الفصل في الملل والأهواء والنحل
الكلام في الوجه واليد والعين والجشنب والقدم
والتنزل والعزة والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع قال أبو محمد قال الله عز وجل.
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
فذهبت المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم وقال الآخرون وجه الله تعالى إنما يراد به الله عز وجل قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته لما قدمنا من إبطال القول بالتجسيم وقال أبو الهذيل وجه الله هو الله قال أبو محمد وهذا لا ينبغي أن يطلق لأنه تسمية وتسمية الله تعالى لا تجوز إلا بنص ولكنا نقول وجه الله ليس هو غير الله تعالى ولا نرجع منه إلى شيء سوى الله تعالى برهان ذلك قول الله تعالى حاكياً عمن رضي قوله.
إنما نطعمكم لوجه الله.
فصح يقيناً أنهم لم يقصدوا غير الله تعالى وقوله عز وجل.
أينما تولوا فثم وجه الله.
إنما معناه فثم الله تعالى بعلمه وقبوله لمن توجه إليه وقال تعالى.
يد الله فوق أيديهم.
وقال تعالى.
لما خلقت بيدي.
وقال تعالى.
مما عملت أيدينا أنعاماً.
وقال.
بل يداه مبسوطتان.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين فذهبت المجسمة إلى ما ذكرنا مما قد سلف من بطلان قولهم فيه وذهبت المعتزلة إلى أن اليد النعمة وهو أيضاً لا معنى له لأنها دعوى بلا برهان وقال الأشعري إن المراد بقول الله تعالى أيدينا إنما معناه اليدان وإن ذكر الأعين إنما معناه عينان وهذا باطل مدخل في قول المجسمة بل نقول إن هذا إخبار عن الله تعالى لا يرجع من ذكر اليد إلى شيء سواه تعالى ونقر أن لله تعالى كما قال يداً ويدين وأيدي وعين وأعيناً كما قال عز وجل.
ولتصنع على عيني.
وقال تعالى.
فإنك بأعيننا.
ولا يجوز لأحد أن يصف الله عز وجل بأن له عينين لأن النص لم يأت بذلك ونقول إن المراد بكل ما ذكرنا الله عز وجل لا شيء غيره وقال تعالى حاكياً عن قول قائل.
قال يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.
وهذا معناه فيما يقصد به إلى الله عز وجل وفي جنب عبادته وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلتا يديه يمين وعن يمين الرحمن فهو مثل قوله.
وما ملكت أيمانكم.
يريد وما ملكتم ولما كانت اليمين في لغة العرب يراد بها الحظ للأفضل كما قال الشماخ إذا ما راية رفعت لمحمدٍ تلقاها عرابه باليمين يريد أنه يتلقاها بالسعي الأعلى كان قوله وكلتا يديه يمين أي كل ما يكون منه تعالى من الفضل فهو الأعلى وكذلك صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أن جهنم لا تمتلىء حتى يضع فيها قدمه وصح أيضاً في الحديث حتى يضع فيها رجله ومعنى هذا ما قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر صحيح أخبر فيه أن الله تعالى بعد يوم القياممة يخلق خلقاً يدخلهم الجنة وأنه تعالى يقول للجنة والنار لكل واحدة منكما ملؤها فمعنى القدم في الحديث المذكور إنما هو كما قال تعالى.
إن لهم قدم صدق عند ربهم.
يريد سالف صدق فمعناه الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم ومعنى رجله نحو ذلك لأن الرجل الجماعة في اللغة أي يضع فيها الجماعة التي قد سبق في علمه تعالى أنه يملأ جهنم بها وكذلك الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الله عز وجل أي بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله عز وجل ونعمه إما كفاية تسره وإما بلاء يأجره عليه والاصبع في اللغة النعمة وقلب كل واحد بين توفيق الله وجلاله وكلاهما حكمه عز وجل وأخبر عليه السلام أن الله يبدوا للمؤمن يوم القيامة في غير الصورة التي عرفوها وهذا ظاهر بين وهو أنهم يرون صورة الحال من الهول والمخافة غير التي يظنون في الدنيا وبرهان صحة هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور غير الذي عرفتموه بها وبالضرورة نعلم أننا لم نعلم لله عز وجل في الدنيا صورة أصلاً فصح ما ذكرناه يقيناً وكذلك القول في الحديث الثابت خلق الله آدم على صورته فهذه إضافة ملكٍ يريد الصورة التي تخيرها الله سبحانه وتعالى ليكون آدم مصور عليها وكل فاضل في طبقته فإنه ينسب إلى الله عز وجل كما نقول بيت الله عن الكعبة والبيوت كلها بيوت الله تعالى ولكن لا يطلق على شيء منها هذا الاسم كما يطلق على المسجد الحرام وكما نقول في جبريل وعيسى عليهما السلام روح الله والأرواح كلها لله عز وجل ملك له وكالقول في ناقة صالح عليه السلام ناقة الله والنوق كلها لله عز وجل فعلى هذا المعنى قيل على صورة الرحمن والصور كلها لله تعالى هي ملك له وخلق له وقد رأيت لابن فورك وغيره من الأشعرية في الكلام في هذا الحديث أنهم قالوا في معنى قوله عليه السلام أن الله خلق آدم على صورته إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيه وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله كل ذلك قال أبو محمد هذا نص كلام أبي جعفر السمعاني عن شيوخه حرفاً حرفاً وهذا كفر مجرد لا مرية فيه لأنه سوى بين الله عز وجل وآدم في الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيهما والله يقول ليس كمثله شيء ثم لم يقنعوا بها حتى جعلوا سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز وجل ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن سجودهم لله تعالى سجود عبادة ولآدم سجود تحية وإكرام ومن قال إن الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عز وجل فقد اشرك ثم زاد في الأمر والنهي لآدم على ذريته كما هو لله تعالى وهذا شرك لا خفاء به ولوددنا أن نعرف ما هي صفات الكمال التي ذكر هذا الإنسان أنها اجتمعت في آدم كما اجتمعت في الله عز وجل أن هذا الإلحاد والاستخفاف بالله تعالى لا ندري كيف تكلم وأنطق لسانه من يعرف أن الله تعالى لم يكن له كفواً أحد ووالله إن صفات الكمال في الملائكة لأكثر منها في آدم وإن صفات الاثنين التي شاركوا فيها آدم عليه السلام كصفات الجن ولا فرق بين الحياة والعلم والقوة والتناسل وغير ذلك فالكل على هذا على صورة الله تعالى هذا القول الملعون قائلة ونعوذ بالله من الضلال وكذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة أن الله عز وجل يكشف عن ساق فيخرون سجداً فهذا كما قال الله عز وجل في القرآن.
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود.
وإنما هو إخبار عن شدة الأمر وهو الموقف كما تقول العرب قد شمرت الحرب عن الأدب سامي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا والعجب مما ينكر هذه الأخبار الصحاح وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصاً ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به وقد عاب الله هذا فقال.
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله.
واختلف الناس في الأمر والرحمة والعزة فقال قوم هي صفات ذات لم تزل وقال آخرون لم يزل الله تعالى الله العزيز الرحمن الرحيم بذاته وأما الرحمة والأمر فمخلوقان قال أبو محمد والرجوع عند الاختلاف إنما هو إلى القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى.
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.
ففعلنا فوجدنا الله تعالى يقول.
وكان أمر الله مفعولا.
والمفعول مخلوق بلا خلاف وقال الله تعالى.
والله غالب على أمره.
وبلا شك في أن المغلوب عليه مخلوق وأنه غير الغالب عليه وقال تعالى.
لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
وهذا بيان جلي لا إشكال فيه على أن الأمر محدث وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث من أمره ما شاء فصح بيقين أن أمر الله تعالى محدث مخلوق وقال الأشعرية لم يزل الله تعالى آمراً لكل من أمره بما يأمره به إذا وجد قال أبو محمد وهذا باطل متيقن لأنه لو كان كذلك لكان الله تعالى لم يزل آمراً لنا بالصلاة إلى بيت المقدس لم يزل آمراً لنا بأن لا نصلي إلى بيت المقدس لكن إلى الكعبة فيكون آمراً بالفعل للشيء والترك له معاً وهذا تخليط جل الله تعالى عنه وأيضاً قاله يلزمهم في نهي الله تعالى عما نهى عنه أنه لم يزل لأنه لا فرق بين أمره تعالى وبين نهيه فإن قالوا بل نهيه محدث وأمره قديم قلنا لهم ما قولكم فيمن عكس عليكم فقال بل نهيه لم يزل وأما أمره فمحدث وكلا القولين تخليط وأيضاً فإنهم مقرون بأن القديم لا يتغير ولا يبطل وقد صحح أمره تعالى لنا بالصلاة إلى بيت المقدس ثم قد بطل الأمر بذلك وعدم وانقطع فلو كان أمره تعالى لم يزل لوجب أن لا يبطل ولا يعدم وهذا كفر مجرد ممن أجازه وإن قالوا إن أمره تعالى لنا بالصلاة إلى بيت المقدس باق أبداً لم يسقط ولا نسخ ولا بطل ولا أحاله تعالى بأمر آخر كفروا بلا خلاف والذي يدخل على هذا القول الفاسد أكثر من هذا وقال تعالى.
قل الروح من أمر ربي.
فلو كان الأمر غير مخلوق ولم يزل لكان الروح كذلك لأنه منه ومعاذ الله من هذا ولا خلاف بين المسلمين في أن أرواحهم مخلوقة وكيف لا يكون كذلك وهي معذبة في النار أو منعمة في الجنة وقال.
يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبوح قدوس رب الملائكة والروح قال أبو محمد والمربوب مخلوق بلا شك فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل.
الإله الخلق والأمر.
ورام بهذا إثبات أن الخلق غير الأمر فلا حجة له في هذا لأن الله عز وجل قال.
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك.
فقد فرق الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بين الخلق والتسوية والتعديل والتصوير ولا خلاف في أن كل هذا خلق مخلوق وقال تعالى.
خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم.
فعطف تعالى الرزق والإماتة والإحياء على الخلق بلفظة ثم فلو كان عطف الأمر على الخلق دليلاً على أن الأمر غير الخلق لوجب ولا بد أن يكون الرزق والإماتة والإحياء والتصوير كلها غير الخلق وغير مخلوقات وهذا لا يقوله مسلم فبطل استدلالهم على أن الأمر غير مخلوق لعطفه على الخلق وقد عطف تعالى جبريل على الملائكة فليس العطف على الشيء مخرجاً له عنه إذا قام برهان على أنه داخل فيه وقد قام برهان النص بأن أمر الله تعالى مخلوق وأنه قدر مقدور مفعول وأما إذا لم يأت برهان يدخل المعطوف في المعطوف عليه فهو غيره بلا شك هذا حكم اللغة وبالله تعالى التوفيق وأما العزة فقد قال الله تعالى.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
قال أبو محمد والمربوب مخلوق بلا شك وليس قوله تعالى.
فلله العزة جميعاً.
بموجب أن العزة لم تزل لأنه تعالى قال.
فلله المكر جميعاً.
وقال تعالى.
قل لله الشفاعة جميعاً.
وليس هذان النصان بلا خلاف موجبين أن الشفاعة غير مخلوق إلا أن ها هنا عزة ليست غير الله تعالى فهي غير مخلوقة وهي التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام حلف بها فقال وعزتك في حديث خلق الجنة والنار قال أبو محمد ومن الباطل أن يحلف جبريل بغير الله عز وجل وأما الرحمة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق مائة رحمة فقسم في عباده رحمة واحدة فبها يتراحمون ورفع التسعة والتسعين ليوم القيامة يرحم بها عباده أو كما قال عليه السلام وهذا رفع للإشكال جملة في أن الرحمة مخلوقة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن إدخال الله عز وجل الجنة من أدخله فيها برحمته تعالى وأن بعثته محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة لمن آمن به وكل ذلك مخلوق بلا شك وأما القدرة والقوة فقد قال عز وجل.
ألم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني حدثنا إبراهيم بن أحمد البلخي حدثنا القربري حدثنا محمد ابن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن بن عيسى حدثنا عبد الرحمن ابن أبي الموال سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن قال أخبرني جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة فذكر الحديث وفيه اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك قال أبو محمد والقول في القدرة والقوة كالقول في العلم سواء بسواء في اختلاف الناس على تلك الأقوال وتلك الحجاج ولا فرق وقولنا في هذا هو ما قلناه هنالك من أن القدرة والقوة لله تعالى حقاً وليستا غير الله تعالى ولا يقال هما الله تعالى وقال تعالى.
كتب على نفسه الرحمة.
وقال تعالى.
ويحذركم الله نفسه.
فنفس الله تعالى إخبار عنه لا عن شيء غيره أصلاً فإن ذكر ذاكر قول الله عز وجل حكاية عن عيسى عليه السلام أنه يقول لربه تعالى.
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب.
قلنا هذا على ظاهره وعلى الحقيقة لأن كل غيب فهو معلوم في علم الله العليم بكل شيء فجرى الكلام على ما يتخاطب به الناس مما لا يتوصلون إلى العبارة عما يريدون لا به وهذا معهود من القول أن يقول القائل نفس الشيء وحقيقته يراد بذلك الشيء لا ما سواه وكذلك القول في الذات ولا فرق فقوله عليه السلام ولا أعلم ما في نفسك إنما معناه بلا شك ولا أعلم ما عندك وما في علمك وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الله تعالى ينزل كل لية إذا بقي ثلث الليل إلى سماء الدنيا قال أبو محمد وهذا إنما هو فعل يفعله الله تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وإن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين وهذا معهود في اللغة تقول نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علق التنزل المذكور بوقت محدود فصح أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حينئذٍ وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقاً بزمان البتة وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أنه ذكر عليه السلام أن الله يأمر ملكاً ينادي في ذلك الوقت بذلك وأيضاً فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصح ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق وأما من جعل ذلك نقلة فقد قدمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم بعون الله وتأييده ولو انتقل تعالى لكان محدوداً مخلوقاً مؤلفاً شاغلاً لمكان وهذه صفة المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وقد حمد الله إبراهيم خليله ورسوله وعبده صلى الله عليه وسلم إذا بين لقومه بنقلة القمر أنه ليس رباً فقال.
فلما أفل قال لا أحب الآفلين.
وكل منتقل عن مكان فهو آفل عنه تعالى الله عن هذا وكذلك القول في قوله تعالى.
وجاء ربك والملك صفاً صفاً.
وقوله تعالى.
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر.
فهذا كله على ما بينا من أن المجيء والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله تعالى في ذلك اليوم يسمى ذلك الفعل مجيئاً وإتياناً وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال وجاء ربك إنما معناه وجاء أمر ربك قال أبو محمد لا تعقل الصفة والصفات في اللغة التي بها نزل القرآن وفي سائر اللغات وفي وجود العقل وفي ضرورة الحس إلا أعراضاً محمولة في الموصوفين فإذا جوزوها غير أعراض بخلاف المعهود فقد تحكموا بلا دليل إذ إنما يصار إلى مثل هذا فيما ورد به نص ولم يرد قط نص بلفظ الصفات ولا بلفظ الصفة فمن المحال أن يؤتى بلفظ لا نص فيه يعبر به عن خلاف المعهود وقال تعالى.
للذين لايؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
ثم قال تعالى.
فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون.
فلو ذكروا الأمثال مكان الصفات لذكر الله تعالى لفظة المثل لكان أولى ثم قد بين الله تعالى غاية البيان فقال فلا تضربوا لله الأمثال وقد أخبر الله تعالى بأن له المثل الأعلى فصح ضرورة أنه لا يضرب له مثل إلا ما أخبر به تعالى فقط ولا يحل أن يزاد على ذلك شيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له وذهب أهل السنة وضرار بن عمر وإلى أن الله تعالى مائية قال ضرار لا يعلمها غيره قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن له مائية هي أنيته نفسها وأنه لا جواب لمن سأل ما هو الباري إلا ما أجاب به موسى عليه السلام إذ سأله فرعون وما رب العالمين ونقول أنه لا جواب ها هنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا إلا ما أجاب به موسى عليه السلام لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه ولو لم يكن جواباً صحيحاً تاماً لا نقص فيه لما حمده الله واحتج من أنكر المائية بأن قال لا تخلو المائية من أن تكون هي الله أو تكون غيره فإن كانت غيره والمائية لم تزل فلم يزل مع الله تعالى غيره وهذا شرك وكفر قالوا وإن كانت هو هي وكنا لا نعلمها فقد صرنا لا نعلم الله عز وجل وهذا إقرار بأننا نجهله والجهل بالله تعالى كفر به وقالوا لو أمكن أن تكون له مائية لكانت له كيفية قال أبو محمد وهذا من جهلهم بحدودالكلام وبمواقع الأسماء على المسميات إذ مائية الشيء إنما هي الجواب في سؤال السائل بما هو وهذا سؤال عن حقيقة الشيء وذاته فمن أبطل المائية فقد أبطل حقيقة الشيء المسئول عنه بما هو لكن أول مراتب الإثبات فيما بيننا هي الأنبة وهي إثبات وجود الشيء فقط وهذا أمر قد علمناه وأحطنا به ولا يتبعض العلم بذلك فيعلم بعضه ويجهل بعضه ثم يتلو الالية التي هي جواب السائل بهل فيما بيننا السؤال بما هو وأما في الباري تعالى فالسؤال بما هو هو السؤال بهل هو والجواب في كليهما واحد فنقول هو حق واحد أول خالق لا يشبهه شيء من خلقه وإنما اختلفت الآنية والمائية في غير الله تعالى لاختلاف الأعراض في المسئول عنه وليس الله تعالى كذلك ولا هو حامل أعراضاً أصلاً ها هنا نقف ولا نعلم أكثر ولا ها هنا أيضاً شيء غير هذا إلا ما علمنا ربنا تعالى من سائر أسمائه كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه وقد أخبر تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن له تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد قال تعالى ولا يحيطون به علماً قال أبو محمد وهذا كلام صحيح على ظاهره إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفي عن الله عز وجل وواجب في غيره لوقوع العدد المحاط به في إعراض كل ما دونه تعالى ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له فصح يقيناً أننا نعلم الله عز وجل حقاً ولا نحيط به علماً كما قال تعالى قال أبو محمد فالآلية في الله تعالى هي المائية التي أنكرها أهل الجهل بحقائق الأمور وبالقرآن وبالسنن نحمد الله عز وجل على ما من به علينا من تيسيرنا لاتباع كتابه وتدبره وطلب سنن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والوقوف عندهما ومعرفتنا بأن العقل لا يحكم به على خالقه لكن يفهم به أوامره تعالى ويميز به حقائق ما خلق فقط وما توفيقنا إلا بالله وأما قولهم لو كانت له مائية لكانت له كيفية فكلام قوم جهال بالحقائق وقد بينا وبان لكل ذي عقل أن السؤال بما هو الشيء غير السؤال بكيف هو الشيء وأن المسئول عنه بإحدى اللفظتين المذكورتين غير المسئول عنه بالأخرى وأن الجواب عن إحداهما غير الجواب عن الأخرى وبيان ذلك أن السؤال بما هو إنما هو سؤال عن ذاته واسمه وأن السؤال بكيف هو إنما هو سؤال عن حاله وأعراضه وهذا لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى فلاح الفرق ظاهراً وبالله تعالى التوفيق
مسائل في السخط والرضا والعدل والصدق
والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم وما يخبر عنه تعالى بالقدرة عليه وكيف يصح السؤال في ذلك كله قال أبو محمد نقول لم يزل الله تعالى عالماً بأنه سيسخط على الكفار وسيرضى على المؤمنين وسيعذب بالنار من عصاه وسينعم بالجنة من أطاعه وسيعدل إذا حكم وسيصدق إذا أخبر ولم يزل عالماً بأنه سيخلق ما يخلق وأنه رب ما يخلق من العالمين ومالك كل شيء ويوم الدين وأن له ملك كل ما يخلق لأن كل ما ذكرنا يقتضي وجود كل ما علق به وكل ما علق به محدث لم يكن ثم كان ولم يزل تعالى عليماً بكل ذلك وأنه سيكون كل ما يكون على ما هو كائن عليه إذا كونه وأما الإرادة فقد أثبتها قوم من صفات الذات وقالوا لم تزل الإرادة ولم يزل الله تعالى قال أبو محمد وهذا خطأ لبرهانين ضروريين أحدهما أن الله تعالى لم ينص على أنه مريد ولا على أن له إرادة وقد قدمنا البرهان فيما سلف من كتابنا على أنه لا يجوز أن يشتق لله أسماء ولا صفات وأوردنا من ذلك أنه لا يقال أنه تعالى متبارك ويقال تبارك الله ولا يقال أنه مستهزىء ويقال الله يستهزىء بهم ولا أنه عاقل وكذلك لا يجوز أن يقال أنه تعالى باق ولا دائم ولا ثابت ولا سخي ولا جواد لأنه تعالى لم يسم به نفسه لكن يقال المتعالي كما قال تعالى ويقال هو الكريم الغني ولا يقال الموسر ويقال هو القوي ولا يقال الجلد ويقال لم يزل ولا زال هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولا يقال هو الخفي ولا الغائب ولا البارز ولا المشتهر ويقال هو الغالب على أمره ولا يقال هو الظافر والمعني في كل ما ذكرنا من اللغة واحد فمن أطلق عليه تعالى بعض هذه الصفات والأسماء ومنع من بعضها فقد ألحد في أسمائه عز وجل وأقدم إقداماً عظيماً نعوذ بالله من ذلك وأيضاً فإن الإرادة من الله تعالى لو كانت لم تزل لكان المراد لم يزل بنص القرآن لأن الله عز وجل قال.
إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
فأخبر تعالى أنه إذا أراد الشيء كان وأجمع المسلمون على تصويب قول من قال ما شأ الله كان والمشيئة هي الإرادة فصح بما ذكرنا صحة لا شك فيها أن الواجب أن يقال أراد الله كما قال تعالى إذا أراد شيئاً ونقول أنه تعالى يريد ما أراد ولا يريد ما لم يرد كما قال تعالى.
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
وقال تعالى.
أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا.
وقال تعالى.
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً.
فنحن نقول كما قال الله تعالى أراد ويريد ولم يرد ولا يريد ولا نقول أن له إرادة ولا أنه مريد لأنه لم يأت نص من الله تعالى بذلك ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم ولا جاء ذلك قط من أحد من السلف رضي الله عنهم أجمعين ولا بحدود الكلام وحقائق مائيات المخلوقات وكيفياتها فهم يتبعون ما ترآى لهم ويقتحمون المهالك بلا هدىً من الله عز وجل نعوذ بالله من ذلك وقد قال تعالى.
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.
فنص تعالى على أن من لم يرد ما اختلف فيه إلى كتابه وإلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى إجماع العلماء من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ولا من سلك سبيلهم بعدهم فلم يعلم ما استنبطه بظنه ورأيه وليس ننكر المحاجة على القصد إلى تبيين الحق وتبينه بل هذا هو العمل الفاضل الحسن وإنما ننكر الإقدام في الدين بغير برهان من قرآن أو سنة أو إجماع بعد أن أوجبه برهان الحس وأول بديهة العقل والنتائج الثابتة من مقدماته الصحيحة من صحة التوحيد والنبوة فإذا ثبتا بما ذكرنا فضرورة العقل توجب الوقوف عند جميع ما قاله لنا الرسول الذي بعثه الله تعالى إلينا وأمرنا بطاعته وأن لا يعترض عليه بالظنون الكاذبة والآراء الفاسدة والقياسات السخيفة والتقليد المهلك فإن قال قائل وما الذي يمنع من أن نقول لم يزل الله مريداً لما أراد كونه إذا كونه قلنا وبالله تعالى التوفيق يمنع من ذلك أن الله عز وجل أخبر نصاً بأنه إذا أراد شيئاً كونه فكان فلو كان تعالى لم يزل مريداً لكان لم يزل ما يريد وهذا إلحاد ويقال لهم أيضاً وما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم فقال لم يزل الله تعالى غير مريد لأن يخلق حتى خلق وهذا لا انفكاك منه قال أبو محمد ولو أن قائلاً يقول أن الخلق هو المراد كونه من الله تعالى فهو مراد الله تعالى وهو الإرادة نفسها وأنه لا إرادة له إلا ما خلق لما أنكرنا ذلك وإنما ننكر قول من يجعل الإرادة صفة ذات لم تزل لأنه يصف الله تعالى بما لم يصف الله تعالى به نفسه وقول من يجعلها صفة فعل وأنها غير الخلق لأنه يلزمه أن تلك الإرادة إما مرادة مخلوقة وإما غير مرادة ولا مخلوقة فإن قال هي مرادة مخلوقة قيل له أهي مرادة بإرادة هي غيرها ومخلوقة بخلق هو غيرها أم لا بإرادة ولا بخلق فإن قال هي مرادة بلا إرادة أتى بالمحال الذي يبطله العقل ولم يأت به نص فيلزمه الوقوف عنده وكذلك قوله مخلوقة بغير خلق وإن قال هي مرادة بإرادة هي غيرها ومخلوقة بخلق هو غيرها لزمه في إرادة الإرادة وخلق خلقها ما ألزمناه في الإرادة وفي خلقها وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود محدثات لا نهاية لعددها وهذا هو قول الدهرية الذي أبطله الله تعالى بضرورة العقل والنص على ما بينا في صدر كتابنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال إن الإرادة ليست مرادة ولا مخلوقة أتى بقول يبطله ضرورة العقل لأن القول بإرادة غير مرادة ولا مخلوقة أتى بقول يبطله ضرورة العقل لأن القول بإرادة غير مرادة محال غير موجود لا بحس فيما بيننا ولا بدليل فيما غاب عنا فهو قول بمجرد الدعوى فهو باطل ضرورة وكذلك يلزمه إن قال أنها محدثة غير مخلوقة ما يلزم من قال أن العالم محدث لا محدث له وقد تقسم بطلان هذا القول بالبراهين الضرورية وبالله تعالى التوفيق وأما تسمية الله عز وجل جواداً سخياً أو صفته تعالى بأن له تعالى جوداً وسخاءً فلا يحل ذلك البتة ولو أن المعتزلة المقدمين على تسمية ربهم جواداً يكون لهم علم بلغة العرب أو بحقيقة الأسماء ووقوعها على المسميات أو بمعاني الأسماء والصفات ما أقدموا على هذه العظيمة ولا وقعوا في الائتساء بالكفار القائلين أن علة خلق الله تعالى لما خلق إنما هي جودة حتى أوقعهم ذلك في القول بأن العالم لم يزل ولكن المعتزلة معذورون بالجهل عذراً يبعدهم عن الكفر ولا يخرجهم عن الإيمان لا عذراً يسقط عنهم الملامة لأن التعلم لهم معروض ممكن ولكن لا هادي لمن أضل الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان قال أبو محمد والمانع من ذلك وجهان أحدهما أنه تعالى لم يسم بذلك نفسه ولا وصف به نفسه ولا يحل لأحد أن يتعدى حدود الله لاسيما فيما لا دليل فيه إلا النص فقط والوجه الثاني أن الجود والسخاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم مرادنا إنما هما لفظان واقعان على بذل الفضل عن الحاجة لا يعبر بلفظ الجود والسخاء إلا عن هذا المعنى وهذا المعنى مبعد عن الله عز وجل لأنه تعالى لا يحتاج إلى شيء فيكون له فضل ببذله فيسمى ببذله له سخياً وجواداً ويوصف من أجل بذله بجود وسخاءٍ أو يكون بمنعه بخيلاً أو شحيحاً أو موصوفاً ببخل أو شح قال أبو محمد ولا يختلف اثنان من كل من في العالم في أن امرءًا له ماء عذب حاضر لا يحتاج إليه وطعام عظيم فاضل لا حاجة به إليه ورأى رجلاً من عرض الناس أو عبداً من عبيده يموت جوعاً وعطشاً فلم يسقه ولا أطعمه فإنه في غاية البخل والشح والقسوة والظلم والله تعالى يرى كثيراً من عباده وأطفالاً من أطفالهم لا ذنب لهم وهم يموتون جوعاً وعطشاً وعنده مخادع السموات وخزائن الأرض ولا يرحمهم بنقطة ماء ولا لقمة طعام حتى يموتوا كذلك ولا يوصف من أجل ذلك بشح ولا بخل ولا ظلم ولا قسوة بل هو أرحم الراحمين والرحيم الكريم والذي لا يظلم ولا يجور كما سمى نفسه فبطل قياسهم الفاسد في الصفات الغائب عندهم على الشاهد وبطل أن يوصف الله عز وجل بشيءٍ من ذلك وليس لأحد أن يحيل الأسماء اللغوية عن موضعها في اللغة إلا أن يأتي نص بإحالة شيءٍ من ذلك فيوقف عنده ومن تعدى هذا الحكم فإنه مبطل للتفاهم كله نعم وللحقائق بأسرها إلا أنه لا يعجز أحد عن أن يسمي الباطل حقاً والحق باطلاً وأن يحيل الأسماء كلها عن مواضعها وهذا خروج عن الشرائع والمعقول ولكننا نقول أنه كريم كما قال تعالى ولا يبعد عنا أن تسمى نعم الله على عباده على عباده كرماً وأن الله تعالى كريماً نستحسن إطلاق ذلك ونسميها أيضاً فضلاً.
قال الله تعالى.
ذلك فضل الله.
وقد ثبت النص بأن له تعالى كرماً وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أنا إبراهيم بن أحمد أنبأنا الفربري أنا البخاري قال لي خليفة بن خياط أنا يزيد بن زريع أنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك وعن معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قد قد بعزتك وكرمك قال أبو محمد وقد اضطرب الناس في السؤال عن أشياء ذكروها وسألوا هل يقدر الله تعالى عليها أم لا واضطربوا أيضاً في الجواب عن ذلك قال أبو محمد ونحن مبينون بحول الله وقوته وجه تحقيق السؤال عن ذلك وتحقيق الجواب فيه دون تخليط ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنقول وبالله تعالى التوفيق أن السؤال إذا حقق بلفظ يفهم السائل منه مراد نفسه ويفهم المسئول مراد السائل عنه فهو سؤال صحيح والجواب عنه لازم ومن أجاب عنه بأن هذا سؤال فاسد وأنه محال فإنما هو جاهل بالجواب منقطع متسلل عنه وأما السؤال الذي يفسد بعضه بعضاً وينقض آخره أوله فهو سؤال فاسد لم يحقق بعد وما لم يحقق السؤال عنه فلم يسأل عنه وما لم يسأل عنه فلا يلزم عنه جواب على مثله فهاتان قضيتان جامعتان وكافيتان في هذا المعنى لا يشذ عنهما شيء منه إلا أنه لابد من جواب ببيان حوالته لا على تحقيقه ولا على تشكله ولا على توهمه وبالله تعالى التوفيق ثم نحد.
المسئول عنه في هذا الباب بحدٍ جامع بحول الله تعالى وقوته فيرتفع الإشكال في هذه المسألة إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد أن الشيء المسئول عنه في هذا الباب إن كان إنما سأل السائل عن القدرة على إحداث فعل مبتدأ أو على إعدام فعل مبتدأ فالمسئول عنه مقدور عليه ولا تحاشى شيئاً والسؤال صحيح والجواب عنه بنعم لازم وإن كان المسئول عنه ما لا ابتدأ له فالسؤال عن تغييره أو إحداثه أو إعدامه سؤال متفاسد لا يمكن السائل عنه فهم معنى سؤاله ولا تحقيق سؤاله وما كان هكذا لا يلزم الجواب عنه على تحقيقه ولا على تشكله لأن الجواب عن التشكل لا يكون إلا عن سؤال وليس ها هنا سؤال أصلاً ثم نقول وبالله تعالى نتأيد أن من الواجب أن نبين بحول الله تعالى وقوته ما المحال وعلى أي معنى تقع هذه اللفظة وعما ذا يعبر با عنه فإن من قام بشيء ولم يعرف تحقيق معناه فهو في غمرات من الجهل فنقول وبالله تعالى نتأيد إن المحال ينقسم أربعة أقسام لا خامس لها أحدها محال بالإضافة والثاني محال في الوجود والثالث محال فيما بيننا في بنية العقل عندنا والرابع محال مطلق فالمحال بالإضافة مثل نبات اللحية لابن ثلاث سنين وإحباله امرأة وكلام الأبله الغبي في دقائق المنطق وصوغه الشعر العجيب وما أشبه هذا فهذه المعاني موجودة في العالم ممن هي ممكنة منه ممتنعة من غيرهم وأما المحال في الوجود فكانقلاب الجماد حيواناً والحيوان جماداً أو حيواناً آخر وكنطق الحجر واختراع الأجسام وما أشبه هذا فإن هذا كله ليس ممكناً عندنا البتة ولا موجوداً ولكنه متوهم في العقل متشكل في النفس كيف كان يكون لو ن وبهذين القسمين تأتي الأنبياء عليهم السلام في معجزاتهم الدالة على صدقهم في النبوة وأما المحال فيما بيننا في بنية العقل فكون المرء قائماً قاعداً لا قاعداً معاً وسائر ما لا يتشكل في العقل فيما يقع فيه التأثير لو أمكن فيما دون الباري عز وجل فهذه الوجوه الثلاثة من سأل عنها أيقدر الله تعالى عليها فهو سؤال صحيح مفهوم معروف وجهه يلزم الجواب عنه بنعم إن الله قادر على ذلك كله إلا أن المحال في بنية العقل فيما بيننا لا يكون البتة في هذا العالم لا معجزة لنبي ولا بغير ذلك البتة هذا واقع في النفس بالضرورة ولا يبعد أن يكون الله تعالى يفعل هذا في عالم له آخر وأما المحال المطلق فهو كل سؤال أوجب على ذات الباري تغييراً فهذا هو المحال لعينه الذي ينقض بعضه بعضاً ويفسد آخره أوله وهذا النوع لم يزل محالاً في علم الله تعالى ولا هو ممكن فهمه لأحد وما كان هكذا فليس سؤالاً ولا سأل سائله عن معنى أصلاً وإذا لم يسأل فلا يقتضي جواباً على تحقيقه أو توهمه لكن يقتضي جواباً بنعم أو لا لئلا ينسب بذلك إلى وصفه تعالى بعدم القدرة الذي هو العجز بوجه أصلاً وإن كنا موقنين بضرورة العقل بأن الله تعالى لم يفعله قط ولا يفعله أبداً وهذا مثل من سأل أيقدر الله تعالى على نفسه أو على أن يجهل أو على أن يعجز أو أن يحدث مثله أو على إحداث ما لا أول له فهذه سؤالات تفسد بعضها بعضاً تشبه كلام الممرورين والمجانين وكلام من لا يفهم وهذا النوع لم يزل الله تعالى يعلمه محالاً ممتنعاً باطلاً قبل حدوث العقل وبعد حدوثه أبداً وأما المحال في العقل وهو القسم الثالث الذي ذكرنا قبل فإن العقل مخلوق محدث خلقه الله تعالى بعد أن لم يكن وإنما هو قوة من قوى النفس عرض محمول فيها أحدثه الله تعالى وأحدث رتبه على ما هي عليه مختاراً لذلك تعالى وبضرورة العقل نعلم أن من اخترع شيئاً لم يكن قط لا على مثال سلف ولا عن ضرورة أوجبت عليه اختراعه لكن اختار أن يفعله فإنه قادر على ترك اختراعه قادر على اختراع غيره مثله أو خلافه ولا فرق بين قدرته على بعض ذلك وبين قدرته على سائره فكل ما خلقه الله تعالى محالاً في العقل فقط فإنما كان محالاً مذ جعله الله تعالى محالاً وحين أحدث صورة العقل لا قبل ذلك فلو شاء تعالى أن لا يجعله محالاً لما كان محالاً وكذلك من سأل هل يقدر الله تعالى على أن يجعل شيئاً موجوداً معدوماً معاً في وقت واحد أو جسماً في مكانين أو جسمين في مكان وكل ما أشبه هذا فهو سؤال صحيح والله تعالى قادر على كل ذلك لو شاء أن يكونه لكونه ومن البرهان على ذلك ما نراه في منامنا مما لا شك أنه محال في حال اليقظة ممتنع يقيناً ونراه في منامنا ممكناً محسوساً مرئياً ببصر النفس مسموعاً بسمعها فبالضرورة يدري كل ذي حس أن الذي جعل المحال ممكناً في النوم كان قادراً على أن يوجده ممكناً في اليقظة وكذلك من سأل هل الله تعالى قادر على أن يتخذ ولداً فالجواب أنه تعالى قادر على ذلك وقد نص عز وجل على ذلك في القرآن قال الله تعالى.
لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء.
وكذلك قال تعالى.
لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين.
قال أبو محمد ومن لم يطلق أن الله عز وجل يقدر على ذلك وحسن قوله بأن قال لا يوصف الله بالقدرة على ذلك فقد قطع بأن الله عز وجل لا يقدر إذ لا واسطة فيمن يوصف بالقدرة على شيء ما ثم وصف في شيء آخر بأنه لا يقدر عليه فقد خرج من أنه لا يقدر عليه وإذا وجب أن لا يقدر فقد ثبت أنه عاجز ضرورة عما لا يقدر عليه ولابد ومن وصف الله تعالى بالعجز فقد كفر وأيضاً فإن من قال لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال فقد جعل قدرته سبحانه وتعالى متناهية وجعل قوته عز وجل منقطعة محدودة وملزومة بذلك ضرورة أن قوته تعالى متناهية عرض وأنه تعالى فاعل بطبيعة فيه متناهية وهذا تحديد للباري عز وجل وكفر به مجرد وادخال له في جملة المخلوقين ومعنى قولنا أن الله تعالى يقدر على المعدوم وعلى المحال إنما هو ما نبينه إن شاء الله تعالى وهو أن سؤال السائل عن المحال وعن المعدوم وهو بلا شك سؤال موجود مسموع ملفوظ به فجوابنا له هو أنا حققنا أن الله تعالى قادر على أن يخلق لذلك اللفظ معنى يوجده وهذا جواب صحيح معقول وهذا قولنا وليس إلا هذا القول وقول على الأسواري الذي يقول أن الله تعالى لا يقدر على غير ما علم أنه يفعله جمله وأما من خالفنا وخالف الأسواري فلا بد له من الرجوع إلى قولنا أو الوقوع في قول الأسواري وإن زعم لأنه متى ما وصف الله تعالى بالقدرة على شيء لم يفعله من إبراء مريض أو خلق شيء أو تحريك شيء ساكن فإنه قدر وصفه بالقدرة على إحالة علمه وتكذيب حكمه وتكذيب حكمه وهذا هو المحال فقد قال بقولنا ولا بد أو بقول الأسواري ولابد وأما كل سؤال أدى إلى القول في ذاته عز وجل فإننا نقول إن كل ما سأل عنه سائل لا نحاشي شيئاً فإن الله تعالى قادر عليه غير عاجز عنه إلا أن من السؤالات سؤالات لا يستحل سماعها ولا يستحل النطق بها ولا يحل الجلوس حيث يلفظ بها وهي كل ما فيها كفر بالباري تعالى واستخفاف به أو بنبي من أنبيائه أو بملك من ملائكته أو بآية من آياته عز وجل قال عز وجل.
أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم.
وقال عز وجل.
قال أبو محمد ولو أن سائلاً سالنا هل الله قادر على أن يمسخ هذا الكافر قرداً أو كلباً لقلنا نعم ولو أنه أراد أن يسألنا هذا السؤال فيمن يلزمنا تعظيمه من ملك أو نبي أو صاحب نبي أو مسلم فاضل لم يحل لنا الاستماع إليه ولكنا قد أجبناه جواباً كافياً بأن الله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشى شيئاً فمن تمادى بعد هذا الجواب الكافي فإنما غرضه التشنيع فقط والتمويه وهذان من دلائل العجز عن المناظرة والانقطاع والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد والناس في هذا الباب على أقسام فمبدؤها من الطرف قول من قال لا يوصف الله تعالى بالقدرة على غير ما يفعل وهو قول على الأسواري أحد شيوخ المعتزلة واعلموا أنه لابد لكل من منع من أن يقدر الله تعالى على محال أو على شيء مما يسال عنه السائل فلابد ضرورة من المصير إلى هذا القول وظهور تناقضه وتفاسد قوله وخروجه إلى المحال البحث الذي فر عنه بزعمه على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى قال أبو محمد وقد قالت طائفة بمعنى هذا القول إلا أنها استشنعت عبارة الأسواري فقالت إن الله تعالى قادر على كل شيء ولكن إن سألنا سائل فقال أيقدر الله تعالى على أمر كذا مع تقدم علمه بأنه لا يكون قالوا فالجواب أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك قال أبو محمد وهذا الإخفاء لأنهم أوجبوا قدرته وأعدموها على شيء واحد وهو الباطل بلا خفاء وقالت طائفة إن الله تعالى قادر على غير ما فعل إلا أنه لا يوصف بالقدرة على أصلح مما فعل بعباده وهو قول جمهور المعتزلة وقالت طائفة أن الله تعالى قادر على غير ما فعل إلا أنه لا يقدر على الظلم ولا على الجور ولا على اتخاذ الولد ولا على إظهار معجزة على يد كذاب ولا على شيء من المحال ولا على نسخ التوحيد وهذا قول النظام وأصحابه والأشعرية وإن كانوا مختلفين في مائية الظلم وقالت طائفة أن الله تعالى قادر على غير ما فعل وعلى الجور والظلم والكذب إلا أنه لا يقدر على المحال مثل أن يجعل الشيء معدوماً موجوداً معاً وقائماً قاعداً معاً أو في مكانين معاً وهذا قول البلخي وطوائف من المعتزلة قال أبو محمد والذي عليه أهل الإسلام كلهم ومن سلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم قبل أن تحدث هذه الضلالات وهذا الإقدام الشنيع الذي لولا ضلال من ضل به ما انطلقت ألسنتنا به ولا سمحت أيدينا بكتابته ولكنا نحكيه حكاية الله ضلال من ضل فقال المسيح ابن الله والعزير ابن الله ويد الله مغلولة والله فقير ونحن أغنياء وإذ قال للإنسان اكفر وكما أنذر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الناس لا يزالون يتساءلون فيما بينهم حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فقول أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم قبل ما ذكرنا هو أن الله تعالى فعال لما يشاء وعلى كل شيء قدير وبهذا جاء القرآن وكل مسئول عنه وإن بلغ الغاية من قال أبو محمد وقال لي بعضهم إن القرآن إنما جاء بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ونحن لا ننكر هذا وإنما نمنع من أن يوصف الله تعالى بالقدرة على ما لا يشاء وبالقدرة على ما ليس بشيء فقلت له قد قال الله تعالى يرزق من يشاء ويقدر فعم عز وجل ولم يخص فلا يحل لأحد تخصيص قدرته تعالى أصلاً وقال تعالى.
قل إن الله قادر على أن ينزل آية.
وقال تعالى.
ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين.
وقال تعالى.
إنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون.
وقال تعالى.
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون.
وقال تعالى.
أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى.
وقال تعالى عن نوح النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال.
استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً.
مع قوله تعالى.
إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.
وقال تعالى.
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم.
وقال تعالى.
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن.
فهذا نص على أن يفعل خلاف ما سبق في علمه من هدى من علم أنه لا يهديه ومن تعذيب من علم أنه لا يعذب أبداً وتبديل أزواج قد علم أنه لا يبدلهن أبداً وكل هذا نص على قدرته على إبطال علمه الذي لم يزل وعلى تكذيب قوله الذي لا يكذب أبداً ومثل هذا في القرآن كثير فمن أعجب قولاً وأتم ضلالة ممن يوجب بقوله إن الله تعالى كذب وأنه تعالى مع ذلك غير قادر على الكذب مع قوله تعالى.
عند مليك مقتدر.
وقال تعالى.
هو العليم القدير.
وقوله تعالى.
وكان الله عليماً قديراً.
فأطلق تعالى لنفسه القدرة وعم ولم يخص فلا يجوز تخصيص قدرته بوجه من الوجوه قال أبو محمد فإن قال قائل فما يؤمنكم إذ هو تعالى قادر على الظلم والكذب والمحال من أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فتبطل الحقائق كلها ولا تصح ويكون كلما أخبرنا به كذباً قال أبو محمد وجوابنا في هذا هو أن الذي أمننا من ذلك ضرورة المعرفة التي قد وصفها الله تعالى في نفوسنا كمعرفتنا أن ثلاثة أكثر من اثنين وأن المميز مميز والأحمق أحمق وأن النخل لا يحمل زيتوناً وأن الحمير لا تحمل جمالاً وأن البغال لا تتكلم في النحو والشعر والفلسفلة وسائر ما استقر في النفوس علمه ضرورة وإلا فليخبرونا ما الذي أمنهم ما ذكرنا ولعله قد كان أو سيكون ولا فرق فإذ قد صح إطباق كل من يقر بالله من جميع الملل أن هذا العالم ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه مع موافقته أكثر المخالفين لنا على أن هذا كله فإن الله تعالى قادر عليه ولكن لا يفعله فالذي أمنهم من أنه تعالى يفعله هو الذي أمننا من أن نفعل ما قالوا لنا فيه لعله قد فعله أو سيفعله ولا فرق وإن هذا العالم ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه وأنه تعالى لا يجور ولا يكذب وبالضرورة الموجبة علمنا القول بحدوث العالم وبأن له صانعاً لا يشبهه لم يزل وبان ما ظهر من الأنبياء عليهم السلام فمن عنده تعالى وأن تلك المعجزات موجبة تصديقهم وهم أخبرونا أن الله تعالى لا يكذب ولا يظلم وأنه تعالى قد أخبرنا بأنه قد تمت كلماته صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وأنه تعالى قادر وليس كل ما يقدر عليه يفعله فإن كان السائل من هذا متديناً بدين الإسلام أو النصارى أو اليهود أو المجوس أو الصابئين أو البراهمة أو كل من يدين بأن الله حق فإنهم مجمعون على أنه تعالى لا يكذب ولا يظلم وكل من نفى الخالق فليس فيهم أحد يقول أنه يظلم أو يكذب فقد صح إطباق جميع سكان الأرض قديماً وحديثاً لا نحاشي أحداً على أن الله تعالى لا يظلم ولا يكذب فلو لم يكونوا مضطرين إلى القول بهذا لوجد فيهم ولو واحد يقول بخلاف ذلك ومن المحال أن تجتمع طبائعهم كلهم على هذا إلا لضرورة وضعها الله عز وجل في نفوسهم كضرورتهم إلى معرفة ما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وأيضاً فنقول لمن سأل هذا السؤال أيمكن أن يكون إنسان في الناس قد توسوس وأوهمته ظنونه الكاذبة وتخيله الفاسد وهوسه أن الأشياء على خلاف ما هي عليه وأن الناس على خلاف ما هم عليه ويتصور عنده هذا الظن الفاسد أنه حق لا يشك فيه أم ليس يمكن أن يكون هذا في العالم فإن قالوا لا يمكن أن يكون هذا في العالم أتوا بالمحال البحت وكابروا وإن قالوا بل هو ممكن موجود في الناس كثير من هذه صفته قيل لهم فما يؤمنكم من أن تكونوا بهذه الصفة ونقول لمن يؤمن بالله العظيم منهم أيقدر الله تعالى على أن يجيل حواسك كما فعل بصاحب الصفراء الذي يجد العسل مراً كالعلقم وبصاحب ابتداء الماء النازل في عينيه فيرى خيالات لا حقيقة لها وكمن في سمعه آفة فهو يسمع طنيناً لا حقيقة له أم لا يقدر فإن قالوا يقدر قيل له فما يؤمنك من أنك بهذه الصفة فإن قال إن كل من يحضرني يخبرني بأن لست من أهل هذه الصفة قيل له وهكذا يظن ذلك الموسوس ولا فرق فإنه لابد أن يقول إني أرى أني بخلاف هذه الصفة ضرورة وعلماً يقيناً قلنا له بمثل هذا سواء بسواء أمنا أن يكون الله يظلم أو يكذب أو يحيل طبيعة لغير نبي يفعل المحال مع قدرته على ذلك ولا فرق قال أبو محمد ويقال لجميع هذه الفرق حاشا من قال بقول علي الأسواري هل شنعتم على علي الأسواري لأنه إذا وصف الله تعالى بأنه لا يقدر على غير ما فعل فقد وصفه تعالى بالعجز ولابد فلا بد من نعم فيقال لهم فإن هذا نفسه لازم لكم في قولكم بأنه لا يقدر على الظلم والكذب ولا على المحال ولا على نفسه لازم لكم في قولكم بأنه لا يقدر على الظلم والكذب ولا على المحال ولا على نفسه أولاً أصلح مما فعل بعباده ضرورة لا ينفكون من ذلك فإن قلتم إن هذا لا يلزمنا قيل لكم ولا يعجز علي الأسواري عن أن يقول أيضاً إن هذا لا يلزمني وهذا لا انفكاك منه ويقال لهم إذا أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيقيم الساعة وسيميت زيداً يوم كذا يقدر أن لايميته في ذلك اليوم وعلى أن يميته قبل ذلك اليوم أم لا فإن قالوا لا لحقوا بقول الأسواري وإن قالوا نعم أقروا أنه يقدر على تكذيب قوله وهذا هو القدرة على الكذب التي أبطلوا ونسألهم أيضاً إذ أمرنا الله تعالى بالدعاء ومنه ما قد علم أنه لا يجيب الداعي به هل أمرنا بالدعاء من ذلك فيما لا يستطيع ولا يقدر عليه أم فيما يقدر عليه فإن قالوا فيما لا يقدر عليه لحقوا بالأسواري وأوجبوا على الله تعالى القول بالمحال إذ زعموا أنه أمرنا بأن نرغب إليه في أن يفعل ما لا يقدر عليه تعالى الله عن ذلك وإن قالوا بل فيما يقدر عليه أقروا أنه يقدر على إبطال علمه والذي يدخل هذا الذي هو الكفر المجرد من إبطال دلائل التوحيد وإبطال حدوثه العالم وخلاف الإجماع غير قليل فإن قال علي الأسواري لا يلزمني إثبات العجز بنفي القدرة بل أنفي عنه الأمرين جميعاً كما قلتم أنتم أن نفيكم عنه تعالى الحركة لا يلزمه السكون ونفي السكون لا يلزمه الحركة كما تنفون عنه الضدين جميعاً من الشجاعة والجبن وسائر الصفات التي نفيتموها وأضدادها قال أبو محمد فنقول وبالله التوفيق إن هذا تمويه ضعيف لأننا نحن في نفي هذه الصفات عنه تعالى جارون على سنن واحد وفي نفي جميع صفات المخلوقين عنها كلها وأنتم قد أثبتم له قدرة على أشياء ونفيتم عنه قدرة على غيرها فوجب ضرورة إثبات العجز عنه في الأشياء التي وصفتموه بعدم القدرة عليها وأما نحن فلو وصفناه بالشجاعة في شيء أو بالحركة في وجه ما أو وصفناه بالعقل في شيء ما ثم نفينا عنه هذه الصفات في وجه آخر للزمنا حيث وصفناه بشيء منها نفي ضدها وللزمنا حيث نفينا عنه ضدها أن نثبتها له ولابد كما فعلنا في الرحمة والسخط فإننا إذا وصفناه بالرحمة لأبي بكر الصديق فقد نفينا عنه عز وجل السخط عليه وإذا نفينا عنه لأبي جهل فقد أثبتنا له بذلك السخط عليه وهذا برهان ضروري فإن موه مموه فقال ألستم تقولون أن الله تعالى لا يعلم الحي ميتاً فهل تثبتون له بنفي العلم ها هنا الجهل قلنا له وهذا أيضاً تمويه آخر بل أوجبنا له بذلك العلم حقاً لأننا إذا نفينا عنه العلم بخلاف ما الأشياء فقد أثبتنا له تعالى العلم بحقيقة ما الأشياء وهل ها هنا شيء يجهل أصلاً وإنما الجهل بشيء حق الجاهل به فقط قال أبو محمد وقد قلنا لمن ناظرنا منهم أنكم تنسبون لله تعالى علماً لم يزل فأخبرونا هل يقدر الله تعالى على أن يميت اليوم من علم أنه لا يميته إلا غداً وهل يقدر ربكم على أن يزيل الآن بنية عن مكان قد علم أنها لا تزول عنه إلا غداً وعلى رحمة من مات مشركاً مع قوله تعالى أنه لا يرحمه أصلاً أم لا يقدر على ذلك فقال لنا منهم قائل أن الله تعالى قادر على ذلك فقلنا له قد أقررتم أنه يقدر على إحالة علمه الذي لم يزل وعلى تكذيب كلامه وهذا إبطال قولكم صراحاً وقال منهم قائلون أنه تعالى قادر على ذلك ولو فعله لكان قد سبق في علمه أنه سيكون كما فعل فقلنا لهم لم نسألكم إلا هل يقدر على ذلك مع تقدم علمه أنه لا يكون فضجروا ها هنا وانقطعوا ولجأ بعضهم إلى القطع بقول علي الأسوري في أنه لا يقدر على ذلك فقلنا لهم إذا كان تعالى لا يقدر على شيء غير ما فعل ولا على نقل بنية عن موضعها فهو إذاً مضطر مجبر وذو طبيعة جارية على سنن واحد نعم ويلزم الأسواري ومن قال بقوله إن استطاعة الله ليست قبل فعله البتة وإنما هي مع فعله ولابد لأنه لو كان مستطيعاً قبل الفعل لكان قادراً على أن يفعل في الوقت الذي علم أنه لا يفعل فيه وهذا خلاف قوله نصاً وهو يقول إن الإنسان مستطيع قبل الفعل فهو أتم طاقة وقدرة من الله تعالى ويلزمه أيضاً القول بحدوث قدرة الله تعالى ولابد إذ لو كانت قدرته لم تزل لكان قادراً على الفعل قبل أن يفعل ولابد وهذا خلاف قوله وهذا كفر مجرد إذ يقول إن الإنسان قادر على غير ما علم الله تعالى أن يفعله والله تعالى لا يقدر على ذلك فإن هؤلاء جمعوا إلى تعجيز ربهم القول بأنهم أقوى منه وهذا على أشد ما يكون من الكفر والشرك والحماقة قال أبو محمد وكلهم يقول بهذا المعنى لأن جميعهم يقول إن كل مخلوق فهو قادر على كل ما يفعله من اتخاذ ولد وحركة وسكون وغير ذلك وأن الباري تعالى لا يقدر على شيء من ذلك وهذا كفر وحش جداً قال أبو محمد وسألناهم أيضاً فقلنا لهم أتقرون أن الله تعالى لم يزل قادراً على أن يخلق أم تقولون أنه لم يزل غير قادر على أن يخلق ثم قدر فقول كل من لقينا منهم وقول جميع أهل الإسلام أن الله عز وجل لم يزل قادراً على أن يخلق قال أبو محمد وهم وجميع أهل الإسلام منكرون على من قال من أهل الإلحاد أن الله تعالى لم يزل خالقاً قاطعون بأن لم يزل يخلق محال متفاسد قال أبو محمد صدقوا في ذلك إلا أنهم إذا أقروا أن قول من قال أنه لم يزل يخلق محال وأقروا أنه لم يزل قادراً على ذلك فقد أقروا بصحة قولنا وأنه تعالى قادر على المحال ولابد من هذا أو الكفر والقول بأنه تعالى لم يزل غير قادر والحمد لله على هداه لنا إلى الحق قال أبو محمد وسألناهم أيضاً فقلنا لهم هل يجوز عندكم أن يدعي الله تعالى في أن يفعل ما لا يقدر على سواه أو في أن لا يفعل ما لا يقدر على فعله فإن قالوا نعم أتوا بالمحال وإن قالوا لا يجوز ذلك قيل لهم فقد أمرنا الله تعالى أن ندعوه فنقول رب احكم بالحق ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وهو عندكم لا يقدر على الحكم بغير الحق ولا أن يحملنا ما لا طاقة لنا به قال أبو محمد ومن عجائب الدنيا أنهم يسمعون الله تعالى يقول.
وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله وأن الله ثالث ثلاثة وأن الله هو المسيح بن مريم والله فقير ونحن أغنياء ويد الله مغلولة وكمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر.
ولا يشك مسلم في أن هذا كله كذب فأي حماقة أشنع من قول من قال إن الله قادر على أن يقول كل ذلك حاكياً ولا يقدر أن يقوله من غير أن يقول ما قيل هذه الأقوال من إضافتها إلى غيره وهذا قول يغني ذكره وسخافته عن تكلف الرد عليه قال أبو محمد ثم سألناهم فقلنا لهم من أين علمتم أن الله تعالى لا يقدر على الكذب أو المحال أو الظلم أو غير ما فعل فلم تكن لهم حجة أصلاً إلا أن قالوا لو قدر على شيء من ذلك لما أمنا أن يكون فعله أو لعله سيفعله فقلنا لهم ومن أين أمنتم أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فلم تكن لهم حجة أصلاً إلا أن قالوا لأنه لا يقدر على فعله قال أبو محمد فحصل من هذا أن حجتهم أنه تعالى لا يقدر على الظلم والكذب والمحال وغير ما فعل أنه لا يقدر على شيء من ذلك فاستدلوا على قولهم بذلك القول نفسه وهذه سفسطة تامة وحماقة ظاهرة وجهل قوي لا يرضى به لنفسه إلا سخيف العقل ضعيف الدين فلا بد ضرورة من أن يرجعوا إلى قولنا في أنه بالضرورة علمنا أنه تعالى لا يفعل شيئاً من ذلك كما قال أبو محمد وأما نحن فإن برهاننا على صحة قولنا أن البرهان قد قام على أنه تعالى لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء والخلق عاجزون عن كثير من الأمور والعجز من صفة المخلوقين فهو منفي عن الله عز وجل جملة وليس في الخلق قادر بذاته على كل مسئول عنه فوجب أن الباري تعالى هو الذي يقدر على كل مسئول عنه وكذلك الكذب والظلم من صفات المخلوقين فوجب يقيناً أنهما منفيان عن الباري تعالى فهذا هو الذي آمننا من أن يظلم أو يكذب أو يفعل غير ما علم أنه يفعله وإن كان تعالى قادراً على ذلك وقلنا لهم أيضاً إذا كان عز وجل لا يوصف بالقدرة على إبطال علمه فكان لا يوصف بالقدرة على أمانته اليوم من علم أنه لا يميته إلا غداً لأنه لا قدرة له على ذلك ولو كان له على ذلك قدرة لوصف بها فإذا جاء غد فأماته فله قدرة على إماتته حينئذٍ فقد حدثت له قدرة بعد أن لم تكن وهذا يوجب أن قدرته تعالى حادثة وهذا خلاف قولهم قال أبو محمد وفي هذا أيضاً محال آخر وهو أنه إذا حدثت له قدرة بعد أن لم تكن فمن أحدثها له أهو أحدثها لنفسه أم غيره أحدثها له أم حدثت بلا محدث فإن قالوا هو أحدثها لنفسه سئلوا بلا قدرة أحدث لنفسه القدرة أم بقدرة أخرى فإن قالوا أحدث لنفسه قدرة بلا قدرة أتوا بالمحال وإن قالوا بل بقدرة اثبتوا قدرة لم تزل بخلاف قولهم وإن قالوا غيره أحدثها له أو حدثت بلا محدث لحقوا بقول الدهرية وكفروا وفي قولهم هذا من خلاف المعقول وخلاف القرآن وخلاف البرهان ما يضيق به نفوس المؤمنين والحمد لله على معافاته لنا مما ابتلاهم به وقالوا لو فعل تعالى كل ذلك كيف كان يسمى فقلنا هذا سؤال سخيف عما لا يكون أبداً وهو كمن سأل لو طار الإنسان كم ريشة كانت تكون له وما أشبه هذا من الحماقة المأمون كونها وتسمية الباري تعالى إليه لا إلينا وبالله تعالى التوفيق وقال أبو الهذيل العلاف إن لما يقدر الله تعالى عليه كلاً وآخراً كماله أول فلو خرج آخره إلى الفعل ولا يخرج لم يكن الله تعالى قادراً على شيء أصلاً ولا على فعل شيءٍ بوجه من الوجوه وقال عبد الله ابن أحمد بن محمود الكعبي ما نعلم أحداً يعتقد هذا اليوم إلا يحيى بن بشر الأرجاني وادعى أن أبا الهذيل تاب عن هذا القول قال أبو محمد وهذا كفر مجرد لا خفاء به لأنه يجوز على ربه تعالى الكون في صفة الجماد أو المخدور المفلوج مع صحة الإجماع على خلاف هذا القول الفاسد مع خلافه للقرآن ولموجب العقل وبديهته كذا عنده وأظنه لقد شبهه تعالى بالمخلوقين قال أبو محمد وأما الأسواري فجعل ربه تعالى مضطراً بمنزلة الجماد ولا فرق ولا قدرة له على غير ما فعل وهذه حال دون حال البق والبراغيث وأما أبو الهذيل فجعل قدرة ربه تعالى متناهية بمنزلة المختارين من خلقه وهذا هو التشبيه حقاً وأما النظام والأشعرية فكذلك أيضاً وجعلوا قدرة ربهم تعالى متناهية يقدر على شيءٍ ولا يقدر على آخر وهذه صفة أهل النقص وأما سائر المعتزلة فوصفوه تعالى بأنه لا نهاية لما يقدر عليه من الشر وأن قدرته على الخير متناهية وهذه صفة شر وطبيعة خبيثة جداً نعوذ بالله منها إلا بشر بن المعتمر فقوله في هذا كقول أهل الحق وهو أن لا تتناهى قدرته أصلاً والحمد لله رب العالمين
الجزء الثالث
قال أبو محمد: ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان إلى أن الله تعالى لا يرى في الآخرة وقد روينا هذا القول عن مجاهد وعذره في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه وروينا هذا القول أيضاً عن الحسن البصري وعكرمة وقد روي عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى.
وذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا و الآخرة.
وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا أصلاً.
وقال الحسن بن محمد النجار: هو جائز ولم يقطع به.
قال أبو محمد: أما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين وعمدة من أنكر أن الرؤية المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة وهذا مبعد عن الباري عز وجل.
وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا سوء وضع منهم لأننا لم نقل قط بتجويز هذه الرؤية على الباري عز وجل و إنما قلنا أنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله تعالى وقد سماها بعض القائلين بهذا القول الحاسة السادسة وبيان ذلك أننا نعلم الله عز وجل بقلوبنا علماً صحيحاً هذا ما لا شك فيه فيضع الله في الأبصار قوة تشاهد بها الله وترى بها كالتي وضع في الدنيا في القلب و كالتي وضعها الله عز وجل في أذن موسى صلى الله عليه وسلم حتى شاهد الله وسمعه مكلماً له واحتجت المعتزلة بقول الله عز وجل: " لا تدركه الأبصار ".
قال أبو محمد: هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك و الإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة برهان ذلك قول تعالى عز وجل: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقاً جلياً لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله فلما ترآى الجمعان وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضاً فصمت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم كلا إن معي ربي سيهدين فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا في أن ما نفاه الله تعالى عز وجل فهو غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله تعالى: " وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة " واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الحبائي فقال: إن إلى هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم فهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة.
قال أبو محمد: وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت له النضرة وهي النعمة والنعمة نعمة فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لها وإنما ينتظر ما لم يقع بعد والثاني تواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان أن المراد بالنظر هو الرؤية لا ما تأوله المتأولون وقال بعضهم: إن معناها إلى ثواب ربها أي منتظرة ناظرة.
قال أبو محمد: هذا فاسد جداً لأنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته.
قال أبو محمد: وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله فإن قال قائل: إن حمل اللفظ على المعهود أولى من حمله على غير المعهود قيل له الأولى في ذلك حمل الأمور على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص أو إجماع أو ضررة ولم يأت نص ولا إجماع ولا ضررة تمنع ما ذكرنا في معنى النظر وقد وافقتنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير وأنه لا فعال إلا بمعاناة ولا رحيم إلا برقة قلب ثم أجمعوا معنا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير وأنه عز وجل فعال بلا معاناة ورحيم بلا رقة فأي فرق بين تجويزهم ما ذكرناه وبين تجويزهم رؤية و نظراً بقوة غير القوة المعهودة لولا الخذلان ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك.
وقد قال بعض المعتزلة: أخبرونا إذا رؤي الباري أكله يرى أم بعضه.
قال أبو محمد: وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذا سألونا نحن و المعتزلة فقالوا: إذا علمتم الباري تعالى أكله تعلمونه أم بعضه.
قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلاً وبعضاً حيث لا كل ولا بعض و الكل والبعض لا يقعان إلا في ذي نهاية والباري تعالى خالق النهاية والمتناهى فهو عز وجل لا متناه ولا نهاية فلا كل له ولا بعض.
قال أبو محمد: والآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة القبول لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها ورؤية الله عز وجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا الله ذلك بفضله ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن جميع العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك فإن قال قائل: إنما أخبر تعالى بالرؤية عن الوجه قيل وبالله تعالى التوفيق: معروف في اللغة التي بها خوطبنا أن تنسب الرؤية إلى قال بعض الأعراب: أنافس من ناجاك مقدار لفظة وتعتاد نفسي أن نأت عنك معينها وإن وجوهاً يصطبحن بنظرة إليك لمحسود عليك عيونها
وهو القول في كلام الله تعالى قال أبو محمد: واختلفوا في كلام الله عز وجل بعد أن أجمع أهل الإسلام كلهم أن لله تعالى كلاماً وعلى أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام وكذلك سائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف فكل هذا لا اختلاف فيه بين أحد من أهل الإسلام ثم قالت المعتزلة إن كلام الله تعالى صفة فعل مخلوق وقالوا أن الله عز وجل كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة وقال أهل السنة أن كلام الله عز وجل هو علمه لم يزل وأنه غير مخلوق وهو قول الإمام أحمد بن حنبل وغيره رحمهم الله وقالت الأشعرية كلام الله تعالى صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله تعالى وأنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد.
قال أبو محمد: واحتج أهل السنة بحجج منها أن قالوا أن كلام الله تعالى لو كان غير الله لكان لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضا فلو كان جسماً لكان في مكان واحد ولو كان ذلك لكنا ولو كان عرضاً لاقتضى حاملاً ولكان كلام الله تعالى الذي هو عندنا هو غير كلامه الذي عند غيرنا وهذا محال ولكان أيضاً يغنى بغناء حامله وهذا لا يقولونه وبالله تعالى التوفيق.
قالوا: ولو سمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى من غير الله تعالى لما كان له عليه السلام في ذلك فضل علينا لأننا نسمع كلام الله عز وجل من غيره فصح أن لموسى عليه السلام مزية على من سواه وهو أنه عليه السلام سمع كلام الله بخلاف من سواه وأيضاً فقد قامت الدلائل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقاً وجب ضرورة أن يكون كلام الله تعالى ليس مخلوقاً وليس غير الله تعالى - كما قلنا - في العلم سواء بسواء.
قال أبو محمد: وأما الأشعرية فيلزمهم في قولهم أن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواء بسواء مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد فخلاف مجرد لله تعالى ولجميع أهل الإسلام لأن الله عز وجل يقول: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " ويقول تعالى: " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ".
قال أبو محمد: ولا ضلال أضل ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم ولا تكذيب لله أعظم ممن سمع هذا الكلام الذي لا يشك مسلم أنه خبر الله تعالى الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه بأن لله كلمات لا تنفذ ثم يقول هو من رأيه الخسيس أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد فإن ادعوا أنهم فروا من أن يكثروا مع الله أكذبهم قولهم أن هاهنا خمسة عشرة شيئاً كلها متغايرة وكلها غير الله وخلاف الله وكلها لم تزل مع الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال أبو محمد: وقالت أيضاً هذه الطائفة المنتمية إلى الأشعرية أن كلام الله تعالى عز وجل لم ينزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى وأن الذي نقرأ في المصاحف ويكتب فيها ليس شيء منها كلام الله وأن كلام الله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله تعالى لا يزايل الباري ولا يقوم بغيره ولا يحل في الأماكن ولا ينتقل ولا هو حروف موصولة ولا بعضه خير من بعض ولا أفضل ولا أعظم من بعض وقالوا لم يزل الله تعالى قائلاً لجهنم: " هل امتلأت " وقائلاً للكفار " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " ولم يزل تعالى قائلاً لكل ما أراد تكوينه كن.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد بلا تأويل وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا فإن قالوا ليس هو كلام الله كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا بل هو كلام الله سألناهم عن القرآن أهو الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور أم لا! فإن قالوا لا كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد وأقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموع من القراء ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام.
قال أبو محمد: وقال قوم في اللفظ بالقرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون أن الصوت غير مخلوق والخط غير مخلوق.
قال أبو محمد: وهذا باطل وما قال قط مسلم أن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق وأن الخط غير مخلوق.
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق هو ما قاله الله عز و جل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا نزيد على ذلك شيئاً وهو أن قول القائل القرآن وقوله كلام الله كلاهما معنى واحد واللفظان مختلفان والقرآن هو كلام الله عز وجل على الحقيقة بلا مجاز ونكفر من لم يقل ذلك ونقول أن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " ثم نقول أن قولنا القرآن وقولنا كلام الله لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى على الحقيقة وبرهان ذلك هو قول الله عز وجل: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وقوله تعالى: " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه " وقوله تعالى: " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " وأنكر على الكفار وصدق مؤمني الجن في قولهم: " إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد " فصح أن المسموع وهو الصوت الملفوظ به هو القرآن حقيقة وهو كلام الله تعالى حقيقة من خالف هذا فقد عاند القرآن ويسمى المفهوم من ذلك الصوت قرآناً وكلام الله على الحقيقة فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا كلام الله وهو القرآن ونسمي المصحف كله قرآناً وكلام الله وبرهاننا على ذلك قول الله عز وجل: " إنه لقرآن كريم في كتابٍ مكنون " وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الحرب لئلا يناله العدو وقوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة " وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المصحف قرآناً والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ونسمي المستقر في الصدور قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى برهاننا على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمر بتعاهد القرآن وقال عليه السلام: " إنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقلها " وقال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " فالذي في الصدور هو القرآن وهو كلام الله على الحقيقة لا مجازاً ونقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن وأن أم القرآن فاتحة الكتاب لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل مثلها وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقال الله عز وجل: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " فإن قالوا إنما يتفاضل الأجر على قراءة ذلك قلنا لهم نعم ولا شك في ذلك ولا يكون التفاضل في شيء مما يكون فيه التفاضل إلا في الصفات التي هي أعراض في الموصوف بها وأما في الذوات فلا ونقول أيضا ًأن القرآن هو كلام الله تعالى وهو علمه وليس شيئاً غير الباري تعالى برهان ذلك قول الله عز وجل: " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم " وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته " وباليقين يدري كل ذي فهم أنه تعالى إنما عني سابق علمه الذي سلف بما ينفذه ويقضيه.
قال أبو محمد: فهذه خمسة معان يعبر عن كل معنى منها بأنه قرآن وأنه كلام الله ويخبر عن كل واحد منها إخباراً صحيحاً بأنه القرآن وانه كلام الله تعالى بنص القرآن والسنة للذين أجمع عليهما جميع الأمة وأما الصوت فهو هواء مندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامعين وهو حروف الهجاء والهواء.
وحروف الهجاء والهواء كل ذلك مخلوق بلا خلاف قال الله عز وجل: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " وقال تعالى: " بلسان عربي مبين " واللسان العربي ولسان كل قوم هي لغتهم واللسان واللغات كل ذلك مخلوق بلا شك والمعاني المعبر عنها بالكلام المؤلف من الحروف المؤلفة إنما هي الله تعالى والملائكة والنبيون وسموات وأرضون وما فيهما من الأشياء وصلاة وزكاة وذكر أمم خالية والجنة والنار وسائر الطاعات وسائر أعمال الدين وكل ذلك مخلوق حاشا الله وحده لا شريك له خالق كلما دونه وأما المصحف فإنما هو ورق من جلود الحيوان ومركب منها ومن مداد مؤلف من صمغ وزاج وعفص وماء وكل ذلك مخلوق وكذلك حركة اليد في خطه وحركة اللسان في قراءته واستقرار كل ذلك في النفوس هذه كلها أعراض مخلوقة وكذلك عيسى عليه السلام هو كلمة الله وهو مخلوق بلا شك قال الله تعالى: " بكلمة منه اسمه المسيح " وأما علم الله تعالى فلم يزل وهو كلام الله تعالى وهو القرآن وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى أصلاً ومن قال أن شيئاً غير الله تعالى لم يزل مع الله عز وجل فقد جعل لله عز وجل شريكاً ونقول أن لله عز وجل كلاماً حقيقة وأنه تعالى كلم موسى ومن كلم من الأنبياء والملائكة عليهم السلام تكليماً حقيقة لا مجازاً ولا يجوز أن يقال البتة أن الله تعالى متكلم لأنه لم يسم بذلك نفسه ومن قال أن الله تعالى مكلم موسى لم ننكره لأنه يخبر عن فعله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله كلاماً لنفي الخرس عنه لما ذكرنا قبل من أنه إن كان يعني الخرس المعهود فإنه لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو حركة اللسان والشفتين وإن كان إنما ينفي خرساً غير معهود فهذا لا يعقل أصلاً ولا يفهم وأيضاً فيلزمه أن يسميه تعالى شماماً لنفي الخشم عنه ومتحركاً لنفي الخدر وهذا كله إلحاد في أسمائه عز وجل لكن لما قال الله تعالى أن له كلاماً قلناه وأقررنا به ولو لم يقله عز وجل لم يحل لأحد أن يقوله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ولما كان اسم القرآن يقع على خمسة أشياء وقوعاً مستوياً صحيحاً منها أربعة مخلوقة وواحد غير مخلوق لم يجز البتة لأحد أن يقول أن القرآن مخلوق ولا أن يقال أن كلام الله مخلوق لأن قائل هذا كاذب إذا أوقع صفة الخلق على ما لا يقع عليه مما يقع عليه اسم قرآن واسم كلام الله عز وجل ووجب ضرورة أن يقال أن القرآن لا خالق له ولا مخلوق وأن كلام الله تعالى لا خالق ولا مخلوق لأن الأربعة المسميات منه ليست خالقة ولا يجوز أن تطلق على القرآن ولا على كلام الله تعالى اسم خالق ولأن المعنى الخامس غير مخلوق ولا يجوز أن توضع صفة البعض على الكل الذي لا تعمه تلك الصفة بل واجب أن يطلق نفي تلك الصفة التي للبعض على الكل وكذاك لو قال قائل أن الأشياء كلها مخلوقة أو قال للحق مخلوق أو قال كل موجود مخلوق لقال الباطل لإن الله تعالى شيء موجود حق ليس مخلوقاً لكن إذا قال الله تعالى خالق كل شيء جاز ذلك لأنه قد أخرج بذكر الله تعالى أن المخلوق في كلامه الأشكال ومثال ذلك في ما بيننا أن ثياباً خمسة الأربعة منها حمر والخامس غير أحمر لكان من قال هذه الثياب حمر كاذباً ولكان من قال هذه الثياب ليست حمراً صادقاً وكذلك من قال الإنسان طبيب يعني كل إنسان لكان كاذباً ولو قال ليس الإنسان طبيباً يعني كل إنسان لكان صادقاً وكذلك لا يجوز أن يطلق أن الحق مخلوق ولا أن العلم مخلوق لأن اسم الحق يقع على الله تعالى وعلى كل موجود واسم العلم يقع على كل علم وعلى علم الله عز وجل وهو غير مخلوق لكن يقال الحق غير مخلوق والعلم غير مخلوق هكذا جملة فإذا بين فقيل كل حق دون الله تعالى فهو مخلوق وكل علم دون الله تعالى فهو مخلوق فهو كلام صحيح وهكذا لا يجوز أن يقال أن كلام الله مخلوق ولا أن القرآن مخلوق ولكن يقال علم الله غير مخلوق وكلام الله غير مخلوق والقرآن غير مخلوق ولو أن قائلاً قال أن الله مخلوق وهو يعني صوته المسموع أو الألف واللام والهاء أو الحبر التي كتبت هذه الكلمة به لكان في ظاهر قوله عند جميع الأمة كافراً ما لم يبين فيقول صوتي أو هذا الخط مخلوق.
قال أبو محمد: فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة الذي لم نتعد فيه ما قاله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأجمعت الأمة كلها على جملته وأوجبته الضرورة والحمد لله رب العالمين فإن سأل سائل عن اللفظ بالقرآن قلنا له سؤالك هذا يقتضي أن اللفظ المسموع هو غير القرآن وهذا باطل بل اللفظ المسموع هو القرآن نفسه وهو كلام الله عز وجل نفسه كما قال تعالى: " حتى يسمع كلام الله " وكلام الله تعالى غير مخلوق لما ذكرنا وأما من أفرد السؤال عن الصوت وحروف الهجا والحبر فكل ذلك مخلوق بلا شك.
قال أبو محمد: ونقول أن الله تعالى قد قال ما أخبرنا أنه قاله وأنه تعالى لم يقل بعدما أخبرنا أنه سيقول في المستأنف ولكن سيقوله ومن تعد هذا فقد كذب الله جهلاً وأما من قال أن الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكل ما كونه أو يريد تكوينه فإن هذا قول فاحش موجب أن العالم لم يزل لأن الله تعالى أخبرنا أنه تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئاً إن يقول له كن فيكون " فصح أن كل مكون فهو كائن إثر قول الله تعالى له كن بلا مهلة فلو كان الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكان كل مكون لم يزل وهذا قول من قال أن العالم لم يزل وله مدبر خالق لم يزل وهكذا كفر مجرد نعوذ بالله منه وقول الله تعالى هو غير تكليمه لأن تكليم الله تعالى من كلم فضيلة عظيمة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى: " منهم من كلم الله " وأما قوله فقد يكون سخطاً قال تعالى أنه قال لأهل النار: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال لإبليس: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " قال اخرج منها ولا يجوز أن يقال إبليس كليم الله ولا أن أهل النار كلماء الله فقول الله عز وجل محدث بالنص وبرهان ذلك أيضاً قول الله تعالى: " إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " ثم قال تعالى أنه قال لهم: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال تعالى أنهم قالوا: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " فنص تعالى على أنه لا يكلمهم وأنه يقول لهم فثبت يقيناً أن قول الله تعالى هو غير كلامه وغير تكليمه لكن يقول كل كلام وتكليم فهما قول وليس كل قول منه تعالى كلاماً ولا تكليماً بنص القرآن ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى أخبرنا أنه كلم موسى وكلم الملائكة عليهم السلام وثبت يقيناً أنه كلم محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " فخص الله تعالى بتكليمه بعضهم دون بعض كما ترى وقال تعالى: " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء " ففي هذه الآيات والحمد لله أكبر نص على تصحيح كل ما قلناه في هذه المسئلة وما توفيقنا إلا بالله وأخبرنا تعالى في هذه الآية أنه لا يكلم بشراً إلا بأحد هذه الوجوه الثلاثة فقط فنظرنا فيها فوجدناه تعالى قد سمى ما تأتينا به الرسل عليهم السلام تكليماً انتقل منه للبشر فصح بذلك أن الذي أتتنا به رسله عليهم السلام هو كلام الله وأنه تعالى قد كلمنا بوحيه الذي أتتنا به رسله عليهم السلام وأننا قد سمعنا كلام الله عز وجل الذي هو القرآن الموحى إلى النبي بلا شك والحمد لله رب العالمين.
ووجدناه تعالى قد سمى وحيه إلى أنبياءه عليهم السلام تكليماً لهم ووجدناه عز وجل قد ذكر وجهاً ثالثاً وهو التكليم الذي يكون من وراء حجاب وهو الذي فضل به بعض النبيين على بعض وهو الذي يطلق عليه تكليم الله عز وجل دون صلة كما كلم موسى عليه السلام " من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة " وأما القسمان الأولان فإنما يطلق عليهما تكليم الله عز وجل بصلة لا مجرداً فنقول: كلم الله جميع الأنبياء بالوحي إليهم ونقول: في القسم الثاني كلمنا الله تعالى في القرآن على لسان نبيه عليه السلام بوحيه إليه ونقول: قال لنا الله عز وجل " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " ونقول: أخبرنا الله تعالى عن موسى وعيسى وعن الجنة والنار في القرآن وفيما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولو قال قائل: حدثنا الله تعالى عن الأمم السالفة وعن الجنة والنار في القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لكان قولاً صحيحاً لا مدفع له لأن الله تعالى يقول: " ومن أصدق من الله حديثاً " وكذلك يقول قص الله علينا أخبار الأمم في القرآن قال تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ونقول: سمعنا كلام الله تعالى في القرآن على التحقيق لا مجازاً وفضل علينا الملائكة والأنبياء عليهم السلام في هذا بالوجه الثاني الذي هو تكليمهم بالوحي إليهم في النوم واليقظة دون وسيطة ملك لكن بكلام مسموع بالآذان معلوم بالقلب زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى وهذا هو الوجه الذي خص به موسى عليه السلام من الشجرة ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من المستوا الذي سمع فيه صريف الأقلام وسائر من كلم الله تعالى كذلك من النبيين والملائكة عليهم السلام قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل " ولا يجوز أن يكون شيء من هذا بصوت أصلاً لأنه كان يكون حينئذ يفيد بوسيطة مكلم غير الله تعالى وكان ذلك الصوت بمنزلة الرعد الحادث بالجو والقزع الحادث في الأجسام والوحي أعلى من هذه منزلة والتكليم من وراء حجاب أعلى من سائر الوحي بنص القرآن لأن الله تعالى سمى ذلك تفضيلاً كما تلونا وكل ما ذكرنا وإن كان يسمى تكليماً فالتكليم المطلق أعلى في الفضيلة من التكليم الموصول كما أن كل روح فهو روح الله تعالى على الملك لكن إذا قلنا روح الله على الإطلاق يعني بذلك جبريل أو عيسى عليهم السلام كان ذلك فضيلة عظيمة لهما.
قال أبو محمد: وإذا قرأنا القرآن قلنا كلامنا هذا هو كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ولا يحل حينئذ لأحد أن يقول ليس كلامي هذا كلام الله تعالى وقد أنكر الله عز وجل هذا على من قاله إذ يقول تعالى: " سأرهقه صعوداً أنه فكر وقدر فقتل كيف قدر " إلى قوله تعالى فقال: " إن هذا إلا سحر يؤثر أن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر ".
قال أبو محمد: وكذلك يقول أحدنا ديني دين محمد صلى الله عليه وسلم وإذا عمل عملاً أوجبته سنة قال عملي هذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحل لأحد من المسلمين أن يقول: ديني غير دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قال ذلك لوجب قتله بالردة وكذلك ليس له أن يقول إذا عمل عملاً جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا غير عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قاله لأدب ولكان كاذباً وكذلك يقول أحدنا ديني هو دين الله عز وجل يريد الذي أمر به عز وجل ولو قال ديني غير دين الله عز وجل لوجب قتله بالردة وكذلك يقول إذا حدث أحدنا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا ًكلامي هذا هو نفس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قال إن كلامي هذا هو غير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان كاذباً وهذه أسماء أوجبتها ملة الله عز وجل وأجمع عليها أهل الإسلام ولم يخف علينا ولا على من سلف من المسلمين أن حركة لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير حركة ألسنتنا وكذلك حركة أجسامنا في العمل وكذلك ما توصف به النفوس من العلم ولكن التسمية في الشريعة ليست إلينا إنما هي لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فمن خالف هذا كان كمن قال فرعون وأبو جهل مؤمنان وموسى ومحمد كافران فإذا قيل له في ذلك قال أو ليس أبو جهل وفرعون مؤمنين بالكفر ومحمد وموسى كافران بالطاغوت فهذا وإن كان لكلامه مخرج فهو عند أهل الإسلام كافر لتعديه ما أوجبته الشريعة من التسمية وقد شهدت العقول بوجوب الوقوف عند ما أوجبه الله تعالى في دينه فمن عد عن ذلك وزعم أنه اتبع دليل عقله في خلاف ذلك فليعلم أنه فارق قضية العقل الصادقة الموجبة للوقوف عند حكم الشريعة وخالف المؤمنين واتبع غير سبيلهم قال تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " نعوذ بالله من ذلك.
قال أبو محمد: قال بعضهم فإذا سمعنا نحن كلام الله تعالى وسمعه موسى عليه السلام فأي فرق بينه وبيننا قلنا أعظم الفرق وهو أن موسى والملائكة عليهم السلام سمعوا الله تعالى يكلمهم ونحن سمعنا كلام الله تعالى من غيره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبن مسعود إذ أمره أن يقرأ عليه القرآن فقال له ابن مسعود: يا رسول الله أقرأه عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فصح يقيناً أن القرآن الذي أنزله الله تعالى نفسه فسمعه من غيره وقالوا فكلام الله تعالى إذاً يحل فينا قلنا هذا تهويل بارد ونعم إذا سمى الله تعالى كلامنا إذا قرأنا كلاماً له تعالى فنحن نقول بذلك ونقول أن كلام الله في صدورنا وجار على ألسنتنا ومستقر في مصاحفنا ونبرأ ممن أنكر ذلك بقوله الفاسد المخرج له عن الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: قد ذكرنا قيام البرهان عن أن القرآن معجز قد أعجز الله عن مثل نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من ذكرنا عن أن يأتوا بمثله وتبكيتهم بذلك في محافلهم وهذا أمر لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر وأجمع المسلمون على ذلك ثم اختلف أهل الكلام في خمسة أنحاء من هذه المسالة فالنحو الأول قول روي عن الأشعري وهو أن المعجز الذي تحدى الناس بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط ولا نزل إلينا ولا سمعناه وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان إذ من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل لما لم يعرفه قط ولا سمعه وأيضا ًفيلزمه ولا بد بل هو نفس قوله أنه إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فإن المسموع المتلو عندنا ليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر مجرد لا خلاف فيه لأحد فإنه خلاف للقرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو عشر سور منه وذلك الكلام الذي هو عند الأشعري هو المعجز ليس له سوراً ولا كثيراً بل هو واحد فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين.
وله قول آخر كقول جميع المسلمين إن هذا المتلو هو المعجز والنحو الثاني هل الإعجاز متماد أم قد ارتفع بتمام الحجة به في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض أهل الكلام أن الحجة قد قامت بعجز جميع العرب عن معارضته ولو عورض الآن لم تبطل بذلك الحجة التي قد صحت كما أن عصا موسى إذ قامت حجته بانقلابها حية لم يضره ولا أسقط حجته عودها عصا كما كانت وكذلك خروج يده بيضاء من جيبه ثم عودها كما كانت وكذلك سائر الآيات وقال جمهور أهل الإسلام أن الإعجاز باق إلى يوم القيامة والآية بذلك باقية أبداً كما كانت.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره لأنه نص قول الله تعالى إذ يقول: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ".
قال أبو محمد: فهذا نص جرى على أنه لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقيناً أن ذلك على التأبيد وفي المستأنف أبداً ومن ادعى أن المراد بذلك الماضي فقد كذب لأنه لا يجوز أن تحال اللغة فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص أخر جلي وارد بذلك أو بإجماع متيقن أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولاسبيل في هذه المسألة إلى شيء من هذه الوجوه وكذلك قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا " عموم لكل إنس وجن أبداً لا يجوز تخصيص شيء من ذلك أصلاً بغير ضرورة ولا إجماع.
قال أبو محمد: ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر فلا حجة هاهنا تقوم له على الطائفة المذكورة فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين.
والنحو الثالث ما المعجز منه أنظمه أم في نصه من الإنذار بالغيوب فقال بعض أهل الكلام أن نظمه ليس معجزاً وإنما إعجازه ما فيه من الأخبار بالغيوب وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين معجز نظمه وما فيه من الأخبار بالغيوب وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو ضلال وبرهان ذلك قول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره واكثر سوره ليس فيها أخبار بغيب فكأن من جعل المعجز الأخبار الذي فيه بالغيوب مخالفاً لما نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت والنحو الرابع ما وجه إعجازه فقالت طائفة وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة وقالت طوائف إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط فأما الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " ونحو هذا وموه بعضهم بأن قال لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ.
قال أبو محمد: ما نعلم لهم شغباً غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه أما قولهم لو كان كما قلنا لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة أبلغ فهذا هو الكلام الغث حقاً لوجوه أحدها أنه قول بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله بنفسه فيقال له بل لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود فهذا أقوى من شغبهم.
وثانيها أنه لا يسأل الله تعالى عما يفعل ولا يقال له لم عجزت بهذا النظم دون غيره ولم أرسلت هذا الرسول دون غيره ولم قلبت عصا موسى حية دون أن تقلبها أسداً وهذا كله حمق ممن جاء به لم يوجبه قط عقل وحسب الآية أن تكون خارجة عن المعهود فقط.
وثالثها أنه حين طردوا سؤالهم ربهم بهذا السؤال الفاسد لزمهم أن يقولوا هلا كان هذا الإعجاز في كلام بجمع اللغات فيستوي في معرفة إعجازه العرب والعجم لأن العجم لا يعرفون إعجاز القرآن إلا بأخبار العرب فقط فبطل هذا الشغب الغث والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وأما ذكرهم " ولكم في القصاص حياة " وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ويقال لهم: إن كان كما تقولون ومعاذ الله من ذلك فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة وأما سائره فلا وهذا كفر لا يقوله مسلم فإن قالوا جميع القرآن مثل هذه الآيات في الإعجاز قيل لهم فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذاً وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزاً وغير معجز ثم نقول لهم قول الله تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " أمعجز هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزاً فإن قالوا ليس معجزاً كفروا وإن قالوا أنه معجز صدقوا وسألوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا نعم كابروا وكفوا مؤنتهم لأنها أسماء رجال فقط ليس على شروطكم في البلاغة فلو كان إعجاز القرآن لأنه في درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هرون والجاحظ وشعر أمرئ القيس ومعاذ الله من هذا لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن إن يأتي من يماثله ضروة فلا بد لهم من هذه الخطة أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط وأيضاً فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل فإن قالوا فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا قلنا وبالله تعالى التوفيق إن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين فلا لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه وبرهان هذا أن إنساناً لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجاً عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلاً وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار " لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " وحكى تعالى عن كافر قال: " إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر " وحكى عن آخرين أنهم قالوا: " لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ " فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاماً له أصاره معجزاً ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى غيره والحمد لله.
والنحو الخامس ما مقدار المعجز منه فقالت الأشعرية ومن وافقهم أن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو إنا أعطيناك الكوثر فصاعداً وإن ما دون ذلك ليس معجزاً واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " قالوا ولم يتحد تعالى بأقل من ذلك وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كله قليله وكثيره معجز وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قوله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " لأنه تعالى لم يقل إن ما دون السورة ليس معجزاً بل قد قال تعالى على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولا يختلف اثنان في أن كل شيء من القرآن قرآن فكل شيء من القرآن معجز ثم تعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا فنقول أخبرونا ماذا تعنون بقولكم أن المعجز مقدار سورة أسورة كاملة لا أقل أم مقدار كوثر في الآيات أم مقدارها في الكلمات أم مقدارها في الحروف ولا سبيل إلى وجه خامس فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من أولها ليست معجزة وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها من آخرها فمقدور على مثلها وإن قالوا بل مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ولزمهم مع ذلك أن والفجر وليال عشر والشفع والوتر معجز كآية الكرسي وآيتان إليها لأنها ثلاث آيات وهذا غير قولهم ومكابرة أيضاً أن تكون هذه الكلمات معجزة حاشا كله غير معجزة ولزمهم أيضاً أن والضحى والفجر والعصر هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهن ثلاث آيات فإن قالوا هن متفرقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية متفرقة وإمكان المجيء بمثلها ومن جعل هذا ممكناً فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه ولزمهم أيضاً أن " ولكم في القصاص حياة " ليس معجزاً وهذا نقض لقولهم في أنه في أعلى درج البلاغة وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول وإن قالوا بل في عدد الكلمات أو قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهم إبطال احتجاجهم بقوله تعالى: " بسورة من مثله " لأنهم جعلوا معجزاً ما ليس سورة ولم يقل تعالى بمقدار سورة فلاح تمويههم والثاني أن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفاً وقد قال تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفاً وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشر كلمات اثنين وستين حرفاً فهذا أكثر كلمات وحروفاً من سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا معجزاً عندكم ويكون " ولكم في القصاص حياة " غير معجز فإن قالوا إن هذا غير معجز تركوا قولهم في إعجاز مقدار أقل سورة في عدد الكلمات وعدد الحروف وإن قالوا بل هو معجز تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضاً أننا إن أسقطنا من هذه الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمات أن لا يكون شيء من ذلك معجز فظهر سقوط كلامهم وتخليطه وفساده وأيضاً فإذا كانت الآية منه أو الآيتان غير معجزة وكانت مقدوراً على مثلها وإذا كان ذلك فكله مقدور على مثله وهذا كفر فإن قالوا إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها قيل لهم هذا غير قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة لأن طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " وإن كل كلمة قائمة المعنى يعلم إذا تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبداً لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال إن آية النبوة إن الله تعالى يطلقني على المشي في هذا الطريق الواضحة ثم لا يمشي فيها أحد غيري أبداً أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون من الآيات وإن الكلمة المذكورة أنها متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآناً فهي غير معجزة وهذا هو الذي جاء به النص والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعين عاماً ونحن نجد في القرآن إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما كقوله تعالى " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا في صدر ومثل هذا في القرآن كثير والحمد لله رب العالمين.
الكلام في القدر
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله وأنه لا استطاعة له أصلاً وهو قول جهم بن صفوان وطائفة من الأزارقة وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإنسان ليس مجبراً وأثبتوا له قوة واستطاعة بها يفعل ما اختار فعله ثم افترقت هذه الطائفة على فرقتين فقالت إحداهما الاستطاعة التي يكون بها الفعل لا تكون إلا مع الفعل ولا يتقدمه البتة وهذا قول طوائف من أهل الكلام ومن وافقهم كالنجار والأشعري ومحمد بن عيسى برعوت الكاتب وبشر بن غياث المريسي وأبي عبد الله العطوي وجماعة من المرجئة والخوارج وهشام بن الحكم وسليمان بن جرير وأصحابهما وقالت الأخرى أن الاستطاعة التي يكون بها الفعل هي قبل الفعل موجودة في الإنسان وهو قول المعتزلة وطوائف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمران وصالح قية والناسي وجماعة من الخوارج والشيعة ثم افترق هؤلاء على فرق فقالت طائفة إن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل أيضاً للفعل ولتركه وهو قول بشر بن المعتمر البغدادي وضرار بن عمرو الكوفي وعبد الله بن غطفان ومعمر بن عمرو العطار البصري وغيرهم من المعتزلة وقال أبو الهذيل محمد بن الهذيل العبدي البصري العلاف لا تكون الاستطاعة مع الفعل البتة ولا تكون إلا قبله ولا بد وتفنى مع أول وجود الفعل وقال أبو اسحق بن إبراهيم بن سيار النظام وعلي الإسواري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم ليست الاستطاعة شيئاً غير نفس المستطيع وكذلك أيضاً قالوا في العجز أنه ليس شيئاً غير العاجز إلا النظام فإنه قال هو آفة دخلت على المستطيع.
قال أبو محمد: فأما من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا لما كان الله تعالى فعالاً وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعالاً غيره وقالوا أيضاً معنى إضافة الفعل إلى الإنسان إنما هو كما تقول مات زيد وإنما أماته الله تعالى وقام البناء وإنما أقامه الله تعالى.
قال أبو محمد: وخطأ هذه المقالة ظاهر بالحس والنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم فأما النص فإن الله عز وجل قال في غير موضع من القرآن " جزاء بما كانوا يعملون لم تقولون ما لا تفعلون وعملوا الصالحات " فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وأما الحس فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهية علمنا يقيناً علماً لا يخالج فيه الشك أن بين الصحيح الجوارح وبين من لا صحة بجوارحه فرقاً لائحاً لجوارحه لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختاراً لها دون مانع والذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك جهده لم يفعله أصلاً ولا بيان أبين من هذا الفرق والمجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبراً وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة ووجب أن لنا حولاً وقوة ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ولو كان ما ذهب إليه الجهمية لكان القول لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له وكذلك قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا إلا أن يشاء الله كونها وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ومن عرف عناصر الأشياء من الواجب والممتنع والممكن أيقن بالفرق بين صحيح الجوارح وغير صحيحها لأن الحركة الاختيارية بأول الحس هي غير الاضطرارية وإن الفعل الاختياري من ذي الجوارح المؤوفة وهو من ذي الجوارح الصحيحة ممكن وإننا بالضرورة نعلم أن المقعد لو رام القيام جهده لما أمكنه ونقطع يقيناً أنه لا يقوم وأن الصحيح الجوارح لا ندري إذا رأيناه قاعداً يقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذلك منه ممكناً وأما من طريق اللغة فإن الإجبار والاضطرار والغلبة أسماء مترادفة وكلها واقع على معنى واحد لا يختلف وقوع الفعل ممن لا يؤثره ولا يختاره ولا يتوهم منه خلاف البتة وأما من آثر ما يظهر منه من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إليه هواه فلا يقع عليه اسم إجبار ولا اضطرار لكنه مختار والفعل منه مراد متعمد مقصود ونحو هذه العبارات عن هذا المعنى في اللغة العربية التي نتفاهم بها فإن قال قائل فلم أبيتم ها هنا من إطلاق لفظة الاضطرار و أطلقتموها في المعارف فقلتم أنها باضطرار وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في الإنسان فالجواب أن بين الأمرين فرقاً بيناً وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله وممكن ذلك منه وليس ذلك ما عرفه يقيناً ببرهان لأنه لا يتوهم البتة انصرافه عنه ولا يمكنه ذلك أصلاً فصح أنه مضطر إليها وأيضاً فقد أثنى الله عز وجل على قوم دعوه فقالوا: " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " وقد علمنا أن الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ مترادفة كلها واقع على معنى واحد وهذه صفة من يمكن عنه الفعل باختياره أو تركه باختياره ولا شك في أن هؤلاء القوم الذين دعوا هذا الدعاء قد كلفوا شيئاً من الطاعات والأعمال واجتناب المعاصي فلولا أن ها هنا أشياء لهم بها طاقة لكان هذا الدعاء حمقاً لأنهم كانوا يصيرون داعين الله عز وجل في أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وهم لا طاقة لهم بشيء من الأشياء فيصير دعاءهم في أن لا يكلفوا ما قد كلفوه وهذا محال من الكلام وأما احتجاجهم بأن الله تعالى لما كان فعالاً وجب أن لا يكون فعال غيره فخطأ من القول لوجوه أحدها أن النص قد ورد بأن للإنسان أفعالاً وأعمالاً قال تعالى: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " فأثبت الله لهم الفعل وكذلك نقول أن الإنسان يصنع لأن النص قد جاء بذلك ولولا النص ما أطلقنا شيئاً من هذا وكذلك لما قال الله تعالى: " وفاكهة مما يتخيرون " علمنا أن للإنسان اختياراً لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء في أنه تعالى خالق أعمال الجميع على أن الله تبارك وتعالى قال " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فعلمنا أن الاختيار الذي هو فعل الله تعالى وهو منفي عن سواه وهو غير الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به ووجدنا هذا أيضاً حساً لأن الاختيار الذي توحد الله تعالى به هو أن يفعل ما شاء كيف شاء وإذا شاء وليست هذه صفة شيء من خلقه وأما الاختيار الذي أضافه الله تعالى إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى شيء ما و الإيثار له على غيره فقط وهنا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.
ومنها أن الاشتراك في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ألا ترى انك تقول الله الحي والإنسان حي والإنسان حليم كريم عليم والله تعالى حليم كريم عليم فليس هذا يوجب اشتباهاً بلا خلاف وإنما يقع الاشتباه بالصفات الموجودة في الموصوفين والفرق بين الفعل الواقع من الله عز وجل والفعل الواقع منا هو أن الله تعالى اخترعه وجعله جسماً أو عرضاً أو حركة أو سكوناً أو معرفة أو إرادة أو كراهية وفعل عز وجل كل ذلك فينا بغير معاناة منه وفعل تعالى لغير علة وأما نحن فإنما كان فعلاً لنا لأنه عز وجل خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره عز وجل فينا محمولاً لاكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه نحن وأما من قال بالاستطاعة قبل الفعل فعمدة حجتهم إن قالوا لا يخلو الكافر من أحد أمرين إما أن يكمن مأموراً بالإيمان أو لا يكون مأموراً به فإن قلتم أنه غير مأمور بالإيمان فهذا كفر مجرد وخلاف للقرآن والإجماع وإن قلتم هو مأمور بإيمان وهكذا تقولون فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون أمر وهو يستطيع ما أمر به فهذا قولنا لا قولكم أو يكون أمر وهو لا يستطيع ما أمر به فقد نسبتم إلى الله عز وجل تكليف ما لا يستطاع ولزمكم أن تجيزوا تكليف الأعمى أن يرى والمقعد أن يجري أو يطلع إلى السماء وهذا كله جور وظلم والجور والظلم منفيان عن الله عز وجل ولا تخلو تلك الاستطاعة من أن يكون المرء أعطيها والفعل موجود أو أعطيها والفعل غير موجود فإن كان أعطيها والفعل موجود فلا حاجة به إليها إذ قد وجد الفعل منه الذي يحتاج إلى الاستطاعة ليكون ذلك الفعل بها وإن كان أعطيها والفعل غير موجود فهذا قولنا أن الاستطاعة قبل الفعل قالوا والله تعالى يقول: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " قالوا فلو لم تتقدم الاستطاعة الفعل لكان الحج لا يلزم أحداً قبل ان يحج وقال تعالى: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " وقال تعالى: " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً " فلو كانت الاستطاعة للصوم لا تتقدم للصوم ما لزمت أحداً الكفارة به وقال تعالى: " يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " فصح أن استطاعة الخروج موجودة مع عدم الخروج وقال تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " ولهم أيضاً في خلق الأفعال اعتراض نذكره إنشاء الله تعالى وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: إن الكلام على حكم لفظة قبل تحقيق معناها ومعرفة المراد بها وعن أي شيء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حقيقتها فينبغي أولاً أن نقف على معنى الاستطاعة فإذا تكلمنا عليه وقررنا بحول الله تعالى وقوته سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله تعالى وتأييده فنقول وبالله تعالى نتأيد.
إن من قال أن الاستطاعة هي المستطيع قول في غاية الفساد ولو كان لقائله أقل علم باللغة العربية ثم بحقائق الأسماء والمسميات ثم بماهية الجواهر والأعراض لم يقل هذا السخف أما اللغة فإن الاستطاعة إنما هي مصدر استطاع يستطيع استطاعة والمصدر هو فعل الفاعل وصفته كالضرب الذي هو فعل الضارب والحمرة التي هي صفة الأحمر والاحمرار الذي هو صفة المحمر وما أشبه هذا والصفة والفعل عرضان بلا شك في الفاعل منا وفي الموصوف والمصادر هي أحداث المسمين بالأسماء بإجماع من أهل كل لسان فإذا كانت الاستطاعة في اللغة التي بها نتكلم نحن وهم إنما هي صفة في المستطيع فبالضرورة نعلم أن الصفة هي غير الموصوف لأن الصفات تتعاقب عليه فتمضي صفة وتأتي أخرى فلو كانت الصفة هي الموصوف لكان الماضي من هذه الصفات هو الموصوف الباقي ولا سبيل إلى غير هذا البتة فإذ لا شك في أن الماضي هو غير الباقي فالصفات هي غير الموصوف بها وما عدا هذا فهو من المحال والتخليط فإن قالوا أن الاستطاعة ليست مصدر استطاع ولا صفة المستطيع كابروا وأتوا بلغة جديدة غير اللغة التي نزل بها القرآن والتي لفظة الاستطاعة التي فيها نتنازع إنما هي كلمة من تلك اللغة ومن أحال شيئاً من الألفاظ اللغوية عن موضوعها في اللغة بغير نص محيل لها ولا بإجماع من أهل الشريعة فقد فارق حكم أهل العقول والحياء وصار في نصاب من لا يتكلم معه ولا يعجز أحد أن يقول الصلاة ليست ما تعنون بها وإنما هي أمر كذا والماء هو الخمر وفي هذا بطلان الحقائق كلها وأيضاً فإننا نجد المرء مستطيعاً ثم نراه غير مستطيع لخدر عرض في أعضائه أو لتكتيف وضبط أو لإغماء وهو بعينه قائم لم ينتقص منه شيء فصح بالضرورة أن الذي عدم من الاستطاعة هو غير المستطيع الذي كان ولم يعدم هذا أمر يعرف بالمشاهدة والحس وبهذا أيقنا أن الاستطاعة عرض من الأعراض تقبل الأشد الأضعف فنقول استطاعة أشد من استطاعة واستطاعة أضعف من استطاعة وأيضاً فأن الاستطاعة لها ضد وهو العجز والأضداد لا تكون إلا أعراضاً تقتسم طرفي البعد كالخضرة والبياض والعلم والجهل والذكر والنسيان وما أشبه هذا وهذا كله أمر يعرف بالمشاهدة ولا ينكره إلا أعمى القلب والحواس ومعاند مكابر للضرورة والمستطيع جوهر والجوهر لا ضد له فصح بالضرورة إن الاستطاعة هي غير المستطيع بلا شك وأيضاً فلو كانت الاستطاعة هي المستطيع لكان العجز أيضاً هو العاجز والعاجز هو المستطيع بالأمس فعلى هذا يجب أن العجز هو المستطيع فإن تمادوا على هذا لزمهم أن العجز عن الأمر هو الاستطاعة عليه وهذا محال ظاهر فإن قالوا أن العجز غير المستطيع هو آفة دخلت على المستطيع سئلوا عن الفرق الذي من أجله قالوا أن الاستطاعة هي المستطيع ومنعوا أن يكون العجز هو العاجز ولا سبيل لوجود فرق في ذلك وبهذا نفسه يبطل قول من قال أن الاستطاعة هي بعض المستطيع سواء بسواء لأن العرض لا يكون بعضاً للجسم وأما من قال أن الاستطاعة كل ما توصل به إلى الفعل كالإبرة والدلو والحبل وما أشبه ذلك فقول فاسد تبطله المشاهدة لأنه قد توجد هذه الآلات وتعدم صحة الجوارح فلا يمكن الفعل فإن قالوا قد تعدم هذه الآلات وتوجد صحة الجوارح ولا يمكن الفعل قلنا صدقتم وبوجود هذه الآلات تم الفعل إلا أن لفظة الاستطاعة التي في معناها نتنازع هي لفظة قد وضعت في اللغة التي بها نتفاهم ونعبر عن مرادنا على عرض في المستطيع فليس لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن موضوعها في اللغة برأيه من غير نص ولا إجماع ولو جاز هذا لبطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبداً وقد علمنا يقيناً أن لفظة الاستطاعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم على حبل ولا على مهماز ولا على إبرة فإن قالوا قد صح عن أئمة اللسان كابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما إن الاستطاعة زاد وراحلة قيل لهم نعم قد صح هذا ولا خلاف بين أحد له فهم باللغة أنهما عنيا بذلك القوة على وجود زاد وراحلة وبرهان على ذلك أن الزاد والراحلة كثير في العالم وليس كونهما في العالم موجباً عندهما فرض الحج على ما لا يجدهما فصح ضرورة أنهما عنيا بذلك القوة على إحضار الزاد والراحلة والقوة على ذلك عرض كما قلنا وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول أيضاً أن ذكروا قول الله عز وجل: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " لأن هذا هو نص قولنا أن القوة عرض ورباط الخيل عرض فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين فإذا قد سقطت هذه الأقوال كلها وصح أن الاستطاعة عرض من الأعراض فواجب علينا معرفة ما تلك الأعراض فنظرنا ذلك بعون الله عز وجل وتأييده فوجدنا بالضرورة الفعل لا يقع باختيار الأمن صحيح الجوارح التي يكون بها ذلك الفعل يقيناً أن سلامة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ثم نظرنا سالم الجوارح لا يفعل مختاراً إلا حتى يستضيف إلى ذلك إرادة الفعل فعلمنا أن الإرادة أيضاً محركة للاستطاعة ولا نقول أن الإرادة استطاعة لأن كل عاجز عن الحركة فهو مريد لها وهو غير مستطيع وقد علمنا ضرورة أن العاجز عن الفعل فليس فيه استطاعة للفعل لأنهما ضدان والضدان لا يجتمعان معاً ولا يمكن أيضاً أن تكون الإرادة بعض الاستطاعة لأنه كان يلزم من ذلك أن في تعاجز المريد استطاعة ما لأن بعض الاستطاعة استطاعة وبعض العجز عجز ومحال أن يكون في العاجز عن الفعل استطاعة له البتة فالاستطاعة ليست عجزاً فمن استطاع على شيء وعجز عن أكثر من ففيه استطاعة على ما يستطيع عليه هي غير استطاعة التي فيه على ما استطاع عليه وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا فوجدنا السالم الجوارح المريد للفعل قد يعترضه دون الفعل مانع لا يقدر معه على الفعل أصلاً فعلمنا أن هاهنا شيئاً آخر به تتم الاستطاعة ولابد وبه يوجد الفعل فعلمنا ضرورة هذا الشيء إذ هو تمام الاستطاعة ولا تصح الاستطاعة إلا به فهو باليقين قوة إذ الاستطاعة قوة وأن ذلك الشيء قوة بلا شك فقد علمنا أنه ما أتى به من عند الله تعالى لأنه تعالى مؤتي القوى إذ لا يمكن ذلك لأحد دونه عز وجل فصح ضرورة أن الاستطاعة صحة الجوارح مع ارتفاع الموانع وهذان الوجهان قبل الفعل وقوة أخرى من عند الله عز وجل وهذا الوجه مع الفعل باجتماعهما يكون الفعل وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على صحة هذا القول إجماع الأمة كلها على سؤال الله تعالى التوفيق والاستعاذة به من الخذلان فالقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الخير تسمى بالإجماع توفيقاً وعصمة وتأييداً والقوة التي ترد من الله تعالى فيفعل العبد بها الشر تسمى بالإجماع خذلاناً والقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عوناً أو قوة أو حولاً وتبين من صحة هذا صحة قول المسلمين لا حول ولا قوة إلا بالله والقوة لا تكون لأحد البتة فعل إلا بها فصح أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكذلك يسمى تيسيراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ميسر لما خلق له وقد وافقنا جميع المعتزلة على أن الاستطاعة فعل الله عز وجل وأنه لا يفعل أحد خيراً ولا شراً إلا بقوة أعطاه الله تعالى إياها إلا أنهم قالوا يصلحوا بها الخير والشر معاً قال أبو محمد: فجملة القول في هذا بأن عناصر الأخبار ثلاثة وهو ممتنع أو واجب أو ممكن بينهما هذا أمرٌ بضرورة الحس والتمييز فإذا الأمر كذلك فإن عدمت صحة الجوارح كان له.
مانع إلى الفعل وأما الصحيح الجوارح المرتفع الموانع فقد يكون منه الفعل وقد لا يكون فهذه هي الاستطاعة الموجودة قبل الفعل برهان ذلك قول الله عز وجل حكاية عن القائلين: " لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " فأكذبهم الله في إنكارهم استطاعة الخروج قبل الخروج وقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " فلو لم تكن هنا استطاعة قبل فعل المرء الحج لما لزم الحج إلا من حج فقط ولما كان أحد عاصياً بترك الحج لأنه لم يكن مستطيعاً للحج حتى يحج فلا حج عليه ولا هو مخاطب بالحج وقوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً " فلو لم يكن على المظاهر العائد لقوله استطاعته على الصيام قبل أن يصوم لما كان مخاطباً بوجوب الصوم عليه إذا لم يجد الرقبة أصلاً ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط وهذا باطل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن بايعه فمن لم يستطع فقاعداً فمن لم يستطع فعلى جنب وهذا إجماع متيقن لاشك فيه فلو لم يكن الناس مستطيعين للقيام قبل القيام لما كان أحد مأموراً بالصلاة قبل أن يصليها كذلك ولكان معذوراً أن صلى قاعداً وعلى جنب بكل وجه لأنه إذا صلى كذلك لم يكن مستطيعاً للقيام وهذا باطل وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم " فلو لم يكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به أن نفعله لما لزمنا شيء مما أمرنا به مما لم نفعله ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا.
وقوله صلى الله عليه وسلم أتستطيع أن تصوم شهرين قال فلو لم يكن أحد مستطيعاً للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه عليه السلام محالاً وحاشى له من ذلك ومما يتبين صحة هذا وأن المراد في كل ما ذكر ناصحة الجوارح وارتفاع الموانع قول الله تعالى: " خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ " فنص تعالى على أن في عدم السلامة بطلان الاستطاعة وأن وجود السلامة بخلاف ذلك فصح ان سلامة الجوارح استطاعة وإذا صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل وضده والعمل وتركه والطاعة والمعصية لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح فإن قال قائل فإن سلامة الجوارح عرض والعرض لا يبقى وقتين قيل له هذه دعوى بلا برهان والآيات المذكورات مبطلة لهذه الدعوى وموجبة أن هذه الاستطاعة من سلامة الجوارح وارتفاع الموانع موجودة قبل الفعل ثم لو كان ما ذكرتم ما كان فيه دفع لما قاله عز وجل من ذلك ثم وجدنا الله تعالى قد قال: " وكانوا لا يستطيعون سمعاً " وقال تعالى حاكيا قول الخضر لموسى عليه السلام: " إنك لن تستطيع معي صبراً " وقال: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً " وعلمنا أنه كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فيقنا أن الاستطاعة التي أثبتها الله تعالى قبل الفعل هي غير الاستطاعة التي نفاها مع الفعل ولا يجوز غير ذلك البتة فإذ ذلك كذلك فالاستطاعة كما قلنا شيئان أحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني لا يكون إلا مع الفعل وهو القوة الواردة من الله تعالى بالعون والخذلان وهو خلق الله تعالى للفعل في من ظهر منه وسمي من أجل ذلك فاعلاً لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجوه معنى غير هذا البتة فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والإجماع وضرورة الحس وبديهة العقل فعلى هذا التقسيم بين الكلام في هذا الباب فإذا نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل ويوجد واجباً ولا بد وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله وإذا أثبتنا الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح وارتفاع الموانع التي يكون الفعل بها ممكناً متوهماً لا واجباً ولا ممتنعاً وبها يكون المرء مخاطباً مكلفاً مأموراً منهياً وبعد مهما يسقط عنه الخطاب والتكليف و يصير الفعل منه ممتنعاً ويكون عاجزا عن الفعل.
قال أبو محمد: فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عز وجل فيما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل ولا بد فنقول وبالله تعالى التوفيق أنهم قالوا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع فجوابنا وبالله تعالى نتأيد إننا قد بينا آنفاً أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة وحامل هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه وغير مستطيع ما لم يفعل الله عز وجل فيه ما به يكون تمام استطاعته ووجود الفعل فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه آخر وهذا مع أنه نص القرآن كما أوردنا فهو أيضاً مشاهد كالبناء المجيد فهو مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء غير مستطيع للآلات التي لا يوجد البناء إلا بها وهكذا في جميع الأعمال وأيضاً فقد يكون المرء عاصياً لله تعالى في وجه مطيعاً له في آخر مؤمناً بالله كافراً بالطاغوت فإن قالوا فقد نسبتم لله تكليف ما لا يستطاع قلنا هذا باطل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحد إلا ما يستطيع بسلامة جوارحه وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى لان الاستطاعة التي بها يكون الفعل ليست فيه بعد ولا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون الآخر وأما قولهم أن هذا كتكليف المقعد الجري والأعمى النظر وإدراك الألوان والارتفاع إلى السماء فإن هذا باطل لأن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمى الاستطاعة فلا استطاعة لهم أصلاً وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمى الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ولولا أن الله عز وجل آمننا بقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " لكان غير منكر ان يكلف الله تعالى الأعمى إدراك الألوان والمقعد الجري والطلوع إلى السماء ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ولله تعالى أن يعذب من شاء دون ان يكلفه وأن ينعم من شاء دون أن يكلفه كما رزق من شاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان وجعل عيسى بن مريم نبياً في المهد حين ولادته وشد على قلب فرعون فلم يؤمن قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " وليس في بداية العقول حسن ولا قبيح لعينه البتة وقالت المعتزلة متى أعطي الإنسان الاستطاعة أقبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا فهذا قولنا وإن كان حين وجود الفعل فما حاجتنا إليها فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن الاستطاعة قسمان كما قلنا فأحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني مع الفعل وهو خلق الله للفعل في فاعله ولولاهما لم يقع الفعل كما قال الله عز وجل ولو كانت الاستطاعة لا تكون قبل الفعل ولا بد ولا تكون مع الفعل أصلاً كما زعم أبو الهذيل لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة وفاعلاً فعلاً لا استطاعة له على فعله حين فعله وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه فهو فاعل عاجز عما يفعل معاً وهذا تناقض ومحال ظاهر.
قال أبو محمد: ولهم الزامات سخيفة هي لازمة لهم كما تلزم غيرهم سواء بسواء منها قولهم متى أحرقت النار العود أفي حال سلامته أم وهو غير محترق فإن كانت أحرقته في حال سلامته فهو إذاً محرق غير محرق فإن كانت أحرقته وهو محرق فما الذي فعلت فيه وكسؤالهم متى كسر المرء العود أكسره وهو صحيح فهو إذاً مكسور صحيح أو كسره وهو مكسور فما الذي أحدث فيه وكسؤالهم متى أعتق المرء عبده أفي حال رقه فهو حر عبد أو في حال عتقه فأي معنى لعتقه إياه ومتى طلق المرء زوجته أطلقها وهي غير مطلقة فهي مطلقة لا مطلقة معاً أم طلقها وهي مطلقة فما الذي أثر فيها طلاقه ومتى مات المرء في حياته مات أم وهو ميت ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد: وكل هذه سفسطة وسؤالات سخيفة مموهة والحق فيها أن تفريق النار أجزاء ما عملت فيه هو المسمى إحراق وليس للإحراق شيء غير ذلك فقولهم هل أحرقت وهو محرق تخليط لأن فيه إيهاماً أن الإحراق غير الإحراق وهذه سخافة وكذلك كسر العود إنما هو إخراجه عن حال الصحة والكسر نفسه هو حال العود حينئذ وكذلك إخراج العبد من الرق إلى عتقه هو عتقه و لا مزيد ليست له حال أخرى وكذلك خروج المرأة من الزوجية إلى الطلاق هو تطليقها نفسه وكذلك فراق الروح للجسد وهو الإماتة والموت نفسه ولا مزيد وليست ها هنا حال أخرى وقع الفعل فيها وبالله تعالى التوفيق.
لا يكون إلا مع الفعل لا قبله قال أبو محمد: يقال لمن قال أن الاستطاعة كلها ليست إلا قبل الفعل وأنها قبل الفعل بتمامها وتكون أيضاً مع الفعل أخبرونا عن الكافر هل يقدر قبل أن يؤمن في حال كفره على الإيمان قدرة تامة أم لا وعن تارك الصلاة هل يقدر قدرة تامة على الصلاة في حال تركه وعن الزاني هل يقدر في حال زناه على ترك الزنى بأن لا يكون منه زنى أصلاً أم لا وبالجملة فالأوامر كلها إنما هي أمر بحركة أو أمر بسكون أو أمر باعتقاد إثبات شيء ما أو أمر باعتقاد إبطال شيء ما وهذا كله يجمعه فعل أو ترك فأخبرونا هل يقدر الساكن المأمور بالحركة على الحركة حال السكون أو يقدر المتحرك المأمور بالسكون على السكون في حال الحركة وعن معتقد إ بطال شيء ما وهو مأمور باعتقاد إثباته هل يقدر في حال اعتقاده إبطاله على اعتقاد إثباته أم لا وعن معتقد إثبات شيء ما وهو مأمور باعتقاد إبطاله هل يقدر في حال اعتقاده إثباته على اعتقاد إبطاله أم لا وعن المأمور بالترك وهو فاعل ما أمر بتركه أيقدر على تركه في حال فعله فيكون فاعلاً لشيء تاركاً لذلك الشيء معاً أم لا فإن قالوا نعم هو قادر على ذلك كابروا العيان وخالفوا المعقول والحس وأجازوا كل طامة من كون المرء قاعداً قائماً معاً ومؤمناً بالله كافراً به معاً وهذا أعظم ما يكون من المحال الممتنع وإن قالوا أنه لا يقدر قدرة تامة يكون بها الفاعل لشيء هو فاعل لخلافه قالوا الحق ورجعوا إلى أنه لا يستطيع أحد استطاعة تامة يقع بها الفعل إلا حتى يفعله وكل جواب أجابوا به ها هنا فإنما هو إيهام ولواذ ومدافعة بالراح لأنه إلزام ضروري حسي متيقن لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا لسنا نقول أنه يقدر أن يجمع بين الفعلين المتضادين معا ولكننا قلنا أنه قادر على أن يترك ما هو فيه ويفعل ما أمر به قيل لهم هذا هو نفسه الذي أردنا منكم وهو أنه لا يقدر قدرة تامة ولا يستطيع استطاعة تامة على فعل ما دام فاعلاً لما يمانعه فإذا ترك كل ذلك وشرع فيما أمر به فحينئذ تمت قدرته واستطاعته لابد من ذلك وهذا هو نفس ما موهوا به في سؤالهم لنا هل أمر الله تعالى العبد بما يستطيع قبل أن يفعله أم بما لا يستطيع حتى يفعله وهذا لهم لازم لأنهم شنعوه وعظموه وأنكروه ونحن لا ننكره ولا نرى ذلك إلزاماً صحيحاً فقبحه عائد عليهم وإنما يلزم الشيء من يصححه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد أجاب في هذه المسألة عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي أحد رؤساء الأصلح من المعتزلة بأن قال إننا لا نختلف في أن الله عز وجل قادر على تسكين المتحرك وتحريك الساكن وليس يوصف بالقدرة على أن يجعله ساكناً متحركاً معاً.
قال أبو محمد: وليس كما قال الجاهل الملحد فيما وصف الله تعالى به بل الله تعالى قادر على أن يجعل الشيء ساكناً متحركاً معاً في وقت واحد من وجه واحد ولكن كلام البلخي هذا لازم لمن التزم هذه الكفرة الصلعاء من أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال ويقال لهم لم لا يوصف بالقدرة على ذلك ألأن له قدرة على ذلك ولا يوصف بها أم لأنه لا قدرة له على ذلك ولا محيد لهم عن هذا وهذه طائفة جعلت قدرة الله تعالى متناهية بل قطعوا قطعاً بأنه تعالى لا يقدر على الشيء حتى يفعله وهذا كفر مجرد لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان .
قال أبو محمد: ويقال للمعتزلة أيضا أنتم تقرون أيضاً معنا بأن الله تعالى لم يزل عليماً بأن كل كائن فإنه سيكون على ما هو عليه إذا كان ولم يزل الله تعالى يعلم أن فلاناً سيطاء فلانة في وقت كهذا فتحمل منه بولد يخلقه الله تعالى من منيهما الخارج منهما عند جماعه إياها وأنه يعيش ثمانين سنة ويملك ويفعل ويصنع فإذا قلتم أن ذلك الفلان يقدر قدرة تامة على ترك ذلك الوطأ الذي لم يزل الله تعالى يعلم أنه سيكون وأنه يخلق ذلك الولد منه فقد قطعتم بأنه قادر على أن يمنع الله من خلق ما قد علم أنه سيخلقه وأنه قادر قدرة تامة على إبطال علم الله عز وجل وهذا كفر ممن أجازه فإن قال قائل فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم قلنا هذا لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلاً بل قلنا أنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة البتة ومعنى قولنا أنه مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم منه ذلك لو كان ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله عز وجل فإن قالوا أن الله تعالى قادر على كل ذلك ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل قلنا وهذا أيضاً مما تكلمنا فيه آنفاً بل الله تعالى قادر على كل ذلك بخلاف خلقه على ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد نص الله تعالى على ما قلنا بقوله عز وجل: " سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " إلى قوله: " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " فأكذبهم الله تعالى في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع ثم نص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا أمر تكوين لا أمر بالقعود لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم وقد نص تعالى على أنه: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فقد ثبت يقيناً أنهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح وارتفاع الموانع وإن الله تعالى كون فيهم قعودهم فبطل أن يتم استطاعتهم لخلاف فعلهم الذي ظهر منهم وقال عز وجل: " مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا " فبين عز وجل بياناً جلياً أن من أعطاه الهدى اهتدى ومن أضله فلا يهتدي فصح يقيناً أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به مهتدياً وأن بوقوع الأضلال من الله تعالى وهو الخذلان وخلق ضلال العبد يفعل المرء ما يكون به ضالاً فإن قال قائل معنى هذا من سماه الله مهتدياً ومن سماه ضالاً قيل له هذا باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً فلو أراد الله تسميته كما زعمتم لكان هذا القول منه عز وجل كذباً لأن كل ضال فله أولياء على ضلاله يسمونه مهتدياً وراشداً وحاشا لله من الكذب فبطل تأويلهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وقال الله تعالى مخبراً عن الخضر الذي آتاه الله تعالى العلم والحكمة والنبوة حاكياً عن موسى عليه السلام وفتاه: " فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمه من عندنا وعلمناه من لدنا علماً " وقال تعالى مخبراً عنه ومصدقاً عنه وما فعلته عن أمري فصح أن كل ما قال الخضر عليه السلام فمن وحي الله عز وجل ثم أخبر عز وجل بأن الخضر قال لموسى عليه السلام: " أنك لن تستطيع معي صبراً " فلم ينكر الله تعالى كلامه ذلك ولا أنكره موسى عليه السلام لكن أجابه بقوله: " ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً " فلم يقل له موسى عليه السلام إني مستطيع للصبر بل صدق قوله في ذلك إذا أقره ولم ينكره ورجا أن يجد الله له استطاعه على الصبر فيصبر ولم يوجبه موسى عليه السلام أيضاً لنفسه إلا أن يشاء الله تعالى ثم كرر عليه الخضر بعد ذلك مرات أنه غير مستطيع للصبر إذ لم يصبر فلم ينكر ذلك موسى عليه السلام فهذه شهادة ثلاثة أنبياء محمد وموسى والخضر صلى الله عليه وسلم وأكبر من شهادتهم شهادة الله عز وجل بتصديقهم في ذلك إذ قد نصه الله تعالى علينا غير منكر له بل مصدقاً لهم وهذا لا يرده إلا مخذول وقال عز وجل: " وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً " فنص تعالى نصاً جلياً على أنهم كانوا لا يستطيعون السمع الذي أمروا به وأنهم مع ذلك كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله عز وجل ومع ذلك استحقوا على ذلك جهنم وكانوا في ظاهر الأمر مستطيعين بصحة جوارحهم وهذا نص قولنا بلا تكلف والحمد لله رب العالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا لا إله إلا هو وقال تعالى ": إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " فنفى الله عز وجل استطاعة شيء من السبل غير سبيل الضلال وحده وفي هذا كفاية لمن عقل وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " فنص تعالى على إن من لم يأذن له في الإيمان لم يؤمن وإن من أذن له في الإيمان آمن وهذا الأذن هو التوفيق الذي ذكرنا فيكون به الإيمان ولا بد وعدم الأذن هو الخذلان الذي ذكرنا نعوذ بالله منه وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام ومصدقاً له إذ يقول: " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فنص تعالى على أن رسوله صلى الله عليه وسلم إن لم يعنه بصرف الكيد صبا وجهل وأنه تعالى صرف الكيد عنه فسلم وهذا نص جلي على أنه إذا وفقه اعتصم واهتدى وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم خليله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومصدقاً له: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فهذا نص على أن من أعطاه الله عز وجل قوة الإيمان آمن واهتدى وأن من منعه تلك القوة كان من الضالين وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وقال تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " فنص تعالى على أنه أمره بالصبر ثم اخبره أنه لا صبر له إلا بعون الله تعالى فإذا أعانه بالصبر صبر وقال تعالى: " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهذا نص جلي على أن من أضله الله تعالى بالخذلان له فلا يكون مهتدياً وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً " فهذا نص لا إشكال فيه على أن الله عز وجل منعهم أن يفقهوه فإن قال قائل إنما قال تعالى أنه يفعل ذلك بالذين لا يؤمنون ولذلك قال تعالى: " وما يضل به إلا الفاسقين " وكذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " قيل له وبالله تعالى التوفيق لو صح لك هذا التأويل لكان حجة عليك لأنه تعالى قد منعهم للتوفيق وسلط عليهم الخذلان وأضلهم وطبع على قلوبهم فاجعله كيف شئت فكيف وليس ذلك على ما تأولت ولكن الآيات ظواهرها وعلى ما يقتضيه لفظها دون تكلف هو أن الله تعالى لما أضلهم صاروا ضالين فاسقين حين أضلهم لا قبل أن يضلهم وكذلك إنما صاروا لا يؤمنون حين جعل بينهم وبينه حجاباً وحين جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم الوقر لا قبل ذلك وإنما صاروا كافرين حين طبع على قلوبهم لا قبل ذلك وقال تعالى: " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً " فنص تعالى على أنه لولا أن ثبت نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوفيق لركن إليهم فإنما يثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ثبته الله عز وجل لا قبل ذلك ولو لم يعطه التثبيت وخذله لركن إليهم وضل واستحق العذاب على ذلك ضعف الحياة وضعف الممات فتباً لكل مخذول يظن في نفسه الخسيسة أنه مستغن عما افتقر إليه محمد صلى الله عليه وسلم من توفيق الله وتثبيته وإنه قد استوفى من الهدى ما لا مزيد عليه وإنه ليس عند ربه أفضل مما أعطاه بعد ولا أثر وقد أمرنا عز وجل أن نقول: " إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " فنص الله تعالى على أمرنا بطلب العون منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين فلو لم يكن ها هنا عون خاص من آتاه الله إياه اهتدى ومن حرمه إياه وخذله ضل لما كان لهذا الدعاء معنى لأن الناس كلهم كانو يكونون معانين منعماً عليهم مهديين وهذا بخلاف النص المذكور وقال تعالى: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم " فنص تعالى على أنه ختم على قلوب الكافرين وإن على سمعهم وأبصارهم غشاوة حائلة بينهم وبين قول الحق فمن هو الجاعل هذه الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم إلا الذي ختم على قلوبهم عز وجل وهذا هو الخذلان الذي ذكرنا ونعوذ بالله منه وهذا نص على أنهم لا يستطيعون الإيمان ما دام ذلك الختم وعلى قلوبهم والغشاوة على أبصارهم وأسماعهم فلو أزالها تعالى لآمنوا ألا أن يعجزوا ربهم عز وجل على إزالة ذلك فهذا خروج عن الإسلام وقال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " فنص تعالى كما ترى على أنه من لم يتفضل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان ضرورة فصح ان التوفيق به يكون الإيمان وإن الخذلان به يكون الكفر والعصيان وهو اتباع الشيطان ومعنى قوله تعالى ألا قليلاً على ظاهره وهو استثناء من المنعم عليهم المرحومين الذين لم يتبعوا الشيطان برحمة الله تعالى لهم أي لاتبعتم الشيطان إلا قليلا لم يرحمهم الله فاتبعوا الشيطان إذ رحمكم أنتم فلم تتبعوه وهذا نص قولنا ولله تعالى الحمد وقال تعالى: " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً وهذا نص مت قلناه أن من أضله الله تعالى لا سبيل له إلى الهدى وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله تعالى للكافر والفاسق وقال تعالى: " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده " فأخبر تعالى أن عنده هدى يهدي به من يشاء من عباده فيكون مهتدياً وهذا تخصيص ظاهر كما ترى وقال تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " فهذا نص ما قلنا وإن الله تعالى قد نص قائلاً لنا أن من أراد هداه شرح صدره للإسلام فآمن بلا شك وإن من أراد ضلاله ولم يرد هداه ضيق صدره وأحرجه حتى يكون كمريد الصعود إلى السماء فهذا لا يؤمن البتة ولا يستطيع وهو في ظاهره مستطيع بصحة جوارحه.
قال أبو محمد: إن الضال لمن ضل بعد ما ذكرنا من النصوص التي لا تحتمل تأويلاً ومن شهادة خمسة من الأنبياء إبراهيم وموسى ويوسف والخضر ومحمد عليهم السلام بأنهم لا يستطيعون فعلاً لشيء من الخير إلا بتوفيق الله تعالى لهم وإنهم إن لم يوفقهم ضلوا جميعاً مع ما أوردنا من البراهين الضرورية المعروفة بالحس وبديهة العقل.
قال أبو محمد: ومن عرف تراكيب الأخلاق المحمودة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله عز وجل فيه فتجد الحافظ لا يقدر على تأخر الحفظ والبليد لا يقدر على الحفظ والفهيم لا يقدر على الغباوة والغبي لا يستطيع ذكاء الفهم والحسود لا يقدر على ترك الجسد والنزيه النفس لا يقدر على الحسد والحريص لا يقدر على ترك الحرص والبخيل لا يقدر على البذل والجبان لا يقدر على الشجاعة والكذاب لا يقدر على ضبط نفسه عن الكذب كذلك يوجدون من طفولتهم والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحي لا يقدر على القحة والوقح لا يقدر على الحياة والعي لا يقدر على البيان والطيوش لا يقدر على الصبر والغضوب لا يقدر على الحلم والصبور لا يقدر على الطيش والحليم لا يقدر على الغضب والعزيز النفس لا يقدر على المهانة والمهين لا يقدر على عزة النفس وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقدر أحد إلا على ما يفعل بما يتم الله تعالى فيهم القوة على فعله وإن كان خلاف ذلك متوهماً منهم بصمة البنية وعدم المانع.
قال أبو محمد: والملائكة والحوار العين والجن وجميع الحيوان كله في الاستطاعة سواء كما ذكرنا ولا فرق بين شيء في ذلك كله وكلهم قد خلق الله عز وجل فيهم الاستطاعة الظاهرة بصحة الجوارح ولا يكون منهم فعل إلا بعون وارد من الله تعالى إذا ورد كان الفعل معه ولا بد قد خلق الله عز وجل فيهم اختياراً وإرادة وحركة وسكوناً هم أفعالهم على غيرها والملائكة وحور العين معصومون لم يخلق الله تعالى فيهم معصية أصلاً لا طاعة ولا معصية وأما الذي يقدر على كل ما يفعل وما لا يفعل ولم يزل قادراً على كل ما يخطر بالقلب فهو واحد لا شريك له وهو الله عز وجل ليس كمثله شيء ولم يكن له كفواً أحد وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: احتجت المعتزلة بقول الله عز وجل " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وبقوله تعالى: " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً ".
قال أبو محمد: وهذا حق وقد قال تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " فأخبر تعالى أن الذين هدى بعض الناس لا كلهم وقال تعالى: " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل " وهي قراة مشهورة عن عاصم بفتح الياء من يهدي وكسر الدال فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده وقال تعالى: " من يضلل الله فلا هادي له " فأخبر تعالى أن الذين أضل فلم يهدهم وقال تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " فأخبر تعالى أن الذين هدى غير الذي أضل ومثل هذا كثير وكل ذلك كلام الله عز وجل وكله حق لا يتعارض ولا يبطل بعضه بعضاً قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح يقيناً أن كل ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا مختلف فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها ظاهرة لائحة وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا وهدى الناس كلهم السبيل ثم هم بعد إما شاكر وإما كفور وأخبر تعالى في الآيات الأخر أنه هدى قوماً فاهتدوا ولم يهد آخرين فلم يهتدوا فعلمنا ضرورة أن الهدى الذي أعطاه الله عز وجل جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه هذا أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته فإذ لا شك في ذلك فقد لاح الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة وهي التي يقع الاسم منها على مسميين مختلفين بنوعهما فصاعداً فالهدى يكون بمعنى الدلالة تقول هديت فلاناً الطريق بمعنى أريته إياه ووقفته عليه وأعلمته إياه سواء سلكه أو تركه وتقول فلان هاد بالطريق أي دليل فيه فهذا الهدى الذي هداه الله ثمود وجميع الجن والملائكة وجميع الأنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي فهذا معنى ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له وخلقه لقبول الخير في النفوس فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم والمهتدين من الأنس والجن ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا قوله تعالى في الآيات المذكورة: " إنا هديناه السبيل " فبين تعالى أن الذي هداهم له فهو الطريق فقط وكذلك أيضاً قوله تعالى: " ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين "