) فإما يأتينكم مني هدى ( هو الشرط
الثاني مع جوابه قاله سيبويه وقال الكسائي إن جواب الشرط الأول والثاني قوله ) فلا
خوف ( واختلفوا في معنى الهدى المذكور فقيل هو كتاب الله وقيل التوفيق للهداية
والخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمار وابن
أبي إسحاق ويعقوب ( فلا خوف ) بفتح الفاء والحزن ضد السرور قال اليزيدي حزنه لغة
قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما
البقرة : ( 39 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
وصحبة أهل النار لها بمعنى الاقتران والملازمة وقد تقدم ذكر تفسير الخلود
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر قال ( قلت يا رسول الله أرأيت آدم نبيا
كان قال نعم كان نبيا رسولا كلمه الله قال له ) يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة (
وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني عن أبي ذر قال ( قلت يا رسول الله من أول الأنبياء
قال آدم قلت نبي قال نعم قلت ثم من قال نوح وبينهما عشرة آباء ) وأخرج أحمد
والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب نحوه من حديث أبي ذر مرفوعا وزاد ( كم كان
المرسلون قال ثلثمائة وخمسة عشر جما غفيرا ) وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان
والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي أن رجلا قال ( يا رسول
الله أنبي كان آدم قال نعم قال كم بينه وبين نوح قال عشرة قرون قال كم بين نوح وبين
إبراهيم قال عشرة قرون قال يا رسول الله كم الأنبياء قال مائة ألف واربعة وعشرون
ألفا قال يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك قال ثلثمائة وخمسة عشر جما غفيرا )
وأخرج أحمد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه من حديث أبي أمامة نحوه وصرح بأن
السائل أبو ذر وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال ما سكن آدم الجنة
إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وأخرج عبدالرزاق وابن المنذر وابن مردويه
والبيهقي عنه قال ( ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة ) وأخرج
الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن قال لبث آدم في الجنة
ساعة من نهار تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا وقد روى تقدير الليث في
الجنة عن سعيد بن جبير بمثل ما تقدم عن ابن عباس كما رواه أحمد في الزهد وأخرج
""""""
صفحة رقم 70 """"""
ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وناس من
الصحابة قالوا لما سكن آدم الجنة كان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليها فنام
نومة فاستيقظ وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه وأخرج البخاري ومسلم
عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( استوصوا بالنساء خيرا
فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء من الضلع رأسه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن
تركته تركته وفيه عوج ) وروى أبو الشيخ وابن عساكر عن ابن عباس قال إنما سميت حواء
لأنها أم كل حي وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن النخعي قال لما خلق الله آدم وخلق له
زوجه بعث إليه ملكا وأمره بالجماع ففعل فلما فرغ قالت له حواء يا آدم هذا طيب زدنا
منه وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال الرغد الهنيء
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال الرغد سعة المعيشة وأخرجا عنه في
قوله ) وكلا منها رغدا حيث شئتما ( قال لا حساب عليكم وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال الشجرة التي نهى الله
عنها آدم السنبلة وفي لفظ البر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عنه قال هي الكرم وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله وأخرج أبو الشيخ عنه قال
هي اللوز وأخرج ابن جرير عن بعض الصحابة قال هي التينة وروى مثله أبو الشيخ عن
مجاهد وابن أبي حاتم عن قتادة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن وهب ابن منبه قال
هي البر وأخرج أبو الشيخ عن أبي مالك قال هي النخلة وأخرج أبو الشيخ عن يزيد عن
عبدالله ابن قسيط قال هي الأترج وأخرج أحمد في الزهد عن شعيب الجبائي قال هي تشبه
البر وتسمى الدعة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله )
فأزلهما ( قال فأغواهما وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم بن بهدلة قال ) فأزلهما (
فنحاهما وأخرج أبو داود في المصاحف عن الأعمش قال قراءتنا في البقرة مكان فأزلهما
فوسوس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا أراد
إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم
كأنها البعير وهي كأحسن الدواب فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم
فأدخلته في فمها فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر
فكلمه من فمها فلم يبال بكلامه فخرج إليه فقال يا آدم ) هل أدلك على شجرة الخلد
وملك لا يبلى ( وحلف لهما بالله ) إني لكما لمن الناصحين ( فابى آدم أن يأكل منها
فتقدمت حواء فأكلت ثم قالت يا آدم كل فإني قد أكلت فلم يضرني فلما أكلا ) بدت لهما
سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ( وقد أخرج قصة الحية ودخول إبليس معها
عبدالرزاق وابن جرير عن ابن عباس وأخرج ابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن
المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي بن كعب عن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) قال ( إن آدم كان رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق طوله ستون ذراعا كثير شعر
الرأس فلما ركب الخطيئة بدت له عورته ) الحديث وأخرج ابن منيع وابن المنذر وأبو
الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال قال الله لآدم ما حملك على
أن أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها قال يا رب زينته لي حواء قال فإني عاقبتها بأن
لا تحمل لا كرها ولا تضع إلا كرها وأدميتها في كل شهر مرتين وأخرج البخاري والحاكم
عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لولا بنو إسرائيل لم يخنز
اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها ) وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة
في الصحيحين وغيرهما في محاجة آدم وموسى وحج
""""""
صفحة رقم 71 """"""
آدم موسى بقوله أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض
عدو ( قال آدم وحواء وإبليس والحية ) ولكم في الأرض مستقر ( قال القبور ) ومتاع
إلى حين ( قال الحياة وروى نحو ذلك عن مجاهد وأبي صالح وقتادة كما أخرجه عن الأول
والثاني أبو الشيخ وعن الثالث عبد بن حميد وأخرج أبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله )
ولكم في الأرض مستقر ( قال القبور ( ومتاع إلى حين ) قال إلى يوم القيامة وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال اهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال ( أول ما أهبط الله آدم إلى أرض الهند )
وفي لفظ ( بدجنى أرض الهند ) وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه أهبط إلى أرض بين مكة
والطائف وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي عنه قال قال علي بن أبي طالب أطيب
ريح الأرض الهند هبط بها آدم فعلق شجرها من ريح الجنة وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن
أبي عباس قال أهبط آدم بالهند وحواء بجدة فجاء في طلبها حتى أتى جمعا فازدلفت إليه
حواء فلذلك سميت المزدلفة واجتمعا بجمع وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي
هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنزل آدم عليه السلام بالهند
فاستوحش فنزل جبريل فنادى بالأذان فلما سمع ذكر محمد قال له ومن محمد هذا قال هذا
آخر ولدك من الأنبياء ) وقد روى عن جماعة من الصحابة أن آدم أهبط إلى أرض الهند
منهم جابر أخرجه ابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن عساكر ومنهم ابن عمر أخرجه
الطبراني وأخرج ابن عساكر عن علي قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله
لما خلق الدنيا لم يخلق فيها ذهبا ولا فضة فلما أهبط آدم وحواء أنزل معهما ذهبا
وفضة فسلكه ينابيع في الأرض منفعة لأولادهما من بعهدهما وجعل ذلك صداق لحواء فلا
ينبغي لأحد أن يتزوج إلا بصداق ) وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال قال رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هبط آدم وحواء عريانين جميعا عليهم ورق الجنة قعد
يبكي ويقول لها يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبريل بقطن وأمرها أن تغزل وعلمها
وأمر آدم بالحياكة وعلمه ) وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا ( أول من حاك
آدم عليه السلام ) وقد روى عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم حكايات في صفة
هبوط آدم من الجنة وما أهبط معه وما صنع عند وصوله إلى الأرض ولا حاجة لنا ببسط
جميع ذلك وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله ) فتلقى آدم من ربه كلمات
( قال أي رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال أي رب الم تنفخ في من روحك قال بلى قال
أي رب ألم تسبق إلي رحمتك قبل غضبك قال بلى قال أي رب ألم تسكني جنتك قال بلى قال
أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة قال نعم وأخرج الطبراني في الاوسط
وابن عساكر بسند ضعيف عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لما أهبط
الله آدم إلى الأرض قام وجاه الكعبة فصلى ركعتين ) الحديث وقد روى نحوه بإسناد لا
بأس به أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدعوات وابن
عساكر من حديث بريدة مرفوعا وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في وقوله ) فتلقى آدم من
ربه كلمات ( قال قوله ) ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين ( وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جرير عنه مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن كعب القرظي في قوله
) فتلقى آدم من ربه كلمات ( مثله وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن
""""""
صفحة رقم 72 """"""
مجاهد مثله وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك مثله وأخرج عبد بن حميد وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قيل له ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه قال علم
شأن الحج فهي الكلمات وأخرج عبد بن حميد عن عبدالله بن زيد في قوله ) فتلقى آدم من
ربه كلمات ( قال لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك
أنت خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني
إنك أنت أرحم الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فتب
علي إنك أنت التواب الرحيم وأخرج نحوه البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أنس
وأخرج نحوه هنا وفي الزهد عن سعيد بن جبير وأخرج نحوه ابن عساكر من طريق جويبر عن
الضحاك عن ابن عباس وأخرج نحوه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن علي مرفوعا
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) فإما يأتينكم مني هدى (
قال الهدى الأنبياء والرسل والبيان وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل
قال قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فمن تبع هدي ) بتثقيل الياء وفتحها
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ) فلا خوف عليهم ( يعني في الآخرة )
ولا هم يحزنون ( يعني لا يحزنون للموت
البقرة 40 42
الترابط بين الآيات
اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته
واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض
الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه وذلك أنهم ارادوا أن
يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف
فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلا عن كلام
الرب سبحانه حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف كما فعله
البقاعي في تفسيره ومن تقدمه حسبما ذكر في خطبته وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من
يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول
الوحي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أن قبضه الله عز وجل إليه وكل
عاقل فضلا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار
نفسها بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالا وتحليل أمر كان حراما وإثبات أمر
لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة
مع الكافرين وتارة مع من مضي وتارة مع من حضر وحينا في عبادة وحينا في معاملة
ووقتا في ترغيب ووقتا في ترهيب وآونة في بشارة وآونة في نذارة وطورا في أمر دنيا
وطورا في أمر آخرة ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية وإذا كانت أسباب
النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف
فالقرآن النازل فيها هو بإعتباره نفسه مختلف كإختلافها فكيف يطلب العاقل المناسبة
بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي وهل هذا إلا من
""""""
صفحة رقم 73 """"""
فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل
والقصور فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون
ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا أمر لا بد منه وأنه لا يكون القرآن بليغا معجزا إلا
إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة وتبين الأمر الموجب للإرتباط فإن وجد الاختلاف بين
الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفا محضا وتعسفا بينا انقدح في
قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتبا على هذا
الترتيب الكائن في المصحف فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته
يعلم علما يقينا أنه لم يكن كذلك ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم
رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المطلعين على حوادث النبوة فإنه
ينثلج صدره ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلا عن المطولة
لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة لا
مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل
) اقرأ باسم ربك الذي خلق ( وبعده ) يا أيها المدثر ( ) يا أيها المزمل ( وينظر
وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى
لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله
متأخرا وتأخر ما أنزله الله متقدما فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل
إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة وما أقل نفع مثل هذا
وأنزر ثمرته وأحقر فائدته بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات
وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس وأنت
تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه
ورسائله وإنشاءاته أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحا
واخرى هجاء وحينا نسيبا وحينا رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة فعمد هذا
المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفا آخر فناسب بين
الخطبة التي خطبها في الجهاد والخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في
النكاح ونحو ذلك وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء
وما يشابه ذلك لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابا في عقله متلاعبا بأوقاته عابثا
بعمره الذي هو رأس ماله وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام
البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكمت
فصاحته فصحاء عدنان وفحطان وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن
بأنه عربي وأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى به مجاريهم في
الخطاب وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متحالفة وطرائق
متباينة فضلا عن المقامين فضلا عن المقامات فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا وكذلك
شاعرهم ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من
المحققين وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني
إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام فإذا قال متكلف كيف ناسب
هذا ما قبله قلنا لا كيف فدع عنك نهبا صيح في حجراته
وهات حديثا ما حديث الرواحل
البقرة : ( 40 ) يا بني إسرائيل . . . . .
قوله ( يا بني إسرائيل ) اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم عليهم السلام ومعناه
""""""
صفحة رقم 74 """"""
عبدالله لأن إسر في لغتهم هو العبد وإيل هو الله قيل إن له اسمين وقيل إسرائيل لقب
له وهو اسم عجمي غير منصرف وفيه سبغ لغات إسرائيل بزنة إبراهيم وإسرائل بمدة
مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ عن ورش وإسرائيل بمدة بعد الياء من غير همز وهي
قراءة الأعمش وعيسى بن عمر وقرأ الحسن من غير همز ولا مد وإسرائل بهمزة مكسورة
وإسراءل بهمزة مفتوحة وتميم يقولون إسرائين والذكر هو ضد الإنصات وجعله بعض أهل
اللغة مشتركا بين ذكر القلب واللسان وقال الكسائي ما كان بالقلب فهو مضموم الذال
وما كان باللسان فهو مكسور الذال قال ابن الأنباري والمعنى في الآية اذكروا شكر
نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة وهي اسم جنس ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء
وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وأخرج لهم الماء من الحجر ونجاهم من آل فرعون
وغير ذلك والعهد قد تقدم تفسيره واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية
ما هو فقيل هو المذكور في قوله تعالى ) خذوا ما آتيناكم بقوة ( وقيل هو ما في قوله
) ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ( وقيل هو قوله )
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ( وقال الزجاج هو ما أخذ عليهم في التوراة
من اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل هو أداء الفرائض ولا مانع من حمله على
جميع ذلك ومعنى قوله ) أوف بعهدكم ( أي بما ضمنت لكم من الجزاء والرهب والرهبة
الخوف ويتضمن الأمر به معنى التهديد وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدم في
) إياك نعبد ( وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار والتفسير مثل زيدا ضربته )
وإياي فارهبون ( كان أوكد في إفادة الإختصاص ولهذا قال صاحب الكشاف وهو أوكد في
إفادة الاختصاص من إياك نعبد وسقطت الياء من قوله ) فارهبون ( لأنها رأس آية )
ومصدقا ( حال من ( ما ) في قوله ) ما أنزلت ( أو من ضميرها المقدر بعد الفعل أي
أنزلته
البقرة : ( 41 ) وآمنوا بما أنزلت . . . . .
وقوله ) أول كافر به ( إنما جاء به مفردا ولم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله لأنه
وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ متعدد المعنى نحو فريق أو فوج وقال الأخفش والفراء
إنه محمول على معنى الفعل لأن المعنى أول من كفر وقد يكون من باب قولهم هو أظرف
الفتيان وأجمله كما حكى ذلك سبيويه فيكون هذا المفرد قائما مقام الجمع وإنما قال
أول مع أنه قد تقدمهم إلى الكفر به كفار قريش لأن المراد أول كافر به من أهل
الكتاب لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء وما يلزم من التصديق والضمير في به عائد
إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا تكونوا أول كافر بهذا النبي مع كونكم قد
وجدتموه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل مبشرا به في الكتب المنزلة عليكم وقد
حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) في الكتب السالفة وقيل إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله )
بما أنزلت ( وقيل عائد إلى التوراة المدلول عليها بقول ) لما معكم ( وقوله ) ولا
تشتروا بآياتي ( أي بأوامري ونواهي ) ثمنا قليلا ( أي عيشا نزرا ورئاسة لا خطر لها
جعل ما اعتاضوه ثمنا وأوقع الاشتراء عليه وإن كان الثمن هو المشتري به لأن
الاشتراء هنا مستعار للاستبدال أي لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا وكثيرا ما يقع
مثل هذا في كلامهم وقد قدمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى ) اشتروا الضلالة
بالهدى ( ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر إن كنت
حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أصبت بترك الحج من ثمن
وهذه الآية وإن كانت خطابا لبني إسرائيل ونهيا لهم فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى
الخطاب أو بلحنه فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به أو إثبات باطل
نهى الله عنه أو امتنع من تعليم
""""""
صفحة رقم 75 """"""
ما علمه الله وكتم البيان الذي أخذ الله عليه ميثاقه به فقد اشترى بآيات الله ثمنا
قليلا وقوله ) وإياي فاتقون ( الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى ) وإياي فارهبون (
وقد تقدم قريبا
البقرة : ( 42 ) ولا تلبسوا الحق . . . . .
واللبس الخلط يقال لبست عليه الأمر ألبسه إذا خلطت حقه بباطله وواضحه بمشكله قال
الله تعالى ) وللبسنا عليهم ما يلبسون ( قالت الخنساء ترى الجليس يقول الحق تحسبه
رشدا وهيهان فانظر ما به التبسا
صدق مقالته واحذر عداوته
والبس عليه أمورا مثل ما لبسا
وقال العجاج لما لبست الحق بالتجني
عتبن فاستبدلن زيدا مني
ومنه قول عنترة وكتيبة لبستها بكتيبة
حتى إذا التبست نفضت لها يدي
وقيل هو مأخذو من التغطية أي لا تغطوا الحق بالباطل ومنه قول الحعدي إذا ما الضجيع
ثنى جيدها
تثنت عليه وكانت لباسا
وقول الأخطل وقد لبست لهذا الأمر أعصره
حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
والأول أولى والباطل في كلام العرب الزائل ومنه قول لبيد ألا كل شيء ما خلا الله
باطل
وبطل الشيء يبطل بطولا وبطلانا وأبطله غيره ويقال ذهب دمه بطلا أي هددا والباطل
الشيطان وسمي الشجاع بطلا لأنه يبطل شجاعة صاحبه والمراد به هنا خلاف الحق والباء
في قوله بالباطل يحتمل أن تكون صله وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف ورجح
الرازي في تفسيره الثاني وقوله ) وتكتموا ( يجوز أن يكون داخلا تحت حكم النهي أو
منصوبا بإضمار أن وعلى الأول يكون كل واحد من اللبس والكتم منهيا عنه وعلى الثاني
يكون المنهي عنه هو الجمع بين الامرين ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي وأن
كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده والمراد النهى عن كتم حجج الله التى أوجب
عليهم تبليغها وأخذ عليهم بيانها ومن فسر اللبس أو الكتمان بشيء معين ومعنى خاص
فلم يصب إن أراد أن ذلك هو المراد دون غيره لا إن أراد أنه مما يصدق عليه وقوله )
وأنتم تعلمون ( جملة حالية وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل وذلك أغلظ للذنب
وأوجب للعقوبة وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس والكتمان مع الجهل لأن الجاهل يجب
عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه خصوصا في أمور الدين فإن التكلم فيها
والتصدي للإصدار والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأسا في العلم فردا
في الفهم وما للجهال والدخول فيما ليس من شأنهم والقعود في غير مقاعدهم وقد أخرج
ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) يا بني إسرائيل ( قال
للأحبار من اليهود ) اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ( أي بلائي عندكم وعند آبائكم
لما كان نجاهم به من فرعون وقومه ) وأوفوا بعهدي ( الذي أخذت في أعناقكم للنبي (
صلى الله عليه وسلم ) إذا جاءكم ) أوف بعهدكم ( أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه
واتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال ) وإياي فارهبون ( أن أنزل بكم ما
أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات ) وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا
تكونوا أول كافر به ( وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم ) وتكتموا الحق وأنتم
تعلمون ( أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاءكم به وأنتم تجدونه عندكم
فيما يعلمون من الكتب التي بأيديكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله )
وأوفوا بعهدي ( يقول ما أمرتكم به من طاعتي ونيهتكم عنه من معصيتي في النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) وغيره ) أوف بعهدكم ( يقول أرض عنكم وأدخلكم الجنة وأخرج ابن
المنذر عن ابن مسعود مثله وأخرج ابن المنذر عن
""""""
صفحة رقم 76 """"""
مجاهد في قوله ) وأوفوا بعهدي ( قال هو الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة )
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ( الآية وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه وأخرج عبد
بن حميد عن الحسن قال أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم وأخرج عبدالله
بن حميد وأبو الشيخ عن الضحاك نحوه وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) وإياي
فارهبون ( قال فاخشون وأخرج عبد بن حميد وابن جريج عن مجاهد في قوله ) وآمنوا بما
أنزلت ( قال القرآن ) مصدقا لما معكم ( قال التوراة والإنجيل وأخرج ابن جريج عن
ابن جرير في قوله ) أول كافر به ( قال بالقرآن وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في
الآية قال يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما انزلت على محمد مصدقا لما معكم لأنهم
يجدنه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) ولا تكونوا أول كافر به ( أي أول من كفر
بمحمد ) ولا تشتروا بآياتي ( يقول لا تأخذوا عليه أجرا قال وهو مكتوب عندهم في
الكتاب الأول يا بن آدم علم مجانا كما علمت مجانا وأخرج أبو الشيخ عنه قال لا تأخذ
على ما علمت أجرا إنما أجر العلماء والحكماء والحلماء على الله وأخرج ابن جرير عن
ابن عباس في قوله ) ولا تلبسوا الحق بالباطل ( قال لا تخلطوا الصدق بالكذب )
وتكتموا الحق ( قال لا تكتموا الحق وأنتم قد علمتم أن محمدا رسول الله وأخرج عبد
بن حميد عن قتادة في قوله ) ولا تلبسوا ( الآية قال لا تلبسوا اليهودية والنصرانية
بالإسلام ) وتكتموا الحق ( قال كتموا محمدا وهم يعلمون أنه رسول الله يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وأخرج ابن جرير عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم قال
الحق التوراة والباطل الذي كتبوه بأيديهم
البقرة 43 46
البقرة : ( 43 ) وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .
قد تقدم الكلام في تفسير إقامة الصلاة واشتقاقها والمراد هنا الصلاة المعهودة وهي
صلاة المسلمين على أن التعريف للعهد ويجوز أن تكون للجنس ومثلها الزكاة والإيتاء
الإعطاء يقال آتيته أي أعطيته والزكاة مأخوذة من الزكاء وهو النماء زكا الشيء إذا
نما وزاد ورجل زكي أي زائد الخير وسمى اخراج جزء من المال زكاة أي زيادة مع أنه
نقص منه لأنها تكثر بركته بذلك أو تكثر أجر صاحبه وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير
كما يقال زكا فلان أي طهر
والظاهر أن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي
المرادة بما هو مذكور في الكتاب والسنة منها وقد تكلم أهل العلم على ذلك بما لا
يتسع المقام لبسطه وقد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا فقيل المراد
المفروضة لاقترانها بالصلاة وقيل صدقة الفطر والظاهر أن المراد ما هو أعم من ذلك
والركوع في اللغة الإنحناء وكل منحن راكع قال لبيد أخبر أخبار القرون التي مضت
أدب كأني كلما قمت راكع
وقيل الإنحناء يعم الركوع والسجود ويستعار أيضا للإنحطاط في المنزلة قال الشاعر
""""""
صفحة رقم 77 """"""
لا تهين الفقير علك أن
تركع يوما والدهر قد رفعه
وإنما خص الركوع بالذكر هنا لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم وقيل لكونه كان ثقيلا
على أهل الجاهلية وقيل إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة والركوع الشرعي هو أن
ينحني الرجل ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا
ذاكرا بالذكر المشروع وقوله ) مع الراكعين ( فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة والخروج
إلى المساجد وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما
هو معروف وقد أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم على خلاف بينهم في كون ذلك عينا أو
كفاية وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها وليس بواجب وهو الحق للأحاديث
الصحيحة الثابتة عن جماعة من الصحابة من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس
وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة وثبت في الصحيح عنه ( صلى الله عليه وسلم ) الذي
يصلي مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام والبحث طويل الذيول كثير النقول
البقرة : ( 44 ) أتأمرون الناس بالبر . . . . .
والهمزة في قوله ) أتأمرون الناس بالبر ( للإستفهام مع التوبيخ للمخاطبين وليس
المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر فإنه فعل حسن مندوب إليه بل بسبب ترك فعل البر
المستفاد من قوله ) وتنسون أنفسكم ( مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة
الخلق إلى الحق إيهاما للناس وتلبيسا عليهم كما قال أبو العتاهية وصفت التقى حتى
كأنك ذو تقى
وريح الخطايا من ثيابك يسطع
والبر الطاعة والعمل الصالح والبر سعة الخير والمعروف والبر الصدق والبر ولد
الثعلب والبر سوق الغنم ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر لاهم رب أن يكونوا دونكا
يبرك الناس ويفجرونكا
أي يطيعونك ويعصونك والنسيان بكسر النون هو هنا بمعنى الترك أي وتتركون أنفسكم وفي
الأصل خلاف الذكر والحفظ أي زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة والحافظة
والنفس الروح ومنه قوله تعالى ) الله يتوفى الأنفس حين موتها ( يريد الأرواح وقال
أبو خراش نجا سالم والنفس منه بشدقه
والنفس أيضا الدم
ومنه قولهم سالت نفسه قال الشاعر تسيل على حد السيوف نفوسنا
وليس على غير الظبات تسيل
والنفس الجسد ومنه نبئت أن بني سحيم أدخلوا
أبياتهم تأمور نفس المنذر
والتأمور البدن وقوله ) وأنتم تتلون الكتاب ( جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع
وأشد توبيخ وأبلغ تبكيت أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أهل
العلم العارفين بقبح هذا الفعل وشدة الوعيد عليه كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه
والآيات التي تقرءونها من التوراة والتلاوة القراءة وهي المراد هنا وأصلها الاتباع
يقال تلوته إذا تبعته وسمى القارئ تاليا والقراءة تلاوة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض
على النسق الذي هو عليه وقوله ) أفلا تعقلون ( استفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم
وهو أشد من الأول وأشد وأشد وأشد ما قرع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا
يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم فاستنكر عليهم أولا أمرهم للناس
بالبر مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع ونادوا به في
المجالس إيهاما للناس بأنهم
""""""
صفحة رقم 78 """"""
مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه وموصلون إلى
خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه وهم أترك الناس لذلك وأبعدهم من نفعه وأزهدهم فيه
ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى جعلها مبينة لحالهم وكاشفة لعوارهم وهاتكة لأستارهم
وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة والخصلة الفظيعة على علم منهم ومعرفة بالكتاب
الذي أنزل عليهم وملازمة لتلاوته وهم في ذلك كما قال المعرى
وإنما حمل التوراة قارئها كسب الفوائد لا حب التلاوات
ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع ومن توبيخ إلى توبيخ فقال إنكم لو لم تكونوا من
أهل العلم وحملة الحجة وأهل الدراسة لكتب الله لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلا
بينكم وبين ذلك ذائدا لكم عنه زاجرا لكم منه فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد
إهمالكم لما يوجبه العلم والعقل في أصل اللغة المنع ومنه عقال البعير لأنه يمنعه
عن الحركة ومنه العقل في الدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني والعقل نقيض
الجهل ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة أي أفلا
تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية ويصح أن يكون معنى الآية افلا تنظرون
بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما ليدكم من العلم
البقرة : ( 45 ) واستعينوا بالصبر والصلاة . . . . .
وقوله ) واستعينوا بالصبر ( الصبر في اللغة الحبس وصبرت نفسي على الشيء حبستها
ومنه قول عنترة
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
والمراد هنا استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد
عليكم من المكروهات وقيل الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة واستدل هذا
القائل بقوله تعالى ) وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ( وليس في هذا الصبر الخاص
بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول كما أن
المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ونافلة
واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله ) وإنها لكبيرة ( فقيل إنه راجع إلى
الصلاة وإن كان المتقدم هو الصبر والصلاة فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين
المتقدم ذكرهما كما قال تعالى ) والله ورسوله أحق أن يرضوه ( إذا كان أحدهما داخلا
تحت الآخر بوجه من الوجوه ومنه قول الشاعر
إن شرخ الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاض كان جنونا
ولم يقل ما لم يعاضا بل جعل الضمير راجعا إلى الشباب لأن الشعر الأسود داخل فيه
وقيل إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها لأن الصبر هو عليها كما
قيل سابقا وقيل إن الضمير راجع إلى الصلاة ون كان الصبر مرادا معها لكن لما كانت
آكد وأعم تكليفا وأكثر ثوابا كانت الكناية بالضمير عنها ومنه قوله ) والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ( كذا قيل وقيل إن الضمير راجع إلى
الأشياء المكنوزة ومثل ذلك قوله تعالى ) وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها (
فارجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت الفضة أعم نفعا وأكثر وجودا
والتجارة هي الحاملة على الإنفضاض والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول أن الصبر
هناك جعل داخلا تحت الصلاة وهنا لم يكن داخلا وإن كان مرادا وقيل إن المراد الصبر
والصلاة ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناء به عن الآخر ومنه قوله تعالى )
وجعلنا ابن مريم وأمه آية ( أي ابن مريم آية وأمه آية ومنه قول الشاعر
ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
""""""
صفحة رقم 79 """"""
وقال آخر لكل هم من الهموم سعة
والصبح والمساء لا فلاح معه
وقيل رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة وقيل رجع إلى المصدر المفهوم من
قوله ) واستعينوا ( وهو الاستعانة وقيل رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو
إسرائيل والكبيرة التي يكبر أمرها ويتعاظم شأنها على حاملها لما يجده عند تحملها
والقيام بها من المشقة ومنه ) كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ( والخاشع هو
المتواضع والخشوع التواضع قال في الكشاف والخشوع الإخبات والتطامن ومنه الخشعة
للرملة المتطامنة وأما الخضوع فاللين والإنقياد ومنه خضعت بقولها إذا لينته انتهى
وقال الزجاج الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الأقوى ومكان
خاشع لا يهتدي إليه وخشعت الأصوات أي سكنت وخشع ببصره إذا غضه والخشعة قطعة من
الأرض رخوة وقال سفيان الثوري سالت الأعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن
تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطىء الرأس
لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع لله في كل فرض افترض عليك
انتهى وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته إنه هيئة في النفس يظهر منها
في الجوراح سكون وتواضع واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوراحهم
في الصلاة وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة وإتعابهم لأنفسهم إتعابا
عظيما في الاسباب الموجبة للحضور والخضوع لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر وتوفر
الجزاء والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب تسهل عليهم تلك المتاعب ويتذلل لهم
ما يرتكبونه من المصاعب بل يصير ذلك لذة لهم خالصة وراحة عندهم محضة ولأمر ما هان
على قوم ما يلاقونه من حر السيوف عند تصادم الصفوف وكانت الأمنية عندهم طعم المنية
حتى قال قائلهم ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي
البقرة : ( 46 ) الذين يظنون أنهم . . . . .
والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى ) إني ظننت أني ملاق حسابيه (
وقوله ) فظنوا أنهم مواقعوها ( ومنه قول دريد بن الصمة فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم بالفارسي المسود
وقيل إن الظن في الآية على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم توقعوا لقاءه
مذنبين ذكره المهدوي والماوردي والأول أولى وأصل الظن الشك مع الميل إلى أحد
الطرفين وقد يقع موقع اليقين في مواضع منها هذه الآية ومعنى قوله ) ملاقوا ربهم (
ملاقوا جزائه والمفاعلة هنا ليست على بابها ولا أرى في حمله على اصل معناه من دون
تقدير المضاف بأسا وفي هذا مع ما بعده من قوله ) وأنهم إليه راجعون ( إقرار بالبعث
وما وعد الله به في اليوم الآخر وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله ) واركعوا
( قال صلوا
سبب النزول
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن مقاتل في قوله ) واركعوا مع الراكعين ( قال أمرهم أن
يركعوا مع أمة محمد يقول كونوا منهم ومعهم وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله
تعالى ) أتأمرون الناس بالبر ( الآية قال أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس
بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ولا ينتفعون بما فيه وأخرج الثعلبي والواحدي
عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة كان الرجل منهم يقول لصهره
ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين اثبت على الدين الذي أنت عليه وما
يأمرك به هذا الرجل يعنون محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أمره حق وكانوا يأمرون
الناس بذلك ولا يفعلونه وأخرج ابن جرير عنه
""""""
صفحة رقم 80 """"""
في قوله ) أتأمرون الناس بالبر ( قال بالدخول في دين محمد وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة
والعهد من التوراة وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي وأخرج
عبدالرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي عن أبي الدرداء في الآية قال لا يفقه
الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو
نعيم في الحلية وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال قال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ( رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت
رجعت فقلت لجبريل من هؤلاء قال هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس البر
وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون وثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن
زيد قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( يجاء بالرجل يوم القيامة
فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل
النار فيقولون يا فلان مالك ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر
فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه وفي الباب أحاديث منها
عن جابر مرفوعا عند الخطيب وابن النجار وعن الوليد بن عقبة مرفوعا عند الطبراني
والخطيب بسند ضعيف وعند عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد عند موقوفا ومعناها جميعا
أنه يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم بما دخلتم النار
وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم قالوا إنا كنا نأمركم ولا نفعل وأخرج الطبراني والخطيب
في الاقتضاء والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبدالله قال قال رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل
السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ) وأخرج ابن أبي شيبة وعبدالله بن أحمد في زوائد
الزهد عنه نحوه وأخرج الطبراني والخطيب في الاقتضاء عن أبي برزة مرفوعا نحوه وأخرج
ابن قانع في معجمه والخطيب في الاقتضاء عن سليك مرفوعا نحوه وأخرج ابن سعد وابن
أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال ( ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله
لعلمه وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات ) وأخرج أحمد في الزهد عن عبدالله بن
مسعود مثله وما أحسن ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن
ابن عباس أنه جاءه رجل فقال يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر
قال أوبلغت ذلك قال ارجو قال فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل
قال وما هن قال قوله عز وجل ) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ( أحكمت هذه
الآية قال لا قال فالحرف الثاني قال قوله تعالى ) لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا
عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( أحكمت هذه الآية قال لا قال فالحرف الثالث قال
قول العبد الصالح شعيب ) وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ( أحكمت هذه الآية
قال لا قال فأبدأ بنفسك وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى ) واستعينوا
بالصبر والصلاة ( قال إنهما معونتان من الله فاستعينوا بهما وقد أخرج ابن أبي
الدنيا في كتاب الصبر وأبو الشيخ في الثواب والديلمي في مسند الفردوس عن علي قال
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصبر ثلاثة فصبر على المصيبة وصبر على
الطاعة وصبر عن المعصية ) وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح الصبر والترغيب فيه
والجزاء للصابرين ولم يذكرها هنا لأنها ليست بخاصة بهذه الآية بل هي واردة في مطلق
الصبر وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ها هنا منها شطرا صالحا وفي الكتاب العزيز
من الثناء على ذلك والترغيب فيه الكثير الطيب وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير عن
حذيفة قال كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا حزبه
""""""
صفحة رقم 81 """"""
أمر فزع إلى الصلاة ) وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان عن صهيب عن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) قال ( كانوا يعني الأنبياء يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة ) وأخرج ابن
أبي الدنيا وابن عساكر عن أبي الدرداء مرفوعا نحو حديث حذيفة وأخرج سعيد بن منصور
وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أنه كان في مسير له فنعى
إليه ابن له فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع فقال فعلنا كما أمرنا الله فقال )
واستعينوا بالصبر والصلاة ( ) وقد روى عنه نحو ذلك سعيد بن منصور وابن جرير وابن
المنذر والبيهقي لما نعى إليه أخوه قثم وقد روى نحو ذلك عن جماعة من الصحابة
والتابعين وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله ) وإنها لكبيرة ( قال لثقيلة وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) إلا على الخاشعين ( قال المؤمنين
حقا وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) إلا على الخاشعين ( قال الخائفين
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال كل ظن في القرآن فهو يقين
ولا يتم هذا في مثل قوله ) إن الظن لا يغني من الحق شيئا ( وقوله ) إن بعض الظن
إثم ( ولعله يريد الظن المتعلق بأمور الآخرة كما رواه ابن جريرة عن قتادة قال ما
كان من ظن الآخرة فهو علم وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) وأنهم إليه
راجعون ( قال يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة
البقرة 47 50
البقرة : ( 47 ) يا بني إسرائيل . . . . .
قوله ) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ( قد تقدم تفسيره وإنما كرر
ذلك سبحانه توكيدا للحجة عليهم وتحذيرا لهم من ترك اتباع محمد ( صلى الله عليه
وسلم ) ثم قرنه بالوعيد وهو قوله ) واتقوا يوما ( وقوله ) وأني فضلتكم ( معطوف على
مفعول اذكروا أي اذكروا نعمتي وتفضيلي لكم على العالمين قيل المراد بالعالمين عالم
زمانهم وقيل على جميع العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء وقال في الكشاف على الجم
الغفير من الناس كقوله ) باركنا فيها للعالمين ( يقال رأيت عالما من الناس يراد
الكثرة انتهى قال الرازي في تفسيره وهذا ضعيف لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو
الدليل وكل ما كن دليلا على الله كان علما وكان من العالم وهذا تحقيق قول
المتكلمين العالم كل موجود سوى الله وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض
المحدثات انتهى وأقول هذا الاعتراض ساقط أما أولا فدعوى اشتقاقه من العلم لا برهان
عليه وأما ثانيا فلو سلمنا صحة هذا الاستقاق كان المعنى موجودا بما يتحصل معه
مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العلم عليه وهو كائن في كل فرد من أفراد
المخلوقات التي يستدل بها على الخالق وغايته أن جمع العالم يستلزم أن يكونوا
مفضلين على افراد كثيرة من المحدثات وأما أنهم مفضلون على كل المحدثات في كل زمان
فليس في اللفظ ما يفيد هذا ولا في اشتقاقه ما يدل عليه وأما من جعل العالم أهل
العصر فغايته أن يكونوا مفضلين على أهل عصور لا على
""""""
صفحة رقم 82 """"""
أهل كل عصر فلا يستلزم ذلك تفضيلهم على أهل العصر الذين فيهم نبينا ( صلى الله
عليه وسلم ) ولا على ما بعده من العصور ومثل هذا الكلام ينبغي استحضاره عند تفسيره
قوله تعالى ) إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين
( وعند قوله تعالى ) ولقد اخترناهم على علم على العالمين ( وعند قوله تعالى ) إن
الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ( فإن قيل إن التعريف في
العالمين يدل على شموله لكل عالم قلت لو كان الأمر هكذا لم يكن ذلك مستلزما ما
لكونهم افضل من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله تعالى ) كنتم خير أمة أخرجت
للناس ( فإن هذه الآية ونحوها تكون مخصصة لتلك الآيات
البقرة : ( 48 ) واتقوا يوما لا . . . . .
وقوله ) واتقوا يوما ( أمر معناه الوعيد وقد تقدم معنى التقوى والمراد باليوم يوم
القيامة أي عذابه وقوله ) لا تجزي نفس عن نفس شيئا ( في محل نصب صفة ليوم والعائد
محذوف قال البصريون في هذا وأمثاله تقديره فيه وقال الكسائي هذا خطأ بل التقدير لا
تجزيه لأن حذف الظرف لا يجوز ويجوز حذف الضمير وحده وقد روى عن سيبويه والأخفش
والزجاج جواز الأمرين ومعنى لا تجزي لا تكفي وتقضي يقال جزا عني هذا الأمر يجزي أي
قضى واجتزأت بالشيء أجتزي أي اكتفيت ومنه قول الشاعر فإن الغدر في الأقوام عار
وإن الحر يجزي بالكراع
والمراد أن هذا اليوم لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تكفي عنها ومعنى التنكير
التحقير أي شيئا يسيرا حقيرا وهو منصوب على المفعولية أو على أنه صفة مصدر محذوف
أي جزاء حقيرا والشفاعة مأخوذة من الشفع وهو الاثنان تقول استشفعته أي سألته أن
يشفع لي أي يضم جاهه إلى جاهك عند المشفوع إليه ليصل النفع إلى المشفوع له وسميت
الشفعة شفعة لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك وقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو تقبل
بالمثناة الفوقية لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء التحتية لأنها بمعنى
الشفيع قال الأخفش الأحسن التذكير وضمير منها يرجع إلى النفس المذكور ثانيا أي إن
جاءت بشفاعة شفيع ويجوز أن يرجع إلى النفس المذكورة أولا أي إذا شفعت لم يقبل منها
والعدل بفتح العين الفداء وبكسرها المثل يقال عدل وعديل للذي ماثل في الوزن والقدر
وحكى ابن جرير أن في العرب من يكسر العين في معنى الفدية والنصر العون والأنصار
الأعوان وانتصر الرجل انتقم والضمير أي هم يرجع إلى النفوس المدلول عليها بالنكرة
في سياق النفي والنفس تذكر وتؤنث
البقرة : ( 49 ) وإذ نجيناكم من . . . . .
وقوله ) وإذ نجيناكم ( متعلق بقوله ) اذكروا ( والنجاة النجوة من الأرض وهي ما
ارتفع منها ثم سمى كل فائز ناجيا وآل فرعون قومه وأصل آل أهل بدليل تصغيره على
أهيل وقيل غير ذلك وهو يضاف إلى ذوي الخطر قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم
نحو آل محمد ولا يضاف إلى البلدان فلا يقال من آل المدينة وقال الأخفش قد سمعناه
في البلدان قالوا آل المدينة واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا فمنعه قوم وسوغه
آخرون وهو الحق ومنه قول عبدالمطلب وانصر على آل الصلي
ب وعابديه اليوم آلك
وفرعون قيل هو اسم ذلك الملك بعينه وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة كما
يسمى من ملك الفرس كسرى ومن ملك الروم قيصر ومن ملك الحبشة النجاشي واسم فرعون
موسى المذكور هنا قابوس في قول أهل الكتاب وقال وهب اسمه الوليد بن مصعب بن الريان
قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية وقال الجوهري إن كل عات يقال له فرعون
وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء ومكر وقال في
""""""
صفحة رقم 83 """"""
الكشاف تفرعن فلان إذا عتا وتجبر ومعنى قوله ) يسومونكم ( يولونكم قاله أبو عبيدة
وقيل يذيقونكم ويلزمونكم إياه وأصل السوم الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي
ويقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها وقال في الكشاف أصله من سام السلعة إذا طلبها
كأنه بمعنى يبغونكم سوؤ العذاب ويريدونكم عليه انتهى وسوء العذاب أشده وهو صفة
مصدر محذوف أي يسومونكم سوما سوء العذاب ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا وهذه الجملة
في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدر ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال أي
سائمين لكم وقوله ) يذبحون ( وما بعده بدل من قوله ) يسومونكم ( وقال الفراء إنه
تفسير لما قبله وقرأه الجماعة بالتشديد وقرأ ابن محيصن بالتخفيف والذبح في الأصل
الشق وهو فرى أوداج المذبوح والمراد بقوله تعالى ) ويستحيون نساءكم ( يتركونهن
أحياء ليستخدموهن ويمتهنوهن وإنما أمر بذبح الأبناء واستحياء البنات لأن الكهنة أخبروه
بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده وعبر عن البنات باسم النساء لأنه جنس يصدق على
البنات وقالت طائفة أنه أمر بذبح الرجال واستدلوا بقوله ) نساءكم ( والأول أصح
بشهادة السبب ولا يخفي ما في قتل الأبناء واستحياء البنات للخدمة ونحوها من إنزال
الذل بهم وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار والإشارة بقوله )
وفي ذلكم ( إلى جملة الأمر والبلاء يطلق تارة على الخبر وتارة على الشر فإن أريد
به هنا الشر كانت الإشارة بقوله ) وفي ذلكم ( إلى جملة الأمر والبلاء يطلق تارة
على الخير وتارة على الشر فإن أريد به هنا الشر كانت الإشارة بقوله ) وفي ذلكم
بلاء ( إلى ما حل بهم من النقمة بالذبح ونحوه وإن أريد به الخير كانت الإشارة إلى
النعمة التي أنعم إله عليهم بالإنجاء وما هو مذكور قبله من تفضيلهم على العالمين
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة فرجح الجمهور الأول ورجح الآخرون الآخر
قال ابن جرير وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء
قال زهير جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قال فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده
البقرة : ( 50 ) وإذ فرقنا بكم . . . . .
وقوله ) وإذ فرقنا ( متعلق بما تقدم من قوله ) اذكروا ( وفرقنا فلقنا وأصل الفرق
الفصل ومنه فرق الشعر وقرأ الزهري ) فرقنا ( بالتشديد والباء في قوله ) بكم ( قيل
هي بمعنى اللام أي لكم وقيل هي الباء السببية أي فرقناه بسببكم وقيل إن الجار والمجرور
في محل الحال أي فرقناه متلبسا بكم والمراد ها هنا أن فرق البحر كان بهم أي بسبب
دخولهم فيه أي لما صاروا بين الماءين صار الفرق بهم واصل البحر في اللغة الاتساع
أطلق على البحر الذي هو مقابل البر لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر والخليج
ويطلق على الماء المالح ومنه أبحر الماء إذا ملح قال نصيب
وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب
وقوله ) فأنجيناكم ( أي أخرجناكم منه ) وأغرقنا آل فرعون ( فيه وقوله ) وأنتم
تنظرون ( في محل نصب على الحال أي حال كونكم ناظرين إليهم بأبصاركم وقيل معناه وأنتم
تنظرون أي ينظر بعضكم إلى البعض الآخر من السالكين في البحر وقيل نظروا إلى أنفسهم
ينجون وإلى آل فرعون يغرقون والمراد بآل فرعون هنا هو قومه وأتباعه
الآثار الوارده في تفسير الآيات وأسباب النزول
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا تلا ) اذكروا
نعمتي التي أنعمت عليكم ( قال مضى القوم وإنما يعني به أنتم وأخرج ابن جرير عن
سفيان بن عيينة قال في قومه ) اذكروا نعمتي ( هي أيادي الله وأيامه واخرج عبد بن
حميد عن مجاهد قال نعمة الله التي أنعم بها على بني
""""""
صفحة رقم 84 """"""
إسرائيل فيما سمى وفيما سوى ذلك فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى وأنجاهم
من عبودية آل فرعون وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله ) وأني فضلتكم
على العالمين ( قال فضلوا على العالم الذي كانوا فيه ولكل زمان عالم وأخرج عبد بن
حميد عن مجاهد نحوه واخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي العالية في قوله ) فضلتكم
على العالمين ( قال بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على من كان في ذلك الزمان
فإن لكل زمان عالما وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله ) لا تجزي نفس عن نفس
شيئا ( قال لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئا وأخرج ابن جرير عن
عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن الثناء عليه قال ( قيل
يا رسول الله ما العدل قال العدل الفدية ) وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس
نحوه قال ابن أبي حاتم وروى عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن
أنس نحو ذلك وأخرج عبدالرزاق عن علي في تفسير الصرف والعدل قال التطوع والفريضة
قال ابن كثير وهذا القول غريب ههنا والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية وأخرج
ابن جرير عن ابن عباس قال قالت الكهنة لفرعون إنه يولد في هذا العام مولود يذهب
بملكه فجعل فرعون على كل ألف إمرأة مائة رجل وعلى كل مائة عشرة وعلى كل عشر رجلا
فقال انظروا كل إمرأة حامل في المدينة فإذا وضعت حملها فإن كان ذكرا فاذبحوه وإن
كان أنثى فخلوا عنها وذلك قوله ) يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ( وأخرج ابن أبي
حاتم عن أبي العالية في قوله ) يسومونكم سوء العذاب ( قال إن فرعون ملكهم أربعمائة
سنة فقالت له الكهنة إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه فبعث في أهل
مصر نساء قوابل فإذا ولدت إمرأة غلاما أتى فرعون فقتله ويستحي الجواري وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) بلاء من ربكم عظيم ( يقول نقمة وأخرج
وكيع عن مجاهد نحوه وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله ) وإذ فرقنا بكم البحر (
فقال إي والله لفرق البحر بينهم حتى صار طريقا يبسا يمشون فيه فأنجاهم الله وأغرق
آل فرعون عدوهم وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال ( قدم رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال ما هذا اليوم
قالوا هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى فقال رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) نحن أحق بموسى منكم فصامه وامر بصومه ) وقد أخرج الطبراني
وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن هرقل كتب إلى معاوية يسأله عن أمور منها
عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة فكتب معاوية إلى ابن عباس فأجابه عن تلك
الأمور وقال وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار فالبحر الذي أفرج
عن بني إسرائيل ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى زيادة على ما هنا عند تفسير قوله
تعالى ) أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (
البقرة 51 54
""""""
صفحة رقم 85 """"""
البقرة : ( 51 ) وإذ واعدنا موسى . . . . .
قرأ أبو عمرو ) وعدنا ( بغير ألف ورجحه أبو عبيدة وأنكر ( واعدنا ) قال لأن المواعدة
إنما تكون من البشر فأما من الله فإنما هو التفرد بالوعد على هذا وجدنا القرآن
كقوله ) وعدكم وعد الحق ( وقوله ) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ( ومثله قال أبو
حاتم ومكي وإنما قالوا هكذا نظرا إلى أصل المفاعلة أنها تفيد الاشتراك في أصل
الفعل وتكون من كل واحد من المتواعدين ونحوهما ولكنها قد تأتي للواحد في كلام
العرب كما في قولهم داويت العليل وما قبت اللص وطارقت النعل وذلك كثير في كلامهم
وقرأه الجمهور ( واعدنا ) قال النحاس وهي أجود وأحسن وليس قوله ) وعد الله الذين
آمنوا ( من هذا من شيء لأن واعدنا موسى إنما هو من باب الموافاة وليس هو من الوعد
والوعيد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم الجمعة وموعدك موضع كذا والفصيح في هذا
أن يقال واعدته قال الزجاج واعدنا بالألف ها هنا جيد لأن الطاعة في القبول بمنزلة
المواعدة فمن الله سبحانه وعد ومن موسى قبول قوله ) أربعين ليلة ( قال الزجاج
التقدير تمام أربعين ليلة وهي عند أكثر المفسرين ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وإنما
خص الليالي بالذكر دون الأيام لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة ومعنى
قوله ) ثم اتخذتم العجل ( أي جعلتم العجل إلها من بعده أي من بعد مضي موسى إلى
الطور وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوا عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد اختلف
موعده فاتخذوا العجل وهذا غير بعيد منهم فقد كانوا يسلكون طرائق من التعنت خارجة
عن قوانين العقل مخالفة لما يخاطبون به بل ويشاهدونه بأبصارهم فلا يقال كيف تعدون
الأيام والليالي على تلك الصفة وقد صرح لهم في الوعد بأنها أربعون ليلة وإنما
سماهم ظالمين لأنهم أشركوا بالله وخالفوا موعد نبيهم عليه السلام والجملة في موضع
نصب على الحال
البقرة : ( 52 ) ثم عفونا عنكم . . . . .
وقوله ) من بعد ذلك ( أي من بعد عبادتكم العجل وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته
كذا قيل وليس بشيء لأن العرب تطلق هذا الإسم على ولد البقر وقد كان جعله لهم
السامري على صورة العجل وقوله ) لعلكم تشكرون ( أي لكي تشكروا ما أنعم الله به
عليكم من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه واصل الشكر في اللغة الظهور من
قولهم دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطي من العلف قال الجوهري الشكر
الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح وقد
تقدم معناه والكشران خلاف الكفران
البقرة : ( 53 ) وإذ آتينا موسى . . . . .
والكتاب التوراة بالإجماع من المفسرين واختلفوا في الفرقان وقال الفراء وقطرب
المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا الفرقان وقد قيل إن هذا غلط أوقعهما فيه أن
الفرقان مختص بالقرآن وليس كذلك فقد قال تعالى ) ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان (
وقال الزجاج إن الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره تأكيدا وحكى نحوه عن الفراء ومنه قول
عنترة حييت من طلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقيل إن الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت
كقول الشاعر إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
وقيل المعنى أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتابا وفارقا بين الحق والباطل وهو كقوله
) ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء ( وقيل الفرقان الفرق
بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق هؤلاء وقال ابن زيد الفرقان انفراق البحر
وقيل الفرقان الفرج من الكرب وقيل إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاه الله من
العصا واليد وغيرهما وهذا أولى وأرجح ويكون العطف على بابه كأنه قال
""""""
صفحة رقم 86 """"""
آتينا موسى التوراة والآيات التي أرسلناه بها معجزة له
البقرة : ( 54 ) وإذ قال موسى . . . . .
قوله ) يا قوم ( القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء ومنه قول زهير وما أدري وسوف
إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
ومنه قوله تعالى ) لا يسخر قوم من قوم ( ثم قال ) ولا نساء من نساء ( ومنه ) ولوطا
إذ قال لقومه ( أراد الرجال وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى ) إنا أرسلنا نوحا
إلى قومه ( والمراد هنا بالقوم عبدة العجل والبارىء الخالق وقيل إن البارىء هو
المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال وفي ذكر البارىء إشارة إلى
عظيم جرمهم أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره والفاء في قوله ) فتوبوا
( للسببية أي لتسبب التوبة عن الظلم وفي قوله ) فاقتلوا ( للتعقيب أي اجعلوا القتل
متعقبا للتوبة قال القرطبي وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن
يقتل نفسه بيده قيل قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا وقيل وقف الذين عبدوا العجل ودخل
الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم وقوله ) فتاب عليكم ( قيل في الكلام حذف أي
فقتلتم نفسكم فتاب عليكم أي على الباقين منكم وقيل هو جواب شرط محذوف كأنه قال فإن
فعلتم فقد تاب عليكم وأما ما قاله صاحب الكشاف من أنه يجوز أن يكون خطابا من الله
لهم على طريقة الالتفات فيكون التقدير ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم
فهو بعيد جدا كما لا يخفى
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) أربعين ليلة ( قال ذا القعدة وعشرا من
ذي الحجة وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله ) من بعد ذلك ( قال من بعد ما اتخذتم
العجل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) وإذ آتينا موسى الكتاب
والفرقان ( قال الكتاب هو الفرقان فرق بين الحق والباطل وأخرج ابن جرير وابن
المنذر عن ابن عباس قال الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وأخرج
ابن جرير عنه قال أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا انفسهم واختبأ الذين عكفوا
على العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم
ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضا فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل كل من قتل
منهم كانت له توبة وكل من بقي كانت له توبة وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال قالوا
لموسى ما توبتنا قال يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه
وابنه لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفوا
أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة وأخرج أحمد
في الزهد وابن جرير عن الزهري نحوا مما سبق وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في
قوله ) إلى بارئكم ( قال خالقكم
البقرة 55 57
البقرة : ( 55 ) وإذ قلتم يا . . . . .
قوله ( وإذ قلتم ) هذه الجملة معطوفة على التي قبلها وظاهر السياق أن القائلين هذه
المقالة هم قوم موسى
""""""
صفحة رقم 87 """"""
وقيل هم السبعون الذين اختارهم وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله قالوا له بعد ذلك
هذه المقالة فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال
تعالى هنا ) ثم بعثناكم من بعد موتكم ( وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله والجهرة
المعاينة وأصلها الظهور ومنه الجهر بالقراءة والمجاهرة بالمعاصي ورأيت الأمر جهرة
جهارا أي غير مستتر بشيء وهي مصدر واقع موقع الحال وقرأ ابن عباس ( جهرة ) بفتح
الهاء وهي لغتان أهل زهرة وزهر ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر والصاعقة
قد تقدم تفسيرها وقرأ عمر وعثمان وعلي ( الصعقة ) وهي قراءة ابن محيصن والمراد
بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم ) وأنتم تنظرون ( في محل نصب على الحال والمراد من هذا
النظر الكائن منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم لا آخرها
الذي ماتوا عنده وقيل المراد بالصاعقة الموت واستدل عليه بقوله ) ثم بعثناكم من
بعد موتكم ( ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير لأن المصعوق قد يموت كما في هذه
الآية وقد يغشى عليه ثم يفيق كما في قوله تعالى ) وخر موسى صعقا فلما أفاق ( ومما
يوجب بعد ذلك قوله ) وأنتم تنظرون ( فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن
لهذه الجملة كبير معنى بل قد يقال إنه لا يصح أن ينظروا الموت النازل بهم إلا أن
يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت
البقرة : ( 56 ) ثم بعثناكم من . . . . .
والمراد بقوله ) ثم بعثناكم ( الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت واصل البعث الإثارة
للشيء من محله يقال بعثت الناقة أي أثرتها ومنه قول امرئ القيس وإخوان صدق قد بعثت
بسحرة
فقاموا جميعا بين غاث ونشوان
وقوله عنترة وصحابة شم الأنوف بعثتهم
ليلا وقد مال الكرى بطلاها
وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤيته في الدنيا
وقد ذهبت المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة وذهب من عداهم
إلى جوازها في الدنيا والآخرة ووقوعها في الآخرة وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن
العباد يرون ربهم في الآخرة وهي قطعية الدلالة لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها
بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة وزعموا أن العقل قد حكم بها
دعوى مبنية على شفا جرف هار وقواعد لا يغتر بها إلا من لم يحظ من العلم النافع
بنصيب وسيأتيك إن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية وكلها خارج عن
محل النزاع بعيد من موضع الحجة وليس هذا موضع المقال في هذه المسألة
البقرة : ( 57 ) وظللنا عليكم الغمام . . . . .
قوله ) وظللنا عليكم الغمام ( أي فعلناه كالظلة والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب
قاله الأخفش قال الفراء ويجوز غمائم وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر
والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين والمن قيل هو الترنجبين قال النحاس هو
بتشديد الراء وإسكان النون ويقال الطرنجبين بالطاء وعلى هذا أكثر المفسرين وهو طل
ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلا ويجف جفاف الصمغ ذكر معناه في
القاموس وقيل إن المن العسل وقيل شراب حلو وقيل خبز الرقاق وقيل إنه مصدر يعم جميع
ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم من
حديث أبي سعيد بن زيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن الكمأة من المن الذي
أنزل على موسى وقد ثبت مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي ومن حديث جابر
وأبي سعيد وابن عباس عند النسائي والسلوى قيل هو السماني كحبارى طائر يذبحونه
فيأكلونه قال ابن عطية السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي فقال وقاسمهما
بالله جهدا لأنتما
ألذ من السلوى إذا ما أشورها
""""""
صفحة رقم 88 """"""
ظن أن السلوى العسل قال القرطبي ما ادعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرج أحد
علماء اللغة والتفسير إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وذكر أنه كذلك بلغة كنانة
وأنشد لو شربت السلوى ما سلوت
ما غنا عنك وإن غنيت
وقال الجوهري والسلوى العسل قال الأخفش السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر
وهو يشبه أن يكون واحده سلوى وقال الخليل واحده سلواة وأنشد وإني لتعروني لذكراك سلوة
كما انتفض السلواة من سلكه القطر
وقال الكسائي السلوى واحدة وجمعه سلاوي وقوله ) كلوا ( أي قلنا لهم كلوا وفي
الكلام حذف والتقدير قلنا كلوا فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر فظلموا أنفسهم وما
ظلمونا فحذف هذا لدلالة ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( عليه وتقديم الأنفس هنا يفيد
الاختصاص وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) حتى
نرى الله جهرة ( قال علانية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال هم السبعون
الذين اختارهم موسى ) فأخذتكم الصاعقة ( قال ماتوا ) ثم بعثناكم من بعد موتكم (
قال فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في
قوله ) ثم بعثناكم ( نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله ) وظللنا عليكم
الغمام ( قال غمام أبرد من هذا وأطيب وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة وهو الذي
جاءت فيه الملائكة يوم بدر وكان معهم في التيه وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن
قتادة في قوله ) وظللنا عليكم الغمام ( قال كان هذا الغمام في البرية ظلل عليهم
الغمام من الشمس وأطعمهم المن والسلوى حين برزوا إلى البرية فكان المن يسقط عليهم
في محلتهم سقوط الثلج أشد بياضا من اللبن واحلى من العسل يسقط عليهم من طلوع الفجر
إلى طلوع الشمس فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه يومه ذلك فإن تعدى ذلك فسد ما يبقى عنده
حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه فبقي عنده
لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء وهذا كله في البرية
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال المن شيء أنزل الله عليهم مثل الطل
والسلوى طير أكبر من العصفور وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن
مجاهد قال المن صمغة والسلوى طائر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال
قالوا يا موسى كيف لنا بما ها هنا أين الطعام فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على
الشجرة الترنجبين وأخرجوا عن وهب أنه سئل ما المن قال خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل
النقي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال المن شراب كان ينزل
عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال كان المن ينزل عليهم بالليل على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما
شاءوا والسلوى طائر يشبه السماني كانوا يأكلون منه ما شاءوا وأخرج ابن جرير عنه
نحوه وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في السلوى مثله وقد روى نحو ذلك
عن جماعة من التابعين ومن بعدهم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) وما
ظلمونا ( قال نحن أعز من أن نظلم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( قال يضرون
البقرة 58 59
""""""
صفحة رقم 89 """"""
البقرة : ( 58 ) وإذ قلنا ادخلوا . . . . .
قال جمهور المفسرين القرية هي بيت المقدس وقيل إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس
وقيل من قرى الشام وقوله ) كلوا ( أمر إباحة و ) رغدا ( كثيرا واسعا وهو نعت لمصدر
محذوف أي أكلا رغدا ويجوز أن يكون في موضع الحال وقد تقدم تفسيره والباب الذي
أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة وقيل هو باب القبة التي
كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل والسجود قد تقدم تفسيره وقيل هو هنا الانحناء
وقيل التواضع والخضوع واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد السجود الحقيقي الذي هو
وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به لأنه لا يمكن الدخول حال السجود
الحقيقي وقال في الكشاف إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله
وتواضعا واعترضه أبو حيان في النهر الماد فقال لم يؤمروا بالسجود بل هو قيد في
وقوع المأمور به وهو الدخول والأحوال نسب تقييدية والأوامر نسب إسنادية انتهى
ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد فمن قال أخرج مسرعا فهو ى مر بالخروج على
هذه الهيئة فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفا للأمر ولا ينافي هذا كون
الأحوال نسبا تقييدية فإن اتصافها بكونها قيودا مأمورا بها هو شيء زائد على مجرد
التقييد وقوله ) حطة ( بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدا قال الأخفش وقرئت
( حطة ) نصبا على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة وقيل معناها الاستغفار ومنه قول الشاعر
فاز بالحطة التي أمر الله بها ذنب عبده مغفورا
وقال ابن فارس في المجمل ( حطة ) كلمة أمروا بها ولو قالوها لحطت أوزارهم قال
الرازي في تفسيره أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة وذلك لأن التوبة صفة القلب
فلا يطلع الغير عليها وإذا اشتهر وأخذ بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن
شاهد منه الذنب لأن التوبة لا تتم إلا به انتهى وكون التوبة لا تتم إلا بذلك لا
دليل عليه بل مجرد عقد القلب عليها يكفي سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا وربما كان
التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله عز وجل أحب إلى الله وأقرب إلى
مغفرته وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية فذلك باب آخر وقوله )
يغفر لكم ( قرأه نافع بالياء التحتية المضمومة وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية
المضمومة وقرأه الباقون بالنون وهي أولى والخطايا جمع خطيئة بالهمز وقد تكلم علماء
العربية في ذلك بما هو معروف في كتب الصرف وقوله ) وسنزيد المحسنين ( أي نزيدهم
إحسانا على إحسانهم المتقدم وهو اسم فاعل من أحسن وقد ثبت في الصحيح ( أن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم
تكن تراه فإنه يراك
البقرة : ( 59 ) فبدل الذين ظلموا . . . . .
وقوله ) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ( قيل إنهم قالوا حنظة وقيل غير
ذلك والصواب أنهم قالوا حبة في شعرة كما سيأتي مرفوعا إلى النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) وقوله ) فأنزلنا على الذين ظلموا ( هو من وضع الظاهر موضع المضمر لنكتة كما
تقرر في علم البيان وهي هنا تعظيم الأمر عليهم وتقبيح فعلهم ومنه قول عدي بن يزيد
""""""
صفحة رقم 90 """"""
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فكرر الموت في البيت ثلاثا تهويلا لأمره وتعظيما لشأنه وقوله ) رجزا ( بكسر الراء
في قراءة الجميع إلا ابن محيصن فإنه قرأ بضم الراء والرجز العذاب والفسق قد تقدم
تفسيره
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج عبدالرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله ) ادخلوا هذه القرية
( قال بيت المقدس وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال هي أريحاء قرية من بيت المقدس
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس
في قوله ) ادخلوا الباب ( قال باب ضيق ) سجدا ( قال ركعا وقوله ) حطة ( قال مغفرة
فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة استهزاء قال فذلك قوله تعالى ) فبدل الذين
ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ( وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال الباب هو أحد أبواب
بيت المقدس وهو يدعى باب حطة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والطبراني في الكبير وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال قيل لهم ) ادخلوا الباب
سجدا ( فدخلوا مقنعي رءوسهم وقالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله ) وادخلوا الباب سجدا ( قال طأطئوا
رءوسكم ) وقولوا حطة ( قال قولوا لا إله إلا الله وأخرج البيهقي في الأسماء
والصفات عن ابن عباس في قوله ) وقولوا حطة ( قال لا إله إلا الله وأخرج ابن أبي
حاتم عنه قال كان الباب قبل القبلة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( قيل لبني إسرائيل ادخوا الباب سجدا وقولا
حطة فبدلوا فدخوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة وأخرج ابن جرير وابن
المنذر عن ابن عباس وأبي هريرة قالا قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دخلوا
الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنظة في شعيرة
والأول أرجح لكونه في الصحيحين وقد أخرجه معهما من أخرج هذا الحديث الآخر أعني ابن
جرير وابن المنذر وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة
نوح وكباب حطة في بني اسرائيل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كل
شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب وأخرج مسلم وغيره من حديث أسامة بن زيد
وسعد بن مالك وخزيمة بن ثابت قالوا قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإن
هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به أناس من قبلكم فإذا كان بأرض وأنتم بها فلا
تخرجوا منها وإذا بلغكم أنه بأرض فلا تدخلوها )
البقرة 60 61
""""""
صفحة رقم 91 """"""
البقرة : ( 60 ) وإذ استسقى موسى . . . . .
الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس المطر ومعناه في اللغة طلب السقيا وفي
الشرع ما ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في صفته من الصلاة والدعاء والحجر
يحتمل أن يكون حجرا معينا فتكون اللام للعهد ويحتمل أن لا يكون معينا فتكون للجنس
وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة وقوله ) فانفجرت ( الفاء مترتبة على محذوف تقديره
فضرب فانفجرت والإنفجار الانشقاق وانفجر الماء انفجارا تفتح والفجرة موضع تفتح
الماء قال ابن عطية ولا خلاف أنه كان حجرا مربعا يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا
ضربه موسى سالت العيون وإذا استغنوا عن الماء جفت والمشرب موضع الشرب وقيل هو
المشروب نفسه وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم قيل كان
لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها والأسباط ذرية الإثنى عشر من
أولاد يعقوب وقوله ( كلوا ) أي قلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المتفجر
من الحجر وعثا يعثي عثيا وعثا يعثو عثوا وعاث يعيث عيثا لغات بمعنى افسد وقوله )
مفسدين ( حال مؤكدة قال في القاموس عثى كرمى وسعى ورضي عثيا وعثيا وعثيانا وعثا
يعثو عثوا أفسد وقال في الكشاف العثي أشد الفساد فقيل لهم لا تمادوا في الفساد في
حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه انتهى
البقرة : ( 61 ) وإذ قلتم يا . . . . .
قوله ) لن نصبر على طعام واحد ( تضجر منهم بما صاروا فيه من النعمة والرزق الطيب
والعيش المستلذ ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش إن الشقي بالشقاء مولع
لا يملك الرد له إذا أتى
يحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقا إلى ما كانوا فيه ونظرا لما صاروا إليه من العيشة
الرافهة بل هو باب من تعنتهم وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم وهجيراهم في غالب
ما قص علينا من أخبارهم وقال الحسن البصري إنهم كانوا أهل كراث وأبصال وأعداس
فنزعوا إلى عكرهم أي أصلهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم
فقالوا ) لن نصبر على طعام واحد ( والمراد بالطعام الواحد هو المن والسلوى وهما
وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاما واحد وقيل
لتكررهما في كل يوم وعدم وجود غيرهما معهما ولا تبدلة بهما ومن قوله ) مما تنبت (
تخرج قال الأخفش زائدة وخالفه سيبويه لكونها لا تزاد في الكلام الموجب قال النحاس
وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا ليخرج فأراد أن يجعل ما مفعولا
والأولى أن يكون الفعول محذوفا دل عليه سياق الكلام أي تخرج لنا مأكولا وقوله ) من
بقلها ( بدل من ما بإعادة الحرف والبقل كل نبات ليس له ساق والشجر ما له ساق قال
في الكشاف البقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايب البقول التي يأكلها
الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها انتهى والقثاء بكسر القاف وفتحها والأولى
قراءة الجمهور والثانية قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وهو معروف والفوم قيل هو
الثوم وقد قرأه ابن مسعود بالثاء وروى نحو ذلك عن ابن عباس وقيل الفوم الحنطة
واليه ذهب أكثر المفسرين كما قال القرطبي وقد رجح هذا ابن النحاس وقال الجوهري
الفوم الحنطة وممن قال بهذا الزجاج والأخفش وأنشد قد كنت أحسبني كأغنى واحد
ترك المدينة عن زراعة فوم
وقال بالقول الأول الكسائي والنضر بن شميل ومنه قول أمية بن أبي الصلت كانت
منازلهم إذ ذاك ظاهرة
فيها الفراديس والفومات والبصل
""""""
صفحة رقم 92 """"""
أي الثوم وقال حسان وأنتم أناس لئام الأصول
طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل وقيل الفوم السنبلة وقيل الحمص وقيل الفوم كل حب يخبز والعدس
والبصل معروفان والاستبدال وضع الشيء موضع الآخر ) وأدنى ( قال الزجاج إنه مأخوذ
من الدنو أي القرب والمراد أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المن والسلوى
اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه
والحل الذي لا تطرقه الشبهة وعدم الكلفة بالسعي له والتعب في تحصيله وقوله )
اهبطوا مصرا ( أي انزلوا وقد تقدم معنى الهبوط وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول
مصر وقيل إن الأمر للتعجيز لأنهم كانوا في التيه فهو مثل قوله تعالى ) كونوا حجارة
أو حديدا ( وصرف مصر هنا مع اجتماع العلمية والتأنثيث لأنه ثلاثي ساكن الوسط وهو يجوز
صرفه مع حصول السببين وبه قال الأخفش والكسائي وقال الخليل وسيبويه إن ذلك لا يجوز
وقالا إنه لا علمية هنا لأنه أراد مصرا من الأمصار ولم يرد المدينة المعروفة وهو
خلاف الظاهر وقرأ الحسن وابان بن تغلب وطلحة بن مصرف بترك التنوين وهو كذلك في
مصحف أبي وابن مسعود ومعنى ضرب الذلة والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاء
مستمرا لا يفارقهم ولا ينفصل عنهم مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب
على من فيها ومنه قول الفرزدق يهجو جريرا ضربت عليك العنكبوت بوزنها
وقضى عليك به الكتاب المنزل
وهو ضرب من الهجاء بليغ كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة ومنه قول
الشاعر إن المروءة والشجاعة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة فإن اليهود أقماهم الله
أزل الفرق وأشدهم مسكنة وأكثرهم تصاغرا لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رءوسهم راية
ولا ثبتت لهم ولاية بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن وطروقة كل فحل في كل عصر ومن
تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ فهو متظاهر بالفقر مترد
بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية
أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجرىء على الله بظلم من لا يستطيع الدفع
عن نفسه ومعنى ( باءوا ) رجعوا يقال باء بكذا أي رجع به وباء إلى المباءة أي رجع
إلى المنزل والبواء الرجوع ويقال هم في هذا الأمر بواء أي سواء يرجعون فيها إلى
معنى واحد وباء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقبل به لمساواته له ومنه قول الشاعر
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي
محاربنا لا يبوا الدم بالدم
والمراد في الآية أنهم رجعوا بغضب من الله أو صاروا أحقاء بغضبه وقد تقدم تفسير
الغضب والإشارة بقوله ) ذلك ( إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم
بالله وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ولم يخرج هذا مخرج
التقييد حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة بل
المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه وأنه ظلم بحت في نفس الأمر ويمكن أن يقال أنه
ليس بحق في اعتقادهم الباطل لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في
مال ولا جاه بل أرشدوهم إلى مصالح الدين
""""""
صفحة رقم 93 """"""
والدنيا كما كان من شعيبا وزكريا ويحيى فإنهم قتلوهم وهم يعلمون ويعتقدون أنهم
ظالمون وتكرير الإشارة لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله ومجموع ما بعده
الإشارة الأولى والاشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده وقيل يجوز أن تكون
الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل فيكون ما بعدها سببا للسبب وهو بعيد جدا
والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله ) وإذ استسقى موسى لقومه ( قال ذلك في
التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار فيها اثنتا عشرة عينا من ماء لكل سبط منهم عين
يشربون منها وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) ولا تعثوا في الأرض ( قال لا
تسعوا في الأرض فسادا واخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن
أبي مالك قال يعني ولا تمشوا بالمعاصي وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال
لا تسيروا في الأرض مفسدين وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) لن
نصبر على طعام واحد ( قال المن والسلوى استبدلوا به البقل وما حكى معه وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) وفومها ( قال
الخبز وفي لفظ البر وفي لفظ الحنطة وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال الفوم الثوم وأخرج
ابن جرير عن الربيع بن أنس مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود أنه
قرأ ( وثومها ) وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال قراءتي قراءة زيد وأنا
آخذ ببضعة عشر حرفا من قراءة ابن مسعود هذا أحدها ( من بقلها وقثائها وثومها )
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله ) الذي هو أدنى ( قال أردأ وأخرج عبد بن حميد عن
قتادة في قوله ) اهبطوا مصرا ( قال مصرا من الأمصار وأخرج ابن جرير عن أبي العالية
أنه مصر فرعون وأخرج نحوه ابن أبي داود وابن الأنباري عن الأعمش وأخرج ابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله ) وضربت عليهم الذلة ( قال هم أصحاب الجزية وأخرج
عبدالرزاق وابن جرير عن قتادة والحسن قال ضربت عليهم الذلة والمسكنة أي يعطون
الجزية عن يد وهم صاغرون وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال المسكنة الفاقة وأخرج
ابن جرير عن الضحاك في قوله ) وباؤوا بغضب من الله ( قال استحقوا الغضب من الله
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله ) وباؤوا ( قال انقلبوا وأخرج أبو داود
الطيالسي وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة
نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار
البقرة 62
البقرة : ( 62 ) إن الذين آمنوا . . . . .
قيل إن المراد بالذين آمنوا المنافقون بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى
والصابئين أي آمنوا في الظاهر والأولى أن يقال إن المراد الذين صدقوا النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) وصاروا من جملة أتباعه وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه
الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى شيء واحد وهو أن من آمن
منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر ومن فاته ذلك
فاته الخير كله والأجر دقه وجله والمراد بالإيمان ها هنا هو ما بينه رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان
"""""" صفحة
رقم 94 """"""
فقال ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره ) ولا يتصف بهذا
الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية فمن لم يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
ولا بالقرآن فليس بمؤمن ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا ولم يبق يهوديا ولا نصرانيا
ولا مجوسيا وقوله ) هادوا ( معناه صاروا يهودا قيل هو نسبة لهم إلى يهوذا بن يعقوب
بالذال المعجنة فقلبتها العرب دالا مهملة وقيل معنى هادوا تابوا لتوبتهم عن عبادة
العجل ومنه قوله تعالى ) إنا هدنا إليك ( أي تبنا وقيل إن معناه السكون والموادعة
وقال في الكشاف إن معناه دخل في اليهودية والنصارى قال سيبويه مفردة نصران ونصرانة
كندمان وندمانة وأنشد شاهدا على ذلك قول الشاعر تراه إذا زار العشا متخففا
ويضحى لديه وهو نصران شامس
وقال الاخر فكلتاهما خرت وأسجد رأسها
كما سجدت نصرانة لم تحنف
قال ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب فيقال رجل نصراني وامرأة نصرانية وقال الخليل
واحد النصارى نصرى وقال الجوهري ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى ويقال
ناصرة وعلى هذا فالياء للنسب وقال في الكشاف إن الياء للمبالغة كالتي في أحمرى
سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح والصابين جمع صابي وقيل صاب وقد اختلف فيه القراء
فهمزوه جميعا إلا نافعا فمن همزة جعله من صبأت النجوم إذا طلعت وصبأت ثنية الغلام
إذا خرجت ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو إذا مال والصابيء في اللغة من خرج ومال من
دين إلى دين ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ وسموا هذه الفرقة صابئة لأنها
خرجت من دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة وقوله ) من آمن بالله ( في موضع نصب
بدلا من الذين آمنوا وما بعده وقد تقدم معنى الإيمان ويكون خبر إن قوله ) فلهم
أجرهم ( ويجوز أن يكون قوله ) من آمن بالله ( في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله
) فلهم أجرهم ( هما جميعا خبر إن والعائد مقدر في الجملة الأولى أي من آمن منهم
ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط وقد تقدم تفسير قوله تعالى ) فلا
خوف عليهم ولا هم يحزنون )
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سلمان قال سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أهل دين
كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت ) إن الذين آمنوا والذين هادوا ( الآية
وأخرج الواحدي عن مجاهد نحو ذلك وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في ذكر
السبب بنحو ما سبق وحكى قصة طويلة واخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ وابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) إن الذين آمنوا والذين هادوا ( قال فأنزل
الله بعد هذا ) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
( وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي قال إنما سميت اليهود لأنهم قالوا ) إنا
هدنا إليك ( وأخرج ابن حاتم عن ابن مسعود قال نحن أعلم من أين سميت اليهود
باليهوديه من كلمة موسى عليه السلام ) إنا هدنا إليك ( ولم تسمت النصارى
بالنصرانية من كلمة عيسى عليه السلام ) كونوا أنصار الله ( وأخرج أبو الشيخ نحوه
عنه وأخرج ابن جرير عن قتادة إنما تسموا نصارى بقرية يقال لها ناصرة وأخرج ابن سعد
في طبقاته وابن جرير عن ابن عباس قال إنما سميت النصارى لأن قرية عيسى كانت تسمى
ناصرة وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال
الصابئون فرقة بين اليهود والنصارى والمجوس ليس لهم دين وأخرج عبدالرزاق عنه قال
قال ابن عباس فذكر نحوه وقد روى في تفسير الصابئين غير هذا
البقرة 63 66
""""""
صفحة رقم 95 """"""
البقرة : ( 63 ) وإذ أخذنا ميثاقكم . . . . .
قوله ) وإذ ( وإذ أخذنا هو في محل نصب بعامل مقدر هو اذكروا كما تقدم غير مرة وقد
تقدم تفسير الميثاق والمراد أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق بأن يعملوا بما شرعه لهم
في التوراة وبما هو أعم من ذلك أو أخص والطور اسم جبل الذي كلم الله عليه موسى
عليه السلام وأنزل عليه التوراة فيه وقيل هو اسم لكل جبل بالسريانية وقد ذكر كثير
من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم خذوها
والتزموها فقالوا إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك فصعقوا ثم أحيوا فقال لهم خذوها
والتزموها فقالوا لا فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في
مثله وكذلك كان عسكرهم فجعل عليهم مثل الظلة وأتوا ببحر من خلفهم ونار من قبل
وجوههم وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها وإلا سقط عليكم الجبل فسجدوا
توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق قال ابن جرير عن بعض العلماء لو أخذوها أول مرة
لم يكن عليهم ميثاق قال ابن عطية والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت
سجودهم الإيمان لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة انتهى وهذا تكلف ساقط حمله
عليه المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره وكل
عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا أو أشد منه ونحن نقول أكرههم
الله على الإيمان فآمنوا مكرهين ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان وهو نظير ما ثبت في
شرعنا من رفع السيف عن من تكلم بكلمة الإسلام والسيف مصلت قد هزه حامله على رأسه
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمن قتل من تكلم بكلمة
الإسلام معتذرا عن قتله بأنه قالها تقية ولم تكن عن قصد صحيح ( أأنت فتشت عن قلبه
) وقال ( لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ) وقوله ) خذوا ( أي وقلنا لكم خذو ) ما
آتيناكم بقوة ( والقوة الجد والاجتهاد والمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظا عندهم
ليعملوا به
البقرة : ( 64 ) ثم توليتم من . . . . .
قوله ) ثم توليتم ( أصل التولي الإدبار عن الشيء والإعراض بالجسم ثم استعمل في
الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات إتساعا ومجازا والمراد هنا إعراضهم عن
الميثاق المأخوذ عليهم وقوله ) من بعد ذلك ( أي من بعد البرهان لهم والترهيب بأشد
ما يكون وأعظم ما تجوزه العقول وتقدره الأفهام وهو رفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة
عليهم وقوله ) فلولا فضل الله عليكم ( بأن تدارككم بلطفه ورحمته حتى أظهرتم التوبة
لخسرتم والفضل الزيادة قال ابن فارس في المجمل الفضل الزيادة والخير والإفضال
الإحسان انتهى والخسران النقصان وقد تقدم تفسيره
البقرة : ( 65 ) ولقد علمتم الذين . . . . .
والسبت في أصل اللغة القطع لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل وقيل هو مأخوذ من
السبوت وهو الراحة والدعة وقال في الكشاف السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم
السبت انتهى وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين ففرقة اعتدت في
السبت أي جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن
صيده فيه والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين ففرقة جاهرت بالنهي واعتزلت وفرقة لم
توافق المعتدين ولا صادوا معهم لكنهم جالسوهم ولم يجاهروهم بالنهي ولا اعتزلوا
عنهم فمسخهم الله جميعا ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط ) وهذه من جملة المحن التي
امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة وعاندوا
""""""
صفحة رقم 96 """"""
أنبياءهم وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم وسخف عقولهم وتعنتهم نوعا من
أنواع التعسف وشعب من شعب التكلف فإن الحيتان كانت يوم السبت كما وصف الله سبحانه
بقوله ) إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم (
فاحتالوا لصيدها وحفروا الحفائر وشقول الجداول فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت
فيصيدونها يوم الأحد فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة والخاسىء المبعد يقال خسأته
فخسأ وخسىء وانخسأ أبعدته فبعد ومنه قوله تعالى ) ينقلب إليك البصر خاسئا ( أي
مبعدا وقوله ) اخسؤوا فيها ( أي تباعدوا تباعد سخط ويكون الخاسىء بمعنى الصاغر
والمراد هنا كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين فقردة خبر
الكون وخاسئين خبر آخر وقيل إنه صفة لقردة والأول أظهر
البقرة : ( 66 ) فجعلناها نكالا لما . . . . .
واختلف في مرجع الضمير في قوله ) فجعلناها ( وفي قوله ) لما بين يديها وما خلفها (
فقيل العقوبة وقيل الأمة وقيل القرية وقيل القردة وقيل الحيتان والأول أظهر
والنكال الزج والعقاب والنكل القيد لأنه يمنع صاحبه ويقال للجام الدابة نكل لأنه
يمنعها والموعظة مأخوذة من الاتعاظ والإنزجار والوعظ التخويف وقال الخليل الوعظ
التذكير بالخير
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة وكان بنو
إسرائيل أسفل منه وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة واخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال الطور ما أنبت من الجبال وما لم ينبت فليس
بطور وأخرج ابن جرير عنه في قوله ) خذوا ما آتيناكم بقوة ( قال أيجد وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) واذكروا ما فيه ( قال اقرءوا ما في
التوراة واعملوا به وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن أبي عباس في قوله ) لعلكم تتقون
( قال لعلكم تنزعون عما أنتم عليه وأخرج ابن جرير عنه قال ) ولقد علمتم ( أي عرفتم
) اعتدوا ( يقول اجترءوا في السبت بصيد السمك فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ولم يعش
مسيخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل وأخرج ابن المنذر عنه قال
القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال انقطع ذلك
النسل وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة
وإنما هو مثل ضربه الله لهم كقوله ) كمثل الحمار يحمل أسفارا ( وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن قتادة في الآية قال أحلت لهم الحيتان وحرمت عليهم يوم السبت ليعلم من
يطيعه ممن يعصيه فكان فيهم ثلاثة أصناف وذكر نحو ما قدمناه عن المفسرين وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال صار شباب القوم قردة والمشيخة صاروا خنازير وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) خاسئين ( قال ذليلين وأخرج ابن المنذر عنه في قوله
) خاسئين ( قال صاغرين وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن ابن عباس ) فجعلناها نكالا لما بين يديها ( من القرى ) وما خلفها ( من القرى )
وموعظة للمتقين ( الذين من بعدهم إلى يوم القيامة وأخرج ابن جرير عنه ) فجعلناها (
يعني الحيتان ) نكالا لما بين يديها وما خلفها ( من الذنوب التي عملوا قبل وبعد
وأخرج ابن جرير عنه ) فجعلناها ( قال جعلنا تلك العقوبة وهي المسخة ) نكالا ( عقوبة
) لما بين يديها ( يقول ليحذر من بعدهم عقوبتي ) وما خلفها ( يقول الذين كانوا
معهم ) وموعظة ( قال تذكرة وعبرة للمتقين
البقرة 67 71
""""""
صفحة رقم 97 """"""
البقرة : ( 67 ) وإذ قال موسى . . . . .
قيل إن قصة ذبح البقرة المذكورة هنا مقدم في التلاوة ومؤخر في المعنى على قوله
تعالى ) وإذ قتلتم نفسا ( ويجوز أن يكون قوله قتلتم مقدما في النزول ويكون الأمر
بالذبح مؤخرا ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها فكأن الله أمرهم بذبح
البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوه ببعضها هذا على
فرض أن الواو تقتضي الترتيب وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد الجمع من دون
ترتيب ولا معية وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام والبقرة اسم للأنثى ويقال للذكر
ثور وقيل إنها تطلق عليهما وأصله من البقر وهو الشق لأنها تشق الأرض بالحرث قال
الأزهري البقر اسم جنس وجمعه باقر وقد قرأ عكرمة ويحيى ابن يعمر ( إن الباقر تشابه
علينا ) وقوله ) هزوا ( الهزو هنا اللعب والسخرية وقد تقدم تفسيره وإنما يفعل ذلك
أهل الجهل لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة
بالله سبحانه من الجهل
البقرة : ( 68 ) قالوا ادع لنا . . . . .
وقوله ) قالوا ادع لنا ربك ( هذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة فقد كانوا يسلكون
هذه المسالك في غالب ما أمره الله به ولو تركوا التعنت والأسئلة المتكلفة لأجزأهم
ذبح بقرة من عرض البقر ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم كما سيأتي بيانه والفارض
المسنة ومعناه في اللغة الواسع قال في الكشاف وكأنها سميت فارضا لأنها فرضت سنها
أي قطعتها وبلغت آخرها انتهى ويقال للشيء القديم فارض ومنه قول الراجز يا رب ذي
ضغن علي فارض
له قرو كقرو الحائض
أي قديم وقيل الفارض التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها والبكر الصغيرة التي لم
تحمل وتطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل وتطلق أيضا على الأول
من الأولاد ومنه قول الراجز يا بكر بكرين ويا صلب الكبد
أصبحت مني كذراع من عضد
والعوان المتوسطة بين سني الفارض والبكر وهي التي قد ولدت بطنا أو بطنين ويقال هي
التي قد ولدت مرة بعد مرة والإشارة بقوله ) بين ذلك ( إلى الفارض والبكر وهما وإن
كانتا مؤنثتين فقد اشير إليهما بما هو للمذكر على تأويل المذكور كأنه قال بين ذلك
المذكور وجاز دخول بين المقتضية لشيئين لأن المذكور متعدد وقوله ) فافعلوا ( تجديد
للأمر وتأكيد له وزجر لهم عن التعنت فلم ينفعهم ذلك ولا نجع فيهم بل رجعوا إلى
طبيعتهم وعادوا إلى مكرهم واستمروا على عادتهم المألوفة
البقرة : ( 69 ) قالوا ادع لنا . . . . .
ف ) قالوا ادع لنا ربك ( واللون واحد
""""""
صفحة رقم 98 """"""
الألوان وجمهور المفسرين على أنها كانت جميعها صفراء قال بعضهم حتى قرنها وظلفها
وقال الحسن وسعيد ابن جبير إنها كانت صفراء القرن والظلف فقط وهو خلاف الظاهر
والمراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة
وروي عن الحسن أن صفراء معناه سوداء وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها وليت شعري كيف
يصدق على اللون الأسود الذي هو أقبح الألوان أنه يسر الناظرين وكيف يصح وصفه
بالفقوع الذي يعلم كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجزي على الأسود بوجه من الوجوه
فإنهم يقولون في وصف الأسود حالك وحلكوك ودجوجي وغربيب قال الكسائي يقال فقع لونها
يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته وقال في الكشاف الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه
ومعنى ) تسر الناظرين ( تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجابا بها واستحسانا
للونها قال وهب كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها
البقرة : ( 70 ) قالوا ادع لنا . . . . .
ثم لم ينزعوا عن غوايتهم ولا ارعووا من سفههم وجهلهم بل عادوا إلى تعنتهم فقال )
ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ( أي أن جنس البقر يتشابه عليهم
لكثرة ما يتصف منها بالعوان الصفراء الفاقعة ووعدوا من أنفسهم بالاهتداء إلى ما
دلهم عليه والامتثال لما أمروا به
البقرة : ( 71 ) قال إنه يقول . . . . .
والذلول التي لم يذللها العمل أي هي غير مذللة بالعمل ولا ريضة به وقوله ) تثير (
في موضع رفع على الصفة لبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة وكذلك قوله ) ولا تسقي
الحرث ( في محل رفع لأنه وصف لها أي ليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الزروع
وحرف النفي الآخر توكيد للأول أي هي بقرة غير مذللة بالحرث ولا بالنضح ولهذا قال
الحسن كانت البقرة وحشية وقال قوم إن قوله ) تثير ( فعل مستأنف والمعنى إيجاب
الحرث لها والنضح بها والأول أرجح لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة وقد
نفى الله ذلك عنها وقوله ) مسلمة ( مرتفع على أنه من أوصاف البقرة ويجوز أن يكون مرتفعا
على أنه خبر لمبتدإ محذوف أي هي مسلمة والجملة في محل رفع على أنها صفة والمسلمة
هي التي لا عيب فيها وقيل مسلمة من العمل وهو ضعيف لأن الله سبحانه قد نفى ذلك
عنها والتأسيس خير من التأكيد وألإفادة أولى من الإعادة والشية أصلها وشية حذفت
الواو كما حذفت من يشي وأصله يوشي ونظيره الزنة والعدة والصلة وهي مأخوذة من وشى
الثوب إذا نسج على لونين مختلفين وثور موسى في وجهه وقوائمه سواد والمراد أن هذه
البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا
يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه أقصروا من
غوايتهم وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم
) قالوا الآن جئت بالحق ( أي أوضحت لنا الوصف وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف
عندها فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات ) فذبحوها ( وامتثلوا الأمر الذي
كان يسرا فعسروه وكان واسعا فضيقوه ) وما كادوا يفعلون ( ما أمروا به لما وقع منهم
من التثبط والتعنت وعدم المبادرة فكان ذلك مظنة للاستبعاد ومحلا للمجيء بعبارة
مشعرة بالتثبط الكائن منهم وقيل إنهم ما كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة
بهذه الأوصاف وقيل لارتفاع ثمنها وقيل لخوف انكشاف أمر المقتول والأول ارجح وقد
استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل
وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين الأول أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من
باب التقييد للمأمور به لا من باب النسخ وبين البابين بون بعيد كما هو مقرر في علم
الأصول الثاني أنا لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه
دليل على ما قالوه فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأول أن يعمدوا
""""""
صفحة رقم 99 """"""
إلى بقرة من عرض البقر فيذبحوها ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان
والصفراء ولا دليل يدل على أن هذه المحاورة بينهم وبين موسى عليه السلام واقعة في
لحظة واحدة بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها ويديرون الرأي
بينهم في أمرها ثم يوردونها وأقل الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن
عبيدة السلماني قال كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير
وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه
عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم إلى بعض فقال ذو الرأي منهم علام يقتل بعضكم بعضا
وهذا رسول الله فيكم فأتوا موسى فذكروا ذلك له فقال ) إن الله يأمركم أن تذبحوا
بقرة ( الآية قال فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم
حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال
والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا فأخذوها بملء جلدها ذهبا فذبحوها فضربوه ببعضها
فقام فقالوا من قتلك فقال هذا لابن أخيه ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا ولم
يورث قاتل بعده وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ( من عاش بعد الموت ) عن ابن عباس أن
القتيل وجد بين قريتين وأن البقرة كانت لرجل كان يبر أباه فاشتروها بوزنها ذهبا
وأخرج ابن جرير عنه نحوا من ذلك ولم يذكر ما تقدم في البقرة وقد روى في هذا قصص
مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة وأخرج البزار عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) قال ( إن بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم أو لأجزأت عنهم )
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) ( لولا أن بني إسرائيل قالوا ) وإنا إن شاء الله لمهتدون ( ما أعطوا ابدا
ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم
) وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عكرمة يبلغ به النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) وأخرجه ابن جرير عن ابن جريج يرفعه وأخرجه ابن جرير عن قتادة
يرفعه أيضا وهذه الثلاثة مرسلة وأخرج نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال الفارض الهرمة
والبكر الصغيرة والعوان النصف وأخرج نحوه عن مجاهد وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله ) عوان بين ذلك ( قال بين الصغيرة والكبيرة وهي أقوى ما يكون
وأحسنه وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله ) صفراء فاقع لونها (
قال شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله )
صفراء ( قال صفراء الظلف ) فاقع لونها ( قال صافي وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد
وابن جرير عن قتادة قال ) فاقع لونها ( أي صاف ) تسر الناظرين ( أي تعجب وأخرج
سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله ) صفراء فاقع لونها ( قال
سوداء شديدة السواد وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) لا ذلول ( أي لم
يذلها العمل ) تثير الأرض ( يعني ليست بذلول فتثير الأرض ) ولا تسقي الحرث ( يقول
ولا تعمل في الحرث ) مسلمة ( قال من العيوب واخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن
مجاهد وقال ) لا شية فيها ( لا بياض فيها ولا سواد وأخرج ابن جرير عن ابن عباس )
مسلمة ( لا عوار فيها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ) قالوا الآن جئت
بالحق ( قالوا الآن بينت لنا ) فذبحوها وما كادوا يفعلون ( وأخرج ابن جرير عن محمد
بن كعب في قوله ) وما كادوا يفعلون ( لغلاء ثمنها
""""""
صفحة رقم 100 """"""
البقرة 72 74
البقرة : ( 72 ) وإذ قتلتم نفسا . . . . .
قد تقدم ما ذكرناه في قصة البقرة فيكون تقدير الكلام ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم
فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون ) فقال موسى لقومه ( إن الله يأمركم أن تذبحوا
بقرة ) إلى آخر القصة وبعدها ) فقلنا اضربوه ببعضها ( الآية وقال الرازي في تفسيره
أعلم أن وقوع القتل لا بد أن يكون متقدما لأمره تعالى بالذبح فأما الإخبار عن وقوع
ذلك القتل وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدما
على الإخبار عن قصة البقرة فقول من يقول هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة
على الأولى خطأ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود
فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم واخرى على
العكس من ذلك فكأنهم لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله بذبح البقرة فلما ذبحوها
قال وإذ قتلتم نفسا من قبل ونسب القتل إليهم بكون القاتل منهم وأصل ادارأتم
تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال ولما كان الابتداء بالمدغم الساكن لا يجوز زادوا
ألف الوصل ومعنى ادارأتم اختلفتم وتنازعتم لأن المتنازعين يدرأ بعضهم بعضا أي
يدفعه ومعنى ( مخرج ) مظهر أي ما كتمتم بينكم من أمر القتل فالله مظهره لعباده
ومبينه لهم وهذه الجملة معترضة بين أجزاء الكلام أي فادارأتم فيها فقلنا
البقرة : ( 73 ) فقلنا اضربوه ببعضها . . . . .
واختلف في تعيين البعض الذي أمروا بأن يضربوا القتيل به ولا حاجة إلى ذلك مع ما
فيه من القول بغير علم ويكفينا أن نقول أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها فأي بعض
ضربوا به فقد فعلوا ما أمروا به وما زاد على هذا فهو من فضول العلم إذا لم يرد به
برهان قوله ) كذلك يحيي الله الموتى ( في الكلام حذف والتقدير ( فقلنا اضربوه
ببعضها ) فأحياه الله ) كذلك يحيي الله الموتى ( أي إحياء كمثل هذا الإحياء )
ويريكم آياته ( أي علاماته ودلائله الدالة على كمال قدرته وهذا يحتمل أن يكون
خطابا لمن حضر القصة ويحتمل أن يكون خطابا للموجودين عند نزول القرآن
البقرة : ( 74 ) ثم قست قلوبكم . . . . .
والقسوة الصلابة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لايات الله مع
وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل وتكلمه وتعيينه لقاتله والإشارة
بقوله ) من بعد ذلك ( إلى ما تقدم من الآيات الموجبة للين القلوب ورقتها قيل ( أو
) في قوله ( أو أشد قسوة ) بمعنى الواو كما في قوله تعالى ) آثما أو كفورا ( وقيل
هي بمعنى بل وعلى أن ( أو ) على أصلها أو بمعنى الواو فالعطف على قوله ( كالحجارة
) أي هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشد قسوة منها فشبهوها بأي الأمرين شئتم فإنكم
مصيبون في هذا التشبيه وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع ( أو ) ههنا مع كونها
للترديد أي لا يليق لعلام الغيوب بثمانية أوجه وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بأشد
مع كونه يصح أن يقال وأقسى من الحجارة لكونه ابين وأدل على فرط القسوة كما قاله في
""""""
صفحة رقم 101 """"""
الكشاف وقرأ الأعمش ( أو أشد ) بنصب الدال وكأنه عطفه على الحجارة فيكون أشد
مجرورا بالفتحة وقوله ) وإن من الحجارة ( إلى آخره قال في الكشاف إنه بيان لفضل
قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة وتقرير لقوله ) أو أشد قسوة ( انتهى وفيه أن
مجيء البيان بالواو غير معروف ولا مألوف والأولى جعل ما بعد الواو تذييلا أو حالا
التفجر التفتح وفد سبق تفسيره واصل ( يشقق ) يتشقق أدغمت التاء في الشين وقد قرأ
الأعمش ( يتشقق ) على الأصل وقرأ ابن مصرف ينشق بالنون والشق واحد الشقوق وهو يكون
بالطول أو بالعرض بخلاف الإنفجار فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق
والمراد أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الإنفجار والإنشقاق ومن الحجارة ما
يهبط أي ينحط من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله وتحل
به وقيل إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها والتواضع الكائن فيها انقيادا لله عز وجل
فهو مثل قوله تعالى ) لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية
الله ( وقد حكى ابن جرير عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة
للجدار وكما قال الشاعر لما أتى خبر الزبير تواضعت
سور المدينة والجبال الخشع
وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله ) وإن منها ( راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة وهو
فاسد فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة وفرط
اليبس الموجبين لعدم قبول الحق والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة
التي هي أشد الأجسام صلابة وأعظمها صلادة فإنها ترجع إلى نوع من اللين وهي تفجرها
بالماء وتشققها عنه وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع والانقياد بخلاف تلك
القلوب وفي قوله تعالى ) وما الله بغافل عما تعملون ( من التهديد وتشديد الوعيد ما
لا يخفى فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه مطلعا عليه غير غافل عنه كان
لمجازاتهم بالمرصاد
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها
( قال اختلفتم فيها ) والله مخرج ما كنتم تكتمون ( قال ما تغيبون وأخرج ابن أبي
حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن المسيب بن رافع قال ( ما عمل رجل حسنة في سبعة
أبيات إلا أظهرها الله وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وتصديق ذلك
في كتاب الله ) والله مخرج ما كنتم تكتمون ( وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعيد
قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أن رجلا عمل عملا في صخرة صماء لا
باب لها ولا كوة خرج عمله إلى الناس كائنا ما كان ) وأخرج البيهقي من حديث عثمان
قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كانت له سريرة صالحة أو سيئة أظهر
الله عليها منها رداء يعرف به ) ورواه البيهقي أيضا بنحوه من قول عثمان قال
والموقوف أصح وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس مرفوعا حديثا طويلا في هذا المعنى
ومعناه أن الله يلبس كل عامل عمله حتى يتحدث به الناس ويزيدون ولو عمله في جوف بيت
إلى سبعين بيتا على كل بيت باب من حديد وفي إسناده ضعف وأخرج ابن عدي من حديث أنس
أيضا مرفوعا ( إن الله مرد كل امرئ رداء عمله ) ولجماعة من الصحابة والتابعين
كلمات تفيد هذا المعنى وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله ) فقلنا اضربوه ببعضها ( قال ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف وأخرج عبد بن
حميد عن قتادة أنهم ضربوه بفخذها وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة وأخرج نحوه عبد بن
حميد وابن جرير عن مجاهد وأخرج ابن جرير عن السدي قال ضرب بالبضعة التي بين
الكتفين وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة عن
""""""
صفحة رقم 102 """"""
وهب بن منبه قصة طويلة في ذكر البقرة وصاحبها لا حاجة إلى التطويل بذكرها وقد
استوفاها في الدر المنثور وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله ) ثم قست
قلوبكم من بعد ذلك ( قال من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ومن بعد ما اراهم
من أمر القتيل ) فهي كالحجارة أو أشد قسوة ( ثم عذر الله الحجارة ولم يعذر شقي بني
آدم فقال ) وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ( إلى آخر الآية وأخرج ابن إسحاق
وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال أي من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون
إليه من الحق وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ( إن
الحجر ليقع على الأرض ولو اجتمع عليه فئام من الناس ما استطاعوه وأنه ليهبط من
خشية الله )
البقرة 75 77
البقرة : ( 75 ) أفتطمعون أن يؤمنوا . . . . .
قوله ) أفتطمعون ( هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار كأنه آيسهم من إيمان هذه الفرقة
من اليهود والخطاب لأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أوله ولهم و ) يؤمنوا لكم
( أي لأجلكم أو على تضمين آمن معنى استجاب أي أتطمعون أن يستجيبوا لكم والفريق اسم
جمع لا واحد له من لفظه و ) كلام الله ( أي التوراة وقيل إنهم سمعوا خطاب الله
لموسى حين كلمه وعلى هذا فيكون الفريق هم السبعون الذين اختارهم موسى وقرأ الأعمش
) كلم الله ( والمراد من التحريف أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة فجعلوا حلاله
حراما أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم كتحريفهم صفة رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) وإسقاط الحدود عن أشرافهم أو سمعوا كلام الله لموسى فزادوا فيه ونقصوا وهذا
إخبار عن إصرارهم على الكفر وإنكار على من طمع في إيمانهم وحالهم هذه الحال أي
ولهم سلف حرفوا كلام الله وغيروا شرائعه وهم مقتدون بهم متبعون سبيلهم ومعنى قوله
) من بعد ما عقلوه ( أي من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك الذي
فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من تبليغ شرائعه كما هي فهم وقعوا في المعصية
عالمين بها وذلك أشد لعقوبتهم وأبين لضلالهم
البقرة : ( 76 ) وإذا لقوا الذين . . . . .
( وإذا لقوا الذين آمنوا ) يعني أن المنافقين إذا لقوا الذين آمنوا ) قالوا آمنا
وإذا خلا بعضهم إلى بعض ( أي إذا خلا الذين لم ينافقوا بالمنافقين قالوا لهم
عاتبين عليهم ) أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ( أي حكم عليكم من العذاب وذلك أن
ناسا من اليهود أسلموا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به
آباؤهم وقيل إن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة من صفة محمد وقد تقدم معنى
خلا والفتح عند العرب القضاء والحكم والفتاح القاضي بلغة اليمن والفتح النصر ومن
ذلك قوله تعالى ) يستفتحون على الذين كفروا ( وقوله ) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح
( ومن الأول ثم يفتح بيننا بالحق وهو خير الفاتحين أي الحاكمين ويكون الفتح بمعنى
الفرق بين الشيئين والمحاجة إبراز الحجة أي لا تخبروهم بما حكم الله به عليكم من
العذاب فيكون ذلك حجة لهم عليكم فيقولون نحن أكرم على الله منكم وأحق بالخير منه
والحجة الكلام المستقيم وحاججت فلانا فحججته أي غلبته بالحجة ) أفلا تعقلون ( ما
فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم
البقرة : ( 77 ) أو لا يعلمون . . . . .
ثم وبخهم الله سبحانه
""""""
صفحة رقم 103 """"""
) أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ( من جميع أنواع الأسرار وأنواع
الإعلان ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ثم قال الله لنبيه ومن معه من
المؤمنين يؤيسهم منهم ) أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام
الله ( وليس قوله يسمعون التوراة كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم
فأخذتهم الصاعقة فيها وأخرج عبد بن حمبد وابن جرير عن قتادة في قوله ) أفتطمعون أن
يؤمنوا لكم ( الآية قال هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما
سمعوه ووعوه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) أفتطمعون أن يؤمنوا
لكم ( الآية قال الذين يحرفونه والذين يكتبونه هم العلماء منهم والذين نبذوا كتاب
الله وراء ظهورهم هؤلاء كلهم يهود وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله ) يسمعون كلام
الله ( قال هي التوراة حرفوها وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله )
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ( أي بصاحبكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ولكنه إليكم خاصة ) وإذا خلا بعضهم إلى بعض ( قالوا لا تحدثوا العرب بهذا فقد كنتم
تستفتحون به عليهم وكان منهم ) ليحاجوكم به عند ربكم ( أي تقرون بأنه نبي وقد
علمتم أنه قد أخذ عليكم الميثاق بإتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كان ينتظر ونجد
في كتابنا اجحدوه ولا تقروا به وأخرج ابن جرير عنه أن هذه الآية في المنافقين من
اليهود وقوله ) بما فتح الله عليكم ( يعني بما أكرمكم به واخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عن السدي قال نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكانوا يحدثون
المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقالوا بعضهم لبعض أتحدثونهم بما فتح الله عليكم
من العذاب لتقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم وقد أخرج ابن جرير
عن ابن زيد أن سبب نزول الآية أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يدخلن
علينا قصبة المدينة إلا مؤمن فكان اليهود يظهرون الإيمان فيدخلون ويرجعون إلى
قومهم بالأخبار وكان المؤمنون يقولون لهم أليس قد قال الله في التوراة كذا وكذا
فيقولون نعم فإذا رجعوا إلى قومهم ) قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ( الآية )
وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن سبب نزول الآية
( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قام لقوم قريظة تحت حصونهم فقال يا إخوان
القردة والخنازير ويا عبدة الطاغون فقالوا من أخبر هذا الأمر محمدا ما خرج هذا الأمر
إلا منكم ) أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ( أي بما حكم الله ليكون لهم حجة عليكم
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة أن السبب في نزول الآية ( أن إمرأة من اليهود أصابت
فاحشة فجاءوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبتغون منه الحكم رجاء الرخصة فدعا
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عالمهم وهو ابن صوريا فقال له احكم قال فجبوه
والتجبية يحملونه على حمار ويجعلون وجهه إلى ذنب الحمار فقال رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ابحكم الله حكمت قال لا ولكن نساءنا كن حسانا فأسرع فيهن رجالنا
فغيرنا الحكم وفيه نزل ) وإذا خلا بعضهم إلى بعض ( الآية ) وأخرج عبد بن حميد عن
قتادة في قوله ) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ( قال هم اليهود وكانوا إذا
لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم ) وإذا خلا بعضهم إلى بعض
( نهى بعضهم بعضا أن يحدثوا بما فتح الله عليهم وبين لهم في كتابه من أمر محمد (
صلى الله عليه وسلم ) ونعته ونبوته وقالوا إنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا بذلك عليكم
عند ربكم ) أفلا تعقلون أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ( قال ما
يعلنون من أمرهم وكلامهم إذا لقوا الذين
""""""
صفحة رقم 104 """"""
آمنوا وما يسرون إذا خلا بعضهم إلى بعض من كفرهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
وتكذييهم به وهم يجدونه مكتوبا عندهم وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) أو
لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ( يعني من كفرهم بمحمد ( صلى الله
عليه وسلم ) ولكذبهم وما يعلنون حين قالوا للؤمنين آمنا وقد قال بمثل هذا جماعة من
السلف
البقرة 78 82
البقرة : ( 78 ) ومنهم أميون لا . . . . .
قولهم ( ومنهم ) أي من اليهود والأمي منسوب إلى الأمة الأمية التي هي علي أصل
ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن القراءة للمكتوب ومنه احديث ( إنا
أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وقال أبو عبيدة إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب
عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب فكأنه قال ومنهم أهل الكتاب وقيل هم نصارى العرب
وقيل هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها وقيل هم المجوس وقيل غير
ذلك والراجح الأول ومعنى ) لا يعلمون الكتاب إلا أماني ( أنه لا علم لهم به إلا ما
هم عليه من الأماني التي يتمنونها ويعللون بها أنفسهم والأماني جمع أمنية وهي ما
يتمناه الإنسان لنفسه فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من
كونهم لا يكتبون ولا يقرءون المكتوب والاستثناء منقطع أي لكن الأماني ثابتة لهم من
كونهم مغفورا لهم بما يدعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة أو بما لهم من السلف
الصالح في اعتقادهم وقيل الأماني الأكاذيب كما سيأتي عن ابن عباس ومنه قول عثمان
بن عفان ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت حكاه عنه القرطبي في تفسيره وقيل الأماني
التلاوة ومنه قوله تعالى ) إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ( أي إذا تلا القى
الشيطان في تلاوته أي لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر ومنه قول كعب
بن مالك تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر تمنى كتاب الله آخر ليلة
تمنى داود الزبور على رسل
وقيل الأماني التقدير قال الجوهري يقال منى له أي قدر ومه قول الشاعر لا تأمنن وإن
أمسيت في حرم
حتى تلاقي ما يمنى لك الماني
أي يقدر لك المقدر قال في الكشاف والاشتقاق من منى إذا قدر لأن المتمني يقدر في
نفسه ويجوز ما يتمناه
""""""
صفحة رقم 105 """"""
وكذلك المختلق والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا انتهى ( وإن ) في قوله ) وإن هم
إلا يظنون ( نافية أي ما هم والظن هو التردد الراجح بين طرفي الإعتقاد الغير
الجازم كذا في القاموس أي ما هم إلا يترددون بغير جزم ولا يقين وقيل الظن هنا
بمعنى الكذب وقيل هو مجرد الحدس لما ذكر الله سبحانه أهل العلم منهم بأنهم غير
عاملين بل يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ذكر أهل الجهل منهم بأنهم
يتكلمون على الأماني ويعتمدون على الظن الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره ولا
يظفرون بسواه
البقرة : ( 79 ) فويل للذين يكتبون . . . . .
والويل الهلاك وقال الفراء لأصل في الويل وي أي حزن كما تقول وي لفلان أي حزن له
فوصلته العرب باللام قال الخليل ولم نسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويب
وكله متقارب في المعنى وقد فرق بينها قوم وهي مصادر لم ينطق العرب بأفعالها وجاز
الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء والكتابة معروفة والمراد أنهم
يكتبون الكتاب المحرف ولا يبينون ولا ينكرونه على فاعله وقوله ) بأيديهم ( تأكيد
لأن الكتابة لا تكون إلا باليد فهو مثل قوله ) ولا طائر يطير بجناحيه ( وقوله )
يقولون بأفواههم ( وقال ابن السراج هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم
وفيه أنه قد دل على أنه من تلقائهم قوله ) يكتبون الكتاب ( فإسناد الكتابة إليهم
يفيد ذلك والاشتراء الاستبدال وقد تقدم الكلام عليه ووصفه بالقلة لكونه فانيا لا
ثواب فيه أو لكونه حراما لا تحل به البركة فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف ولا
بالكتابة لذلك المحرف حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله لينالوا بهذه المعاصي
والمتكررة هذا الغرض النزير والعوض الحقير وقوله ) مما يكسبون ( قيل من الرشا
ونحوها وقيل من المعاضي وكرر الويل تغليظا عليهم وتعظيما لفعلهم وهتكا لأستارهم
البقرة : ( 80 ) وقالوا لن تمسنا . . . . .
( وقالوا ) أي اليهود ) لن تمسنا النار ( الآية وقد اختلف في سبب نزول الآية كما
سيأتي بيانه والمراد بقوله ) قل أتخذتم عند الله عهدا ( الإنكار عليهم لما صدر
منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها لن تمسهم النار إلا أياما معدودة أي لم يتقدم لكم
مع الله عهدا بهذا ولا أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه الدعوى حتى يتعين
الوفاء بذلك وعدم إخلاف العهد أي إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم
تقولون على الله ما لا تعلمون قال في الكشاف و ( أم ) إما أن تكون معادلة بمعنى أي
الامرين كائن على سبيل التقرير لأن العلم واقع بكون أحدهما ويجوز أن تكون منقطعة
انتهى وهذا توبيخ لهم شديد قال الرازي في تفسيره العهد في هذا الموضع يجري مجرى
الوعد وإنما سمى خبره سبحانه عهدا لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة
البقرة : ( 81 ) بلى من كسب . . . . .
وقوله ) بلى ( إثبات بعد النفي أي بلى تمسكم لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه
أياما معدودة والسيئة المراد بها الجنس هنا ومثله قوله تعالى ) وجزاء سيئة سيئة
مثلها ( ) من يعمل سوءا يجز به ( ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب
الخلود في النار بل لا بد أن تكون سيئة محيطة به قيل هي الشرك وقيل الكبيرة
وتفسيرها بالشرك أولى لما ثبت في السنة تواترا من خروج عصاة الموحدين من النار
ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود وإن كان الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقد
قرأ نافع ( خطيئاته ) بالجمع وقرأ الباقون بالإفراد
البقرة : ( 82 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
وقد تقدم تفسير الخلود
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله ) ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
( قال لا يدرون ما فيه ) وإن هم إلا يظنون ( قال وهم يجحدون نبوتك بالظن وأخرج ابن
جرير عنه قال الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتابا أنزله الله فكتبوا
كتابا بأيديهم ثم قالوا لقوم سفلة جهال هذا من عند الله
وقد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله وأخرج ابن
جرير عن النخعي قال
""""""
صفحة رقم 106 """"""
منهم من لا يحسن أن يكتب وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله ) إلا أماني ( قال الأحاديث وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب وكذا روى مثله عبد
بن حميد عن مجاهد وزاد ) وإن هم إلا يظنون ( قال إلا يكذبون وخرج النسائي وابن
المنذر عن ابن عباس في قوله ) فويل للذين يكتبون الكتاب ( قال نزلت في أهل الكتاب
وأخرج أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وصححه عن أبي سعيد عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين
خريفا قبل أن يبلغ قعره ) وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعا قال الويل جبل في
النار ) وأخرج البزار وابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا أنه حجر في
النار وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) فويل للذين يكتبون الكتاب ( قال
هم أحبار اليهود وجدوا صفة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكتوبة في التوراة أكحل
أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه فلما وجدوه في التوراة محوه حسدا وبغيا فأتاهم نفر
من قريش فقالوا تجدون في التوراة نبيا أميا فقالوا نعم نجده طويلا أزرق سبط الشعر
فأنكرت قريش وقالوا ليس هذا منا وأخرج ابن جرير عنه في قوله ) ثمنا قليلا ( قال
عرضا من عرض الدنيا ) فويل لهم ( قال فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك
الكذب ) وويل لهم مما يكسبون ( يقول مما يأكلون به الناس السفلة عندهم وقد ذكر
صاحب الدر المنثور آثارا عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه
الآية ولا دلالة فيها على ذلك ثم ذكر آثارا عن جماعة منهم أنهم جوزوا ذلك ولم
يكرهوه وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والواحدي
عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف
سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار وإنما هي سبعة أيام معدودة ثم ينقطع
العذاب فأنزل الله في ذلك ) وقالوا لن تمسنا النار ( الآية وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه قال وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين
فقالوا لن تعذب أهل النار إلا قدر أربعين فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار فساروا
فيها حتى انتهوا إلى سقر وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة فقال
لهم خزنة النار يا أعداء الله زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياما معدودة فقد
انقضى العدد وبقي الأبد فيؤخذون في الصعود يرهقون على وجوههم وأخرج ابن جرير عنه
أن اليهود قالوا لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال اجتمعت يهود يوما فخاصموا
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات أربعين
يوما ثم يخلفنا فيها ناس وأشاروا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فقال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورد يديه على رأسه ( كذبتم بل أنتم خالدون
مخلدون فيها لانخلفكم فيها إن شاء الله أبدا ففيهم نزلت هذه الآية ) وقالوا لن
تمسنا النار ( ) وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم مرفوعا نحوه واخرج أحمد والبخاري
والدارمي والنسائي من حديث أبي هريرة ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سأل
اليهود في خيبر من أهل النار فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها فقال لهم
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا ) وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) قل أتخذتم عند الله عهدا ( أي موثقا من الله
بذلك أنه كما تقولون وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه فسر العهد هنا بأنهم قالوا لا
إله إلا الله لم يشركوا به ولم يكفروا وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله ) أم
تقولون على الله ما لا تعلمون ( قال قال القوم الكذب والباطل وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله ) بلى من كسب سيئة ( قال الشرك وأخرج عبدالله عن مجاهد
""""""
صفحة رقم 107 """"""
وعكرمة وقتادة مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله ) وأحاطت به خطيئته (
قال أحاط به شركه وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله )
بلى من كسب سيئة ( أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط كفره بما له
من حسنة ) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات ( أي
من آمن بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها وأخرج عبد بن
حميد عن قتادة في قوله ) وأحاطت به خطيئته ( قال هي الكبيرة الموجبة لأهلها النار
وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن أنه قال كل ما وعد الله عليه النار فهو الخطيئة
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن الربيع ابن خيثم قال هو الذي يموت
على خطيئته قبل أن يتوب وأخرج مثله ابن جرير عن الأعمش
البقرة 83 86
البقرة : ( 83 ) وإذ أخذنا ميثاق . . . . .
قد تقدم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل وقال مكي إن الميثاق الذي أخذه
الله عليهم هنا هو ما أخذه الله عليهم في حياتهم على ألسن أنبيائهم وهو قوله ) لا
تعبدون إلا الله ( وعبادة الله إثبات توحيده وتصديق رسله والعمل بما أنزل في كتبه
قال سيبويه إن قوله ) لا تعبدون إلا الله ( هو جواب قسم والمعنى استحلفناهم والله
لا تعبدون إلا الله وقيل هو إخبار في معنى الأمر ويدل عليه قراءة أبي وابن مسعود (
لا تعبدوا ) على النهي ويدل عليه أيضا ما عطف عليه من قوله ( وقولوا وأقيموا وآتوا
) وقال قطرب والمبرد إن قوله ) لا تعبدون ( جملة حالية أي أخذنا ميثاقهم موحدين أو
غير معاندين قال القرطبي وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي (
يعبدون ) بالياء التحتية وقال الفراء والزجاج وجماعة إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن
لا تعبدوا إلا الله وبأن تحسنوا بالوالدين وبأن لا تسفكوا الدماء ثم حذف أن فارتفع
الفعل لزوالها قال المبرد هذا خطأ لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا
وقال القرطبي ليس بخطأ بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد
""""""
صفحة رقم 108 """"""
ألا أي هذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بالنصب لقوله أحضر وبالرفع والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف والتواضع
لهما وامتثال أمرهما وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق والقربى
مصدر كالرجعي والعقبى هم القرابة والإحسان بهم صلتهم والقيام بما يحتاجون إليه
بحسب الطاقة وبقدر ما تبلغ إليه القدرة واليتامى جمع يتيم واليتيم في بني آدم من
فقد أبوه وفي سائر الحيوانات من فقدت أمه وأصله الإنفراد يقال صبي يتيم أي منفرد
من أبيه والمساكين جمع مسكين وهو من أسكنته الحاجة وذللته وهو أشد فقرا من الفقير
عند أكثر أهل اللغة وكثير من أهل الفقه وروى عن الشافعي أن الفقير أسود أسوأ حالا
من المسكين وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها ومعنى قوله )
وقولوا للناس حسنا ( أي قولوا لهم قولا حسنا فهو صفة مصدر محذوف وهو مصدر كبشرى
وقرأ حمزة والكسائي ( حسنا ) بفتح الحاء والسين وكذلك قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود
قال الأخفش هما بمعنى واحد مثل البخل والبخل والرشد والرشد وحكى الأخفش أيضا (
حسنى ) بغير تنوين على فعلى قال النحاس وهذا لا يجوز في العربية لا يقال من هذا شيء
إلا بالألف واللام نحو الفضلى والكبرى والحسنى وهذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر (
حسنا ) بضمتين والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين بل كل
ما صدق عليه أنه حسن شرعا كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر وقد قيل إن ذلك هو
كلمة التوحيد وقيل الصدق وقيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيل غير ذلك وقوله
) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( قد تقدم تفسيره وهو خطاب لبني إسرائيل فالمراد
الصلاة التي كانوا يصلونها والزكاة التي كانوا يخرجونها قال ابن عطية وزكاتهم هي
التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يقبل ولا تنزل على ما لا يقبل وقوله ( ثم
توليتم ) قيل الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنهم مثل
سلفهم في ذلك وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وقوله ( إلا قليلا ) منصوب على
الاستثناء ومنهم عبدالله بن سلام وأصحابه وقوله ) وأنتم معرضون ( في موضع النصب
على الحال والإعراض والتولي بمعنى واحد وقيل التولي بالجسم والإعراض بالقلب
البقرة : ( 84 ) وإذ أخذنا ميثاقكم . . . . .
وقوله ( لا تسفكون ) الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون وقد سبق وقرأ طلحة بن مصرف
وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغة وقرأ أبو نهيك بضك الياء وتشديد الفاء وفتح
السين والسفك الصب وقد تقدم والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض والدار المنزل
الذي فيه ابنية المقام بخلاف منزل الارتحال وقال الخليل كل موضع حله قوم فهو دار
لهم وإن لم يكن فيه أبنية وقيل سميت دارا لدورها على سكانها كما يسمى الحائط حائطا
لإحاطته على ما يحويه وقوله ( ثم أقررتم ) من الإقرار أي حصل منكم الاعتراف بهذا
الميثاق المأخوذ عليكم في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك قيل الشهادة هنا بالقلوب
وقيل هي بمعنى الحضور أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك وكان الله سبحانه قد
أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسترقه
البقرة : ( 85 ) ثم أنتم هؤلاء . . . . .
وقوله ) ثم أنتم هؤلاء ( أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله
عليكم في التوراة فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية وقيل إن هؤلاء منصوب بإضمار أعني
ويمكن أن يقال منصوب بالذم أو الاختصاص أي أذم أو أخص وقال القتيبي إن التقدير يا
هؤلاء قال النحاس هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين
أي ثم أنتم الذين تقتلون وقيل هؤلاء مبتدأ وأنتم خبر مقدم وقرأ الزهري ( تقتلون )
مشددا فمن جعل قوله ) أنتم هؤلاء ( مبتدأ وخبرا جعل قوله ( تقتلون ) بيانا لأن
معنى قوله ( أنتم هؤلاء ) أنهم على حاله كحالة أسلافهم من نقض الميثاق ومن جعل
""""""
صفحة رقم 109 """"""
هؤلاء منادى أو منصوبا بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده وقوله ) تظاهرون (
بالتشديد وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج وهي قراءة
أهل مكة وقرأ أهل الكوفة ( تظاهرون ) مخففا بحذف التاء الثانية لدلالة الأولى
عليها وأصل المظاهرة المعاونة مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوى بعضا فيكون له كالظهر
ومنه قول الشاعر تظاهرتم من كل أوب ووجهة
على واحد لا زلتم قرن واحد
ومنه قوله تعالى ) وكان الكافر على ربه ظهيرا ( وقوله ) والملائكة بعد ذلك ظهير (
وأسارى حال قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول ما صار في أيديهم فهو أسارى وما جاء
مستأسرا فهو الأسرى ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو وإنما هذا كما تقول سكارى
وسكرى وقد قرأ حمزة ( اسرى ) وقرأ الباقون ( أسارى ) والأسرى جمع أسير كالقتلى جمع
قتيل والجرحى جمع جريح قال أبو حاتم ولا يجوز أسارى وقال الزجاج يقال أسارى كما
يقال سكارى وقال ابن فارس يقال في جمع أسير أسرى وأسارى انتهى فالعجب من أبي حاتم
حيث ينكر ما ثبت في التنزيل وقرا به الجمهور والأسير مشتق من السير وهو القيد الذي
يشد به المحمل فسمى أسيرا لأنه يشد وثاقه والعرب تقول قد اسرقته أيد شده ثم سمى كل
أخيذ أسيرا وإن لم يؤخذ وقوله ) تفادوهم ( جواب الشرط وهي قراءة حمزة ونافع
والكسائي وقرأ الباقون ( تفدوهم ) والفداء هو ما يوجد من الأسير ليفك به أسره يقال
فداه وفاداه إذا أعطاه فداءه قال الشاعر قفي فادي أسيرك إن قومي
وقومك ما أرى لهم اجتماعا
وقوله ) وهو محرم عليكم إخراجهم ( الضمير للشأن وقيل مبهم تفسره الجملة التي بعده
وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أول الكلام و (
إخراجهم ) مرتفع بقول ( محرم ساد مسد الخبر وقيل بل مرتفع بالابتداء ومحرم خبره
قال المفسرون كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود ترك القتل وترك
الإخراج وترك المظاهرة وفداء أسراهم فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء فوبخهم
الله على ذلك بقوله ) أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ( والخزي الهوان قال
الجوهري والخزي بالكسر يخزي خزيا إذا ذل وهان وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به
الملاعين اليهود موفرا فصاروا في خزي عظيم بما ألصق بهم من الذل والمهانة بالقتل
والأسر وضرب الجزية والجلاء وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشد العذاب لأنهم
جاءوا بذنب شديد ومعصية فظيعة وقد قرأ الجمهور يردون بالياء التحتية وقرأ الحسن
بالفوقية على الخطاب وقد تقدم تفسير قوله ) وما الله بغافل عما يعملون )
البقرة : ( 86 ) أولئك الذين اشتروا . . . . .
وكذلك تفسير ) أولئك الذين اشتروا ( وقوله ) فلا يخفف ( إخبار من الله سبحانه بأن
اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية والصغار والذلة والمهانة فلا يخفف
عنهم ذلك أبدا ما داموا ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم
على عدوهم
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) وإذ أخذنا
ميثاق بني إسرائيل ( قال يؤنبهم أي ميثاقكم وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله )
وقولوا للناس حسنا ( قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وروى البيهقي في الشعب
عن علي في قوله ) وقولوا للناس حسنا ( قال يعني الناس كلهم ومثله روى عبد بن حميد
وابن جرير عن عطاء وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
""""""
صفحة رقم 110 """"""
في قوله ( ثم توليتم ) قال أي تركتم ذلك كله وأخرج ابن جرير عنه أنه قال معناه
أعرضتم عن طاعتي إلا قليلا منكم وهم الذين اخترتهم لطاعتي وأخرج ابن جرير عن أبي
العالية في قوله ) لا تسفكون دماءكم ( لا يقتل بعضكم بعضا ) ولا تخرجون أنفسكم من
دياركم ( لا يخرج بعضكم بعضا من الديار ) ثم أقررتم ( بهذا الميثاق ) وأنتم تشهدون
( وأنتم شهود وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) ثم أقررتم ( أن
هذا حق من ميثاقي عليكم ) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ( أي أهل الشرك حتى تسفكوا
دماءهم معهم ) وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ( قال تخرجونهم من ديارهم معهم )
تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ( فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت معهم
بنو قينقاع مع الخزرج والنضير وقريظة مع الأوس وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه
على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما
في التوراة ) وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ( وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم ) وهو
محرم عليكم ( في كتابكم لإخراجهم ) أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ( أتفادونهم
مؤمنين بذلك وتخرجونهم كفرا بذلك وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله ) أولئك الذين
اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ( قال استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة
البقرة 87 88
البقرة : ( 87 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
الكتاب التوراة والتقفية الاتباع والإرداف مأخوذة من القفا وهو مؤخر العنق تقول
استقفيته إذا جئت من خلفه ومنه سميت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام والمراد
أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلا جعلهم تابعين له وهم أنبياء بني إسرائيل
المبعوثون من بعده و ( البينات ) الأدلة التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة
والتأييد التقوية وقرأ مجاهد وابن محيصن ( آيدناه ) بالمد وهما لغتان وروح القدس
من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الروح المقدسة والقدس الطهارة والمقدس المطهر وقيل
هو جبريل أيد الله به عيسى ومنه قول حسان وجبريل أمين الله فينا
وروح القدس ليس به خفاء
قال النحاس وسمى جبريل روحا وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة
وقيل القدس هو الله عز وجل ورحوحه جبريل وقيل المراد بروح القدس الإسم الذي كان
عيسى يحيى به الموتى وقيل المراد به الإنجيل وقيل المراد به الروح المنفوخ فيه
أيده الله به لما فيه من القوة وقوله ) بما لا تهوى أنفسكم ( أي بما لا يوافقها
ويلائمها وأصل الهوى الميل إلى الشيء قال الجوهري وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه
إلى النار وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال ) أفكلما
جاءكم رسول ( منكم ) بما لا ( يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسل
واستبعادا للرسالة والفاء في قوله ) أفكلما ( للعطف على مقدر أي آتيناكم يا بني
إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم أفكلما جاءكم رسول وفريقا منصوب بالفعل الذي بعده
والفاء
""""""
صفحة رقم 111 """"""
للتفصيل ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا
البقرة : ( 88 ) وقالوا قلوبنا غلف . . . . .
والغلف جمع أغلف المراد به هنا الذي عليه غشاوة تمنع من وصول الكلام إليه ومنه
غلفت السيف أي جعلت له غلافا قال في الكشاف هو مستعار من الأغلف الذي لم يختن
كقوله ) قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ( وقيل إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر
أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك وقد وعينا علما كثيرا فرد الله عليهم
ما قالوه فقال ) بل لعنهم الله بكفرهم ( واصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد
ومنه قول الشماخ ذعرت بع القطا ونفيت عنه
مقام الذئب كالرجل اللعين
اي كالرجل المطرود والمعنى أبعدهم الله من رحمته و ( قليلا ) نعت لمصدر محذوف أي
إيمانا قليلا ) ما يؤمنون ( و ( ما ) زائدة وصف إيمانهم بالقلة لأنهم الذين قص الله
علينا من عنادهم وعجرفتهم وشدة لجاجهم وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه ومن جملة ذلك
أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض وقال معمر المعنى لا يؤمنون إلا قليلا مما
في أيديهم ويكفرون بأكثره وعلى هذا يكون قليلا منصوبا بنزع الخافض وقال الواقدي
معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا قال الكسائي تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت
الكراث والبصل أي لا تنبت شيئا
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله ) ولقد آتينا موسى الكتاب ( يعني به
التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة ) وقفينا من بعده بالرسل ( يعني رسولا يدعى أشمويل
بن بابل ورسولا يدعى منشابيل ورسولا يدعى شعياء ورسولا يدعى حزقيل ورسولا يدعى
أرمياء وهو الخضر ورسولا يدعى داود وهو أبو سليمان ورسولا يدعى المسح عيسى ابن
مريم فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله وانتخبهم من الأمة بعد موسى فأخذنا عليهم ميثاقا
غليظا أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصفة أمته وأخرج ابن
إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله ) وآتينا عيسى ابن مريم البينات ( قال
هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء
الأسقام والخبر بكثير من الغيوب وما ورد عليهم من التوراة والإنجيل الذي أحدث الله
إليه وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله ) وأيدناه ( قال قويناه وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه قال روح من القدس الإسم الذي كان عيسى يحيي بن الموتى
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال القدس الله تعالى وأخرج عن الربيع بن أنس مثله
وأخرج عن ابن عباس قال القدس الطهر وأخرج عن السدي قال القدس البركة وأخرج عن
إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس جبريل وأخرج عن ابن مسعود مثله واخرج أبو الشيخ
في العظمة عن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال روح القدس جبريل وقد ثبت
في الصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أيد حسان بروح القدس ) وأخرج
ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير في قوله ( فريقا ) قال طائفة وأخرج عن ابن عباس قال
إنما سمي القلب لتقلبه وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ ( قلوبنا غلف )
مثقلة أي كيف نتعلم وقلوبنا غلف للحكمة أي أوعية للحكمة وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عنه في قوله ) وقالوا قلوبنا غلف ( مملوءة علما لا تحتاج إلى علم محمد ولا
غيره وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله ) قلوبنا غلف ( قال في
غطاء وروى ابن إسحاق وابن جرير عنه أنه قال في أكنة وأخرج ابن جرير عنه أنه قال هي
القلوب المطبوع عليها وأخرج وكيع عن عكرمة وابن جرير عن مجاهد نحوه وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن قتادة قال هي التي لا تفقه وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا
في كتاب الاخلاص وابن جرير عن حذيفة قال القلوب أربعة قلب أغلف فذلك
""""""
صفحة رقم 112 """"""
قلب الكافر وقلب مصفح فذلك قلب المنافق وقلب أجرد فيه مثل السراج فذلك قلب المؤمن
وقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب ومثل المنافق كمثل
قرحة يمدها القيح والدم وأخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال قال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ( القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهى وقلب أغلف مربوط
على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح فأما القلب الأجرد فقلت المؤمن سراجه فيه نوره
وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر وأما
القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثلة البقلة يمدها الماء
الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت
عليه ) وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي مثله سواء موقوفا وأخرج عبدالرزاق
وابن جرير عن قتادة في قوله ) فقليلا ما يؤمنون ( قال لا يؤمن منهم إلا قليل
البقرة 89 92
البقرة : ( 89 ) ولما جاءهم كتاب . . . . .
( ولما جاءهم ) يعني اليهود ( كتاب ) يعني القرآن و ( مصدق ) وصف له وهو في مصحف
أبي منصور ونصبه على الحال وإن كان صاحبها نكرة فقد تخصصت بوصفها بقوله ( من عند
الله ) وتصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل أنه يخبرهم ما فيها ويصدقه ولا
يخالفه والاستفتاح الاستنصار أي كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم
بالنبي المنعوت في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة وقيل الاستفتاح
هنا بمعنى الفتح أي يخبرونهم بأنه سيبعث ويعرفونهم بذلك وجواب ( لما ) في قوله (
ولما جاءهم كتاب ) قيل هو قوله ( فلما جاءهم ما عرفوا ) وما بعده وقيل هو محذوف أي
كذبوا أو نحوه كذا قال الأخفش والزجاج وقال المبرد إن جواب ( لما ) الأولى هو قوله
( كفروا ) وأعيدت ( لما ) الثانية لطول الكلام واللام في الكافرين للجنس ويجوز أن
تكون للعهد ويكون هذا من وضع الظاهر موضع المضمر والأول أظهر
البقرة : ( 90 ) بئسما اشتروا به . . . . .
و ( ما ) في قوله ( بئسما ) موصولة أو موصوفة اي بئس الشيء أو شيئا اشتروا به
أنفسهم قاله سيبويه وقال الاخفش ما في في موضع نصب على التمييز كقولك بئس رجلا زيد
وقال الفراء بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا وقال الكسائي ( ما ) و ( اشتروا )
بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا وقوله ( أن يكفروا )
في موضع رفع على الابتداء عند سيبويه وخبره ما قبله وقال الفراء والكسائي إن شئت
كان
""""""
صفحة رقم 113 """"""
في موضع خفض بدلا من الهاء في به أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا وقال في الكشاف إن (
ما ) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى شيئا اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم أن
يكفروا واشتروا بمعنى باعوا وقوله 0 بغيا ) أي حسدا قال الأصمعي البغي مأخوذ من
قولهم قد بغى الجرح إذا فسد وقيل أصله الطلب ولذلك سميت الزانية بغيا وهو علة
لقوله ( اشتروا ) وقول ( أن ينزل ) علة لقوله ( بغيا ) أي لأن ينزل والمعنى أنهم
باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسدا ومنافسة ( أن ينزل الله من فضله على من يشاء
من عباده ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن ( أن ينزل ) بالتخفيف (
فباءوا ) أي رجعوا وصاروا أحقاء ( بغضب على غضب ) وقد تقدم معنى باؤوا ومعنى الغضب
قيل الغضب الأول لعبادتهم العجل والثاني لكفرهم بمحمد وقيل كفرهم بعيسى ثم كفرهم
بمحمد وقيل كفرهم بمحمد ثم البغي عليه وقيل غير ذلك والمهين مأخوذ من الهوان قيل
وهو ما اقتضى الخلود في النار
البقرة : ( 91 ) وإذا قيل لهم . . . . .
وقوله ( بما أنزل الله ) هو القرآن وقيل كل كتاب أي صدقوا بالقرآن أو صدقوا بما
أنزل الله من الكتب قالوا ( نؤمن ) أي نصدق ( بما أنزل علينا ) أي التوراة وقوله (
ويكفرون بما وراءه ) قال الفراء بما سواه وقال أبو عبيدة بما بعده قال الجوهري
وراء بمعنى خلف وقد يكون بمعنى قدام وهي من الأضداد ومنه قوله تعالى ) وكان وراءهم
ملك ( أي قدامهم وهذه الجملة أعني ويكفرون في محل النصب على الحال أي قالوا نؤمن بما
أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه مع كون هذا الذي هو وراء ما يؤمنون به هو
الحق وقوله ( مصدقا ) حال مؤكدة وهذه أحوال متداخلة أعني قوله ( ويكفرون ) وقوله (
وهو الحق ) وقوله ( مصدقا ) ثم اعترض الله سبحانه عليهم لما قال نؤمن بما أنزل
علينا بهذه الجملة المشتملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ أي إن كنتم تؤمنون بما
أنزل عليكم فكيف تقتلون الأنبياء وقد نهيتم عن قتلهم فيما أنزل عليكم وهذا الخطاب
وإن كان مع الحاضرين من اليهود فالمراد به أسلافهم وكلنهم لما كانوا يرضون بأفعال
سلفهم كانوا مثلهم
البقرة : ( 92 ) ولقد جاءكم موسى . . . . .
واللام في قوله ( ولقد ) جواب لقسم مقدر والبينات يجوز أن يراد بها التوراة أو
التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى ) ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ( ويجوز
أن يراد الجميع ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه
العبادة الصادرة منكم عنادا بعد قيام الحجة عليكم
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله ) ولما جاءهم كتاب من عند الله
مصدق ( قال هو القرآن ) مصدق لما معهم ( من التوراة والإنجيل وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق عاصم بن عمر بن
قتادة الأنصاري قال حدثني أشياخ منا قالوا لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) منا لأن معنا يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن
وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا إن نبيا ليبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه
فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اتبعناه
وكفروا به ففينا والله وفيهم أنزل الله ) وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا
( وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قالوا كانت
العرب تمر باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمدا في التوراة فيسألون الله أن يبعثه
نبيا فيقاتلون معه العرب فلما جاء محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل وقد
روى نحو هذا عن ابن عباس من غير وجه بألفاظ مختلفة ومعانيها متقاربة وروى عن غيره
من السلف نحو ذلك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله ) بئسما اشتروا به
أنفسهم (
""""""
صفحة رقم 114 """"""
قال هم اليهود كفروا بما أنزل الله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بغيا وحسدا
للعرب ) فباؤوا بغضب على غضب ( قال غشب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل وبعيسى
وبكفرهم بالقرآن وبمحمد وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله ) بغيا أن ينزل الله ( أي ان الله جعله من غيرهم ) وباؤوا بغضب ( بكفرهم بهذا
النبي ) على غضب ( كان عليهم بما صنعوه من التوراة وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه
وأخرج أيضا عن مجاهد معناه وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) ويكفرون بما
وراءه ( قال بما بعده وأخرج ابن جرير عن السدي قال بما وراءه أي القرآن
البقرة 93 96
البقرة : ( 93 ) وإذ أخذنا ميثاقكم . . . . .
قد تقدم تفسير أخذ الميثاق ورفع الطور والأمر بالسماع معناه الطاعة والقبول وليس
المراد مجرد الإدراك بحاسة السمع ومنه قولهم ( سمع الله لمن حمده ) أي قبل واجاب
ومنه قول الشاعر دعوت الله حتى خفت أن لا
يكون الله يسمع ما أقول
أي يقبل وقولهم في الجواب ( سمعنا ) هو علي بابه وفي معناه أي سمعنا قولك بحاسة
السمع وعصيناك أي لا نقبل ما تأمرنا به ويجوز أن يكونوا ارادوا بقولهم ( سمعنا )
ما هو معهود من تلاعبهم واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم وذلك بأن يحملوا
قوله تعالى ( اسمعوا ) على معناه الحقيقي أي السماع بالحاسة ثم أجابوا بقولهم (
سمعنا ) أي أدركنا ذلك بأسماعنا عملا بموجب ما تأمر به ولكنهم لما كانوا يعلمون أن
هذا غير مراد الله عز وجل بل مراده بالأمر بالسماع الأمر بالطاعة والقبول لم
يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا ( عصينا )
وفي قوله ( وأشربوا ) تشبيه بليغ أي جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه
ومثله قول زهير فصحوت عنها بعد حب داخل
والحب يشربه فؤادك دائما
وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل
إلى باطنها والطعام يجاوزها ولا يتغلغل فيها والباء في قولهم ) بكفرهم ( سببية أي
كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم وخذلانا وقوله ) قل بئسما يأمركم به إيمانكم ( الذي
زعمتم أنكم تؤمنون بماأنزل عليكم وتكفرون بما وراءه فإن هذا الصنع وهو قولكم )
سمعنا وعصينا ( في جواب ما أمرتم به في كتابكم وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم
بأبلغ نداء بخلاف ما زعمتم وكذلك ما وقع منكم من عباده العجل ونزول حبه من قلوبكم
منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل
""""""
صفحة رقم 115 """"""
على أنكم كاذبون في قولكم ) نؤمن بما أنزل علينا ( لا صادقون فإن زعمتم أن كتابكم
الذي آمنتم به أمركم بهذا فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم وفي هذا من التهكم بهم
ما لا يخفى
البقرة : ( 94 ) قل إن كانت . . . . .
وقوله ) قل إن كانت لكم الدار الآخرة ( هو رد عليهم لما ادعوا أنهم يدخلون الجنة
ولا يشاركهم في دخولها غيرهم وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى
وأنها صادرة منهم لا عن برهان و ( خالصة ) منصوب على الحال ويكون خبر كان هو عند
الله أو يكون خبر كان هو خالصة ومعنى الخلوص أنه لا يشاركهم فيها غيرهم إذا كانت
اللام في قوله ) من دون الناس ( للجنس أو لا يشاركهم فيها المسلمون إن كانت اللام
للعهد وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى ) وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا
أو نصارى ( وإنما أمرهم بتمني الموت لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب
إليه من الحياة ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا
البقرة : ( 95 ) ولن يتمنوه أبدا . . . . .
ولهذا قال سبحانه ) ولن يتمنوه أبدا ( و ( ما ) في قوله ( بما قدمت أيديهم )
موصولة والعائد محذوف أي بما قدمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب
بل غير طامع في دخول الجنة فضلا عن كونه قاطعا بها فضلا عن كونها خالصة له مختصة
به وقيل إن الله سبحانه صرفهم عن التمني ليجعل ذلك آية لنبيه ( صلى الله عليه وسلم
) والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس
إليه فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي وفي تركهم
للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإنهم قد كانوا يسلكون من
التعجرف والتجريء على الله وعلى أنبيائه بالدعاوي الباطلة في غير موطن ما قد حكاه
عنهم التنزيل فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرر عندهم من أنهم إذا فعلوا ذلك
التمني نزل بهم الموت إما لأمر قد علموه أو للصرفة من الله عز وجل وقد يقال ثبت
النهي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن تمني الموت فكيف أمره الله أن يأمرهم
بما هو منهي عنه في شريعته ويجاب بأن المراد هنا إلزامهم الحجة وإقامة البرهان على
بطلان دعواهم
وقوله ( والله عليم بالظالمين ) تهديد لهم وتسجيل عليهم بأنهم كذلك
البقرة : ( 96 ) ولتجدنهم أحرص الناس . . . . .
واللام في قوله ) ولتجدنهم ( جواب قسم محذوف وتنكير حياة للتحقير أي أنهم أحرص
الناس على أحقر حياة واقل لبث في الدنيا فكيف بحياة كثيرة ولبق متطاول وقال في
الكشاف إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة وتبعه في ذلك الرازي
في تفسيره وقوله ( ومن الذين أشركوا ) قيل هو كلام مستأنف والتقدير ومن الذين
أشركوا ناس ( يود أحدهم ) وقيل إنه معطوف على الناس أي أحرص الناس وأحرص من الذين
أشركوا وعلى هذا يكون قوله يود أحدهم راجعا إلى اليهود بيانا لزيادة حرصهم على
الحياة ووجه ذكر الذين أشركوا بعد ذكر الناس مع كونهم داخلين فيهم الدلالة على
مزيد حرص المشركين من العرب ومن شابههم من غيرهم فمن كان أحرص منهم وهم اليهود كان
بالغا في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحد الفاضل
على حرص المشركين لأنهم يعلمون بما يحل بهم من العذاب في الآخرة بخلاف المشركين من
العرب ونحوهم فإنهم لا يقرون بذلك وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود والأول
وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب لكنه ارجح لعدم
استلزامه للتكليف ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود وقال
الرازي إن الثاني أرجح ليكون ذلك ابلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم
إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا انتهى ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحا قد أفاده
قوله تعالى ) ولتجدنهم أحرص الناس ( ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين أن لا
يكونوا من جملة الناس وخص الألف بالذكر لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة
المبالغة واصل سنة سنهة وقيل سنوة واختلف في الضمير في قوله ) وما هو بمزحزحه (
""""""
صفحة رقم 116 """"""
فقيل هو راجع إلى أحدهم والتقدير وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر وعلى هذا
يكون قوله ( أن يعمر ) فاعلا لمزحزحه وقيل هو لما دل عليه يعمر من مصدره أي وما
التعمير بمزحزحه ويكون قوله ( أن يعمر ) بدلا منه وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت
هو عماد وقيل هو ضمير الشأن وقيل ( ما ) هي الحجازية والضمير اسمها وما بعده خبرها
والأول أرجح وكذلك الثاني والثالث ضعيف جدا لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين
ولهذا يسمونه ضمير الفصل والرابع فيه أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة عن حرف جر
كما حكاه ابن عطية عن النحاة والزحزحة التنحية يقال زحزحته فتزحزح أي نحيته فتنحى
وتباعد ومنه قول ذي الرمة يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا
وغافر الذنب زحزحني عن النار
والبصير العالم بالشيء الخبير به ومنه قولهم فلان بصير بكذا أي خبير به ومنه قول
الشاعر فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج عبدالرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله ) وأشربوا في قلوبهم العجل ( قال
أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن اليهود لما قالوا
) لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ( الآية نزل قوله تعالى ) قل إن كانت
لكم الدار الآخرة ( الآية وأخرج ابن جرير مثله عن قتادة وأخرج البيهقي في الدلائل
عن ابن عباس أن قوله ) خالصة من دون الناس ( يعني المؤمنين ) فتمنوا الموت ( فقال
لهم رسول الله ( إن كنتم في مقالتكم صادقين فقولوا اللهم أمتنا فالوالذي نفسي بيده
لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه فمات مكانه ) وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله ) فتمنوا الموت ( أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب
فابوا ذلك ولو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات وأخرج عبدالرزاق
وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم عنه قال ( لو تمنى اليهود الموت لماتوا وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عنه نحوه وأخرج البخاري وغيره من حديثه مرفوعا لو أن اليهود
تمنوا لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في
قوله ) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ( قال اليهود ( ومن الذين أشركوا ) قال وذلك
أن المشركين لا يرجون بعثا بعد الموت فهو يحب طول الحياة وأن اليهودي قال قد عرف
ما له من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم ) وما هو بمزحزحه ( قال بمنحيه وأخرج
سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر واحاكم عنه في قوله ) يود
أحدهم لو يعمر ألف سنة ( قال هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم ( ذه هز إرسال ) يعني
عش ألف سنة
البقرة 97 98
البقرة : ( 97 ) قل من كان . . . . .
هذه الآية قد أجمع المفسرون أنها نزلت في اليهود قال ابن جرير الطبري وأجمع أهل
التأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا على اليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن
ميكائيل ولي لهم ثم اختلفوا ما كان سبب قولهم ذلك فقال بعضهم إنما كان سبب قيلهم
ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه
""""""
صفحة رقم 117 """"""
وآله وسلم من أمر نبوته ثم ذكر روايات في ذلك ستأتي آخر البحث إن شاء الله والضمير
في قوله ( فإنه ) يحتمل وجهين الأول أن يكون لله ويكون الضمير في قوله ) نزله (
لجبريل أي فإن الله سبحانه نزل جبريل على قلبك وفيه ضعف كما يفيده قوله ) مصدقا
لما بين يديه ( الثاني أنه لجبريل والضمير في ) نزله ( للقرآن أي فإن جبريل نزل
القرآن على قلبك وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وقوله ( بإذن الله ) أي
بعلمه وإرادته وتيسيره وتسهيله و ( ما بين يديه ) هو التوراة كما سلف أو جميع
الكتب المنزلة وفي هذا دليل على شرف جبريل وارتفاع منزلته وأنه لا وجد لمعاداة
اليهود له حيث كان منه ما ذكر من تنزيل الكتاب على قلبك أو من تنزيل الله له على
قلبك وهذا هو وجه الربط بين الشرط والجواب أي من كان معاديا لجبريل منهم فلا وجه
لمعاداته له فإنه لم يصدر منه إلا ما يوجب المحبة دون العداوة أو من كان معاديا له
فإن سبب معاداته أنه وقع منه ما يكرهونه من التنزيل وليس ذلك بذنب له وإن نزهوه
فان هذه الكراهة منهم له بهذا السبب ظلم وعدوان لأن هذا الكتاب الذي نزل به هو
مصدق لكتابهم وهدى وبشرى للمؤمنين
البقرة : ( 98 ) من كان عدوا . . . . .
ثم أتبع سبحانه هذا الكلام بجملة مشتملة على شرط وجزاء يتضمن الذم لمن عادى جبريل
ذلك السبب والوعيد الشديد له فقال ) من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال
فإن الله عدو للكافرين ( والعداوة من العبد هي صدور المعاصي منه لله والبغض
لأوليائه والعداوة من الله للعبد هي تعذيبه بذنبه وعدم التجاوز عنه والمغفرة له
وإنما خص جبريل وميكائيل بالذكر بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما والدلالة على
فضلهما وأنهما وإن كانا من الملائكة فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة
جنس آخر اشرف من جنس الملائكة تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما
ذكره صاحب الكشاف وقرره علماء البيان وفي جبريل عشر لغات ذكرها ابن جرير الطبري
وغيره وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك وفي ميكائيل ست لغات وهما إسمان عجميان والعرب
إذا نطقت بالعجي تساهلت فيه وحكى الزمخشري عن ابن جني أنه قال العرب إذا نطقت
بالأعجمي خلطت فيه وقوله ) للكافرين ( من وضع الظاهر موضع المضمر أي فإن الله عدو
لهم لقصد الدلالة على أن هذه العداوة موجبة لكفر من وقعت منه
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي
عن ابن عباس قال ( حضرت عصابة من اليهود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا
أبا القاسم حدثنا عن خلال نسالك عنهن لا يعلمهن إلا نبي قال سلوني عما شئتم فسألوه
وأجابهم ثم قالوا فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك فقال وليي
جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه قالوا فعندها نفارقك لو كان وليك سواه
من الملائكة لاتبعناك وصدقناك قال فما يمنعكم أن تصدقوه قالوا هذا عدونا فعند ذلك
أنزل الله الآية ) وأخرج نحو ذلك ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم
عن الشعبي عن عمر بن الخطاب في قصة جرت له معهم وإسنادها صحيح ولكن الشعبي لم يدرك
عمر وقد رواها عكرمة وقتادة والسدي وعبدالرحمن ابن أبي ليلى عن عمر واخرج ابن أبي
شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وغيرهم عن أنس قال ( سمع عبدالله بن
سلام بمقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في أرض يخترف فأتى النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما
أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه فقال أخبرني بهن جبريل
آنفا فقال جبريل قال نعم قال ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية ) من كان
عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ( قال أما أول اشراط الساعة فنار تخرج من المشرق
فتحشر الناس إلى المغرب وأما أول ما يأكل أهل الجنة فزيادة كبد حوت وأما ما ينزع
الولد إلى أبيه
""""""
صفحة رقم 118 """"""
أو أمه فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء
الرجل نزع إليها قال اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ) وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) فإنه نزله على قلبك بإذن الله ( يقول فإن
جبريل نزل القرآن بأمر الله يشدد به فؤادك ويربط به على قلبك ( مصدقا لما بين يديه
) يقول لما قبله من الكتب التي أنزلها والآيات والرسل الذين بعثهم الله وقد ذكر
السيوطي في هذا الموضع من تفسيره ( الدر المنثور ) أحاديث كثيرة واردة في جبريل
وميكائيل وليست مما يتعلق بالتفسير حتى نذكرها
البقرة 99 103
البقرة : ( 99 ) ولقد أنزلنا إليك . . . . .
الضمير في قوله ( إليك ) للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي أنزلنا إليك علامات
واضحات دالة على نبوتك وقوله ( إلا الفاسقون ) قد تقدم تفسيره والظاهر أن المراد
جنس الفاسقين ويحتمل أن يراد اليهود لأن الكلام معهم
البقرة : ( 100 ) أو كلما عاهدوا . . . . .
والواو في قوله ( أو كلما ) للعطف دخلت عليها همزة الاستفهام كما تدخل على الفاء
ومن ذلك قوله تعالى ) أفحكم الجاهلية يبغون ( ) أفأنت تسمع الصم ( ) أفتتخذونه
وذريته ( وكما تدخل على ثم ومن ذلك قوله تعالى ) أثم إذا ما وقع ( وهذا قول سيبويه
وقال الأخفش الواو زائدة وقال الكسائي إنها أو حركت الواو تسهيلا قال ابن عطية
وهذا كله متكلف والصحيح قول سيبويه والمعطوف عليه محذوف والتقدير أكفروا بالآيات
البينات وكلما عاهدوا قوله ( نبذ فريق ) قال ابن جرير أصل النبذ الطرح والإلقاء
ومنه سمي اللقيط منبوذا ومنه سمي النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء قال
أبو الأسود نظرت إلى عنوانه فنبذته
كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
وقال آخر إن الذين أمرتهم أن يعدلوا
نبذوا كتابك واستحل المحرم
""""""
صفحة رقم 119 """"""
البقرة : ( 101 ) ولما جاءهم رسول . . . . .
وقوله ( وراء ظهروهم ) أي خلف ظهورهم وهو مثل يضرب لمن يتسخف بالشيء فلا يعمل به
يقول العرب اجعل هذا خلف ظهرك ودبر أذنك وتحت قدمك أي ارتكه وأعرض عنه ومنه ما
أنشده الفراء تميم بن زيد لا تكونن حاجتي
بظهر فلا يعبي علي جوابها
وقوله ) كتاب الله ( أي التوراة لأنهم لما كفروا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم )
وبما أنزل عليه بعد أن أخذ الله عليهم في التوراة الإيمان به وتصديقه واتباعه وبين
لهم صفته كان ذلك منهم نبذا للتوراة ونقضا لها ورفضا لما فيها ويجوز أن يراد
بالكتاب هنا القرآن أي لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا
كتاب الله الذي جاء به هذا الرسول وهذا أظهر من الوجه الأول وقوله ) كأنهم لا
يعلمون ( تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئا مع كونهم يعلمون علما يقينا من التوراة بما
يجب عليهم من الإيمان بهذا النبي ولكنهم لما لم يعملوا بالعلم بل عملوا عمل من لا
يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم كانوا بمنزلة من لا يعلم
البقرة : ( 102 ) واتبعوا ما تتلوا . . . . .
قوله ) واتبعوا ما تتلوا الشياطين ( معطوف على قوله ) نبذه ( أي نبذوا كتاب الله
واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر ونحوه قال الطبري اتبعوا بمعنى فعلوا ومعنى (
تتلوا ) تتقوله وتقرؤه و ( على ملك سليمان ) على عهد ملك سليمان قاله الزجاج وقيل
المعنى في ملك سليمان يعني في قصصه وصفاته وأخباره قال الفراء تصلح ( على ) وفي في
هذا الموضع والأول أظهر وقد كانوا يظنون أن هذا هو علم سليمان وأنه يستجيزه ويقول
به فرد الله ذلك عليهم وقال ) وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ( ولم يتقدم أن
أحدا نسب سليمان إلى الكفر ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه
إلى الكفر لأن السحر يوجب ذلك ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال ( ولكن
الشياطين كفروا ) أي بتعليمهم وقوله ) يعلمون الناس السحر ( في محل نصب على الحال
ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر بعد خبر وقرأ ابن عامر والكوفيون سوى عاصم (
ولكن الشياطين ) بتخفيف لكن ورفع الشياطين والباقون بالتشديد والنصب والسحر هو ما
يفعله الساحر من الحيل والتخييلات التي تحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر
الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء وما يظنه راكب السفينة أو
الدابة من أن الجبال تسير وهو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته وقيل أصله الخفاء فإن
الساحر يفعله خفية وقيل أصله الصرف لأن السحر مصروف عن جهته وقيل أصله الاستمالة
لأن من سحرك فقد استمالك وقال الجوهري السحر الأخذة وكل ما لظف مأخذه ودق فهو سحر
وقد سحره يسحره سحرا والساحر العالم وسحره أيضا بمعنى خدعه وقد اختلف هل له حقيقة
أم لا فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا أصل له ولا حقيقة وذهب من عداهم
إلى أن له حقيقة مؤثرة وقد صح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سحر سحره لبيد ابن
الأعصم اليهوي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ثم شفاه الله
سبحانه والكلام في ذلك يطول وقوله ( وما أنزل على الملكين ) أي ويعلمون الناس ما
أنزل على الملكين فهو معطوف على السحر وقيل هو معطوف على قوله ما تتلو الشياطين أي
واتبعوا ما أنزل على الملكين وقيل إن ( ما ) في قوله ( وما أنزل على الملكين )
نافية والواو عاطفة على قوله ( وما كفر سليمان ) وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير
وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر
ببابل هاروت وماروت فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله ( ولكن الشياطين كفروا
) ذكر هذا ابن جرير وقال فإن قال لنا قائل وكيف وجه تقديم ذلك قيل وجه تقديمه أن
يقال واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل الله على
الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فيكون معنيا
""""""
صفحة رقم 120 """"""
بالملكين جبريل وميكائيل لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر
على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك واخبر نبيه ( صلى
الله عليه وسلم ) أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر
وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذين يعلمونهم
ذلك رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التاويل ترجمة عن
الناس وردا عليهم انتهى وقال القرطبي في تفسيره بعد أن حكى معنى هذا الكلام ورجح أن
هاروت وماروت بدل من الشياطين ما لفظه هذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ما قيل
فيها ولا يلتفت إلى سواه فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم
وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حالة طمثهن قال الله ) ومن شر النفاثات
في العقد ( ثم قال إن قيل كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد
المبدل ثم أجاب عن ذلك بأن الإثنين قد يطلق عليهما الجمع أو أنهما خصا بالذكر دون
غيرهما لتمردهما ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن ( الملكين ) بكسر
اللام ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده وظهور تكلفه تنزيه الله سبحانه أن ينزل
السحر إلى ارضه فتنة لعباده على السن ملائكته وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف
المخالف لما هو الظاهر فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر
طالوت ولهذا يقول الملكان ) إنما نحن فتنة ( قال ابن جرير وذهب كثير من السلف إلى
أنهما كانا ملكين من السماء وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان وبابل
قيل هي العراق وقيل نهاوند وقيل نصيبين وقيل المغرب وهاروت وماروت اسمان أعجميان
لا ينصرفان وقوله ) وما يعلمان من أحد حتى يقولا ( قال الزجاج تعليم إنذار من
السحر لا تعليم دعاء إليه قال وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ومعناه أنهما
يعلمان على النهي فيقولان لهم لا تفعلوا كذا و ( من ) في قوله ( من أحد ) زائدة
للتوكيد وقد قيل إن قوله ( يعلمان ) من الإعلام لا من التعلم وقد جاء في كلام
العرب تعلم بمعنى أعلم كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي وهو كثير في أشعارهم
كقول كعب بن مالك تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
وقال القطامي
تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا
وقوله ( إنما نحن فتنة ) هو على ظاهره أي إنما نحن ابتلاء واختبار من الله لعباده
وقيل إنه استهزاء منهما لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله وفي قولهما ( فلا
تكفر ) أبلغ إنذار وأعظم تحذير أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافر فلا تكفر وفيه
دليل على أن تعلم السحر كفر وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد وبين من
تعلمه ليكون ساحرا ومن تعلمه ليقدر على دفعه وقوله ) فيتعلمون ( فيه ضمير يرجع إلى
قوله ) من أحد ( قال سيبويه التقدير فهم يتعلمون قال ومثله ) كن فيكون ( وقيل هو
معطوف على موضع ما يعلمان لأنه وإن كان منفيا فهو يتضمن الإيجاب وقال الفراء هي
مردودة على قوله ( يعلمون الناس السحر ) أي يعلمون الناس فيتعلمون وقوله ( ما
يفرقون به بين المرء وزوجة ) في إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سببا لذلك
دليل على أن للسحر تأثيرا في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد
وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من
التفرقة لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر وبين ما هو الغاية في تعليمه فلو كان
يقدر على أكثر من ذلك لذكره وقالت طائفة أخرى إن ذلك خرج مخرج الأغلب وأن الساحر
يقدر
""""""
صفحة رقم 121 """"""
على غير ذلك المنصوص عليه وقيل ليس للسحر تأثير في نفسه أصلا لقوله تعالى ) وما هم
بضارين به من أحد إلا بإذن الله ( والحق أنه لا تنافى بين قوله ) فيتعلمون منهما
ما يفرقون به بين المرء وزوجه ( وبين قوله ) وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن
الله ( فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرا في نفسه ولكنه لا يؤثر ضررا إلا
فيمن أذن الله بتأثيره فيه وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيرا في نفسه وحقيقة
ثابتة ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم وقوله ) ويتعلمون ما
يضرهم ولا ينفعهم ( فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه
منفعة بل هو ضر محض وخسران بحت واللام في قوله ( ولقد ) جواب قسم محذوف وفي قوله (
لمن اشتراه ) للتأكيد و ( من ) موصولة هي في محل رفع على الابتداء والخبر قوله (
ما له في الآخرة من خلاق ) وقال الفراء إنها شرطية للمجازاة وقال الزجاج ليس هذا
بموضع شرط ورجح أنها موصوله كما ذكرنا والمراد بالشراء هنا الاستبدال آي من استبدل
ما تتلوا الشياطين على كتاب الله والخلاق النصيب عند أهل اللغة كذا قال الزجاج
والمراد بقوله ( ما شروا به أنفسهم ) أي باعوها وقد اثبت لهم العلم في قوله ( ولقد
علموا ) ونفاه عنهم في قوله ( لو كانوا يعلمون ) واختلفوا في توجيه ذلك فقال قطرب
والأخفش إن المراد بقوله ( ولقد علموا ) الشياطين والمراد بقوله ( لو كانوا يعلمون
) الإنس وقال الزجاج إن الأول للملكين وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم الزيدان
قاموا والثاني المراد به علماء اليهود وإنما قال ( لو كانوا يعلمون ) لأنهم تركوا
العمل بعلمهم
البقرة : ( 103 ) ولو أنهم آمنوا . . . . .
وقوله ) ولو أنهم آمنوا ( أي بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما جاء به من القرآن
( واتقوا ) ما وقعوا فيه من السحر والكفر واللام في قوله ( لمثوبة ) جواب لو
والمثوبة الثواب وقال الأخفش إن الجواب محذوف والتقدير ولو أنهم آمنوا واتقوا
لأثيبوا فحذف لدلالة قوله ( لمثوبة ) عليه وقوله ( لو كانوا يعلمون ) هو إما
للدلالة على أنه لا علم لهم أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة العدم
سبب النزول
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ( قال ابن صوريا للنبي (
صلى الله عليه وسلم ) يا محمد ما جئتنا بشيء يعرف وما أنزل الله عليك من آية بينة
فأنزل الله تعالى في ذلك ) ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون
( ) وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرهم ما أخذ
عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد والله ما عهد إلينا في محمد ولا أخذ علينا
شيئا فأنزل الله ) أو كلما عاهدوا ( الآية
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وأخرج ابن جرير عنه في قوله ) آيات بينات ( يقول فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة
وعشية وبين ذلك وأنت عندهم أمي لم تقرأ الكتاب وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه
ففي ذلك عبرة لهم وحجة عليهم ) لو كانوا يعلمون ( وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله
) نبذه ( قال نقضه وأخرج أيضا عن السدي في قوله ( مصدق لما معهم ) قال لما جاءهم
محمد عارضوه بالتوراة واتفقت التوراة مع القرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف
وسحر هاروت وماروت كأنهم لا يعلمون بما في التوراة من الأمر باتباع محمد ( صلى
الله عليه وسلم ) وتصديقه وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء
فإذا سمع أحدهم بكلمة حق كذب معها ألف كذبة فاشربتها قلوب الناس وأتخذوها دواوين
فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود فأخذها فدفنها تحت الكرسي فلما مات سليمان قام
شيطان بالطريق فقال ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع
قالوا نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا
من السحر فقال
""""""
صفحة رقم 122 """"""
) واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ( الآية وأخرج النسائي وابن أبي حاتم
عنه قال كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الإسم الأعظم وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان
ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا
وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماؤهم فلم
يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله على محمد ) واتبعوا ما تتلوا الشياطين ( الآية
واخرج ابن جرير عنه قال كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه
أعطى الجرادة وهي امرأته خاتمه فلما أراد الله ان يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به
أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها هاتي خاتمي
فأخذه فلبسه فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس فجاء سليمان فقال هاتي خاتمي
فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلي به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك
الأيام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرءوها على
الناس وقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبريء الناس من سليمان
وأكفروه حتى بعث الله محمدا وأنزل عليه ) وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا (
وأخرج ابن جرير عنه في قوله ( وما تتلوا ) قال ما تتبع وأخرج أيضا عن عطاء في قوله
( ما تتلوا ) قال نراه ما تحدث وأخرج أيضا عن ابن جريج في قوله ( على ملك سليمان )
يقول في ملك سليمان وأخرج أيضا عن السدي في قوله ( وما أنزل على الملكين ) قال هذا
سحر آخر خاصموه به فإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان
سحرا وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ( وما أنزل
على الملكين ) قال لم ينزل الله السحر وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال هما ملكان من
ملائكة السماء وأخرج نحوه ابن مردويه من وجه آخر عنهم مرفوعا وأخرج البخاري في
تاريخه وابن المنذر عن ابن عباس ( وما أنزل على الملكين ) يعني جبريل وميكائيل (
ببابل هاروت وماروت ) يعلمان الناس السحر وأخرج ابن أبي حاتم عن عبدالرحمن بن
البزي أنه كان يقرؤها وما أنزل على الملكين داود وسليمان وأخرج ابن أبي حاتم عن
الضحاك قال هما علجان من أهل بابل وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر
قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشرفت الملائكة على الدنيا فرأت بني
آدم يعصون فقالت يا رب ما أجهل هؤلاء ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك فقال الله لو كنتم
في محلاتهم لعصيتموني قالوا كيف يكون هذا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال فاختاروا
منكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت ثم أهبطا إلى الأرض وركبت فيهما شهوات بني آدم
ومثلت لهما إمرأة فما عصما حتى واقعا المعصية فقال الله اختارا عذاب الدنيا أو
عذاب الآخرة فنظر أحدهما لصاحبه قال ما تقول قال أقول إن عذاب الدنيا ينقطع وإن
عذاب الآخرة لا ينقطع فاختارا عذاب الدنيا فهما اللذان ذكر الله في كتابه ( وما
أنزل علي الملكين ) الآية وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر أنه كان يقول اطلعت
الحمراء بعد فإذا رآها قال لا مرحبا ثم قال إن ملكين من الملائكة هاروت وماروت
سألا الله أن يهبطهما إلى الأرض فأهبطا إلا الأرض فكانا يقضيان بين الناس فإذا
أمسيا تكلما بكلمات فعرجا بها إلى السماء فقيض لهما إمرأة من أحسن النساء وألقيت
عليهما الشهوة فجعلا يؤخرانها وألقيت في أنفسهما فلم يزالا يفعلان حتى وعدتهما
ميعادا فأتتهما للميعاد فقالت علماني الكلمة التي تعرجان بها فعلماها الكلمة
فتكلمت بها فعرجت إلى السماء فمسخت فجعلت كما ترون فلما أمسيا تكلما بالكلمة فلم
يعرجا فبعث إليهما إن شئتما فعذاب الآخرة وإن شئتما فعذاب الدنيا إلى أن تقوم
الساعة على أن
""""""
صفحة رقم 123 """"""
تلقيا الله فإن شاء عذبكما وإن شاء رحمكما فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال بل نختار
عذاب الدنيا ألف ألف ضعف فهما يعذبان إلى يوم القيامة وقد رويت هذه القصة عن ابن
عمر بألفاظ وفي بعضها أنه يروي ذلك ابن عمر عن كعب الأحبار كما أخرجه عبدالرزاق
وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في
الشعب من طريق الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب قال ذكرت
الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب فقيل لو كنتم مكانهم لأتيتم مثل ما يأتون
فاختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما إني أرسل إلى بني آدم رسلا
فليس بيني وبينكم رسول انزلا لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر قال كعب
فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استعملا جميع ما نهيا عنه قال ابن
كثير وهذا أصح يعني من الإسنادين اللذين ذكرهما قبله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب قال إن هذه الزهرة تسميها
العرب الزهرة والعجم أناهيد وذكر نحو الرواية السابقة عن ابن عمر عند الحاكم قال
ابن كثير وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جدا وقد أخرج عبد بن حميد والحاكم
وصححه عن ابن عباس قال كانت الزهرة امرأة واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه أن
المرأة التي فتن بها الملكان مسخت فهي هذه الكوكبة الحمراء يعني الزهرة
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه فذكر قصة
طويلة وفيها التصريح بأن الملكين شربا الخمر وزنيا بالمرأة وقتلاها وأخرج ابن جرير
عن ابن مسعود وابن عباس هذه القصة وقالا إنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة إمرأة
وأنهما وقعا في الخطيئة وقد روى في هذا الباب قصص طويلة وروايات مختلفة استوفاها
السيوطي في الدر المنثور وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها ثم قال وقد روى في قصة
هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي
العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من
المتقدين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها
حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى
وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها فنحن نؤمن بما ورد في
القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال انتهى وقال القرطبي بعد
سياق بعض ذلك قلنا هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمرو وغيره لا يصح منه شيء فإنه قول
تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه وسفراؤه إلى رسله لا يعصون
الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ثم ذكر ما معناه أن العقل يجوز وقوع ذلك منهم لكن
وقوع هذا الجائز لا يدرى إلا بالسمع ولم يصح انتهى واقول هذا مجرد استبعاد وقد ورد
الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات وما
ذكره من أن الأصول تدفع ذلك فعلى فرض وجود هذه الأصول فهي مخصصة بما وقع في هذه
القصة ولا وجه لمنع التخصيص وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية
وأكفر العالمين وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله ) إنما نحن فتنة ( قال بلا وأخرج
البزار بإسناد صحيح والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال ( من أتى كاهنا أو ساحرا وصدقه
بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال قال رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو
سحر له ومن عقد عقدة ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )
وأخرج عبدالرزاق عن صفوان بن سليم قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
""""""
صفحة رقم 124 """"""
( من تعلم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من الله ) وأخرج ابن جرير عن
ابن عباس في قوله ) من خلاق ( قال قوام وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال ( خلاق ) من
نصيب وكذا روى ابن جري عن مجاهد وأخرج عبدالرزاق وابن جرير عن الحسن ( ما له في
الآخرة من خلاق ) قال ليس له دين وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله (
ولبئس ما شروا به ) قال باعوا وأخرج عبدالرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله (
لمثوبة ) قال ثواب
البقرة 104 105
البقرة : ( 104 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله ( راعنا ) أي راقبنا واحفظنا وصيغة المفاعلة تدل على أن معنى ( راعنا ) ارعنا
ونرعاك واحفظنا ونحفظك وارقبنا ونرقبك ويجوز أن يكون من ارعنا سمعك أي فرغه
لكلامنا وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سبا قيل إنه في لغتهم
بمعنى اسمع لا سمعت وقيل غير ذلك فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبي ( صلى الله
عليه وسلم ) راعنا طلبا منه أن يراعيهم من المراعاة اغتنموا الفرصة وكانوا يقولون
للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي مبطنين أنهم
يقصدون السب الذي هو معنى هذا اللفظ في لغتهم وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب
الألفاظ المحتملة للسب والنقص وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم
سدا للذريعة ودفعا للوسيلة وقطعا لمادة المفسدة والتطرق إليه ثم أمرهم الله بأن
يخاطبوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض فقال (
وقولوا انظرنا ) أي أقبل علينا وانظر إلينا فهو من باب الحذف والإيصال كما قال
الشاعر ظاهرات الجمال والحسن ينظر
ن كما ينظر الأراك الظباء
أي إلى الأراك وقيل معناه انتظرنا وتأن بنا ومنه قول الشاعر فإنكما إن تنظراني
ساعة
من الدهر تنفعني لدى أم جندب
وقرأ الأعمش ( أنظرنا ) بقطع الهمزة وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك
ومنه قول الشاعر أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك اليقينا
وقرأ الحسن ( راعنا ) بالتنوين وقال الراعن من القول السخري منه انتهى وأمرهم بعد
هذا النهي والأمر بأمر آخر وهو قوله ( واسمعوا ) أي اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه
ومعناه أطيعوا الله في ترك خطاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك اللفظ وخاطبوه
بما أمرتم به ويحتمل أن يكون معناه اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع حتى يحصل
لكم المطلوب بدون طلب للمراعاة ثم توعد اليهود بقوله ) وللكافرين عذاب أليم (
ويحتمل أن يكون وعيدا شاملا لجنس الكفرة قال ابن جرير والصواب من القول عندنا في
ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ( راعنا ) لأنها
كلمة كرهها الله أن يقولوها لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) نظير الذي ذكر عن النبي
( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة ولا
""""""
صفحة رقم 125 """"""
تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي ) وما أشبه ذلك
البقرة : ( 105 ) ما يود الذين . . . . .
وقوله ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ) الآية فيه بيان شدة عداوة الكفار
للمسلمين حيث لا يودون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه ثم رد الله سبحانه ذلك
عليهم فقال ) والله يختص برحمته من يشاء ( الآية وقوله ) أن ينزل ( في محل نصب على
المفعولية و ( من ) في قوله ( من خير ) زائدة قاله النحاس وفي الكشاف أن ( من ) في
قوله ( من أهل الكتاب ) بيانية وفي قوله ( من خير ) مزيدة لاستغراق الخير وفي قوله
( من ربكم ) لابتداء الغاية وقد قيل بأن الخير الوحي وقيل غير ذلك والظاهر أنهم لا
يودون أن ينزل على المسلمين أي خير كان فهو لا يختص بنوع معين كما يفيده وقوع هذه
النكرة في سياق النفي وتأكيد العموم بدخول ( من ) المزيدة عليها وإن كان بعض أنواع
الخير أعظم من بعض فذلك لا يوجب التخصيص والرحمة قيل هي القرآن وقيل النبوة وقيل
جنس الرحمة من غير تعيين كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى ) والله ذو الفضل
العظيم ( أي صاحب الفضل العظيم فكيف لا تودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية
والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال اعهد إلي فقال إذا سمعت الله
يقول ( يا أيها الذين آمنوا ) فأوعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه وأخرج
أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال ( راعنا ) بلسان اليهود السب القبيح وكان
اليهود يقولون ذلك لرسول الله سرا فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها فكانوا
يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم فأنزل الله الآية وأخرج أبو نعيم في الدلائل عنه
أنه قال المؤمنون بعد هذه الآية من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه فانتهت اليهود بعد
ذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال كان رجلان من اليهود مالك بن الصيف
ورفاعة بن زيد إذا لقيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالا له وهما يكلمانه راعنا
سمعك واسمع غير مسمع فظن المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبيائهم
فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله الآية وأخرج ابن المنذر وابن أبي
حاتم عن أبي صخر قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أدبر ناداه من كانت
له حاجة من المؤمنين فقالوا ارعنا سمعك فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك وامرهم أن
يقولوا ( انظرنا ) ليعززوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويوقروه وأخرج عبد
ابن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن قتادة أن اليهود كانت نقول ذلك استهزاء فكره الله
للمؤمنين أن يقولوا كقولهم وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال الرحمة القرآن
والإسلام
البقرة 106 107
البقرة : ( 106 ) ما ننسخ من . . . . .
النسخ في كلام العرب على وجهين أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر وعلى هذا يكون
القرآن كله منسوخا أعني من اللوح المحفوظ فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ومنه
) إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ( أي نأمر بنسخه الوجه الثاني الإبطال الإزالة
وهو المقصود هنا وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل
""""""
صفحة رقم 126 """"""
اللغة أحدهما إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ومنه نسخت الشمس الظل إذا
اذهبته وحلت محله وهو معنى قوله ) ما ننسخ من آية ( وفي صحيح مسلم ( لم تكن نبوة
قط إلا تناسخت ) أي تحولت من حال إلى حال والثاني إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه
آخر كقولهم نسخت الريح الأثر ومن هذا المعنى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يزيله
وروى عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فكانت تنزل عليه السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب ومنه ما روى عن أبي وعائشة أن
سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول قال ابن فارس النسخ نسخ الكتاب
والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره كالآية تنزل بأمر ثم
تنسخ بأخرى وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه يقال نسخت الشمس الظل والشيب والشباب
وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم وكذا تناسخ الأزمنة
والقرون وقال ابن جرير ( ما ننسخ ) ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره
وذلك أن نحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون
ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون
فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى فكذلك معنى
نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في
كلتى حالتيها منسوخة انتهى وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جلمة مقاصد ذلك
الفن فلا نطول بذكره بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه وقد اتفق أهل الإسلام على
ثبوته سلفا وخلفا ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتد بخلافه ولا يؤبه لقوله وقد
اشتهر عن اليهود أقماهم الله إنكاره وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح
عليه السلام عند خروجه من السفينة إني إن قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك وأطلقت
ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم قد حرم على موسى وعلى بني إسرائيل
كثيرا من الحيوان وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج الأخ من الأخت وقد حرم الله ذلك
على موسى عليه السلام وعلى غيره وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه
ثم قال الله له لا تذبحه وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل
ثم أمرهم برفع السيف عنهم ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم وقوله ( أو
ننسها ) قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز وبه قرأ عمر وابن عباس
وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن ومعنى هذه القراءة
نؤخرها عن النسخ من قولهم نسأت هذا الأمر إذا أخرته قال ابن فارس ويقولون نسأ الله
في أجلك وأنسأ الله أجلك وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا ونسأتهم أنا أخرتهم
وقيل معناه نؤخر نسخ لفظها أي نتركه في أم الكتاب فلا يكون وقيل نذهبها عنكم حتى
لا تقرأ ولا تذكر وقرأ الباقون ( ننسها ) بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك
أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ومنه قوله تعالى ) نسوا الله فنسيهم ( أي تركوا
عبادته فتركهم في العذاب واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وحكى الأزهري أن
معناه نأمر بتركها يقال أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته ومنه قول الشاعر
إن علي عقبة أقضيها
لست بناسيها ولا منسيها
أي ولا آمر بتركها وقال الزجاج إن القراء بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك لا
يقال أنسى بمعنى ترك قال وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ( أو ننسها ) قال
نتركها لا نبدلها فلا يصح والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى ( أو ننسها )
نبح لكم تركها من نسي إذا ترك ثم تعديه ومعنى ( نأت بخير منها أو مثلها )
""""""
صفحة رقم 127 """"""
نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من
غير زيادة ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ فقد يكون الناسخ أخف
فيكون أنفع لهم في العاجل وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل وقد
يستويان فتحصل المماثلة
البقرة : ( 107 ) ألم تعلم أن . . . . .
وقوله ) ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( يفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره
إنكار للقدرة الإلهية وهكذا قوله ) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ( أي
له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته فهو
أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم وقد
يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير
سواه فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال كان
مما ينزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل
الله ) ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ( وفي إسناده الحجاج
الجزري ينظر فيه وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال ( قرأ رجلان من الأنصار سورة
أقرأهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكانا يقرآن بها فقاما يقرآن ذات ليلة
يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) فقال إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنها ) وفي إسناده سليمان ابن أرقم وهو ضعيف
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن
عباس في قوله ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا
نبدلها ( نأت بخير منها أو مثلها ) يقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم وأخرج ابن
أبي حاتم عنه أنه قال ( ننسأها ) نؤخرها وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن
أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله ( ما ننسخ من آية )
قال نثبت خطها ونبدل حكمها ( أو ننسأها ) قال نؤخرها وأخرج عبد بن حميد وأبو داود
في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله ( نأت بخير منها أو مثلها ) يقول فيها تخفيف
فيها رخصة أمر فيها نهي وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في
المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ( أن رجلا كانت معه
سورة فقام من الليل فقام بها فلم يقدر عليها وقام آخر يقرا بها فلم يقدر عليها
وقام آخر فلم يقدر عليها فأصبحوا فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاجتمعوا
عنده فأخبروه فقال إنها نسخت البارحة ) وقد روى نحوه عنه من وجه آخر وقد ثبت في
البخاري وغيره عن أنس أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة ( أن بلغوا قومنا
أن قد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا ) ثم نسخ وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى
قال كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها ( لو
كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب ) وكنا
نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها سبح لله ما في السموات فأنسيناها غير أني
حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم
فتسألوا عنها يوم القيامة ) وقد روى مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية
الرجم كما رواه عبدالرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر
البقرة 108 110
""""""
صفحة رقم 128 """"""
البقرة : ( 108 ) أم تريدون أن . . . . .
( أم ) هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل أي بل تريدون وفي هذا توبيخ وتقريع والكاف
في قوله ( كما سئل ) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي سؤالا مثل ما سئل موسى من قبل
حيث سألوه أن يريهم الله جهرة وسألوا محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتي بالله
والملائكة قبيلا وقوله ( سواء ) هو الوسط من كل شيء قاله أبو عبيدة ومنه قوله تعالى
) في سواء الجحيم ( ومنه قول حسان يرثي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا ويح أصحاب
النبي ورهطه
بعد المغيب في سواء الملحد
وقال الفراء السواء القصد أي ذهب عن قصد الطريق وسمته أي طريق طاعة الله
البقرة : ( 109 ) ود كثير من . . . . .
وقوله تعالى ) ود كثير من أهل الكتاب ( فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم
وردهم عن الإسلام والتشكيك عليهم في دينهم وقوله ( لو يردونكم ) في محل نصب على
أنه مفعول للفعل المذكور وقوله ( من عند أنفسهم ) يحتمل أن يتعلق بقوله ( ود ) أي
ودوا ذلك من عند أنفسهم ويحتمل أن يتعلق بقوله ( حسدا ) أي حسدا ناشئا من عند
أنفسهم وهو علة لقوله ( ود ) والعفو ترك المؤاخذة بالذنب والصفح إزالة أثره من
النفس صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وفيه
الترغيب في ذلك والإرشاد إليه وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال قاله أبو عبيدة وقوله )
حتى يأتي الله بأمره ( هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح أي افعلوا
ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاؤه وما قد
قضى به في سابق علمه وهو قتل من قتل منهم وإجلاء من أجلى وضرب الجزية على من ضربت
عليه وإسلام من أسلم
البقرة : ( 110 ) وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .
وقوله ) وأقيموا الصلاة ( حث من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود
عليهم بالمصلحة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى
يمكن الله لهم وينصرهم على المخالفين لهم
سبب النزول
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال قال رافع بن
حريملة ووهب ابن زيد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا محمد ائتنا بكتاب ينزل
علينا من السماء نقرؤه أو فجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك فأنزل الله في ذلك ) أم
تريدون أن تسألوا رسولكم ( إلى قوله ) سواء السبيل ( وكان حيي بن أخطب من أشد
اليهود حسدا للعرب إذ خصهم الله برسوله وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما
استطاعا فأنزل الله فيهما ) ود كثير من أهل الكتاب ( الآية وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن السدي قال سألت العرب محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) أن
يأتيهم بالله فيروه جهرة فنزلت هذه الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي
العالية قال قال رجل لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل فقال النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) ( ما أعطاكم الله خير كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها
مكتوبة على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزايا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت
له خزايا في الآخرة وقد أعطاكم الله خيرا من ذلك قال ) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه
( الآية والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن فأنزل الله
""""""
صفحة رقم 129 """"""
) أم تريدون أن تسألوا رسولكم ( الآية وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن مجاهد قال سألت قريش محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجعل لهم
الصفا ذهبا فقال نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم فأبوا ورجعوا فأنزل
الله ) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ( أن يريهم الله جهرة
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) ومن يتبدل الكفر ( بالإيمان قال يتبدل
الشدة بالرخاء وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله ) فقد ضل سواء السبيل ( قال
عدل عن السبيل وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن
كعب بن مالك قال كان اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) وأصحابه أشد الأذى فأمر الله بالصبر على ذلك والعفو عنهم وأنزل الله )
ود كثير من أهل الكتاب )
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وفي الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله
تعالى ) ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا (
وقال ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم الآية وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل فقتل الله به من قتل من
صناديد قريش و أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله ) من عند أنفسهم ( قال من
قبل أنفسهم ) من بعد ما تبين لهم الحق ( يقول إن محمدا رسول الله وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل عن ابن عباس في قوله ) فاعفوا واصفحوا ( وقوله ) وأعرض عن المشركين (
ونحو هذا في العفو عن المشركين قال نسخ ذلك كله بقوله ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله
( الآية وقاله ) فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ) وما تقدموا لأنفسكم من خير ( يعني
من الأعمال من الخير في الدنيا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في
قوله ) تجدوه عند الله ( قال تجدوا ثوابه
البقرة 111 113
البقرة : ( 111 ) وقالوا لن يدخل . . . . .
قوله ( هودا ) قال الفراء يجوز أن يكون هودا بمعنى يهوديا وأن يكون جمع هائد وقال
الأخفش إن الضمير المفرد في كان هو باعتبار لظ من والجمع في قوله ( هودا ) باعتبار
معنى من قيل في هذا الكلام حذف وأصله وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان
يهوديا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا هكذا قال كثير من المفسرين
وسبقهم إلى ذلك بعض السلف وظاهر النظم القرآني أن طائفتي اليهود والنصارى وقع منهم
هذا القول وأنهم يختصون بذلك دون غيرهم ووجه القول بأن في الكلام حذفا ما هو
""""""
صفحة رقم 130 """"""
معلوم من أن كل طائفة من هاتين الطائفتين تضلل الأخرى وتنفي عنها أنها على شيء من
الدين فضلا عن دخول الجنة كما في هذا الموضع فإنه قد حكى الله عن اليهود أنها قالت
ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء والأماني قد تقدم تفسيرها
والإشارة بقوله تلك إلى ما تقدم لهم من الأماني التي آخرها أنه لا يدخل الجنة
غيرهم وقيل إن الإشارة إلى هذه الأمنية الآخرة والتقدير أمثال تلك الأمنية أمانيهم
على حذف المضاف ليطابق أمانيهم قوله ) هاتوا ( أصله هاتيوا حذفت الضمة لثقلها ثم
حذفت الياء لالتقاء الساكنين ويقال للمفرد المذكر هات وللمؤنث هاتي وهو صوت بمعنى
أحضر والبرهان الدليل الذي يحصل عنده اليقين قال ابن جرير طلب الدليل هنا يقتضي
إثبات النظر ويرد على من ينفيه وقوله ) إن كنتم صادقين ( أي في تلك الأماني المجردة
والدعاوى الباطلة
البقرة : ( 112 ) بلى من أسلم . . . . .
ثم رد عليهم فقال ) بلى من أسلم ( وهو إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة أي ليس
كما يقولون بل يدخلها من أسلم وجهه لله ومعنى أسلم استسلم وقيل أخلص وخص الوجه
بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الأنسان ولأنه موضع الحواس الظاهرة وفيه يظهر العز
والذل وقيل إن العرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء وأن المعنى هنا الوجه وغيره وقيل
المراد بالوجه هنا المقصد أي من أخلص مقصده وقوله ) وهو محسن ( في محل نصب على
الحال والضمير في قوله ) وجهه ( ) وله ( باعتبار لفظ من وفي قوله ) عليهم (
باعتبار معناها وقوله ) من ( إن كانت الموصولة فهي فاعل لفعل محذوف أي بلى يدخلها
من أسلم وقوله ) فله ( معطوف على ) من أسلم ( وإن كانت من شرطية فقوله ) فله ( هو
الجزاء ومجموع الشرط والجزاء رد على أهل الكتاب وإبطال لتلك الدعوى
البقرة : ( 113 ) وقالت اليهود ليست . . . . .
وقوله ) وقالت اليهود ( وما بعده فيه أن كل طائفة تنفي الخير عن الأخرى ويتضمن ذلك
إثباته لنفسها تحجرا لرحمة الله سبحانه قال في الكشاف إن الشيء هو الذي يصح ويعتد
به قال وهذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء وإذا نفى
إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده وهكذا قولهم
أقل من لا شيء وقوله ) وهم يتلون الكتاب ( أي التوراة والإنجيل والجملة حالية وقيل
المراد جنس الكتاب وفي هذا أعظم توبيخ وأشد تقريع لأن الوقوع في الدعاوى الباطلة
والتكلم بما ليس عليه برهان هو وإن كان قبيحا على الإطلاق لكنه من أهل العلم
والدراسة لكتب الله أشد قبحا وأفظع جرما وأعظم ذنبا وقوله ) كذلك قال الذين لا
يعلمون ( المراد بهم كفار العرب الذين لا كتاب لهم قالوا مثل مقالة اليهود اقتداء
بهم لأنهم جهلة لا يقدرون على غير التقليد لمن يعتقدون أنه من أهل العلم وقيل
المراد بهم طائفة من اليهود والنصارى وهم الذين لا علم عندهم ثم أخبرنا سبحانه
بأنه المتولي لفصل هذه الخصومة التي وقع فيها الخلاف عند الرجوع إليه فيعذب من
يستحق التعذيب وينجي من يستحق النجاة
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) وقالوا لن يدخل الجنة ( الآية قال
قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من
كان نصرانيا ) تلك أمانيهم ( قال أماني يتمنونها على الله بغير الحق ) قل هاتوا
برهانكم ( قال حجتكم ) إن كنتم صادقين ( بما تقولونه أنه كما تقولون ) بلى من أسلم
وجهه لله ( يقول أخلص لله وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله ) قل هاتوا برهانكم (
قال حجتكم وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ) بلى من أسلم وجهه ( قال
أخلص دينه وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال لما قدم وفد
نجران من النصارى على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتتهم أحبار اليهود
فتنازعوا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رافع بن حريملة ما أنتم على
شيء
""""""
صفحة رقم 131 """"""
وكفر بعيسى والإنجيل فقال له رجل من أهل نجران ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى
وكفر بالتوراة قال فأنزل الله في ذلك ) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت
النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ( أي كل يتلو في كتابه تصديق من
كفره به وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال قلت لعطاء من هؤلاء الذي لا يعلمون قال هم
أمم كانت قبل اليهود والنصارى وأخرج ابن جرير عن السدي قال هم العرب قالوا ليس
محمد عل شيء
البقرة 114 115
البقرة : ( 114 ) ومن أظلم ممن . . . . .
هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه وأنه بمنزلة لا ينبغي أن
يلحقه سائر أنواع الظلم أي لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله واسم الاستفهام في محل
رفع على الابتداء وأظلم خبره وقوله ) أن يذكر فيها اسمه ( قيل هو بدل من مساجد
وقيل إنه مفعول له بتقدير كراهية أن يذكر وقيل إن التقدير من أن يذكر ثم حذف حرف
الجر لطول الكلام وقيل إنه مفعول ثان لقوله ( منع ) والمراد بمنع المساجد أن يذكر
فيها اسم الله منع من يأتي إليها للصلاة والتلاوة والذكر وتعليمه والمراد بالسعي
في خرابها هو السعي في هدمها ورفع بنيانها ويجوز أن يراد بالخراب تعطيلها عن
الطاعات التي وضعت لها فيكون أعم من قوله ) أن يذكر فيها اسمه ( فيشمل جميع ما يمنع
من الأمور التي بنيت لها المساجد كتعلم العلم وتعليمه والقعود للاعتكاف وانتظار
الصلاة ويجوز أن يراد ما هو أعم من الأمرين من باب عموم المجاز كما قيل في قوله
تعالى ) إنما يعمر مساجد الله ( وقوله ) ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ( أي ما
كان ينبغي لهم دخولها إلا حال خوفهم وفيه إرشاد للعباد من الله عز وجل أنه ينبغي
لهم أن يمنعوا مساجد الله من أهل الكفر من غير فرق بين مسجد ومسجد وبين كافر وكافر
كما يفيده عموم اللفظ ولا ينافيه خصوص السبب وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادو الدخول
كانوا على وجل وخوف من أن يفطن لهم أحد من المسلمين فينزلون بهم ما يوجب الإهانة
والإذلال وليس فيه الإذن لنا بتمكينهم من ذلك حال خوفهم بل هو كناية عن المنع لهم
منا عن دخول مساجدنا والخزي قيل هو ضرب الجزية عليهم وإذلالهم وقيل غير ذلك وقد
تقدم تفسيره
البقرة : ( 115 ) ولله المشرق والمغرب . . . . .
والمشرق موضع الشروق والمغرب موضع الغروب أي هما ملك لله وما بينهما من الجهات
والمخلوقات فيشمل الأرض كلها وقوله ) فأينما تولوا ( أي أي جهة تستقبلونها فهناك
وجه الله أي المكان الذي يرتضي لكم استقباله وذلك يكون عند إلتباس جهة القبلة التي
أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه ) فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم
فولوا وجوهكم شطره ( قال في الكشاف والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد
الحرام أي في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلوا في أي بقعة شئتم من
بقاعها وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا تختص أماكنها في
مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان انتهى وهذا التخصيص لا وجه له فإن اللفظ أوسع
منه وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس وقوله ) إن الله واسع عليم ( فيه إرشاد
إلى سعة رحمته وأنه يوسع على عباده في دينهم ولا يكلفهم ما ليس
""""""
صفحة رقم 132 """"""
في وسعهم وقيل واسع بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال ) وسع كل شيء علما ( وقال
الفراء الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن قريشا منعوا النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله ) ومن أظلم ممن منع
مساجد الله ( وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال هم النصارى وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير عن السدي قال هم الروم كانوا ظاهروا
بختنصر على خراب بيت المقدس وفي قوله ) أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين (
قال فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه وقد أخيف بأداء
الجزية فهو يؤديها وفي قوله ) لهم في الدنيا خزي ( قال أما خزيهم في الدنيا فإنه
إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن قتادة أنهم الروم وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب أنهم النصارى لما أظهروا على بيت
المقدس حرقوه وأخرج ابن جرير عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم قال هم المشركون حين
صدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن البيت يوم الحديبية وأخرج ابن أبي شيبة
عن أبي صالح قال ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين وأخرج عبدالرزاق وابن
جرير عن قتادة في قوله ) لهم في الدنيا خزي ( قال يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال
أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة قال الله تعالى ) ولله
المشرق والمغرب ( الآية فاستقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى نحو بيت
المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه الله إلى البيت العتيق ونسخها فقال ) ومن حيث
خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ( وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه وأخرج ابن
أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال كان النبي (
صلى الله عليه وسلم ) يصلي على راحلته تطوعا أينما توجهت به ثم قرأ ابن عمر هذه
الآية ) فأينما تولوا فثم وجه الله ( وقال في هذا أنزلت هذه الآية وأخرج نحوه عنه
ابن جرير والدارقطني والحاكم وصححه وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر عن رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق فإذا أراد أن
يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى وروى نحوه من حديث أنس مرفوعا أخرجه ابن
أبي شيبة وأبو داود وأخرج عبد بن حميد والترمذي وضعفه وابن ماجة وابن جرير وغيرهم
عن عامر ابن ربيعة قال كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ليلة سوداء
مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما أن أصبحنا
إذا نحن قد صلينا على غير القبلة فقلنا يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير
القبلة فأنزل الله ) ولله المشرق والمغرب ( الآية فقال مضت صلاتكم وأخرج الدارقطني
وابن مردويه والبيهقي عن جابر مرفوعا نحوه إلا أنه ذكر أنهم خطوا خطوطا وأخرج نحوه
ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا وأخرج نحوه أيضا سعيد بن منصور وابن
المنذر عن عطاء يرفعه وهو مرسل وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ) فثم وجه الله (
قال قبلة الله اينما توجهت شرقا أو غربا وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه وابن
ماجة عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما بين المشرق والمغرب
قبلة ) وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مثله وأخرج ابن أبي
شيبة والبيهقي عن عمر نحوه
""""""
صفحة رقم 133 """"""
البقرة 116 118
البقرة : ( 116 ) وقالوا اتخذ الله . . . . .
قوله ( وقالوا ) هم اليهود والنصارى وقيل اليهود أي قالوا عزير ابن الله وقيل
النصارى أي المسيح ابن الله وقيل هم كفار العرب أي قالوا الملائكة بنات الله وقوله
( سبحانه ) قد تقدم تفسيره وهنا تبرؤ الله تعالى عما نسبوه إليه من اتخاذ الولد
وقوله ( بل له ما في السموات والأرض ) رد على القائلين اتخذ ولدا أي بل هو مالك
لما في السموات والأرض وهؤلاء القائلون داخلون تحت ملكه والولد من جنس لا من جنسه
ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد والقانت المطيع الخاضع أي كل من في السموات
والأرض مطيعون له خاضعون لعظمته خاشعون لجلاله والقنوت في أصل اللغة أصله القيام
قال الزجاج فالخلق قانت أي قائمون بالعبودية إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف
ذلك فاثر الصنعة بين عليهم وقيل أصله الطائعين ومنه ) والقانتين والقانتات ( وقيل
السكون ومنه قوله ) وقوموا لله قانتين ( ولهذا قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في
الصلاة حتى نزلت ) وقوموا لله قانتين ( فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقيل
القنوت الصلاة ومنه قول الشاعر قانتا لله يتلو كتبه
وعلى عمد من الناس اعتزل
والأولى أن القنوت لفظ مشترك بين معان كثيرة قيل هي ثلاثة عشر معنى وهي مبينة وقد
نظمها بعض أهل العلم كما أوضحت ذلك في شرحي على المنتقى
البقرة : ( 117 ) بديع السماوات والأرض . . . . .
وبديع فعيل للمبالغة وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو مبدع سمواته وارضه أبدع الشيء
أنشأه لا عن مثال وكل من أنشا ما لم يسبق قيل له مبدع وقوله ) وإذا قضى أمرا ( أي
أحكمه وأتقنه قال الأزهري قضى في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامة
قيل هو مشترك بين معان يقال قضى بمعنى خلق ومنه ) فقضاهن سبع سماوات ( وبمعنى أعلم
ومنه ) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ( وبمعنى أمر ومنه ) وقضى ربك ألا تعبدوا
إلا إياه ( وبمعنى ألزم ومنه قضى عليه القاضي وبمعنى أوفاه ومنه ) فلما قضى موسى
الأجل ( وبمعنى أراد ومنه ) فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( والأمر واحد
الأمور وقد ورد في القرآن على أربعة عشر معنى الأول الدين ومنه ) حتى جاء الحق
وظهر أمر الله ( الثاني بمعنى القول ومنه ) فإذا جاء أمرنا ( الثالث العذاب ومنه
ولما قضى العذاب الرابع عيسى ومنه ) فإذا قضى أمرا ( أي أوجد عيسى عليه السلام
الخامس القتل ومنه ) فإذا جاء أمر الله ( السادس فتح مكة ومنه ) فتربصوا حتى يأتي
الله بأمره ( السابع قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ومنه ) فاعفوا واصفحوا حتى
يأتي الله بأمره ( والثامن القيامة ومنه ) أتى أمر الله ( التاسع القضاء ومنه )
يدبر الأمر ( العاشر الوحي ومنه ) يتنزل الأمر بينهن ( الحادي عشر أمر الخلائق
ومنه ) ألا إلى الله تصير الأمور ( الثاني عشر النصر ومنه ) هل لنا من الأمر من
شيء ( والثالث عشر الذنب ومنه ) فذاقت وبال أمرها (
""""""
صفحة رقم 134 """"""
الرابع عشر الشأن ومنه ) وما أمر فرعون برشيد ( هكذا أورد هذه المعاني بأطول من
هذا بعض المفسرين وليس تحت ذلك كثير فائدة وإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم
الأمر عليها وقوله ) فإنما يقول له كن فيكون ( الظاهر في هذا المعنى الحقيقي وأنه
يقول سبحانه هذا اللفظ وليس في ذلك مانع ولا جاء ما يوجب تأويله ومنه قوله تعالى )
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( وقال تعالى ) إنما قولنا لشيء إذا
أردناه أن نقول له كن فيكون ( وقال ) وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ( ومنه قول
الشاعر إذا ما أراد الله امرا فإنما
يقول له كن قوله فيكون
وقد قيل إن ذلك مجاز وانه لا قول وإنما هو قضاء يقضيه فعبر عنه بالقول ومنه قول
الشاعر وهو عمر ابن حممة الدوسي فأصبحت مثل النسر طار فراخه
إذا رام تطيارا يقال له قع
وقال آخر قالت جناحاه لساقيه الحقا
ونجيا لحكمكما أن يمزقا
البقرة : ( 118 ) وقال الذين لا . . . . .
والمراد بقوله ) وقال الذين لا يعلمون ( اليهود وقيل النصارى ورجحه ابن جرير لأنهم
المذكورون في الآية وقيل مشركو العرب و ( لولا ) حرف تحضيض أي هلا ( يكلمنا الله )
بنبوة محمد فنعلم أنه نبي ( أو تأتينا ) بذلك علامة على نبوته والمراد بقوله ) قال
الذين من قبلهم ( قيل هم اليهود والنصارى في قول من جعل الذين لا يعلمون كفار
العرب أو الأمم السالفة في قول من جعل الذين لا يعلمون اليهود والنصارى أو اليهود
في قول من جعل الذي لا يعلمون النصارى ( تشابهت ) أي في التعنت والاقتراح وقال
الفراء ( تشابهت ) في اتفاقهم على الكفر ) قد بينا الآيات لقوم يوقنون ( أي
يعترفون بالحق وينصفون في القول ويذعنون لأوامر الله سبحانه لكونهم مصدقين له
سبحانه مؤمنين بآياته متبعين لما شرعه لهم
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال قال الله
تعالى ( كذبني ابن آدم وشتمني فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما
كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا ) وأخرج نحوه أيضا
من حديث أبي هريرة وفي الباب أحاديث وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله ) سبحان الله ( قال تنزيه الله نفسه عن السوء وأخرج عبدالرزاق وعبد ابن
حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن موسى بن طلحة عن النبي
( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن التسبيح أن يقول الإنسان سبحان الله قال برأه
الله من السوء وأخرجه الحاكم وصححه ابن مردويه والبيهقي من طريق طلحة بن يحيى بن
طلحة عن أبيه عن جده طلحة بن عبيدالله قال سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
عن تفسير سبحان الله فقال هو تنزيه الله من كل سوء وأخرجه ابن مردويه عنه من طريق
أخرى مرفوعا وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم وابن حبان والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والضياء في المختارة عن
أبي سعيد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( كل حرف في القرآن يذكر فيه
القنوت فهو الطاعة ) وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله ( كل له
قانتون ) قال مطيعون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) بديع
السماوات والأرض ( يقول ابتدع خلقهما ولم يشركه في خلقهما أحد وأخرج ابن إسحاق
وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال قال رافع بن حريملة لرسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) يا محمد إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله
""""""
صفحة رقم 135 """"""
فليكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله في ذلك ) وقال الذين لا يعلمون ( الآية وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنهم كفار العرب وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
مجاهد قال هم النصارى والذين من قبلهم يهود
البقرة 119 121
البقرة : ( 119 ) إنا أرسلناك بالحق . . . . .
قوله ( بشيرا ونذيرا ) يحتمل أن يكون منصوبا على الحال ويحتمل أن يكون مفعولا له
أي أرسلناك لأجل التبشير والإنذار وقوله ( ولا تسئل ) قرأه الجمهور بالرفع مبنيا
للمجهول أي حال كونك غير مسئول وقرىء بالرفع مبنيا للمعلوم قال الأخفش ويكون في
موضع الحال عطفا على ( بشيرا ونذيرا ) أي حال كونك غير سائل عنهم لأن علم الله
بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم وقرأ نافع ( ولا تسئل ) بالجزم أي لا يصدر
منك السؤال عن هؤلاء أو لا يصدر منك السؤال عمن مات منهم على كفره ومعصيته تعظيما
لحاله وتغليظا لشأنه أي أن هذا أمر فظيع وخطب شنيع يتعاظم المتكلم أن يجريه على
لسانه أو يتعاظم السامع أن يسمعه
البقرة : ( 120 ) ولن ترضى عنك . . . . .
قوله ) ولن ترضى عنك اليهود ( الآية أي ليس غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه
عليك من الآيات ويوردونه من التعنتات فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون وأوجبتهم عن كل
تعنت لم يرضوا عنك ثم أخبره بأنهم لن يرضوا عنه حتى يدخل في دينهم ويتبع ملتهم
والملة اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه وهكذا الشريعة ثم رد
عليهم سبحانه فأمره بأن يقول لهم ) إن هدى الله هو الهدى ( الحقيقي لا ما أنتم
عليه من الشريعة المنسوخة والكتب المحرفة ثم اتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) إن اتبع أهواءهم وحاول رضاهم وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم
ويحتمل أن يكون تعريضا لأمته وتحذيرا لهم أن يواقعوا شيئا من ذلك أو يدخلوا في
أهوية أهل الملل ويطلبوا رضا أهل البدع وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف
له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه
والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء التاركين
للعمل بالكتاب والسنة المؤثرين لمحض الرأي عليهما فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولا
وأبان من أخلاقه لينا لا يرضيه إلا اتباع بدعته والدخول في مداخله والوقوع في
حبائله فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو
ما في كتابه وسنة رسوله لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة وجهالة
بينة ورأي منهار وتقليد على شفا جرف هار فهو إذ ذاك ما له من الله من ولي ولا نصير
ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة وهالك بلا شك ولا شبهة
البقرة : ( 121 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
وقوله ) الذين آتيناهم الكتاب ( قيل هم المسلمون والكتاب هو القرأن وقيل من أسلم
من أهل الكتاب والمراد بقوله ) يتلونه ( أنهم يعملون بما فيه فيحللون حلاله
""""""
صفحة رقم 136 """"""
ويحرمون حرامه فيكون من تلاه يتلوه إذا اتبعه ومنه قوله تعالى ) والقمر إذا تلاها
( أي اتبعها كذا قيل ويحتمل أن يكون من التلاوة أي يقرءونه حق قراءته لا يحرفونه
ولا يبدلونه وقوله ) الذين آتيناهم الكتاب ( مبتدأ وخبره ) يتلونه ( أو الخبر قوله
) أولئك ( مع ما بعده
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليت شعري ما فعل أبواي ) فنزل ) إنا
أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ( فما ذكرهما حتى توفاه الله
قال السيوطي هذا مرسل ضعيف الإسناد ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم
مرفوعا وقال هو معضل الإسناد ضعيف لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة وأخرج ابن أبي
حاتم عن أبي مالك قال ( الجحيم ) ما عظم من النار وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال
إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي ( صلى الله عليه وسلم )
إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم وايسوا منه أن يوافقهم
على دينهم فأنزل الله ) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ( الآية
وأخرج عبدالرزاق عن قتادة في قوله ) الذين آتيناهم الكتاب ( قال هم اليهود
والنصارى وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في
قوله ) يتلونه حق تلاوته ( قال يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه
وأخرجوا عنه أيضا يتبعونه حق اتباعه ثم قرءوا والقمر إذا تلاها يقول اتبعها وأخرج
ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال في قوله ) يتلونه حق تلاوته ( إذا مر بذكر
الجنة سأل الله الجنة وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار وأخرج الخطيب في
كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله
) يتلونه حق تلاوته ( قال يتبعونه حق اتباعه وكذا قال القرطبي في تفسيره أن في
إسناده مجاهيل قال لكن معناه صحيح وأخرج عبدالرزاق وابن جرير من طرق عن ابن مسعود
في تفسيره هذه الآية مثل ما سبق عن ابن عباس في قوله يحلون حلاله إلى آخره وأخرج
ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال يتكلمون به كما أنزل ولا يكتمونه وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن قتادة في هذه الآية قال هم أصحاب محمد ثم حكى نحو ذلك عن عمر بن
الخطاب وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن في قوله ) يتلونه حق تلاوته ( قال يعملون
بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه
البقرة 122 124
البقرة : ( 122 - 123 ) يا بني إسرائيل . . . . .
قوله ) يا بني إسرائيل ( إلى قوله ولا هم ينصرون ) قد سبق مثل هذا في صدر السورة
وتقدم تفسيره ووجه التكرار الحث على اتباع الرسول النبي الأمي ذكر معناه ابن كثير
في تفسيره وقال البقاعي في تفسيره إنه لما طال المدى استقصاء تذكيرهم بالنعم ثم في
بيان عوارهم وهتك أستارهم وختم ذلك بالترهيب لتضييع
""""""
صفحة رقم 137 """"""
أديانهم بأعمالهم وأحوالهم وأقوالهم أعاد ما صدر به قصتهم من التذكير بالنعم
والتحذير من حلول النقم يوم تجمع الأمم ويدوم فيه الندم لمن زلت به القدم ليعلم ان
ذلك فذلكة القصة والمقصود بالذات الحث على انتهاز الفرصة انتهى واقول ليس هذا بشيء
فإنه لو كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى وأنه أعاد ما صدر به قصتهم لذلك
لكان الأولى بالتكرار والأحق بإعادة الذكر هو قوله سبحانه ) يا بني إسرائيل اذكروا
نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ( فإن هذه الآية مع
كونها أول الكلام معهم والخطاب لهم في هذه السورة هي أيضا أولى بأن تعاد وتكرر لما
فيها من الأمر بذكر النعم والوفاء بالعهد والرهبة لله سبحانه وبهذا تعرف صحة ما
قدمناه لك عند أن شرع الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه ثم
حكى البقاعي بعد كلامه السابق عن الحوالي أنه قال كرره تعالى إظهارا لمقصد إلتئام
آخر الخطاب بأوله وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلا لما يمكن بأن يرد من نحوه في
سائر القرآن حتى كان الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمه يجب أن يلحظ القلب بذاته تلك
الغاية فيتلوها ليكون في تلاوته جامعا لطرفي الثناء وفي تفهيمه جامعا لمعاني طرفي
المعنى انتهى وأقول لو كان هذا هو سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك وأما قوله
وليتخذ ذلك أصلا لما يرد من التكرار في سائر القرآن فمعلوم أن حصول هذا الأمر في
الأذهان وتقرره في الأفهام لا يختص بتكرير آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد بها
فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما ولله الحكمة البالغة التي
لا تبلغها الأفهام ولا تدركها العقول فليس في تكليف هذه المناسبات المتعسفة إلا ما
عرفناك به هناك فتذكر
البقرة : ( 124 ) وإذ ابتلى إبراهيم . . . . .
قوله ( وإذ ابتلى ) الإبتلاء الإمتحان والاختبار أي ابتلاه بما أمره به و (
إبراهيم ) معناه في السريانية أب رحيم كذا قال الماوردي قال ابن عطية ومعناه في
العربية كذلك قال السهيلي وكثيرا ما يقع الإتفاق بين السرياني والعربي وقد أورد
صاحب الكشاف هنا سؤالا في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير وأجاب عنه
بأنه قد تقدم لفظا فرجع إليه والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره أو ترد في مثله
الأسئلة أو يسود وجه القرطاس بإيضاحه وقوله ( بكلمات ) قد اختلف العلماء في
تعيينها فقيل هي شرائع الإسلام وقيل ذبح ابنه وقيل أداء الرسالة وقيل هي خصال
الفطرة وقيل هي قوله ) إني جاعلك للناس إماما ( وقيل بالطهارة كما سيأتي بيانه قال
الزجاج وهذه الأقوال ليس بمتناقضة لأن هذا كله مما ابتلى به إبراهيم انتهى وظاهر
النظم القرآني أن الكلمات هي قوله ) قال إني جاعلك ( وما بعده ويكون ذلك بيانا
للكلمات وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك وعن آخرين ما يخالفه وعلى هذا فيكون
قوله ) قال إني جاعلك ( مستأنفا كأنه ماذا قال له وقال ابن جرير ما حاصله إنه يجوز
أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها
أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا
بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ثم قال فلو قال قائل إن الذي قاله مجاهد وأبو
صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب يعني أن الكلمات هي قوله ) إني جاعلك للناس
إماما ( وقوله ) وعهدنا إلى إبراهيم ( وما بعده ورجح ابن كثير أنها تشمل جميع ما
ذكر وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح وقوله ) فأتمهن
( أي قام بهن أتم قيام وامتثل أكمل امتثال والإمام هو ما يؤتم به ومنه قيل للطريق
إمام وللبناء إمام لأنه يؤتم بذلك أي يهتدي به السالك والإمام لما كان هو القدوة
للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ وقوله ) ومن ذريتي (
يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم أي واجعل من ذريتي أئمة ويحتمل أن يكون هذا من
إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته أي ومن
""""""
صفحة رقم 138 """"""
ذريتي ماذا يكون يا رب فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة وأنهم لا يصلحون لذلك ولا يقومون
به ولا ينالهم عهد الله سبحانه والذرية مأخوذة من الذر لأن الله أخرج الخلق من ظهر
آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذر وقيل مأخوذة من ذرأ الله الخلق يذرؤهم إذا خلقهم
وفي الكتاب العزيز ) فأصبح هشيما تذروه الرياح ( قال في الصحاح ذرت الريح السحاب
وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا أي نسفته وقال الخليل إنما سمعوا ذرية لأن الله
تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر واختلف في المراد بالعهد فقيل الإمامة
وقيل النبوة وقيل عهد الله أمره وقيل الأمان من عذاب الآخر ورجحه الزجاج والأول
أظهر كما يفيده السياق وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام
لابد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالما
ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع
ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق فيستدل به على
إشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية وقد اختار ابن جرير أن
هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ففيها
إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه انتهى ولا
يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا فالأولى أن يقال إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده
أن لا يولوا أمور الشرع ظالما وإنما قلنا إنه في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا
يجوز أن تتخلف وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرا من الظالمين
البقرة : ( 125 ) وإذ جعلنا البيت . . . . .
قوله ) وإذ جعلنا البيت ( هو الكعبة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا و ( مثابة
) مصدر من ثاب يثوب مثابا ومثابة أي مرجعا يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه ومنه
قول ورقة بن نوفل في الكعبة مثاب لأقفاء القبائل كلها
تخب إليها اليعملات الذوابل
وقرأ الأعمش ( مثابات ) وقيل المثابة من الثواب أي يثابون هنالك وقال مجاهد المراد
أنهم لا يقضون منه أوطارهم قال الشاعر جعل البيت مثابات له
ليس منه الدهر يقضون الوطر
قال الأخفش ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه فهي كعلامة ونسابة وقال غيره هي للتأنيث
وليست للمبالغة وقوله ( وأمنا ) هو اسم مكان أي موضع أمن وقد استدل بذلك جماعة من
أهل العلم على أنه لا يقام الحد على من لجأ إليه ويؤيد ذلك قوله تعالى ) ومن دخله
كان آمنا ( وقيل إن ذلك منسوخ وقوله ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( قرأ نافع
وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض أي جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوه
مصلى وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفا على اذكروا المذكور أول الآيات أو على
اذكروا المقدر عاملا في قوله ( وإذ ) ويجوز أن يكون على تقدير القول أي وقلنا
اتخذوا والمقام في اللغة موضع القيام قال النحاس وهو من قام يقوم يكون مصدرا واسما
للموضع ومقام من أقام وليس من هذا قول الشاعر وفيهم مقامات حسان وجوهها
وأندية ينتابها القول والفعل
لأن معناه أهل مقامات واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي
يعرفه الناس ويصلون عنده ركعتي الطواف وقيل المقام الحج كله روى ذلك عن عطاء
ومجاهد وقيل عرفة والمزدلفة روى عن عطاء أيضا وقال الشعبي الحرم كله مقام إبراهيم
وروى عن مجاهد
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه والبيهقي
""""""
صفحة رقم 139 """"""
في سننه عن ابن عباس في قوله ) وإذ ابتلى إبراهيم ربه ( قال ابتلاه الله بالطهارة
خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضمضة والإستنشاق والسواك وفرق
الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل مكان الغائط
والبول بالماء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عنه نحوه وأخرج ابن أبي
شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه وابن عساكر عنه قال ما ابتلى
أحد بهذا الدين فقام به كله إلا إبراهيم وقرأ هذه الآية فقيل له ما الكلمات قال
سهام الإسلام ثلاثون سهما عشرة في براءة ( التائبون العابدون ) إلى آخر الآية
وعشرة في أول سورة قد أفلح وسأل سائل والذين يصدقون بيوم الدين الآيات وعشرة في
الأحزاب ( إن المسلمين ) إلى آخر الآية ( فأتمهن ) كلهن فكتب له براءة قال تعالى )
وإبراهيم الذي وفى ( واخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم
عنه قال منهن مناسك الحج واخرج ابن جرير عنه قال الكلمات ) إني جاعلك للناس إماما
( ) وإذ يرفع إبراهيم القواعد ( والآيات في شأن المناسك والمقام الذي جعل لإبراهيم
والرزق الذي رزق ساكنو البيت وبعث محمد في ذريتهما وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير
عن مجاهد في قوله ) وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ( قال ابتلى بالآيات التي بعدها
وأخرجا أيضا عن الشعبي مثله وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال
الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم فأتمهن فراق قومه في الله حين أمر بفارقتهم
ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلاقهم
وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه في الله والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده
حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها وما ابتلى به من ذبج
ولده فلما مضى على ذلك كله ( قال ) الله له ) أسلم قال أسلمت لرب العالمين ( وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال ابتلاه بالكوكب فرضي عنه
وابتلاه بالقمر فرضي عنه وابتلاه بالشمس فرضي عنه وابتلاه بالهجرة فرضي عنه
وابتلاه بالختان فرضي عنه وابتلاه بابنه فرضي عنه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في
قوله ( فأتمهن ) قال فأداهن وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال قال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ( من فطرة إبراهيم السواك ) قلت وهذا على تقدير أن إسناده إلى
عطاء صحيح فهو مرسل لا تقوم به الحجة ولا يحل الاعتماد على مثله في تفسيره كلام
الله سبحانه وهكذا لا يحل الاعتماد على مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد قال من
فطرة إبراهيم غسل الذكر والبراجم ومثل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه قال ست
من فطرة إبراهيم قص الشارب والسواك والفرق وقص الأظفار والاستنجاء وحلق العانة قال
ثلاثة في الرأس وثلاثة في الجسد وقد ثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في
الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة مشروعية تلك العشر لهذه الأمة ولم يصح عن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنها الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم وأحسن ما روى
عنه ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقص
أو يأخذ من شاربه قال وكان خليل الرحمن إبراهيم يفعله ولا يخفاك أن فعل الخليل له
لا يستلزم أنه من الكلمات التي ابتلى بها وإذا لم يصح شيء عن رسول الله ( صلى الله
عليه وسلم ) ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا
أن نقول إنها ما ذكره الله سبحانه في كتابه بقوله ) قال إني جاعلك ( إلى آخر
الآيات ويكون ذلك بيانا للكلمات أو السكوت وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه
وأما روي عن ابن عباس ونحوه من الصحابة من بعدهم
""""""
صفحة رقم 140 """"""
في تعيينها فهو أولا أقوال الصحابة لا تقوم بها الحجة فضلا عن أقوال من بعدهم وعلى
تقدير أنه لا مجال للإجتهاد في ذلك وأن له حكم الرفع فقد اختلفوا في التعيين
اختلافا يمتنع معه العمل ببعض ما روى عنهم دون البعض الآخر بل اختلفت الروايات عن
الواحد منهم كما قدمنا عن ابن عباس فكيف يجوز العمل بذلك وبهذا تعرف ضعف قول من
قال إنه يصار إلى العموم ويقال تلك الكلمات هي جميع ما ذكر هنا فإن هذا يستلزم
تفسير كلام الله بالضعيف والمتناقض وما لا تقوم به الحجة وأخرج عبد بن حميد عن ابن
عباس ) قال إني جاعلك للناس إماما ( يقتدى بدينك وهديك وسنتك ) قال ومن ذريتي (
إماما لغير ذريتي ) قال لا ينال عهدي الظالمين ( أن يقتدي بدينهم وهديهم وسنتهم
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه قال قال الله لإبراهيم ) إني جاعلك للناس إماما
قال ومن ذريتي ( فأبى أن يفعل ثم قال ) لا ينال عهدي الظالمين ( وأخرج عبدالرزاق
وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالما
فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم فلما كان يوم
القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد
في تفسير الآية أنه قال لا أجعل إماما ظالما يقتدى به وأخرج ابن إسحاق وابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم لا ينال
عهده ولا ينبغي له أن يوليه شيئا من أمره وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
عنه أنه قال ليس لظالم عليك عهد في معصية الله وقد أخرج وكيع وابن مردويه من حديث
علي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ) لا ينال عهدي الظالمين ( قال لا
طاعة إلا في المعروف إسناده عند ابن مردويه هكذا قال حدثنا عبدالرحمن بن محمد بن
حامد حدثنا أحمد بن عبدالله ابن سعد الأسدي حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني حدثنا
وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي عن النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) فذكره وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين سمعت النبي ( صلى
الله عليه وسلم ) يقول لا طاعة لمخلوق في معصية الله وأخرج ابن جرير عن ابن عباس
أنه قال في تفسير الآية ليس للظالم عهد وإن عاهدته فانقضه قال ابن كثير وروى عن
مجاهد وعطاء ومقاتل وابن حبان نحو ذلك وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله ) مثابة للناس وأمنا ( قال يثوبون إليه ثم يرجعون وأخرج ابن
جرير عنه أنه قال لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه
وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ( وأمنا ) قال أمنا للناس وأخرج البخاري وغيره
من حديث أنس عن عمر بن الخطاب قال وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث قلت يا
رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (
وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت
آية الحجاب واجتمع على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نساؤه في الغيرة فقلت لهن
) عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ( فنزلت كذلك وأخرجه مسلم وغيره
مختصرا من حديث ابن عمر عنه وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر ( أن النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى
خلفه ركعتين ثم قرأ ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( وفي مقام إبراهيم عليه
السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام
إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه
إسماعيل به ليقوم فوقه كما في البخاري من حديث ابن عباس وهو الذي كان ملصقا بجدار
الكعبة وأول من نقله عمر بن الخطاب كما
""""""
صفحة رقم 141 """"""
أخرجه عبدالرزاق والبيهقي بإسناد صحيح وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لما
طاف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له عمر هذا مقام إبراهيم قال نعم وأخرج نحوه
ابن مردويه
البقرة 125 128
قوله ) عهدنا ( معناه هنا أمرنا أو أوجبنا وقوله ) أن طهرا ( في موضع نصب بنزع
الخافض أي بأن طهرا قاله الكوفيون وقال سيبويه هو بتقدير أي المفسرة أي أن طهرا
فلا موضع لها من الإعراب والمراد بالتطهير قيل من الأوثان وقيل من الآفات والريب
وقيل من الكفار وقيل من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث والظاهر أنه لا
يختص بنوع من هذه الأنواع وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير فهو يتناوله إما
تناولا شموليا أو بدليا والإضافة في قوله ) بيتي ( للتشريف والتكريم وقرأ الحسن
وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص ( بيتي ) بفتح الياء وقرأ الآخرون
بإسكانها والطائف الذي يطوف به وقيل الغريب الطارىء على مكة والعاكف المقيم وأصل
العكوف في اللغة اللزوم والإقبال على الشيء وقيل هو المجاور دون المقيم من أهلها
والمراد بقوله ) والركع السجود ( المصلون وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف
أركان الصلاة
البقرة : ( 126 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
وقوله ) وإذ قال إبراهيم ( ستأتي الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرم مكة
والأحاديث الدالة على أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض والجمع بين هذه
الأحاديث في هذا البحث وقوله ( بلدا آمنا ) أي مكة والمراد الدعاء لأهله من ذريته
وغيرهم كقوله عيشة راضية أي راض صاحبها وقوله ( من آمن ) بدل من قول أهله أي أرزق
من آمن من أهله دون من كفر وقوله ) ومن كفر ( الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه
ردا على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم أي وأرزق من كفر فامتعه بالرزق
قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار ويحتمل أن يكون كلاما مستقلا بيانا لحال من كفر
ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية أي من كفر فإني أمتعه
في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق ) ثم أضطره ( بعد هذا التمتيع ) إلى عذاب النار
( فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا وليس لهم
بعد ذلك إلا ما هو شر محض وهو عذاب النار وأما على قراءة من قرأ ( فأمتعه ) بصيغة
الأمر وكذلك قوله ) ثم أضطره ( بصيغة الأمر فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام
إبراهيم وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلا ثم دعا
عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار ومعنى ) أضطره ( ألزمه حتى صار
""""""
صفحة رقم 142 """"""
مضطرا لذلك لا يجد عنه مخلصا ولا منه متحولا
البقرة : ( 127 ) وإذ يرفع إبراهيم . . . . .
قوله ) وإذ يرفع ( هو حكاية لحال ماضيه استحضارا لصورتها العجيبة والقواعد الأساس
قاله أبو عبيدة والفراء وقال الكسائي هي الجدر والمراد برفعها رفع ما هو مبني
فوقها لا رفعها في نفسها فإنها لم ترتفع لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع
فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه كما يقال ارتفع البناء ولا يقال ارتفع أعالى
البناء ولا أسافله قوله ) ربنا تقبل منا ( في محل الحال بتقدير القول أي قائلين
ربنا وقرأ أبي وابن مسعود ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت إسماعيل ويقولان
ربنا تقبل منا
البقرة : ( 128 ) ربنا واجعلنا مسلمين . . . . .
وقوله ) واجعلنا مسلمين لك ( أي اجعلنا ثابتين عليه أو زدنا منه قيل المراد
بالإسلام هنا مجموع الإيمان والأعمال وقوله ( ومن ذريتنا ) أي واجعل من ذريتنا و (
من ) للتبعيض أو للتبيين وقال ابن جرير إنه أراد بالذرية العرب خاصة وكذا قال
السهيلي قال ابن عطية وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به
والأمة الجماعة في هذا الموضع وقد تطلق على الواحد ومنه قوله تعالى ) إن إبراهيم
كان أمة قانتا لله ( وتطلق على الدين ومنه ) إنا وجدنا آباءنا على أمة ( وتطلق على
الزمان ومنه ) وادكر بعد أمة ( وقوله ) وأرنا مناسكنا ( هي من الرؤية البصرية وقرأ
عمر بن عبدالعزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن وغيرهم ) أرنا ( بسكون الراء ومنه
قول الشاعر أرنا إداوة عبدالله يملؤها
من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
والمناسك جمع نسك وأصله في اللغة الغسل يقال نسك ثوبه إذا غسله وهو في الشرع اسم
للعبادة والمراد هنا مناسك الحج وقيل مواضع الذبح وقيل جميع المتعبدات وقوله ) وتب
علينا ( قيل المراد بطلبهما للتوبة التثبيت لأنهما معصومان لا ذنب لهما وقيل
المراد تب على الظلمة منا
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير عن عطاء قال ) وعهدنا إلى إبراهيم ( أي أمرناه وأخرج ابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله ) أن طهرا بيتي ( قال من الأوثان وأخرج أيضا عن مجاهد
وسعيد بن جبير مثله وزادوا الريب وقول الزور والرجس وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن قتادة نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال إذا كان قائما فهو من الطائفين
وإذا كان جالسا فهو من العاكفين وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود وأخرج عبد بن
حميد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال هم
العاكفون وقد ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن إبراهيم حرم مكة
وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها ) كما أخرج أحمد
ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث جابر وقد روى هذا المعنى عن النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) من طريق جماعة من الصحابة منهم رافع بن خديج عند مسلم وغيره ومنهم أبو
قتادة عند أحمد ومنهم أنس عن الشيخين ومنهم أبو هريرة عند مسلم ومنهم علي أبي طالب
عند الطبراني في الأوسط ومنهم أسامة بن زيد عن أحمد والبخاري ومنهم عائشة عند
البخاري وثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله حرم مكة يوم خلق
السموات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة ) أخرجه البخاري تعليقا وابن ماجة من
حديث صفية بنت شيبة وأخرجه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس وأخرجه الشيخان وأهل
السنن من حديث أبي هريرة وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا ولا تعارض بين هذه
الأحاديث فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرمها وأنها لم تزل حرما
آمنا نسب إليه أنه حرمها أي أظهر للناس حكم الله فيها وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية
وابن كثير وقال ابن جرير
""""""
صفحة رقم 143 """"""
إنها كانت حراما ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم وتعبدهم بذلك انتهى
وكلا الجمعين حسن وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي قال
بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم فقال ) وارزق أهله من الثمرات ( نقل الله الطائف
من فلسطين وأخرج نحوه ابن أبي حاتم والأزرقي عن الزهري وأخرج نحوه أيضا الأزرقي عن
بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم وقد أخرج الأزرقي نحوها مرفوعا من طريق محمد بن
المنكدر وأخرج أيضا عن محمد بن كعب القرظي قال دعا إبراهيم للمؤمنين وترك الكفار
ولم يدع لهم بشيء قال الله ( ومن كفر فأمتعه ) الآية وأخرج نحوه سفيان بن عيينة عن
مجاهد وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله ) من آمن
منهم بالله ( قال كأن إبراهيم احتجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله ) ومن
كفر ( أيضا فأنا ارزقهم كما أرزق المؤمنين أخلق خلقا لا أرزقهم أمتعهم قليلا ثم
أضطرهم إلى عذاب النار ثم قرأ ابن عباس ) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء ( الآية وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال قال أبي بن كعب في قوله ) ومن كفر ( أن هذا
من قول الرب وقال ابن عباس هذا من قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال القواعد أساس البيت وأخرج أحمد وعبد بن حميد
والبخاري وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن جبير قصة مطولة وآخرها في بناء البيت قال
فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني
حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله
الحجارة وهما يقولان ) ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ( وأخرج عبدالرزاق
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) وإذ يرفع إبراهيم
القواعد ( قال القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك وقد أكثر المفسرون في تفسير
هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت ومن أي أحجار الأرض بنى وفي أي
زمان عرف ومن حجه وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله أو فضل بعضه كالحجر
الأسود وفي الدر المنثور من ذلك ما لم يكن في غيره فليرجع إليه وفي تفسير ابن كثير
بعض من ذلك ولما لم يكن ما ذكروه متعلقا بالتفسير لم نذكره وأخرج ابن أبي حاتم عن
سلام بن أبي مطيع في هذه الآية ) ربنا واجعلنا مسلمين لك ( قال كانا مسلمين ولكن
سألاه الثبات وأخرج ابن أبي حاتم عن عبدالكريم قال مخلصين وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عن السدي في قوله ) ومن ذريتنا ( قال يعنيان العرب وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي
حاتم عن مجاهد قال قال إبراهيم رب أرنا مناسكنا فأتاه جبريل فأتى به البيت فقال
ارفع القواعد فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به نحو مني
فلما كان عند العقبة فإذا إبليس قائم عند الشجرة فقال كبر وارمه فكبر ورماه فذهب
إبليس حتى أتى الجمرة الوسطى ففعل به إبراهيم كما فعل في الأولى ثم كذلك في الجمرة
الثالثة ثم أخذ جبريل بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال هذا المشعر
الحرام ثم ذهب حتى أتى به عرفات قال وقد عرفت ما أريتك قالها ثلاثا قال نعم قال
فأذن في الناس بالحج قال كيف أؤذن قال قل يا ( أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات
فأجاب العباد لبيك اللهم لبيك فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاج وأخرج ابن
جرير من طريق ابن المسيب عن علي قال لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال قد فعلت أي
رب فأرنا مناسكنا أبرزها لنا علمناها فبعث الله جبريل فحج به وفي الباب آثار كثيرة
عن السلف من الصحابة ومن بعدهم تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك وفي أكثرها أن
الشيطان تعرض له كما تقدم عن
""""""
صفحة رقم 144 """"""
مجاهد وقد أخرج ابن خزيمة والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس
نحو ذلك وكذلك أخرج عنه أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي
البقرة 129 132
البقرة : ( 129 ) ربنا وابعث فيهم . . . . .
الضمير في قوه ) وابعث فيهم ( راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقا وقرأ أبي (
وابعث في آخرهم ) ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الذرية وقد أجاب الله لإبراهيم
عليه السلام هذه الدعوة فبعث في ذريته ( رسولا منهم ) وهو محمد ( صلى الله عليه
وسلم ) وقد أخبر عن نفسه بأنه دعوة إبراهيم كما سيأتي تخريج ذلك إن شاء الله
ومراده هذه الدعوة والرسول هو المرسل قال ابن الأنباري يشبه أن يكون أصله ناقة
مرسال ورسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أما النوق ويقال جاء القوم ارسالا أي بعضهم
في اثر بعض والمراد بالكتاب القرآن والمراد بالحكمة المعرفة بالدين والفقه في
التأويل والفهم للشريعة وقوله ( يزكيهم ) أي يطهرهم من الشرك وسائر المعاصي وقيل
إن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ والكتاب معانيها والحكمة الحكم وهو مراد الله
بالخطاب والعزيز الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان وقال الكسائي ( العزيز ) الغالب
البقرة : ( 130 ) ومن يرغب عن . . . . .
( ومن يرغب ) في موضع رفع على الابتداء والاستفهام للإنكار وقوله ( إلا من سفه
نفسه ) في موضع الخبر وقيل هو بدل من فاعل يرغب والتقدير وما يرغب عن ملة إبراهيم
أحد إلا من سفه نفسه قال الزجاج سفه بمعنى جهل أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها وقال
أبو عبيدة المعنى أهلك نفسه وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح
الفاء مشددة قال الأخفش ( سفه نفسه ) أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها وقيل إن
نفسه منتصب بنزع الخافض وقيل هو تمييز وهذان ضعيفان جدا وأما سفه بضم الفاء فلا
يتعدى قاله المبرد وثعلب والإصطفاء الإختيار أي اخترناه في الدنيا وجعلناه في
الآخرة من الصالحين فكيف يرغب عن ملته راغب
البقرة : ( 131 ) إذ قال له . . . . .
وقوله ( إذ قال له ) يحتمل أن يكون متعلقا بقوله ( اصطفيناه ) أي اخترناه وقت
أمرنا له بالإسلام ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو اذكر قال في الكشاف كأنه قيل اذكر
ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله
البقرة : ( 132 ) ووصى بها إبراهيم . . . . .
والضمير في قوله ( وأوصى بها ) راجع إلى الملة أو إلى الكلمة أي أسلمت لرب
العالمين قال القرطبي وهو أصوب لأنه أقرب مذكور أي قولوا أسلمنا انتهى والأول أرجح
لأن الملوب ممن بعده هو اتباع ملته لا مجرد التكلم بكلمة الإسلام فالتوصية بذلك
أليق بإبراهيم وأولى بهم ووصى وأوصى بمعنى وقريء بهما وفي مصحف عثمان ( وأوصى )
وهي قراءة أهل الشام والمدينة وفي مصحف عبدالله بن مسعود ( ووصى ) وهي قراءة
الباقين ( ويعقوب ) معطوف على إبراهيم أي وأوصى يعقوب بنيه كما
""""""
صفحة رقم 145 """"""
أوصى إبراهيم بنيه وقرأ عمر بن فايد الأسواري وإسماعيل بن عبدالله المكي بنصب
يعقوب فيكون داخلا فيمن أوصاه إبراهيم قال القشيري وهو بعيد لأن يعقوب لم يدرك جده
إبراهيم وإنما ولد بعد موته وقوله ) يا بني ( هو بتقدير أن وقد قرأ أبي وابن مسعود
والضحاك بإثباتها قال الفراء ألغيت أن لأن التوصية كالقول وكل كلام رجع إلى القول
جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها وقيل إنه على تقدير القول أي قائلا يا بني روى
ذلك عن البصريين وقوله ) اصطفى لكم الدين ( أي اختاره لكم والمراد ملته التي لا
يرغب عنها إلا من سفه نفسه وهي الملة التي جاء بها محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وقوله ) فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( فيه إيجاز بليغ والمراد ألزموا الإسلام ولا
تفارقوه حتى تموتوا
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) ومن يرغب عن ملة إبراهيم ( قال
رغبت اليهود والنصارى عن ملته واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تركوا
ملة إبراهيم الاسلام وبذلك بعث الله نبيه محمداا ( صلى الله عليه وسلم ) بملة
إبراهيم وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله
( ولقد اصطفيناه ) قال اخترناه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
) ووصى بها إبراهيم بنيه ( قال وصاهم بالإسلام ووصى يعقوب بنيه بمثل ذلك وأخرج
الثعلبي عن فضيل بن عياض في قوله ) فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( أي محسنون بربكم
الظن
البقرة 133 141
""""""
صفحة رقم 146 """"""
البقرة : ( 133 ) أم كنتم شهداء . . . . .
قوله ( أم كنتم شهداء ) أم هذه قيل هي المنقطعة وقيل هي المتصلة وفي الهمزة وفي
الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى
إبراهيم وإلى بنيه أنهم على اليهودية والنصرانية فرد الله ذلك عليهم وقال لهم
أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى به بنيه فتدعون ذلك عن علم أم لم تشهدوا بل أنتم
مفترون والشهداء جمع شاهد ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث التي لتأنيث الجماعة
والعامل في ( إذ ) الأولى معنى الشهادة وإذ الثانية بدل من الأولى والمراد بحضور
الموت حضور مقدماته وإنما جاء بما دون من في قوله ( ما تعبدون ) لأن المعبودات من دون
الله غالبها جمادات كالأوثان والنار والشمس والكواكب ومعنى ( من بعدي ) أي من بعد
موتى وقوله ( إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) عطف بيان لقوله ( آبائك ) وإسماعيل وإن
كان عما ليعقوب لأن العرب تسمى العم أبا وقوله ) إلها ( بدل من إلهك وإن كان نكرة
فذلك جائز ولا سيما بعد تخصيصه بالصفة التي هي قوله ( واحدا ) فإنه قد حصل المطلوب
من الإبدل بهذه الصفة وقيل إن الها منصوب على الاختصاص وقيل إنه حال قال ابن عطية
وهو قول حسن لأن الغرض الإثبات حال الوحدانية وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وأبو رجاء
العطاردي ( وإله ابيك ) فقيل أراد إبراهيم وحده ويكون قوله ( وإسماعيل ) عطفا على
أبيك وكذلك ( إسحاق ) وإن كان هو أباه حقيقة وإبراهيم جده ولكن لإبراهيم مزيد
خصوصية وقيل إن قوله ( أبيك ) جمع كما روى عن سيبويه أن أبين جمع سلامة ومثله أبون
ومنه قول الشاعر فلما تبين اصواتنا
بكين وقد بننا بالأبينا
وقوله ( ونحن له مسلمون ) جملة حالية أي نعبده حال إسلامنا له وجوز الزمخشري أن
تكون اعتراضية على ما يذهب إليه من جوز وقوع الجمل الاعتراضية آخر الكلام
البقرة : ( 134 ) تلك أمة قد . . . . .
والاشارة بقوله ( تلك ) إلى إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه و ( أمه ) بدل منه وخبره (
قد خلت ) أو أمة خبره وقد خلت نعت لأمة وقوله ( لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا
تسألون عما كانوا يعملون ) بيان لحال تلك الأمة وحال المخاطبين بأن لكل من
الفريقين كسبه لا ينفعه كسب غيره ولا يناله منه شيء ولا يضره ذنب غيره وفيه الرد
على من يتكل على عمل سلفه ويروح نفسه بالأماني الباطلة ومنه ما ورد في الحديث ( من
بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) والمراد أنكم لا تنتفعون بحسناتهم ولا تؤاخذون
بسيآتهم ولا تسألون عن أعمالهم كما لا يسألون عن أعمالكم ومثله ) ولا تزر وازرة
وزر أخرى ( ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى )
البقرة : ( 135 ) وقالوا كونوا هودا . . . . .
ولما ادعت اليهود والنصارى أن الهداية بيدها والخير مقصور عليها رد الله ذلك عليهم
بقوله ) بل ملة إبراهيم ( أي قل يا محمد هذه المقالة ونصب ملة بفعل مقدر أي نتبع
وقيل التقدير نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته وقيل بل نهتدي بملة إبراهيم فلما حذف
حرف الجر صار منصوبا وقرأ الاعراج وابن أبي عبلة ( ملة ) بالرفع أي بل الهدى ملة
إبراهيم والحنيف المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق وهو في أصل اللغة الذي
تميل قدماه كل واحدة إلى أختها قال الزجاج وهو منصوب على الحال أي نتبع ملة إبراهيم
حال كونه حنيفا وقال علي بن سليمان هو منصوب بتقدير أعني والحال خطأ كما لا يجوز
جاءني غلام هند مسرعة وقال في الكشاف هو حال من المضاف إليه كقولك رأيت وجه هند
قائمة وقال قوم الحنف الاستقامة
""""""
صفحة رقم 147 """"""
فسمى دينا إبراهيم حنيفا لاستقامته وسمى معوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة كما
قيل للديغ سليم وللمهلكة مفازة وقد استدل من قال بأن الحنيف في اللغة المائل لا
المستقيم بقول الشاعر إذا حول الظل العشي رأيته
حنيفا وفي قرن الضحى يتنصر
أي أن الحرباء تستقبل القبلة بالعشي وتستقبل المشرق بالغداة وهي قبلة النصارى ومنه
قول الشاعر والله لولا حنف في رجله
ما كان في رجالكم من مثله
وقوله ) وما كان من المشركين ( فيه تعريض باليهود لقولهم ) عزير ابن الله (
وبالنصارى لقولهم ) المسيح ابن الله ( أي أن إبراهيم ما كان على هذه الحالة التي
أنتم عليها من الشرك بالله فكيف تدعون عليه أنه كان على اليهودية أو النصرانية
البقرة : ( 136 ) قولوا آمنا بالله . . . . .
وقوله ) قولوا آمنا بالله ( خطاب للمسلمين وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة وقيل
إنه خطاب للكفار بأن يقولون ذلك حتى يكونوا على الحق والأول أظهر والأسباط أود
يعقوب وهم اثنا عشر ولدا ولكل واحد منهم من الأولاد جماعة والسبط في بني إسرائيل
بمنزلة القبيلة في العرب وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة متتابعون
وقيل أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر وقيل الأسباط
حفدة يعقوب أي أولاد أولاده لا أولاده لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب
في نفسه فهم افراد لا أسباط وقوله ) لا نفرق بين أحد منهم ( قال الفراء معناه لا
نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى قال في الكشاف وأحد في معنى
الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه
البقرة : ( 137 ) فإن آمنوا بمثل . . . . .
وقوله ) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ( هذا الخطاب للمسلمين أيضا أي فإن آمن أهل
الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم
فقد اهتدوا وعلى هذا فمثل زائدة كقوله ) ليس كمثله شيء ( وقول الشاعر فصيروا مثل
كعصف مأكول
وقيل إن المماثلة وقعت بين الإيمانين أي فإن آمنوا بمثل إيمانكم وقال في الكشاف
إنه من باب التبكيت لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام قال أي فإن حصلوا
دينا آخر مثل دينكم مساويا له في الصحة والسداد فقد اهتدوا وقيل إن الباء زائدة
مؤكدة وقيل إنها للاستعانة والشقاق أصله من الشق وهو الجانب كأن كل واحد من
الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر وقيل إنه مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب
فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه ويصح حمل الآية على كل واحد
من المعنيين وكذلك قول الشاعر
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
وقول الآخر
إلى كم تقبل العلماء قسرا وتفخر بالشقاق وبالنفاق
وقوله ) فسيكفيكهم الله ( وعد من الله تعالى لنبيه أنه سيكفيه من عانده وخالفه من
المتولين وقد أنجز له وعده بما أنزله من بأسه بقريظة والنضير وبني قينقاع
البقرة : ( 138 ) صبغة الله ومن . . . . .
وقوله ) صبغة الله ( قال الأخفش وغيره أي دين الله قال وهي منتصبة على البدل من
ملة وقال الكسائي هي منصوبة على تقدير اتبعوا أو على الإغراء أي الزموا ورجح
الزجاج الانتصاب على البدل من ملة كما قاله الفراء وقال في الكشاف إنها مصدر مؤكد
منتصب عن قوله ) آمنا بالله ( كما انتصب ) وعد الله ( عما تقدمه وهي فعلة من صبغ
كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ والمعنى تطهير الله لأن الإيمان
تطهير النفوس انتهى وبه قال سيبويه أي كونه مصدرا
""""""
صفحة رقم 148 """"""
مؤكدا وقد ذكر المفسرون أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء وهو
الذي يسمونه المعمودية ويجعلون ذلك تطهيرا لهم فإذا فعلوا ذلك قالوا الآن صار
نصرانيا حقا فرد الله عليهم بقوله ) صبغة الله ( أي الإسلام وسماه صبغة استعارة
ومنه قوله بعض شعراء همدان وكل أناس لهم صبغة
وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أولادنا
فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقيل إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام بدلا من معمودية النصارى ذكره
الماوردي وقال الجوهري صبغة الله دينه وهو يؤيد ما تقدم عن الفراء وقيل الصبغة
الختان
البقرة : ( 139 ) قل أتحاجوننا في . . . . .
وقوله ) قل أتحاجوننا في الله ( أي أتجادلوننا في الله أي في دينه والقرب منه
والحظوة عنده وذلك كقولهم ) نحن أبناء الله وأحباؤه ( وقرأ ابن محيصن ( أتحاجونا )
بالإدغام لاجتماع المثلين وقوله ) وهو ربنا وربكم ( أي نشترك نحن وأنتم في ربوبيته
لنا وعبوديتنا له فكيف تدعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك وقوله ) لنا
أعمالنا ولكم أعمالكم ( أي لنا أعمال ولكم أعمال فلستم بأولى بالله منا وهو مثل
قوله تعالى ) فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون (
وقوله ) ونحن له مخلصون ( أي نحن أهل الاخلاص للعبادة دونكم وهو المعيار الذي يكون
به التفاضل والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله سبحانه من غيره فكيف تدعون
لأنفسكم ما نحن أولى به منكم وأحق وفيه توبيخ لهم وقطع لما جاءوا به من المجادلة
والمناظرة
البقرة : ( 140 ) أم تقولون إن . . . . .
وقوله ) أم يقولون ( قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ( تقولون ) بالتاء
الفوقية وعلى هذه القراء تكون أم ها هنا معادلة للهمزة في قوله ) أتحاجوننا ( أي
أتحاجوننا في الله أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء على دينكم وعلى قراءة الياء
التحتية تكون أم منقطعة أي بل يقولون وقوله ) قل أأنتم أعلم أم الله ( فيه تقريع
وتوبيخ أي أن الله أخبرنا بأنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى وأنتم تدعون أنهم كانوا
هودا أو نصارى فهل أنتم أعلم أم الله سبحانه وقوله ) ومن أظلم ( استفهام أي لا أحد
أظلم ) ممن كتم شهادة عنده من الله ( يحتمل أن يريد بذلك الذم لأهل الكتاب بأنهم
يعلمون أن هؤلاء الأنبياء ما كانوا هودا ولا نصارى بل كانوا على الملة الإسلامية
فظلموا أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة بل بادعائهم لما هو مخالف لها وهو أشد في الذنب
ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو كتموا
هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منهم ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب وقيل
المراد هنا ما كتموه من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي قوله ) وما الله
بغافل عما تعملون ( وعيد شديد وتهديد ليس عليه مزيد وإعلام بأن الله سبحانه لا
يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح والذنب الفظيع
البقرة : ( 141 ) تلك أمة قد . . . . .
وكرر قوله سبحانه ) تلك أمة قد خلت ( إلى آخر الآية لتضمنها معنى التهديد والتخويف
الذي هو المقصود في هذا المقام
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) أم كنتم شهداء ( يعني أهل الكتاب
وأخرج أيضا عن الحسن في قوله ) أم كنتم شهداء ( قال يقول لم يشهد اليهود ولا
النصارى ولا أحد من الناس يعقوب إذ أخذ على بنيه الميثاق إذ حضره الموت أن لا
تبعدوا إلا الله فأقروا بذلك وشهد عليهم أن قد أقروا بعبادتهم أنهم مسلمون وأخرج عن
ابن عباس أنه كان يقول الجد أب ويتلو الآية وأخرج أيضا عن أبي العالية في الآية
قال سمى العم أبا وأخرج أيضا نحوه عن محمد بن كعب وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال قال عبدالله بن صوريا الأعور للنبي ( صلى
الله عليه وسلم ) ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا
""""""
صفحة رقم 149 """"""
يا محمد تهتد وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله فيهم ) وقالوا كونوا هودا ( الآية
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله ( حنيفا ) قال متبعا وأخرجا أيضا
عن ابن عباس في قوله ) حنيفا ( قال حاجا واخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال
الحنيف المستقيم وأخرج أيضا عن خصيف قال الخنيف المخلص وأخرج أيضا عن أبي قلابة
قال الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت بالحنيفية السمحة ) وأخرج أحمد أيضا
والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر عن ابن عباس قال ( قيل يا رسول الله أي
الأديان أحب إلى الله قال الحنيفية السمحة ) وأخرج الحاكم في تاريخه وابن عساكر من
حديث أسعد بن عبدالله بن مالك الخزاعي مرفوعا مثله وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود
والنسائي عن ابن عباس قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ في ركعتي
الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة ) قولوا آمنا بالله ( كلها وفي الآخرة
) آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ( وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال كان أهل
الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ) قولوا آمنا بالله (
الآية وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال الأسباط بنو يعقوب كانوا اثنى عشر رجلا كل
واحد منهم ولد أمة من الناس وروى نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي وحكاه ابن
كثير في تفسيره عن أبي العالية والربيع وقتادة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم
به فإن الله لا مثل له ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به وأخرج ابن أبي داود في
المصاحف والخطيب في تاريخه عن أبي جمرة قال كان ابن عباس يقرأ ) فإن آمنوا بمثل ما
آمنتم به ( وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) فإنما هم في شقاق ( قال
فراق وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ( صبغة الله ) قال دين
الله وخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال فطرة الله التي فطر الناس عليها
وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم
) قال ( إن بني إسرائيل قالوا يا موسى هل يصبغ ربك فقال اتقوا الله فناداه ربه يا
موسى سألوك هل يصبغ ربك فقل نعم أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان
كلها في صبغتي ) وأنزل الله على نبيه ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) وأخرجه
ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس موقوفا وأخرج عبد ابن حميد وابن
جرير وابن المنذر عن قتادة قال إن اليهود تصبغ أبناءها يهودا والنصارى تصبغ
أبناءها نصارى وإن صبغة الله الإسلام ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام ولا أطهر وهو
دين الله الذي بعث به نوحا ومن كان بعده من الأنبياء وأخرج ابن النجار في تاريخ
بغداد عن ابن عباس في قوله ) صبغة الله ( قال البياض وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله ) أتحاجوننا ( قال أتخاصموننا وأخرج ابن جرير عنه قال أتجادلوننا
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله ) ومن أظلم ممن كتم شهادة ( الآية
قال أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله واتخذوا اليهودية
والنصرانية وكتموا محمدا وهم يعلمون أنه رسول الله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
مجاهد نحوه وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله
) تلك أمة قد خلت ( قال يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
""""""
صفحة رقم 150 """"""
البقرة 142 143
البقرة : ( 142 ) سيقول السفهاء من . . . . .
قوله ( سيقول ) هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين
بأن السفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت
المقدس إلى الكعبة وقيل إن ( سيقول ) بمعنى قال وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل
للدلالة على استدامته واستمرار عليه وقيل أن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول
إلى الكعبة وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوينا
لصدمته وتخفيفا لروعته وكسرا لسورته والسفهاء جمع سفيه وهو الكذاب البهات المعتمد
خلاف ما يعلم كذا قال بعض أهل اللغة وقال في الكشاف هم خفاف الأحلام ومثله في
القاموس وقد تقدم في تفسير قوله ) إلا من سفه نفسه ( ما ينبغي الرجوع إليه ومعنى (
ما ولاهم ) ما صرفهم ( عن قبلتهم التي كانوا عليها ) وهي بيت المقدس فرد الله
عليهم بقوله ( قل لله المشرق والمغرب ) فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء وفي
قوله ) يهدي من يشاء ( إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي ( صلى
الله عليه وسلم ) ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم
البقرة : ( 143 ) وكذلك جعلناكم أمة . . . . .
وقوله ( وكذلك جعلناكم ) أي مثل ذلك الجعل جعلناكم قيل معناه وكما أن الكعبة وسط
الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا والوسط الخيار أو العدل والآية محتملة للأمرين ومما
يحتملهما قول زهير هم وسط ترضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
ومثله قول الآخر أنتم اوسط حي علموا
بصغير الأمر أو إحدى الكبر
وقد ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي فوجب
الرجوع إلى ذلك ومنه قول الراجز لا تذهبن في الأمور مفرطا
لا تسألن إن سألت شططا
وكن من الناس جميعا وسطا
ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى
في عيسى ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم ويقال فلان أوسط قومه وواسطتهم أي
خيارهم وقوله ) لتكونوا شهداء على الناس ( أي يوم القيامة تشهدون للانبياء على
أممهم أنهم قد بلغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم ويكون الرسول شهيدا على أمته
بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم ومثله قوله تعالى ) فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ( قيل إن قوله ) عليكم ( يعني لكم أي يشهد لهم
بالإيمان وقيل معناه يشهد عليكم بالتبليغ لكم قال في الكشاف لما كان الشهيد
كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ومنه قوله تعالى ) والله على
كل شيء شهيد ( ) كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ( انتهى وقالت طائفة
معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت وقيل المراد لتكونوا شهداء على الناس في
الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول
""""""
صفحة رقم 151 """"""
وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله وإنما أخر لفظ ( على ) في شهادة
الأمة على الناس وقدمها في شهادة الرسول عليهم لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في
الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم وقوله
) وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ( قيل المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس أي ما
جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب ويؤيد هذا قوله ) كنت عليها ( إذا كان نزول هذه
الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة وقيل المراد الكعبة أي ما جعلنا القبلة التي أنت
عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض ويكون ( كنت ) بمعنى الحال
وقيل المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس فإنه كان يستقبل
في مكة الكعبة ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفا لليهود ثم صرف إلى الكعبة
وقوله ) إلا لنعلم ( قيل المراد بالعلم هنا الرؤية وقيل المراد إلا لتعلموا أنا
نعلم بأن المنافقين كانوا في شك وقيل ليعلم النبي وقيل المراد لنعلم ذلك موجودا
حاصلا وهكذا ما ورد معللا بعلم الله سبحانه لا بد أن يؤول بمثل هذا كقوله ) وليعلم
الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ( وقوله ) وإن كانت لكبيرة ( أي ما كانت إلا
كبيرة كما قاله الفراء في أن وإن أنهما بمعنى ما وإلا وقال البصريون هي الثقيلة
خففت والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله ) وما جعلنا القبلة التي كنت
عليها ( من التحويلة أو التولية أو الجعلة أو الردة ذكر معنى ذلك الأخفش ولا مانع
من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة أي وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها
لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان فانشرحت صدورهم لتصديقك وقبلت ما جئت به
عقولهم وهذا الاستثناء مفرغ لأن ما قبله في قوة النفي أي أنها لا تخف ولا تسهل إلا
على الذين هدى الله وقوله ) وما كان الله ليضيع إيمانكم ( قال القرطبي اتفق
العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس ثم قال فسمى الصلاة
إيمانا لاجتماعها على نية وقول وعمل وقيل المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند
تحويل القبلة وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم والأول يتعين القول به والمصير إليه
لما سيأتي من تفسيره ( صلى الله عليه وسلم ) للآية بذلك والرءوف كثير الرأفة وهي
أشد من الرحمة قال أبو عمرو بن العلاء الرافة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب وقرأ
أبو جعفر بن يزيد بن القعقاع ( لروف ) بغير همز وهي لغة بني أسد ومنه قول الوليد
بن عتبة وشر الغالبين فلا تكنه
يقاتل عمه الروف الرحيم
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أول ما
نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة
عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأن أول صلاة صلاها العصر وصلى معه
قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد
صليت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الكعبة فداروا كما هم قبل البيت وكانت
اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولي وجهه قبل البيت
أنكروا ذلك وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا فلم ندر
ما يقول فيهم فأنزل الله ) وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم
( وله طرق أخر وألفاظ متقاربة وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي
عن ابن عباس قال إن أول ما نسخ في القرآن القبلة وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في
ناسخه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي
بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعد ما تحول إلى المدينة ستة عشر شهرا ثم
صرفه الله إلى الكعبة وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدم وكذلك وردت أحاديث في
الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم
""""""
صفحة رقم 152 """"""
ذلك وقد كانوا في الصلاة فلا نطول بذكرها وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي
والترمذي وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والإسماعيلي في صحيحه والحاكم
وصححه عن أبي سعيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ) وكذلك جعلناكم أمة
وسطا ( قال عدلا وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
مثله وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي
وغيرهم عن أبي سعيد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يدعى نوح يوم
القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيدعي قومه فيقال لهم هل بلغكم فيقولون ما
أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته ) فذلك
قوله ) وكذلك جعلناكم أمة وسطا ( قال والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ
وأشهد عليكم وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد نحوه وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
( أن وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ود أنه
منا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه ) وأخرج ابن جرير عن
أبي سعيد في قوله ) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ( بأن الرسل
قد بلغوا ) ويكون الرسول عليكم شهيدا ( بما عملتم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن
أنس قال مروا بجنازة فأثنى عليها خيرا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وجبت
وجبت وجبت ومروا بجنازة فأثنى عليها شرا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجبت
وجبت وجبت فسأله عمر فقال من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا
وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله
في الأرض ) زاد الحكيم الترمذي ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكذلك
جعلناكم أمة وسطا ( الآية وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعا عند ابن المنذر
والحاكم وصححه ومنه عن عمر مرفوعا عند ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي
والنسائي ومنها عن أبي زهير الثقفي مرفوعا عند أحمد وابن ماجة والطبراني
والدارقطني في الإفراد والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن ومنها عن أبي هريرة
مرفوعا عند ابن جرير وابن أبي حاتم ومنها عن سلمة بن الأكوع مرفوعا عند ابن أبي
شيبة وابن جرير والطبراني وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله تعالى ) وما جعلنا
القبلة التي كنت عليها ( قال يعني بيت المقدس ( إلا لنعلم ) قال نبتليهم لنعلم من
يسلم لأمره وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس
في قوله ( إلا لنعلم ) قال لنميز أهل اليقين من أهل الشك ) وإن كانت لكبيرة ( يعني
تحويلها على أهل الشرك والريب وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال بلغني أن ناسا ممن
أسلم رجعوا فقالوا مرة ها هنا ومرة ها هنا وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن
جرير وابن المنذر وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال لما وجه رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى القبلة قالوا يا رسول الله فيكف بالذين ماتوا وهم
يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله ) وما كان الله ليضيع إيمانكم ( وقد تقدم حديث
البراء وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار عن السلف
البقرة 144 147
""""""
صفحة رقم 153 """"""
البقرة : ( 144 ) قد نرى تقلب . . . . .
قوله ) قد نرى تقلب وجهك ( قال القرطبي في تفسيره قال العلماء هذه الآية مقدمة في
النزول على قوله ) سيقول السفهاء ( ومعنى ( قد ) تكثير الرؤية كما قاله صاحب
الكشاف ومعنى ( تقلب وجهك ) تحول وجهك إلى السماء قاله قطرب ز وقال الزجاج تقلب
عينيك في النظر إلى السماء و المعنى متقارب وقوله ( فلنولينك ) هو إما من الولاية
أي فلنعطيك ذلك أو من التولي أي فلنجعلك متوليا إلى جهتها وهذا أولى لقوله ) فول
وجهك شطر المسجد الحرام ( والمراد بالشطر هنا الناحية والجهة وهو منتصب على
الظرفية ومنه قول الشاعر أقول لأم زنباع أقيمي
صدور العيس شطر بني تميم
ومنه أيضا قول الآخر ألا من مبلغ عمرا رسولا
وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقد يراد بالشطر النصف ومنه الوضوء شطر الإيمان ومنه قول عنترة إني امرؤ من خير
عبس منصبا
شطري وأحمي سائري بالمنصل
قال ذلك لأن أباه من سادات عبس وأمه أمة ويرد بمعنى البعض مطلقا ولا خلاف أن
المراد بشطر المسجد هنا الكعبة وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة
فرض على المعاين وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية ويستدل على ذلك بما يمكنه
الاستدلال به والضمير في قوله ( أنه الحق ) راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحول
إلى جهة الكعبة وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن انبيائهم أو وجدوا في
كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبي يستقبل الكعبة أو لكونهم قد علموا من كتبهم
أو أنبيائهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة فيكون ذلك موجبا عليهم الدخول في
الإسلام ومتابعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ) وما الله بغافل عما يعملون (
قد تقدم معناه وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالمثناة الفوقية على مخاطبة
أهل الكتاب أو أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأ الباقون بالياء التحتية
البقرة : ( 145 ) ولئن أتيت الذين . . . . .
وقوله ) ولئن أتيت ( هذه اللام هي موطئة للقسم والتقدير والله لئن أتيت وقوله ( ما
تبعوا ) جواب القسم المقدر قال الأخفش والفراء أجيب لئن بجواب لو لأن المعنى ولو
أتيت ومثله قوله تعالى ) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا ( أي ولو ارسلنا
وإنما قالا هكذا لأن لئن هي ضد لو وذلك أن الأولى تطلب في جوابها المضي والوقوع
ولئن تطلب في جوابها الاستقبال وقال سيبويه إن معنى لئن يخالف معنى لو فلا تدخل
إحداهما على الاخرى فالمعنى ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك
قال سيبويه و معنى ) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا ( ليظللن انتهى وفي هذه الآية
مبالغة عظيمة وهي متضمنة للتسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وترويح خاطرة
لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهان فضلا عن
برهان واحد وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق
""""""
صفحة رقم 154 """"""
لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق بل كان تركهم للحق تمردا
وعنادا مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء ومن كان هكذا فهو لاينتفع بالبرهان أبدا
وقوله ( وما أنت بتابع قبلتهم ) هذا الإحبار ممكن أن يكون بمعنى النهى من الله
سبحانه لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا تتبع يا محمد قبلتهم ويمكن أن يكون على
ظاهره دفعا لأطماع أهل الكتاب وقطعا لما يرجونه من رجوعه ( صلى الله عليه وسلم )
إلى القبلة التي كان عليها وقوله ( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ) فيه إخبار بأن
اليهود والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما عندهم
مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصة الله سبحانه على رسوله فإن
بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته قال في الكشاف وذلك أن اليهود تستقبل بيت
المقدس والنصارى تستقبل مطلع الشمس انتهى وقوله ( ولئن اتبعت أهواءهم ) إلى آخر
الآية فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة
وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو وسيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون وحاشاه من
الظالمين فما ظنك بغيره من أمته وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم
الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ولم تبق إلا دسيسة
شيطانية ووسيلة طاغوتية وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة
لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة أو
كانوا من ذوى الصولة وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه
اتباع أهوية أهل الكتاب كما يشبه الماء الماء والبيضة البيضة والتمرة التمرة وقد
تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل
الملل فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون
أحسنه وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك فلا يزالون ينقلون من يميل إلى
أهويتهم من بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة إلى شنعة حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه
منه وهو يظن أنه منه في الصميم وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم هذا إن
كان في عداد المقصرين ومن جملة الجاهلين وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين
الحق والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم وختم على قلبه وصار
نقمة على عباد الله ومصيبة صبها الله على المقصرين لأنهم يعتقدون أنه في علمه
وفهمه لا يميل إلا إلى الحق ولا يتبع إلا الصواب فيضلون بضلالة فيكون عليه إثمه
وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة نسأل الله اللطف والسلامة والهداية
البقرة : ( 146 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
وقوله ) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ( قيل الضمير لمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
أي يعرفون نبوته روى ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم وقيل يعرفون تحويل
القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي قدمنا ذكرها وبه قال جماعة من
المفسرين ورجح صاحب الكشاف الأول وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي
سيقت له هذه الآيات وقوله ) ليكتمون الحق ( هو عند أهل القول الأول نبوة محمد (
صلى الله عليه وسلم ) وعند أهل القول الثاني استقبال الكعبة
البقرة : ( 147 ) الحق من ربك . . . . .
وقوله ( الحق من ربك ) يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول ويحتمل أن يراد به جنس
الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله ( من ربك ) أي الحق هو الذي من
ربك لا من غيره وقرأ علي بن أبي طالب الحق بالنصب على أنه بدل من الأول أو منصوب
على الإغزاء أي إلزم الحق وقوله ) فلا تكونن من الممترين ( خطاب للنبي ( صلى الله
عليه وسلم )
""""""
صفحة رقم 155 """"""
الامتراء الشك نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه الحق من ربه أو في كون كتمانهم
الحق مع علمهم وعلى الأول هو تعريض للأمة أي لا يكن أحد من أمته من الممترين لأنه
( صلى الله عليه وسلم ) لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج ابن ماجة عن البراء قال صلينا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نحو
بيت المقدس ثمانية عشر شهرا وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في
السماء وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة فصعد جبريل فجعل رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) يتبعه بصره وهو يصع بين السماء والأرض ينظر ما يأتيه به فأنزل
الله ) قد نرى تقلب وجهك في السماء ( الآية فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
يا جبريل كيف حالنا في صلاتنا إلى بيت المقدس فانزل الله ) وما كان الله ليضيع
إيمانكم ( وأخرجه الطبراني من حديث معاذ مختصرا لكنه قال سبعة عشر شهرا وأخرج
عبدالرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير
والحاكم وصححه عن عبدالله بن عمرو في قوله تعالى ) فلنولينك قبلة ترضاها ( قال
قبلة إبراهيم نحو الميزاب وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن
أبي حاتم عن البراء في قوله ) فول وجهك شطر المسجد الحرام ( قال قبله وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن علي
مثله وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال ( شطره ) نحوه
واخرج البيهقي عن مجاهد مثله وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن أبي
العالية قال ) شطر المسجد الحرام ( تلقاءه وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال البيت
كله قبلة وقبلة البيت الباب وأخرج البيهقي في سننه عنه مرفوعا قال البيت قبلة لأهل
المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من
أمتي وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله ) وإن الذين أوتوا الكتاب ( قال أنزل ذلك في
اليهود وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) ليعلمون أنه الحق ( قال يعني بذلك
القبلة وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير عن أبي العالية نحوه وأخرج ابن جرير عن
السدي في قوله ) وما بعضهم بتابع قبلة بعض ( يقول ما اليهود بتابعي قبلة النصارى
ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود وأخرج عبدالرزاق عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن قتادة في قوله ) الذين آتيناهم الكتاب ( قال اليهود والنصارى ) يعرفونه (
قال يعرفون رسول الله في كتابهم ) كما يعرفون أبناءهم ( وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير عنه في قوله ) يعرفونه ( أي يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة وأخرج ابن جرير
عن الربيع مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) وإن فريقا منهم
ليكتمون الحق وهم يعلمون ( قال يكتمون محمدا وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير عن أبي العالية قال قال الله لنبيه (
صلى الله عليه وسلم ) ) الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ( يقول لا تكونن في شك
يا محمد أن الكعبة هي قبلتك وكانت قبلة الأنبياء من قبلك
البقرة 148 152
""""""
صفحة رقم 156 """"""
البقرة : ( 148 ) ولكل وجهة هو . . . . .
قوله ( ولكل ) بحذف المضاف إليه لدلالة التنوين عليه أي لكل أهل دين وجهة والوجهة
فعلة من المواجهة وفي معناها الجهة والوجه والمراد القبلة أي أنهم لا يتبعون قبلتك
وأنت لا تتبع قبلتهم ) ولكل وجهة ( إما بحق وإما بباطل والضمير في قوله ) هو
موليها ( راجع إلى لفظ كل والهاء في قوله ) موليها ( هي المفعول الأول والمفعول
الثاني محذوف أي موليها وجهه والمعنى أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها
وجهه أو لكل منكم يا أمة محمد قبلة يصلي إليها من شرق أو غرب أو جنوب أو شمال إذا
كان الخطاب للمسلمين ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه وإن لم يجز له ذكر إذ هو
معلوم أن الله فاعل ذلك والمعنى أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه وحكى
الطبري أن قوما قرءوا ( ولكل وجهة ) بالإضافة ونسب هذه القراءة أبو عمرو الداني
إلى ابن عباس قال في الكشاف والمعنى وكل وجهة الله موليها فزيدت اللام لتقدم
المفعول كقولك لزيد ضرب ولزيد أبوه ضاربه انتهى وقرأ ابن عباس وابن عامر ( مولاها
) على ما لم يسم فاعلة قال الزجاج والضمير على هذه القراءة لواحد أي ولكل واحد من
الناس قبلة الواحد مولاها أي مصروف إليها وقوله ) فاستبقوا الخيرات ( أي إلى
الخيرات على الحذف والايصال أي بادروا إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام
كما يفيده السياق وإن كان ظاهره الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير كما
يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات والمراد من الاستباق إلا الاستقبال
الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها ومعنى قوله ) أين ما تكونوا يأت بكم الله ( أي
في أي جهة من الجهات المختلفة تكونوا يأت بكم الله للجزاء يوم القيامة أو يجمعكم
جميعا ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة
البقرة : ( 149 ) ومن حيث خرجت . . . . .
وقوله ) ومن حيث خرجت ( كرر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة وللاهتمام به
لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم وقيل وجه التكرير أن النسخ من مظان
الفتنة ومواطن الشبهة فإذا سمعوه مرة بعد أخرى ثبتوا واندفع ما يختلج في صدورهم
وقيل إنه كرر هذا الحكم لتعدد علله فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل الأولى
ابتغاء مرضاته والثانية جرى العادة الإلهية أن يولي كل أهل ملة وصاحب دعوة جهة
يستقل بها والثالثة دفع حجج المخالفين فقرن بكل علة معلولها وقيل أراد بالأول ول
وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها ثم قال وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر
المساجد بالمدينة وغيرها فولوا وجوهكم شطره
البقرة : ( 150 ) ومن حيث خرجت . . . . .
ثم قال ) ومن حيث خرجت ( يعني وجوب الاستقبال في الأسفار فكان هذا أمر بالتوجه إلى
الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض وقوله ) لئلا يكون للناس عليكم حجة ( قيل
لئلا يكون لليهود عليكم حجة إلا للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة
إلا ميلا إلى دين قومه
""""""
صفحة رقم 157 """"""
فعلى هذا المراد بالذين ظلموا المعاندون من أهل الكتاب وقيل هم مشركوا العرب
وحجتهم قولهم راجعت قبلتنا وقيل معناه لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم
قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها وقال أبو عبيدة إن إلا ها هنا بمعنى الواو
أي والذين ظلموا فهو استثناء بمعنى الواو ومنه قول الشاعر ما بالمدينة دار غير
واحدة
دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه قال إلا دار الخليفة ودار مروان وأبطل الزجاج هذا القول وقال إنه استثناء
منقطع أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون ومعناه إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد
وضح له كما تقول ما لك علي حجة إلا أن تظلمني أي ما لك علي حجة البتة ولكنك تظلمني
وسمى ظلمه حجة لأن المجتج بها سماه حجة وإن كانت داحضة وقال قطرب يجوز أن يكون
المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا فالذين بدل من الكاف والميم
في عليكم ورجح ان جرير الطبري أن الاستثناء متصل وقال نفى الله أن يكون لأحد حجة
على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في استقبالهم الكعبة والمعنى لا حجة
لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم وقالوا إن محمدا تحير في دينه
وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا أهدى منه وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من
عابد وثن أو من يهودي أو منافق قال والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة
والمجادلة وسماها تعالى حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم ورجح ابن عطية أن
الاستثناء منقطع كما قال الزجاج قال القرطبي وهذا على أن يكون المراد بالناس
اليهود ثم استثنى كفار العرب كأنه قال لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد إلى
قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله وقوله ) فلا تخشوهم ( يريد الناس أي لا تخافوا
مطاعنهم فإنها داحضة باطلة لا تضركم وقوله ) ولأتم نعمتي عليكم ( معطوف على ) لئلا
يكون ( أي ولأن أتم قاله الأخفش وقيل هو مقطوع عما قبله في موضع رفع بالابتداء
والخبر مضمر والتقدير ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي قاله الزجاج وقيل معطوف على
علة مقدرة كأنه قيل واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم وإتمام النعمة الهداية إلى
القبلة وقيل دخول الجنة
البقرة : ( 151 ) كما أرسلنا فيكم . . . . .
وقوله ) كما أرسلنا ( الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف والمعنى ولأتم
نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا قاله الفراء ورجحه ابن عطية وقيل الكاف في موضع
نصب على الحال والمعنى ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال والتشبيه واقع على أن
النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة وقيل معنى الكلام على التقديم والتأخير أي
فاذكروني كما أرسلنا قاله الزجاج
البقرة : ( 152 ) فاذكروني أذكركم واشكروا . . . . .
وقوله ) فاذكروني أذكركم ( أمر وجوابه وفيه معنى المجازاة قال سعيد بن جبير ومعنى
الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة حكاه عنه القرطبي في تفسيره وأخرجه
عنه عبد بن حميد وابن جرير وقد روى نحوه مرفوعا كما سيأتي وقوله ) واشكروا لي (
قال الفراء شكر لك وشكرت لك والشكر معرفة الإحسان والتحدث به وأصله في اللغة
الطهور وقد تقدم الكلام فيه وقوله ) ولا تكفرون ( نهي ولذلك حذفت نون الجماعة وهذه
الموجوده في الفعل هي نون المتكلم وحذفت الياء لأنها رأس آية وإثباتها حسن في غير
القرآن والكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب وقد تقدم الكلام فيه
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) ولكل وجهة هو موليها ( قال
يعني بذلك أهل الأديان يقول لكل قبلة يرضونها وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في
تفسير هذه الآية صلوا إلى بيت المقدس مرة ونحو الكعبة مرة أخرى وأخرج أبو داود في
ناسخه عن قتادة نحوه وأخرج ابن جرير عن
""""""
صفحة رقم 158 """"""
قتادة في قوله ) فاستبقوا الخيرات ( يقول لا تغلبن على قبلتكم وأخرج ابن جرير عن
ابن زيد في قوله ) فاستبقوا الخيرات ( قال الأعمال الصالحة وأخرج ابن أبي حاتم عن
أبي العالية في قوله ) فاستبقوا الخيرات ( يقول فسارعوا في الخيرات ) أين ما
تكونوا يأت بكم الله جميعا ( قال يوم القيامة وأخرج ابن جرير من طريق السدي عن ابن
عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قال لما صرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نحو
الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة تحير على محمد دينه
فتوجه بقبلته إليكم وعلم أنكم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم فأنزل الله )
لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ( وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله ) لئلا يكون للناس عليكم حجة ( قال يعني بذلك
أهل الكتاب حين صرف نبي الله إلى الكعبة قالوا اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال حجتهم قولهم قد أحب قبلتنا وأخرج أبو
داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن قتادة ومجاهد في قوله ) إلا الذين ظلموا
منهم ( قال الذين ظلموا منهم مشركو قريش أنهم سيحتجون بذلك عليكم واحتجوا على نبي
الله بانصرافه إلى البيت الحرام وقالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا فأنزل
الله في ذلك كله ) يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع
الصابرين ( وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) كما أرسلنا فيكم رسولا
منكم ( يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
عن مجاهد في قوله ) كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ( يقول كما فعلت فاذكروني وأخرج
أبو الشيخ والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى
الله عليه وسلم ) ) فاذكروني أذكركم ( يقول اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم
بمغفرتي وأخرج الديلمي وابن عساكر مثله مرفوعا من حديث أبي هند الداري وزاد فمن
ذكرني وهو مطيع فحق علي أن أذكره بمغفرتي ومن ذكرني وهو لي عاص فحق علي أن أذكره
بمقت وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس يقول الله ذكري لكم خير من ذكركم لي وقد ورد
في فضل ذكر الله على الإطلاق وفضل الشكر أحاديث كثيرة
البقرة 153 157
ل
البقرة : ( 153 ) يا أيها الذين . . . . .
ما فرغ سبحانه من إرشاد عباده إلى ذكره وشكره عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة
بالصبر والصلاة فإن من جمع بين ذكر الله وشكره واستعان بالصبر والصلاة على تأدية
ما أمر الله به ودفع ما يرد عليه من المحن فقد هدى إلى الصواب ووفق إلى الخير وإن
هذه المعية التي أوضحها الله بقوله ) إن الله مع الصابرين ( فيها أعظم ترغيب
لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب فمن كان الله معه لم يخش من
الأهوال وإن كانت
""""""
صفحة رقم 159 """"""
كالجبال
البقرة : ( 153 ) يا أيها الذين . . . . .
وأموات وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين أي لا تقولوا لمن يقتل في سبيل
الله هم أموات بل هم أحياء ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد
سلب أرواحهم لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم
الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقارة من ماء البحر وليسوا كذلك
في الواقع بل هم أحياء في البرزخ وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر ولا اعتداد
بخلاف من خالف في ذلك فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه الآيات القرآنية
ومثل هذه الآية قوله تعالى ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء
عند ربهم يرزقون )
البقرة : ( 155 ) ولنبلونكم بشيء من . . . . .
والبلاء أصله المحنة ومعنى نبلوكم نمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا
وتنكير شيء للتقليل أي بشيء قليل من هذه الأمور وقرأ الضحاك بأشياء والمراد بالخوف
ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدو أو غيره وبالجوع المجاعة التي تحصل عند
الجدب والقحط وبنقص الأموال ما يحدث فيها بسبب الحوائج وما أوجبه الله فيها من
لزكاة ونحوها وبنقص الأنفس الموت والقتل في الجهاد وبنقص الثمرات ما يصيبها من
الآفات وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها وقيل المراد بنقص
الثمرات موت الأولاد وقوله ( وبشر الصابرين ) أمر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم
) أو لكل من يقدر على التبشير وقد تقدم معنى البشارة والصبر أصله الحبس ووصفهم
بأنهم المسترجعون عند المصيبة لأن ذلك تسليم ورضا
البقرة : ( 156 ) الذين إذا أصابتهم . . . . .
والمصيبة واحدة المصائب وهي النكبة التي يتأذى بها الإنسان وإن صغرت وقوله ) إنا
لله وإنا إليه راجعون ( فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين
فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله والاعتراف بالبعث والنشور
البقرة : ( 157 ) أولئك عليهم صلوات . . . . .
ومعنى الصلوات هنا المغفرة والثناء الحسن قاله الزجاج وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد
التأكيد وقال في الكشاف الصلاة الرحمة والتعطف فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين
الرحمة كقوله رأفة ورحمة ) لرؤوف رحيم ( والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد
رحمة بعد رحمة انتهى وقيل المراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة و ) المعتدون (
قد تقدم معناه وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب
من الاسترجاع والتسليم
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف قال غشى علي
عبدالرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها حتى قاموا من عنده
وجللوه ثوبا وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من
الصبر والصلاة فلبثوا ساعة وهو في غشيته ثم أفاق وأخرج ابن منده في المعرفة عن ابن
عباس قال قتل تميم بن الحمام ببدر وفيه وفي غيره نزلت ) ولا تقولوا لمن يقتل في
سبيل الله أموات ( الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال ) في سبيل الله (
في طاعة الله في قتال المشركين وقد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور
خضر تأكل من ثمار الجنة فمنها عن كعب بن مالك مرفوعا عند أحمد والترمذي وصححه
والنسائي وابن ماجة وروى أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض كما أخرجه
عبدالرزاق عن قتادة قال بلغنا فذكر ذلك وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضا
بنحوه وروى أنها على صور طيور خضر كما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان
عن أبي العالية وأخرجه ابن أبي شيبة في البعث والنشور عن كعب وأخرجه هناد بن السري
عن هذيل وأخرجه عنه عبدالرزاق في المصنف عن عبدالله بن كعب بن مالك مرفوعا وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء في قوله ) ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع (
""""""
صفحة رقم 160 """"""
قال هم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله ) ولنبلونكم ( الآية
قال أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها وأمرهم بالصبر
وبشرهم فقال ) وبشر الصابرين ( وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع
عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير الصلاة من الله والرحمة وتخفيف سبيل
الهدى وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من استرجع عند المصيبة جبر الله
مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله ) ونقص من الثمرات ( قال يأتي على
الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس
قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم أن
يقولوا عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون وقد ورد في فضل الاسترجاع عند
المصيبة أحاديث كثيرة
البقرة 158
البقرة : ( 158 ) إن الصفا والمروة . . . . .
( أصل ) الصفا في اللغة الحجر الأملس وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف وكذلك (
المروة ) علم لجبل بمكة معروف وأصلها في اللغة واحدة المروى وهي الحجارة الصغار
التي فيها لين وقيل التي فيها صلابة وقيل تعم الجميع قال أبو ذؤيب حتى كأني
للحوادث مروة
بصفا المشقر كل يوم تقرع
وقيل إنها الحجارة البيض البراقة وقيل إنها الحجارة السود والشعائر جمع شعيرة وهي
العلامة أي من أعلام مناسكه والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاما
للناس من الموقف والسعي والمنحر ومنه إشعار الهدى أي إعلامه بغرز حديدة في سنامه
ومه قول الكميت نقتلهم جيلا فجيلا تراهم
شعائر قربان بهم يتقرب
وحج البيت في اللغة قصده ومنه قول الشاعر وأشهد من عوف حئولا كثيرة
يحجون سب الزبرقان المزعفرا
السب العمامة
وفي الشرع الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه والعمرة في اللغة الزيارة
وفي الشرع الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة والجناح أصله من الجنوح وهو
الميل ومنه الجوانح لإعوجاجها وقوله ) يطوف ( أصله يتطوف فأدغم وقريء أن يطوف رفع
الجناح يدل على عدم الوجوب وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري
حكم الطواف وسبب نزول الآيات
وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول إنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم
وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين ومما يقوى
دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية ) ومن تطوع خيرا فإن الله
شاكر عليم ( وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك واستدلوا بما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها أرأيت قول الله ) إن الصفا
والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما (
""""""
صفحة رقم 161 """"""
فما أرى على أحد جناحا أن لا يطوف بهما فقالت عائشة بئس ما قلت با ابن أختي إنها
لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت أن
الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها وكان من أهل
لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله ) إن الصفا والمروة من
شعائر الله ( الآية قالت عائشة ثم قد بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الطواف
بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما وأخرج مسلم وغيره عنها أنها قالت لعمري ما أتم
الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته لأن الله قال ) إن الصفا والمروة
من شعائر الله ( وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال سئل رسول الله ( صلى الله عليه
وسلم ) فقال ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ) وأخرج أحمد في مسنده والشافعي
وابن سعد وابن المنذر وابن قانع والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجرأة قالت ( رأيت رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم
يسعى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول اسعوا فإن الله عز وجل كتب
عليكم السعي ) وهو في مسند أحمد من طريق شيخه عبدالله بن المؤمل عن عطاء بن أبي
رباح عن صفية بنت شيبة عنها ورواه من طريق أخرى عن عبدالرزاق أخبرنا معمر عن واصل
مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها فذكرته ويؤيد
ذلك حديث ( خذوا عني مناسككم ) اه
البقرة 159 163
البقرة : ( 159 ) إن الذين يكتمون . . . . .
قوله ( إن الذين يكتمون ) إلى آخر الآية فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون
واختلفو من المراد بذلك فقيل أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد (
صلى الله عليه وسلم ) وقيل كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه وهو
الراجح لأن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول فعلى فرض أن
سب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل
من كتم الحق وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره فإن من لعنه الله
ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي
تلحق ولا يدرك كنهها وفي قوله ) من البينات والهدى ( دليل على أنه يجوز كتم غير
ذلك كما قال أبو هريرة ( حفظت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعاءين أما
أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ) أخرجه البخارى والضمير في
قوله ) من بعد ما بيناه ( راجع إلى ما أنزلنا والكتاب اسم جنس وتعريفه يفيد شموله
لجميع الكتب وقيل المراد به التوراة واللعن الإبعاد والطرد والمراد بقوله )
اللاعنون ( الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره ورجحه ابن عطية وقيل كل من يتأتى
منه
""""""
صفحة رقم 162 """"""
اللعن فيدخل في ذلك الجن وقيل هم الحشرات والبهائم
البقرة : ( 160 ) إلا الذين تابوا . . . . .
وقوله ) إلا الذين تابوا ( إلخ فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من أعمالهم
والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله
البقرة : ( 161 ) إن الذين كفروا . . . . .
قوله ( وماتوا وهم كفار ) هذه الجملة حالية وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن
كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه ( صلى الله عليه
وسلم ) من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم وقيل يجوز
لعنه عملا بظاهر الحال كما يجوز قتاله قوله ) أولئك عليهم لعنة الله ( إلخ استدل
به على جواز لعن الكفار على العموم قال القرطبي ولا خلاف في ذلك قال وليس لعن
الكافر بطريق الزجر له عن الكفر بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره سواء كان
الكافر عاقلا أو مجنونا وقال قوم من السلف لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم لا
بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر قال ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار
عن الله والملائكة والناس بلعنهم لا على الأمر به قال ابن العربي إن لعن العاصي
المعين لا يجوز باتفاق لما روى ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بشارب خمر
مرارا فقال بعض من حضر لعنه الله ما أكثر ما يشربه فقال النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم ) والحديث في الصحيحين وقوله ( والناس
أجمعين ) قيل هذا يوم القيامة وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر ومن يعلم
بالعاصي ومعصيته ومن لا يعلم فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس وقيل في الدنيا
والمراد أنه يلعنه غالب الناس أو كل من علم بمعصيته منهم
البقرة : ( 162 ) خالدين فيها لا . . . . .
وقوله ) خالدين فيها ( أي في النار وقيل في اللعنة والإنظار الإمهال وقيل معنى لا
ينظرون لا ينظر الله إليهم فهو من النظر وقيل هو من الإنتظار أي لا ينتظرون
ليعتذروا وقد تقدم تفسير ) الرحمن الرحيم )
البقرة : ( 163 ) وإلهكم إله واحد . . . . .
وقوله ) وإلهكم إله واحد ( فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك والإشارة إلى
أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال سأل معاذ
بن جبل أخو بني سلمة وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل وخارجه بن زيد أخو بني الحارث بن
الخزرج نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم
فأنزل الله فيهم ) إن الذين يكتمون ما أنزلنا ( الآية وقد روى عن جماعة من السلف
أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وآله وأخرج
ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال كنا في جنازة مع النبي
( صلى الله عليه وسلم ) فقال إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة غير
الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله تعالى ) ويلعنهم اللاعنون ( يعني
دواب الأرض وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال الجن والإنس وكل دابة وأخرج عبدالرزاق
وعبد بن حميد عن مجاهد قال إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم وأخرج عنه عبد
بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان قال في تفسير
الآية إن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه وأخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر قال
يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد
لفاعلة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله ) إلا الذين تابوا وأصلحوا (
قال أصلحوا ما بينهم وبين الله وبينوا الذين جاءهم من الله ولم يكتموه ولم يجحدوه
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ) أتوب عليهم ( يعني أتجاوز عنهم
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
""""""
صفحة رقم 163 """"""
أبي العالية قال إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم
يلعنه الناس أجمعون وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن قتادة قال يعني بالناس أجمعين
المؤمنين وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله ) خالدين فيها ( يقول خالدين في
جهنم في اللعنة وقال في قوله ) ولا هم ينظرون ( يقول لا ينظرون فيعتذرون وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) ولا هم ينظرون ( قال لا يؤخرون وأخرج ابن أبي شيبة
وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( اسم الله الأعظم في هاتين الايتين )
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( الم الله لا إله إلا هو الحي
القيوم ) وأخرج الديلمي عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ليس شيء أشد
على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة ) وإلهكم إله واحد ( الايتين
البقرة 164
البقرة : ( 164 ) إن في خلق . . . . .
لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله ) وإلهكم إله واحد ( عقب ذلك بالدليل الدال عليه وهو
هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من
أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها أو يقتدر عليه أو على بعضه
وهي خلق السموات وخلق الأرض وتعاقب الليل والنهار وجرى الفلك في البحر وإنزال
المطر من السماء وإحياء الأرض به وبث الدواب منها بسببه وتصريف الرياح فإن من أمعن
نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له وضاق ذهنه عن تصور حقيقته وتحتم عليه
التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه وإنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء
من جنس غير جنس الأخرى ووحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب والمراد
باختلاف الليل والنهار تعاقبهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر وإضاءة أحدهما وإظلام
الآخر والنهار ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس وقال النضر بن شميل أول النهار
طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار وكذا قال ثعلب واستشهد بقول أمية بن أبي
الصلت والشمس تطلع كل آخر ليلة
حمراء يصبح لونها يتورد
وكذا قال الزجاج وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام قسما جعله ليلا محضا
وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقسما جعله نهارا محضا وهو من طلوع الشمس إلى
غروبها وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس
لبقايا ظلمة الليل ومبادىء ضوء النهار هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة وأما في الشرع
فالكلام في ذلك معروف والفلك السفن وإفراده وجمعه بلفظ واحد وهو هذا ويذكر ويؤنث
قال الله تعالى ) في الفلك المشحون ( ) والفلك التي تجري في البحر ( وقال ) حتى
إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ( وقيل واحدة فلك بالتحريك مثل أسد وأسد وقوله ) بما
ينفع الناس ( يحتمل أن تكون ما موصولة
""""""
صفحة رقم 164 """"""
أي بالذي ينفعهم أو مصدرية أي بنفعهم والمراد بما أنزل من السماء المطر الذي به
حياة العالم وإخراج النبات والأرزاق والبث النشر والظاهر أن قوله ) بث ( معطوف على
قوله ) فأحيا ( لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر وقال في الكشاف إن الظاهر
عطفه على أنزل والمراد بتصريف الرياح إرسالها عقيما وملقحة وصرا ونصرا وهلاكا
وحارة وباردة ولينة وعاصفة وقيل تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا ودبورا وصبا ونكبا
وهي التي تأتي بين مهبي ريحين وقيل تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها
والصغار كذلك ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر والسحاب سمى سحابا لإنسحابه
في الهواء وسحبت ذيلي سحبا وتسحب فلان على فلان اجترأ والمسخر المذلل وسخره بعثه
من مكان إلى آخر وقيل تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق والأول
أظهر والايات الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر بعقله
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال قالت قريش للنبي ( صلى الله
عليه وسلم ) ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا نتقوى به على عدونا فأوحى الله إليه
إني معطيهم فأجعل لهم الصفا ذهبا ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه
أحدا من العالمين فقال رب دعني وقومي فأدعوهم يوما بيوم فأنزل الله هذه الآية
وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير وأخرج وكيع والفريابي وآدم ابن
أبي إياس وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في
العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الضحى قال لما نزلت ) وإلهكم إله واحد (
عجب المشركون وقالوا إن محمدا يقول ) وإلهكم إله واحد ( فليأتنا بآية إن كان من
الصادقين فأنزل الله ) إن في خلق السماوات والأرض ( الآية وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء نحوه وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن سلمان
قال الليل موكل به ملك يقال له شراهيل فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء فدلاها
من قبل المغرب فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين وقد أمرت الشمس أن
لا تغرب حتى ترى الخرزة فإذا غربت جاء الليل فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيء ملك
آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع فإذا رآها شراهيل مد إليه
خرزته وترى الشمس الخرزة البيضاء فتطلع وقد أمرت أن لا تطلع حتى تراها فإذا طلعت
جاء النهار وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله ) والفلك ( قال السفينة واخرج
ابن أبي حاتم عن السدي قال ( بث ) خلق وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم
عن قتادة في قوله ) وتصريف الرياح ( قال إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب وبشرا
بين يدي رحمته وإذا شاء جعلها عذابا ريحا عقيما لا تلقح وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
بن كعب قال كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة وكل شيء في القرآن من الريح فهي
عذاب وقد رود في النهي عن سب الريح وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية
البقرة 165 167
""""""
صفحة رقم 165 """"""
البقرة : ( 165 ) ومن الناس من . . . . .
لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم
سلطانه وجليل قدرته وتفرده بالخلق وقد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندا يعبده
من الأصنام وقد تقدم تفسير الأنداد مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة
الأنداد بل أحبوها حبا عظيما وأفرطوا في ذلك إفراطا بالغا حتى صار حبهم لهذه
الأوثان ونحوها متمكنا في صدورهم كتمكن حب المؤمنين لله سبحانه فالمصدر في قوله )
كحب الله ( مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف وهو المؤمنون ويجوز أن يكون المراد
كحبهم لله أي عبدة الأوثان قاله ابن كيسان والزجاج ويجوز أن يكون هذا المصدر من
المبني للمجهول أي كما يحب الله والأول أولى لقوله ) والذين آمنوا أشد حبا لله (
فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي أي أن حب المؤمنين لله أشد من حب
الكفار للأنداد لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء والكفار لا يخصون
أصنامهم بذلك بل يشركون الله معهم ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم
إلى الله ويمكن أن يجعل هذا أعني قوله ) والذين آمنوا أشد حبا لله ( دليلا على
الثاني لأن المؤمنين إذا كانوا أشد حبا لله لم يكن حب الكفار للأنداد كحب المؤمنين
لله وقيل المراد بالأنداد هنا الرؤساء أي يطيعونهم في معاصي الله ويقوى هذا الضمير
في قولهم ) يحبونهم ( فإنه لمن يعقل ويقويه أيضا قوله سبحانه عقب ذلك ) إذ تبرأ
الذين اتبعوا ( الآية قوله ? ولو ترى الذين ظلموا ? قراءة أهل مكة والكوفة وأبو
عمرو بالياء التحتية وهو اختيار أبي عبيد وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية
والمعنى على القراءة الأولى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين
يرونه أن القوة لله جميعا قاله أبو عبيد قال النحاس وهذا القول هو الذي عليه أهل
التفسير انتهى وعلى هذا فالرؤية هي البصرية لا القلبية وروى عن محمد بن يزيد
المبرد أنه قال هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد وليست عبارته فيه بالجيدة
لأنه يقدر ولو يرى الذين ظلموا العذاب فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه الله
تعالى ولكن التقدير وهو الأحسن ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله ويرى بمعنى يعلم
أي لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه قال وجواب لو محذوف أي لتبينوا ضرر
اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله ) ولو ترى إذ وقفوا على النار ( ) ولو ترى إذ
وقفوا على ربهم ( ومن قرأ بالفوقية فالتقدير ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال
رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا وقد كان النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) علم ذلك ولكن خوطب بهذا الخطاب والمراد به أمته وقيل ) إن ( في موضع نصب
مفعول لأجله أي لأن القوة لله كما قال الشاعر واغفر عوراء الكريم ادخاره
وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
أي لإدخاره والمعنى ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة
لله لعلمت مبلغهم من النكال ودخلت ( إذا ) وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا
للأمر وتصحيحا لوقوعه وقرأ ابن عامر ( إذ يرون ) بضم الياء والباقون بفتحها وقرأ
الحسن ويعقوب وأبو جعفر ( إن القوة وإن الله ) بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف
وعلى تقدير القول
البقرة : ( 166 ) إذ تبرأ الذين . . . . .
قوله ) إذ تبرأ الذين اتبعوا ( بدل من قوله ) إذ يرون العذاب ( ومعناه
""""""
صفحة رقم 166 """"""
أن السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر وقوله ) ورأوا العذاب ( في محل
نصب على الحال يعني التابعين والمتبوعين قيل عند المعاينة في الدنيا وقيل عند
العرض والمساءلة في الآخرة ويمكن أن يقال فيهما جميعا إذ لا مانع من ذلك قوله )
وتقطعت بهم الأسباب ( هي جمع سبب وأصله في اللغة الحبل الذي يشد به الشيء ويجذب به
ثم جعل كل ما جر شيئا سببا والمراد بها الوصل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا
من الرحم وغيره وقيل هي الأعمال
البقرة : ( 167 ) وقال الذين اتبعوا . . . . .
والكرة الرجعة والعودة إلى حال قد كانت ولو هنا في معنى التمني كأنه قيل ليت لنا
كرة ولهذا وقعت الفاء في الجواب والمعنى أن الأتباع قالوا لو رددنا إلى الدنيا حتى
نعمل صالحا ونتبرأ منهم كما تبرءوا منا والكاف في قوله ) كما تبرؤوا منا ( في محل
نصب على النعت لمصدر محذوف وقيل في محل نصب على الحال ولا أراه صحيحا وقوله ) كذلك
يريهم الله ( في موضع رفع أي الأمر كذلك أي كما أراهم الله العذاب يريهم أعمالهم
وهذه الرؤية إن كانت البصرية فقوله ) حسرات ( منتصب على الحال وإن كانت القلبية
فهو المفعول الثالث والمعنى أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم
حسرات أو يريهم الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها فيكون ذلك حسرة عليهم
وقوله ) وما هم بخارجين من النار ( فيه دليل على خلود الكفار في النار وظاهر هذا
التركيب يفيد الاختصاص وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب والبحث في
هذا يطول
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله ) ومن الناس من يتخذ من دون الله
أندادا ( قال مباهاة ومضاررة للحق بالأنداد ) والذين آمنوا أشد حبا لله ( قال من
الكفار لالهتهم وأخرج ابن جرير عن أبي زيد في هذه الآية قال هؤلاء المشركون
أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله ) والذين
آمنوا أشد حبا لله ( من حبهم لآلهتهم وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال
الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله وأخرج
عبد بن حميد عن عكرمة نحو ما قال ابن زيد وأخرج ابن جرير عن الزبيري في قوله ) ولو
يرى الذين ظلموا ( قال ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم فاتخذوا من دوني أندادا
يحبونهم كحبكم إياي حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم لعلمتم أن القوة
كلها لي دون الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئا ولا تدفع عنهم عذابا أحللت
بهم وايقنتهم أني شديد عاذبي لمن كفر بي وادعى معي إلها غيري وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن قتادة في قوله ) إذ تبرأ الذين اتبعوا ( قال هم الجبابرة والقادة
والرءوس في الشرك ) من الذين اتبعوا ( قال هم الشياطين تبرءوا من الإنس وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله )
وتقطعت بهم الأسباب ( قال المودة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال هي المنازل
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال هي الأرحام وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو
نعيم في الحلية عن مجاهد قال هي الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا والمودة وأخرج
عبد بن حميد عن أبي صالح قال هي الأعمال وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع
قال هي المنازل وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله ) لو أن لنا كرة (
قال رجعة إلى الدنيا وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) حسرات ( قال
صارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله
) وما هم بخارجين من النار ( قال أولئك أهلها الذين هم أهلها وأخرج ابن أبي حاتم
عن ثابت بن معبد قال ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت ) وما هم
بخارجين من النار (
""""""
صفحة رقم 167 """"""
البقرة 168 171
البقرة : ( 168 ) يا أيها الناس . . . . .
قوله ) يا أيها الناس ( قيل إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على
أنفسهم من الأنعام حكاه القرطبي في تفسيره ولكن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب وقوله ) حلالا ( مفعول أو حال وسمي الحلال حلالا لإنحلال عقدة الحظر عنه
والطيب هنا هو المستلذ كما قاله الشافعي وغيره وقال مالك وغيره هو الحلال فيكون
تأكيدا لقوله ) حلالا ( ومن في قوله ) مما في الأرض ( للتبعيض للقطع بأن في الأرض
ما هو حرام ( وخطوات ) جمع خطوة بالفتح والضم وهي بالفتح للمرة وبالضم لما بين
القدمين وقرأ القراء خطؤات بفتح الخاء وقرأ أبو سماك بفتح الخاء والطاء وقرأ علي
وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش ( خطؤات ) بضم الخاء والطاء والهمز على
الواو قال الأخفش وذهبوا بهذه القراءة ألى أنها جمع خطية من الخطأ لا من الخطو قال
الجوهري والخطوة بالفتح المرة الواحدة والجمع خطوات وخطا انتهى والمعنى على قراءة
الجمهور لا تقفوا أثر الشيطان وعمله وكل ما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان
وقيل هي النذور والمعاصي والأولى التعميم وعدم التخصيص بفرد أو نوع وقوله ) إنه
لكم عدو مبين ( أي ظاهر العداوة ومثله قوله تعالى ) إنه عدو مضل مبين ( وقوله ) إن
الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا )
البقرة : ( 169 ) إنما يأمركم بالسوء . . . . .
وقوله ) بالسوء ( سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته وهو مصدر ساءه يسوؤه
سوءا ومساءة إذا أحزنه ) والفحشاء ( أصله سوء المنظر ومنه قول الشاعر وجيد كجيد
الرئم ليس بفاحش
ثم استعمل فيما يقبح من المعاني وقيل السوء القبيح والفحشاء التجاوز للحد في القبح
وقيل السوء ما لا حد فيه والفحشاء ما فيه الحد وقيل الفحشاء الزنا وقيل إن كل ما
نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء وقوله ) وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( قال
ابن جرير الطبري يريد ما حرموه من البحيرة والسائبة ونحوهما مما جعلوه شرعا وقيل
هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم والظاهر أنه يصدق على كل ما قيل في الشرع
بغير علم وفي هذه الآية دليل على أن كل ما لم يرد فيه نص أو ظاهر من الأعيان
الموجودة في الأرض فأصله الحل حتى يرد دليل يقتضي تحريمه وأوضح دلالة على ذلك من
هذه الآية قوله تعالى ) هو الذي خلق لكم ما في الأرض )
البقرة : ( 170 ) وإذا قيل لهم . . . . .
والضمير في قوله ) وإذا قيل لهم ( راجع إلى الناس لأن الكفار منهم وهم المقصودون
هنا وقيل كفر العرب خاصة و ) ألفينا ( معناه وجدنا والألف في قوله ) أولو كان
آباؤهم ( للإستفهام وفتحت الواو لأنها واو العطف وفي هذه الآية من الذم للمقلدين
والنداء بجهلهم الفاحش واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره ومثل هذه الآية قوله
تعالى ) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا
عليه آباءنا ( الآية وفي ذلك دليل على قبح التقليد والمنع منه والبحث في ذلك يطول
وقد أفردته بمؤلف مستقل سميته القول المفيد في حكم التقليد واستوفيت
""""""
صفحة رقم 168 """"""
الكلام فيه في أدب الطلب ومنتهى الأرب
البقرة : ( 171 ) ومثل الذين كفروا . . . . .
وقوله ) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق ( فيه تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم وهو
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا يسمع إلا دعاء
وندء ولا يفهم ما يقول هذا فسره الزجاج والفراء وسيبويه وبه قال جماعة من السلف
قال سيبويه لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به والمعنى مثلك يا محمد ومثل
الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم فحذف لدلالة المعنى
عليه وقال قطرب المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم يعني الأصنام كمثل
الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي وبه قال ابن جرير الطبري وقال ابن زيد
المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى
فهو يصيح بما لا يسمع ويجيبه ما لا حقيقة فيه والنعيق زجر الغنم والصياح بها يقال
نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقانا أي صاح بها وزجرها والعرب تضرب المثل
براعي الغنم في الجهل ويقولون أجهل من راعي ضأن وقوله ( صم ) وما بعده أخبار
لمبتدإ محذوف أي هم صم بكم عمى وقد تقدم تفسير ذلك
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال ( تليت هذه الآية عند النبي ( صلى الله عليه
وسلم ) يعني ) يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ( فقام سعد بن أبي وقاص
فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال يا سعد أطب مطعمك تكن
مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه فما
يتقبل منه أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به ) وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله ) ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( قال عمله وأخرج
ابن أبي حاتم عنه أنه قال ( ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان ) وأخرج عبد بن
حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال خطاه
وأخرجا أيضا عن عكرمة قال هي نزغات الشيطان وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال
هي تزيين الشيطان وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال كل معصية لله فهي من
خطوات الشيطان وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال ما كان من يمين أو نذر في غضب
فهو من خطوات الشيطان وكفارته كفارة يمين وأخرج عبدالرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن
حميد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه أتى بضرع وملح فجعل
يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود ناولوا صاحبكم فقال لا أريد فقال أصائم
أنت قال لا قال فما شأنك قال حرمت على نفسى أن آكل ضرعا فقال ابن مسعود هذا من
خطوات الشيطان فأطعم وكفر عن يمينك وأخرج عبد بن حميد عن عثمان بن غياث قال سألت
جابر بن زيد عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب فقال هي من خطوات الشيطان ولا
يزال عاصيا لله فليكفر عن يمينه وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه جعل يمين من حلف
أن يحج حبوا من خطوات الشيطان وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال هي
النذور في المعاصي وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله ) إنما يأمركم بالسوء ( قال
المعصية ) والفحشاء ( قال الزنا وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
عباس قال دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه
وحذرهم عذاب الله ونقمته فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف بل نتبع يا محمد ما
وجدنا عليه آباءنا هم كانوا أعلم وخيرا منا فأنزل الله في ذلك ) وإذا قيل لهم
اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ( وأخرج ابن جرير عن
الربيع وقتادة في قوله ) ألفينا ( قالا وجدنا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
""""""
صفحة رقم 169 """"""
عباس في قوله ) ومثل الذين كفروا ( الآية قال كمثل البقر والحمار والشاة إن قلت
لبعضهم كلاما لم يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو
نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك وروى نحو ذلك عن مجاهد
أخرجه عبد بن حميد وعن عكرمة أخرجه وكيع واخرج ابن جرير عن ابن جريج قال قال لي
عطاء في هذه الآية هم اليهود الذين أنزل الله فيهم ) إن الذين يكتمون ما أنزل الله
من الكتاب ( إلى قوله ) فما أصبرهم على النار (
البقرة 172 173
البقرة : ( 172 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله ) كلوا من طيبات ما رزقناكم ( هذا تأكيد للأمر الأول أعني قوله ) يا أيها
الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ( وإنما خص المؤمنين هنا لكونهم أفضل أنواع
الناس قيل والمراد بالأكل الانتفاع وقيل المراد به الأكل المعتاد وهو الظاهر قوله
) واشكروا لله ( قد تقدم أنه يقال شكره وشكر له يتعدى بنفسه وبالحرف وقوله ) إن
كنتم إياه تعبدون ( أي تخصونه بالعبادة كما يفيده تقدم المفعول
البقرة : ( 173 ) إنما حرم عليكم . . . . .
قوله ) إنما حرم عليكم الميتة ( قرأ أبو جعفر ( حرم ) على البناء للمفعول و ( إنما
) كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه وقد حصرت ها هنا التحريم
في الأمور المذكورة بعدها قوله ) الميتة ( قرأ ابن أبي عبلة بالرفع ووجه ذلك أنه
يجعل ( ما ) في ( إنما ) موصولة منفصلة في الخط والميتة وما بعدها خبر الموصول
وقراءة الجميع بالنصب وقرأ أبو جعفر بن القعقاع الميتة بتشديد الياء وقد ذكر أهل
اللغة أنه يجوز في ميت التخفيف والتشديد والميتة ما فارقها الروح من غير ذكاة وقد
خصص هذا العموم بمثل حديث ( أحل لنا ميتتان ودمان ) أخرجه أحمد وابن ماجة
والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا ومثل حديث جابر في العنبر
الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى ) أحل لكم صيد البحر ( فالمراد بالميتة هنا ميتة
البر لا ميتة البر وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها
وميتها وقال بعض أهل العلم إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر وتوقف
ابن حبيب في خنزير الماء وقال ابن القاسم وأنا أتقيه ولا أراه حراما قوله ( والدم
) قد اتفق العلماء على أن الدم حرام وفي الآية الأخرى ) أو دما مسفوحا ( فيحمل
المطلق على المقيد لأن ما خلط باللحم غير محرم قال القرطبي بالإجماع وقد روت عائشة
أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم فيأكل ذلك النبي ( صلى الله
عليه وسلم ) ولا ينكره قوله ( ولحم الخنزير ) ظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني
قوله تعالى ) قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو
دما مسفوحا أو لحم خنزير ( أن المحرم إنما هو اللحم فقط وقد أجمعت الأمة على تحريم
شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته
الشحم وحكى القرطبي الإجماع أيضا على أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه تجوز
الخرازة به قوله ) وما أهل به لغير الله ( الإهلال رفع الصوت يقال أهل بكذا أي رفع
صوته قال الشاعر يصف فلاة
""""""
صفحة رقم 170 """"""
تهل بالفرقد ركبانها
كما يهل الراكب المعتمر
وقال النابغة أو درة صدفية غواصها
بهج متى يرها يهل ويسجد
ومنه إهلال الصبي واستهلاله وهو صياحه عند ولادته والمراد هنا ما ذكر عليه اسم غير
الله كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنيا والنار إذا كان الذابح مجوسيا ولا خلاف
في تحريم هذا وأمثاله ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم فإنه
مما أهل به لغير الله ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن قوله ) فمن اضطر ( قريء بضم
النون للإتباع وبكسرها على الأصل في التقاء الساكنين وفيه إضمار أي فمن اضطر إلى
شيء من هذه المحرمات وقرأ ابن محيصن بإدغام الضاد في الطاء وقرأ أبو السماك بكسر
الطاء والمراد من صيره الجوع والعدم إلى الإضطرار إلى الميتة قوله ) غير باغ ( نصب
على الحال قيل المراد بالباغي من يأكل فوق حاجته والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو
يجد عنها مندوحة وقيل غير باغ على المسلمين وعاد عليهم فيدخل في الباغي والعادي
قطاع الطريق والخارج على السلطان وقاطع الرحم ونحوهم وقيل المراد غير باغ على مضطر
آخر ولا عاد سدا لجوعة
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ) كلوا من طيبات ما رزقناكم ( قال
من الحلال وأخرج ابن سعد عن عمر بن عبدالعزيز أن المراد بما في الآية طيب الكسب لا
طيب الطعام وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنها حلال الرزق وأخرج أحمد ومسلم والترمذي
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال )
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( وقال ) يا
أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر
يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي
بالحرام فأنى يستجاب له ) وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله ) وما أهل ( قال
ذبح وأخرج ابن جرير عنه قال ) وما أهل به ( للطواغيت وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد
قال ما ذبح لغير الله وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال ما ذكر عليه اسم غير
الله وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ) غير باغ ولا عاد ( يقول من أكل
شيئا من هذه وهو مضطر فلا حرج ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله ) غير باغ ( قال في الميتة ) ولا عاد ( قال في
الأكل وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن مجاهد في قوله ) غير باغ ولا عاد ( قال غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم
فمن خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل أو يفسد في الأرض أو مفارقا للجماعة والأئمة أو
خرج في معصية الله فاضطر إلى الميتة لم تحل له وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن
سعيد بن جبير قال العادي الذي يقطع الطريق وقوله ) فلا إثم عليه ( يعني في أكله )
إن الله غفور رحيم ( لمن أكل من الحرام رحيم به إذ أحل له الحرام في الاضطرار
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ) فمن اضطر غير باغ ولا عاد ( غير باغ في أكله ولا عاد
يتعدى الحلال إلى الحرام وهو يجد عنه بلغة ومندوحة
البقرة 174 176
""""""
صفحة رقم 171 """"""
البقرة : ( 174 ) إن الذين يكتمون . . . . .
قوله ) إن الذين يكتمون ( قيل المراد بهذه الآية علماء اليهود لأنهم كتموا ما أنزل
الله في التوراة من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والاشتراء هنا الاستبدال وقد
تقدم تحقيقه وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته وهذا السبب وإن كان خاصا
فالاعتبار بعموم اللفظ وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله وأخذ عليه الرشا وذكر
البطون دلالة وتأكيدا أن هذا الأكل حقيقة إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضى
ونحوه وقال في الكشاف إن معنى ) في بطونهم ( ملء بطونهم قال يقول أكل فلان في بطنه
واكل في بعض بطنه انتهى وقوله ) إلا النار ( أي أنه يوجب عليهم عذاب النار فسمى ما
أكلوه نارا لأنه يؤول بهم اليها هكذا قال أكثر المفسرين وقيل إنهم يعاقبون على
كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ومثله قوله سبحانه ) إن الذين يأكلون أموال
اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ( وقوله ) ولا يكلمهم الله ( فيه كناية
عن حلول غضب الله عليهم وعدم الرضا عنهم قال فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه وقال
ابن جرير الطبري المعنى ولا يكلمهم بما يحبونه لا بما يكرهونه كقوله تعالى )
اخسؤوا فيها ولا تكلمون ( وقوله ) ولا يزكيهم ( معناه لا يثني عليهم خيرا قاله
الزجاج وقيل معناه لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم
البقرة : ( 175 ) أولئك الذين اشتروا . . . . .
وقوله ) اشتروا الضلالة بالهدى ( قد تقدم تحقيق معناه وقوله ) فما أصبرهم على
النار ( ذهب جمهور ومنهم الحسن ومجاهد إلى أن معناه التعجب والمراد تعجيب
المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار فكأنهم بهذه
المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم
على النار من قولهم ما أصبر فلانا على الحبس أي ما أبقاه فيه وقيل المعنى ما أقل
جزعهم من النار فجعل قلة الجزع صبرا وقال الكسائي وقطرب أي ما أدومهم على عمل أهل
النار وقيل ( ما ) استفهامية ومعناه التوبيخ أي أي شيء أصبرهم على عمل النار قاله
ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة
البقرة : ( 176 ) ذلك بأن الله . . . . .
) ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ( الإشارة باسم الإشارة إلى الأمر أي ذلك الأمر
وهو العذاب قاله الزجاج وقال الأخفش إن خبر اسم الإشارة محذوف والتقدير ذلك معلوم
والمراد بالكتاب هنا القرآن ( بالحق ) أي بالصدق وقيل بالحجة وقوله ) وإن الذين
اختلفوا في الكتاب ( قيل المراد بالكاب هنا التوراة فادعى النصارى أن فيها صفة
عيسى وأنكرهم اليهود وقيل خالفوا ما في التوراة من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم
) واختلفوا فيها وقيل المراد القرآن والذين اختلفوا كفار قريش يقول بعضهم هو سحر
وبعضهم يقول هو اساطير الأولين وبعضهم يقول غير ذلك ) لفي شقاق ( أي خلاف ) بعيد (
عن الحق وقد تقدم معنى الشقاق
الآثار الوارده في تفسير الآيات
وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله ) إن الذين يكتمون ما أنزل الله ( قال نزلت في
اليهود وأخرج ابن جرير عن السدي قال كتموا اسم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأخذوا
عليه طمعا قليلا وأخرج ابن جرير أيضا عن أبي العالية نحوه وأخرج الثعلبي عن ابن
عباس بسندين ضعيفين أنها نزلت في اليهود وأخرج
""""""
صفحة رقم 172 """"""
ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله ) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ( قال
اختاروا الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة ) فما أصبرهم على النار ( قال ما
أجرأهم على عمل النار وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن
مجاهد في قوله ) فما أصبرهم على النار ( قال ما أعملهم بأعمال أهل النار وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير وابن المنذر في قوله ) فما أصبرهم على النار ( قال والله ما لهم
عليها من صبر ولكن يقول ما أجرأهم على النار وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه وأخرج
ابن جرير أيضا عن السدي في الآية قال هذا على وجه الاستفهام يقول ما الذي أصبرهم
على النار وقوله ) وإن الذين اختلفوا في الكتاب ( قال هم اليهود والنصارى ) لفي
شقاق بعيد ( قال في عداوة بعيدة
البقرة 177
البقرة : ( 177 ) ليس البر أن . . . . .
قوله ) ليس البر ( قرأ حمزة وحفص بالنصب على أنه خبر ليس والاسم ) أن تولوا ( وقرأ
الباقون بالرفع على أنه الإسم قيل إن هذه الآية نزلت للرد على اليهود والنصارى لما
أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى
الكعبة وقيل إن سبب نزولها أنه سأل رسول الله سائل وسيأتي ذلك آخر البحث إن شاء
الله وقوله ) قبل المشرق والمغرب ( قيل أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى
لأنهم يستقبلون مطلع الشمس وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود لأنهم يستقبلون بيت
المقدس وهو في جهة الغرب منهم إذ ذاك وقوله ) ولكن البر ( هو اسم جامع للخير وخبره
محذوف تقديره بر من آمن قاله الفراء وقطرب والزجاج وقيل إن التقدير ولكن ذو البر
من آمن ووجه هذا التقدير الفرار عن الإخبار باسم العين عن اسم المعنى ويجوز أن
يكون البر بمعنى البار وهو يطلق المصدر على اسم الفاعل كثيرا ومنه في التنزيل ) إن
أصبح ماؤكم غورا ( أي غائرا وهذا اختيار أبي عبيدة والمراد بالكتاب هنا الجنس أو
القرآن والضمير في قوله ) على حبه ( راجع إلى المال وقيل راجع إلى الإيتاء المدلول
عليه بقوله ) وآتى المال ( وقيل إنه راجع إلى الله سبحانه أي على حب الله والمعنى
على الاول أنه أعطى المال وهو يحبه ويشح به ومنه قوله تعالى ) لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون ( والمعنى على الثاني أنه يحب إيتاء المال وتطيب به نفسه والمعنى
على الثالث أنه أعطى من تضمنته الآية في حب الله عز وجل لا لغرض آخر وهو مثل قوله
) ويطعمون الطعام على حبه ( ومثله قوله زهير إن الكريم على علاته هرم
وقدم ذوي القربى لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء هكذا اليتامى
الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى لعدم قدرتهم على الكسب
والمسكين الساكن إلي ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئا ) وابن السبيل ( المسافر
المنقطع وجعل ابنا للسبيل لملازمته له وقوله
""""""
صفحة رقم 173 """"""
( وفي الرقاب ) أي في معاونة الأرقاء الذين كاتبهم المالكون لهم وقيل المراد شراء
الرقاب وإعتاقها وقيل المراد فك الأسارى وقوله ) وآتى الزكاة ( فيه دليل على أن
الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوع لا صدقة الفريضة وقوله ) والموفون ( قيل هو معطوف
على ( من آمن ) كأنه قيل ولكن البر المؤمنون والموفون قاله الفراء والأخفش وقيل هو
مرفوع على الابتداء والخبر محذوف وقيل هو خبر لمبتدإ محذوف أي هم الموفون وقيل إنه
معطوف على الضمير في آمن وأنكره أبو علي وقال ليس المعنى عليه وقوله ) والصابرين (
منصوب على المدح كقوله تعالى ) والمقيمين الصلاة ( ومنه ما أنشده أبو عبيدة لا
يبعدن قومي الذين هم
سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معركة
والطيبين معاقد الأزر
وقال الكسائي هو معطوف على ذوي القربى كأنه قال وآتى الصابرين وقال النحاس إنه خطأ
قال الكسائي وفي قراءة عبدالله ? والموفين والصابرين ? قال النحاس يكونان على هذه
القراءة منسوقين على ذوي القربى أو على المدح وقرأ يعقوب والأعمش ? والموفون
والصابرون ? بالرفع فيهما ( والبأساء ) الشدة والفقر ( والضراء ) المرض والزمانة (
وحين البأس ) قيل الراد وقت الحرب والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء ولا فعل
لهما لأنهما اسمان وليسا بنعت وقوله ( صدقوا ) وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم
والوفاء بها وأنهم كانوا جادين وقيل المراد صدقوهم القتال والأول أولى
الآثار الوارده في تفسير الآيات وسبب النزول
وقد أخرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
عن الإيمان فتلا ) ليس البر أن تولوا وجوهكم ( حتى فرغ منها ثم سأله أيضا فتلاها
ثم سأله فتلاها قال وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك وأخرج
عبد بن حميد وابن مردويه عن القاسم بن عبدالرحمن قال جاء رجل إلى أبي ذر فقال ما
الإيمان فتلا عليه هذه الآية ثم ذكر له نحو الحديث السابق وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في هذه الآية قال يقول ليس البر أن تصلوا ولا تعلموا هذا حين
تحول من مكة إلى المدينة وأنزلت الفرائض واخرج عنه ابن جرير أنه قال هذه الآية
نزلت بالمدينة يقول ليس البر أن تصلوا ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال ذكر لنا أن رجلا سأل النبي
( صلى الله عليه وسلم ) عن البر فأنزل الله ) ليس البر ( الآية وأخرج عبدالرزاق
وابن جرير عن قتادة قال كانت اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق فنزلت (
ليس البر ) الآية وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية مثله وأخرج
عبدالرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم
والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله )
وآتى المال على حبه ( قال يعطي وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخاف الفقر وأخرج عنه
مرفوعا مثله وأخرج البيهقي في الشعب عن المطلب ( أنه قيل يا رسول ما آتى امال على
حبه فكلنا نحبه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تؤتيه حين تؤتيه ونفسك تحدثك
بطول العمر والفقر ) وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ) وآتى المال على
حبه ( يعني على حب المال وأخرج عنه أيضا في قوله ) ذوي القربى ( يعني قرابته وقد
ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي
الرحم ثنتان صدقة وصلة ) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن
ماجة والحاكم والبيهقي في سننه
""""""
صفحة رقم 174 """"""
من حديث سلمان بن عامر الضبي وفي الصحيحين وغيرهما من حديث زينب إمرأة ابن مسعود (
أنها سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هل تجزي عنها من الصدقة النفقة على
زوجها وأيتام في حجرها فقال لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة ) وأخرج الطبراني
والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) يقول ( أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) وأخرج أحمد
والدارمي والطبراني من حديث حكيم بن حزام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نحوه
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال هو الذي يمر بك وهو مسافر وأخرج ابن جرير عن عكرمة في
قوله ( والسائلين ) قال السائل الذي يسألك وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في
قوله ( وفي الرقاب ) قال يعني فك الرقاب وأخرج أيضا عنه قوله ) وأقام الصلاة (
يعني وأتم الصلاة المكتوبة ) وآتى الزكاة ( يعني الزكاة المفروضة وأخرج الترمذي
وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي والدارقطني وابن مردويه
عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( في المال حق سوى
الزكاة ثم قرأ ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) الآية ) وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن أبي العالية في قول ( والموفون بعهدهم ) قال فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله
ينتقم منه ومن أعطى ذمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم غدر بها فالنبي ( صلى
الله عليه وسلم ) خصمه واخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ) والموفون
بعهدهم إذا عاهدوا ( يعني فيما بينهم وبين الناس وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد
وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال (
البأساء ) الفقر ( والضراءة ) السقم ( وحين البأس ) حين القتال وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن قتادة نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ) أولئك
الذين صدقوا ( قال فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية وأخرج ابن جرير عن الربيع في
قوله ) أولئك الذين صدقوا ( قال تكلموا بكلام الإيمان فكانت حقيقة العمل صدقوا
الله قال وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل فإن لم يكن مع القول عمل
فلا شيء
البقرة 178 179
البقرة : ( 178 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله ( كتب ) معناه فرض وأثبت ومنه قوله عمر بن أبي ربيعة كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك وقيل إن ( كتب ) هنا إشارة إلى
ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ و ( القصاص ) أصله قص الأثر أي أتباعه ومنه
القاص لأنه يتتبع الآثار وقص الشعر اتباع أثره فكأن القاتل يسلك طريقا من القتل
يقص أثره فيها ومنه قوله تعالى ) فارتدا على آثارهما قصصا ( قيل إن
""""""
صفحة رقم 175 """"""
القصاص مأخوذ من القص وهو القطع يقال قصصت ما بينهما أي قطعته وقد استدل بهذه
الآية القائلون بأن الحر لا يقتل بالعبد وهم الجمهور وذهب أبو حنيفة وأصحابه
والثوري وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به قال القرطبي وروى ذلك عن علي وابن
مسعود وبه قال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم بن عتيبة واستدلوا
بقوله تعالى ) وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ( وأجاب الأولون عن هذا
الاستدلال بأن قوله تعالى ) الحر بالحر والعبد بالعبد ( مفسر لقوله تعالى ) النفس
بالنفس ( وقالوا أيضا إن قوله ) وكتبنا عليهم فيها ( يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه
الله لبني إسرائيل في التوراة ومن جملة ما استدل به الاخرون قوله ( صلى الله عليه
وسلم ) ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) ويجاب عنه بأنه مجمل والآية مبينة ولكنه يقال
إن قوله تعالى ) الحر بالحر والعبد بالعبد ( إنما أفاد بمنطوقه أن الحر يقتل بالحر
والعبد يقتل بالعبد وليس فيه ما يدل على أن الحر لا يقتل بالعبد إلا باعتبار
المفهوم فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم
لم يلزمه القول به هنا والبحث في هذا محرر في علم الأصول وقد استدل بهذه الآية
القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر وهم الكوفيون والثوري لأن الحر يتناول الكافر
كما يتناول المسلم وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم
واستدلوا أيضا بقوله تعالى إن النفس بالنفس لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما
تصدق على النفس المسلمة وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر واستدلوا بما
ورد من السنة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا يقتل مسلم بكافر وهو مبين
لما يراد في الآيتين والبحث في هذا يطول واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا
يقتل بالأنثى وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة
الزيادة على ديتها من دية الرجل وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو
ثور وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة وهو الحق وقد بسطنا البحث
في شرح المنتقى فليرجع إليه قوله ) فمن عفي له من أخيه شيء ( من هنا عبارة عن
القائل والمراد بالأخ المقتول أو الولي والشيء عبارة عن الدم والمعنى أن القاتل أو
الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه أو الولي دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئا
من الدية أو الأرش فليتبع المجني عليه الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك
اتباعا بالمعروف وليؤد الجاني ما لزمه من الدية أو الأرش إلى المجني عليه أو إلى الولي
أداء بإحسان وقيل إن ( من ) عبارة عن الولي والأخ يراد به القاتل والشيء الدية
والمعنى أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية فإن القاتل مخير
بين أن يعطيها أو يسلم نفسه للقصاص كما روى عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك
وذهب من عداه إلى أنه لا يخير بل إذا رضى الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل
يلزمه تسليمها قيل معنى ( عفي ) بذل أي من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع
بالمعروف وقيل إن المراد بذلك أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات
فيكون عفي بمعنى فضل وعلى جميع التقادير فتنكير شيء للتقليل فيتناول العفو عن
الشيء اليسير من الدية والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة وقوله ) فاتباع (
مرتفع بفعل محذوف أي فليكن منه اتباع أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالأمر اتباع
وكذا قوله ) وأداء إليه بإحسان ( وقوله ) ذلك تخفيف ( إشارة إلى العفو والدية أي
أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض أو بعوض ولم يضيق عليهم كما ضيق على
اليهود فإنه أوجب عليهم القصاص ولا عفو وكما ضيق على النصارى فإنه أوجب عليهم
العفو ولا دية قوله ) فمن اعتدى بعد ذلك ( أي بعد التخفيف نحو أن يأخذ الدية ثم
يقتل القاتل أو يعفو ثم يستقص وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد
""""""
صفحة رقم 176 """"""
أخذ الدية فقال جماعة منهم مالك والشافعي إنه كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله
وإن شاء عفا عنه وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم عذابه أن يقتل ألبتة ولا يمكن
الحاكم الولي من العفو وقال الحسن عذابه أن يرد الدية فقط ويبق أثمه إلى عذاب
الآخرة وقال عمر بن عبدالعزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ا رأى
البقرة : ( 179 ) ولكم في القصاص . . . . .
قوله ) ولكم في القصاص حياة ( أي لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة لأن
الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخرا كف عن القتل وانزجر عن التسرع إليه
والوقوع فيه فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الانسانية وهذا نوع من البلاغة بليغ
وجنس من الفصاحة رفيع فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من
ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم وجعل هذا
الخطاب موجها إلى أولي الألباب لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ويتحامون ما فيه
الضرر الآجل وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة عضبه
وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ولا يفكر في أم