Translate

الأربعاء، 23 مارس 2022

5.[ نيل الأوطار - الشوكاني ] ج5.

 

[ نيل الأوطار - الشوكاني ] ج5.

الكتاب : نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار محمد بن علي بن محمد الشوكاني

باب ما جاء في الحائل بين الإمام والمأموم

1 - عن عائشة قالت : ( كان لنا حصيرة نبسطها بالنهار ونحتجر بها بالليل فصلى فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فسمع المسلمون قراءته فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الثانية كثروا فاطلع عليهم فقال : اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا )
- رواه أحمد

- الحديث قد تقدم نحوه عن عائشة عند البخاري في باب انتقال المنفرد إماما في النوافل . وفيه تصريح بأنه كان بينه وبينهم جدار الحجرة وقد تقدم نحو الحديث أيضا عنها في باب صلاة التراويح وفيه أنها قالت : ( فأمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي ) وقوله : ( اكلفوا من الأعمال ) إلى آخر الحديث هو عند الأئمة الستة من حديثها بلفظ : ( خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ) والملال الاستثقال من الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته وهو محال على الله تعالى فإطلاقه عليه من باب المشاكلة نحو { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وهذا أحسن محامله
وفي بعض طرقه عن عائشة : ( فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل ) أخرجه ابن جرير في تفسيره . وقيل معناه أن الله لا يمل أبدا مللتم أم لم تملوا مثل قولهم حتى يشيب الغراب . وقيل إن معناه أن الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله
( والحديث ) يدل على أن الحائل بين الإمام والمؤتمين غير مانع من صحة [ ص 240 ] الصلاة . قال في البحر : ولا يضر بعد المؤتم في المسجد ولا الحائل ولو فوق القامة مهما علم حال الإمام إجماعا اه . وكذلك لا يضر الحائل في غير المسجد ولو فوق القامة إلا أن يمنع من ذلك مانع

باب ما جاء فيمن يلازم بقعة بعينها من المسجد

1 - عن عبد الرحمن بن شبل : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى في الصلاة عن ثلاث عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المقام الواحد كإيطان البعير )
- رواه الخمسة إلا الترمذي

2 - وعن سلمة بن الأكوع : ( أنه كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي عند المصحف وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتحرى الصلاة عندها )
- متفق عليه . ولمسلم : ( أن سلمة كان يتحرى موضع المصحف يسبح فيه وذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى ذلك المكان )

- حديث عبد الرحمن بن شبل سكت عنه أبو داود والمنذري والراوي له عن عبد الرحمن بن شبل هو تميم بن محمود قال البخاري : في حديثه نظر
قوله : ( عن نقرة الغراب ) المراد بها كما قال ابن الأثير ترك الطمأنينة وتخفيف السجود وأن لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد الأكل والشرب منه كالجيفة
قوله : ( وافتراش السبع ) هو أن يقع ساعديه على الأرض كالذئب وغيره كما يقعد الكلب في بعض حالاته
قوله : ( وأن يوطن الرجل ) قال ابن رسلان : بكسر الطاء المشددة وفيه أن قوله في الحديث : ( كإيطان ) يدل على عدم التشديد لأن المصدر على إفعال لا يكون إلا من أفعل المخفف ومعناه كما قال ابن الأثير أن يألف الرجل مكانا معلوما في المسجد يصلي فيه ويختص به
قوله : ( كإيطان البعير ) المراد كما يوطن البعير المبرك الدمث الذي قد أوطنه واتخذه مناخا له فلا يأوي إلا إليه . وقيل معناه أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود مثل بروك البعير على المكان الذي أوطنه يقال أوطنت الأرض ووطنتها واستوطنتها أي اتخذتها وطنا ومحلا
قوله : ( عند الأسطوانة ) هي بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الطاء وهي السارية
قوله : ( التي عند المصحف ) هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به ووقع عند مسلم بلفظ : ( يصلي وراء الصندوق ) وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه . قال الحافظ : [ ص 241 ] والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة المكرمة وأنها تعرف باسطوانة المهاجرين قال : وروي عن عائشة أنها كانت تقول : لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام وأنها أسرتها إلى ابن الزبير فكان يكثر الصلاة عندها قال : ثم وجدت ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار وزاد أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة
( والحديث الأول ) يدل على كراهة اعتياد الرجل بقعة من بقاع المسجد ولا يعارضه الحديث الثاني لما تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم يكون مخصصا له من القول الشامل له بطريق الظهور كما تقدم غير مرة إذا لم يكن فيه دليل التأسي وعلة النهي عن المواظبة على مكان في المسجد ما سيأتي في الباب الذي بعد هذا من مشروعية تكثير مواضع العبادة
قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق حديث سلمة ما لفظه : قلت وهذا محمول على النفل ويحمل النهي على من لازم مطلقا للفرض والنفل اه

باب استحباب التطوع في غير موضع المكتوبة

1 - عن المغيرة بن شعبة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه )
- رواه ابن ماجه وأبو داود

2 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله )
- رواه أحمد وأبو داود . ورواه ابن ماجه وقالا : ( يعني في السبحة )

- الحديث الأول في إسناده عطاء الخراساني ولم يدرك المغيرة بن شعبة كذا قال أبو داود . قال المنذري : وما قاله ظاهر فإن عطاء الخراساني ولد في السنة التي مات فيها المغيرة ابن شعبة وهي سنة خمسين من الهجرة على المشهور . قال الخطيب : أجمع العلماء على ذلك وقيل ولد قبل وفاته بسنة
والحديث الثاني في إسناده إبراهيم بن إسماعيل قال أبو حاتم الرازي : هو مجهول
قوله : ( حتى يتنحى ) لفظ أبي داود : ( حتى يتحول )
قوله : ( أيعجز ) بكسر الجيم
قوله : ( يعني السبحة ) أي التطوع
( والحديثان ) يدلان على مشروعية انتقال المصلي عن مصلاه الذي صلى فيه لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل أما [ ص 242 ] الإمام فبنص الحديث الأول وبعموم الثاني . وأما المؤتم والمنفرد فبعموم الحديث الثاني وبالقياس على الإمام . والعلة في ذلك تكثير مواضع العبادة كما قال البخاري والبغوي لأن مواضع السجود تشهد له كما في قوله تعالى { يومئذ تحدث أخبارها } أي تخبر بما عمل عليها وورد في تفسير قوله تعالى { فما بكت عليهم السماء والأرض } أن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ( 1 ) وهذه العلة تقتضي أيضا أن ينتقل إلى الفرض من موضع نفله وأن ينتقل لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل فإن لم ينتقل فينبغي أن يفصل بالكلام لحديث النهي : ( عن أن توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم المصلي أو يخرج ) أخرجه مسلم وأبو داود
_________
( 1 ) الحديث أخرجه ابن المبارك وعبد ابن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر من طريق المسيب بن رافع عن علي رضي الله عنه قال : ( إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا { فما بكت عليهم السماء والأرض } والله أعلم

كتاب صلاة المريض

1 - عن عمران بن حصين قال : ( كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة فقال : صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك )
- رواه الجماعة إلا مسلما . وزاد النسائي : ( فإن لم تستطع فمستلقيا لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )

2 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يصلي المريض قائما إن استطاع فإن لم يستطع صلى قاعدا فإن لم يستطع أن يسجد أومأ برأسه وجعل سجوده أخفض من ركوعه فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة )
- رواه الدارقطني

- حديث علي في إسناده حسين بن زيد ضعفه ابن المديني والحسن بن الحسين العرني . قال الحافظ : وهو متروك . وقال النووي : هذا حديث ضعيف
( وفي الباب ) عن جابر عند البزار والبيهقي في المعرفة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم عاد مريضا فرآه يصلي على وسادة فأخذها فرمى بها وأخذ عودا ليصلي عليه فأخذه فرمى به وقال صلى الله عليه و سلم : صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك )
قال البزار : لا نعلم [ ص 243 ] أحدا رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي . قال الحافظ : ثم غفل عنه فأخرجه من حديث عبد الوهاب بن عطاء عن سفيان نحوه . وقد سئل أبو حاتم فقال : الصواب عن جابر موقوف ورفعه خطأ قيل له فإن أبا أسامة قد روى عن الثوري هذا الحديث مرفوعا فقال : ليس بشيء وقد قوى إسناده في بلوغ المرام . وروى الطبراني نحوه من حديث طارق بن شهاب عن ابن عمر قال : ( عاد النبي صلى الله عليه و سلم رجلا من أصحابه مريضا فذكره )
وروى الطبراني أيضا من حديث ابن عباس مرفوعا : ( يصلي المريض قائما فإن نالته مشقة صلى نائما يومئ برأسه فإن نالته مشقة سبح ) قال في التلخيص : وفي إسنادهما ضعف . وحديث عمران يدل على أنه يجوز لمن حصل له عذر لا يستطيع معه القيام أن يصلي قاعدا ولمن حصل له عذر لا يستطيع معه القعود أن يصلي على جنبه والمعتبر في عدم الاستطاعة عند الشافعية هو المشقة أو خوف زيادة المرض أو الهلاك لا مجرد التألم فإنه لا يبيح ذلك عند الجمهور وخالف في ذلك المنصور بالله
وظاهر قوله : ( فقاعدا ) أنه يجوز أن يكون القعود على أي صفة شاء المصلي وهو مقتضى كلام الشافعي في البويطي
وقال الهادي والقاسم والمؤيد بالله أنه يتربع واضعا ليديه على ركبتيه . وقال زيد بن علي والناصر والمنصور أنه كقعود التشهد وهو خلاف في الأفضل والكل جائز . والمراد بقوله : ( فعلى جنبك ) هو الجنب الأيمن كما في حديث علي وإلى ذلك ذهب الجمهور قالوا ويكون كتوجه الميت في القبر
وقال الهادي وهو مروي عن أبي حنيفة وبعض الشافعية أنه يستلقي على ظهره ويجعل رجليه إلى القبلة وحديثا الباب يردان عليهم لأن الشارع قد اقتصر في الأول منهما على الصلاة على الجنب عند تعذر القعود وفي الثاني قدم الصلاة على الجنب على الاستلقاء
وحديث علي رضي الله عنه يدل على أن من لم يستطع أن يركع ويسجد قاعدا يومئ للركوع والسجود ويجعل الإيماء لسجوده أخفض من الإيماء لركوعه وإن من لم يستطع الصلاة على جنبه يصلي مستلقيا جاعلا رجليه مما يلي القبلة
وظاهر الأحاديث المذكورة في الباب أنه إذا تعذر الإيماء من المستلقي لم يجب عليه شيء بعد ذلك . وقيل يجب الإيماء بالعينين . وقيل بالقلب . وقيل يجب إمرار القرآن على القلب والذكر على اللسان ثم على القلب ويدل على ذلك قول الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم ) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( إذا أمرتكم بأمر [ ص 244 ] فأتوا منه ما استطعتم ) والبواسير المذكورة في حديث عمران قيل هي بالباء الموحدة وقيل بالنون . والأول ورم في باطن المقعدة والثاني قرحة فاسدة

باب الصلاة في السفينة

1 - عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال : ( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصلي في السفينة قال : صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق )
- رواه الدارقطني وأبو عبد الله الحاكم على شرط الصحيحين

2 - وعن عبد الله بن أبي عتبة قال : ( صحبت جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة في سفينة فصلوا قياما في جماعة أمهم بعضهم وهم يقدرون على الجد )
- رواه سعيد في سننه

- قوله : ( صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق ) فيه أن الواجب على من يصلي في السفينة القيام ولا يجوز له القعود إلا عند خشية الغرق . ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة الدالة على وجوب القيام في مطلق صلاة الفريضة فلا يصار إلى جواز القعود في السفينة ولا غيرها إلا بدليل خاص وقد قدمنا ما يدل على الترخيص في صلاة الفريضة على الراحلة عند العذر والرخص لا يقاس عليها وليس راكب السفينة كراكب الدابة لتمكنه من الاستقبال . ويقاس على مخافة الغرق المذكورة في الحديث ما ساواها من الأعذار
قوله : ( وهم يقدرون على الجد ) بضم الجيم وتشديد الدال هو شاطئ البحر . والمراد أنهم يقدرون على الصلاة في البر وقد صحت صلاتهم في السفينة مع اضطرابها . وفيه جواز الصلاة في السفينة وإن كان الخروج إلى البر ممكنا

أبواب صلاة المسافر

باب اختيار القصر وجواز الإتمام

1 - عن ابن عمر قال : ( صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك )
- متفق عليه

2 - وعن يعلى بن أمية قال : ( قلت لعمر بن الخطاب : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن [ ص 245 ] خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقد أمن الناس قال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- قوله : ( وكان لا يزيد في السفر على ركعتين ) فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لازم القصر في السفر ولم يصل فيه تماما . ولفظ الحديث في صحيح مسلم : ( صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز و جل وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز و جل وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز و جل وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز و جل ) وظاهر هذه الرواية وكذا الرواية التي ذكرها المصنف أن عثمان لم يصل في السفر تماما . وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أنه قال : ( ومع عثمان صدرا من خلافته ثم أتم ) وفي رواية : ( ثمان سنين أو ست سنين ) قال النووي : وهذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته وتأول العلماء هذه الرواية أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه الله في غير منى والرواية المشهورة بإتمام عثمان بعد صدر من خلافته محمولة على الإتمام بمنى خاصة
وقد صرح في رواية بأن إتمام عثمان كان بمنى . وفي البخاري ومسلم ( أن عبد الرحمن بن يزيد قال : ( صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان )
قوله : ( عجبت مما عجبت منه ) وفي رواية لمسلم ( عجبت ما عجبت منه ) والرواية الأولى هي المشهورة المعروفة كما قال النووي
قوله : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ) فيه جواز قول القائل تصدق الله علينا واللهم تصدق علينا وقد كرهه بعض السلف . قال النووي : وهو غلط ظاهر
( واعلم ) أنه قد اختلف أهل العلم هل القصر واجب أو رخصة والتمام أفضل فذهب إلى الأول الحنفية والهادوية . وروي عن علي وعمر ونسبه النووي إلى كثير من أهل العلم . قال الخطابي في المعالم : كان مذاهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر وهو قول علي وعمر وابن عمر وابن عباس وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن وقال حماد بن سليمان : يعيد من يصلي في السفر أربعا [ ص 246 ] وقال مالك : يعيد ما دام في الوقت اه
وإلى الثاني الشافعي ومالك وأحمد . قال النووي : وأكثر العلماء وروي عن عائشة وعثمان وابن عباس . قال ابن المنذر : وقد أجمعوا على أنه لا يقصر في الصبح ولا في المغرب . قال النووي : ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة . وعن بعضهم كونه سفر طاعة
( احتج القائلون ) بوجوب القصر بحجج :
الأولى : ملازمته صلى الله عليه و سلم للقصر في جميع أسفاره كما في حديث ابن عمر المذكور في الباب ولم يثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه أتم الرباعية في السفر البتة كما قال ابن القيم وأما حديث عائشة الآتي المشتمل على أنه صلى الله عليه و سلم أتم الصلاة في السفر فسيأتي أنه لم يصح ويجاب عن هذه الحجة بأن مجرد الملازمة لا يدل على الوجوب كما ذهب إلى ذلك جمهور أئمة الأصول وغيرهم
الحجة الثانية : حديث عائشة المتفق عليه بألفاظ منها فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر وهو دليل ناهض على الوجوب لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر وقد أجيب عن هذه الحجة بأجوبة :
منها : أن الحديث من قول عائشة غير مرفوع وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة وأنه لو كان ثابتا لنقل تواترا وقد قدمنا الجواب عن هذه الأجوبة في أول كتاب الصلاة في الموضع الذي ذكر فيه المصنف حديث عائشة
ومنها : أن المراد بقولها فرضت أي قدرت وهو خلاف الظاهر
ومنها : ما قال النووي أن المراد بقولها فرضت يعني لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وهو تأويل متعسف لا يعول على مثله
ومنها : المعارضة لحديث عائشة بأدلتهم التي تمسكوا بها في عدم وجوب القصر وسيأتي ويأتي الجواب عنها
الحجة الثالثة : ما في صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال : ( إن الله عز و جل فرض الصلاة على لسان نبيكم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا والخوف ركعة ) فهذا الصحابي الجليل قد حكى عن الله عز و جل أنه فرض صلاة السفر ركعتين وهو أتقى لله وأخشى من أن يحكي أن الله فرض ذلك بلا برهان
والحجة الرابعة : حديث عمر عند النسائي وغيره : ( صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفجر ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه و سلم ) وسيأتي وهو يدل على [ ص 247 ] أن صلاة السفر مفروضة كذلك من أول الأمر وأنها لم تكن أربعا ثم قصرت . وقوله : ( على لسان محمد ) تصريح بثبوت ذلك من قوله صلى الله عليه و سلم
الحجة الخامسة : حديث ابن عمر الآتي بلفظ : ( أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر )
( واحتج القائلون ) بأن القصر رخصة والتمام أفضل بحجج :
الأولى منها : قول الله تعالى { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ونفي الجناح لا يدل على العزيمة بل على الرخصة وعلى أن الأصل التمام والقصر إنما يكون من شيء أطول منه . وأجيب بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف لا في قصر العدد لما علم من تقدم شرعية قصر العدد . قال في الهدى وما أحسن ما قال : وقد يقال إن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض والخوف . فإذا وجد الأمران أبيح القصران فيصلون صلاة خوف مقصورا عددها وأركانها وإن انتفى الأمران وكانوا آمنين مقيمان انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده فإن وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية وإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفيت الأركان وصليت صلاة أمن وهذا أيضا نوع قصر وليس بالقصر المطلق وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها وإن لم تدخل في الآية اه
الحجة الثانية : قوله صلى الله عليه و سلم في حديث الباب : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ) فإن الظاهر من قوله صدقة أن القصر رخصة فقط . وأجيب بأن الأمر بقبولها يدل على أنه لا محيص عنها وهو المطلوب
الحجة الثالثة : ما في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنهم القاصر ومنهم المتم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض كذا قال النواوي [ النووي ] في شرح مسلم ولم نجد في صحيح مسلم قوله ( فمنهم القاصر ومنهم المتم ) وليس فيه إلا أحاديث الصوم والإفطار وإذا ثبت ذلك فليس فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم اطلع على ذلك وقررهم عليه وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك وقد تقرر أن إجماع الصحابة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم ليس بحجة والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته وقد أنكر جماعة منهم علي وعثمان لما أتم بمنى وتأولوا له تأويلات
قال ابن القيم : أحسنها أنه كان قد تأهل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه [ ص 248 ] أو كان له به زوجة أتم وقد روى أحمد عن عثمان أنه قال : ( أيها الناس لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا تأهل رجل ببلد فليصل به صلاة مقيم ) ورواه أيضا عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده أيضا . وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم وسيأتي الكلام عليه
الحجة الرابعة : حديث عائشة الآتي وسيأتي الجواب عنه وهذا النزاع في وجوب القصر وعدمه وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب . وأما دعوى أن التمام أفضل فمدفوعة بملازمته صلى الله عليه و سلم للقصر في جميع أسفاره وعدم صدور التمام عنه كما تقدم ويبعد أن يلازم صلى الله عليه و سلم طول عمره المفضول ويدع الأفضل

3 - وعن عائشة قالت : ( خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت : بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال : أحسنت يا عائشة )
- رواه الدارقطني وقال : هذا إسناد حسن

4 - وعن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم )
- رواه الدارقطني وقال : إسناد صحيح

- الحديث الأول أخرجه أيضا النسائي والبيهقي بزيادة : ( أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله أتممت وقصرت ) الحديث . وفي إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عنها والعلاء بن زهير قال ابن حبان : كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات وقال ابن معين : ثقة . وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها فقال الدارقطني : أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق . قال الحافظ : وهو كما قال ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك . وقال أبو حاتم : أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها . وادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها وفي رواية الدارقطني عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة . قال أبو بكر النيسابوري : من قال فيه عن عائشة فقد أخطأ
واختلف قول الدارقطني فيه فقال في السنن : إسناده حسن وقال في العلل : المرسل أشبه . قال في البدر المنير : إن في متن هذا الحديث نكارة وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة رمضان والمشهور أنه صلى الله عليه و سلم لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته فكان إحرامها [ ص 249 ] في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة
قال : هذا المعروف في الصحيحين وغيرهما قال : وتمحل بعض شيوخنا الحفاظ في الجواب عن هذا الإشكال فقال : لعل عائشة ممن خرج مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفره عام الفتح وكان سفره ذلك في رمضان ولم يرجع من سفره ذلك حتى اعتمر عمرة الجعرانة فأشارت بالقصر والإتمام والفطر والصيام والعمرة إلى ما كان في تلك السفرة . قال : قال شيخنا وقد روي من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم اعتمر في رمضان ثم رأيت بعد ذلك القاضي عياضا أجاب بهذا الجواب فقال : لعل هذه عملها في شوال وكان ابتداء خروجها في رمضان
وظاهر كلام أبي حاتم ابن حبان أنه صلى الله عليه و سلم اعتمر في رمضان فإنه قال في صحيحه : اعتمر صلى الله عليه و سلم أربع عمر الأولى عمرة القضاء سنة القابل من عام الحديبية وكان ذلك في رمضان ثم الثانية حيث فتح مكة وكان فتحها في رمضان ثم خرج منها قبل هوازن وكان من أمره ما كان فلما رجع وبلغ الجعرانة قسم الغنائم بها واعتمر منها إلى مكة وذلك في شوال واعتمر الرابعة في حجته وذلك في ذي الحجة سنة عشر من الهجرة . واعترض عليه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في كلام له على هذا الحديث وقال : وهم في هذا في غير موضع وذكر أحاديث في الرد عليه
وقال ابن حزم : هذا حديث لا خير فيه وطعن فيه ورد عليه ابن النحوي . قال في الهدى بعد ذكره لهذا الحديث : وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذا حديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب كيف وهي القائلة فرضت الصلاة ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها أنها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله وأصحابه
وقال الزهري لهشام لما حدثه عن أبيه عنها بذلك : فما شأنها كانت تتم الصلاة قال : تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حسن فعلها فأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير وقد أخبر ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر ) أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون وأما بعد موته فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له اه
والحديث الثاني صحح إسناده الدارقطني [ ص 250 ] كما ذكره المصنف قال في التلخيص : وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة فإن عائشة كانت تتم . وذكر عروة أنها تأولت ما تأول عثمان كما في الصحيح فلو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواية لم يقل عروة عنها أنها تأولت . قال في الهدى بعد ذكر هذا الحديث : وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هو كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : وقد روى كان يقصر وتتم الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم قال قال شيخنا وهذا باطل ثم ذكر نحو الكلام السابق من استبعاد مخالفة عائشة لرسول الله صلى الله عليه و سلم والصحابة وكذا ضبط الحافظ في التلخيص لفظ تتم وتصوم في هذا الحديث بالمثناة من فوق
( وقد استدل ) بحديثي الباب القائلون بأن القصر رخصة وقد تقدم ذكرهم ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة فيه لهم لما تقدم من أن لفظ تتم وتصوم بالفوقانية لأن فعلها على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى الله عليه و سلم لا حجة فيه فكيف إذا كان معارضا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة
وأما الحديث الأول فلو كان صحيحا لكان حجة لقوله صلى الله عليه و سلم في الجواب عنها ( أحسنت ) ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة وهذا بعد تسليم أنه حسن كما قال الدارقطني فكيف وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض

5 - وعن عمر أنه قال : ( صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه و سلم )
- رواه أحمد والنسائي وابن ماجه

6 - وعن ابن عمر قال : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتانا ونحن ضلال فعلمنا فكان فيما علمنا أن الله عز و جل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر )
- رواه النسائي

7 - وعن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته )
- رواه أحمد

- الحديث المروي عن عمر رجاله رجال الصحيح إلا يزيد بن زياد بن أبي الجعد وقد وثقه أحمد وابن معين . وقد روي من طريق أخرى بأسانيد رجالها رجال الصحيح . وقد قال ابن القيم في الهدى : هو ثابت عنه قال : وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه و سلم ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( صدقة تصدق الله بها عليكم [ ص 251 ] فاقبلوا صدقته )
قال : ولا تناقض بين حديثيه فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما أجابه بأن هذا صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس قال صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتمه وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين فلم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف
وحديث ابن عمر الثاني أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما . وفي رواية : ( كما يحب أن تؤتى عزائمه )
( وفي الباب ) عن أبي هريرة عند ابن عدي . وعن عائشة عنده أيضا والمراد بالرخصة التسهيل والتوسعة في ترك بعض الواجبات أو إباحة بعض المحرمات وهي في لسان أهل الأصول الحكم الثابت على خلاف دليل الوجوب أو الحرمة لعذر وفيه أن الله يحب إتيان ما شرعه من الرخص وفي تشبيه تلك المحبة بكراهته لإتيان المعصية دليل على أن في ترك إتيان الرخصة ترك طاعة كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية
وحديث ابن عمر الأول من أدلة القائلين بأن القصر واجب لقوله ( فكان فيما علمنا أن الله عز و جل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر ) وقد تقدم الكلام على ذلك

باب الرد على من قال إذا خرج نهارا لم يقصر إلى الليل

1 - عن أنس قال : ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين )
- متفق عليه

2 - وعن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : ( سألت أنسا عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين ) شعبة الشاك
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- قوله : ( وصليت معه العصر بذي الحليفة ) هكذا في رواية للبخاري ذكرها الكشميهني وهي ثابتة عند مسلم وعند البخاري أيضا في كتاب الحج . وقد استدل بذلك على إباحة القصر في السفر القصير لأن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر وإنما خرج إليها حيث كان قاصدا إلى مكة واتفق نزوله بها وكانت أول صلاة [ ص 252 ] حضرت صلاة العصر فقصرها واستمر يقصر إلى أن رجع
قوله : ( إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال ) اختلف في تقدير الميل فقال في الفتح : الميل هو من الأرض منتهى مد البصر لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه وبذلك جزم الجوهري وقيل أن ينظر إلى الشخص في أرض مستوية فلا يدري أرجل هوام أم امرأة أو ذاهب أو آت . قال النووي : الميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضة معتدلة
قال الحافظ : وهو الذي قال هو الأشهر . ومنهم من عبر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان . وقيل هو أربعة آلاف ذراع . وقيل ثلاثة آلاف ذراع نقله صاحب البيان . وقيل خمسمائة وصححه ابن عبد البر . وقيل ألفا ذراع . ومنهم من عبر عن ذلك بألف خطوة للجمل قال : ثم أن الذراع الذي ذكر النووي تحريره قد حرره غيره بذراع الحديد المشهور في مصر والحجاز في هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن . فعلى هذا فالميل بذراع الحديد في القول المشهور خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا
قوله : ( أو ثلاثة فراسخ ) الفرسخ في الأصل السكون ذكره ابن سيده . وقيل السعة . وقيل الشيء الطويل وذكر الفراء أن الفرسخ فارسي معرب وهو ثلاثة أميال
( واعلم ) أنه قد وقع الخلاف الطويل بين علماء الإسلام في مقدار المسافة التي يقصر فيها الصلاة . قال في الفتح : فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوا من عشرين قولا أقل ما قيل في ذلك يوم وليلة وأكثره ما دام غائبا عن بلده . وقيل أقل ما قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر وإلى ذلك ذهب ابن حزم الظاهري واحتج له بإطلاق السفر في كتاب الله تعالى كقوله { وإذا ضربتم في الأرض } الآية وفي سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فلم يخص الله ولا رسوله ولا المسلمون بأجمعهم سفرا من سفر ثم احتج على ترك القصر فيما دون الميل بأن النبي صلى الله عليه و سلم قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصر ولا أفطر . وذكر في المحلى من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء في تقدير مسافة القصر أقوالا كثيرة لم يحط بها غيره واستدل لها ورد تلك الاستدلالات
وقد أخذ بظاهر حديث أنس المذكور في الباب الظاهرية كما قال النووي فذهبوا إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال قال في الفتح : وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه وقد حمله من خالفه على أن المراد المسافة التي [ ص 253 ] يبتدأ منها القصر لا غاية السفر قال : ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال : سألت أنسا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع فقال أنس فذكر الحديث قال : فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدئ القصر منه . وذهب الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم إلى أنه لا يجوز إلا في مسيرة مرحلتين وهما ثمانية وأربعون ميلا هاشمية كما قال النووي
وقال أبو حنيفة والكوفيون لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل . وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة . وفي البحر عن أبي حنيفة أن مسافة القصر أربعة وعشرون فرسخا وحكي في البحر أيضا عن زيد بن علي والنفس الزكية والداعي والمؤيد بالله وأبي طالب والثوري والكرخي وإحدى الروايات عن أبي حنيفة أن مسافة القصر ثلاثة أيام بسير الإبل والأقدام
وذهب الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والقاسم والهادي إلى أن مسافته بريد فصاعدا وقال أنس : وهو مروي عن الأوزاعي أن مسافته يوم وليلة
قال في الفتح : وقد أورد البخاري ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة يعني قوله في صحيحه وسمى النبي صلى الله عليه و سلم السفر يوما وليلة بعد قوله باب في كم يقصر الصلاة . وحجج هذه الأقوال مأخوذ بعضها من قصره صلى الله عليه و سلم في أسفاره وبعضها من قوله صلى الله عليه و سلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم ) عند الجماعة إلا النسائي
وفي رواية للبخاري من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه و سلم : ( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم )
وفي رواية لأبي داود : ( لا تسافر المرأة بريدا ) ولا حجة في جميع ذلك
أما قصره صلى الله عليه و سلم في أسفاره فلعدم استلزام فعله لعدم الجواز فيما دون المسافة التي قصر فيها وأما نهي المرأة عن أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم فغاية ما فيه إطلاق اسم السفر على مسيرة ثلاثة أيام وهو غير مناف للقصر فيما دونها وكذلك نهيها عن سفر اليوم بدون محرم والبريد لا ينافي جواز القصر في ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ كما في حديث أنس لأن الحكم على الأقل حكم على الأكثر
وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلى الله عليه و سلم قال : ( يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان ) فليس مما تقوم به حجة لأن [ ص 254 ] في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك وقد نسبه النووي إلى الكذب . وقال الأزدي : لا تحل الرواية عنه والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في الحجازيين وعبد الوهاب المذكور حجازي والصحيح أنه موقوف على ابن عباس كما أخرجه عنه الشافعي بإسناد صحيح ومالك في الموطأ إذا تقرر لك هذا فالمتيقن هو ثلاثة فراسخ لأن حديث أنس المذكور في الباب متردد ما بينهما وبين ثلاثة أميال والثلاثة الأميال مندرجة في الثلاثة الفراسخ فيؤخذ بالأكثر احتياطا ولكنه روى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة )
وقد أورد الحافظ هذا في التلخيص ولم يتكلم عليه فإن صح كان الفرسخ هو المتيقن ولا يقصر فيما دونه إلا إذا كان يسمى سفرا لغة أو شرعا
وقد اختلف أيضا فيمن قصد سفرا يقصر في مثله الصلاة على اختلاف الأقوال من أين يقصر . فقال ابن المنذر : أجمعوا على أن لمريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها واختلفوا فيما قبل الخروج من البيوت فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله ومنهم من قال إذا ركب قصر إن شاء . ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت واختلفوا فيما قبل ذلك فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر قال : ولا أعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة

باب أن من دخل بلدا فنوى الإقامة فيه أربعا يقصر

1 - عن أبي هريرة : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة في المسير والمقام بمكة إلى أن رجعوا ركعتين ركعتين )
- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده

2 - وعن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس قال : ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت : أقمتم بها شيئا قال : أقمنا بها عشرا )
- متفق عليه . ولمسلم : ( خرجنا من المدينة إلى الحج ) ثم ذكر مثله . وقال أحمد : إنما وجه حديث أنس : أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه و سلم بمكة ومنى وإلا [ ص 255 ] فلا وجه له غير هذا . واحتج بحديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى وخرج من مكة متوجها إلى المدينة بعد أيام التشريق ) ومعنى ذلك كله في الصحيحين وغيرهما

- قوله : ( ركعتين ركعتين ) زاد البيهقي إلا المغرب
قوله : ( أقمنا بها عشرا ) هذا لا يعارض حديث ابن عباس وعمران بن حصين الآتيين لأنهما في فتح مكة وهذا في حجة الوداع
قوله : ( وقال أحمد ) الخ هذا لا بد منه لما في حديث جابر المذكور في الباب . ومثله أيضا حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ : ( قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة ) الحديث
قال في الفتح : ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس ويكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام لا سوى لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى بمنى . وقال الطبري : أطلق على ذلك الإقامة بمكة لأن هذه المواضع مواضع النسك وهي في حكم التابع بمكة لأنها المقصود بالأصالة لا يتجه سوى ذلك كما قال أحمد . وقال النووي في شرح مسلم : إن النبي صلى الله عليه و سلم قدم مكة في اليوم الرابع فأقام بها الخامس والسادس والسابع وخرج منها في الثامن إلى منى وذهب إلى عرفات في التاسع وعاد إلى منى في العاشر فأقام بها الحادي عشر والثاني عشر ونفر في الثالث عشر إلى مكة وخرج منها إلى المدينة في الرابع عشر فمدة إقامته صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وحواليها عشرة أيام اه
وقد أشار المصنف بترجمة الباب إلى الرد على الشافعي حيث قال : إن المسافر يصير بنية إقامة أربعة أيام مقيما . وقد زعم الطحاوي بأن الشافعي لم يسبق إلى ذلك ورد ذلك في الفتح بأن أحمد قد قال بنحو ذلك وهي رواية عن مالك ونسبه في البحر إلى عثمان وسعيد بن المسيب وأبي ثور ومالك واستدل لهم بنهيه صلى الله عليه و سلم للمهاجر عن إقامة فوق ثلاث في مكة فتكون الزيادة عليها إقامة لا قدر الثلاث ورده بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة
وذهبت القاسمية والناصر والإمامية والحسن بن صالح وهو مروي عن ابن عباس أنه لا يتم الصلاة إلا من نوى إقامة عشر واحتجوا بما روي عن علي عليه السلام أنه قال : يتم الذي يقيم عشرا والذي يقول اليوم أخرج غدا أخرج يقصر شهرا . قالوا : وهو توقيف ورد [ ص 256 ] بأنه من مسائل الاجتهاد
وقال أبو حنيفة : إنه يتم إذا عزم على إقامة خمسة عشر يوما واحتج بما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا : إذا أقمت ببلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عسرة ليلة فأكمل الصلاة ورد بأنه لا حجة في أقوال الصحابة في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح وهذه منها
وروي عن الأوزاعي التحديد باثني عشر يوما وعن ربيعة يوم وليلة . وعن الحسن البصري أن المسافر يصير مقيما بدخول البلد . وعن عائشة بوضع الرحل . قال الإمام يحيى : ولا يعرف لهم مستند شرعي وإنما ذلك اجتهاد من أنفسهم والأمر كما قال هذا الإمام والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أياما من دون تردد لا يقال له مسافر فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا ما في حديث الباب من إقامته صلى الله عليه و سلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى الله عليه و سلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال أن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع فكان كل من يحج عازما على ذلك فيقتصر على هذا المقدار ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام هو التمام وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة ولا قائل به ولا يرد على هذا قوله صلى الله عليه و سلم في إقامته بمكة في الفتح إنا قوم سفر كما سيأتي لأنه كان إذ ذاك مترددا ولم يعزم على إقامة مدة معينة

باب من أقام لقضاء حاجة ولم يجمع إقامة

1 - عن جابر قال : ( أقام النبي صلى الله عليه و سلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة )
- رواه أحمد وأبو داود

2 - وعن عمران بن حصين قال : ( غزوت مع النبي صلى الله عليه و سلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول يا أهل البلدة صلوا أربعا فإنا سفر )
- رواه أبو داود . وفيه دليل على أنه لم يجمع إقامة

3 - وعن ابن عباس قال : ( لما فتح النبي صلى الله عليه و سلم مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين قال : فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا وإن زدنا أتممنا )
- رواه أحمد والبخاري وابن ماجه . ورواه أبو داود ولكنه قال : ( سبع عشرة ) وقال : قال عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس : ( أقام تسع عشرة )

4 - عن ثمامة بن شراحيل قال : ( خرجت [ ص 257 ] إلى ابن عمر فقلت ما صلاة المسافر فقال : ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثا قلت : أرأيت إن كنا بذي المجاز قال : وما ذي المجاز قلت : مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة فقال : أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري قال : أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين )
- رواه أحمد في مسنده

- أما حديث جابر فأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي وصححه ابن حزم والنووي وأعله الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى ابن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا وأن الأوزاعي رواه عن يحيى عن أنس فقال : ( بضع عشرة ) وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف
وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال : الصحيح عن الأوزاعي عن يحيى أن أنسا كان يفعله . قال الحافظ : ويحيى لم يسمع من أنس . وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه أيضا الترمذي وحسنه والبيهقي وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف . قال الحافظ : وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما عرف من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق
وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضا بلفظ : ( سبع عشرة ) بتقديم السين ابن حبان . وأما الأثر المروي عن ابن عمر فذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه . وأخرجه البيهقي بسند قال الحافظ : صحيح بلفظ : ( أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة ) وقد اختلفت الأحاديث في إقامته صلى الله عليه وآله وسلم في مكة عام الفتح فروي ما ذكر المصنف وروي عشرون أخرجه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس . وروي خمسة عشر أخرجه النسائي وأبو داود وابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس أيضا . قال البيهقي : أصح الروايات في ذلك رواية البخاري وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج وهي رواية سبعة عشر بتقديم السين وعدها في بعضها وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء وعد يوم الدخول ولم يعد يوم الخروج وهي رواية ثمانية عشر . قال الحافظ : وهو جمع متين وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضا اه
وقد ضعف [ ص 258 ] النووي في الخلاصة رواية خمسة عشر . قال في الفتح : وليس بجيد لأن رواتها ثقات ولم يفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبد الله كذلك
وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل سبع عشرة فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة . وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة لكونها أقل ما ورد فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا . وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين
( وقد اختلف العلماء ) في تقدير المدة التي يقصر فيها المسافر إذا أقام ببلدة وكان مترددا غير عازم على إقامة أيام معلومة فذهب الهادي والقاسم والإمامية إلى أن من لم يعزم إقامة مدة معلومة كمنتظر الفتح يقصر إلى شهر ويتم بعده واستدلوا بقول علي عليه السلام المتقدم في شرح الباب الأول وقد تقدم الجواب عليه
وذهب أبو حنيفة وأصحابه والإمام يحيى وهو مروي عن الشافعي إلى أنه يقصر أبدا لأن الأصل السفر ولما ذكره المصنف عن ابن عمر قالوا وما روي من قصره صلى الله عليه و سلم في مكة وتبوك دليل لهم لا عليهم لأنه صلى الله عليه و سلم قصر مدة إقامته ولا دليل على التمام فيما بعد تلك المدة . ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أقام بحنين أربعين يوما يقصر الصلاة ) ولكنه قال : تفرد به الحسن بن عمارة وهو غير محتج به . وروي عن ابن عمر وأنس أنه يتم بعد أربعة أيام
( والحق ) أن الأصل في المقيم الإتمام لأن القصر لم يشرعه الشارع إلا للمسافر والمقيم غير مسافر فلولا ما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم من قصره بمكة وتبوك مع الإقامة لكان المتعين هو الإتمام فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلا بدليل وقد دل الدليل على القصر مع التردد إلى عشرين يوما كما في حديث جابر ولم يصح أنه صلى الله عليه و سلم قصر في الإقامة أكثر من ذلك فيقتصر على هذا المقدار ولا شك أن قصره صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها ولكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك
( فإن قيل ) المعتبر صدق اسم المسافر على المقيم المتردد وقد قال صلى الله عليه و سلم : ( إنا قوم سفر ) فصدق عليه هذا الاسم ومن صدق عليه هذا الاسم قصر لأن المعتبر هو السفر لانضباطه لا المشقة لعدم انضباطها فيجاب عنه أولا بأن في الحديث المقال المتقدم [ ص 259 ] وثانيا بأنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير مسافر حال الإقامة فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما سيكون عليه

باب من اجتاز في بلد فتزوج فيه أو له فيه زوجة فليتم

1 - عن عثمان بن عفان : ( أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال : يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم )
- رواه أحمد

- الحديث أيضا أخرجه البيهقي وأعله بالانقطاع وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف كما قال البيهقي
وأخرجه أيضا عبد الله بن الزبير الحميدي قال في الهدى : قال أبو البركات ابن تيمية ويمكن المطالبة بسبب الضعف . فإن البخاري ذكر عكرمة المذكور في تاريخه ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين
قال في الفتح : هذا حديث لا يصح لأنه منقطع وفي رواته من لا يحتج به ويرده قول عروة أن عائشة تأولت ما تأول عثمان ولا جائز أن تؤل عائشة أصلا فدل على وهي ذلك الخبر قال : ثم ظهر أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله تأولت كما تأول عثمان التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان فتكاثرت بخلاف تأويل عائشة . وقد أخرج ابن جرير في تفسير سورة النساء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعا فإذا احتجوا عليها تقول إن النبي صلى الله عليه و سلم كان في حروب وكان يخاف فهل تخافون أنتم
وقيل في تأويل عائشة أنها إنما أتمت في سفرها إلى البصرة لقتال علي عليه السلام والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة
قال في الفتح : وهذان القولان باطلان لا سيما الثاني قال : والمنقول في سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا . وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : لما قدم علينا معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثم انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له : لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة قال : وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة فإذا فرغ الحج وأقام بمنى أتم الصلاة . [ ص 260 ] وقال ابن بطال : الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته وآخذا أنفسهما بالشدة وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي . وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عثمان إنما أتم الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج وأجيب بأنه مرسل وفيه أيضا نظر لأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام
وقد صح عن عثمان أنه كان لا يودع البيت إلا على ظهر راحلته ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته وثبت أنه قال له المغيرة لما حاصروه : اركب رواحلك إلى مكة فقال : لن أفارق دار هجرتي
وأيضا قد روى أيوب عن الزهري ما يخالفه فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري أنه قال : إنما صلى عثمان بمنى أربعا لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع
وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب فقال : إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه ولكنه حدث طغام يعني بفتح الطاء والمعجمة فخفت أن يستنوا
وعن ابن جريج أن أعرابيا ناداه في منى : يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين . وقد روي في تأول عثمان غير ذلك والذي ذكرنا هنا أحسن ما قيل
وأما تأول عائشة فأحسن ما قيل فيه ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها : لو صليت ركعتين فقالت : يا ابن أختي إنه لا يشق علي
وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل وقد تقدم بسط الكلام في ذلك

أبواب الجمع بين الصلاتين

باب جوازه في السفر في وقت أحدهما

1 - عن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب )
- متفق عليه . وفي رواية لمسلم : ( كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين [ ص 261 ] في السفر يؤخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما )

- قوله : ( تزيغ ) بزاي وغين معجمة أي تميل
قوله : ( يجمع بينهما ) أي في وقت العصر وفي الحديث دليل على جواز جمع التأخير في السفر سواء كان السير مجدا أم لا وقد وقع الخلاف في الجمع في السفر فذهب إلى جوازه مطلقا تقديما وتأخيرا كثير من الصحابة والتابعين ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب واستدلوا بالأحاديث الآتية في هذا الباب ويأتي الكلام عليها . وقال قوم لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه وأجابوا عما روي من الأخبار في ذلك بأن الذي وقع جمع صوري وهو أنه أخر المغرب مثلا إلى آخر وقتها وعجل العشاء في أول وقتها كذا في الفتح قال : وتعقبه الخطابي وغيره بأن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة وسيأتي الجواب عن هذا التعقب في الباب الذي بعد هذا الباب
قال في الفتح مؤيدا لما قاله الخطابي : وأيضا فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع قال : ومما يرد على الجمع الصوري جمع التقديم وسيأتي
وقال الليث وهو المشهور عن مالك : إن الجمع يختص بمن جد به السير . وقال ابن حبيب : يختص بالسائر ويستدل لهما بما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه و سلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير ) ولما قاله ابن حبيب بما في البخاري أيضا عن ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء ) فيقيد أنس المذكور في الباب بما إذا كان المسافر سائرا سيرا مجدا كما في هذين الحديثين
وقال الأوزاعي : إن الجمع في السفر يختص بمن له عذر . وقال أحمد واختاره ابن حزم وهو مروي عن مالك : إنه يجوز جمع التأخير دون التقديم واستدلوا بحديث أنس المذكور في الباب وأجابوا عن الأحاديث القاضية بجواز جمع التقديم بما سيأتي

2 - وعن معاذ رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي

3 - وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( عن [ ص 262 ] النبي صلى الله عليه و سلم كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب فإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما )
- رواه أحمد ورواه الشافعي في مسنده بنحوه وقال فيه : ( وإذا سار قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر

4 - وعن ابن عمر : ( أنه استغيث على بعض أهله فجد به السير فأخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما ثم أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك إذا جد به السير )
- رواه الترمذي بهذا اللفظ وصححه ومعناه لسائر الجماعة إلا ابن ماجه

- أما حديث معاذ فأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي . قال الترمذي : حسن غريب تفرد به قتيبة . والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وليس فيه جمع التقديم يعني الذي أخرجه مسلم
وقال أبو داود : هذا حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم . وقال أبو سعيد ابن يونس : لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة ويقال إنه غلط فيه وأعله الحاكم وطول وابن حزم وقال : إنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا يعرف له عنه رواية . وقال أيضا : أن أبا الطفيل مقدوح لأنه كان حامل راية المختار وهو يؤمن بالرجعة وأجيب عن ذلك بأنه إنما خرج مع المختار على قاتلي الحسين وبأنه لم يعلم من المختار الإيمان بالرجعة
قال في البدر المنير : إن للحفاظ في هذا الحديث خمسة أقوال :
أحدها : إنه حسن غريب قاله الترمذي . ثانيها : إنه محفوظ صحيح قاله ابن حبان . ثالثها : إنه منكر قاله أبو داود . رابعها : إنه منقطع قاله ابن حزم . خامسها : إنه موضوع قاله الحاكم . وأصل حديث أبي الطفيل في صحيح مسلم وأبو الطفيل عدل ثقة مأمون اه
وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضا البيهقي والدارقطني وروي أن الترمذي حسنه . قال الحافظ : وكأنه باعتبار المتابعة وغفل ابن العربي فصحح إسناده وليس بصحيح لأنه من طريق حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب قال فيه أبو حاتم : ضعيف ولا يحتج بحديثه . وقال ابن معين : ضعيف . وقال أحمد : له أشياء منكرة . وقال النسائي : متروك الحديث . وقال السعدي : لا يحتج بحديثه . وقال ابن المديني : تركت حديثه . [ ص 263 ] وقال ابن حبان : يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ولكن له طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس
وله أيضا طريق أخرى رواها إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل ابن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام عن عروة عن كريب عن ابن عباس بنحوه
( وفي الباب ) عن علي عليه السلام عند الدارقطني وفي إسناده كما قال الحافظ من لا يعرف . وفيه أيضا المنذر القابوسي وهو ضعيف . وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند بإسناد آخر عن علي عليه السلام أنه كان يفعل ذلك
وفي الباب أيضا عن أنس عند الإسماعيلي والبيهقي وقال : إسناده صحيح بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ) وله طريق أخرى عند الحاكم في الأربعين وهو في الصحيحين من هذا الوجه وليس فيه والعصر
قال في التلخيص : وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك . وله طريق آخرى رواها الطبراني في الأوسط وفي الباب أيضا عن جابر عند مسلم من حديث طويل وفيه : ( ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا وكان ذلك بعد الزوال )
وقد استدل القائلون بجواز جمع التقديم والتأخير في السفر بهذه الأحاديث وقد تقدم ذكرهم وأجاب المانعون من جمع التقديم عنها بما تقدم من الكلام وقد عرفت أن بعضها صحيح وبعضها حسن وذلك يرد قول أبي داود : ليس في جمع التقديم حديث قائم
وأما حديث ابن عمر فقد استدل به من قال باختصاص رخصة الجمع في السفر بمن كان سائرا لا نازلا كما تقدم وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أخر الصلاة في غزوة تبوك خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ) قال الشافعي في الأم : قوله ( ثم دخل ثم خرج ) لا يكون إلا وهو نازل فللمسافر أن يجمع نازلا ومسافرا
وقال ابن عبد البر : هذا أوضح دليل في الرد على من قال لا يجمع إلا من جد به السير وهو قاطع للالتباس
وحكى القاضي عياض أن بعضهم أول قوله ثم دخل أي في الطريق مسافرا ثم خرج أي عن الطريق للصلاة ثم استبعده
قال الحافظ : ولا شك في بعده وكأنه صلى الله عليه و سلم فعل ذلك لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس يعني المذكور في [ ص 264 ] أول الباب ومن ثمة قالت الشافعية : ترك الجمع أفضل
وعن مالك رواية أنه مكروه وهذه الأحاديث تخصص أحاديث الأوقات التي بينها جبريل وبينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي حيث قال في آخرها : ( الوقت ما بين هذين الوقتين )

باب جمع المقيم لمطر أو غيره

1 - عن ابن عباس رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء )
- متفق عليه . وفي لفظه للجماعة إلا البخاري وابن ماجه : ( جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قيل لابن عباس : ما أراد بذلك قال : أراد أن لا يحرج أمته )

- الحديث ورد بلفظ : ( من غير خوف ولا سفر ) وبلفظ : ( من غير خوف ولا مطر ) قال الحافظ : واعلم أنه لم يقع مجموعا بالثلاثة في شيء من كتب الحديث بل المشهور من غير خوف ولا سفر
قوله : ( سبعا وثمانيا ) أي سبعا جميعا وثمانيا جميعا كما صرح به البخاري في رواية له ذكرها في باب وقت المغرب
قوله : ( أراد أن لا يحرج أمته ) قال ابن سيد الناس : قد اختلف في تقييده فروي يحرج بالياء المضمومة آخر الحروف وأمته منصوب على أنه مفعوله وروي تحرج بالتاء ثالثة الحروف مفتوحة وضم أمته على أنها فاعله . ومعناه إنما فعل تلك لئلا يشق عليهم ويثقل فقصد إلى التخفيف عنهم . وقد أخرج ذلك الطبراني في الأوسط والكبير ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن مسعود بلفظ : ( جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال : صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي ) وقد ضعف بأن فيه ابن عبد القدوس وهو مندفع لأنه لم يتكلم فيه إلا بسبب روايته عن الضعفاء وتشيعه والأول غير قادح باعتبار ما نحن فيه إذ لم يروه عن ضعيف بل رواه عن الأعمش كما قال الهيثمي والثاني ليس بقدح معتد به ما لم يجاوز الحد المعتبر ولم ينقل عنه ذلك على أنه قد قال البخاري : إنه صدوق . وقال أبو حاتم : لا بأس به
( وقد استدل ) بحديث الباب القائلون بجواز الجمع مطلقا بشرط أن لا يتخذ ذلك خلقا وعادة . قال في الفتح : وممن قال به ابن سيرين وربيعة وابن المنذر والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث وقد رواه في البحر عن [ ص 265 ] الإمامية والمتوكل على الله أحمد بن سليمان والمهدي أحمد بن الحسين . ورواه ابن مظفر في البيان عن علي عليه السلام وزيد بن علي والهادي وأحد قولي الناصر وأحد قولي المنصور بالله ولا أدري ما صحة ذلك فإن الذي وجدناه في كتب بعض هؤلاء الأئمة وكتب غيرهم يقضي بخلاف ذلك
وذهب الجمهور إلى أن الجمع لغير عذر لا يجوز . وحكى في البحر عن البعض أنه إجماع ومنع ذلك مسندا بأنه قد خالف في ذلك من تقدم . واعترض عليه صاحب المنار بأنه اعتداد بخلاف حادث بعد إجماع الصدر الأول
وأجاب الجمهور عن حديث الباب بأجوبة :
منها : أن الجمع المذكور كان للمرض وقواه النووي . قال الحافظ : وفيه نظر لأنه لو كان جمعه صلى الله عليه و سلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من له نحو ذلك العذر . والظاهر أنه صلى الله عليه و سلم جمع بأصحابه وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته
ومنها : أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم مثلا فبان أن وقت العصر قد دخل فصلاها . قال النووي : وهو باطل لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء . قال الحافظ : وكأن نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد والمختار عنه خلافه وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء وعلى هذا فالاحتمال قائم
ومنها أن الجمع المذكور صوري بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها . قال النووي : وهذا احتمال ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل . قال الحافظ : وهذا الذي ضعفه قد استحسنه القرطبي ورجحه إمام الحرمين وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به . قال الحافظ أيضا : ويقوي ما ذكر من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع فأما أن يحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر وأما أن يحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ويجمع بها بين مفترق الأحاديث فالجمع الصوري أولى والله أعلم اه
ومما يدل على تعيين حمل حديث الباب على الجمع الصوري ما أخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ : ( صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء ) فهذا ابن عباس راوي حديث الباب قد صرح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري . ومما ( 1 ) [ ص 266 ] يؤيد ذلك ما رواه الشيخان عن عمرو بن دينار أنه قال : يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال : وأنا أظنه . وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس كما تقدم
ومن المؤيدات للحمل على الجمع الصوري ما أخرجه مالك في الموطأ والبخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود قال : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها ) فنفى ابن مسعود مطلق الجمع وحصره في جمع المزدلفة مع أنه ممن روى حديث الجمع بالمدينة كما تقدم وهو يدل على أن الجمع الواقع بالمدينة صوري ولو كان جمعا حقيقيا لتعارض روايتاه والجمع ما أمكن المصير إليه هو الواجب
ومن المؤيدات للحمل على الجمع الصوري أيضا ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما )
وهذا هو الجمع الصوري وابن عمر هو ممن روى جمعه صلى الله عليه و سلم بالمدينة كما أخرج ذلك عبد الرزاق عنه . وهذه الروايات معينة لما هو المراد بلفظ جمع لما تقرر في الأصول من أن لفظ جمع بين الظهر والعصر لا يعم وقتها كما في مختصر المنتهى وشروحه والغاية وشرحها وسائر كتب الأصول بل مدلوله لغة الهيئة الاجتماعية وهي موجودة في جمع التقديم والتأخير والجمع الصوري إلا أنه لا يتناول جميعها ولا اثنين منها إذ الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه كما صرح بذلك أئمة الأصول فلا يتعين واحد من صور الجمع المذكور إلا بدليل وقد قام الدليل على أن الجمع المذكور في الباب هو الجمع الصوري فوجب المصير إلى ذلك
وقد زعم بعض المتأخرين أنه لم يرد الجمع الصوري في لسان الشارع وأهل عصره وهو مردود بما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله للمستحاضة : ( وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين ) ومثله في المغرب والعشاء وبما سلف عن ابن عباس وابن عمر . وقد روي عن الخطابي أنه لا يصح الجمع المذكور في الباب على الجمع الصوري لأنه يكون أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه الخاصة فضلا عن العامة ويجاب عنه بأن الشارع قد عرف أمته أوائل الأوقات وأواخرها وبالغ في التعريف والبيان حتى أنه عينها بعلامات حسية لا تكاد تلتبس على العامة فضلا عن الخاصة [ ص 267 ] والتخفيف في تأخير إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها وفعل الأولى في أول وقتها متحقق بالنسبة إلى فعل كل واحدة منهما في أول وقتها كما كان ذلك ديدنه صلى الله عليه وآله وسلم حتى قالت عائشة : ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين حتى قبضه الله تعالى . ولا يشك منصف أن فعل الصلاتين دفعة والخروج إليهما مرة أخف من خلافه وأيسر
وبهذا يندفع ما قاله الحافظ في الفتح : إن قوله صلى الله عليه و سلم لئلا تحرج أمتي يقدح في حمله على الجمع الصوري لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج فإن قلت الجمع الصوري هو فعل لكل واحدة من الصلاتين المجموعتين في وقتها فلا يكون رخصة بل عزيمة فأي فائدة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لئلا تحرج أمتي ) مع شمول الأحاديث المعينة للوقت للجمع الصوري وهل حمل الجمع على ما شملته أحاديث التوقيت إلا من باب الاطراح لفائدته وإلغاء مضمونه قلت : لا شك أن الأقوال الصادرة منه صلى الله عليه وآله وسلم شاملة للجمع الصوري كما ذكرت فلا يصح أن يكون رفع الحرج منسوبا إليها بل منسوب إلى الأفعال ليس إلا لما عرفناك من أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين فربما ظن ظان أن فعل الصلاة في أول وقتها متحتم لملازمته صلى الله عليه و سلم لذلك طول عمره فكان في جمعه جمعا صوريا تخفيف وتسهيل على من اقتدى بمجرد الفعل وقد كان إقتداء الصحابة بالأفعال أكثر منه بالأقوال ولهذا امتنع الصحابة رضي الله عنهم من نحر بدنه يوم الحديبية بعد أن أمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بالنحر حتى دخل صلى الله عليه و سلم على أم سلمة مغموما فأشارت عليه بأن ينحر ويدعو الحلاق يحلق له ففعل فنحروا أجمع وكادوا يهلكون غما من شدة تراكم بعضهم على بعض حال الحلق
ومما يدل على أن الجمع المتنازع فيه لا يجوز إلا لعذر ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر ) وفي إسناده حنش بن قيس وهو ضعيف
ومما يدل على ذلك ما قاله الترمذي في آخر سننه في كتاب العلل منه ولفظه جميع ما في كتابي هذا من الحديث هو معمول به وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين : حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ) . وحديث : ( أنه قال صلى الله عليه و سلم : إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ) . انتهى
ولا يخفاك أن الحديث صحيح وترك الجمهور للعمل به لا يقدح في صحته ولا يوجب سقوط الاستدلال به وقد أخذ به بعض أهل العلم كما سلف وإن كان [ ص 268 ] ظاهر كلام الترمذي أنه لم يأخذ به أحد ولكن قد أثبت ذلك غيره والمثبت مقدم فالأولى التعويل على ما قدمنا من أن ذلك الجمع صوري بل القول بذلك متحتم لما سلف
وقد جمعنا في هذه المسألة رسالة مستقلة سميناها تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع فمن أحب الوقوف عليها فليطلبها
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث الباب ما لفظه : قلت وهذا يدل بفحواه على الجمع للمطر والخوف وللمرض وإنما خولف ظاهر منطوقه في الجمع لغير عذر للإجماع ولأخبار المواقيت فتبقى فحواه على مقتضاه
وقد صح الحديث في الجمع للمستحاضة والاستحاضة نوع مرض . ولمالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم . وللأثرم في سننه عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنه قال من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء اه
_________
( 1 ) [ في الأصل تكرار ( ومما هو الجمع الصوري ) وقد تم التصحيح كما هو وارد أعلاه . نظام سبعة . ]

باب الجمع بأذان وإقامتين من غير تطوع بينهما

1 - عن ابن عمر رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما )
- رواه البخاري والنسائي

2 - وعن جابر رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين وأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما ثم اضطجع حتى طلع الفجر )
- مختصر لأحمد ومسلم والنسائي

3 - وعن أسامة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا )
- متفق عليه . وفي لفظ : ( ركب حتى جئنا المزدلفة فأقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا ) رواه أحمد ومسلم . وفي لفظ : ( أتى المزدلفة فصلوا المغرب ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء ) رواه أحمد وهو حجة في جواز التفريق بين المجموعتين في وقت الثانية

- قوله : ( صلى المغرب والعشاء ) في رواية للبخاري : ( جمع النبي صلى الله عليه وآله [ ص 269 ] وسلم المغرب والعشاء ) وفي رواية له : ( جمع بين المغرب والعشاء )
قوله : ( بإقامة ) لم يذكر الأذان وهو ثابت في حديث جابر المذكور بعده
وفي حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري بلفظ : ( فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى المغرب ) الحديث
قوله : ( ولم يسبح بينهما ) أي لم يتنفل بين صلاة المغرب والعشاء ولا عقب كل واحدة منها . قال في الفتح : ويستفاد منه أنه ترك النفل عقب المغرب وعقب العشاء ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما بخلاف العشاء فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل
ومن ثم قال الفقهاء تؤخر سنة العشاءين عنهما . ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما ويعكر على نقل الاتفاق ما في البخاري عن ابن مسعود : ( أنه صلى المغرب بالمزدلفة وصلى بعدها ركعتين ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أمر بالأذان والإقامة ثم صلى العشاء ) وقد اختلف أهل العلم في صلاة النافلة في مطلق السفر . قال النووي : قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة فتركها ابن عمر وآخرون واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور . ودليلهم الأحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب وحديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم الضحى في يوم الفتح وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس وأحاديث أخر صحيحة ذكرها أصحاب السنن والقياس على النوافل المطلقة
وأما ما في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال : ( صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم أره يسبح في السفر ) وفي رواية : ( صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك ) فقال النووي : لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر فإن النافلة في البيت أفضل ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيها على جواز تركها
وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى فجوابه أن الفريضة متحتمة فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها وأما النافلة فهي إلى خيرة المكلف فالرفق به أن تكون مشروعة ويتخير إن شاء فعلها وحصل ثوابها وإن شاء تركها ولا شيء عليه
وقال ابن دقيق العيد : إن قول ابن عمر : ( فكان لا يزيد في السفر [ ص 270 ] على ركعتين ) يحتمل أنه كان لا يزيد في عدد ركعات الفرض ويحتمل أنه كان لا يزيد نفلا ويحتمل أعم من ذلك
قال في الفتح : ويدل على الثاني رواية مسلم بلفظ : ( صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلسنا معه فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما فقال : ما يصنع هؤلاء قلت : يسبحون قال : لو كنت مسبحا لأتممت ) ثم ذكر الحديث
قال ابن القيم في الهدى : وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم في سفره الاقتصار على الفرض ولم يحفظ عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان من سنة الوتر والفجر فإنه لم يكن يدعها حضرا ولا سفرا انتهى
وتعقبه الحافظ بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال : ( سافرت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر سفرا فلم أره ترك ركعتين إذ زاغت الشمس قبل الظهر ) قال : وكأنه لم يثبت عنده وقد استغربه الترمذي ونقل عن البخاري أنه رآه حسنا . وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر انتهى
وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث الذي تعقبه به الحافظ في الهدى في هذا البحث وأجاب عنه وذكر حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها ) وأجاب عنه واعلم أنه لا بد من حمل قول ابن عمر : ( فلم أره يسبح ) على صلاة السنة وإلا فقد صح عنه أنه : ( كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ) وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به )
وفي الصحيحين عن عامر ابن ربيعة أنه : ( رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته )
قال في الهدى : وقد سئل الإمام أحمد عن التطوع في السفر فقال : أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس . قال : وروي عن الحسن أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها . قال : وروي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر
قوله : ( بأذان واحد وإقامتين ) فيه أن السنة في الجمع بين الصلاتين الاقتصار على أذان واحد والإقامة لكل واحدة من الصلاتين . وقد أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه أمر بالأذان والإقامة لكل صلاة من الصلاتين المجموعتين بمزدلفة
قال ابن حزم : لم نجده مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو ثبت لقلت به ثم أخرج من طريق [ ص 271 ] عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث
قال أبو إسحاق : فذكرته لأبي جعفر محمد بن علي فقال : أما نحن أهل البيت فهكذا نصنع . قال ابن حزم : وقد روي عن عمر من فعله وأخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم
قال الحافظ : ولا يخفى تكلفه ولو تأتى له ذلك في حق عمر لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجتهم لم يتأت له في حق ابن مسعود . وقد ذهب إلى أن المشروع أذان واحد في الجمع وإقامة لكل صلاة الشافعي في القديم وهو مروي عن أحمد وابن حزم وابن الماجشون وقواه الطحاوي وإليه ذهبت الهادوية
وقال الشافعي في الجديد والثوري وهو مروي عن أحمد : إنه يجمع بين الصلاتين بإقامتين فقط وتمسك الأولون بحديث جابر المذكور في الباب وتمسك الآخرون بحديث أسامة المذكور في الباب أيضا لأنه اقتصر فيه على ذكر الإقامة لكل واحدة من الصلاتين
( والحق ) ما قاله الأولون لأن حديث جابر مشتمل على زيادة الأذان وهي زيادة غير منافية فيتعين قبولها
قوله : ( ثم أناخ كل إنسان بعيره ) فيه جواز الفصل بين الصلاتين المجموعتين بمثل هذا وظاهر قوله ( ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا ) المنافاة لقوله في الرواية الأخرى : ( ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء ) فإن أمكن الجمع إما بأنه حل بعضهم قبل صلاة العشاء وبعضهم بعدها أو بغير ذلك فذاك وإن لم يمكن فالرواية الأولى أرجح لكونها في صحيح مسلم ويرجحها أيضا الاقتصار في الرواية المتفق عليها على مجرد الإناخة فقط

أبواب الجمعة

باب التغليظ في تركها

1 - عن ابن مسعود رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة : لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم )
- رواه أحمد ومسلم

2 - وعن أبي هريرة وابن عمر : ( أنهما ما سمعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول على أعواد منبره : لينتهين أقوام عن ودعهم [ ص 272 ] الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين )
- رواه مسلم ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر وابن عباس

3 - وعن أبي الجعد الضمري وله صحبة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه )
- رواه الخمسة . ولأحمد وابن ماجه من حديث جابر نحوه

- حديث أبي الجعد أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبزار وصححه ابن السكن . وأبو الجعد قال الترمذي عن البخاري : لا أعرف اسمه وكذا قال أبو حاتم وذكره الطبراني في الكنى من معجمه . وقيل اسمه أدرع . وقيل جنادة وقيل عمرو . وقد اختلف في هذا الحديث على أبي سلمة فقيل عن أبي الجعد . قال الحافظ : وهو الصحيح . وقيل عن أبي هريرة وهو وهم قاله الدارقطني في العلل . ورواه الحاكم من حديث أبي قتادة وهو حسن وقد اختلف فيه . وحديث جابر الذي أشار إليه المصنف رحمه الله أخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة والحاكم بلفظ : ( من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع على قلبه ) قال الدارقطني : إنه أصح من حديث أبي الجعد
ولجابر حديث آخر بلفظ : ( إن الله افترض عليكم الجمعة في شهركم هذا فمن تركها استخفافا بها وتهاونا ألا فلا جمع الله له شمله ألا ولا بارك الله له ألا ولا صلاة له ) أخرجه ابن ماجه وفي إسناده عبد الله البلوي وهو واهي الحديث
وأخرجه البزار من وجه آخر وفيه علي بن زيد بن جدعان قال الدارقطني : إن الطريقين كليهما غير ثابت . وقال ابن عبد البر : هذا الحديث واهي الإسناد انتهى
( وفي الباب ) عن ابن عمر حديث آخر غير ما ذكر المصنف عند الطبراني في الأوسط بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا عسى أحد منكم أن يتخذ الضبنة من الغنم على رأس ميلين أو ثلاثة تأتي الجمعة فلا يشهدها ثلاثا فيطبع الله على قلبه )
وسيأتي نحوه في الباب الذي بعد هذا من حديث أبي هريرة . والضبنة بكسر الضاد المعجمة ثم باء موحدة ساكنة ثم نون هي ما تحت يدك من مال أو عيال
وعن ابن عباس حديث آخر غير الذي ذكره المصنف عن أبي يعلى الموصلي : ( من ترك ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره )
هكذا ذكره موقوفا وله حكم الرفع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما قال العراقي
وعن سمرة عند أبي داود والنسائي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( من ترك الجمعة من غير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار )
وعن أسامة بن زيد عند الطبراني في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ترك [ ص 273 ] ثلاث جمع من غير عذر كتب من المنافقين ) وفي إسناده جابر الجعفي وقد ضعفه الجمهور
وعن أنس عند الديلمي في مسند الفردوس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ترك ثلاث جمع متواليات من غير عذر طبع الله على قلبه )
وعن عبد الله بن أبي أوفى عند الطبراني في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثا طبع على قلبه فجعل قلب منافق ) قال العراقي : وإسناده جيد
وعن عقبة بن عامر عند أحمد في حديث طويل فيه : ( أناس يحبون اللبن ويخرجون من الجماعات ويدعون الجمعات ) وفي إسناده ابن لهيعة
وعن أبي قتادة عند أحمد أيضا بنحو حديث جابر الأول . وعن كعب بن مالك عند الطبراني في الكبير بنحو حديث أبي هريرة وابن عمر المذكور في الباب
قوله : ( يتخلفون عن الجمعة ) قال في الفتح : قد اختلف في تسمية اليوم بالجمعة مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة بفتح العين وضم الراء وبالموحدة فقيل سمي بذلك لأن كمال الخلق جمع فيه ذكره أبو حذيفة عن ابن عباس وإسناده ضعيف . وقيل لأن خلق آدم جمع فيه ورد ذلك من حديث سلمان عند أحمد وابن خزيمة وغيرهما وله شاهد عن أبي هريرة ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف وهذا أصح الأقوال . ويليه ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة وكانوا يسمونه يوم العروبة فصلى بهم وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه
وقيل لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه ويذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي روى ذلك الزبير في كتاب النسب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مقطوعا وبه جزم الفراء وغيره وقيل أن قصيا هو الذي كان يجمعهم ذكره ثعلب في أماليه . وقيل سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه وبهذا جزم ابن حزم فقال : إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية وأنه كان يسمى يوم العروبة
قال الحافظ : وفيه نظر فقد قال أهل اللغة أن العروبة اسم قديم كان للجاهلية وقالوا في الجمعة هو يوم العروبة فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى أول أهون جبار دبار مونس عروبة شيار
قال الجوهري : وكانت العرب تسمي يوم الاثنين أهون في أسمائهم القديمة وهذا يشعر بأنهم أحدثوا لها اسما وهي هذه المتعارفة كالسبت والأحد الخ . وقيل إن أول من سمى [ ص 274 ] الجمعة العروبة كعب بن لؤي وبه جزم بعض أهل اللغة . والجمعة بضم الجيم على المشهور وقد تسكن وقرأ بها الأعمش وحكى الفراء فتحها وحكى الزجاج كسرها . قال النووي : ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها كما يقال همزة ولمزة لكثير الهمز واللمز ونحو ذلك
قوله : ( لقد هممت ) الخ قد استدل بذلك على أن الجمعة من فروض الأعيان وأجيب عن ذلك بأجوبة قدمنا ذكرها في أبواب الجماعة وسيأتي بيان ما هو الحق
قوله : ( ودعهم ) أي تركهم
قوله : ( أو ليختمن الله تعالى ) الختم الطبع والتغطية قال القاضي عياض : اختلف المتكلمون في هذا اختلافا كثيرا فقيل هو إعدام اللطف وأسباب الخير . وقيل هو خلق الكفر في صدورهم وهو قول أكثر متكلمي أهل السنة يعني الأشعرية . وقال غيرهم : هو الشهادة عليهم . وقيل هو علامة جعلها الله تعالى في قلوبهم ليعرف بها الملائكة من يمدح ومن يذم
قال العراقي : والمراد بالطبع على قلبه أنه يصير قلبه قلب منافق كما تقدم في حديث ابن أبي أوفى وقد قال تعالى في حق المنافقين { فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }
قوله : ( ثلاث جمع ) يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقا سواء توالت الجمعات أو تفرقت حتى لو كان ترك في كل سنة جمعة لطبع الله تعالى على قلبه بعد الثالثة وهو ظاهر الحديث . ويحتمل أن يراد ثلاث جمع متوالية كما تقدم في حديث أنس لأن موالاة الذنب ومتابعته مشعرة بقلة المبالاة به
قوله : ( تهاونا ) فيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاونا فينبغي حمل الأحاديث المطلقة على هذا الحديث المقيد بالتهاون وكذلك تحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر كما تقدم
( وقد استدل ) بأحاديث الباب على أن الجمعة من فروض الأعيان وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين . وقال ابن العربي : الجمعة فرض بإجماع الأمة . وقال ابن قدامة في المغني : أجمع المسلمون على وجوب الجمعة وقد حكى الخطابي الخلاف في أنها من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات وقال : قال أكثر الفقهاء هي من فروض الكفايات وذكر ما يدل على أن ذلك قول للشافعي وقد حكاه المرعشي عن قوله القديم . قال الدارمي : وغلطوا حاكيه . وقال أبو إسحاق المروزي : لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي وكذلك حكاه الروياني عن حكاية بعضهم وغلطه . قال العراقي : نعم هو وجه لبعض الأصحاب قال : وأما ما ادعاه الخطابي من أكثر الفقهاء قالوا أن الجمعة فرض على الكفاية ففيه نظر فإن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على أنها فرض [ ص 275 ] عين لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب
قال ابن العربي : وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة ثم قال : قلنا له تأويلان أحدهما أن مالكا يطلق السنة على الفرض . الثاني أنه أراد سنة على صفتها لا يشاركها فيه سائر الصلوات حسب ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله المسلمون . وقد روى ابن وهب عن مالك عزيمة الجمعة على كل من سمع النداء انتهى
( ومن جملة الأدلة ) الدالة على أن الجمعة من فرائض الأعيان قول الله تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا } ومنها حديث طارق بن شهاب الآتي في الباب الذي بعد هذا . ومنها حديث حفصة الآتي أيضا . ومنها ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة : ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله تعالى عليهم واختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا تبع فيه ) الحديث
وقد استنبط منه البخاري فرضية صلاة الجمعة وبوب عليه باب فرض الجمعة وصرح النووي والحافظ بأنه يدل على الفرضية قالا : لقوله فرض الله تعالى عليهم فهدانا له فإن التقدير فرض عليهم وعلينا فضلوا وهدينا وقد وقع في مسلم في رواية سفيان عن أبي الزناد بلفظ : ( كتب علينا ) وقد أجاب عن هذه الأدلة من لم يقل بأنها فرض عين بأجوبة : أما عن حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف فيما تقدم في الجماعة . وأما عن سائر الأحاديث المشتملة على الوعيد فبصرفها إلى من ترك الجمعة تهاونا حملا للمطلق على المقيد ولا نزاع في أن التارك لها تهاونا مستحق للوعيد المذكور وإنما النزاع فيمن تركها غير متهاون
وأما عن الآية فبما يقضي به آخرها أعني قوله { ذلكم خير لكم } من عدم فرضية العين . وأما عن حديث طارق فبما قيل فيه من الإرسال وسيأتي . وأما عن حديث أبي هريرة الآخر فبمنع استلزام افتراض يوم الجمعة على من قبلنا افتراضه علينا وأيضا ليس فيه افتراض صلاة الجمعة عليهم ولا علينا . وقد ردت هذه الأجوبة بردود
( والحق ) أن الجمعة من فرائض الأعيان على سامع النداء ولو لم يكن في الباب إلا حديث طارق وأم سلمة الآتيين لكانا مما تقوم به الحجة على الخصم . والاعتذار عن حديث طارق بالإرسال ستعرف اندفاعه وكذلك الاعتذار بأن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صغيرا لا يتسع هو ورحبته لكل المسلمين وما كانت تقام الجمعة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم بأمره إلا في مسجده وقبائل العرب كانوا مقيمين في نواحي المدينة مسلمين ولم يؤمروا بالحضور مدفوع بأن تخلف [ ص 276 ] المتخلفين عن الحضور بعد أمر الله تعالى به وأمر رسوله والتوعد الشديد لمن لم يحضر لا يكون حجة إلا على فرض تقريره صلى الله عليه وآله وسلم للمتخلفين على تخلفهم واختصاص الأوامر بمن حضر جمعته صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين وكلاهما باطل
أما الأول فلا يصح نسبة التقرير إليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد همه بإحراق المتخلفين عن الجمعة وإخباره بالطبع على قلوبهم وجعلها كقلوب المنافقين . وأما الثاني فمع كونه قصرا للخطابات العامة بدون برهان ترده أيضا تلك التوعدات للقطع بأنه لا معنى لتوعد الحاضرين ولتصريحه صلى الله عليه وآله وسلم بأن ذلك الوعيد للمتخلفين وضيق مسجده صلى الله عليه وآله وسلم لا يدل على عدم الفرضية إلا على فرض أن الطلب مقصور على مقدار ما يتسع له من الناس أو عدم إمكان إقامتها في البقاع التي خارجه وفي سائر البقاع وكلاهما باطل . أما الأول فظاهر وأما الثاني فكذلك أيضا لإمكان إقامتها في تلك البقاع عقلا وشرعا
( لا يقال ) عدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإقامتها في غير مسجده يدل على عدم الوجوب لأنا نقول الطلب العام يقتضي وجوب صلاة الجمعة على كل فرد من أفراد المسلمين ومن لا يمكنه إقامتها في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكنه الوفاء بما طلبه الشارع إلا بإقامتها في غيره وما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه كما تقرر في الأصول

باب من تجب عليه ومن لا تجب

1 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الجمعة على من سمع النداء )
- رواه أبو داود والدارقطني . وقال فيه : ( إنما الجمعة على من سمع النداء )

- الحديث قال أبو داود في السنن : رواه جماعة عن سفيان مقصورا على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة انتهى
وفي إسناده محمد بن سعيد الطائفي قال المنذري : وفيه مقال وقال في التقريب : صدوق . وقال أبو بكر بن أبي داود هو ثقة قال : وهذه سنة تفرد بها أهل الطائف انتهى . وقد تفرد به محمد بن سعيد عن شيخه أبي سلمة وتفرد به أبو سلمة عن شيخه عبد الله بن هارون وقد ورد من حديث عبد الله [ ص 277 ] ابن عمرو من وجه آخر أخرجه الدارقطني من رواية الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا والوليد وزهير كلاهما من رجال الصحيح . قال العراقي : لكن زهير روى عن أهل الشام مناكير منهم الوليد والوليد مدلس وقد رواه بالعنعة فلا يصح
ورواه الدارقطني أيضا من رواية محمد بن الفضل بن عطية عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحمد بن الفضل ضعيف جدا والحجاج هو ابن أرطأة وهو مدلس مختلف في الاحتجاج به . ورواه أيضا البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا
( والحديث ) يدل على أن الجمعة لا تجب إلا على من سمع النداء وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق حكى ذلك الترمذي عنهم وحكاه ابن العربي عن مالك وروى ذلك عن عبد الله بن عمرو راوي الحديث
وحديث الباب وإن كان فيه المقال المتقدم فيشهد لصحته قوله تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } الآية
قال النووي في الخلاصة : إن البيهقي قال : له شاهد فذكره بإسناد جيد . قال العراقي : وفيه نظر قال : ويغني عنه حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال : ( أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل أعمى فقال : يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة قال : نعم قال : فأجب )
وروى نحوه أبو داود بإسناد حسن عن ابن أم مكتوم قال : فإذا كان هذا في مطلق الجماعة فالقول به في خصوصية الجمعة أولى والمراد بالنداء المذكور في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الإمام في المسجد لأنه الذي كان في زمن النبوة لا الواقع على المنارات فإنه محدث كما سيأتي
وظاهره عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة أو في خارجه وقد ادعى في البحر الإجماع على عدم اعتبار سماع النداء في موضعها واستدل لذلك بقوله إذا لم تعتبره الآية وأنك تعلم أن الآية قد قيد الأمر بالسعي فيها بالنداء لما تقرر عند أئمة البيان من أن الشرط قيد الحكم الجزاء والنداء المذكور فيها يستوي فيه من في المصر الذي تقام فيه الجمعة ومن خارجه نعم إن صح الإجماع كان هو الدليل على عدم اعتبار سماع النداء لمن في موضع إقامة الجمعة عند من قال بحجية الإجماع وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر وإن لم يسمعوا النداء وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجا [ ص 278 ] عن البلد الذي تقام فيه الجمعة فقال عبد الله بن عمر وأبو هريرة وأنس والحسن وعطاء ونافع وعكرمة والحكم والأوزاعي والإمام يحيى : إنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله والمراد أنه إذا جمع مع الإمام أمكنه العود إلى أهله آخر النهار وأول الليل واستدلوا بما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الجمعة على من أواه الليل إلى أهله ) قال الترمذي : وهذا إسناد ضعيف إنما يروى من حديث معارك بن عباد عن عبد الله بن سعيد المقبري وضعف يحيى بن سعيد القطان عبد الله بن سعيد المقبري في الحديث انتهى
وقال العراقي : إنه غير صحيح فلا حجة فيه . وذهب الهادي والناصر ومالك إلى أنها تلزم من سمع النداء بصوت الصيت من سور البلد . وقال عطاء : تلزم من على عشرة أميال . وقال الزهري : من على ستة أميال . وقال ربيعة : من على أربعة . وروي عن مالك ثلاثة . وروي عن الشافعي فرسخ وكذلك روي عن أحمد . قال ابن قدامة : وهذا قول أصحاب الرأي . وروي في البحر عن زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله وأبي حنيفة وأصحابه أنها لا تجب على من كان خارج البلد . وقد استدل بحديث الباب على أن الجمعة من فروض الكفايات حتى قال في ضوء النهار : إنه يدل على ذلك بلا شك ولا شبهة ورد بأنه ليس في الحديث إلا أنها من فرائض الأعيان على سامع النداء فقط وليس فيه أنها فرض كفاية على من لم يسمع بل مفهومه يدل على أنها لا تجب عليه لا عينا ولا كفاية

2 - وعن حفصة رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رواح الجمعة واجب على كل محتلم )
- رواه النسائي

3 - وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض )
- رواه أبو داود وقال : طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمع منه شيئا

- الحديث الأول رجال إسناده رجال الصحيح إلا عياش بن عياش وقد وثقه العجلي . والحديث الآخر أخرجه أيضا الحاكم من حديث طارق هذا عن أبي موسى . قال الحافظ : وصححه غير واحد . وقال الخطابي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قال العراقي : فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح وغايته أن [ ص 279 ] يكون مرسل صحابي وهو حجة عند الجمهور وإنما خالف فيه أبو إسحاق الإسفرايني بل ادعى بعض الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة اه . على أنه قد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى وقد شد من عضد هذا الحديث حديث حفصة المذكور في الباب ويؤيده أيضا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرا أو عبدا أو مريضا ) وفي إسناده ابن لهيعة ومعاذ بن محمد الأنصاري وهما ضعيفان
( وفي الباب ) عن تميم الداري عند العقيلي والحاكم أبي أحمد وفيه أربعة ضعفاء على الولاء قاله ابن القطان . وعن ابن عمر عند الطبراني في الأوسط . وعن مولى لأبي الزبير عند البيهقي . وعن أبي هريرة ذكره الحافظ في التلخيص وذكره صاحب مجمع الزوائد وقال : فيه إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطني
وعن أم عطية بلفظ : ( نهينا عن إتباع الجنائز ولا جمعة علينا ) أخرجه ابن خزيمة
وقد استدل بحديثي الباب على أن الجمعة من فرائض الأعيان وقد تقدم الكلام على ذلك
قوله : ( عبد مملوك ) فيه أن الجمعة غير واجبة على العبد وقال داود : إنها واجبة عليه لدخوله تحت عموم الخطاب
قوله : ( أو امرأة ) فيه عدم وجوب الجمعة على النساء أما غير العجائز فلا خلاف في ذلك وأما العجائز فقال الشافعي : يستحب لهن حضورها
قوله : ( أو صبي ) فيه أن الجمعة غير واجبة على الصبيان وهو مجمع عليه
قوله : ( أو مريض ) فيه أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان الحضور يجلب عليه مشقة . وقد ألحق به الإمام يحيى وأبو حنيفة الأعمى وإن وجد قائدا لما في ذلك من المشقة . وقال الشافعي : إنه غير معذور عن الحضور إن وجد قائدا
وظاهر حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم المتقدمين في شرح الحديث الذي في أول هذا الباب أنه غير معذور مع سماعه للنداء وإن لم يجد قائدا لعدم الفرق بين الجمعة وغيرها من الصلوات وقد تقدم الكلام على الحديثين في أول أبواب الجماعة
( واختلف ) في المسافر هل تجب عليه الجمعة إذا كان نازلا أم لا فقال الفقهاء وزيد بن علي والناصر والباقر والإمام يحيى : إنها لا تجب عليه ولو كان نازلا وقت إقامتها واستدلوا بما تقدم في حديث جابر من استثناء المسافر وكذا استثناء المسافر في حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه . وقال الهادي والقاسم وأبو العباس والزهري والنخعي : إنها تجب على المسافر إذا كان نازلا وقت إقامتها لا " إذا كان سائرا ومحل [ ص 280 ] الخلاف هل يطلق اسم المسافر على من كان نازلا أو يختص بالسائر وقد تقدم الكلام على ذلك في أبواب صلاة السفر

4 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها حتى يطبع الله تعالى على قلبه )
- رواه ابن ماجه

- الحديث هو عند ابن ماجه كما ذكره المصنف من رواية محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة وأخرجه الحاكم أيضا وفي إسناده معدى بن سليمان وفيه مقال . وروى نحوه الطبراني وأحمد من حديث حارثة بن النعمان وروى أيضا نحوه الطبراني من حديث ابن عمر وقد تقدم
قوله : ( أن يتخذ صبة ) بصاد مهملة مضمومة وبعدها باء موحدة مشددة قال في النهاية : هي من العشرين إلى الأربعين ضأنا ومعزا . وقيل معزا خاصة وقيل ما بين الستين إلى السبعين ولفظ حديث ابن عمر أن يتخذ الضبنة قال العراقي : بكسر الضاد المعجمة ثم باء موحدة ساكنة ثم نون هي ما تحت يدك من مال أو عيال اه
وفي القاموس في فصل الصاد المهملة من باب الباء الموحدة ما لفظه : والصبة بالضم ما صب من طعام وغيره ثم قال : والسربة من الخيل والإبل والغنم أو ما بين العشرة إلى الأربعين أو هي من الإبل ما دون المائة . وقال في فصل الضاد المعجمة من حرف النون : الضبنة مثلثة وكفرحة العيال ومن لا غناء فيه ولا كفاية من الرفقاء
( والحديث ) فيه الحث على حضور الجمعة والتوعد على التشاغل عنها بالمال وفيه أنها لا تسقط عمن كان خارجا عن بلد إقامتها وأن طلب الكلأ ونحوه لا يكون عذرا في تركها

5 - وعن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم جمعة قال : فتقدم أصحابه وقال : أتخلف فأصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم الجمعة ثم ألحقهم قال : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رآه فقال : ما منعك أن تغدو مع أصحابك فقال : أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت غدوتهم )
- رواه أحمد والترمذي . وقال شعبة لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أحاديث وعدها وليس هذا الحديث فيما عده

6 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( أنه أبصر رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول : لولا أن اليوم يوم جمعة لخرجت فقال عمر : اخرج [ ص 281 ] فإن الجمعة لا تحبس عن سفر )
- رواه الشافعي في مسنده

- أما حديث ابن عباس فقال الترمذي : إنه غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ثم قال : قال يحيى بن سعيد قال شعبة وذكر الكلام الذي ذكره المصنف وفي إسناده الحجاج بن أرطأة قال البيهقي : انفرد به الحجاج وهو ضعيف . وقال العراقي في شرح الترمذي : ضعفه الجمهور ومال ابن العربي إلى تصحيح الحديث وقال ما قاله شعبة لا يؤثر في الحديث وقال : هو صحيح السند صحيح المعنى لأن الغزو أفضل من الجماعة في الجمعة وغيرها وطاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغزو أفضل من طاعته في صلاة الجماعة وتعقبه العراقي فقال : هذا الكلام ليس جاريا على قواعد أهل الحديث ولا يلزم من كون المعنى صحيحا أن يكون السند صحيحا فإن شرط صحة الإسناد اتصاله فالمنقطع ليس من أقسام الصحيح عند عامة العلماء وهم الذين لا يحتجون بالمرسل فكل من لا يحتج بالمرسل لا يحتج بعنعنة المدلس بل حكى النووي في شرح المهذب وغيره اتفاق العلماء على أنه لا يحتج بعنعنة المدلس مع احتمال الاتصال فكيف مع تصريح شعبة وهو أمير المؤمنين في الحديث بأن الحكم لم يسمعه من مقسم فلو ثبت الحديث لكان حجة واضحة وإذا لم يثبت فالحجة قائمة بغيره من حيث تعارض الواجبات وأنه يقدم أهمها ولا شك أن الغزو أهم من صلاة الجمعة إذ الجمعة لها خلف عند فوتها بخلاف الغزو خصوصا إذا تعين فإنه يجب تقديمه وأيضا فالجمعة لم تجب قبل الزوال وإن وجب السعي إليها قبله في حق من سمع النداء ولا يمكنه إدراكها إلا بالسعي إليها قبله ومن هذه حاله يمكن أن يكون حكمه عند ذلك حكم ما بعد الزوال اه
وأما الأثر المروي عن عمر فذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه . وروى سعيد بن منصور أن أبا عبيدة سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة . وأخرج أبو داود في المراسيل وابن أبي شيبة عن الزهري : ( أنه أراد أن يسافر يوم الجمعة ضحوة فقيل له في ذلك فقال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سافر يوم الجمعة ) وفي مقابل ذلك ما أخرجه الدارقطني في الأفراد عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : ( من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره ) وفي إسناده ابن لهيعة وهو مختلف فيه وما أخرجه الخطيب في كتاب أسماء الرواة عن مالك من رواية الحسين بن علوان عنه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أن لا يصاحب في سفره ولا تقضى له حاجة )
ثم قال الخطيب : الحسين بن علوان غيره [ ص 282 ] أثبت منه . قال العراقي : قد ألان الخطيب الكلام في الحسين هذا وقد كذبه يحيى بن معين ونسبه ابن حبان إلى الوضع وذكر له الذهبي في الميزان هذا الحديث وأنه مما كذب فيه على مالك . وقد اختلف العلماء في جواز السفر يوم الجمعة من طلوع الفجر إلى الزوال على خمسة أقوال :
الأول : الجواز قال العراقي : وهو قول أكثر العلماء . فمن الصحابة عمر بن الخطاب والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وابن عمر . ومن التابعين الحسن وابن سيرين والزهري . ومن الأئمة أبو حنيفة ومالك في الرواية المشهورة عنه والأوزاعي وأحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه وهو القول القديم للشافعي وحكاه ابن قدامة عن أكثر أهل العلم
والقول الثاني : المنع منه وهو قول الشافعي في الجديد وهو إحدى الروايتين عن أحمد وعن مالك
والثالث : جوازه لسفر الجهاد دون غيره وهو إحدى الروايات عن أحمد
والرابع : جوازه للسفر الواجب دون غيره وهو اختيار أبي إسحاق المروزي من الشافعية ومال إليه إمام الحرمين
والخامس : جوازه لسفر الطاعة واجبا كان أو مندوبا وهو قول كثير من الشافعية وصححه الرافعي
وأما بعد الزوال من يوم الجمعة فقال العراقي : قد ادعى بعضهم الاتفاق على عدم جوازه وليس كذلك فقد ذهب أبو حنيفة والأوزاعي إلى جوازه كسائر الصلوات وخالفهم في ذلك عامة العلماء وفرقوا بين الجمعة وبين غيرها من الصلوات بوجوب الجماعة في الجمعة دون غيرها والظاهر جواز السفر قبل دخول وقت الجمعة وبعد دخوله لعدم المانع من ذلك وحديث أبي هريرة وكذلك حديث ابن عمر لا يصلحان للاحتجاج بهما على المنع لما عرفت من ضعفهما ومعارضة ما هو أنهض منهما ومخالفتهما لما هو الأصل فلا ينتقل عنه إلا بناقل صحيح ولم يوجد وأما وقت صلاة الجمعة فالظاهر عدم الجواز لمن قد وجب عليه الحضور إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه للجمعة كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معها وما شابه ذلك من الأعذار وقد أجاز الشارع التخلف عن الجمعة لعذر المطر فجوازه لما كان أدخل في المشقة منه أولى

باب انعقاد الجمعة بأربعين وإقامتها في القرى

1 - عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره عن أبيه [ ص 283 ] كعب رضي الله عنهما : ( أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة قال : فقلت له إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت : كم كنتم يومئذ قال : أربعون رجلا )
- رواه أبو داود وابن ماجه وقال فيه : ( كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة )

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي وصححه قال الحافظ : وإسناده حسن اه وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال مشهور
قوله : ( هزم النبيت ) هو بفتح الهاء وسكون الزاي المطمئن من الأرض والنبيت بفتح النون وكسر الباء الموحدة وسكون الياء التحتية وبعدها تاء فوقية . قال في القاموس : هو أبو حي باليمن اسمه عمرو بن مالك اه والمراد به هنا موضع من حرة بني بياضة وهي قرية على ميل من المدينة وبنو بياضة بطن من الأنصار
قوله : ( في نقيع ) هو بالنون ثم القاف ثم الياء التحتية بعدها عين مهملة
قوله : ( الخضمات ) بالخاء المعجمة وكسر الضاد المعجمة موضع معروف
قوله : ( أربعون رجلا ) استدل به من قال أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين رجلا وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز . وجه الاستدلال بحديث الباب أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد والأصل الظهر فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثابت بدليل وقد ثبت جوازها بأربعين فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صحيح . وثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) قالوا : ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين وأجيب عن ذلك بأنه لا دلالة في الحديث على اشتراط الأربعين لأن هذه واقعة عين وذلك أن الجمعة فرضت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة قبل الهجرة كما أخرجه الطبراني عن ابن عباس فلم يتمكن من إقامتها هنالك من أجل الكفار فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا واتفق أن عدتهم إذا كانت أربعين وليس فيه ما يدل على أن من دون الأربعين لا تنعقد بهم الجمعة . وقد تقرر في الأصول أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم
وروى عبد بن حميد وعبد الرزاق عن محمد ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار لليهود يوم يجمعون فيه كل أسبوع وللنصارى مثل ذلك [ ص 284 ] فهلم فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره فجعلوه يوم العروبة واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها فأنزل الله تعالى في ذلك بعد : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } الآية . قال الحافظ : ورجاله ثقات إلا أنه مرسل . وقولهم لم يثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الجمعة بأقل من أربعين يرده حديث جابر الآتي في باب انفضاض العدد لتصريحه بأنه لم يبق معه صلى الله عليه وآله وسلم إلا اثنا عشر رجلا
وما أخرجه الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال : ( أول من قدم المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير وهو أول من جمع بها يوم الجمعة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم اثنا عشر رجلا ) وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف قال الحافظ : ويجمع بينه وبين حديث الباب بأن أسعد كان أميرا ومصعبا كان إماما وما أخرجه الطبراني أيضا وابن عدي عن أم عبد الله الدوسية مرفوعا : ( الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة ) وفي رواية : ( وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم الإمام ) وقد ضعفه الطبراني وابن عدي وفيه متروك . قال في التلخيص : وهو منقطع وأما احتجاجهم بحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي بلفظ : ( في كل أربعين فما فوقها جمعة وأضحى وفطر ) ففي إسناده بعد تسليم أنه مرفوع عبد العزيز بن عبد الرحمن . قال أحمد : اضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال الدارقطني : منكر الحديث . وقال ابن حبان ( 1 ) : لا يجوز الاحتجاج به . وقال البيهقي : هذا الحديث لا يحتج بمثله . ومن الغرائب ما استدل به البيهقي على اعتبار الأربعين وهو حديث ابن مسعود قال : ( جمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنت آخر من أتاه ونحن أربعون رجلا فقال : إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم . فإن هذه الواقعة قصد فيها النبي صلى الله عليه و سلم أن يجمع أصحابه ليبشرهم فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد ) قال السيوطي : وإيراد البيهقي لهذا الحديث أقوى دليل على أنه لم يجد من الأحاديث ما يدل للمسألة صريحا اه
( واعلم ) أن الخلاف في هذه المسألة منتشر جدا وقد ذكر الحافظ في فتح الباري خمسة عشر مذهبا فقال : وجملة ما للعلماء في ذلك خمسة عشر قولا :
أحدها : تصح من الواحد نقله ابن حزم قلت : وحكاه الدارمي عن القاشاني وصاحب البحر عن الحسن بن [ ص 285 ] صالح
الثاني : اثنان كالجماعة وهو قول النخعي وأهل الظاهر والحسن بن يحيى
الثالث : اثنان مع الإمام عند أبي يوسف ومحمد قلت : وحكاه في شرح المهذب عن الأوزاعي وأبي ثور وحكاه في البحر عن أبي العباس وتحصيله للهادي والأوزاعي والثوري
الرابع : ثلاثة معه عند أبي حنيفة قلت : وإليه ذهب المؤيد بالله وأبو طالب وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره المزني والسيوطي وحكاه عن الثوري والليث
الخامس : سبعة حكي عن عكرمة
السادس : تسعة عند ربيعة
السابع : اثنا عشر عنه في رواية قلت : وحكاه عنه المتولي والماوردي في الحاوي وحكاه الماوردي أيضا عن الزهري والأوزاعي ومحمد بن الحسن
الثامن : مثله غير الإمام عند إسحاق
التاسع : عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك
العاشر : ثلاثون في روايته أيضا عن مالك
الحادي عشر : أربعون بالإمام عند الشافعي قلت : ومعه من قدمنا ذكرهم كما حكى ذلك السيوطي
الثاني عشر : أربعون غير الإمام روي عن الشافعي وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة
الثالث عشر : خمسون عند أحمد وفي رواية كليب عن عمر بن عبد العزيز
الرابع عشر : ثمانون حكاه المازري
الخامس عشر : جمع كثير بغير قيد قلت : حكاه السيوطي عن مالك
قال الحافظ : ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل
( واعلم ) أنه لا مستند لاشتراط ثمانين أو ثلاثين أو عشرين أو تسعة أو سبعة كما أنه لا مستند لصحتها من الواحد المنفرد وأما من قال إنها تصح باثنين فاستدل بأن العدد واجب بالحديث والإجماع ورأى أنه لم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين ولا فرق بينها وبين الجماعة ولم يأت نص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا وهذا القول هو الراجح عندي وأما الذي قال بثلاثة فرأى العدد واجبا في الجمعة كالصلاة فشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة
وأما الذي قال بأربعة فمستنده حديث أم عبد الله الدوسية المتقدم وقد تقدم أنه لا ينتهض للاحتجاج به وله طريق أخرى عند الدارقطني وفيها متروكون وله طريق ثالثة عنده أيضا وفيها متروك . قال السيوطي : قد حصل من اجتماع هذه الطرق نوع قوة للحديث وفيه أن الطرق التي لا تخلو كل واحدة منها من متروك لا تصلح للاحتجاج وإن كثرت . وأما الذي قال باثني عشر فمستنده حديث جابر في الانفضاض وسيأتي وفيه أنه يدل على صحتها بهذا المقدار وأما أنها لا تصح إلا بها فصاعدا لا بما دونهم فليس في الحديث ما يدل على ذلك
وأما من [ ص 286 ] قال باشتراط الخمسين فمستنده ما أخرجه الطبراني في الكبير والدارقطني عن أبي أمامة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الجمعة على الخمسين رجلا وليس على ما دون الخمسين جمعة ) قال السيوطي : لكنه ضعيف ومع ضعفه فهو محتمل للتأويل لأن ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة فلا يلزم من عدم وجوبها على ما دون الخمسين عدم صحتها منهم
وأما اشتراط جمع كثير من دون تقييد بعدد مخصوص فمستنده أن الجمعة شعار وهو لا يحصل إلا بكثرة تغيظ أعداء المؤمنين وفيه أن كونها شعارا لا يستلزم أن ينتفي وجوبها بانتفاء العدد الذي يحصل به ذلك على أن الطلب لها من العباد كتابا وسنة مطلق عن اعتبار الشعار فما الدليل على اعتباره وكتبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى مصعب بن عمير أن ينظر اليوم الذي يجهر فيه اليهود بالزبور فيجمع النساء والأبناء فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة تقربوا إلى الله تعالى بركعتين كما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس غاية ما فيه أن ذلك سبب أصل المشروعية وليس فيه أنه معتبر في الوجوب فلا يصلح للتمسك به على اعتبار عدد يحصل به الشعار وإلا لزم قصر مشروعية الجمعة على بلد تشارك المسلمين في سكونه اليهود وأنه باطل على أنه يعارض حديث ابن عباس المذكور ما تقدم عن ابن سيرين في بيان السبب في اعتراض الجمعة وليس فيه إلا أنه كان اجتماعهم لذكر الله تعالى وشكره وهو حاصل من القليل والكثير بل من الواحد لولا ما قدمنا من أن الجمعة يعتبر فيها الاجتماع وهو لا يحصل بواحد وأما الاثنان فبانضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما فقال : الاثنان فما فوقهما جماعة كما تقدم في أبواب الجماعة وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها . وقد قال عبد الحق : إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث وكذلك قال السيوطي : لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص
_________
( 1 ) [ في الأصل " وكان ابن حبان " والصحيح " وقال ابن حبان " كما هو في النص اعلاه . نظام سبعة ]

2 - وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ( أول جمعة جمعت بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد عبد القيس بجوائي من البحرين )
- رواه البخاري وأبو داود . وقال : بجوائي قرية من قرى البحرين

- قوله ( أول جمعة جمعت ) زاد أبو داود : ( في الإسلام )
قوله : ( في مسجد رسول [ ص 287 ] الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وقع في رواية ( بمكة ) قال في الفتح : وهو خطأ بلا مرية
قوله : ( بجوائي ) بضم الجيم وتخفيف الواو وقد تهمز ثم مثلثة خفيفة
قوله : ( من قرى البحرين ) فيه جواز إقامة الجمعة في القرى لأن الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن كما استدل بذلك جابر وأبو سعيد في جواز العزل بأنهم فعلوا والقرآن ينزل فلم ينهوا عنه وحكى الجوهري والزمخشري وابن الأثير أن جوائي اسم حصن البحرين . قال الحافظ : وهذا لا ينافي كونها قرية . وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أنها مدينة وما ثبت في نفس الحديث من كونها قرية أصح مع احتمال أن تكون في أول الأمر قرية ثم صارت مدينة . وذهب أبو حنيفة وأصحابه وبه قال زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله وأسنده ابن أبي شيبة عن علي عليه السلام وحذيفة وغيرهما أن الجمعة لا تقام إلا في المدن دون القرى واحتجوا بما روي عن علي عليه السلام مرفوعا : ( لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ) وقد ضعف أحمد رفعه وصحح ابن حزم وقفه وللاجتهاد فيه مسرح فلا ينتهض للاحتجاج به . وقد روى ابن أبي شيبة عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن اجمعوا حيث ما كنتم وهذا يشمل المدن والقرى وصححه ابن خزيمة وروى البيهقي عن الليث بن سعد أن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون على عهد عمر وعثمان بأمرهما وفيها رجال من الصحابة . وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعتب عليهم فلما اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى المرفوع . ويؤيد عدم اشتراط المصر حديث أم عبد الله الدوسية المتقدم . وذهب الهادي إلى اشتراط المسجد قال : لأنها لم تقم إلا فيه . وقال أبو حنيفة والشافعي والمؤيد بالله وسائر العلماء : إنه غير شرط قالوا إذ لم يفصل دليلها قال في البحر : قلت وهو قوي إن صحت صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في بطن الوادي اه
وقد روى صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في بطن الوادي ابن سعد وأهل السير ولو سلم عدم صحة ذلك لم يدل فعلها في المسجد على اشتراطه [ ص 288 ]

باب التنظيف والتجمل للجمعة وقصدها بسكينة والتبكير والدنو من الإمام

1 - عن ابن سلام رضي الله عنه : ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة : ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته )
- رواه ابن ماجه وأبو داود

2 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه وإن كان له طيب مس منه )
- رواه أحمد

- الحديث الأول له طرق عند أبي داود . منها عن موسى بن سعد عن ابن حبان عن ابن سلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ومنها عن موسى بن سعد عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قال البخاري : وليوسف صحبة وذكر غيره أن له رواية . ومنها عن محمد بن يحيى بن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا . وأخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن سلام . وأخرجه في الموطأ بلاغا ووصله ابن عبد البر في التمهيد من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة قال في الفتح : وفي إسناده نظر
( والحديث الثاني ) أخرجه أيضا أبو داود وهو عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي بلفظ : ( الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيبا إن وجد ) قال البخاري : قال عمر بن سليم الأنصاري راوي الحديث عن أبي سعيد أما الغسل فأشهد أنه واجب وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب أم لا ولكن هكذا في الحديث
( والحديث الأول ) يدل على استحباب لبس الثياب الحسنة يوم الجمعة وتخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الأيام . وحديث أبي سعيد فيه مشروعية الغسل في يوم الجمعة واللبس من صالح الثياب والتطيب وقد تقدم الكلام على الغسل في أبوابه . وأما لبس صالح الثياب والتطيب فلا خلاف في استحباب ذلك وقد ادعى بعضهم الإجماع على عدم وجوب الطيب وجعل ذلك دليلا على عدم وجوب الغسل . وأجيب عن ذلك بأنه قد روي عن أبي هريرة بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح [ ص 289 ] أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وبه قال بعض أهل الظاهر وبأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب كما قال ابن الجوزي وقد تقدم بسط الكلام على ذلك في أبواب الغسل

3 - وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى )
- رواه أحمد والبخاري

- قوله : ( ويتطهر بما استطاع من طهر ) في رواية الكشميهني : ( من طهره ) والمراد المبالغة في التنظيف ويؤخذ من عطفه على يغتسل أن إفاضة الماء تكفي في حصول الغسل . قال في الفتح : المراد بالغسل غسل الجسد وبالتطهر غسل الرأس
قوله : ( ويدهن ) المراد به إزالة شعث الشعر به وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة
قوله : ( أو يمس من طيب بيته ) أي إن لم يجد دهنا
قال الحافظ : ويحتمل أن يكون أو بمعنى الواو وإضافته إلى البيت تؤذن بأن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا ويجعل استعماله له عادة فيدخره في البيت وهذا مبني على أن المراد بالبيت حقيقته لكن في حديث عبد الله ابن عمر عند أبي داود أو يمس من طيب امرأته . والمعنى على هذا أن من لم يتخذ لنفسه طيبا فليستعمل من طيب امرأته . وعند مسلم من حديث أبي سعيد بلفظ : ( ولو من طيب المرأة ) وفيه أن المراد بالبيت في الحديث امرأة الرجل
قوله : ( ثم يروح إلى المسجد ) في رواية للبخاري : ( ثم يخرج ) وفي رواية لأحمد : ( ثم يمشي وعليه السكينة ) زاد ابن خزيمة : ( إلى المسجد )
قوله : ( ولا يفرق بين اثنين ) وفي حديث ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد : ( ثم لم يتخط رقاب الناس ) وفي حديث أبي الدرداء : ( ولم يتخط أحدا ولم يؤذه ) وفيه كراهة التفريق وتخطي الرقاب وأذية المصلين . قال الشافعي : أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك انتهى
قال في الفتح : وهذا يدخل فيه الإمام ومن يريد وصل الصف المنقطع إن أبى السابق من ذلك ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة . واستثنى المتولي من الشافعية من يكون معظما لدينه وعلمه إذا ألف مكانا يجلس فيه وهو تخصيص بدون مخصص ويمكن أن [ ص 290 ] يستدل لذلك بحديث : ( ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ) إذا كان المقصود من التخطي هو الوصول إلى الصف الذي يلي الإمام في حق من كان كذلك وكان مالك يقول : لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر ولا دليل على ذلك . وسيأتي بقية الكلام على التخطي في باب الرجل أحق بمجلسه
قوله : ( ثم يصلي ما كتب له ) في حديث أبي الدرداء : ( ثم يركع ما قضي له ) وفيه استحباب الصلاة قبل استماع الخطبة وسيأتي
قوله : ( ثم ينصت للإمام إذا تكلم ) فيه أن من تكلم حال تكلم الإمام لم يحصل له من الأجر ما في الحديث وسيأتي الكلام على ذلك
قوله : ( غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى ) في رواية : ( ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) وفي رواية : ( ذنوب ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) والمراد بالأخرى التي مضت بينه الليث عن ابن عجلان في روايته عند ابن خزيمة ولفظه : ( غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها ) ولابن حبان : ( غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها ) وزاد ابن ماجه عن أبي هريرة : ( ما لم يغش الكبائر ) ونحو ذلك لمسلم
وظاهر الحديث أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما ذكر في الحديث من الغسل والتنظيف والتطيب أو الدهن وترك التفرقة والتخطي والأذية والتنفل والإنصاف وكذلك لبس أحسن الثياب كما وقع في بعض الروايات والمشي بالسكينة كما وقع في أخرى وترك الكبائر كما في رواية أيضا
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث الباب : وفيه دليل على جواز الكلام قبل تكلم الإمام انتهى

4 - وعن أبي أيوب رضي الله عنه : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أيضا الطبراني من رواية عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أيوب وأشار إليه الترمذي وقال في مجمع الزوائد : رجاله ثقات
( وفي الباب ) أحاديث قد تقدم بعضها في أبواب الغسل . منها عن أبي بكر عند الطبراني بلفظ : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من اغتسل يوم الجمعة كفرت عنه ذنوبه وخطاياه فإذا أخذ في المسير كتب له بكل خطوة عشرون حسنة فإذا انصرف من الصلاة أجيز بعمل مائتي [ ص 291 ] سنة ) وفي إسناده الضحاك بن حمزة وقد ضعفه ابن معين والنسائي والجمهور وذكره ابن حبان في الثقات . وللحديث طريق أخرى عند الطبراني أيضا
وعن أبي ذر عند ابن ماجه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله وتطهر فأحسن طهوره ولبس من أحسن ثيابه ومس ما كتب الله تعالى له من طيب أهله ثم أتى الجمعة ولم يلغ ولم يفرق بين اثنين غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى )
وعن ابن عمر عند الطبراني في الأوسط : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من اغتسل يوم الجمعة ثم مس من أطيب طيبه ولبس من أحسن ثيابه ثم راح ولم يفرق بين اثنين حتى يقوم من مقامه ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام )
وعن ابن عباس عند البزار والطبراني في الأوسط قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من غسل واغتسل يوم الجمعة ثم دنا حيث يسمع خطبة الإمام فإذا خرج استمع وأنصت حتى يصليها معه كتب له بكل خطوة يخطوها عبادة سنة قيامها وصيامها )
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة له لما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا ) . وللحديث طريق أخرى عند أحمد في مسنده
وعن نبيشة عند أحمد : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن يكون له كفارة للجمعة التي تليها )
وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اغتسلوا يوم الجمعة فإنه من اغتسل يوم الجمعة فله كفارة ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ) قال العراقي : وإسناده حسن . ولأبي أمامة حديث آخر رواه الطبراني أيضا
وعن أبي طلحة عند الطبراني أيضا في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من غسل واغتسل وغدا وابتكر ودنا من الإمام وأنصت ولم يلغ في يوم جمعته كتب الله تعالى له بكل خطوة خطاها إلى المسجد صيام سنة وقيامها )
وعن أبي قتادة عند الطبراني في الأوسط قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من اغتسل يوم الجمعة كان [ ص 292 ] في طهارة إلى الجمعة الأخرى )
وعن أبي هريرة عند أبي يعلى الموصلي قال : ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث لا أدعهن أبدا الوتر قبل النوم وصوم ثلاثة أيام من كل شهر والغسل يوم الجمعة ) قال العراقي : ورجاله ثقات إلا أنه من رواية الحسن عن أبي هريرة ولم يسمع منه . وفي الباب أحاديث أخر وشرح حديث الباب قد تقدم في الذي قبله

5 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنه قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

- قوله : ( من اغتسل ) يعم كل من يصح منه الغسل من ذكر وأنثى وحر وعبد
قوله : ( غسل الجنابة ) بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غسلا كغسل الجنابة . وفي رواية لعبد الرزاق : ( فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة ) قال في الفتح : وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم وهو قول الأكثر وقيل فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة . والحكمة فيه أن يسكن النفس في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه . وفيه حمل المرأة أيضا على الاغتسال كما تقدم في حديث أوس بن أوس في أبواب الغسل
قال النووي : ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل . قال الحافظ : قد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد . وقد ثبت أيضا عن جماعة من التابعين . وقال القرطبي : إنه أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح ولعله عنى أنه باطل في المذهب
قوله : ( ثم راح ) زاد أصحاب الموطأ عن مالك : ( في الساعة الأولى )
قوله : ( فكأنما قرب بدنة ) أي تصدق بها متقربا إلى الله تعالى . وقيل ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة وهذا هو الظاهر وقد قيل غير ذلك
قوله : ( ومن راح في الساعة الثانية ) قد اختلف في الساعة المذكورة في الحديث ما المراد [ ص 293 ] بها فقيل إنها ما يتبادر إلى الذهن من العرف فيها . قال في الفتح : وفيه نظر إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات وفي الطول إلى أربع عشرة ساعة وهذا الإشكال للقفال وأجاب عنه القاضي حسين من أصحاب الشافعي بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر فالنهار اثنتا عشرة ساعة لكن يزيد كل منها وينقص والليل كذلك وهذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات وتلك التعديلية . وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا : ( يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة ) قال الحافظ : وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات . وقيل المراد بالساعات بيان مراتب التبكير من أول النهار إلى الزوال وأنها تنقسم إلى خمس . وتجاسر الغزالي فقسمها برأيه فقال : الأولى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والثانية إلى ارتفاعها والثالثة إلى انبساطها والرابعة إلى أن ترمض الأقدام والخامسة إلى الزوال
واعترضه ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى لأن المراتب متفاوتة جدا . وقيل المراد بالساعات خمس لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر روي ذلك عن المالكية . واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود وقالوا الرواح لا يكون إلا من بعد الزوال وقد أنكر الأزهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال ونقل أن العرب تقول راح في جميع الأوقات بمعنى ذهب قال : وهي لغة أهل الحجاز ونقل أبو عبيد في الغريبين نحوه . وفيه رد على الزين ابن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه وحيث قال : إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه وقد روى الحديث بلفظ غدا مكان راح . وبلفظ المتعجل إلى الجمعة . قال الحافظ : ومجموع الروايات يدل على أن المراد بالرواح الذهاب وما ذكرته المالكية أقرب إلى الصواب لأن الساعة في لسان الشارع وأهل اللغة الجزء من أجزاء الزمان كما في كتب اللغة ويؤيد ذلك أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى الجمعة قبل طلوع الشمس أو عند انبساطها ولو كانت الساعة هي المعروفة عند أهل الفلك لما ترك الصحابة الذين هم خير القرون وأسرع الناس إلى موجبات الأجور الذهاب إلى الجمعة في الساعة الأولى من أول النهار أو الثانية أو الثالثة فالواجب حمل كلام الشارع على لسان قومه إلا أن يثبت [ ص 294 ] له اصطلاح يخالفهم ولا يجوز حمله على المتعارف في لسان المتشرعة الحادث بعد عصره إلا أنه يعكر على هذا حديث جابر المصرح بأن يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة فإنه تصريح منه باعتبار الساعات الفلكية ويمكن التقصي عنه بأن مجرد جريان ذلك على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم لا يستلزم أن يكون اصطلاحا له تجري عليه خطاباته . ومما يشكل على اعتبار الساعات الفلكية وحمل كلام الشارع عليها استلزامه صحة صلاة الجمعة قبل الزوال ووجه ذلك أن تقسيم الساعات إلى خمس ثم تعقيبها بخروج الإمام وخروجه عند أول وقت الجمعة يقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال . وقد أجاب صاحب الفتح عن هذا الإشكال فقال : إنه ليس في شيء من طرق الحديث ذكر الإتيان من أول النهار فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية فهي أولى بالنسبة إلى المجيء ثانية بالنسبة إلى النهار قال : وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال فيرتفع الإشكال وإلى هذا أشار الصيدلاني فقال : إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار وهو أول الضحى وهو أول الهاجرة قال : ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان :
أحدهما : أن أول التبكير طلوع الشمس والثاني طلوع الفجر قال : ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة ثابتا كما وقع في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي من طريق الليث عنه بزيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور وتابعه صفوان بن عيسى عن ابن عجلان أخرجه محمد ابن عبد السلام وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في الترغيب له بلفظ ( فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشاة إلى الطير إلى العصفور ) الحديث ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور ووقع أيضا في حديث الزهري من رواية عبد الأعلى عن معمر عند النسائي زيادة البطة بين الكبش والدجاجة لكن خالفه عبد الرزاق وهو أثبت منه في معمر وعلى هذا فخروج الإمام يكون عند انتهاء السادسة
قوله : ( دجاجة ) بالفتح ويجوز الكسر وحكى بعضهم جواز الضم
( والحديث ) يدل على مشروعية الاغتسال يوم الجمعة وقد تقدم الكلام عليه وعلى فضيلة التبكير إليها . قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه دليل على أن أفضل الهدي الإبل ثم البقر ثم الغنم وقد تمسك به من أجاز الجمعة في الساعة السادسة ومن قال : إنه إذا نذر هديا مطلقا أجزأه إهداء أي مال كان انتهى [ ص 295 ]

6 - وعن سمرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : احضروا الذكر وادنوا من الإمام فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث قال المنذري : في إسناده انقطاع وهو يدل على مشروعية حضور الخطبة والدنو من الإمام لما تقدم في الأحاديث من الحض على ذلك والترغيب إليه وفيه أن التأخر عن الإمام يوم الجمعة من أسباب التأخر عن دخول الجنة . جعلنا الله تعالى من المتقدمين في دخولها

باب فضل يوم الجمعة وذكر ساعة الإجابة وفضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه

1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم عليه السلام وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة )
- رواه مسلم والترمذي وصححه

2 - وعن أبي لبانة البدري رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله تعالى وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى وفيه خمس خلال خلق الله عز و جل فيه آدم عليه السلام وأهبط الله تعالى فيه آدم إلى الأرض وفيه توفى الله تعالى آدم وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا آتاه الله تعالى إياه ما لم يسأل حراما وفيه تقوم الساعة ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هن يشفقن من يوم الجمعة )
- رواه أحمد وابن ماجه

3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عز و جل خيرا إلا أعطاه الله تعالى إياه وقال بيده قلنا يقللها يزهدها )
- رواه الجماعة إلا أن الترمذي وأبا داود لم يذكرا القيام ولا يقللها

- الحديث الأول أخرجه أيضا النسائي وأبو داود . والحديث الثاني قال العراقي : إسناده [ ص 296 ] حسن . والحديث الثالث زاد فيه الترمذي وأبو داود أن أبا هريرة قال : ( لقيت عبد الله بن سلام فحدثته هذا الحديث فقال : أنا أعلم تلك الساعة فقلت : أخبرني بها فقال عبد الله : هي آخر ساعة من يوم الجمعة ) كذا عند أبي داود وعند الترمذي : ( هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس )
قوله : ( خير يوم طلعت فيه الشمس ) فيه أن أفضل الأيام يوم الجمعة وبه جزم ابن العربي ويشكل على ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن قرط : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أفضل الأيام عند الله تعالى يوم النحر ) وسيأتي في آخر أبواب الضحايا ويأتي الجمع بينه وبين ما أخرج أيضا ابن حبان في صحيحه عن جابر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من يوم أفضل عند الله تعالى من يوم عرفة ) هنالك إن شاء الله تعالى
وقد جمع العراقي فقال : المراد بتفضيل الجمعة بالنسبة إلى أيام الجمعة وتفضيل يوم عرفة أو يوم النحر بالنسبة إلى أيام السنة وصرح بأن حديث أفضلية يوم الجمعة أصح
قال صاحب المفهم : صيغة خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها فإذا كانت للمفاضلة فأصلها أخير وأشرر على وزن أفعل وأما إذا لم يكونا للمفاضلة فهما من جملة الأسماء كما قال تعالى : { إن ترك خيرا } وقال : { ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } قال : وهي في حديث الباب للمفاضلة ومعناها في هذا الحديث أن يوم الجمعة أفضل من كل يوم طلعت شمسه . وظاهر قوله ( طلعت عليه الشمس ) أن يوم الجمعة لا يكون أفضل أيام الجنة ويمكن أن لا يعتبر هذا القيد ويكون يوم الجمعة أفضل أيام الجنة كما أنه أفضل أيام الدنيا لما ورد من أن أهل الجنة يزورون ربهم فيه ويجاب بأنا لا نعلم أنه يسمى في الجنة يوم الجمعة والذي ورد أنهم يزورون ربهم بعد مضي جمعة كما في حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه قال : ( أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ) الحديث
قوله : ( فيه خلق آدم ) فيه دليل على أن آدم لم يخلق في الجنة بل خلق خارجها ثم أدخل إليها
قوله : ( وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها ) الخ قد اختلفت الأحاديث في تعيين هذه الساعة بحسب ذلك أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم قال الحافظ في الفتح : قد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو قد رفعت وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة . وعلى الأول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم وعلى التعيين هل تستوعب [ ص 297 ] الوقت أو تبهم فيه وعلى الإبهام ما ابتداؤه وما انتهاؤه وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه وذكر رحمه الله تعالى من الأقوال فيها ما لم يذكره غيره وها أنا أشير إلى بسطه مختصرا
القول الأول : إنها قد رفعت . حكاه ابن المنذر عن قومه وزيفه وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة أنه كذب من قال بذلك . وقال صاحب الهدى : إن قائله إن أراد أنها صارت مبهمة بعد أن كانت معلومة احتمل وإن أراد حقيقة الرفع فهو مردود
الثاني : إنها موجودة في جمعة واحدة من السنة روي عن كعب بن مالك
الثالث : إنها مخفية في جميع اليوم كما أخفيت ليلة القدر وقد روى الحاكم وابن خزيمة عن أبي سعيد أنه قال : ( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقال : قد علمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر ) وقد مال إلى هذا جمع من العلماء منهم الرافعي وصاحب المغني
الرابع : إنها تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينة وجزم به ابن عساكر ورجحه الغزالي والمحب الطبري
الخامس : إذا أذن المؤذنون لصلاة الغداة روي ذلك عن عائشة
السادس : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس روى ذلك ابن عساكر عن أبي هريرة
السابع : مثله وزاد ومن العصر إلى المغرب رواه سعيد بن منصور عن أبي هريرة وفي إسناده ليث بن أبي سليم
الثامن : مثله وزاد وما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر رواه حميد بن زنجويه عن أبي هريرة
التاسع : إنها أول ساعة بعد طلوع الشمس حكاه الجيلي في شرح التنبيه وتبعه المحب الطبري في شرحه
العاشر : عند طلوع الشمس حكاه الغزالي في الإحياء وعزاه ابن المنير إلى أبي ذر
الحادي عشر : إنها آخر الساعة الثالثة من النهار حكاه صاحب المغني وهو في مسند أحمد عن أبي هريرة موقوفا بلفظ : ( وفي آخر ثلاث ساعات منه ساعة من دعا الله تعالى بها استجيب له ) وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف
الثاني عشر : من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع . حكاه المحب الطبري والمنذري
الثالث عشر : مثله لكن زاد إلى أن يصير الظل نصف ذراع حكاه عياض والقرطبي والنووي
الرابع عشر : بعد زوال الشمس بشبر إلى ذراع . رواه ابن المنذر وابن عبد البر عن أبي ذر
الخامس عشر : إذا زالت الشمس . حكاه ابن المنذر عن أبي العالية وروى نحوه عن علي وعبد الله بن نوفل وروى ابن عساكر عن قتادة أنه قال : كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس
السادس عشر : إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة . [ ص 298 ] رواه ابن المنذر عن عائشة
السابع عشر : من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة . ذكره ابن المنذر عن أبي السوار العدوي
الثامن عشر : من الزوال إلى خروج الإمام . حكاه أبو الطيب الطبري
التاسع عشر : من الزوال إلى غروب الشمس . حكاه أبو العباس أحمد بن علي الأزماري بسكون الزاي وقبل ياء النسبة راء مهملة ونقله ابن الملقن
العشرون : ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة رواه ابن المنذر عن الحسن ورواه المروزي عن الشعبي
الحادي والعشرون : عند خروج الإمام . رواه حميد ابن زنجويه عن الحسن
الثاني والعشرون : ما بين خروج الإمام إلى أن تنقضي الصلاة . رواه ابن جرير عن الشعبي وروي عن أبي موسى وابن عمر
الثالث والعشرون : ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل . رواه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي
الرابع والعشرون : ما بين الآذان إلى انقضاء الصلاة رواه حميد بن زنجويه عن ابن عباس
الخامس والعشرون : ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة . رواه مسلم وأبو داود عن أبي موسى وسيأتي وهذا يمكن أن يتحد مع الذي قبله
السادس والعشرون : عند التأذين وعند تذكير الإمام وعند الإقامة . رواه حميد بن زنجويه عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي
السابع والعشرون : مثله لكن قال إذا أذن وإذا رقى المنبر وإذا أقيمت الصلاة . رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي أمامة الصحابي
الثامن والعشرون : من حين يفتتح الإمام الخطبة حتى يفرغها رواه ابن عبد البر عن ابن عمر مرفوعا بإسناد ضعيف
التاسع والعشرون : إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة حكاه الغزالي
الثلاثون : عند الجلوس بين الخطبتين حكاه الطيبي عن بعض شراح المصابيح
الحادي والثلاثون : عند نزول الإمام من المنبر رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي بردة
الثاني والثلاثون : حين تقام الصلاة حتى يقوم الإمام في مقامه حكاه ابن المنذر عن الحسن . وروى الطبراني من حديث ميمونة بنت سعد نحوه بإسناد ضعيف
الثالث والثلاثون : من إقامة الصلاة إلى تمام الصلاة أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن عوف وفيه : ( قالوا : أية ساعة يا رسول الله قال : حين تقام الصلاة إلى الانصراف ) وسيأتي وإليه ذهب ابن سيرين رواه عنه ابن جرير وسعيد بن منصور
الرابع والثلاثون : هي الساعة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فيها الجمعة . رواه ابن عساكر عن ابن سيرين . قال الحافظ : وهذا يغاير الذي قبله من جهة [ ص 299 ] إطلاق ذلك وتقييد هذا
الخامس والثلاثون : من صلاة العصر إلى غروب الشمس ويدل على ذلك حديث ابن عباس عند ابن جرير وحديث أبي سعيد عنده بلفظ : ( فالتمسوها بعد العصر ) وذكر ابن عبد البر أن قوله ( فالتمسوها ) إلى آخره مدرج ورواه الترمذي عن أنس مرفوعا بلفظ : ( بعد العصر إلى غيبوبة الشمس ) وإسناده ضعيف
السادس والثلاثون : في صلاة العصر رواه عبد الرزاق عن يحيى بن إسحاق ابن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا
السابع والثلاثون : بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار حكاه الغزالي في الإحياء
الثامن والثلاثون : بعد العصر مطلقا رواه أحمد وابن عساكر عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا بلفظ : ( وهي بعد العصر ) ورواه ابن المنذر عن مجاهد مثله قال : وسمعته عن الحكم عن ابن عباس ورواه أبو بكر المروزي عن أبي هريرة ورواه عبد الرزاق عن طاوس
التاسع والثلاثون : من وسط النهار إلى قرب آخر النهار روي ذلك عن أبي سلمة ابن علقمة
الأربعون : من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب رواه عبد الرزاق عن طاوس
الحادي والأربعون : آخر ساعة بعد العصر ويدل على ذلك حديث جابر الآتي ورواه مالك وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان عن عبد الله بن سلام من قوله وروى ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا مثله
الثاني والأربعون : من حين يغرب قرص الشمس أو من حين يدلى قرص الشمس للغروب إلى أن يتكامل غروبها رواه الطبراني والدارقطني والبيهقي من طريق زيد بن علي عن مرجانة مولاة فاطمة رضي الله عنها قالت : حدثتني فاطمة عن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أية ساعة هي قال إذا تدلى نصف الشمس للغروب وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا كان يوم الجمعة أرسلت غلاما لها يقال له زيد ينظر لها الشمس فإذا أخبرها أنها تدلت للغروب أقبلت على الدعاء إلى أن تغيب . قال الحافظ : وفي إسناده اختلاف على زيد بن علي وفي بعض رواته من لا يعرف حاله . وأخرجه أيضا إسحاق بن راهويه ولم يذكر مرجانة
الثالث والأربعون : إنها وقت قراءة الإمام الفاتحة في الجمعة إلى أن يقول آمين قاله الجزري في كتابه المسمى الحصن الحصين في الأدعية ورجحه وفيه أنه يفوت على الداعي الإنصات لقراءة الإمام كما قال الحافظ قال : وهذه الأقوال ليست كلها متغايرة من كل وجه بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره . قال المحب الطبري : أصح الأحاديث في تعيين الساعة حديث أبي موسى وسيأتي وقد صرح مسلم بمثل ذلك . وقال بذلك البيهقي وابن العربي وجماعة والقرطبي [ ص 300 ] والنووي وذهب آخرون إلى ترجيح حديث عبد الله بن سلام حكى ذلك الترمذي عن أحمد أنه قال : أكثر الأحاديث على ذلك . وقال ابن عبد البر : إنه أثبت شيء في هذا الباب ويؤيده ما سيأتي عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن من أن ناسا من الصحابة أجمعوا على ذلك ورجحه أحمد وإسحاق وجماعة من المتأخرين
( والحاصل ) أن حديث أبي هريرة المتقدم ظاهره يخالف الأحاديث الواردة في كونها بعد العصر لأن الصلاة بعد العصر منهي عنها وقد ذكر فيه ( لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي ) وقد أجاب عنه عبد الله بن سلام بأن منتظر الصلاة في صلاة وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي ولكنه يشكل على ذلك قوله قائم وقد أجاب عنه القاضي عياض بأنه ليس المراد القيام الحقيقي وإنما المراد به الاهتمام بالأمر كقولهم فلان قام في الأمر الفلاني ومنه قوله تعالى { إلا ما دمت عليه قائما } وليس بين حديث أبي هريرة وحديث أبي موسى الآتي تعارض ولا اختلاف وإنما الاختلاف بين حديث أبي موسى وبين الأحاديث الواردة في كونها بعد العصر أو آخر ساعة من اليوم وسيأتي . فأما الجمع فإنما يمكن بأن يصار إلى القول بأنها تنتقل فيحمل حديث أبي موسى على أنه أخبر فيه عن جمعة خاصة وتحمل الأحاديث الأخر على جمعة أخرى فإن قيل بتنقلها فذاك وإن قيل بأنها في وقت واحد لا تنتقل فيصار حينئذ إلى الترجيح ولا شك أن الأحاديث الواردة في كونها بعد العصر أرجح لكثرتها واتصالها بالسماع وأنه لم يختلف في رفعها والاعتضاد بكونه قول أكثر الصحابة ففيها أربعة مرجحات . وفي حديث أبي موسى مرجح واحد وهو كونه في أحد الصحيحين دون بقية الأحاديث ولكن عارض كونه في أحد الصحيحين أمران وسيأتي ذكرهما في شرحه . وسلك صاحب الهدى مسلكا آخر واختار أن ساعة الإجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين وأن أحدهما لا يعارض الآخر لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم دل على أحدهما في وقت وعلى الآخر في وقت آخر وهذا كقول ابن عبد البر : إنه ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين وسبق إلى تجويز ذلك الإمام أحمد
قال ابن المنير : إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة والليلة القدر بعث الدواعي على الإكثار من الصلاة والدعاء ولو وقع البيان لها لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها فالعجب بعد ذلك ممن يتكل في طلب تحديدها . وقال [ ص 301 ] في موضع آخر : يحسن جمع الأقوال فتكون ساعة الإجابة واحدة منها لا بعينها فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها

4 - وعن أبي موسى رضي الله عنه : ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في ساعة الجمعة : هي ما بين أن يجلس الإمام يعني على المنبر إلى أن يقضي الصلاة )
- رواه مسلم وأبو داود

5 - وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله تعالى العبد فيها شيئا إلا أتاه إياه قالوا : يا رسول الله أية ساعة هي قال : حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها )
- رواه ابن ماجه والترمذي

- الحديث الأول مع كونه في صحيح مسلم قد أعل بالانقطاع والاضطراب . أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير رواه عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشج وهو لم يسمع من أبيه قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه . وقال سعيد بن أبي مريم : ( سمعت خالي موسى بن سلمة قال : أتيت مخرمة بن بكير فسألته أن يحدثني عن أبيه فقال : ما سمعت من أبي شيئا إنما هذه كتب وجدناها عندنا عنه ما أدركت أبي إلا وأنا غلام ) وفي لفظ : ( لم أسمع من أبي وهذه كتبه ) وقال علي ابن المديني : سمعت معنا يقول مخرمة سمع من أبيه قال : ولم أجد أحدا بالمدينة يخبر عن مخرمة أنه كان يقول في شيء سمعت أبي . قال علي : ومخرمة ثقة . وقال ابن معين : يخبر عن مخرمة مخرمة ضعيف الحديث ليس حديثه بشيء
قال في الفتح : ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو كذلك هنا لأنا نقول وجود التصريح من مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع انتهى
أما الاضطراب فقال العراقي : إن أكثر الرواة جعلوه من قول أبي بردة مقطوعا وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه وهذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال : لم يسنده غير مخرمة عن أبيه عن أبي بردة قال : ورواه حماد عن أبي بردة من قوله ومنهم من بلغ به أبا موسى ولم يرفعه قال : والصواب أنه من قول أبي بردة وتابعه وأصل الأحدب ومجالد روياه عن أبي بردة من قوله . وقال النعمان بن عبد السلام : عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه موقوف ولا يثبت قوله عن أبيه انتهى كلام الدارقطني
وأجاب النووي في شرح مسلم عن ذلك بقوله : وهذا الذي استدركه بناء على القاعدة المعروفة له ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع أو إرسال واتصال حكموا بالوقف [ ص 302 ] والإرسال وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة قال : والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال لأنها زيادة ثقة انتهى
والحديث الثاني المذكور في الباب حسنه الترمذي وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد اتفق أئمة الجرح والتعديل على ضعفه والترمذي قد شرط في حد الحسن أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب وكثير هنا قال فيه الشافعي وأبو داود : إنه ركن من أركان الكذب وقد حسن له الترمذي مع هذا عدة أحاديث وصحح له حديث : ( الصلح جائز بين السلمين ) قال الذهبي في الميزان : فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي
قال العراقي : لا يقبل هذا الطعن منه في حق الترمذي وإنما جهل الترمذي من لا يعرفه كابن حزم وإلا فهو إمام معتمد عليه ولا يمتنع أن يخالف اجتهاده اجتهاد غيره في بعض الرجال وكأنه رأى ما رآه البخاري فإنه روي عنه أنه قال في حديث كثير عن أبيه عن جده في تكبير العيدين : إنه حديث حسن . ولعله إنما حكم عليه بالحسن باعتبار الشواهد فإنه بمعنى حديث أبي موسى المذكور في الباب فارتفع بوجود حديث شاهد له إلى درجة الحسن
وقد رواه البيهقي ورواه أيضا ابن أبي شيبة من طريق مغيرة عن واصل الأحدب عن أبي بردة من قوله وإسناده قوي
( والحديثان ) يدلان على أن ساعة الإجابة هي وقت صلاة الجمعة من عند صعود الإمام المنبر أو من عند الإقامة إلى الانصراف منها وقد تقدم أن الأحاديث المصرحة بأنها بعد العصر أرجح وسيأتي ذكرها

6 - وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : ( قلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس إنا لنجد في كتاب الله تعالى في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله عز و جل فيها شيئا إلا قضى له حاجته قال عبد الله : فأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض ساعة فقلت : صدقت أو بعض ساعة قلت : أي ساعة هي قال : آخر ساعة من ساعات النهار قلت : إنها ليست ساعة صلاة قال : بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة )
- رواه ابن ماجه

7 - وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عز و جل فيها خيرا إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر )
- رواه أحمد

8 - وعن جابر رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئا [ ص 303 ] إلا آتاه إياه والتمسوها آخر ساعة بعد العصر )
- رواه النسائي وأبو داود

9 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه : ( أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة )
- رواه سعيد في سننه . وقال أحمد بن حنبل : أكثر الأحاديث في الساعة التي يرجى فيها إجابة الدعاء أنها بعد صلاة العصر ويرجى بعد زوال الشمس )

- الحديث الأول رفعه ابن ماجه كما ذكر المصنف وهو من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال : ( قلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس ) الحديث . ورواه مالك وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله بن سلام من قوله
والحديث الثاني رواه أيضا البزار عنهما بإسناد قال العراقي : صحيح وقال في مجمع الزوائد : ورجالهما رجال الصحيح
والحديث الثالث أخرجه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرط مسلم وحسن الحافظ في الفتح إسناده
والأثر الذي رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جماعة من الصحابة قال الحافظ في الفتح : إسناده صحيح
( وفي الباب ) عن أنس عند الترمذي : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس ) وفي إسناده محمد بن أبي حميد وهو ضعيف وقد تابعه ابن لهيعة كما رواه الطبراني في الأوسط
وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم أول الباب . وعن أبي ذر عند ابن عبد البر في التمهيد وابن المنذر وعن سلمان أشار إليه الترمذي
( والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على أن الساعة التي تقدم الخلاف في تعيينها هي آخر ساعة من يوم الجمعة وقد تقدم بسط الخلاف في ذلك وبيان الجمع بين بعض الأحاديث والترجيح بين بعض آخر
والقول بأنها آخر ساعة من اليوم هو أرجح الأقوال وإليه ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة ولا يعارض ذلك الأحاديث الواردة بأنها بعد العصر بدون تعيين آخر ساعة لأنها تحمل على الأحاديث المقيدة بأنها آخر ساعة وحمل المطلق على المقيد متعين كما تقرر في الأصول . وأما الأحاديث المصرحة بأنها وقت الصلاة فقد عرفت أنها مرجوحة ويبقى الكلام في حديث أبي سعيد الذي أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم بلفظ : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقال : قد علمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر ) قال العراقي : ورجاله [ ص 304 ] رجال الصحيح . ويجاب عنه بأن نسيانه صلى الله عليه وآله وسلم لها لا يقدح في الأحاديث الصحيحة الواردة بتعيينها لاحتماله أنه سمع منه صلى الله عليه وآله وسلم التعيين قبل النسيان كما قال البيهقي وقد بلغنا صلى الله عليه وآله وسلم تعيين وقتها فلا يكون إنساؤه ناسخا للتعيين المتقدم

10 - وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا : يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت يعني وقد بليت فقال : إن الله عز و جل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )
- رواه الخمسة إلا الترمذي

11 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها )
- رواه ابن ماجه

12 - وعن خالد بن معدان رضي الله عنه : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أكثروا الصلاة علي في كل يوم جمعة فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة )
- رواه سعيد في سننه

13 - وعن صفوان بن سليم رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة فأكثروا الصلاة علي )
- رواه الشافعي في مسنده وهذا والذي قبله مرسلان

- الحديث الأول أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه حديث منكر لأن في إسناده عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو منكر الحديث . وذكر البخاري في تاريخه أنه عبد الرحمن بن يزيد بن تميم . وقال ابن العربي : إن الحديث لم يثبت
والحديث الثاني قال العراقي في شرح الترمذي : رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا لأن في إسناده زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء . قال البخاري : زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسل
والحديث الثالث والرابع مرسلان كما قال المصنف لأن خالد بن معدان وصفوان بن سليم لم يدركا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
( وفي الباب ) عن شداد بن أوس عند ابن ماجه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أفضل أيامكم يوم الجمعة ) بنحو حديث أوس بن أوس هكذا وقع عند ابن [ ص 305 ] ماجه في الصلاة ووقع عنده في الجنائز أوس بن أوس وهو الصواب . وعن أبي مسعود الأنصاري عند البيهقي في كتاب حياة الأنبياء في قبورهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أكثروا علي من الصلاة في يوم الجمعة فإنه ليس يصلي علي أحد يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته ) قال البيهقي : قال أبو عبد الله يعني الحاكم أبو رافع هذا يعني المذكور في السند هو إسماعيل بن نافع . قال العراقي : وثقه البخاري وضعفه النسائي ورواه البيهقي أيضا في شعب الإيمان وابن أبي عاصم من هذا الوجه
وأخرج البيهقي في السنن أيضا حديثا آخر بلفظ : ( أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله تعالى عليه عشرا )
قوله : ( وقد أرمت ) بهمزة مفتوحة وراء مكسورة وميم ساكنة بعدها تاء المخاطب المفتوحة والأحاديث فيها مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة وأنها تعرض عليه صلى الله عليه وآله وسلم وأنه حي في قبره
وقد أخرج ابن ماجه بإسناد جيد : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي الدرداء : إن الله عز و جل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )
وفي رواية للطبراني : ( ليس من عبد يصلي علي إلا بلغني صلاته قلنا : وبعد وفاتك قال : وبعد وفاتي إن الله عز و جل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )
وقد ذهب جماعة من المحققين إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي بعد وفاته وأنه يسر بطاعات أمته وأن الأنبياء لا يبلون مع أن مطلق الإدراك كالعلم والسماع ثابت لسائر الموتى
وقد صح عن ابن عباس مرفوعا : ( ما من أحد يمر على قبر أخيه المؤمن ) وفي رواية : ( بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه ) ولابن أبي الدنيا : ( إذا مر الرجل بقبر يعرفه فيسلم عليه رد عليه السلام وعرفه وإذا مر بقبر لا يعرفه رد عليه السلام ) وصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى ويسلم عليهم
وورد النص في كتاب الله في حق الشهداء أنهم أحياء يرزقون وأن الحياة فيهم متعلقة بالجسد فكيف بالأنبياء والمرسلين . وقد ثبت في الحديث : ( أن الأنبياء أحياء في قبورهم ) رواه المنذري وصححه البيهقي
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( مررت بموسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره ) [ ص 306 ]

باب الرجل أحق بمجلسه وآداب الجلوس والنهي عن التخطي إلا لحاجة

1 - عن جابر رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يقيم أحدكم يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده ولكن ليقل افسحوا )
- رواه أحمد ومسلم

2 - وعن ابن عمر رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا )
- متفق عليه

3 - ولأحمد ومسلم : ( كان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه )

4 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به )
- رواه أحمد ومسلم

5 - وعن وهب بن حذيفة رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه )
- رواه أحمد والترمذي وصححه

- قوله : ( لا يقيم ) بصيغة الخبر والمراد النهي . وفي لفظ لمسلم : ( لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ) بصيغة النهي المؤكد
قوله : ( يوم الجمعة ) فيه التقييد بيوم الجمعة وفي لفظ من طريق أبي الزبير عن جابر : ( لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ) وقد بوب لذلك البخاري فقال باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه . وذكر يوم الجمعة في حديث جابر من باب التنصيص على بعض أفراد العام لا من باب التقييد للأحاديث المطلقة ولا من باب التخصيص للعمومات فمن سبق إلى موضع مباح سواء كان مسجدا أو غيره في يوم جمعة أو غيرها لصلاة أو لغيرها من الطاعات فهو أحق به ويحرم على غيره إقامته منه والقعود فيه إلا أنه استثني من ذلك الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حق كأن يقعد رجل في موضع ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات ثم يعود إليه فإنه أحق به ممن قعد فيه بعد قيامه لحديث أبي هريرة وحديث وهب بن حذيفة المذكورين في الباب وظاهرهما عدم الفرق بين المسجد وغيره ويجوز له إقامة من قعد فيه
وقد ذهب إلى ذلك الشافعية والهادوية . ومثل ذلك الأماكن التي يقعد الناس فيها لتجارة أو نحوها فإن المعتاد للقعود في مكان يكون أحق به من غيره [ ص 307 ] إلا إذا طالت مفارقته له بحيث ينقطع معاملوه ذكره النووي في شرح مسلم . وقال في الغيث : يكون أحق به إلى العشي . وقال الغزالي : يكون أحق به ما لم يضرب . وقال أصحاب الشافعي : إن ذلك على وجه الندب لا على وجه الوجوب وإليه ذهب مالك
قال أصحاب الشافعي : ولا فرق في المسجد بين من قام وترك له سجادة فيه ونحوها وبين من لم يترك قالوا وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها
وظاهر الحديثين عدم الفرق وظاهر حديث جابر وحديث ابن عمر أنه يجوز للرجل أن يقعد في مكان غيره إذا أقعده برضاه ولعل امتناع ابن عمر عن الجلوس في مجلس من قام له برضاه كان تورعا منه لأنه ربما استحيا منه إنسان فقام له بدون طيبة من نفسه ولكن الظاهر أن من فعل ذلك قد أسقط حق نفسه وتجويز عدم طيبة نفسه بذلك خلاف الظاهر ويكره الإيثار بمحل الفضيلة كالقيام من الصف الأول إلى الثاني لأن الإيثار وسلوك طرائق الآداب لا يليق أن يكون في العبادات والفضائل بل المعهود أنه في حظوظ النفس وأمور الدنيا فمن آثر بحظه في أمر من أمور الآخرة فهو من الزاهدين في الثواب

6 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره )
- رواه أحمد والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود عن هناد عن عبيدة بن سليمان وفي إسناده محمد ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن
وقد أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه معنعنا وأما ابن العربي فمال إلى ضعف الحديث لذلك
( وفي الباب ) عن سمرة عند البزار والطبراني في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول إلى مكان صاحبه ويتحول صاحبه إلى مكانه وهو من رواية إسماعيل ابن مسلم عن الحسن عن سمرة . قال البزار : إسماعيل لا يتابع على حديثه انتهى
وفي سماع الحسن من سمرة خلاف قد تقدم ذكره وللحديث طريق أخرى عند البزار وفيها خالد بن يوسف السمتي وهو ضعيف وفيها أيضا أبو يوسف بن خالد وهو هالك وبقية السند مجهولون كما قال ابن القطان . قال الذهبي في الميزان : وبكل حال هذا إسناد مظلم
قوله : ( إذا نعس أحدكم يوم الجمعة ) لم يرد بذلك جميع اليوم بل المراد به إذا كان في المسجد ينتظر صلاة الجمعة كما في رواية أحمد في مسنده بلفظ : ( إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة ) وسواء فيه حال الخطبة أو قبلها لكن حال الخطبة أكثر
قوله : ( يوم الجمعة ) يحتمل أنه خرج مخرج الأغلب لطول [ ص 308 ] مكث الناس في المسجد للتبكير إلى الجمعة ولسماع الخطبة وأن المراد انتظار الصلاة في المسجد في الجمعة وغيرها كما في رواية أبي هريرة لحديث الباب بلفظ : ( إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول عن مجلسه ذلك إلى غيره ) فيكون ذكر يوم الجمعة من التنصيص على بعض أفراد العام ويحتمل أن المراد يوم الجمعة فقط للاعتناء بسماع الخطبة فيه
( والحكمة ) في الأمر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه كما تقدم وأيضا من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة والنعاس في الصلاة من الشيطان فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس في المسجد عن الذكر أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة

7 - وعن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : هذا حديث حسن

8 - وعن يعلى بن شداد بن أوس رضي الله عنه قال : ( شهدت مع معاوية فتح بيت المقدس فجمع بنا فإذا جل من في المسجد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب )
- رواه أبو داود

- حديث معاذ بن أنس هو من رواية ابنه سهل بن معاذ وقد ضعفه يحيى بن معين وتكلم فيه غير واحد وفي إسناده أيضا أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون مولى بني ليث ضعفه ابن معين وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به
( وفي الباب ) عن عبد الله بن عمر وعند ابن ماجه قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة يعني والإمام يخطب ) وفي إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد رواه بالعنعنة عن شيخه عبد الله بن واقد قال العراقي : لعله من شيوخه المجهولين وعن جابر عند ابن عدي في الكامل : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب ) وفي إسناده عبد الله بن ميمون القداح وهو ذاهب الحديث كما قال البخاري
والأثر الذي رواه يعلى بن شداد عن الصحابة سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده سليمان بن عبد الله بن الزبرقان وفيه لين وقد وثقه ابن حبان قال أبو داود : وكان ابن عمر يحتبي والإمام يخطب وأنس بن مالك وشريح وصعصعة [ ص 309 ] ابن صوحان وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد ونعيم بن سلامة قال : لا بأس بها قال أبو داود : لم يبلغني أن أحدا كرهها إلا عبادة بن نسي
قوله : ( عن الحبوة ) هي أن يقيم الجالس ركبتيه ويقيم رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشد عليهما ويكون إليتاه على الأرض وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب يقال احتبى احتباء والاسم الحبوة بالضم والكسر معا والجمع حبى وحبى بالضم والكسر
قال الخطابي : وإنما نهى عن الاحتباء في ذلك الوقت لأنه يجلب النوم ويعرض طهارته للانتقاض
وقد ورد النهي عن الاحتباء مطلقا غير مقيد بحال الخطبة ولا بيوم الجمعة لأنه مظنة لانكشاف عورة من كان عليه ثوب واحد
( وقد اختلف العلماء ) في كراهية الاحتباء يوم الجمعة فقال بالكراهة قوم من أهل العلم كما قال الترمذي منهم عبادة بن نسي المتقدم
قال العراقي : وورد عن مكحول وعطاء والحسن أنهم كانوا يكرهون أن يحتبوا والإمام يخطب يوم الجمعة . رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال : ولكنه قد اختلف عن الثلاثة فنقل عنهم القول بالكراهة ونقل عنهم عدمها واستدلوا بحديث الباب وما ذكرناه في معناه وهي تقوي بعضها بعضا
وذهب أكثر أهل العلم كما قال العراقي إلى عدم الكراهة منهم من تقدم ذكره في رواية أبي داود . ورواه ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وعطاء وابن سيرين والحسن وعمرو بن دينار وأبي الزبير وعكرمة بن خالد المخزومي
ورواه الترمذي عن ابن عمر وغيره قال : وبه يقول أحمد وإسحاق وأجابوا عن أحاديث الباب أنها كلها ضعيفة وإن كان الترمذي قد حسن حديث معاذ ابن أنس وسكت عنه أبو داود قال فيه من تقدم ذكره

9 - وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال : ( جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اجلس فقد آذيت )
- رواه أبو داود والنسائي وأحمد وزاد : ( وآنيت )

10 - وعن أرقم بن أبي الأرقم المخزومي رضي الله عنه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار )
- رواه أحمد

11 - وعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال : ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة العصر ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم [ ص 310 ] قد عجبوا من سرعته فقال : ذكرت شيئا من تبر كان عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته )
- رواه البخاري والنسائي

- حديث عبد الله بن بسر سكت عنه أبو داود والمنذري وصححه ابن خزيمة وغيره وهو من رواية أبي الزاهرية وقد أخرج له مسلم . وحديث أرقم أخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي إسناده هشام بن زياد ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم وقد اضطرب فيه فرواه مرة عن عثمان بن الأرقم عن أبيه ومرة عن عمار بن سعد عن عثمان بن الأزرق كما سيأتي
( وفي الباب ) عن معاذ بن أنس عند الترمذي وابن ماجه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم ) وهو من رواية سهل بن معاذ عن أبيه وقد تقدم الكلام على سهل في شرح الحديث الذي قبل هذه الأحاديث . وفيه أيضا رشدين بن سعد وفيه مقال
وعن جابر عند ابن ماجه : ( أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فجعل يتخطى رقاب الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اجلس فقد آذيت وآنيت ) وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وقد رواه بأطول من هذا ابن أبي شيبة في المصنف
وعن عثمان بن الأزرق عند الطبراني في الكبير بنحو حديث أرقم المذكور في الباب وفي إسناده هشام بن زياد وقد تقدم أنه ضعيف
وعن أبي الدرداء عند الطبراني في الأوسط قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تخطى رقاب الناس يوم الجمعة ) قال الطبراني : تفرد به أرطأة انتهى . وفي إسناده أيضا عبد الله بن زريق قال الأزدي : لم يصح حديثه
وعن أنس عند الطبراني في الصغير والأوسط : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل : قد رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم من آذى مسلما فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز و جل ) وفي إسناده موسى بن خلف العجلي والقاسم بن مطيب العجلي ضعفهما ابن حبان واختلف قول ابن معين في موسى فقال مرة : ضعيف . ومرة : ليس به بأس . وفي الباب أحاديث غير هذه قد تقدم بعضها في باب التنظيف
قوله : ( يتخطى رقاب الناس ) قد فرق النووي بين التخطي والتفريق بين الاثنين وجعل ابن قدامة في المغني التخطي هو التفريق
قال العراقي : والظاهر الأول لأن التفريق يحصل بالجلوس بينهما وإن لم يتخط
قوله : ( وآنيت ) بهمزة ممدودة أي أبطأت وتأخرت
قوله : ( قصبه في النار ) بضم [ ص 311 ] القاف وسكون الصاد المهملة واحد الأقصاب وهي المعى كما في القاموس وغيره
قوله : ( ففزع الناس ) أي خافوا وكانت تلك عادتهم إذا رأوا منه ما لا يعهدون خشية أن ينزل فيهم شيء يسوءهم
قوله : ( من تبر ) بكسر التاء المثناة وسكون الموحدة الذهب الذي لم يصف ولم يضرب
قوله : ( فكرهت أن يحبسني ) أي يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى كذا قال الحافظ وفهم منه ابن بطال معنى آخر فقال فيه : إن المعنى أن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة
قوله : ( فأمرت بقسمته ) في رواية فقسمته
( وأحاديث ) الباب تدل على كراهة التخطي يوم الجمعة وظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الكراهة مختصة به ويحتمل أن يكون التقييد خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بكثرة الناس بخلاف سائر الصلوات فلا يختص ذلك بالجمعة بل يكون حكم سائر الصلوات حكمها ويؤيد ذلك التعليل بالأذية وظاهر هذا التعليل أن ذلك يجري في مجالس العلم وغيرها ويؤيده أيضا ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من تخطى حلق قوم بغير إذنهم فهو عاص ) ولكن في إسناده جعفر بن الزبير وقد كذبه شعبة وتركه الناس وقد اختلف أهل العلم في حكم التخطي يوم الجمعة فقال الترمذي حاكيا من أهل العلم أنهم كرهوا تخطي الرقاب يوم الجمعة وشددوا في ذلك وحكى أبو حامد في تعليقه عن الشافعي التصريح بالتحريم وقال النووي في زوائد الروضة : إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط وروى العراقي عن كعب الأحبار أنه قال : لأن أدع الجمعة أحب إلي من أن أتخطى الرقاب
وقال ابن المسيب : لأن أصلي الجمعة بالحرة أحب إلي من التخطي . وروي عن أبي هريرة نحوه ولا يصح عنه لأنه من رواية صالح مولى التوءمة عنه . قال العراقي : وقد استثني من التحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي وهكذا أطلق النووي في الروضة وقيد ذلك في شرح المهذب فقال : إذا لم يجد طريقا إلى المنبر أو المحراب إلا بالتخطي لم يكره لأنه ضرورة . وروي نحو ذلك عن الشافعي وحديث عقبة بن الحارث المذكور في الباب يدل على جواز التخطي للحاجة في غير الجمعة فمن خصص الكراهة بصلاة الجمعة فلا معارضة بينه وبين أحاديث الباب عنده ومن عمم الكراهة لوجود العلة المذكورة سابقا في الجمعة وغيرها فهو محتاج [ ص 312 ] إلى الاعتذار عنه وقد خص الكراهة بعضهم بغير من يتبرك الناس بمروره ويسرهم ذلك ولا يتأذون لزوال علة الكراهة التي هي التأذي

باب التنفل قبل الجمعة ما لم يخرج الإمام وأن انقطاعه بخروجه إلا تحية المسجد

1 - عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها )
- رواه أحمد

- الحديث في إسناده عطاء الخراساني وفيه مقال وقد وثقه الجمهور ولكنه قيل إنه لم يسمع من نبيشة . وفيه مشروعية الغسل في يوم الجمعة وترك الأذية وقد تقدم الكلام على ذلك . وفيه أيضا مشروعية الاستماع والإنصات وسيأتي البحث عنهما . وفيه مشروعية الصلاة قبل خروج الإمام والكف عنها بعد خروجه
( وقد اختلف العلماء ) هل للجمعة سنة قبلها أو لا فأنكر جماعة أن لها سنة قبلها وبالغوا في ذلك قالوا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه ولم يكن يصليها وكذلك الصحابة لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة
وقد حكى ابن العربي عن الحنفية والشافعية أنه لا يصلى قبل الجمعة . وعن مالك أنه يصلى قبلها واعترض عليه العراقي بأن الحنفية إنما يمنعون الصلاة قبل الجمعة في وقت الاستواء لا بعده وبأن الشافعية تجوز الصلاة قبل الجمعة بعد الاستواء يقولون إن وقت سنة الجمعة التي قبلها يدخل بعد الزوال وبأن البيهقي قد نقل عن الشافعي أنه قال : من شأن الناس التهجير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام . قال البيهقي في المعرفة : هذا الذي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رغب في التبكير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام فمن الأحاديث الدالة على ذلك حديث الباب وحديث أبي هريرة الآتي
ومنها حديث ابن عباس عند ابن ماجه [ ص 313 ] والطبراني قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يركع قبل الجمعة أربعا لا يفصل بينهن ) وقد ضعف النووي في الخلاصة رجال إسناده وقال : إن ميسر بن عبيد أحد رجال إسناده وضاع صاحب أباطيل
ومنها حديث عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الستة بلفظ : ( بين كل أذانين صلاة )
ومنها حديث عبد الله بن الزبير عند ابن حبان في صحيحه والدارقطني والطبراني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان ) وهذا والذي قبله تدخل فيهما الجمعة وغيرها
ومنها الأحاديث الواردة في مشروعية الصلاة بعد الزوال وقد تقدمت والجمعة كغيرها
ومنها حديث استثناء يوم الجمعة من كراهة الصلاة حال الزوال وقد تقدم . قال العراقي : لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصلي قبل الجمعة لأنه كان يخرج إليها فيؤذن بين يديه ثم يخطب ( 1 ) وقد استدل المصنف رحمه الله تعالى بحديث الباب على ترك التحية بعد خروج الإمام فقال : وفيه حجة بترك التحية كغيرها اه وسيأتي الكلام على هذا
_________
( 1 ) وممن أنكر سنة الجمعة قبلها العلامة ابن أبي شامة من الشافعية وأطنب في الاستدلال على ذلك في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث وقد ذكرت ذلك في تعليقي على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام والله أعلم

2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك )
- رواه أبو داود

3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام )
- رواه مسلم

- حديث ابن عمر قال العراقي : إسناده صحيح وأخرجه النسائي بدون قوله ( يطيل الصلاة قبل الجمعة ) قال المنذري : وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من وجه آخر بمعناه اه
( والحديثان ) يدلان على مشروعية الصلاة قبل الجمعة ولم يتمسك المانع من ذلك إلا بحديث النهي عن الصلاة وقت الزوال وهو مع كون عمومه مخصصا بيوم الجمعة كما تقدم ليس فيه ما يدل على المنع من الصلاة قبل الجمعة على الإطلاق وغاية ما فيه المنع في وقت الزوال وهو غير محل النزاع . والحاصل أن الصلاة قبل الجمعة مرغب فيها عموما وخصوصا فالدليل على مدعي الكراهة على الإطلاق
قوله : ( فصلى ما قدر [ ص 314 ] له ) فيه أن الصلاة قبل الجمعة لا حد لها
قوله : ( ثم أنصت ) في رواية : ( ثم انتصت ) بزيادة تاء فوقية قال القاضي عياض : وهو وهم . قال النووي : ليس هو وهما بل هي لغة صحيحة ( 1 )
قوله : ( حتى يفرغ الإمام ) قال النووي : هو في الأصول بدون ذكر الإمام وعاد الضمير إليه للعلم به وإن لم يكن مذكورا
قوله : ( وفضل ثلاثة أيام ) هو بنصب فضل على الظرف كما قال النووي قال : قال العلماء معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها . قال بعض العلماء : والمراد بما بين الجمعتين من صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت حتى يكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان ويضم إليها ثلاثة فتصير عشرة
_________
( 1 ) واستدل على ذلك بقول الأزهري في شرح ألفاظ المختصر يقال أنصت ونصت وانتصت ثلاث لغات

4 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه : ( أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر فأمره أن يصلي ركعتين )
- رواه الخمسة إلا أبا داود وصححه الترمذي ولفظه : ( أن رجلا جاء يوم الجمعة في هيئة بذة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فأمره فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب ) قلت : وهذا يصرح بضعف ما روي أنه أمسك عن خطبته حتى فرغ من الركعتين

5 - وعن جابر رضي الله عنه قال : ( دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال : صليت قال : لا قال : فصل ركعتين )
- رواه الجماعة . وفي رواية : ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود
وفي رواية : ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين ) متفق عليه

- وفي الباب عن سهل بن سعد عند ابن أبي حاتم في العلل وأشار إليه الترمذي بنحو حديث أبي سعيد
وعن أبي قتادة عند الأئمة الستة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ) وقد تقدم
وعن أنس عند الدارقطني قال : ( جاء رجل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قم فاركع ركعتين وأمسك من الخطبة حتى فرغ من صلاته ) قال الدارقطني : أسنده عبيد بن محمد العبدي عن معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس ووهم فيه والصواب عن معتمر عن أبيه كذلك رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر ثم رواه من طريق أحمد مرسلا . وعبيد بن محمد هذا روى عنه أبو حاتم وإنما حكم عليه [ ص 315 ] الدارقطني بالوهم لمخالفته من هو أحفظ منه أحمد بن حنبل وغيره . وهذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف
وفي الباب أيضا عن سليك عند أحمد قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ) ورواه أيضا ابن عدي في الكامل
قوله : ( أن رجلا ) وكذلك قوله ( دخل رجل ) هو سليك بمهملة مصغرا ابن هدية . وقيل ابن عمرو الغطفاني وقع مسمى في هذه القصة عند مسلم وأبي داود والدارقطني . وقيل هو النعمان بن قوقل كذا وقع عند الطبراني من رواية منصور بن أبي الأسود عن الأعمش . قال أبو حاتم الرازي : وهم فيه منصور ووقع عند الطبراني أيضا من طريق أبي صالح عن أبي ذر أنه : ( أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب فقال له : صليت ركعتين ) الحديث . وفي إسناده ابن لهيعة . قال الحافظ : المشهور عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد كذا عند ابن حبان وغيره . وعند الدارقطني : جاء رجل من قيس المسجد فذكر نحو قصة سليك . قال الحافظ : لا يخالف كونه سليكا فإن غطفان من قيس
قوله : ( صليت ) قال الحافظ : كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام وثبتت في رواية الأصيلي
( والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على مشروعية تحية المسجد حال الخطبة وإلى ذلك ذهب الحسن وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق ومكحول وأبو ثور وابن المنذر وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين . وحكى ابن العربي أن محمد بن الحسن حكاه عن مالك . وذهب الثوري وأهل الكوفة إلى أنه يجلس ولا يصليهما حال الخطبة حكى ذلك الترمذي وحكاه القاضي عياض عن مالك والليث وأبي حنيفة وجمهور السلف من الصحابة والتابعين . وحكاه العراقي عن محمد بن سيرين وشريح القاضي والنخعي وقتادة والزهري . ورواه ابن أبي شيبة عن علي وابن عمر وابن عباس وابن المسيب ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير ورواه النووي عن عثمان وإلى ذلك ذهبت الهادوية وأجابوا عن أمره صلى الله عليه وآله وسلم لسليك بأن ذلك واقعة عين لا عموم لها فيحتمل اختصاصها بسليك قالوا ويدل على ذلك ما وقع في حديث أبي سعيد أن الرجل كان في هيئة بذة فقال له : أصليت قال : لا قال : صل الركعتين وحض الناس على الصدقة فأمره أن يصلي ليراه الناس وهو قائم فيتصدقون عليه . ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن [ ص 316 ] هذا الرجل دخل في هيئة بذة وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه ) ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لسليك في آخر الحديث : ( لا تعودن لمثل هذا ) أخرجه ابن حبان ورد هذا الجواب بأن الأصل عدم الخصوصية والتعليل بكونه صلى الله عليه وآله وسلم قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية فإن المانعين لا يجوزون الصلاة في هذا الوقت لعلة التصدق ولو ساغ هذا لساغ مثله في سائر الأوقات المكروهة ولا قائل به كذا قال ابن المنير . ومما يرد هذا التأويل ما في الباب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة ) الخ فإن هذا نص لا يتطرق إليه التأويل . قال النووي : لا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه اه
قال الحافظ : والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض لقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له } وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ) متفق عليه . قالوا : فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى وعارضوا أيضا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي دخل يتخطى رقاب الناس وهو يخطب : ( قد آذيت ) وقد تقدم قالوا : فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية . وبما أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر رفعه : ( إذا دخل أحدكم المسجد والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام )
ويجاب عن ذلك كله بإمكان الجمع وهو مقدم على المعارضة المؤدية إلى إسقاط أحد الدليلين أما في الآية فليست الخطبة قرآنا وما فيها من القرآن الأمر بالإنصات حال قراءته عام مخصص بأحاديث الباب . وأما حديث ( إذا قلت لصاحبك أنصت ) فهو وارد في المنع من المكالمة للغير ولا مكالمة في الصلاة ولو سلم أنه يتناول كل كلام حتى الكلام في الصلاة لكان عموما مخصصا بأحاديث الباب . قال الحافظ : وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت لحديث أبي هريرة المتقدم أنه قال : ( يا رسول الله سكوتك بين التكبيرة والقراءة ما تقول فيه ) فأطلق على القول سرا السكوت
وأما أمره صلى الله عليه وآله وسلم لمن دخل يتخطى الرقاب بالجلوس فذلك واقعة عين ولا عموم لها فيحتمل أن يكون أمره بالجلوس قبل مشروعيتها أو أمره بالجلوس بشرطه وهو فعل التحية وقد عرفه قبل ذلك أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز أو لكون دخوله وقع في آخر الخطبة وقد ضاق الوقت عن التحية . وأما حديث ابن عمر فهو ضعيف لأن في إسناده أيوب بن نهيك قال [ ص 317 ] أبو زرعة وأبو حاتم : منكر الحديث والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله وقد أجاب المانعون عن أحاديث الباب بأجوبة غير ما تقدم وهي زيادة على عشرة أوردها الحافظ في الفتح بعضها ساقط لا ينبغي الاشتغال بذكره وبعضها لا ينبغي إهماله فمن البعض الذي لا ينبغي إهماله قولهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم سكت عن خطبته حتى فرغ سليك من صلاته قالوا : ويدل على ذلك حديث أنس المتقدم ويجاب عن ذلك بأن الدارقطني وهو الذي أخرجه قال : إنه مرسل أو معضل وأيضا يعارضه اللفظ الذي أورده المصنف عن الترمذي على أنه لو تم لهم الاعتذار عن حديث سليك بمثل هذا لما تم لهم الاعتذار بمثله عن بقية أحاديث الباب المصرحة بأمر كل أحد إذا دخل المسجد والإمام يخطب أن يوقع الصلاة حال الخطبة
ومنها أنه لما تشاغل صلى الله عليه وآله وسلم بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع إذ لم يكن منه صلى الله عليه وآله وسلم خطبة في تلك الحال . وقد ادعى ابن العربي أن هذا أقوى الأجوبة . قال الحافظ : وهو أضعفها لأن المخاطبة لما انقضت رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطبته وتشاغل سليك بامتثال ما أمره به من الصلاة فصح أنه صلى حال الخطبة
ومنها أنهم اتفقوا على أن الإمام يسقط عنه التحية مع أنه لم يكن قد شرع في الخطبة فسقوطها على المأموم بطريق الأولى وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار
ومنها عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقا . قال الحافظ : وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد روى ذلك عنه الترمذي وابن خزيمة وصححاه وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقا فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال على أنه لا حجة في فعل أهل المدينة ولا في إجماعهم على فرض ثبوته كما تقرر في الأصول
قوله في حديث الباب : ( وليتجوز فيهما ) فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة ولا خلاف في ذلك بين القائلين بأنها تشرع صلاة التحية حال الخطبة
قوله : ( فليصل ركعتين ) فيه أن داخل المسجد حال الخطبة يقتصر على ركعتين . قال المصنف رحمه الله تعالى : ومفهومه يمنع من تجاوز الركعتين بمجرد خروج الإمام وإن لم يتكلم . وفي رواية عن أبي هريرة [ ص 318 ] وجابر قالا : ( جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال له : أصليت ركعتين قبل أن تجيء قال : لا قال : فصل ركعتين وتجوز فيهما ) رواه ابن ماجه ورجال إسناده ثقات
وقوله : ( قبل أن تجيء ) يدل على أن هاتين الركعتين سنة للجمعة قبلها وليستا تحية للمسجد اه . حديث ابن ماجه هذا هو كما قال المصنف وصححه العراقي وقد أخرجه أيضا أبو داود من حديث أبي هريرة والبخاري ومسلم من حديث جابر
وقد ذهب إلى مثل ما قال المصنف الأوزاعي فقال : إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد وتعقب بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا
قال في الفتح : ويحتمل أن يكون معنى قبل أن تجيء أي إلى الموضع الذي أنت فيه
وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة كما تقدم في قصة الذي تخطى ويؤيده أن في رواية لمسلم : ( أصليت الركعتين ) بالألف واللام وهو للعهد ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد

باب ما جاء في التجميع قبل الزوال وبعده

1 - عن أنس رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس )
- رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي

2 - وعنه رضي الله عنه قال : ( كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة ثم نرجع إلى القائلة فنقيل )
- رواه أحمد والبخاري

3 - وعنه رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة )
- رواه البخاري هكذا

4 - وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : ( كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء )
- أخرجاه

5 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : ( ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة )
- رواه الجماعة وزاد أحمد ومسلم والترمذي : ( في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم )

6 - وعن جابر رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس يعني النواضح )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي [ ص 319 ]

7 - وعن عبد الله بن سيدان السلمي رضي الله عنه قال : ( شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار ثم شهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره )
- رواه الدارقطني والإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله واحتج به . وقال : وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال )

- أثر عبد الله بن سيدان السلمي فيه مقال لأن البخاري قال : لا يتابع على حديثه وحكي في الميزان عن بعض العلماء أنه قال : هو مجهول لا حجة فيه
قوله : ( حين تميل الشمس ) فيه إشعار بمواظبته صلى الله عليه وآله وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس
قوله : ( كنا نصلي الجمعة مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم نرجع إلى القائلة فنقيل ) وفي لفظ للبخاري : ( كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة ) وفي لفظ له أيضا : ( كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة ثم تكون القائلة ) وظاهر ذلك أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار . قال الحافظ : لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض وقد تقرر أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد اه . والمراد بالقائلة المذكورة في الحديث نوم نصف النهار
قوله : ( إذا اشتد البرد بكر بالصلاة ) أي صلاها في أول وقتها
قوله : ( وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة ) يحتمل أن يكون قوله يعني الجمعة من كلام التابعي أو من دونه أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الجمعة والظهر عند أنس ويؤيده ما عند الإسماعيلي عن أنس من طريق أخرى وليس فيه قوله يعني الجمعة
قوله : ( نجمع ) هو بتشديد الميم المكسورة
قوله : ( نتتبع الفيء ) فيه تصريح بأنه قد وجد في ذلك الوقت فيء يسير
قال النووي : إنما كان ذلك لشدة التبكير وقصر حيطانهم . وفي رواية للبخاري : ( ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به ) وفي رواية لمسلم : ( وما نجد فيئا نستظل به ) والمراد نفي الظل الذي يستظل به لا نفي أصل الظل كما هو الأكثر الأغلب من توجه النفي إلى القيود الزائدة ويدل على ذلك قوله : ( ثم نرجع نتتبع الفيء ) قيل وإنما كان كذلك لأن الجدرات كانت في ذلك العصر قصيرة لا يستظل بظلها إلا بعد توسط الوقت فلا دلالة في ذلك على أنهم كانوا يصلون قبل الزوال
قوله : ( ما كنا [ ص 320 ] نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة ) فيه دليل لمن قال بجواز صلاة الجمعة قبل الزوال وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل واختلف أصحابه في الوقت الذي تصبح فيه قبل الزوال هل هو الساعة السادسة أو الخامسة أو وقت دخول وقت صلاة العيد
ووجه الاستدلال به أن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال . وحكوا عن ابن قتيبة أنه قال : لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال . وأيضا قد ثبت : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب خطبتين ويجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس ) كما في مسلم من حديث أم هشام بنت حارثة أخت عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت : ( ما حفظت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقرأها على المنبر كل جمعة ) وعند ابن ماجه من حديث أبي بن كعب ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم يذكر بأيام الله وكان يصلي الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين كما ثبت ذلك عند مسلم من حديث علي وأبي هريرة وابن عباس ولو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال لما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظل يستظل به وقد خرج وقت الغداء والقائلة وأصرح من هذا حديث جابر المذكور في الباب فإنه صرح بأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها عند الزوال ولا ملجئ إلى التأويلات المتعسفة التي ارتكبها الجمهور واستدلالهم بالأحاديث القاضية بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الجمعة بعد الزوال لا ينفي الجواز قبله
وقد أغرب ابن العربي فنقل الإجماع على أنها لا تجب حتى تزول الشمس إلا ما نقل عن أحمد وهو مردود فإنه قد نقل ابن قدامة وغيره عن جماعة من السلف مثل قول أحمد
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن سلمة أنه قال : صلى بنا عبد الله بن مسعود الجمعة ضحى وقال : خشيت عليكم الحر
وأخرج من طريق سعيد بن سويد قال : صلى بنا معاوية الجمعة ضحى . وكذلك روي عن جابر وسعيد بن زيد كما في رواية أحمد التي ذكرها المصنف وروى مثل ذلك ابن أبي شيبة في المصنف عن سعد ابن أبي وقاص
قوله : ( وعن عبد الله بن سيدان السلمي ) أخرج هذا الأثر أيضا أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة وابن أبي شيبة . قال الحافظ : ورجاله ثقات إلا عبد الله ابن سيدان فإنه تابعي كبير إلا أنه غير معروف العدالة . قال ابن عدي : يشبه المجهول . وقال البخاري : لا يتابع على حديثه وقد عارضه ما هو أقوى منه روى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين تزول الشمس وإسناده قوي [ ص 321 ]

باب تسليم الإمام إذا رقى المنبر والتأذين إذا جلس عليه واستقبال المأمومين له

1 - عن جابر رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صعد المنبر سلم )
- رواه ابن ماجه وفي إسناده ابن لهيعة . وهو للأثرم في سننه عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا

- الحديث أخرجه الأثرم عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي أسامة عن مجالد عن الشعبي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال السلام عليكم ) وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن الشعبي مرسلا وإسناد ابن ماجه فيه ابن لهيعة كما قال المصنف وهو ضعيف
( وفي الباب ) عن ابن عمر عند ابن عدي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دنا من المنبر سلم على من عند المنبر ثم صعد فإذا استقبل الناس بوجهه سلم ثم قعد ) وأخرجه أيضا الطبراني والبيهقي وفي إسناده عيسى بن عبد الله الأنصاري وقد ضعفه ابن عدي وابن حبان
( وفي الباب ) أيضا عن عطاء مرسلا كذا قال الحافظ في التلخيص . وقال الشافعي : بلغنا عن سلمة بن الأكوع أنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبتين وجلس جلستين وحكى الذي حدثني قال : استوى صلى الله عليه وآله وسلم على الدرجة التي تلي المستراح قائما ثم سلم ثم جلس على المستراح حتى فرغ المؤذن من الأذان ثم قام فخطب ثم جلس ثم قام فخطب الثانية
( والحديث ) يدل على مشروعية التسليم من الخطيب على الناس بعد أن يرقى المنبر وقبل أن يؤذن المؤذن . وقال في الانتصار : بعد فراغ المؤذن . وقال أبو حنيفة ومالك : إنه مكروه قالا : لأن سلامه عند دخوله المسجد مغن عن الإعادة

2 - وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : ( كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء ولم يكن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤذن غير واحد )
- رواه البخاري والنسائي وأبو داود . وفي رواية لهم : ( فلما [ ص 322 ] كانت خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء فثبت الأمر على ذلك ) ولأحمد والنسائي : ( كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر ويقيم إذا نزل )

3 - وعن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم )
- رواه ابن ماجه

- حديث عدي بن ثابت قال ابن ماجه : أرجو أن يكون متصلا قال : ووالد عدي لا صحبة له إلا أن يراد بأبيه جده أبو أبيه فله صحبة على رأي بعض الحفاظ من المتأخرين وأخرج نحوه الترمذي عن ابن مسعود بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا ) وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية وهو ضعيف . قال الترمذي : ذاهب الحديث قال : ولا يصح في هذا الباب شيء
قال الحافظ في بلوغ المرام : وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة اه
وفي الباب عن أبي سعيد عند البخاري ومسلم والنسائي قال : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس يوما على المنبر وجلسنا حوله ) بوب عليه البخاري باب استقبال الناس الإمام إذا خطب
وفي الباب أيضا عن مطيع أبي يحيى عن أبيه عن جده قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام استقبلناه بوجوهنا ) ومطيع هذا مجهول وقد تقدم من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يستقبل الناس بوجهه
قوله : ( كان النداء يوم الجمعة ) في رواية لابن خزيمة : ( كان ابتداء النداء الذي ذكره الله تعالى في القرآن يوم الجمعة ) وله في رواية : ( كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة ) وفسر الأذانين بالأذان والإقامة يعني تغليبا
قوله : ( إذا جلس الإمام ) قال المهلب : الحكمة في جعل الأذان في هذا المحل ليعرف الناس جلوس الإمام على المنبر فينصتون له إذا خطب . قال الحافظ : وفيه نظر لما عند الطبراني وغيره في هذا الحديث : ( أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد ) فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات . نعم لما زيد الأذان الأول كان للإعلام وكان الذي بين يدي الخطيب للإنصات
قوله : ( فلما كان عثمان ) أي خليفة
قوله : ( وكثر الناس ) أي بالمدينة كما هو مصرح به في رواية وكان أمره بذلك بعد مضي مدة من خلافته كما عند أبي نعيم في المستخرج
قوله : ( زاد النداء الثالث ) في رواية : ( فأمر عثمان بالنداء الأول ) [ ص 323 ] وفي رواية : ( التأذين الثاني أمر به عثمان ) ولا منافاة لأنه سمي ثالثا باعتبار كونه مزيدا وأولا باعتبار كون فعله مقدما على الأذان والإقامة وثانيا باعتبار الأذان الحقيقي لا الإقامة
قوله : ( على الزوراء ) بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء ممدودة . قال البخاري : هي موضع بسوق المدينة قال الحافظ : وهو المعتمد . وقال ابن بطال : هو حجر كبير عند باب المسجد . ورد بما عند ابن خزيمة وابن ماجه عن الزهري أنها دار بالسوق يقال لها الزوراء
وعند الطبراني : ( فأمر بالنداء الأول على دار يقال لها الزوراء فكان يؤذن عليها فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول فإذا نزل أقام الصلاة )
قال في الفتح : والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه كان خليفة مطاع الأمر لكن ذكر الفاكهاني أن أول من أحدث الأذان بمكة الحجاج وبالبصرة زياد . قال الحافظ : وبلغني أن أهل الغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة . وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال : الأذان الأول يوم الجمعة بدعة فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار ويحتمل أن يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات وألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب
وأما ما أحدث الناس قبل الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض وإتباع السلف الصالح أولى كذا في الفتح . وقد روي عن معاذ أن عمر هو الذي أحدث ذلك وإسناده منقطع ومعاذ أيضا خرج من المدينة إلى الشام في أول غزو الشام واستمر في الشام إلى أن مات في طاعون عمواس
قوله : ( غير مؤذن واحد ) فيه أنه قد اشتهر أنه كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من المؤذنين منهم بلال وابن أم مكتوم وسعد القرظ وأبو محذورة . وأجيب بأنه أراد في الجمعة وفي مسجد المدينة ولم ينقل أن ابن أم مكتوم كان يؤذن يوم الجمعة بل الذي ورد عنه التأذين يوم الجمعة بلال وأبو محذورة جعله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذنا بمكة وسعد جعله بقباء
قوله : ( استقبله أصحابه بوجوههم ) ( 1 ) فيه مشروعية استقبال الناس للخطيب حال الخطبة وأحاديث الباب [ ص 324 ] وإن كانت غير بالغة إلى درجة الاعتبار فقد شد عضدها عمل السلف والخلف على ذلك . قال ابن المنذر : وهذا كالإجماع . وقال الترمذي : العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم يستحبون استقبال الإمام إذا خطب وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق
قال العراقي : وغيرهم عطاء بن أبي رباح وشريح ومالك والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن جابر ويزيد بن أبي مريم وأصحاب الرأي . وروي عن ابن المسيب والحسن أنهما كان لا ينحرفان إليه وهل المراد باستقبال السامعين للخطيب أن يستقبله من يواجهه أو جميع أهل المسجد حتى أن من كان في الصف الأول والثاني وإن طالت الصفوف ينحرفون بأبدانهم أو بوجوههم لسماع الخطبة قال العراقي : والظاهر أن المراد بذلك من يسمع الخطبة دون من بعد فلم يسمع فاستقبال القبلة أولى به من توجهه لجهة الخطبة . وروي عن الإمام شرف الدين أنه يجب على العدد الذي تنعقد بهم الجمعة المواجهة دون غيرهم وأوجب الاستقبال المذكور أبو الطيب الطبري صرح بذلك في تعليقه
_________
( 1 ) رواية الترمذي عن عبد الله بن مسعود بلفظ : ( قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا ) وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية وهو ضعيف . وهو يدل على أن استقبال الناس الخطيب مواجهين له أمر مستمر من إفادة قوله كان وهو في حكم المجمع عليه والله أعلم

باب اشتمال الخطبة على حمد الله تعالى والثناء على رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والموعظة والقراءة

1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم )
- رواه أبو داود وأحمد بمعناه . وفي رواية : ( الخطبة التي ليس فيها شهادة كاليد الجذماء ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : تشهد بدل شهادة

- الحديث أخرجه أيضا باللفظ الأول النسائي وابن ماجه وأبو عوانة والدارقطني وابن حبان والبيهقي واختلف في وصله وإرساله فرجح النسائي والدارقطني الإرسال . واللفظ الآخر من حديث الباب حسنه الترمذي وأخرج ابن حبان والعسكري وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعا : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله تعالى فهو أقطع ) [ ص 325 ]
وفي الباب عن كعب بن مالك عند الطبراني في الكبير والرهاوي مرفوعا : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع )
قوله : ( أجذم ) روي بالحاء المهملة وبالجيم المعجمة ثم بالذال المعجمة والأول من الحذم وهو القطع والثاني المراد به الداء المعروف . شبه الكلام الذي لا يبتدأ فيه بحمد الله تعالى بإنسان مجذوم تنفيرا عنه وإرشادا إلى استفتاح الكلام بالحمد
قوله : ( ليس فيها شهادة ) أي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وقد استدل المصنف بالحديث على مشروعية الحمد لله في الخطبة لأنها في الرواية الأولى داخلة تحت عموم الكلام وسيأتي الخلاف في ذلك وبيان ما هو الحق

2 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا تشهد قال : الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله تعالى شيئا )

3 - وعن ابن شهاب رضي الله عنه : ( أنه سئل عن تشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال : ومن يعصهما فقد غوى )
- رواهما أبو داود

- الحديث الأول في إسناده عمران بن داور أبو العوام البصري قال عفان كان ثقة واستشهد به البخاري . وقال يحيى بن معين والنسائي : ضعيف الحديث . وقال مرة : ليس بشيء وقال يزيد بن زريع : كان عمران حروريا وكان يرى السيف على أهل القبلة . وقد صحح إسناد هذا الحديث النووي في شرح مسلم والحديث الثاني مرسل
قوله : ( فقد رشد ) بكسر الشين المعجمة وفتحها
قوله : ( ومن يعصهما ) فيه جواز التشريك بين ضمير الله تعالى ورسوله ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ : ( أن يكون الله تعالى ورسوله أحب إليه مما سواهما ) وما ثبت أيضا : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر مناديا ينادي يوم خيبر : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية )
وأما ما في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من حديث عدي بن حاتم : ( أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له صلى الله عليه وآله وسلم : بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله تعالى ورسوله فقد غوى ) فمحمول على ما قال النووي من أن سبب الإنكار عليه [ ص 326 ] أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإشارات والرموز قال : ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه قال : وإنما ثنى الضمير في مثل قوله : ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) لأنه ليس خطبة وعظ وإنما هو تعليم حكم فكل ما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف خطبة الوعظ فإنه ليس المراد حفظها وإنما يراد الاتعاظ بها ولكنه يرد عليه أنه قد وقع الجمع بين الضميرين منه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الباب وهو وارد في الخطبة لا في تعليم الأحكام
وقال القاضي عياض وجماعة من العلماء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أنكر على الخطيب تشريكه في الضمير المقتضي للتسوية وأمره بالعطف تعظيما لله تعالى بتقديم اسمه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر : ( لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم ما شاء فلان ) ويرد على هذا ما قدمنا من جمعه صلى الله عليه وآله وسلم بين ضمير الله وضميره ويمكن أن يقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أنكر على ذلك الخطيب التشريك لأنه فهم منه اعتقاد التسوية فنبهه على خلاف معتقده وأمره بتقديم اسم الله تعالى على اسم رسوله ليعلم بذلك فساد ما اعتقده
قوله : ( فقد غوى ) بفتح الواو وكسرها والصواب الفتح كما في شرح مسلم وهو من الغي وهو الانهماك في الشر
( وقد اختلف ) أهل العلم في حكم خطبة الجمعة فذهبت العترة والشافعي وأبو حنيفة ومالك إلى الوجوب ونسبه القاضي عياض إلى عامة العلماء واستدلوا على الوجوب بما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم بالأحاديث الصحيحة ثبوتا مستمرا أنه كان يخطب في كل جمعة وقد عرفت غير مرة أن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )
وهو مع كونه غير صالح للاستدلال به على الوجوب لما قدمنا في أبواب صفة الصلاة ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها والخطبة ليست بصلاة واستدلوا أيضا بقوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } وفعله للخطبة بيان للمجمل وبيان المجمل الواجب واجب ورد بأن الواجب بالأمر هو السعي فقط وتعقب بأن السعي ليس مأمورا به لذاته بل لمتعلقه وهو الذكر ويتعقب هذا التعقب بأن الذكر المأمور بالسعي إليه هو الصلاة غاية الأمر أنه متردد بينها وبين الخطبة وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة والنزاع في وجوب الخطبة فلا ينتهض هذا الدليل [ ص 327 ] للوجوب فالظاهر ما ذهب إليه الحسن البصري وداود الظاهري والجويني من أن الخطبة مندوبة فقط وأما الاستدلال للوجوب بحديث أبي هريرة المذكور وفي أول الباب وبحديثه أيضا عند البيهقي في دلائل النبوة مرفوعا حكاية عن الله تعالى بلفظ : ( وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ) فوهم لأن غاية الأول عدم قبول الخطبة التي لا حمد فيها وغاية الثاني عدم جواز خطبة لا شهادة فيها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله والقبول والجواز وعدمهما لا ملازمة بينها وبين الوجوب قطعا

4 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطي قائما ويجلس بين الخطبتين ويقرأ آيات ويذكر الناس )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

- قوله : ( يخطب قائما ) فيه أن القيام حال الخطبة مشروع وسيأتي الخلاف في حكمه
قوله : ( ويجلس بين الخطبتين ) فيه مشروعية الجلوس بين الخطبتين واختلف في وجوبه فذهب الشافعي والإمام يحيى إلى وجوبه وذهب الجمهور إلى أنه غير واجب
استدل من أوجب ذلك بفعله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وقد قدمنا الجواب عن مثل هذا الاستدلال وأنه غير صالح لإثبات الوجوب
قوله : ( بين الخطبتين ) فيه أن المشروع خطبتان وقد ذهب إلى وجوبهما العترة والشافعي وحكى العراقي في شرح الترمذي عن مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر وأحمد بن حنبل في رواية أن الواجب خطبة واحدة قال : وإليه ذهب جمهور العلماء ولم يستدل من قال بالوجوب إلا بمجرد الفعل مع قوله ( صلوا كما رأيتموني ) الحديث . وقد عرفت أن ذلك لا ينتهض لإثبات الوجوب
قوله : ( ويقرأ آيات ويذكر الناس ) استدل به على مشروعية القراءة والوعظ في الخطبة وقد ذهب الشافعي إلى وجوب الوعظ وقراءة آية وإلى ذلك ذهب الإمام يحيى ولكنه قال تجب قراءة سورة وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب وهو الحق

5 - وعنه أيضا رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات )
- رواه أبو داود

- الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وهو من رواية شيبان بن عبد الرحمن [ ص 328 ] النحوي عن سماك ورجال إسناده ثقات وفيه أن الوعظ في الخطبة مشروع وأن اقصار الخطبة أولى من إطالتها وسيأتي الكلام على ذلك

6 - وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت : ( ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود

- وفي الباب عن يعلى بن أمية عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ على المنبر ونادوا يا مالك ) وعن أبي هريرة عند البزار قال : ( خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم جمعة فذكر سورة ) وله حديث آخر عند ابن عدي في الكامل قال : ( خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس على المنبر يقرأ آيات من سورة البقرة )
وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم يذكر بأيام الله تعالى ) وهو من رواية عطاء بن يسار عن أبي ولم يدركه
وعن جابر بن عبد الله عند الطبراني في الأوسط : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب فقرأ في خطبته آخر الزمر فتحرك المنبر مرتين ) وفي إسناده أبو بحر البكروئي واسمه عبد الرحمن بن عثمان بن أمية وقد طرح الناس حديثه . وقال أبو داود : صالح . وفي إسناده أيضا عباد بن ميسرة المنقري ضعفه أحمد ويحيى
وعن ابن عمر عند ابن عدي في الكامل بلفظ حديث جابر بن عبد الله وفي إسناده عباد بن ميسرة وهو ضعيف كما تقدم وله حديث آخر عند ابن عدي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ على المنبر والأرض جميعا قبضته ) الآية . وفي إسناده المنكدر بن محمد وقد ضعفه النسائي
وعن علي بن أبي طالب سلام الله عليه عند الطبراني في الأوسط : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ على المنبر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ) وفي إسناده هارون بن عنترة قال ابن حبان : لا يجوز أن يحتج به منكر الحديث ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين . وقال الدارقطني : يحتج به
وعن أبي الدرداء عند الطبراني أيضا بنحو حديث أبي هريرة المتقدم
وعن أبي ذر عند الطبراني أيضا بنحو حديث أبي هريرة أيضا
وعن أبي سعيد عند أبي داود قال : ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر { ص } فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ) قال العراقي : وإسناده صحيح
وقد استدل بحديث الباب وما ذكرناه من الأحاديث على [ ص 329 ] مشروعية قراءة شيء من القرآن في الخطبة ولا خلاف في الاستحباب وإنما الخلاف في الوجوب كما تقدم . وقد اختلف في محل القراءة على أربعة أقوال :
الأول : في إحداهما لا بعينها وإليه ذهب الشافعي وهو ظاهر إطلاق الأحاديث
والثاني : في الأولى وإلى ذلك ذهبت الهادوية وبعض أصحاب الشافعي واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة عن الشعبي مرسلا قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس بوجهه ثم قال السلام عليكم ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب ثم ينزل وكان أبو بكر وعمر يفعلانه )
والقول الثالث : إن القراءة مشروعة فيهما جميعا وإلى ذلك ذهب العراقيون من أصحاب الشافعي . قال العراقي : وهو الذي اختاره القاضي من الحنابلة
والرابع : في الخطبة الثانية دون الأولى حكاه العمراني ويدل له ما رواه النسائي عن جابر بن سمرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم ويقرأ آيات ويذكر الله عز و جل ) قال العراقي : وإسناده صحيح وأجيب عنه بأن قوله يقرأ معطوف على قوله يخطب لا على قوله يقوم
والظاهر من أحاديث الباب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة بل كان يقرأ مرة هذه السورة ومرة هذه ومرة هذه الآية ومرة هذه

باب هيآت الخطبتين وآدابهما

1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ثم يقوم كما يفعلون اليوم )
- رواه الجماعة

2 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما فمن قال أنه يخطب جالسا فقد كذب فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- قوله : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ) فيه أن القيام حال الخطبة مشروع . قال ابن المنذر : وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار اه
واختلف في وجوبه فذهب الجمهور إلى الوجوب ونقل عن أبي حنيفة أن القيام سنة [ ص 330 ] وليس بواجب وإلى ذلك ذهبت الهادوية . واستدل الجمهور على الوجوب بحديثي الباب وبغيرهما من الأحاديث الصحيحة . وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما وأبو بكر وعمر وعثمان وأول من جلس على المنبر معاوية
وروى ابن أبي شيبة عن الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه ولا شك أن الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن الخلفاء الراشدين هو القيام حال الخطبة ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب كما عرفت غير مرة
قوله : ( ثم يجلس ) فيه مشروعية الجلوس بين الخطبتين وقد تقدم الخلاف في حكمه
قوله : ( فمن قال إنه يخطب ) رواية أبي داود : ( فمن حدثك أنه كان يخطب ) ورواية مسلم : ( فمن نبأك أنه كان يخطب )
قوله : ( أكثر من ألفي صلاة ) قال النووي : المراد الصلوات الخمس لا الجمعة اه . ولا بد من هذا لأن الجمع التي صلاها صلى الله عليه وآله وسلم من عند افتراض صلاة الجمعة إلى عند موته لا تبلغ ذلك المقدار ولا نصفه

3 - وعن الحكم بن حزن الكلفي رضي الله عنه قال : ( قدمت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة فلبثنا عنده أياما شهدنا فيها الجمعة فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوكئا على قوس أو قال على عصا فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال : أيها الناس إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتم ولكن سددوا وأبشروا )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث في إسناده شهاب بن حراش أبو الصلت وقد اختلف فيه فقال ابن المبارك : ثقة . وقال أحمد ويحيى بن معين وأبو حاتم : لا بأس به وقال ابن حبان : كان رجلا صالحا وكان ممن يخطئ كثيرا حتى خرج عن الاعتداد به . قال الحافظ : والأكثر وثقوه وقد صحح الحديث ابن خزيمة وابن السكن وحسن إسناده الحافظ قال : وله شاهد من حديث البراء بن عازب عند أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى يوم العيد قوسا فخطب عليه ) وطوله أحمد والطبراني وصححه ابن السكن
( وفي الباب ) عن ابن عباس وابن الزبير عند أبي الشيخ ابن حبان في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وفي الباب أيضا عن عطاء مرسلا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب يعتمد على عنزته اعتمادا ) أخرجه الشافعي وفي إسناده ليث ابن أبي سليم وهو ضعيف
( الحديث ) فيه مشروعية الاعتماد على سيف أو عصى حال الخطبة [ ص 331 ] قيل والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث وقيل إنه أربط للجأش . وفيه أيضا مشروعية اشتمال الخطبة على الحمد لله والوعظ وقد تقدم الخلاف في الوعظ . وأما الحمد لله فذهب الجمهور إلى أنه واجب في الخطبة . وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وحكى في البحر عن الإمام يحيى أنه لا بد في الخطبتين من الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله إجماعا

4 - وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة )
- رواه أحمد ومسلم . والمئنة العلامة والمظنة

5 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : ( كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصدا وخطبته قصدا )
- رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود

6 - وعن عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة )
- رواه النسائي

- حديث ابن أبي أوفى قال العراقي في شرح الترمذي : إسناده صحيح
وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند البزار : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الرجل فطولوا الصلاة واقصروا الخطب وإن من البيان لسحرا وأنه سيأتي بعدكم قوم يطيلون الخطب ويقصرون الصلاة ) وقد رواه الطبراني في الكبير موقوفا على عبد الله . قال العراقي : وهو أولى بالصواب لاتفاق سفيان وزائدة على ذلك وانفراد قيس برفعه
وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث أميرا قال : اقصر الخطبة وأقلل الكلام فإن من الكلام سحرا ) وفي إسناده جميع بالفتح ويقال بالضم مصغرا ابن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو بعدها . قال البخاري والدارقطني : إنه منكر الحديث . وقال النسائي : متروك الحديث
قوله : ( مئنة ) قال النووي : بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة أي علامة قال : وقال الأزهري والأكثرون الميم فيها زائدة وهي مفعلة
قال الهروي : قال الأزهري غلط أبو عبيد في جعل الميم أصلية ورده الخطابي وقال : إنما هي فعيلة وقال القاضي عياض : قال شيخنا ابن سراج هي أصلية انتهى
وإنما كان إقصار الخطبة علامة من فقه الرجل لأن الفقيه هو المطلع على جوامع الألفاظ [ ص 332 ] فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر على المعاني الكثيرة
قوله : ( فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ) قال النووي : الهمزة في اقصر همزة وصل . وظاهر الأمر بإطالة الصلاة في هذا الحديث المخالفة لقوله في حديث جابر بن سمرة : ( كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصدا وخطبته قصدا ) وقال النووي : لا مخالفة لأن المراد بالأمر بإطالة الصلاة بالنسبة إلى الخطبة لا التطويل الذي يشق على المؤتمين قال العراقي : أو حيث احتيج إلى التطويل لادراك بعض من تخلف قال : وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الأخذ في حقنا بقوله لأنه أدل لا بفعله لاحتمال التخصيص انتهى
وقد ذكرنا غير مرة أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة مع عدم وجدان دليل يدل على التأسي في ذلك الفعل بخصوصه وهذا منه
قوله : ( قصدا ) القصد في الشيء هو الاقتصاد فيه وترك التطويل . وإنما كانت صلاته صلى الله عليه وآله وسلم وخطبته كذلك لئلا يمل الناس
وأحاديث الباب فيها مشروعية إقصار الخطبة ولا خلاف في ذلك ( 1 ) واختلف في أقل ما يجزئ على أقوال مبسوطة في كتب الفقه
_________
( 1 ) والعجب من أقوام ينسبون إلى السنة أو إلى السلف ويطيلون الخطبة في صلاة الجمعة حتى تمل الناس سماع خطبتهم ولربما يأتون بخطبهم بما يروج اعتقادهم أو يحبذ رأيهم أو إطراء الشيخ والثناء عليه وغير ذلك مما يخرجها عن مقصودها المشروع له الخطبة ويقصرون الصلاة ويتجاهلون أن فعل ذلك مخالف للسلف الصالح ومع هذا لو نبههم شخص إلى مثل ذلك تأولوا له باحتمالات عقلية وأدلة وهمية نسأل الله أن يوفق أئمة المساجد إلى العمل بالمشروع لا سيما ما كان له دخل في العبادات والله أعلم

7 - وعن جابر رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم )
- رواه مسلم وابن ماجه

- الحديث تمامه في صحيح مسلم : ( ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )
قوله : ( إذا خطب احمرت عيناه ) فيه أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة ويرفع صوته ويجزل كلامه ويظهر غاية الغضب والفزع لأن تلك الأوصاف إنما تكون عند اشتدادهما
قوله : ( يقول ) أي منذر الجيش
قوله : ( صبحكم ) فاعله ضمير يعود إلى العدو المنذر [ ص 333 ] منه ومفعوله يعود إلى المنذرين . وكذلك قوله ( ومساكم ) أي أتاكم العدو وقت الصباح أو وقت المساء

8 - وعن حصين بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال : ( كنت إلى جنب عمارة ابن رؤيبة وبشر بن مروان يخطبنا فلما دعا رفع يديه فقال عمارة يعني قبح الله هاتين اليدين رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر يخطب إذا دعا يقول هكذا فرفع السبابة وحدها )
- رواه أحمد والترمذي بمعناه وصححه

9 - وعن سهل ابن سعد رضي الله عنه قال : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاهرا يديه قط يدعو على منبر ولا غيره ما كان يدعو إلا يضع يده حذو منكبه ويشير بإصبعه )
- رواه أحمد وأبو داود وقال فيه : ( لكن رأيته يقول هكذا وأشار بالسبابة وعقد الوسطى بالإبهام )

- الحديث الأول أخرجه أيضا مسلم والنسائي والحديث الثاني في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق القرشي ويقال له عباد بن إسحاق وفيه مقال كذا قال المنذري
( وفي الباب ) عن غطيف بن الحارث الثمالي عند أحمد والبزار قال : بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال : يا أبا سليمان إنا قد جمعنا الناس على أمرين فقال : وما هما فقال : رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد الصبح فقال : أما أنهما أمثل بدعتكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منها . قال : لم قال : لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة ) وفي إسناده ابن أبي مريم وهو ضعيف وبقية وهو مدلس
قوله : ( فقال عمارة يعني ) لفظ يعني ليس في مسلم ولا في سنن أبي داود ولا الترمذي
قوله : ( قبح الله هاتين اليدين ) زاد الترمذي القصيرتين
( والحديثان ) المذكوران في الباب يدلان على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء وأنه بدعة . وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ) وظاهره أنه لم يرفع في غير الاستسقاء . قال النووي : وليس الأمر كذلك بل قد ثبت رفع يديه في الدعاء في مواطن وهي أكثر من أن تحصى قال : وقد جمعت منها نحوا من ثلاثين حديثا من الصحيحين انتهى
وظاهر حديثي الباب أنها تجوز الإشارة بالإصبع في خطبة الجمعة [ ص 334 ]

باب المنع من الكلام والإمام يخطب والرخصة في تكلمه وتكليمه لمصلحة وفي الكلام قبل أخذه في الخطبة وبعد إتمامها

1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

2 - وعن علي رضي الله تعالى عنه في حديث له قال : ( من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر ومن قال صه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له ثم قال هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد وأبو داود

3 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل حمار يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليس له جمعة )
- رواه أحمد

4 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ( جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما على المنبر فخطب الناس وتلا آية وإلى جنبي أبي بن كعب فقلت له : يا أبي متى نزلت هذه الآية فأبى أن يكلمني ثم سألته فأبى أن يكلمني حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له أبي : ما لك من جمعتك إلا ما لغيت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جئته فأخبرته فقال : صدق أبي فإذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ )
- رواه أحمد

- حديث علي في إسناده رجل مجهول لأن عطاء الخراساني رواه عن مولى امرأته أم عثمان قالت : سمعت عليا الحديث . وعطاء الخراساني وثقه يحيى بن معين وأثنى عليه وتكلم فيه ابن حبان وكذبه سعيد بن المسيب . وحديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن أبي شيبة في المصنف والبزار في مسنده والطبراني في الكبير وفي إسناده مجالد بن سعيد وقد ضعفه الجمهور . وقال الحافظ في بلوغ المرام : لا بأس بإسناده
وحديث أبي الدرداء أخرجه أيضا الطبراني من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء
وروي أيضا من رواية عبد الله بن سعد عن حرب بن قيس عن أبي الدرداء . قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد ثقات . ويشهد له ما أخرجه أبو يعلى والطبراني [ ص 335 ] عن جابر قال : ( دخل ابن مسعود والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فجلس إلى جنبه أبي ) فذكر نحو حديث أبي الدرداء . قال العراقي : ورجاله ثقات ويشهد له أيضا ما رواه الطبراني عن أبي ذر بنحو حديث أبي الدرداء المذكور في الباب
وعن ابن أبي أوفى عند ابن أبي شيبة في المصنف قال : ( ثلاث من سلم منهن غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى من أن يحدث حدثا يعني أذى أو أن يتكلم أو أن يقول صه ) قال العراقي : ورجاله ثقات قال : وهذا وإن كان موقوفا فمثله لا يقال من قبل الرأي فحكمه الرفع كما قاله ابن عبد البر وغيره فيما كان من هذا القبيل
ولابن أبي أوفى حديث آخر مرفوع عند النسائي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ) وعن جابر عند ابن أبي شيبة أيضا في المصنف قال : قال سعد لرجل يوم الجمعة لا جمعة لك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( لم يا سعد قال : إنه يتكلم وأنت تخطب قال : صدق سعد ) يعني ابن أبي وقاص
ورواه أيضا أبو يعلى والبزار وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف عند الجمهور كما تقدم
وعن عبد الله بن عمر عند أبي داود : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يحضر الجمعة ثلاثة نفر فرجل حضرها يلغو فهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ) قال العراقي : وإسناده جيد
وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير قال : ( كفى لغوا إذا صعد الإمام المنبر أن تقول لصاحبك أنصت ) قال العراقي : ورجاله ثقات محتج بهم في الصحيح قال : وهو وإن كان موقوفا فمثله لا يقال من قبل الرأي فحكمه الرفع
قوله : ( أنصت ) قال الأزهري : يقال أنصت ونصت وانتصت . قال ابن خزيمة : والمراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله تعالى . وتعقب بأنه يلزم منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة والظاهر أن المراد السكوت مطلقا قاله في الفتح وهو ظاهر الأحاديث فلا يجوز من الكلام إلا ما خصه دليل كصلاة التحية نعم الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره يعم جميع الأوقات والنهي عن الكلام حال الخطبة يعم كل كلام فيتعارض العمومات ولكنه يرجح مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره حال الخطبة [ ص 336 ] ما سيأتي في تفسير اللغو من اختصاصه بالكلام الباطل الذي لا أصل له لولا ما سيأتي من الأدلة القاضية بالتعميم
قوله : ( والإمام يخطب ) فيه دليل على اختصاص النهي بحال الخطبة ورد على من أوجب الإنصات من خروج الإمام . وكذلك قوله يوم الجمعة ظاهره أن الإنصات في خطبة غير يوم الجمعة لا يجب
قوله : ( فقد لغوت ) قال في الفتح : قال الأخفش اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه . وقال ابن عرفة : اللغو السقط من القول . وقيل الميل عن الصواب . وقيل اللغو الإثم لقوله تعالى { وإذا مروا باللغو مروا كراما } وقال الزين ابن المنير : اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام وأغرب أبو عبيد الهروي في الغريب فقال : معنى لغا تكلم والصواب التقييد . وقال النضر بن شميل : معنى لغوت خبت من الأجر . وقيل بطلت فضيلة جمعتك وقيل صارت جمعتك ظهرا . قلت : أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى انتهى كلام الفتح
وفي القاموس اللغو السقط وما لا يعتد به من كلام أو غيره انتهى
ويؤيد قول من قال إن اللغو صيرورة الجمعة ظهرا ما عند أبي داود وابن خزيمة من حديث ابن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ : ( من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا )
قوله : ( فلا جمعة له ) قال العلماء معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه
قوله : ( فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ) شبه من لم يمسك عن الكلام بالحمار الحامل للأسفار بجامع عدم الانتفاع
وظاهر قوله : ( من تكلم يوم الجمعة ) المنع من جميع أنواع الكلام من غير فرق بين ما لا فائدة فيه وغيره . ومثله حديث جابر الذي تقدم وكذلك حديث أبي لإطلاق الكلام فيهما
ويؤيده أنه إذا جعل قوله أنصت مع كونه أمرا بمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى بأن يسمى لغوا . وقد وقع عند أحمد بعد قوله فقد لغوت عليك بنفسك ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم من تسمية السؤال عن نزول الآية لغوا وقد ذهب إلى تحريم كل كلام حال الخطبة الجمهور ولكن قيد ذلك بعضهم بالسامع للخطبة والأكثر لم يقيدوا قالوا وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة . قال الحافظ : وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها إلا عن قليل من التابعين منهم الشعبي وتعقبه بأن للشافعي قولين وكذلك لأحمد وروي عنهما التفرقة بين من سمع الخطبة ومن لم يسمعها . ولبعض الشافعية التفرقة بين من تنعقد بهم الجمعة فيجب عليهم الإنصات وبين من زاد عليهم فلا يجب
وقد حكى [ ص 337 ] المهدي في البحر عن القاسم وابنه محمد بن القاسم والمرتضى ومحمد بن الحسن أنه يجوز الكلام الخفيف حال الخطبة واستدلوا على ذلك بتقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله عن الساعة ولمن سأله في الاستسقاء ورد بأن الدليل أخص من الدعوى وغاية ما فيه أن يكون عموم الأمر بالإنصات مخصصا بالسؤال
ونقل صاحب المغني الاتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة كتحذير الضرير من البئر ونحوه . وخصص بعضهم رد السلام وهو أعم من أحاديث الباب من وجه وأخص من وجه فتخصيص أحدهما بالآخر تحكم ومثله تشميت العاطس . وقد حكى الترمذي عن أحمد وإسحاق الترخيص في رد السلام وتشميت العاطس . وحكى عن الشافعي خلاف ذلك . وحكى ابن العربي عن الشافعي موافقة أحمد وإسحاق . قال العراقي : وهو أولى مما نقله عنه الترمذي . وقد صرح الشافعي في مختصر البويطي بالجواز فقال : ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لأن التشميت سنة ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك له ورأيت أن يرد عليه لأن السلام سنة ورده فرض هذا لفظه
وقال النووي في شرح المهذب : إنه الأصح . قال في الفتح : وقد استثني من الإنصات في الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلى كلام لم يشرع في الخطبة مثل الدعاء للسلطان مثلا بل جزم صاحب التهذيب بأن الدعاء للسلطان مكروه . وقال النووي : محله إذا جاوز وإلا فالدعاء لولاة الأمر مطلوب . قال الحافظ : ومحل الترك إذا لم يخف الضرر وإلا فيباح للخطيب إذا خشي على نفسه
قوله : ( إلا ما لغيت ) بفتح اللام وبكسر الغين المعجمة لغة في لغوت

5 - وعن بريدة رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال : صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما )
- رواه الخمسة

6 - وعن أنس رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة فيكلمه الرجل في الحاجة ويكلمه ثم يتقدم إلى مصلاه فيصلي )
- رواه الخمسة

7 - وعن ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه قال : ( كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام [ ص 338 ] عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين كلتيهما فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا )
- رواه الشافعي في مسنده وسنذكر سؤال الأعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاستسقاء في خطبة الجمعة

- حديث بريدة قال الترمذي : حسن غريب إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد انتهى . والحسين المذكور هو أبو علي قاضي مرو احتج به مسلم في صحيحه . وقال المنذري : ثقة . وحديث أنس قال الترمذي : هذا حديث لا يعرف إلا من حديث جرير ابن حازم وسمعت محمدا يعني البخاري يقول : وهم جرير بن حازم في هذا الحديث والصحيح ما روى ثابت عن أنس قال : ( أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم ) قال محمد : والحديث هو هذا وجرير بن حازم ربما يهم في الشيء وهو صدوق انتهى كلام الترمذي . وقال أبو داود : الحديث ليس بمعروف وهو مما تفرد به جرير بن حازم . وقال الدارقطني : تفرد به جرير بن حازم عن ثابت . قال العراقي : ما أعل به البخاري وأبو داود الحديث من أن الصحيح كلام الرجل له بعد ما أقيمت الصلاة لا يقدح ذلك في صحة حديث جرير بن حازم بل الجمع بينهما ممكن بأن يكون المراد بعد إقامة صلاة الجمعة وبعد نزوله من المنبر فليس الجمع بينهما متعذرا كيف وجرير بن حازم أحد الثقات المخرج لهم في الصحيح فلا تضر زيادته في كلام الرجل له إنه كان بعد نزوله عن المنبر
قوله : ( فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فيه جواز الكلام في الخطبة للأمر يحدث . وقال بعض الفقهاء : إذا تكلم أعاد الخطبة قال الخطابي : والسنة أولى ما اتبع
قوله : ( فيكلمه الرجل في الحاجة ويكلمه ) فيه أنه لا بأس بالكلام بعد فراغ الخطيب من الخطبة وأنه لا يحرم ولا يكره ونقله ابن قدامة في المغني عن عطاء وطاوس والزهري وبكر المزني والنخعي ومالك والشافعي وإسحاق ويعقوب ومحمد قال : وروي ذلك عن ابن عمر انتهى
وإلى ذلك ذهبت الهادوية . وروي عن أبي حنيفة أنه يكره الكلام بعد الخطبة قال ابن العربي : والأصح عندي أن لا يتكلم بعد الخطبة لأن مسلما قد روى أن الساعة التي في يوم الجمعة هي من حين يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقام الصلاة فينبغي أن يتجرد للذكر والتضرع والذي في مسلم أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة . ومما يرجح ترك الكلام بين الخطبة والصلاة الأحاديث الواردة في الإنصات حتى تنقضي الصلاة كما [ ص 339 ] عند النسائي بإسناد جيد من حديث سلمان بلفظ : ( فينصت حتى يقضي صلاته ) وأحمد بإسناد صحيح من حديث نبيشة بلفظ : ( فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه ) وقد تقدما . ويجمع بين الأحاديث بأن الكلام الجائز بعد الخطبة هو كلام الإمام لحاجة أو كلام الرجل للرجل لحاجة
قوله : ( وعمر جالس على المنبر ) فيه جواز الكلام حال قعود الإمام على المنبر قبل شروعه في الخطبة لأن ظهور ذلك بين الصحابة من دون نكير يدل على أنه إجماع لهم
وروى أحمد بإسناد قال العراقي صحيح أن عثمان بن عفان كان وهو على المنبر والمؤذن يقيم يستخبر الناس عن أخبارهم وأسعارهم
قوله : ( وسنذكر سؤال الأعرابي ) الخ سيذكره المصنف في كتاب الاستسقاء

باب ما يقرأ به في صلاة الجمعة وفي صبح يومها

1 - عن عبد الله بن أبي رافع رضي الله عنه قال : ( استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى لنا أبو هريرة يوم الجمعة فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة { إذا جاءك المنافقون } فقلت له حين انصرف إنك قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بهما في الجمعة )
- رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي

2 - وعن النعمان ابن بشير رضي الله عنه وسأله الضحاك : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة قال : كان يقرأ هل أتاك حديث الغاشية )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

3 - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية قال : وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه

4 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود

- حديث سمرة قال العراقي : إسناده صحيح . وفي الباب عن أبي عنبسة الخولاني [ ص 340 ] عند ابن ماجه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية ) وفي إسناده سعيد بن سنان ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما . وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والبزار في مسنده . وعن ابن عباس وسيأتي وقد استدل بأحاديث الباب على أن السنة أن يقرأ الإمام في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين أو في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بهل أتاك حديث الغاشية . أو في الأولى بالجمعة وفي الثانية بهل أتاك حديث الغاشية . قال العراقي : والأفضل من هذه الكيفيات قراءة الجمعة في الأولى ثم المنافقين في الثانية كما نص عليه الشافعي فيما رواه عنه الربيع وقد ثبتت الأوجه الثلاثة التي قدمناها فلا وجه لتفضيل بعضها على بعض إلا أن الأحاديث التي فيها لفظ كان مشعرة بأنه فعل ذلك في أيام متعددة كما تقرر في الأصول . وقال مالك : إنه أدرك الناس يقرؤون في الأولى بالجمعة والثانية بسبح ولم يثبت ذلك في الأحاديث
وقال الهادي والقاسم والناصر : إنه يندب أن يقرأ في الجمعة مع الفاتحة سورة الجمعة في الأولى والمنافقين في الثانية أو سبح والغاشية . وقال زيد بن علي : في الأولى السجدة وفي الثانية الدهر . وقال أبو حنيفة وأصحابه ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن الحسن البصري أنه يقرأ الإمام بما شاء . وقال ابن عيينة ( 1 ) : إنه يكره أن يتعمد القراءة في الجمعة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لئلا يجعل ذلك من سننها وليس منها
قال ابن العربي : وهو مذهب ابن مسعود وقد قرأ فيها أبو بكر الصديق بالبقرة . وحكى ابن عبد البر في الاستذكار عن أبي إسحاق المروزي مثل قول ابن عيينة . وحكي عن ابن أبي هريرة مثله وخالفهم جمهور العلماء وممن خالفهم من الصحابة علي وأبو هريرة . قال العراقي : وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور
( والحكمة ) في القراءة في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة فيحرض به المؤمنين وفي الثانية بسورة المنافقين فيفزع المنافقين )
قال العراقي : وفي إسناده من يحتاج إلى الكشف عنه . قال الطبراني : لم يروه عن أبي جعفر إلا منصور تفرد به عنه عمرو ابن أبي قيس
وقد اختلف فيه على منصور فرفعه عنه عمرو بن أبي قيس وخالفه في إسناده جرير بن حازم وأعضله فرواه عن منصور عن إبراهيم عن الحكم عن أناس من أهل المدينة [ ص 341 ]
_________
( 1 ) [ في الأصل " أبي عينية " الصحيح ابن عينية كما هو في النص أعلاه . نظام سبعة . ]

5 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح الم تنزيل وهل أتى على الإنسان وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

6 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم تنزيل وهل أتى على الإنسان )
- رواه الجماعة إلا الترمذي وأبا داود ولكنه لهما من حديث ابن عباس

- وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص عند ابن ماجه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم تنزيل وهل أتى على الإنسان ) وأورده ابن عدي في الكامل وفي إسناده الحارث بن شهاب وهو متروك الحديث
وعن ابن مسعود عند ابن ماجه أيضا : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة الم تنزيل وهل أتى ) وقد رواه الطبراني ورجاله ثقات
وعن علي بن أبي طالب عليه السلام عند الطبراني في معجميه الصغير والأوسط بنحو الذي قبله وفي إسناده حفص بن سليمان الغاضري ضعفه الجمهور
( وهذه الأحاديث ) فيها مشروعية قراءة تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان . قال العراقي : وممن كان يفعله من الصحابة عبد الله بن عباس . ومن التابعين إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وهو مذهب الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث وكرهه مالك وآخرون . قال النووي : وهم محجوجون بهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة المروية من طرق
واعتذر مالك عن ذلك بأن حديث أبي هريرة من طريق سعد بن إبراهيم وهو مردود أما أولا فبأن سعد بن إبراهيم قد اتفق الأئمة على توثيقه . قال العراقي : ولم أر من نقل عن مالك تضعيفه غير ابن العربي ولعل الذي أوقعه في ذلك هو أن مالكا لم يرو عنه . قال ابن عبد البر : وأما امتناع مالك عن الرواية عن سعد فلكونه طعن في نسب مالك
وأما ثانيا فغاية هذا الاعتذار سقوط الاستدلال بحديث أبي هريرة دون بقية أحاديث الباب . قال الحافظ : ليس في شيء من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وآله وسلم سجد لما قرأ سورة تنزيل في هذا المحل إلا في كتاب الشريعة لابن أبي داود من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ( غدوت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة في صلاة الفجر فقرأ سورة فيها سجدة فسجد ) الحديث . وفي إسناده من ينظر في حاله [ ص 342 ]
وللطبراني في الصغير من حديث علي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في صلاة الصبح في تنزيل السجدة ) لكن في إسناده ضعف انتهى
قال العراقي : قد فعله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن الزبير وهو قول الشافعي وأحمد وقد كرهه في الفريضة من التابعين أبو مجلز وهو قول مالك وأبي حنيفة وبعض الحنابلة ومنعته الهادوية وقد قدمنا بعض حجج الفريقين في أبواب سجود التلاوة . وقد اختلف القائلون باستحباب قراءة الم تنزيل السجدة في يوم الجمعة هل للإمام أن يقرأ بدلها سورة أخرى فيها سجدة فيسجد فيها أو يمتنع ذلك فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن إبراهيم النخعي قال : كان يستحب أن يقرأ يوم الجمعة بسورة فيها سجدة وروي أيضا عن ابن عباس . وقال ابن سيرين : لا أعلم به بأسا قال النووي في الروضة من زوائده : لو أراد أن يقرأ آية أو آيتين فيهما سجدة لغرض السجود فقط لم أر فيه كلاما لأصحابنا قال : وفي كراهته خلاف للسلف
وأفتى الشيخ ابن عبد السلام بالمنع من ذلك وبطلان الصلاة به . وروى ابن أبي شيبة عن أبي العالية والشعبي كراهة اختصار السجود . زاد الشعبي : وكانوا يكرهون إذا أتوا على السجدة أن يجاوزوها حتى يسجدوا . وكره اختصار السجود ابن سيرين . وعن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون أن تختصر السجدة . وعن الحسن أنه كره ذلك . وروي عن سعيد بن المسيب وشهر بن حوشب أن اختصار السجود مما أحدث الناس وهو أن يجمع الآيات التي فيها السجود فيقرأها ويسجد فيها . وقيل اختصار السجود أن يقرأ القرآن إلا آيات السجود فيحذفها وكلاهما مكروه لأنه لم يرد عن السلف

باب انفضاض العدد في أثناء الصلاة أو الخطبة

1 - عن جابر رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما }
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه . وفي رواية : ( أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة فانفض الناس إلا اثني عشر [ ص 343 ] رجلا فنزلت هذه الآية { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما } ) رواه أحمد والبخاري

- قوله : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب قائما ) ظاهره أن الانفضاض وقع حال الخطبة وظاهر قوله في الرواية الأخرى ( ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم ) أن الانفضاض وقع بعد دخولهم في الصلاة . ويؤيد الرواية الأولى ما عند أبي عوانة من طريق عباد بن العوام وعند ابن حميد من طريق سليمان بن كثير كلاهما عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بلفظ ( يخطب ) وكذا وقع في حديث ابن عباس عند البزار . وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط . وفي مرسل قتادة عند الطبراني وغيره وعلى هذا فقوله ( نصلي ) أي ننتظر وكذا يحمل قوله ( بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة ) كما وقع في مستخرج أبي نعيم على أن المراد بقوله في الصلاة أي في الخطبة وهو من تسمية الشيء باسم ما يقارنه وبهذا يجمع بين الروايات . ويؤيده استدلال ابن مسعود على القيام في الخطبة بالآية المذكورة كما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح . وكذلك استدلال كعب بن عجرة كما في صحيح مسلم على ذلك
قوله : ( فجاءت عير من الشام ) العير بكسر العين الإبل التي تحمل التجارة طعاما كانت أو غيره وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها ولابن مردويه عن ابن عباس : ( جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف ) ووقع عند الطبراني عن أبي مالك أن الذي قدم بها من الشام دحية بن خليفة الكلبي وكذلك في حديث ابن عباس عند البزار وجمع بين الروايتين بأن التجارة كانت لعبد الرحمن وكان دحية السفير فيها أو كان مقارضا . ووقع في رواية ابن وهب عن الليث أنها كانت لوبرة الكلبي ويجمع بأنه كان رفيق دحية
قوله : ( فانفتل الناس إليها ) وفي الرواية الأخرى ( فانفض الناس إليها ) وهو موافق للفظ القرآن . وفي رواية للبخاري ( فالتفتوا إليها ) والمراد بالانفتال والالتفات الانصراف يدل على ذلك رواية فانفض . وفيه رد على من حمل الالتفات على ظاهره وقال لا يفهم منه الانصراف عن الصلاة وقطعها وإنما يفهم منه التفاتهم بوجوههم أو بقلوبهم وأيضا لو كان الالتفات على ظاهره لما وقع الإنكار الشديد لأنه لا ينافي الاستماع للخطبة
قوله : ( إلا اثنا عشر رجلا ) قال الكرماني : ليس هذا الاستثناء مفرغا فيجب رفعه بل هو من ضمير لم يبق العائد إلى الناس فيجوز فيه الرفع والنصب قال : وثبت الرفع في بعض الروايات . ووقع عند الطبراني : ( إلا أربعين رجلا ) وقال : تفرد به علي بن عاصم وهو ضعيف الحفظ وخالفه أصحاب حصين كلهم . ووقع عند ابن مردويه من رواية [ ص 344 ] ابن عباس وسبع نسوة بعد قوله إلا اثنا عشر رجلا وفي تفسير إسماعيل بن زياد الشامي وامرأتان وقد سمى من الجماعة الذين لم ينفضوا أبو بكر وعمر عند مسلم
وفي رواية له أن جابرا قال أنا فيهم وفي تفسير الشامي أن سالما مولى أبي حذيفة منهم . وروى العقيلي عن ابن عباس أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار وروى السهيلي بسند منقطع أن الاثني عشر هم العشرة المبشرة بالجنة وبلال وابن مسعود . قال : وفي رواية عمار بدل ابن مسعود . قال في الفتح : ورواية العقيلي أقوى وأشبه
قوله : ( فأنزلت هذه الآية ) ظاهر في أنها نزلت بسبب قدوم العير المذكورة ( 1 ) والمراد باللهو على هذا ما ينشأ من رؤية القادمين وما معهم . ووقع عند الشافعي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة وكان لهم سوق كانت بنو سليم يجلبون إليه الخيل والإبل والسمن فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوه قائما وكان لهم لهو يضربونه فنزلت ) ووصله أبو عوانة في صحيحه
قوله : ( انفضوا إليها ) قيل النكتة في عود الضمير إلى التجارة دون اللهو أن اللهو لم يكن مقصودا وإنما كان تبعا للتجارة . وقيل حذف ضمير أحدهما لدلالة الآخر عليه . وقال الزجاج : أعيد الضمير إلى المعنى أي انفضوا إلى الرؤية
( والحديث ) استدل به من قال أن عدد الجمعة اثنا عشر رجلا وقد تقدم بسط الكلام في ذلك وقد استشكل الأصيلي حديث الباب فقال : إن الله تعالى قد وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ثم أجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث قبل نزول الآية
قال الحافظ : وهذا الذي يتعين المصير إليه مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة وعلى تقدير ذلك فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك فلما نزلت آية الجمعة وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه فوصفوا بعد ذلك بما في آية النور
_________
( 1 ) ما ذكره الشارح رحمه الله من كون هذه الآية الظاهر فيها أنها نزلت بسبب قدوم العير المذكورة ذكره الحافظ في الفتح . وفي دعوى الظهور نظر بل الظاهر أنها نزلت بسبب انفضاض الناس إلى العير المذكورة والتفاتهم إليها والإعراض عن الصلاة فنزلت الآية تلوم عليهم فعلهم هذا واستشكال الأصيلي حديث الباب يجاب عنه بأن من فعل ذلك كان حديث عهد الإسلام . والله أعلم

باب الصلاة بعد الجمعة

1 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا [ ص 345 ] صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات )
- رواه الجماعة إلا البخاري

2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته )
- رواه الجماعة

3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أنه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعا وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد فقيل له في ذلك فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك )
- رواه أبو داود

- حديث ابن عمر الآخر سكت عنه أبو داود والمنذري وقال العراقي : إسناده صحيح وفي الباب عن ابن عباس عند الطبراني : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بعد الجمعة أربعا ) وفي إسناده مبشر بن عبيد وهو ضعيف جدا . وفي السند ضعفاء غيره عن ابن مسعود عند الترمذي موقوفا عليه : ( أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا )
قوله : ( إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها ) الخ لفظ أبي داود والترمذي وهو أحد ألفاظ مسلم : ( من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا ) قال النووي في شرح مسلم : نبه بقوله من كان منكم مصليا على أنها سنة ليست بواجبة وذكر الأربع لفضلها وفعل الركعتين في أوقات بيانا لأن أقلها ركعتان قال : ومعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في أكثر الأوقات أربعا لأنه أمرنا بهن وجئنا عليهن
قال العراقي : وما ادعى من أنه معلوم فيه نظر بل ليس ذلك بمعلوم ولا مظنون لأن الذي صح عنه صلاة ركعتين في بيته ولا يلزم من كونه أمر به أن يفعله وكون ابن عمر بن الخطاب كان يصلي بمكة بعد الجمعة ركعتين ثم أربعا وإذا كان بالمدينة صلى بعدها ركعتين في بيته فقيل له فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك فليس في ذلك علم ولا ظن أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل بمكة ذلك وإنما أراد رفع فعله بالمدينة فحسب لأنه لم يصح أنه صلى الجمعة بمكة وعلى تقدير وقوعه بمكة منه فليس ذلك في أكثر الأوقات بل نادرا وربما كانت الخصائص في حقه بالتخفيف في بعض الأوقات فإنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش ) الحديث . فربما لحقه تعب من ذلك فاقتصر على الركعتين في بيته وكان يطيلهما كما ثبت في رواية النسائي وأفضل الصلاة طول القنوت أي القيام فلعلها كانت أطول من أربع ركعات خفاف أو متوسطات انتهى
( والحاصل ) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الأمة أمرا مختصا بهم بصلاة أربع ركعات بعد الجمعة وأطلق ذلك ولم يقيده بكونها في البيت واقتصاره صلى الله عليه وآله وسلم على ركعتين كما في حديث ابن [ ص 346 ] عمر لا ينافي مشروعية الأربع لما تقرر في الأصول من عدم المعارضة بين قوله الخاص بالأمة وفعله الذي لم يقترن بدليل خاص يدل على التأسي به فيه وذلك لأن تخصيصه للأمة بالأمر يكون مخصصا لأدلة التأسي العامة
قوله : ( ركعتين في بيته ) استدل به على أن سنة الجمعة ركعتان . وممن فعل ذلك عمران بن حصين وقد حكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد . قال العراقي : لم يرد الشافعي وأحمد بذلك إلا بيان أقل ما يستحب وإلا فقد استحبا أكثر من ذلك فنص الشافعي في الأم على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات ذكره في باب صلاة الجمعة والعيدين . ونقل ابن قدامة عن أحمد أنه قال : إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعا وفي رواية عنه : وإن شاء ستا . وكان ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي يرون أن يصلي بعدها أربعا لحديث أبي هريرة
وعن علي عليه السلام وأبي موسى وعطاء ومجاهد وحميد بن عبد الرحمن والثوري أنه يصلي ستا لحديث ابن عمر المذكور في الباب
( وقد اختلف ) في الأربع الركعات هل تكون متصلة بتسليم في آخرها أو يفصل بين كل ركعتين بتسليم فذهب إلى الأول أهل الرأي وإسحاق بن راهويه وهو ظاهر حديث أبي هريرة وذهب إلى الثاني الشافعي والجمهور كما قال العراقي واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( صلاة النهار مثنى مثنى ) أخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه وقد تقدم والظاهر القول الأول لأن دليله خاص ودليل القول الآخر عام وبناء العام على الخاص واجب
قال أبو عبد الله المازري وابن العربي : إن أمره صلى الله عليه وآله وسلم لمن يصلي بعد الجمعة بأربع لئلا يخطر على بال جاهل أنه صلى ركعتين لتكملة الجمعة أو لئلا يتطرق أهل البدع إلى صلاتها ظهرا أربعا
( واختلف ) أيضا هل الأفضل فعل سنة الجمعة في البيت أو في المسجد فذهب إلى الأول الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح : ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) وأما صلاة ابن عمر في مسجد مكة فقيل لعله كان يريد التأخر في مسجد مكة للطواف بالبيت فيكره أن يفوته بمضيه إلى منزله لصلاة سنة الجمعة أو أنه يشق عليه الذهاب إلى منزله ثم الرجوع إلى المسجد للطواف أو أنه كان يرى النوافل تضاعف بمسجد مكة دون بقية مكة أو كان له أمر متعلق به [ ص 347 ]

باب ما جاء في اجتماع العيد والجمعة

1 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه : ( وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيدين اجتمعا قال : نعم صلى العيد أول النهار ثم رخص في الجمعة فقال : من شاء أن يجمع فليجمع )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون )
- رواه أبو داود وابن ماجه

3 - وعن وهب بن كيسان رضي الله عنه قال : ( اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أصاب السنة )
- رواه النسائي وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء . ولأبي داود أيضا عن عطاء قال : ( اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير فقال : عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعا فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر )

- حديث زيد بن أرقم أخرجه أيضا النسائي والحاكم وصححه علي بن المديني وفي إسناده إياس بن أبي رملة وهو مجهول
وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده بقية بن الوليد وقد صحح أحمد بن حنبل والدارقطني إرساله ورواه البيهقي موصولا مقيدا بأهل العوالي وإسناده ضعيف وفعل ابن الزبير وقول ابن عباس أصاب السنة رجاله رجال الصحيح . وحديث عطاء رجاله رجال الصحيح
( وفي الباب ) عن ابن عباس عند ابن ماجه قال الحافظ : وهو وهم منه نبه عليه هو . وعن ابن عمر عند ابن ماجه أيضا وإسناده ضعيف . ورواه الطبراني من وجه آخر عن ابن عمر ورواه البخاري من قول ابن عثمان . ورواه الحاكم من قول ابن الخطاب كذا قال الحافظ
قوله : ( ثم رخص في الجمعة ) الخ فيه أن صلاة الجمعة في يوم العيد يجوز تركها وظاهر الحديثين عدم الفرق بين من صلى العيد ومن لم يصل وبين الإمام وغيره لأن قوله لمن شاء يدل على أن الرخصة تعم كل أحد وقد ذهب الهادي والناصر والأخوان إلى أن صلاة الجمعة تكون رخصة لغير الإمام وثلاثة واستدلوا بقوله في حديث أبي هريرة : ( وإنا مجمعون ) [ ص 348 ] وفيه أن مجرد هذا الإخبار لا يصلح للاستدلال به على المدعى أعني الوجوب ويدل على عدم الوجوب أن الترخيص عام لكل أحد ترك ابن الزبير للجمعة وهو الإمام إذ ذاك . وقول ابن عباس أصاب السنة رجاله رجال الصحيح وعدم الإنكار عليه من أحد من الصحابة
وأيضا لو كانت الجمعة واجبة على البعض لكانت فرض كفاية وهو خلاف معنى الرخصة وحكى في البحر عن الشافعي في أحد قوليه وأكثر الفقهاء أنه لا ترخيص لأن دليل وجوبها لم يفصل . وأحاديث الباب ترد عليهم . وحكى عن الشافعي أيضا أن الترخيص يختص بمن كان خارج المصر واستدل له بقول عثمان : من أراد من أهل العوالي أن يصلي معنا الجمعة فليصل ومن أحب أن ينصرف فليفعل . ورده بأن قول عثمان لا يخصص قوله صلى الله عليه وآله وسلم
قوله : ( لم يزد عليهما حتى صلى العصر ) ظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر وإليه ذهب عطاء حكي ذلك عنه في البحر والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة الأصل وأنت خبير بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة فإيجاب صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل ولا دليل يصلح للتمسك به على ذلك فيما أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الرواية المتقدمة عن ابن الزبير : قلت إنما وجه هذا أنه رأى تقدمة الجمعة قبل الزوال فقدمها واجتزأ بها عن العيد انتهى . ولا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف

كتاب العيدين

- العيد مشتق من العود فكل عيد يعود بالسرور وإنما جمع على أعياد بالياء للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقيل غير ذلك . وقيل أصله عود بكسر العين وسكون الواو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها مثل ميعاد وميقات وميزان . قال الخليل : وكل يوم مجمع كأنهم عادوا إليه . وقال ابن الأنباري : يسمى عيدا للعود في الفرح والمرح . وقيل سمي عيدا لأن كل إنسان يعود فيه إلى قدر منزلته فهذا يضيف وهذا يضاف . وهذا يرحم وهذا يرحم وقيل سمي عيدا لشرفه من العيد وهو محل كريم مشهور في العرب تنسب إليه الإبل العيدية [ ص 349 ]

باب التجمل للعيد وكراهة حمل السلاح فيه إلا لحاجة

1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( وجد عمر حلة من إستبرق تباع في السوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد فقال : إنما هذه لباس من لا خلاق له )
- متفق عليه

2 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس برد حبرة في كل عيد )
- رواه الشافعي

3 - وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال : ( كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه فلزقت قدمه بالركاب فنزلت فنزعتها وذلك بمنى فبلغ الحجاج فجاء يعوده فقال الحجاج : لو نعلم من أصابك . فقال ابن عمر : أنت أصبتني . قال : وكيف . قال : حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم )
- رواه البخاري وقال : قال الحسن : نهوا أن يحملوا السلاح يوم عيد إلا أن يخافوا عدوا

- حديث جعفر بن محمد رواه الشافعي عن شيخه إبراهيم بن محمد عن جعفر وإبراهيم بن محمد المذكور لا يحتج بما تفرد به ولكنه قد تابعه سعيد بن الصلت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن ابن عباس به كذا أخرجه الطبراني . قال الحافظ : فظهر أن إبراهيم لم يتفرد به وأن رواية إبراهيم مرسلة
وفي الباب عن جابر عند ابن خزيمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين وفي الجمعة )
قوله : ( من إستبرق ) في رواية للبخاري : ( رأى حلة سيراء ) والإستبرق ما غلظ من الديباج والسيراء قد تقدم الكلام عليه في اللباس
قوله : ( ابتع هذه فتجمل ) في رواية للبخاري : ( ابتع هذه تجمل بها ) وفي رواية : ( ابتع هذه وتجمل )
قوله : ( للعيد والوفد ) في لفظ للبخاري للجمعة مكان العيد . قال الحافظ : وكلاهما صحيح وكان ابن عمر ذكرهما معا فاقتصر كل راو على أحدهما
قوله : ( إنما هذه لباس من لا خلاق له ) الخلاق النصيب . وفيه دليل على تحريم لبس الحرير وقد تقدم بسط الكلام على ذلك في اللباس . ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التجمل للعيد تقريره صلى الله عليه وآله وسلم لعمر على أصل التجمل للعيد وقصر الإنكار على من لبس مثل تلك الحلة لكونها [ ص 350 ] كانت حريرا . وقال الداودي : ليس في الحديث دلالة على ذلك . وأجاب ابن بطال بأنه كان معهودا عندهم أن يلبس المرء أحسن ثيابه للجمعة وتبعه ابن التين والاستدلال بالتقرير أولى كما تقدم
قوله : ( برد حبرة ) كعنبة ضرب من برود اليمن كما في القاموس
قوله : ( أخمص قدمه ) الأخمص بإسكان الخاء المعجمة وفتح الميم بعدها صاد مهملة باطن القدم وما رق من أسفلها . وقيل هو ما لا تصيبه الأرض عند المشي من باطنها
قوله : ( بالركاب ) أي وهي في راحلته
قوله : ( فنزعتها ) ذكر الضمير مؤنثا مع أنه أعاده على السنان وهو مذكر لأنه أراد الحديدة ويحتمل أنه أراد القدم
قوله : ( فبلغ الحجاج ) أي ابن يوسف الثقفي وكان إذ ذاك أميرا على الحجاز وذلك بعد قتل عبد الله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين
قوله : ( فجاء يعوده ) في رواية للبخاري فجعل يعوده وفي رواية الإسماعيلي فأتاه
قوله : ( لو نعلم ) لو للتمني ويحتمل أن تكون شرطية والجواب محذوف لدلالة السياق عليه ويرجح ذلك ما أخرجه ابن سعد بلفظ : ( لو نعلم من أصابك عاقبناه ) وله من وجه آخر : ( لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه )
قوله : ( أنت أصبتني ) نسبة الفعل إلى الحجاج لكونه سببا فيه . وحكى الزبير في الأنساب أن عبد الملك لما كتب إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر شق عليه وأمر رجلا معه حربة يقال إنها كانت مسمومة فلصق ذلك الرجل به فأمر الحربة على قدمه فمرض منها أياما ثم مات وذلك في سنة أربع وسبعين وقد ساق هذه القصة في الفتح ولم يتعقبها وصدور مثلها غير بعيد من الحجاج فإنه صاحب الأفاعيل التي تبكي لها عيون الإسلام وأهله
قوله : ( حملت السلاح ) أي فتبعك أصحابك في حمله
قوله : ( في يوم لم يكن يحمل فيه ) هذا محل الدليل على كراهة حمل السلاح يوم العيد وهو مبني على أن قول الصحابي كان يفعل كذا على البناء للمجهول له حكم الرفع وفيه خلاف معروف في الأصول
قوله : ( قال الحسن نهوا أن يحملوا السلاح ) قال الحافظ : لم أقف عليه موصولا إلا أن ابن المنذر قد ذكر نحوه عن الحسن وفيه تقييد لإطلاق قول ابن عمر أنه لا يحمل وقد ورد مثله مرفوعا مقيدا وغير مقيد فروى عبد الرزاق بإسناد مرسل قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج بالسلاح يوم العيد وروى ابن ماجه بإسناد ضعيف عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يلبس السلاح في بلاد الإسلام في العيدين إلا أن يكون بحضرة العدو )
وهذا كله في العيدين فأما الحرم فروى مسلم عن جابر قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمل [ ص 351 ] السلاح بمكة ) وسيأتي الجمع بينه وبين أحاديث دخوله صلى الله عليه وآله وسلم مكة بالسلاح في باب المحرم يتقلد بالسيف من كتاب الحج

باب الخروج إلى العيد ماشيا والتكبير فيه وما جاء في خروج النساء

1 - عن علي عليه السلام رضي الله تعالى عنه قال : ( من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج )
- رواه الترمذي وقال : حديث حسن

2 - وعن أم عطية رضي الله عنها قالت : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ) وفي لفظ : ( المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت : يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال : لتلبسها أختها من جلبابها )
- رواه الجماعة . وليس للنسائي فيه أمر الجلباب . ولمسلم وأبي داود في رواية : ( والحيض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس ) وللبخاري : ( قالت أم عطية كنا نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهن )

3 - وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : ( أنه كان إذا غدا إلى المصلى كبر فرفع صوته بالتكبير ) وفي رواية : ( كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى ثم يكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير )
- رواهما الشافعي

- حديث علي أخرجه أيضا ابن ماجه وفي إسناده الحارث الأعور وقد اتفقوا على أنه كذاب كما قال النووي في الخلاصة . ودعوى الاتفاق غير صحيحة فقد روى عثمان ابن سعيد الدارمي عن ابن معين أنه قال فيه : ثقة . وقال النسائي مرة : ليس به بأس . ومرة : ليس بالقوي . وروى عباس الدوري عن ابن معين أنه قال : لا بأس به
وقال أبو بكر ابن أبي داود كان أفقه الناس وأفرض الناس وأحسب الناس تعلم الفرائض من علي نعم كذبه الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وعلي بن المديني . وقال أبو زرعة : لا يحتج به . وقال ابن حبان : كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث . وقال الدارقطني : ضعيف . وضرب يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على حديثه . قال في الميزان : والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب قال : وحديثه في السنن الأربع والنسائي مع تعنته في الجراح قد احتج وقوى أمره قال : وكان من أوعية العلم [ ص 352 ]
( وفي الباب ) عن ابن عمر عند ابن ماجه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج إلى العيد ماشيا ويرجع ماشيا ) وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري كذبه أحمد . وقال أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي : متروك . وقال البخاري : ليس ممن يروى عنه
وعن سعد القرظ عند ابن ماجه أيضا بنحو حديث ابن عمر وفي إسناده أيضا عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ عن أبيه عن جده وقد ضعفه ابن معين وأبوه سعد بن عمار قال في الميزان : لا يكاد يعرف وجده عمار بن سعد قال فيه البخاري : لا يتابع على حديثه وذكره ابن حبان في الثقات . وعن أبي رافع عند ابن ماجه أيضا : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي العيد ماشيا ) وفي إسناده مندل بن علي ومحمد بن عبد الله بن أبي رافع . ومندل متكلم فيه وقد ضعفه أحمد . وقال ابن معين : لا بأس به . ومحمد قال البخاري : منكر الحديث وقال ابن معين ليس بشيء . وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار في مسنده : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى العيد ماشيا ويرجع في طريق غير الطريق الذي خرج منه ) وفي إسناده خالد بن إلياس ليس بالقوي كذا قال البزار . وقال ابن معين والبخاري : ليس بشيء . وقال أحمد والنسائي : متروك . وحديث أم عطية أخرجه من ذكر المصنف
( وفي الباب ) عن ابن عباس عند ابن ماجه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج بناته ونساءه في العيدين ) وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو مختلف فيه . وقد رواه الطبراني من وجه آخر
وعن جابر عند أحمد قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في العيدين ويخرج أهله ) وفي إسناده الحجاج المذكور
وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس للنساء نصيب في الخروج إلا المضطرة ليس لها خادم إلا في العيدين الأضحى والفطر ) وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك
وعن ابن عمرو بن العاص عند الطبراني أيضا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإخراج العواتق والحيض ) وفي إسناده يزيد بن شداد وعتبة بن عبد الله وهما مجهولان قاله أبو حاتم الرازي
وعن عائشة عند ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في المسند أنها قالت : ( قد كانت الكعاب تخرج لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خدرها في الفطر والأضحى ) قال العراقي : ورجاله رجال الصحيح ولكنه من رواية أبي قلابة عن عائشة . وقد قال [ ص 353 ] ابن أبو حاتم : إنها مرسلة . وفيه أن أبا قلابة أدرك علي بن أبي طالب عليه السلام . وقد قال أبو حاتم : إن أبا قلابة لا يعرف له تدليس
ولعائشة حديث آخر عند الطبراني في الأوسط قالت : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل تخرج النساء في العيدين قال : نعم قيل : فالعواتق قال : نعم فإن لم يكن لها ثوب تلبسه فلتلبس ثوب صاحبتها ) وفي إسناده مطيع بن ميمون قال ابن عدي : له حديثان غير محفوظين . قال العراقي : وله هذا الحديث فهو ثالث . وقال فيه علي بن المديني : ذاك شيخ عندنا ثقة
وعن عمرة أخت عبد الله بن رواحة عند أحمد وأبي يعلى والطبراني في الكبير : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : وجب الخروج على كل ذات نطاق ) زاد أبو يعلى يعني في العيدين وقال فيه : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو من رواية امرأة من عبد القيس عنها
والأثر الذي ذكره المصنف عن ابن عمر أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي مرفوعا وموقوفا وصحح وقفه
قوله : ( من السنة أن يخرج ماشيا ) فيه مشروعية الخروج إلى صلاة العيد والمشي إليها وترك الركوب وقد روى الترمذي ذلك عن أكثر أهل العلم . وحديث الباب وإن كان ضعيفا فما ذكرنا من الأحاديث الواردة بمعناه تقويه وهذا حسنه الترمذي . وقد استدل العراقي لاستحباب المشي في صلاة العيد بعموم حديث أبي هريرة المتفق عليه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ) فهذا عام في كل صلاة تشرع فيها الجماعة كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء . قال : وقد ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يأتي إلى صلاة العيد ماشيا فمن الصحابة عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب . ومن التابعين إبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز . ومن الأئمة سفيان الثوري والشافعي وأحمد وغيرهم . وروي عن الحسن البصري أنه كان يأتي صلاة العيد راكبا ويستحب أيضا المشي في الرجوع كما في حديث ابن عمر وسعد القرظ وروى البيهقي في حديث الحارث عن علي أنه قال : ( من السنة أن تأتي العيد ماشيا ثم تركب إذا رجعت )
قال العراقي : وهذا أمثل من حديث ابن عمر وسعد القرظ وهو الذي ذكره أصحابنا يعني الشافعية
قوله : ( وأن يأكل ) فيه استحباب الأكل قبل الخروج إلى الصلاة وهذا مختص بعيد الفطر وأما عيد النحر فيؤخر الأكل حتى يأكل من أضحيته لما سيأتي في الباب الذي بعد هذا
قوله : ( العواتق ) جمع عاتق وهي المرأة الشابة أول ما تدرك . وقيل هي التي لم تبن من والديها ولم تزوج بعد إدراكها وقال [ ص 354 ] ابن دريد : هي التي قاربت البلوغ
قوله : ( وذوات الخدور ) جمع خدر بكسر الخاء المعجمة وهو ناحية في البيت يجعل عليها ستر فتكون فيه الجارية البكر وهي المخدرة أي خدرت في الخدر
قوله : ( لا يكون لها جلباب ) الجلباب بكسر الجيم وبتكرار الموحدة وسكون اللام قيل هو الإزار والرداء وقيل الملحفة . وقيل المقنعة تغطي بها المرأة رأسها وظهرها . وقيل هو الخمار
( والحديث ) وما في معناه من الأحاديث قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها ما لم تكن معتدة أو كان في خروجها فتنة أو كان لها عذر
( وقد اختلف ) العلماء في ذلك على أقوال :
أحدها : أن ذلك مستحب وحملوا الأمر فيه على الندب ولم يفرقوا بين الشابة والعجوز وهذا قول أبي حامد من الحنابلة والجرجاني من الشافعية وهو ظاهر إطلاق الشافعي
القول الثاني : التفرقة بين الشابة والعجوز قال العراقي : وهو الذي عليه جمهور الشافعية تبعا لنص الشافعي في المختصر
والقول الثالث : أنه جائز غير مستحب لهن مطلقا وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة
والرابع : أنه مكروه وقد حكاه الترمذي عن الثوري وابن المبارك وهو قول مالك وأبي يوسف وحكاه ابن قدامة عن النخعي ويحيى بن سعيد الأنصاري . وروى ابن أبي شيبة عن النخعي أنه كره للشابة أن تخرج إلى العيد
القول الخامس : إنه حق على النساء الخروج إلى العيد حكاه القاضي عياض عن أبي بكر وعلي وابن عمر . وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعلي أنهما قالا : حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين انتهى
والقول بكراهة الخروج على الإطلاق رد للأحاديث الصحيحة بالآراء الفاسدة وتخصيص الشواب يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره
قوله : ( يكبرن مع الناس ) وكذلك قوله ( يشهدن الخير ودعوة المسلمين ) يرد ما قاله الطحاوي أن خروج النساء إلى العيد كان في صدر الإسلام لتكثير السواد ثم نسخ . وأيضا قد روى ابن عباس خروجهن بعد فتح مكة وقد أفتت به أم عطية بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمدة كما في البخاري
قوله : ( إذا غدا إلى المصلى كبر ) فيه إن صح رفعه دليل على مشروعية التكبير حال المشي إلى المصلى . وقد روى أبو بكر النجاد عن الزهري أنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج يوم الفطر فيكبر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى ) وهو عند ابن أبي شيبة عن الزهري مرسلا بلفظ : [ ص 355 ] ( فإذا قضى الصلاة قطع التكبير ) وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا : ( زينوا أعيادكم بالتكبير ) وإسناده غريب كما قال الحافظ
وقد روى البيهقي عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع صوته بالتكبير والتهليل حال خروجه إلى العيد يوم الفطر حتى يأتي المصلى ) وقد أخرجه أيضا الحاكم . قال البيهقي : وهو ضعيف . وأخرجه موقوفا على ابن عمر قال : وهذا الموقوف صحيح
قال الناصر : إن تكبير الفطر واجب لقوله تعالى { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } والأكثر على أنه سنة وهو من خروج الإمام من بيته للصلاة إلى ابتداء الخطبة عند الأكثر وسيأتي الكلام على تكبير التشريق

باب استحباب الأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى

1 - عن أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا )
- رواه أحمد والبخاري

2 - وعن بريدة رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع )
- رواه ابن ماجه والترمذي وأحمد وزاد : ( فيأكل من أضحيته )
ولمالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب : ( أن الناس كانوا يأمرون بالأكل قبل الغدو يوم الفطر )

- الحديث الأول أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم . والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان
( وفي الباب ) عن علي عند الترمذي وابن ماجه وقد تقدم . وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير والدارقطني بلفظ : ( من السنة أن لا يخرج حتى يطعم ويخرج صدقة الفطر ) وفي إسناده الحجاج ابن أرطأة وهو مختلف فيه . وفي لفظ : ( من السنة أن يطعم قبل أن يخرج ) رواه البزار . قال العراقي : وإسناده حسن . وفي لفظ : ( أن ابن عباس قال : إن استطعتم أن لا يغدو أحدكم يوم الفطر حتى يطعم فليفعل ) رواه الطبراني
وعن أبي سعيد عند أحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفطر يوم الفطر قبل الخروج ) قال العراقي : وإسناده جيد . زاد الطبراني من وجه آخر : ( ويأمر [ ص 356 ] الناس بذلك ) وعن جابر بن سمرة عند البزار في مسنده قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان يوم الفطر أكل قبل أن يخرج سبع تمرات وإذا كان يوم الأضحى لم يطعم شيئا ) وفي إسناده ناصح أبو عبد الله وهو لين الحديث وقد ضعفه ابن معين والفلاس والبخاري وأبو داود وابن حبان . وعن سعيد بن المسيب مرسلا عند مالك في الموطأ باللفظ الذي ذكره المصنف . وعن صفوان بن سليم مرسلا عند الشافعي : ( أن الرجل كان يطعم قبل أن يخرج إلى الجبانة ويأمر به ) وعن السائب بن يزيد عند ابن أبي شيبة قال : ( مضت السنة أن نأكل قبل أن نغدو يوم الفطر ) وعن رجل من الصحابة عند ابن أبي شيبة أنه كان يؤمر بالأكل يوم الفطر قبل أن نأتي المصلى
وعن ابن عمر عند العقيلي وضعفه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يغدي أصحابه من صدقة الفطر )
قوله : ( كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ) لفظ الإسماعيلي وابن حبان والحاكم : ( ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا ) وهي أصرح في المداومة على ذلك . قال المهلب : الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد فكأنه أراد سد هذه الذريعة وقال غيره : لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله سبحانه أشار إلى ذلك ابن أبي حمزة . وقال ابن قدامة : لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافا كذا في الفتح
قال الحافظ : وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود التخيير فيه . وعن النخعي أيضا مثله . قال : والحكمة في استحباب التمر فيه لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرق القلب وهو أسر من غيره ومن ثم استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا كالعسل رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما
وقد أخرج الترمذي عن سلمان : ( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور )
قوله : ( ويأكلهن وترا ) هذه الزيادة أوردها البخاري تعليقا ووصلها أحمد بن حنبل وغيره
( والحكمة ) في جعلهن وترا الإشارة إلى الوحدانية وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أموره تبركا بذلك كذا في الفتح
قوله : ( ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع ) [ ص 357 ] في رواية للترمذي : ( ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي ) ورواه أبو بكر الأثرم بلفظ : ( حتى يضحي ) وقد خصص أحمد بن حنبل استحباب تأخير الأكل في عيد الأضحى بمن له ذبح
( والحكمة ) في تأخير الفطر يوم الأضحى أنه يوم تشرع فيه الأضحية والأكل منها فشرع له أن يكون فطره على شيء منها قاله ابن قدامة . قال الزين ابن المنير : وقع أكله صلى الله عليه وآله وسلم في كل من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما بإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها

باب مخالفة الطريق في العيد والتعييد في الجامع للعذر

1 - عن جابر رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق )
- رواه البخاري

2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج فيه )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي

3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يوم العيد في طريق ثم رجع في طريق آخر )
- رواه أبو داود وابن ماجه

- حديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وقد عزاه المصنف إلى مسلم ولم نجد له موافقا على ذلك ولا رأينا الحديث في صحيح مسلم . وقد رجح البخاري في صحيحه حديث جابر المذكور في الباب على حديث أبي هريرة وقال : إنه أصح
وحديث ابن عمر رجال إسناده عند ابن ماجه ثقات . وكذلك عند أبي داود رجاله رجال الصحيح وفيه عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال . وقد أخرج له مسلم وقد رواه أيضا الحاكم
( وفي الباب ) عن أبي رافع عند ابن ماجه وقد تقدم في باب الخروج إلى العيد ماشيا . وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار في مسنده وقد تقدم أيضا هنالك
وعن بكر بن مبشر عند أبي داود قال : ( كنت أغدو مع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفطر ويوم الأضحى فنسلك بطن بطحان حتى نأتي المصلى فنصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نرجع من بطن بطحان إلى بيوتنا ) قال ابن السكن : وإسناده [ ص 358 ] صالح
وعن سعد القرظ وقد تقدم في باب الخروج إلى العيد ماشيا أيضا
وعن عبد الرحمن بن حاطب عند الطبراني في الكبير قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي العيد يذهب في طريق ويرجع في آخر ) وفي إسناده خالد بن إلياس وهو ضعيف
وعن معاذ بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن جده عند الشافعي : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع من المصلى في يوم عيد فسلك على النجارين من أسفل السوق حتى إذا كان عند مسجد الأعرج الذي هو موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج أسلم فدعا ثم انصرف ) قال الشافعي : فأحب أن يصنع الإمام مثل هذا وأن يقف في موضع فيدعو الله مستقبل القبلة . وفي إسناد الحديث إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وثقه الشافعي وضعفه الجمهور
( وأحاديث ) الباب تدل على استحباب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق والرجوع في طريق أخرى للإمام والمأموم وبه قال أكثر أهل العلم كما في الفتح
( وقد اختلف ) في الحكمة في مخالفته صلى الله عليه وآله وسلم الطريق في الذهاب والرجوع يوم العيد على أقوال كثيرة . قال الحافظ : اجتمع لي منها أكثر من عشرين قولا . قال القاضي عبد الوهاب المالكي : ذكر في ذلك فوائد بعضها قريب وأكثرها دعاوى فارغة اه قال في الفتح : فمن ذلك أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان وقيل سكانهما من الجن والإنس . وقيل ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره أو في التبرك به أو لتشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها لأنه كان معروفا بذلك . وقيل لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين فلو رجع منها لرجع إلى جهة الشمال فرجع من غيرها وهذا يحتاج إلى دليل . وقيل لإظهار شعار الإسلام فيهما . وقيل لإظهار ذكر الله تعالى وقيل ليغيظ المنافقين واليهود . وقيل ليرهبهم بكثرة من معه ورجحه ابن بطال . وقيل حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما وفيه نظر لأنه لو كان كذلك لم يكرره . قال ابن التين : وتعقب أنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبة على طريق منها معين لكن في رواية الشافعي من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلا : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم ويرجع من الطريق الآخر ) وهذا لو ثبت لقوي بحث ابن التين . وقيل فعل ذلك ليعمهم بالسرور به والتبرك بمروره ورؤيته والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعليم أو الإقتداء أو الاسترشاد أو الصدقة أو السلام عليهم أو غير ذلك وقيل ليزور أقاربه الأحياء والأموات . وقيل ليصل رحمه [ ص 359 ] وقيل للتفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا . وقيل كان في ذهابه يتصدق فإذا رجع لم يبق معه شيء فرجع من طريق آخر لئلا يرد من سأله وهذا ضعيف جدا مع احتياجه إلى الدليل . وقيل فعل ذلك لتخفيف الزحام وهذا رجحه الشيخ أبو حامد وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي من حديث ابن عمر فقال فيه ليسع الناس وتعقب بأنه ضعيف وبأن قوله يسع الناس يحتمل أن يفسر ببركته وفضله وهو الذي رجحه ابن التين . وقيل كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من التي يرجع فيها فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطا في الذهاب وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله وهذا اختيار الرافعي وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطا يكتب في الرجوع أيضا كما ثبت في حديث أبي بن كعب عند الترمذي وغيره فلو عكس ما قال لكان له اتجاه ويكون سلوك الطريق القريبة للمبادرة إلى فعل الطاعة وإدراك الفضيلة أول الوقت . وقيل إن الملائكة تقف في الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم وقال ابن أبي حمزة : هو في معنى قول يعقوب لبنيه { لا تدخلوا من باب واحد } وأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين . وأشار صاحب الهدى إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة انتهى كلام الفتح

4 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أنهم أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العيد في المسجد )
- رواه أبو داود وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم وسكت عنه أبو داود والمنذري وقال في التلخيص : إسناده ضعيف انتهى وفي إسناده رجل مجهول وهو عيسى بن عبد الأعلى بن أبي فروة الفروي المدني قال فيه الذهبي في الميزان : لا يكاد يعرف وقال : هذا حديث منكر وقال ابن القطان : لا أعلم عيسى هذا مذكورا في شيء من كتب الرجال ولا في غير هذا الإسناد
( الحديث ) يدل على أن ترك الخروج إلى الجبانة وفعل الصلاة في المسجد عند عروض عذر المطر غير مكروه وقد اختلف هل الأفضل فعل صلاة العيد في المسجد أو الجبانة فذهبت العترة ومالك إلى أن الخروج إلى الجبانة أفضل واستدلوا على ذلك بما ثبت من مواظبته صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج إلى الصحراء وذهب الشافعي والإمام يحيى وغيرهما إلى أن المسجد أفضل . قال في الفتح : قال الشافعي في الأم : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة وهكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه وكذا عامة أهل البلدان إلا أهل مكة ثم أشار الشافعي [ ص 360 ] إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة قال : فلو عمر بلد وكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه فإن لم يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة . قال الحافظ : ومقتضى هذا أن العلة تدور على الضيق والسعة لا لذات الخروج إلى الصحراء لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع فإذا حصل في المسجد مع أولويته كان أولى انتهى
وفيه أن كون العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج إلى الجبانة بعد الاعتراف بمواظبته صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك . وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجبانة لضيق أطراف مكة لا للسعة في مسجدها

باب وقت صلاة العيد

1 - عن عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنه خرج مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام وقال : إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح )
- رواه أبو داود وابن ماجه

2 - وللشافعي في حديث مرسل : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجل الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس )

- الحديث الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده عن أبي داود ثقات
والحديث الثاني رواه الشافعي عن شيخه إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث وهو كما قال المصنف مرسل وإبراهيم بن محمد ضعيف عند الجمهور كما تقدم . وقال البيهقي : لم أر له أصلا في حديث عمرو بن حزم
( وفي الباب ) عن جندب عند أحمد بن حسن البناء في كتاب الأضاحي قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح ) أورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه
قوله : ( حين التسبيح ) قال ابن رسلان : يشبه أن يكون شاهدا على جواز حذف اسمين مضافين والتقدير وذلك حين وقت صلاة التسبيح كقوله تعالى { فإنها من تقوى القلوب } أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب وقوله [ ص 361 ] ( فقبضت قبضة من أثر الرسول ) أي من أثر حافر فرس الرسول . وقوله ( حين التسبيح ) يعني ذلك الحين حين وقت صلاة العيد فدل ذلك على أن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم انتهى
وحديث عبد الله بن بسر يدل على مشروعية التعجيل لصلاة العيد وكراهة تأخيرها تأخيرا زائدا على الميعاد
وحديث عمرو بن حزم يدل على مشروعية تعجيل الأضحى وتأخير الفطر ولعل الحكمة في ذلك ما تقدم من استحباب الإمساك في صلاة الأضحى حتى يفرغ من الصلاة فإنه ربما كان ترك التعجيل لصلاة الأضحى مما يتأذى به منتظر الصلاة لذلك وأيضا فإنه يعود إلى الاشتغال بالذبح لأضحيته بخلاف عيد الفطر فإنه لا إمساك ولا ذبيحة
وأحسن ما ورد من الأحاديث في تعيين وقت صلاة العيدين حديث جندب المتقدم . قال في البحر : وهي من بعد انبساط الشمس إلى الزوال ولا أعرف فيه خلافا انتهى

باب صلاة العيد قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة وما يقرأ فيها

1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة )
- رواه الجماعة إلا أبا داود

- وفي الباب عن جابر عند البخاري ومسلم وأبي داود قال : ( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفطر فصلى قبل الخطبة )
وعن ابن عباس عند الجماعة إلا الترمذي قال : ( شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة ) وفي لفظ : ( أشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصلى قبل الخطبة )
وعن أنس عند البخاري ومسلم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوم النحر ثم خطب )
وعن البراء عند البخاري ومسلم وأبي داود قال : خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة )
وعن جندب عند البخاري ومسلم قال : ( صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح )
وعن أبي سعيد عند البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أضحى أو فطر إلى المصلى فصلى ثم انصرف فقام فوعظ الناس ) الحديث
وعن عبد الله بن السائب عند أبي داود والنسائي وابن ماجه قال : ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العيد فلما قضى الصلاة [ ص 362 ] قال : إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب ) قال أبو داود : وهو مرسل . وقال النسائي : هذا خطأ والصواب مرسل
وعن عبد الله ابن الزبير عند أحمد أنه قال : ( حين صلى قبل الخطبة ثم قام يخطب أيها الناس كل سنة الله وسنة رسوله ) قال العراقي : وإسناده جيد
( وأحاديث ) الباب تدل على أن المشروع في صلاة العيد تقديم الصلاة على الخطبة قال القاضي عياض : هذا هو المتفق عليه بين علماء الأمصار وأئمة الفتوى ولا خلاف بين أئمتهم فيه وهو فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده إلا ما روي أن عمر في شطر خلافته الآخر قدم الخطبة لأنه رأى من الناس من تفوته الصلاة وليس بصحيح ثم قال : وقد فعله ابن الزبير في آخر أيامه
وقال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافا بين المسلمين إلا عن بني أمية قال : وعن ابن عباس وابن الزبير أنهما فعلاه ولم يصح عنهما قال : ولا يعتد بخلاف بني أمية لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم ومخالف لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحيحة
وقد أنكر عليهم فعلهم وعد بدعة ومخالفا للسنة . وقال العراقي : إن تقديم الصلاة على الخطبة قول العلماء كافة وقال : إن ما روي عن عمر وعثمان وابن الزبير لم يصح عنهم أما رواية ذلك عن عمر فرواها ابن أبي شيبة أنه لما كان عمر وكثر الناس في زمانه فكان إذا ذهب ليخطب ذهب أكثر الناس فلما رأى ذلك بدأ بالخطبة وختم بالصلاة قال : وهذا الأثر وإن كان رجاله ثقات فهو شاذ مخالف لما ثبت في الصحيحين عن عمر من رواية ابنه عبد الله وابن عباس وروايتهما عنه أولى قال : وأما رواية ذلك عن عثمان فلم أجد لها إسنادا
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي : يقال إن أول من قدمها عثمان وهو كذب لا يلتفتون إليه انتهى . ويرده ما ثبت في الصحيحين من رواية ابن عباس عن عثمان كما تقدم . وقال الحافظ في الفتح : إنه روى ابن المنذر ذلك عن عثمان بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال : أول من خطب الناس قبل الصلاة عثمان . قال الحافظ : ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانا وقال بعد أن ساق الرواية المتقدمة عن عمر وعزاها إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وصحح إسنادها : إنه يحمل على أن ذلك وقع منه نادرا
قال العراقي : وأما فعل ابن الزبير فرواه ابن أبي شيبة في المصنف وإنما فعل ذلك لأمر وقع بينه وبين ابن عباس ولعل ابن الزبير كان يرى ذلك جائزا وقد تقدم عن ابن الزبير أنه صلى قبل الخطبة وثبت في صحيح مسلم عن عطاء أن ابن [ ص 363 ] عباس أرسل إلى ابن الزبير أول ما بويع له أنه لم يكن يؤذن للصلاة يوم الفطر فلا تؤذن لها قال : فلم يؤذن لها ابن الزبير يومه وأرسل إليه مع ذلك إنما الخطبة بعد الصلاة وأن ذلك قد كان يفعل قال : فصلى ابن الزبير قبل الخطبة . قال الترمذي : ويقال إن أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم انتهى . وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان . وقيل أول من فعل ذلك معاوية حكاه القاضي عياض وأخرجه الشافعي عن ابن عباس بلفظ : ( حتى قدم معاوية فقدم الخطبة ) ورواه عبد الرزاق عن الزهري بلفظ : ( أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية ) وقيل أول من فعل ذلك زياد بالبصرة في خلافة معاوية حكاه القاضي عياض أيضا
وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة قال : ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان لأن كلا من مروان وزياد كان عاملا لمعاوية فيحمل على أنه ابتدأ ذلك وتبعه عماله
قال العراقي : الصواب أن أول من فعله مروان بالمدينة في خلافة معاوية كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : ولم يصح فعله عن أحد من الصحابة لا عمر ولا عثمان ولا معاوية ولا ابن الزبير انتهى . وقد عرفت صحة بعض ذلك فالمصير إلى الجمع أولى . وقد اختلف في صحة صلاة العيدين مع تقدم الخطبة ففي مختصر المزني عن الشافعي ما يدل على عدم الاعتداد بها . وكذا قال النووي في شرح المهذب إن ظاهر نص الشافعي أنه لا يعتد بها قال وهو الصواب

2 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم العيد غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي

3 - وعن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم قالا : ( لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى )
- متفق عليه . ولمسلم عن عطاء قال أخبرني جابر ( أن لا أذان لصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج ولا إقامة ولا نداء ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة )

- وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص عند البزار في مسنده : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة وكان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة )
وعن البراء بن عازب عند الطبراني في الأوسط : ( أن رسول الله صلى الله [ ص 364 ] عليه وآله وسلم صلى في يوم الأضحى بغير أذان ولا إقامة )
وعن أبي رافع عند الطبراني في الكبير : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى العيد ماشيا بغير أذان ولا إقامة ) وفي إسناده مندل وفيه مقال قد تقدم
( وأحاديث الباب ) تدل على عدم شرعية الأذان والإقامة في صلاة العيدين . قال العراقي : وعليه عمل العلماء كافة . وقال ابن قدامة في المغني : ولا نعلم في هذا خلافا ممن يعتد بخلافه إلا أنه روي عن ابن الزبير أنه أذن وأقام قال : وقيل إن أول من أذن في العيدين زياد . انتهى
وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح عن ابن المسيب قال : أول من أحدث الأذان في العيد معاوية وقد زعم ابن العربي أنه رواه عن معاوية من لا يوثق به
قوله : ( لا إقامة ولا نداء ولا شيء ) فيه أنه لا يقال أمام صلاة العيد شيء من الكلام لكن روى الشافعي عن الزهري قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر المؤذن في العيدين فيقول الصلاة جامعة ) قال في الفتح : وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها انتهى . وأخرج هذا الحديث البيهقي من طريق الشافعي

4 - وعن سمرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في العيدين بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية )
- رواه أحمد

5 - ولابن ماجه من حديث ابن عباس وحديث النعمان بن بشير مثله وقد سبق حديث النعمان لغيره في الجمعة . وعن أبي واقد الليثي : ( وسأله عمر ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأضحى والفطر فقال : كان يقرأ فيهما بق والقرآن المجيد واقتربت الساعة )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- حديث سمرة أخرجه أيضا ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير . والحديث عند أبي داود والنسائي إلا أنهما قالا الجمعة بدل العيد
وحديث ابن عباس الذي أشار إليه المصنف لفظه كلفظ حديث سمرة وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف . ولابن عباس حديث آخر عند البزار في مسنده : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في العيدين بعم يتساءلون وبالشمس وضحاها ) وفي إسناده أيوب بن سيار قال فيه ابن معين : ليس بشيء وقال ابن المديني والجوزجاني : ليس بثقة وقال النسائي : متروك . ولابن عباس أيضا حديث ثالث عند أحمد قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العيدين ركعتين لا يقرأ فيهما إلا بأم الكتاب لم يزد [ ص 365 ] عليها شيئا ) وفي إسناده شهر بن حوشب وهو مختلف فيه
وحديث النعمان الذي أشار إليه المصنف أيضا في باب ما يقرأ في صلاة الجمعة وقد تقدم حديث النعمان هذا لسمرة بن جندب في الجمعة في الباب المذكور بدون ذكر العيدين . وحديث أبي واقد أخرجه من ذكرهم المصنف
( وفي الباب ) عن أنس عند ابن أبي شيبة في المصنف عن مولى لأنس قد سماه قال : ( انتهيت مع أنس يوم العيد حتى انتهينا إلى الزاوية فإذا مولى له يقرأ في العيد بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية فقال أنس : إنهما للسورتان اللتان قرأ بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
وعن عائشة عند الطبراني في الكبير والدارقطني : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس يوم الفطر والأضحى فكبر في الركعة الأولى سبعا وقرأ { ق والقرآن المجيد } وفي الثانية خمسا وقرأ { اقتربت الساعة وانشق القمر } ) وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور
وأكثر أحاديث الباب تدل على استحباب القراءة في العيدين بسبح اسم ربك الأعلى والغاشية وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل وذهب الشافعي إلى استحباب القراءة فيهما بق واقتربت لحديث أبي واقد واستحب ابن مسعود القراءة فيهما بأوساط المفصل من غير تقييد بسورتين معينتين
وقال أبو حنيفة والهادوية : ليس فيه شيء مؤقت . وروى ابن أبي شيبة أن أبا بكر قرأ في يوم عيد بالبقرة حتى رأيت الشيخ يمتد من طول القيام . وقد جمع النووي بين الأحاديث فقال : كان في وقت يقرأ في العيدين بق واقتربت وفي وقت بسبح وهل أتاك وقد سبقه إلى مثل ذلك الشافعي
( ووجه الحكمة ) في القراءة في العيدين بالسور المذكورة أن في سورة سبح الحث على الصلاة وزكاة الفطر على ما قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في تفسير قوله تعالى { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } فاختصت الفضيلة بها كاختصاص الجمعة بسورتها . وأما الغاشية فللموالاة بين سبح وبينها كما بين الجمعة والمنافقين . وأما سورة ق واقتربت فنقل النووي في شرح مسلم عن العلماء أن ذلك لما اشتملتا عليه من الأخبار بالبعث والأخبار عن القرون الماضية وإهلاك المكذبين وتشبيه بروز الناس في العيد ببرزوهم في البعث وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر
وقد استشكل بعضهم سؤال عمر لأبي واقد الليثي عن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العيد مع ملازمة عمر ( 1 ) له في الأعياد وغيرها . قال النووي : قالوا يحتمل أن عمر شك في ذلك فاستثبته أو أراد إعلام الناس بذلك أو نحو ذلك . قال العراقي : [ ص 366 ] ويحتمل أن عمر كان غائبا في بعض الأعياد عن شهوده وأن ذلك الذي شهده أبو واقد كان في عيد واحد أو أكثر قال ولا عجب أن يخفى على الصاحب الملازم بعض ما وقع من مصحوبه كما في قصة الاستئذان ثلاثا . وقول عمر خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألهاني الصفق بالأسواق انتهى
_________
( 1 ) [ في الأصل تكرار لقوله " لأبي واقد الليثي عن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العيد مع ملازمة عمر " وقد تم حذف التكرار كما هو في النص أعلاه . نظام سبعة . ]

باب عدد التكبيرات في صلاة العيد ومحلها

1 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعا في الأولى وخمسا في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها )
- رواه أحمد وابن ماجه . وقال أحمد : أنا أذهب إلى هذا . وفي رواية : قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما ) رواه أبو داود والدارقطني

2 - وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة )
- رواه الترمذي وقال : هو أحسن شيء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ورواه ابن ماجه ولم يذكر القراءة لكنه رواه وفيه القراءة كما سبق من حديث سعد المؤذن

- حديث عمرو بن شعيب قال العراقي : إسناده صالح . ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال : إنه حديث صحيح
وحديث عمرو بن عوف أخرجه أيضا الدارقطني وابن عدي والبيهقي وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال الشافعي وأبو داود : إنه ركن من أركان الكذب . وقال ابن حبان : له نسخة موضوعة عن أبيه عن جده وقد تقدم الكلام عليه . قال الحافظ في التلخيص : وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي وأجاب النووي في الخلاصة عن الترمذي في تحسينه فقال : لعله اعتضد بشواهد وغيرها انتهى . قال العراقي : والترمذي إنما تبع في ذلك البخاري فقد قال في كتاب العلل المفردة : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : ليس في هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول انتهى
وحديث سعد المؤذن وهو سعد القرظ أخرجه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن رسول [ ص 367 ] الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أبيه عن جده : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الآخرة خمسا قبل القراءة ) قال العراقي : وفي إسناده ضعف
( وفي الباب ) عن أبي موسى الأشعري وحذيفة عند أبي داود أن سعيد بن العاص سألهما كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكبر في الأضحى والفطر فقال أبو موسى : كان يكبر أربعا تكبيره على الجنازة فقال حذيفة : صدق قال البيهقي : خولف راويه في موضعين في رفعه وفي جواب أبي موسى والمشهور أنهم أسندوه إلى ابن مسعود فأفتاهم بذلك ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وعن عبد الرحمن بن عوف عند البزار في مسنده قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج له العنزة في العيدين حتى يصلي إليها فكان يكبر ثلاث عشرة تكبيرة وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك ) وفي إسناده الحسن البجلي وهو لين الحديث . وقد صحح الدارقطني إرسال هذا الحديث
وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة في الأولى سبعا وفي الآخرة خمسا ) وفي إسناده سليمان بن أرقم وهو ضعيف
وعن جابر عند البيهقي قال : ( مضت السنة أن يكبر للصلاة في العيدين سبعا وخمسا )
وعن ابن عمر عند البزار والدارقطني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : التكبير في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات وفي الآخرة خمس تكبيرات ) وفي إسناده فرج بن فضالة وثقه أحمد وقال البخاري ومسلم : منكر الحديث
وعن عائشة عند أبي داود : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس تكبيرات ) وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف . وذكر الترمذي في كتاب العلل أن البخاري ضعف هذا الحديث وزاد ابن وهب في هذا الحديث ( سوى تكبيرتي الركوع ) وزاد إسحاق ( سوى تكبيرة الافتتاح ) ورواه الدارقطني أيضا
( وقد اختلف ) العلماء في عدد التكبيرات في صلاة العيد في الركعتين وفي موضع التكبير على عشرة أقوال :
أحدها : أنه يكبر في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة . قال العراقي : وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة قال : وهو مروي عن [ ص 368 ] عمر وعلي وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وزيد بن ثابت وعائشة وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وعمر بن عبد العزيز والزهري ومكحول وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق قال الشافعي والأوزاعي وإسحاق وأبو طالب وأبو العباس : إن السبع في الأولى بعد تكبيرة الإحرام
القول الثاني : أن تكبيرة الإحرام معدودة من السبع في الأولى وهو قول مالك وأحمد والمزني وهو قول المنتخب
القول الثالث : إن التكبير في الأولى سبع وفي الثانية سبع روي ذلك عن أنس بن مالك والمغيرة بن شعبة وابن عباس وسعيد بن المسيب والنخعي
القول الرابع : في الأولى ثلاث بعد تكبيرة الإحرام قبل القراءة وفي الثانية ثلاث بعد القراءة وهو مروي عن جماعة من الصحابة ابن مسعود وأبي موسى وأبي مسعود الأنصاري وهو قول الثوري وأبي حنيفة
والقول الخامس : يكبر في الأولى ستا بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة وفي الثانية خمسا بعد القراءة وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل ورواه صاحب البحر عن مالك
القول السادس : يكبر في الأولى أربعا غير تكبيرة الإحرام وفي الثانية أربعا وهو قول محمد بن سيرين وروى عن الحسن ومسروق والأسود والشعبي وأبي قلابة وحكاه صاحب البحر عن ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن العاص
القول السابع : كالقول الأول إلا أنه يقرأ في الأولى بعد التكبير ويكبر في الثانية بعد القراءة حكاه في البحر عن القاسم والناصر
القول الثامن : التفرقة بين عيد الفطر والأضحى يكبر في الفطر إحدى عشرة ستا في الأولى وخمسا في الثانية وفي الأضحى ثلاثا في الأولى وثنتين في الثانية وهو مروي عن علي بن أبي طالب كما في مصنف ابن أبي شيبة ولكنه من رواية الحارث الأعور عنه
القول التاسع : التفرقة بينهما على وجه آخر وهو أن يكبر في الفطر إحدى عشرة تكبيرة وفي الأضحى تسعا وهو مروي عن يحيى بن يعمر
القول العاشر : كالقول الأول إلا أن محل التكبير يعد القراءة وإليه ذهب الهادي والمؤيد بالله وأبو طالب
( احتج أهل القول الأول ) بما في الباب من الأحاديث المصرحة بعدد التكبير وكونه قبل القراءة . قال ابن عبد البر : وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق حسان أنه كبر في العيدين سبعا في الأولى وخمسا في الثانية من حديث عبد الله بن عمرو وابن عمرو وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا وهو أولى ما عمل به انتهى
وقد تقدم في حديث عائشة عند الدارقطني سوى [ ص 369 ] تكبيرة الافتتاح وعند أبي داود سوى تكبيرتي الركوع وهو دليل لمن قال إن السبع لا تعد فيها تكبيرة الافتتاح والركوع والخمس لا تعد فيها تكبيرة الركوع
( واحتج أهل القول الثاني ) بإطلاق الأحاديث المذكورة في الباب وأجابوا عن حديث عائشة بأنه ضعيف كما تقدم
وأما أهل القول الثالث فلم أقف لهم على حجة . قال العراقي : لعلهم أرادوا بتكبيرة القيام من الركعة الأولى وتكبيرة الركوع في الثانية وفيه بعد انتهى
( واحتج أهل القول الرابع ) بحديث أبي موسى وحذيفة المتقدم وفتيا ابن عباس السابقة قالوا لأن الأربع المذكورة في الحديث جعلت تكبيرة الإحرام منها وهذا التأويل لا يجري في الثانية وقد تقدم ما في حديث أبي موسى وصرح الخطابي بأنه ضعيف ولم يبين وجه الضعف وضعفه البيهقي في المعرفة بعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وقد ضعف ثابتا يحيى بن معين وضعفه غير واحد بأن راويه عن أبي موسى هو أبو عائشة ولا يعرف ولا نعرف اسمه . ورواه البيهقي من رواية مكحول عن رسول أبي موسى وحذيفة عنهما . قال البيهقي : هذا الرسول مجهول
ولم يحتج أهل القول الخامس بما يصلح للاحتجاج
( واحتج أهل القول السادس ) بحديث أبي موسى وحذيفة المتقدم وقد تقدم ما فيه
( واحتج أهل القول السابع ) بما روي عن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والى بين القراءتين في صلاة العيد ) ذكر هذا الحديث في الانتصار ولم أجده في شيء من كتب الحديث
( واحتج أهل القول الثامن ) على التفرقة بين عيد الفطر والأضحى بما تقدم من رواية ذلك عن علي وهو مع كونه غير مرفوع في إسناده الحارث الأعور وهو ممن لا يحتج به
وأما القول التاسع فلم يأت القائل به بحجة
( واحتج أهل القول العاشر ) بما ذكره في البحر من أن ذلك ثابت في رواية لابن عمر وثابت من فعل علي عليه السلام ولا أدري ما هذه الرواية التي عن ابن عمر وقد ذكر في الانتصار الدليل على هذا القول فقال : والحجة على هذا ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كبر سبعا في الأولى وخمسا في الثانية القراءة قبلهما كلاهما وهو عكس الرواية التي ذكرها المصنف عنه وذكرها غيره فينظر هل وافق صاحب الانتصار على ذلك أحد من أهل هذا الشأن فإني لم أقف على شيء من ذلك مع أن الثابت في أصل الانتصار لفظ بعدهما مكان قبلهما [ ص 370 ] ولكنه وقع التضبيب على الأصل في حاشية بلفظ قبلهما فلا مخالفة حينئذ
( وأرجح هذه الأقوال ) أولها في عدد التكبير وفي محل القراءة . وقد وقع الخلاف هل المشروع الموالاة بين تكبيرات صلاة العيد أو الفصل بينها بشيء من التحميد والتسبيح ونحو ذلك فذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعي إلى أنه يوالي بينها كالتسبيح في الركوع والسجود قالوا : لأنه لو كان بينها ذكر مشروع لنقل كما نقل التكبير
وقال الشافعي : إنه يقف بين كل تكبيرتين يهلل ويمجد ويكبر واختلف أصحابه فيما يقوله بين التكبيرتين فقال الأكثرون : يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال بعضهم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وقيل غير ذلك
وقال الهادي وبعض أصحاب الشافعي : إنه يفصل بينها يقول الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا
وقال الناصر والمؤيد بالله والإمام يحيى : إنه يقول لا إله إلا الله إلى آخر الدعاء الطويل الذي رواه الأمير الحسين قال في الشفاء عن علي عليه السلام وروى في البحر عن مالك أنه يفصل بالسكوت
وقد اختلف في حكم تكبير العيدين فقالت الهادوية إنه فرض وذهب من عداهم إلى أنه سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا . قال ابن قدامة : ولا أعلم فيه خلافا قالوا وإن تركه لا يسجد للسهو . وروي عن أبي حنيفة ومالك أنه يسجد للسهو والظاهر عدم وجوب التكبير كما ذهب إليه الجمهور لعدم وجدان دليل يدل عليه

باب لا صلاة قبل العيد ولا بعدها

1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما )
- رواه الجماعة وزادوا إلا الترمذي وابن ماجه : ( ثم أتى النسائي وبلال معهن فأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تصدق بخرصها وسخابها )

2 - وعن ابن عمر رضي الله عنه : ( أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها ولا بعدها وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله )
- رواه أحمد والترمذي وصححه . وللبخاري عن ابن عباس أنه كره الصلاة قبل العيد

3 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لا يصلي قبل العيد شيئا فإذا رجع [ ص 371 ] إلى منزله صلى ركعتين )
- رواه ابن ماجه وأحمد بمعناه

- حديث ابن عمر أخرجه أيضا الحاكم وهو صحيح كما قال الترمذي وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط وفيها جابر الجعفي وهو متروك . وحديث أبي سعيد أخرجه أيضا الحاكم وصححه وحسنه الحافظ في الفتح وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال
( وفي الباب ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند ابن ماجه بنحو حديث ابن عباس . وعن علي عند البزار من طريق الوليد بن سريع مولى عمرو بن حريث قال : ( خرجنا مع أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب في يوم عيد فسأله قوم من أصحابه عن الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها فلم يرد عليهم شيئا ثم جاء قوم فسألوه فما رد عليهم شيئا فلما انتهينا إلى الصلاة فصلى بالناس فكبر سبعا وخمسا ثم خطب الناس ثم نزل فركب فقالوا : يا أمير المؤمنين هؤلاء قوم يصلون قال : فما عسيت أن أصنع سألتموني عن السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها فمن شاء فعل ومن شاء ترك أتروني أمنع قوما يصلون فأكون بمنزلة من منع عبدا إذا صلى )
قال العراقي : وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن النعمان الجعفي لم أقف على حاله وباقي رجاله ثقات
وعن ابن مسعود عند الطبراني في الكبير قال : ( ليس من السنة الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد ) ورجاله ثقات
وعن كعب بن عجرة عند الطبراني في الكبير أيضا من طريق عبد الملك بن كعب بن عجرة قال : ( خرجت مع كعب بن عجرة يوم العيد إلى المصلى فجلس قبل أن يأتي الإمام ولم يصل حتى انصرف الإمام والناس ذاهبون كأنهم عنق نحو المسجد فقلت : ألا ترى فقال : هذه بدعة وترك للسنة ) وفي رواية له : ( أن كثيرا مما يرى جفاء وقلة علم أن هاتين الركعتين سبحة هذا اليوم حتى تكون الصلاة تدعوك ) وإسناده جيد كما قال العراقي
وعن ابن أبي أوفى عند الطبراني في الكبير أيضا أنه أخبر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل قبل العيد ولا بعدها ) وفي إسناده قائد أبي الورقاء وهو متروك
قوله : ( لم يصل قبلها ولا بعدها ) فيه وفي بقية أحاديث الباب دليل على كراهة الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل قال ابن قدامة : وهو مذهب ابن عباس وابن عمر قال : وروي ذلك عن علي وابن مسعود وحذيفة وبريدة وسلمة بن الأكوع وجابر وابن أبي أوفى . وقال به شريح وعبد الله بن مغفل ومسروق والضحاك والقاسم وسالم ومعمر وابن جريج والشعبي ومالك [ ص 372 ] وروي عن مالك أنه قال : لا يتطوع في المصلى قبلها ولا بعدها وله في المسجد روايتان
وقال الزهري : لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر أن أحدا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها
قال ابن قدامة : وهو إجماع كما ذكرنا عن الزهري وعن غيره انتهى . ويرد دعوى الإجماع ما حكاه الترمذي عن طائفة من أهل العلم من الصحابة وغيرهم أنهم رأوا جواز الصلاة قبل العيد وبعدها وروى ذلك العراقي عن أنس بن مالك وبريدة بن الحصيب ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن مسعود وعلي ابن أبي طالب وأبي برزة قال : وبه قال من التابعين إبراهيم النخعي وسعيد ابن جبير والأسود بن يزيد وجابر بن زيد والحسن البصري وأخوه سعيد بن أبي الحسن وسعيد بن المسيب وصفوان بن محرز وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعروة ابن الزبير وعلقمة والقاسم بن محمد ومحمد بن سيرين ومكحول وأبو بردة ثم ذكر من روى ذلك عن الصحابة المذكورين من أئمة الحديث قال : وأما أقوال التابعين فرواها ابن أبي شيبة وبعضها في المعرفة للبيهقي انتهى
ومما يدل على فساد دعوى ذلك الإجماع ما رواه ابن المنذر عن أحمد أنه قال الكوفيون يصلون بعدها لا قبلها والبصريون يصلون قبلها لا بعدها والمدنيون لا قبلها ولا بعدها . قال في الفتح : وبالأول قال الأوزاعي والثوري والحنفية وبالثاني قال الحسن البصري وجماعة وبالثالث قال الزهري وابن جريج وأحمد وأما مالك فمنعه في المصلى وعنه في المسجد روايتان انتهى
وحمل الشافعي أحاديث الباب على الإمام قال : فلا يتنفل قبلها ولا بعدها وأما المأموم فمخالف له في ذلك نقل ذلك عنه البيهقي في المعرفة وهو نصه في الأم . وقال النووي في شرح مسلم : قال الشافعي وجماعة من السلف : لا كراهة في الصلاة قبلها ولا بعدها قال الحافظ : إن حمل كلامه على المأموم وإلا فهو مخالف لنص الشافعي
( وقد أجاب القائلون ) بعدم كراهة الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها عن أحاديث الباب بأجوبة منها جواب الشافعي المتقدم . ومنها ما قاله العراقي في شرح الترمذي من أنه ليس فيها نهي عن الصلاة في هذه الأوقات ولكن لما كان صلى الله عليه وآله وسلم يتأخر مجيئه إلى الوقت الذي يصلي بهم فيه ويرجع عقب الخطبة روى عنه من روى من أصحابه أنه كان لا يصلي قبلها ولا بعدها ولا يلزم من تركه لذلك لاشتغاله بما هو مشروع في حقه من التأخر إلى وقت الصلاة أن غيره لا يشرع ذلك له ولا يستحب فقد روى عنه غير واحد من الصحابة أنه صلى الله [ ص 373 ] عليه وآله وسلم لم يكن يصلي الضحى وصح ذلك عنهم وكذلك لم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى سنة الجمعة قبلها لأنه إنما كان يؤذن للجمعة بين يديه وهو على المنبر
قال البيهقي : يوم العيد كسائر الأيام والصلاة مباحة إذا ارتفعت الشمس حيث كان المصلى ويدل على عدم الكراهة حديث أبي ذر قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الصلاة خير موضوع فمن شاء استكثر ومن شاء استقل ) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في صحيحه
قال الحافظ في الفتح : والحاصل أن صلاة العيد لم تثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافا لمن قاسها على الجمعة وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة في جميع الأيام انتهى
وكذا قال العراقي في شرح الترمذي وهو كلام صحيح جار على مقتضى الأدلة فليس في الباب ما يدل على منع مطلق النفل ولا على منع ما ورد فيه دليل يخصه كتحية المسجد إذا أقيمت صلاة العيد في المسجد وقد قدمنا الإشارة إلى مثل هذا في باب تحية المسجد نعم في التلخيص ما لفظه : وروى أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : ( لا صلاة يوم العيد قبلها ولا بعدها ) فإن صح هذا كان دليلا على المنع مطلقا لأنه نفى في قوة النهي وقد سكت عليه الحافظ فينظر فيه
قوله : ( فجعلت المرأة ) المراد بالمرأة جنس النساء
قوله : ( تصدق بخرصها ) هو الحلقة الصغيرة من الحلي . وفي القاموس الخرص بالضم ويكسر حلقة الذهب والفضة أو حلقة القرط أو الحلقة الصغيرة من الحلي انتهى
قوله : ( وسخابها ) بسين مهملة مكسورة بعدها خاء معجمة وهو خيط تنظم فيه الخرزات . وفي القاموس أن السخاب ككتاب قلادة من سك وقرنفل ومحلب بلا جوهر انتهى
ولهذا الحديث ألفاظ مختلفة وفيه استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن واستحباب حثهن على الصدقة وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد

باب خطبة العيد وأحكامها

1 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل [ ص 374 ] الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم وإن كان يريد أن يقطع بعثا أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف )
- متفق عليه

- قوله : ( إلى المصلى ) هو موضع بالمدينة معروف قال في الفتح : بينه وبين باب المسجد ألف ذراع قاله عمر بن شبة في أخبار المدينة عن أبي غسان الكتاني صاحب مالك
قوله : ( وأول شيء يبدأ به الصلاة ) فيه أن السنة تقديم الصلاة على الخطبة وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا
قوله : ( ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس ) في رواية ابن حبان : ( فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه ) ولابن خزيمة في رواية مختصرة : ( خطب يوم عيد على رجليه )
قوله : ( فيعظهم ويوصيهم ) فيه استحباب الوعظ والتوصية في خطبة العيد . قوله : ( وإن كان يريد أن يقطع بعثا ) أي يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات
وهذا الحديث يدل على أنه لم يكن في المصلى في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم منبر ويدل على ذلك ما عند البخاري وغيره في هذا الحديث أن أبا سعيد قال : فلم تزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى إذ منبر بناه كثير بن الصلت . الحديث

2 - وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال : ( أخرج مروان المنبر في يوم عيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال : يا مروان خالفت السنة أخرجت المنبر في يوم عيد ولم يكن يخرج فيه وبدأت بالخطبة قبل الصلاة فقال أبو سعيد : أما هذا فقد أدى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من رأى منكرا فإن استطاع أن يغيره فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه

- قوله : ( أخرج مروان المنبر ) الخ هذا يؤيد ما مر من أن مروان أول من فعل ذلك ووقع في المدونة لمالك . ورواه عمر بن شبة عن أبي غسان عنه قال : ( أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان ) قال الحافظ : يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان
قوله : ( فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ) قد قدمنا الكلام على هذا في باب صلاة العيد قبل الخطبة . وقد اعتذر مروان عن فعله لما قال له أبو سعيد غيرتم والله كما في البخاري بقوله إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبلها . قال في الفتح : وهذا يشعر بأن مروان فعل ذلك باجتهاد منه . وقال في موضع [ ص 375 ] آخر : لكن قيل إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع الخطبة لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه
قوله : ( فقام رجل ) في المهمات أنه عمارة بن رؤيبة . وقال في الفتح : يحتمل أن يكون هو أبا مسعود كما في رواية عبد الرزاق . وفي البخاري ومسلم أن أبا مسعود أنكر على مروان أيضا فيمكن أن يكون الإنكار من أبي سعيد وقع في أول الأمر ثم تعقبه الإنكار من الرجل المذكور
ويؤيد ذلك ما عند البخاري في حديث أبي سعيد بلفظ : ( فإذا مروان يريد أن يرتقيه يعني المنبر قبل أن يصلي فجذبت بثوبه فجذبني فارتفع فخطب فقلت له : غيرتم والله فقال : يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم ) وفي مسلم : ( فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة فلما رأيت ذلك منه قلت : أين الابتداء بالصلاة فقال : لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم فقلت : كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ثلاث مرات ثم انصرف )
والحديث فيه مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد إن استطاع ذلك وإلا فباللسان وإلا فبالقلب وليس وراء ذلك من الإيمان شيء

3 - وعن جابر رضي الله عنه قال : ( شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن )
- رواه مسلم والنسائي . وفي لفظ لمسلم : ( فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن )

- الحديث فيه تقديم صلاة العيد على الخطبة وترك الأذان والإقامة لصلاة العيد وقد تقدم بسط ذلك وفيه استحباب الوعظ والتذكير في خطبة العيد واستحباب وعظ النساء وتذكيرهن وحثهن على الصدقة إذا لم يترتب على ذلك مفسدة وخوف فتنة على الواعظ أو الموعوظ أو غيرهما وفيه أيضا تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال لأن الاختلاط ربما كان سببا للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره
قوله : ( فلما فرغ نزل ) قال القاضي عياض : هذا النزول كان في أثناء الخطبة . قال النووي : وليس كما قال إنما نزل إليهن بعد خطبة العيد وبعد انقضاء وعظ الرجال وقد ذكره مسلم صريحا في حديث جابر كما في اللفظ الذي أورده المصنف وهو صريح أنه [ ص 376 ] أتاهن بعد فراغ خطبة الرجال . قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله ( نزل ) يدل على أن خطبته كانت على شيء عال انتهى

4 - وعن سعد المؤذن رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر بين أضعاف الخطبة يكثر التكبير في خطبة العيدين )
- رواه ابن ماجه

5 - وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنه قال : ( السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس )
- رواه الشافعي

- الحديث الأول هو من رواية عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤذن عن أبيه عن جده وعبد الرحمن ضعيف . وقد أخرج نحوه البيهقي من حديث عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة قال : ( السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى والثانية بسبع تكبيرات تترى ) وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبيد الله وعبيد الله المذكور أحد فقهاء التابعين وليس قول التابعي من السنة ظاهرا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال باستحباب التكبير على الصفة المذكورة في الخطبة كثير من أهل العلم
قال ابن القيم : وأما قول كثير من الفقهاء إنه تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم البتة والسنة تقتضي خلافه وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد . والحديث الثاني يرجحه القياس على الجمعة . وعبيد الله بن عبد الله تابعي كما عرفت فلا يكون قوله ( من السنة ) دليلا على أنها سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقرر في الأصول
وقد ورد في الجلوس بين خطبتي العيد حديث مرفوع رواه ابن ماجه عن جابر وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف

6 - وعن عطاء عن عبد الله بن السائب رضي الله عنهما قال : ( شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال : إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب )
- رواه النسائي وابن ماجه وأبو داود

- الحديث قال أبو داود : هو مرسل . وقال النسائي : هذا خطأ والصواب أنه مرسل وفيه أن الجلوس لسماع خطبة العيد غير واجب . قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه بيان أن الخطبة سنة إذ لو وجبت وجب الجلوس لها انتهى
وفيه أن تخيير السامع لا يدل على [ ص 377 ] عدم وجوب الخطبة بل على عدم وجوب سماعها إلا أن يقال إنه يدل من باب الإشارة لأنه إذا لم يجب سماعها لا يجب فعلها وذلك لأن الخطبة خطاب ولا خطاب إلا لمخاطب فإذا لم يجب السماع على المخاطب لم يجب الخطاب وقد اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرهم على عدم وجوب خطبته ولا أعرف قائلا يقول بوجوبها

باب استحباب الخطبة يوم النحر

1 - عن الهرماس بن زياد رضي الله عنه قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى )
- رواه أحمد وأبو داود

2 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : ( سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى يوم النحر )
- رواه أبو داود

3 - وعن عبد الرحمن بن معاذ التميمي رضي الله عنه قال : ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع إصبعيه السبابتين ثم قال بحصا الخذف ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الأنصار فنزلوا من وراء المسجد ثم نزل الناس بعد ذلك )
- رواه أبو داود والنسائي بمعناه

- الأحاديث الثلاثة سكت عنها أبو داود والمنذري ورجال إسناد الحديث الأول ثقات وكذلك رجال إسناد الحديث الثاني وكذلك رجال إسناد الحديث الثالث
( وفي الباب ) عن رافع بن عمرو المزني عند أبي داود والنسائي . وعن أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه وابن حبان وأحمد . وعن ابن عباس عند البخاري وله حديث آخر عند الطبراني . وعن أبي كاهل الأحمسي عند النسائي وابن ماجه وعن أبي بكرة وسيأتي . وعن ابن عمر عند البخاري . وعن ابن عمرو بن العاص عند البخاري أيضا وغيره . وعن جابر عند أحمد . وعن أبي حرة الرقاشي عن عمه عند أحمد أيضا . وعن كعب ابن عاهم عند الدارقطني
( وأحاديث الباب ) تدل على مشروعية الخطبة في يوم النحر وهي ترد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج وأن المذكور في أحاديث الباب إنما هو من قبيل الوصايا العامة لا أنه خطبة من شعار الحج . ووجه الرد أن الرواة سموها خطبة كما سموا التي وقعت بعرفات خطبة . وقد اتفق على مشروعية الخطبة [ ص 378 ] بعرفات ولا دليل على ذلك إلا ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب بعرفات
والقائلون بعدم مشروعية الخطبة يوم النحر هم المالكية والحنفية وقالوا : خطب الحج ثلاث : سابع ذي الحجة ويوم عرفة وثاني يوم النحر . ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر قال وبالناس إليها حاجة ليعملوا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف
واستدل بأحاديث الباب وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئا من أعمال الحج وإنما ذكر وصايا عامة كما تقدم قال : ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا مما يتعلق بالحج يوم النحر فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج
وقال ابن القصار : إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا فظن الذي رآه أنه خطب قال : وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها بمكة أو يوم عرفة انتهى
وأجيب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر وعلى تعظيم عشر ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرام . وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة كما تقدم فلا تلتفت إلى تأويل غيرهم . وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر وكان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجدد الأسباب وقد بين الزهري وهو عالم أهل زمانه أن الخطبة ثاني يوم النحر نقلت من خطبة يوم النحر وإن ذلك من عمل الأمراء يعني بني أمية كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة عنه وهذا وإن كان مرسلا لكنه معتضد بما سبق وبان به أن السنة الخطبة يوم النحر لا ثانيه
وأما قول الطحاوي أنه لم يعلمهم شيئا من أسباب التحلل فيرده ما عند البخاري من حديث ابن عمرو بن العاص أنه شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم النحر وذكر فيه السؤال عن تقديم بعض المناسك . وثبت أيضا في بعض أحاديث الباب : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : خذوا عني مناسككم ) فكأنه وعظهم وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله
قوله : ( ونحن بمنى ) أيام منى أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده وأحاديث الباب مصرحة بيوم النحر فيحمل المطلق على المقيد . ويتعين يوم النحر
قوله : ( ثم [ ص 379 ] قال بحصا الخذف ) فيه استعارة القول للفعل وهو كثير في السنة والمراد أنه وضع إحدى السبابتين على الأخرى ليريهم أنه يريد حصا الخذف والخذف بالخاء والذال المعجمتين ويروى بالحاء المهملة والأول أصوب
قال الجوهري في فصل الحاء المهملة : حذفته بالعصا أي رميته بها وفي فصل الخاء المعجمة : الخذف بالحصا الرمي به بالأصابع وسيأتي ذكر مقدار حصا الخذف في باب استحباب الخطبة يوم النحر من كتاب الحج لأن المصنف رحمه الله سيكرر هذه الأحاديث المذكورة في هذا الباب جميعها هنالك وسنشرح هنالك ما لم نتعرض لشرحه ههنا من ألفاظ هذه الأحاديث

4 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : ( خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر فقال : أتدرون أي يوم هذا قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس يوم النحر قلنا : بلى قال : أي شهر هذا قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال : أليس ذا الحجة قلنا : بلى قال : أي بلد هذا قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال : أليست البلدة قلنا : بلى قال : فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت قالوا : نعم قال : اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض )
- رواه أحمد والبخاري

- قوله : ( أتدرون أي يوم هذا قلنا الله ورسوله أعلم ) في البخاري من حديث ابن عباس أنهم قالوا : ( يوم حرام ) وقالوا عند سؤاله عن الشهر شهر حرام وعند سؤاله عن البلد بلد حرام . وعند البخاري أيضا من حديث ابن عمر بنحو حديث أبي بكرة إلا أنه ليس فيه قوله فسكت في الثلاثة المواضع . وقد جمع بين حديث ابن عباس وحديث الباب ونحوه بتعدد الواقعة قال في الفتح : وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة وقد قال في كل منهما أن ذلك كان يوم النحر وقيل في الجمع بينهما إن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت . وقيل في الجمع إنهم فوضوا الأمر أولا كلهم بقولهم الله ورسوله أعلم فلما سكت أجابه بعضهم دون بعض . وقيل وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليست في حديث ابن عباس لقوله فيه أتدرون سكتوا عن الجواب بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن [ ص 380 ] ذلك أشار إلى هذا الكرماني . وقيل في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة فكأنه أطلق قولهم قالوا يوم حرام باعتبار أنهم قرروا ذلك حيث قالوا بلى قال الحافظ : وهذا جمع حسن
( والحكمة ) في سؤاله صلى الله عليه وآله وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها ما قاله القرطبي من أن ذلك كان لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم ويستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه ولذلك قال بعد هذا فإن دماءكم الخ مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء اه ومناط التشبيه في قوله ( كحرمة يومكم هذا ) وما بعده ظهوره عند السامعين لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا يستبيحونها في الجاهلية فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم فلا يرد كونه المشبه به أخفض رتبة من المشبه لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع
قوله : ( أليست البلدة ) كذا وقع بتأنيث البلدة . وفي رواية للبخاري : ( أليس بالبلدة الحرام ) وفي أخرى له : ( أليس بالبلدة الحرام ) قال الخطابي : يقال إن البلدة اسم خاص لمكة وهي المراد بقوله عز و جل { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة } وقال الطيبي : المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستحقة للكمال
قوله : ( فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ) هكذا ساقه البخاري في الحج وذكره في كتاب العلم بزيادة ( وأعراضكم ) وكذا ذكر هذه الزيادة في الحج من حديث ابن عباس ومن حديث ابن عمر وهو على حذف مضاف أي سفك دماءكم وأخذ أموالكم وسلب أعراضكم . والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان سلفه أو نفسه
قوله : ( اللهم اشهد ) إنما قال ذلك لأنه كان فرضا عليه أن يبلغ فأشهد الله تعالى على أداء ما أوجبه عليه
قوله : ( فرب مبلغ ) بفتح اللام أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من الذي نقله له . قال المهلب : فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم والعلم ما ليس لمن تقدمه إلا أن ذلك يكون في الأقل لأن رب موضوعة للتقليل
قال الحافظ : هي في الأصل كذلك إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلب على الاستعمال الأول قال : لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية للبخاري بلفظ : ( عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه ) وقوله أوعى من سامع نعت لمبلغ والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد [ ص 381 ] أو يكون ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخير فلا حذف ولا تقدير
قوله : ( فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) قال النووي في شرح مسلم : في معناه سبعة أقوال :
أحدها : أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق
والثاني : المراد كفر النعمة وحق الإسلام
والثالث : أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه
والرابع : أنه فعل كفعل الكفار
والخامس : المراد حقيقة الكفر ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين
والسادس : حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح يقال تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه . قال الأزهري في كتاب تهذيب اللغة : يقال للابس السلاح كافر
والسابع : معناه لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا قاله الخطابي
قال النووي : وأظهر الأقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض قال : والرواية يضرب برفع الباء هذا هو الصواب وهكذا رواه المتقدمون والمتأخرون وبه يصح المقصود هنا . ونقل القاضي عياض أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء والصواب الضم وكذا قال أبو البقاء أنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر أي أن ترجعوا يضرب . والمراد بقوله بعدي أي بعد فراقي من موقفي هذا كذا قال الطبري أو يكون صلى الله عليه وآله وسلم تحقق أن هذا الأمر لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته
( والحديث ) فيه استحباب الخطبة يوم النحر وقد تقدم الكلام على ذلك وفيه وجوب تبليغ العلم وتأكيد تحريم تلك الأمور وتغليظها بأبلغ ما يمكن وفيه غير ذلك من الفوائد

باب حكم الهلال إذا غم ثم علم به من آخر النهار

1 - عن عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار رضي الله عنهم قالوا : ( غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد )
- رواه الخمسة إلا الترمذي

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطابي وابن حجر في بلوغ المرام وعلق الشافعي القول به على صحته . وقال [ ص 382 ] ابن عبد البر : أبو عمير مجهول . قال الحافظ : كذا قال وقد عرفه من صحح له اه . وقول المصنف عن عمير لعله من سقط القلم وهو أبو عمير كما في سائر كتب هذا الفن
( والحديث ) دليل لمن قال إن صلاة العيد تصلى في اليوم الثاني إن لم يتبين العيد إلا بعد خروج وقت صلاته وإلى ذلك ذهب الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وهو قول الشافعي . ومن أهل البيت الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب وقيد ذلك أبو طالب بشرط أن يكون ترك الصلاة في اليوم الأول للبس كما في الحديث ورد بأن كون الترك للبس إنما هو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه لا للركب لأنهم تركوا الصلاة في يوم العيد عمدا بعد رؤيتهم للهلال بالأمس فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم كما في رواية أبي داود يدل على عدم الفرق بين عذر اللبس وغيره كما ذهب إلى ذلك الباقون فإنهم لا يفرقون بين اللبس وغيره من الأعذار إما لذلك وإما قياسا لها عليه
وظاهر الحديث أن الصلاة في اليوم الثاني أداء لا قضاء وروى الخطابي عن الشافعي أنهم إن علموا بالعيد قبل الزوال صلوا وإلا لم يصلوا يومهم ولا من الغد لأنه عمل في وقت فلا يعمل في غيره قال : وكذا قال مالك وأبو ثور . قال الخطابي : سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالإتباع . وحديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب اه
وحكى في شرح القدوري عن الحنفية أنهم إذا لم يصلوها في اليوم الثاني حتى زالت الشمس صلوها في اليوم الثالث فإن لم يصلوها فيه حتى زالت الشمس سقطت سواء كان لعذر أو لغير عذر اه
( والحديث ) وارد في عيد الفطر فمن قال بالقياس ألحق به عيد الأضحى
وقد استدل بأمره صلى الله عليه وآله وسلم للركب أن يخرجوا إلى المصلى لصلاة العيد الهادي والقاسم وأبو حنيفة على أن صلاة العيد من فرائض الأعيان وخالفهم في ذلك الشافعي وجمهور أصحابه قال النووي : وجماهير العلماء فقالوا إنها سنة وبه قال زيد بن علي والناصر والإمام يحيى وقال أبو سعيد الاصطخري من الشافعية : إنها فرض كفاية وحكاه المهدي في البحر عن الكرخي وأحمد بن حنبل وأبي طالب وأحد قولي الشافعي
واستدل القائلون بأنها سنة بحديث : ( هل علي غيرها قال : لا إلا أن تطوع ) وقد قدمنا في باب تحية المسجد الجواب عن هذا الاستدلال مبسوطا فراجعه
( واستدل القائلون ) أنها فرض كفاية بأنها شعار كالغسل والدفن وبالقياس على صلاة الجنازة بجامع التكبيرات والظاهر ما قاله الأولون لأنه قد انضم إلا ملازمته صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة العيد على جهة الاستمرار وعدم إخلاله بها [ ص 383 ] الأمر بالخروج إليها بل ثبت كما تقدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج للعواتق والحيض وذوات الخدور وبالغ في ذلك حتى أمر من لها جلباب أن تلبس من لا جلباب لها ولم يأمر بذلك في الجمعة ولا في غيرها من الفرائض بل ثبت الأمر بصلاة العيد في القرآن كما صرح بذلك أئمة التفسير في تفسير قول الله تعالى { فصل لربك وانحر } فقالوا : المراد صلاة العيد ونحر الأضحية . ومن مقويات القول بأنها فرض إسقاطها لصلاة الجمعة كما تقدم والنوافل لا تسقط الفرائض في الغالب

2 - وعن عائشة قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس )
- رواه الترمذي وصححه

3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الصوم يوم يصومون والفطر يوم يفطرون والأضحى يوم يضحون )
- رواه الترمذي أيضا . وهو لأبي داود وابن ماجه إلا فصل الصوم

- الحديث الأول أخرجه أيضا الدارقطني وقال : وقفه عليها هو الصواب . والحديث الثاني حسنه الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات قال الترمذي : وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال : إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظيم الناس . وقال الخطابي في معنى الحديث : إن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض لا شيء عليهم من وزر أو عيب وكذلك في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة ليس عليهم إعادة . وقال غيره : فيه الإشارة إلى أن يوم الشك لا يصام احتياطا وإنما يصوم يوم يصوم الناس . وقيل فيه الرد على من يقول إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل جاز له أن يصوم به ويفطر دون من لم يعلم . وقيل إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ولم يحكم القاضي بشهادته أنه لا يكون هذا صوما له كما لم يكن للناس ذكر هذه الأقوال المنذري في مختصر السنن
وقد ذهب إلى الأخير محمد بن الحسن الشيباني قال : إنه يتعين على المنفرد برؤية هلال الشهر حكم الناس في الصوم والحج وإن خالف ما تيقنه وروى مثل ذلك عن عطاء والحسن والخلاف في ذلك للجمهور فقالوا : يتعين عليه حكم نفسه فيما تيقنه وفسروا الحديث بمثل ما ذكر الخطابي . وقيل في معنى الحديث : إنه إخبار بأن الناس [ ص 384 ] يتحزبون أحزابا ويخالفون الهدي النبوي فطائفة تعمل بالحساب وعليه أمة من الناس وطائفة يقدمون الصوم والوقوف بعرفة وجعلوا ذلك شعارا وهم الباطنية وبقي الهدى النبوي الفرقة التي لا تزال ظاهرة على الحق فهي المرادة بلفظ الناس في الحديث وهي السواد الأعظم ولو كانت قليلة العدد

باب الحث على الذكر والطاعة في أيام العشر وأيام التشريق

1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز و جل من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشيء من ذلك )
- رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي

2 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد )
- رواه أحمد

3 - وعن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز و جل )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي . قال البخاري : وقال ابن عباس { واذكروا الله في أيام معلومات } أيام العشر والأيام المعدودات أيام التشريق قال : وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما . قال : وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج ( 1 ) منى تكبيرا
_________
( 1 ) [ في الأصل " يرتج منى " والصحيح " ترتج منى " كما هو في النص أعلاه . نظام سبعة . ]

- حديث ابن عمر أخرجه أيضا ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير عن ابن عباس
قوله : ( ما من أيام العمل الصالح فيها ) في لفظ للبخاري : ( ما العمل الصالح في أيام ) وفي رواية كريمة عن الكشمينهي : ( ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه ) قال في الفتح : وهذا يقتضي نفي أفضلية العمل في أيام العشر على العمل في هذه الأيام إن فسرت بأنها أيام التشريق وعلى ذلك جرى بعض شراح البخاري وزعم أن البخاري فسر الأيام المبهمة في هذا [ ص 385 ] الحديث بأنها أيام التشريق وفسر العمل بالتكبير لكونه أورد الآثار المذكورة المتعلقة بالتكبير فقط . وقال ابن أبي حمزة : الحديث دال على أن العمل في أيام التشريق أفضل من العمل في غيرها قال : ولا يعكر على ذلك كونها أيام عيد كما في حديث عائشة ولا ما صح من قوله إنها أيام أكل وشرب كما في حديث الباب لأن ذلك لا يمنع العمل فيها بل قد شرع فيها أعلى العبادات وهو ذكر الله تعالى ولم يمتنع فيها إلا الصوم قال : وسر كون العبادات فيها أفضل من غيرها أن العبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها وأيام التشريق أيام غفلة في الغالب فصار للعابد فيها مزيد فضل على العابد في غيرها
قال الحافظ : وهو توجيه حسن إلا أن المنقول يعارضه والسياق الذي وقع في رواية كريمة شاذ مخالف لما رواه أبو ذر وهو من الحفاظ عن الكشمهيني وهو شيخ كريمة بلفظ : ( ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر ) وكذا أخرجه أحمد وغيره عن غندر عن شعبة بالإسناد المذكور . ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فقال : ( في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة ) وكذا رواه الدارمي عن سعيد بن الربيع عن شعبة . ووقع في رواية وكيع باللفظ الذي ذكره المصنف وكذا رواه ابن ماجه من طريق أبي معاوية عن الأعمش ورواه الترمذي من رواية أبي معاوية وقال من هذه الأيام العشر . وقد ظن بعض الناس أن قوله في حديث الباب يعني أيام العشر تفسير من بعض الرواة لكن ما ذكرنا من رواية الطيالسي وغيره ظاهر في أنه من نفس الخبر وكذا وقع في رواية القاسم بن أبي أيوب بلفظ : ( ما من عمل أزكى عند الله وأعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى ) وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان : ( ما من أيام أفضل عند الله من عشر ذي الحجة ) ومن جملة الروايات المصرحة بالعشر حديث ابن عمر المذكور في الباب فظهر أن المراد بالأيام في حديث الباب عشر ذي الحجة
قوله : ( ولا الجهاد في سبيل الله ) يدل على تقرر أفضلية الجهاد عندهم وكأنهم استفادوا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد فقال : لا أجده كما في البخاري من حديث أبي هريرة
قوله : ( إلا رجل ) هو على حذف مضاف أي إلا عمل رجل
قوله : ( ثم لم يرجع بشيء من ذلك ) أي فيكون أفضل من العامل في أيام العشر أو مساويا له . قال ابن بطال : هذا اللفظ يحتمل أمرين أن لا يرجع بشيء من ماله وإن رجع هو وأن لا يرجع هو ولا ماله بأن رزقه الله الشهادة وتعقبه الزين ابن [ ص 386 ] المنير بأن قوله لم يرجع بشيء يستلزم أن يرجع بنفسه ولا بد انتهى
قال الحافظ : وهو تعقب مردود فإن قوله لم يرجع بشيء نكرة في سياق النفي فتعم ما ذكر . وقد وقع في رواية الطيالسي وغندر وغيرهما عن شعبة وكذا في أكثر الروايات فلم يرجع من ذلك بشيء قال : والحاصل أن نفي الرجوع بالشيء لا يستلزم إثبات الرجوع بغير شيء بل هو على الاحتمال كما قال ابن بطال انتهى
ومبنى هذا الاختلاف على توجيه النفي المذكور إلى القيد فقط كما هو الغالب فيكون هو المنتفي دون الرجوع الذي هو المقيد أو توجيهه إلى القيد والمقيد فينتفيان معا . ويدل على الثاني ما عند ابن أبي عوانة بلفظ : ( إلا من عقر جواده وأهريق دمه ) وفي رواية له : ( إلا من لا يرجع بنفسه ولا ماله ) وفي حديث جابر : ( إلا من عفر وجهه التراب )
( والحديث ) فيه تفضيل أيام العشر على غيرها من السنة وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر بصيام أفضل الأيام وقد تقدم الجمع بين حديث أبي هريرة عند مسلم : ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ) وبين الأحاديث الدالة على أن غيره أفضل منه
( والحكمة ) في تخصيص عشر ذي الحجة بهذه المزية اجتماع أمهات العبادة فيها الحج والصدقة والصيام والصلاة ولا يتأتى ذلك في غيرها وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم فيه احتمال . وقال ابن بطال : المراد بالعمل في أيام التشريق التكبير فقط لأنه ثبت أنها أيام أكل وشرب وبعال . وثبت تحريم صومها وورد فيها إباحة اللهو بالحراب ونحو ذلك فدل على تفريغها لذلك مع الحض على الذكر والمشروع منه فيها التكبير فقط وتعقبه الزين بأن العمل إنما يفهم منه عند الإطلاق العبادة وهي لا تنافي استيفاء حظ النفس من الأكل وسائر ما ذكر فإن ذلك لا يستغرق اليوم والليلة
وقال الكرماني : الحث على العمل في أيام التشريق لا ينحصر في التكبير بل المتبادر إلى الذهن منه أنه المناسك من الرمي وغيره الذي يجتمع مع الأكل والشرب انتهى . والذي يجتمع مع الأكل والشرب لكل أحد من العبادة الزائدة على مفروضات اليوم والليلة هو الذكر المأمور به وقد فسر بالتكبير كما قال ابن بطال . وأما المناسك فمختصة بالحاج . ويؤيد ذلك ما وقع في حديث ابن عمر المذكور في الباب من الأمر بالإكثار فيها من التهليل والتكبير . وفي البيهقي من حديث ابن عباس : ( فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير ) ووقع من الزيادة في حديث ابن عباس : ( وإن صيام يوم منها يعدل سنة والعمل بسبعمائة ضعف ) وللترمذي عن أبي هريرة : ( يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة فيها بقيام ليلة القدر ) لكن إسناده [ ص 387 ] ضعيف وكذا إسناد حديث ابن عباس
قوله : ( قال ابن عباس ) هذا الأثر وصله عبد بن حميد وفيه الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات أيام العشر . وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن الأيام المعلومات التي قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة والمعدودات أيام التشريق . قال الحافظ : وإسناده صحيح وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق . وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أيضا أن المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ورجح الطحاوي هذا لقوله تعالى { ليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } فإنه يشعر بأن المراد أيام النحر قال في الفتح : وهذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات ولا أيام التشريق معدودات بل تسمية أيام التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى { واذكروا الله في أيام معدودات } الآية وهكذا قال المهدي في البحر إن أيام التشريق هي الأيام المعدودات إجماعا . وقيل إنها سميت معدودات لأنها إذا زيد عليها شيء عد ذلك حصرا أي في حكم حصر العدد . وقد وقع الخلاف في أيام التشريق فمقتضى كلام أهل اللغة والفقه أن أيام التشريق ما بعد يوم النحر على اختلافهم هل هي ثلاثة أو يومان لكن ما ذكره من سبب تسميتها بذلك يقتضي دخول يوم العيد فيها . وقد حكى أبو عبيد أن فيه قولين :
أحدهما : لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي يقددونها ويبرزونها للشمس . ثانيهما : لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر فصارت تبعا ليوم النحر قال : وهذا أعجب القولين إلى أن قال الحافظ : وأظنه أراد ما حكاه غيره أن أيام التشريق سميت بذلك لأن صلاة العيد إنما تصلى بعد أن تشرق الشمس
وعن ابن الأعرابي قال : سميت بذلك لأن الهدايا والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس . وعن يعقوب بن السكيت قال : هو من قول الجاهلية أشرق ثبير كيما نغير أي ندفع للنحر . قال الحافظ : وأظنهم أخرجوا يوم العيد منها لشهرته بلقب يخصه وهو العيد وإلا فهي في الحقيقة تبعا له في التسمية كما تبين من كلامهم . ومن ذلك حديث علي عليه السلام : ( لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ) أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إليه موقوفا ومعناه لا صلاة جمعة ولا صلاة عيد قال : وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق في هذا إلى التكبير في دبر الصلاة يقول : لا تكبير إلا على أهل الأمصار قال : وهذا لم نجد أحدا يعرفه ولا وافقه عليه صاحباه ولا غيرهما ومن ذلك حديث من ذبح قبل التشريق فليعد أي قبل صلاة العيد رواه أبو عبيد من مرسل الشعبي ورجاله ثقات وهذا كله يدل على أن [ ص 388 ] يوم العيد من أيام التشريق
قوله : ( وكان ابن عمر وأبو هريرة ) الخ قال الحافظ : لم أره موصولا وقد ذكره البيهقي معلقا عنهما وكذا البغوي
قوله : ( وكان عمر ) الخ وصله سعيد بن منصور وأبو عبيد . وقوله ( ترتج ) بتثقيل الجيم أي تضطرب وتتحرك وهي مبالغة في اجتماع رفع [ الأصوات وقال ورد فعل ] ( 1 ) تكبير التشريق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند البيهقي والدارقطني أنه صلى الله عليه وآله وسلم كبر بعد صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر آخر أيام التشريق . وفي إسناده عمرو بن بشر وهو متروك عن جابر الجعفي وهو ضعيف عن عبد الرحمن بن سابط قال البيهقي : لا يحتج به عن جابر بن عبد الله وروي من طريق أخرى مختلفة أخرجها الدارقطني مدارها على عبد الرحمن المذكور واختلف فيها في شيخ جابر الجعفي . ورواه الحاكم من وجه آخر عن فطر بن خليفة عن أبي الفضل عن علي وعمار قال : وهو صحيح وصح من فعل عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأخرج الدارقطني عن عثمان أنه كان يكبر من ظهر يوم النحر إلى صبح يوم الثالث من أيام التشريق . وأخرج أيضا هو والبيهقي عن ابن عمر وزيد بن ثابت أنهما كانا يفعلان ذلك وجاء عن ابن عمر خلاف ذلك رواه ابن أبي شيبة . وأخرج الدارقطني عن جابر وابن عباس أنهما كانا يكبران ثلاثا ثلاثا بسندين ضعيفين . وقال ابن عبد البر في الاستذكار : صح عن عمر وعلي وابن مسعود أنهم كانوا يكبرون ثلاثا ثلاثا الله أكبر الله أكبر الله أكبر . وقد حكى في البحر الإجماع على مشروعية تكبير التشريق إلا عن النخعي قال : ولا وجه له . وقد اختلف في محله فحكى في البحر عن علي وابن عمر والعترة والثوري وأحمد بن حنبل وأبي يوسف ومحمد وأحد أقوال الشافعي أن محله عقيب كل صلاة من فجر عرفة إلى آخر أيام التشريق . وقال عثمان بن عفان وابن عباس وزيد بن علي ومالك والشافعي في أحد أقواله : بل من ظهر النحر إلى فجر الخامس . وقال الشافعي في أحد أقواله : بل من مغرب يوم النحر إلى فجر الخامس . وقال أبو حنيفة : من فجر عرفة إلى عصر النحر وقال داود والزهري وسعيد بن جبير : من ظهر النحر إلى عصر الخامس . قال في الفتح : وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع فمنهم من خص التكبير على أعقاب الصلوات . ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل . ومنهم من خصه بالرجال دون النساء وبالجماعة دون المنفرد وبالمؤداة دون المقضية وبالمقيم دون المسافر وساكن المصر دون القربة . قال : وللعلماء أيضا اختلاف في ابتدائه وانتهائه فقيل من صبح يوم عرفة وقيل من ظهره وقيل من عصره وقيل من صبح [ ص 389 ] يوم النحر وقيل من ظهره في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر . وقيل إلى عصره وقيل إلى ظهر ثانيه . وقيل إلى صبح آخر أيام التشريق . وقيل إلى ظهره . وقيل إلى عصره . قال : حكى هذه الأقوال كلها النووي إلا الثاني من الانتهاء . وقد رواه البيهقي عن أصحاب ابن مسعود ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث . وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى أخرجهما ابن المنذر وغيره . وأما صفة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال : كبروا الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا . ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه الفريابي في كتاب العيدين من طريق يزيد بن أبي الزناد عنهم وهو قول الشافعي وزاد ولله الحمد . وقيل يكبر ثلاثا ويزيد لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ . وقيل يكبر ثنتين بعدهما لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد جاء ذلك عن عمر وابن مسعود وبه قال أحمد وإسحاق وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها انتهى كلام الفتح
وقد استحسن البعض زيادات في تكبير التشريق لم ترد عن السلف وقد استوفى ذلك الإمام المهدي في البحر . والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام كما يدل على ذلك الآثار المذكورة
_________
( 1 ) [ في الأصل كلمات غير واضحة وقد تم تصحيحها بالنظر إلى سياق المعنى . نظام سبعة ]

[ تابع كتاب الصلاة ] [ ص 2 ]

كتاب صلاة الخوف

باب الأنواع المروية في صفتها

بسم الله الرحمن الرحيم

1 - عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذات الرقاع : ( أن الطائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه . وفي رواية للجماعة عن صالح بن خوات عن سهل ابن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذه الصفة )

- قوله : ( عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) قيل هو سهل بن أبي حثمة كما وقع في الرواية الأخرى . وقد أخرج البيهقي وابن منده في المعرفة الحديث عن صالح بن خوات عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمكن أن يكون هو المبهم
قوله : ( يوم ذات الرقاع ) هي غزوة نجد لقي بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمعا من غطفان فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال وصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الخوف وسميت ذات الرقاع لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الخرق . وقيل إن ذلك المحل الذي غزوا إليه حجارة مختلفة الألوان كالرقاع المختلفة
( والحديث ) يدل على أن من صفات صلاة الخوف أن يصلي الإمام في الثنائية بطائفة ركعة ثم ينتظر حتى يتموا لأنفسهم ركعة ويذهبوا فيقوموا وجاه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلون معه الركعة الثانية ثم ينتظر حتى يتموا لأنفسهم ركعة ويسلم بهم . وقد حكى في البحر أن هذه الصفة لصلاة الخوف قال بهما علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وزيد بن ثابت وأبو موسى [ ص 3 ] وسهل بن أبي حثمة والهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو العباس . قال النووي : وبها أخذ مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم انتهى . وقد أخذ بكل نوع من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أهل العلم كما سيأتي . والحق الذي لا محيص عنه أنها جائزة على كل نوع من الأنواع الثابتة وقد قال أحمد بن حنبل : لا أعلم في هذا الباب حديثا إلا صحيحا فلا وجه للأخذ ببعض ما صح دون بعض إذ لا شك أن الأخذ بأحدها فقط تحكم محض
( وقد اختلف ) في عدد الأنواع الواردة في صلاة الخوف فقال ابن القصار المالكي : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاها في عشرة مواطن . وقال النووي : إنه يبلغ مجموع أنواع صلاة الخوف ستة عشر وجها كلها جائزة . وقال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى . وسرد ابن المنذر في صفتها ثمانية أوجه . وكذا ابن حبان وزاد تسعا . وقال ابن حزم : صح فيها أربعة عشر وجها وبينها في جزء مفرد . وقال ابن العربي : جاء فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها وقد بينها العراقي في شرح الترمذي وزاد وجها آخر فصارت سبعة عشر وجها . وقال في الهدى : أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر . هؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها فصارت سبعة عشر لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة . قال الحافظ : وهذا هو المعتمد . وقال ابن العربي : أيضا صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعا وعشرين مرة . وقال أحمد : ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة وكذا رجحه الشافعي ولم يختر إسحاق شيئا على شيء وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وقال النووي : ومذهب العلماء كافة أن صلاة الخوف مشروعة اليوم كما كانت إلا أبا يوسف والمزني فقالا : لا تشرع بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى . وقال بقولهما الحسن بن زياد واللؤلؤي من أصحابه وإبراهيم بن علية كما في الفتح واستدلوا بمفهوم قوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت الصلاة } وأجاب الجمهور عن ذلك بأن شرط كونه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده . والتقدير بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قال ابن العربي وغيره . وقال ابن المنير : [ ص 4 ] الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم كالخوف في قوله تعالى { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } وقال الطحاوي : كان أبو يوسف قد قال مرة لا تصلى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزعم أن الناس إنما صلوها معه صلى الله عليه وآله وسلم لفضل الصلاة معه قال : وهذا القول عندنا ليس بشيء انتهى
وأيضا الأصل تساوي الأمة في الأحكام المشروعة فلا يقبل التخصيص بقوم دون قوم إلا بدليل واحتج عليهم الجمهور بإجماع الصحابة على فعل هذه الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم . وقد اختلف في صلاة الخوف في الحضر فمنع من ذلك ابن الماجشون والهادوية وأجازه الباقون
( احتج الأولون ) بقوله تعالى { إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ورد بما تقدم في أبواب صلاة المسافر واحتجوا أيضا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعلها إلا في سفر ورد بأن اعتبار السفر وصف طردي ليس بشرط ولا سبب وإلا لزم أن لا يصلى إلا عند الخوف من العدو الكافر . وأما الاحتجاج بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصلها يوم الخندق وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب ولو كانت جائزة في الحضر لفعلها فيجاب عنه بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي . وقد تقدم الكلام على هذا في باب الترتيب في قضاء الفوائت

نوع آخر

2 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة للعدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعة ثم سلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة )
- متفق عليه

- الحديث فيه أن من صفة صلاة الخوف أن يصلي الإمام بطائفة من الجيش [ ص 5 ] ركعة والطائفة الأخرى قائمة تجاه العدو ثم تنصرف الطائفة التي صلت معه الركعة وتقوم تجاه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فتصلي معه ركعة ثم تقضي كل طائفة لنفسها ركعة . قال في الفتح : وظاهر قوله : ( ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ) أنهم أتموا في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب قال : وهو الراجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه : ( ثم سلم وقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ) قال : وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها . قال النووي : وبهذا الحديث أخذ الأوزاعي وأشهب المالكي وهو جائز عند الشافعي . وقال في الفتح : وبهذه الكيفية أخذ الحنفية وحكى هذه الكيفية في البحر عن محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف
واستدل بقوله طائفة على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة بها في ذلك . قال في الفتح : والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد ثم يصلي الآخر وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة انتهى
وقد رجح ابن عبد البر هذه الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه

نوع آخر

3 - عن جابر رضي الله عنه قال : ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف فصفنا صفين خلفه والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف الآخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وآله [ ص 6 ] وسلم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجود بالصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلمنا جميعا )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي

4 - وروى أحمد وأبو داود والنسائي هذه الصفة من حديث أبي عياش الزرقي وقال : ( صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم )

- الحديث الثاني رجال إسناده عند أبي داود والنسائي رجال الصحيح . وفي الحديثين أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعا واشتراكهم في الحراسة ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى ثم تسجد وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة وتأخرت المتقدمة . قال النووي : وبهذا الحديث قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في جهة القبلة قال : ويجوز عند الشافعي تقدم الصف الثاني وتأخر الأول كما في رواية جابر ويجوز بقاؤهما على حالهما كما هو ظاهر حديث ابن عباس انتهى
قوله : ( مرة بعسفان ) أشار البخاري إلى أن صلاة جابر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت بذات الرقاع كما سيأتي ويجمع بتعداد الواقعة وحضور جابر في الجميع

نوع آخر

5 - عن جابر رضي الله عنه قال : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات الرقاع وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع وللقوم ركعتان )
- متفق عليه . وللشافعي والنسائي عن الحسن عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم )

6 - وعن الحسن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال : ( صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة [ ص 7 ] الخوف فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلى بهم ركعتين ثم سلم فصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال : وكذلك رواه يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وكذلك قال سليمان اليشكري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم )

- رواية الحسن عن جابر أخرجها أيضا ابن خزيمة وروايته عن أبي بكرة أخرجها أيضا ابن حبان والحاكم والدارقطني وأعلها ابن القطان بأن أبا بكرة أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة . قال الحافظ : وهذه ليست بعلة فإنه يكون مرسل صحابي . وحديث جابر وأبي بكرة يدلان على أن من صفات صلاة الخوف أن يصلي الإمام بكل طائفة ركعتين فيكون مفترضا في ركعتين ومتنفلا في ركعتين . قال النووي : وبهذا قال الشافعي وحكوه عن الحسن البصري وادعى الطحاوي أنه منسوخ ولا تقبل دعواه إذ لا دليل لنسخه انتهى . وهكذا ادعى نسخ هذه الكيفية الإمام المهدي في البحر فقال : قلنا منسوخ أو في الحضر انتهى
والحامل له وللطحاوي على ذلك أنهما لا يقولان بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل وقد قدمنا الاستدلال على صحة ذلك بما فيه كفاية . قال أبو داود في السنن : وكذلك المغرب يكون للإمام ست ركعات وللقوم ثلاث انتهى . وهو قياس صحيح

نوع آخر

7 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف عام غزوة نجد فقام إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابل العدو ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى [ ص 8 ] الله عليه وآله وسلم كما هو ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد وممن معه ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعا فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعتان )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

- الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات عند أبي داود والنسائي وساقه أبو داود أيضا من طريق أخرى عن أبي هريرة وفي إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال مشهور إذا لم يصرح بالتحديث وقد عنعن ههنا
( والحديث ) فيه أن من صفة صلاة الخوف أن تدخل الطائفتان مع الإمام في الصلاة جميعا ثم تقوم إحدى الطائفتين بإزاء العدو وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة ثم يذهبون فيقومون في وجاه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي لنفسها ركعة والإمام قائم ثم يصلي بهم الركعة التي بقيت معه ثم تأتي الطائفة القائمة في وجاه العدو فيصلون لأنفسهم ركعة والإمام قاعد ثم يسلم الإمام ويسلمون جميعا
وقد روى أبو داود في سننه عن عائشة في هذه القصة أنها قالت : ( كبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبرت الطائفة الذين صفوا معه ثم ركع فركعوا ثم سجد فسجدوا ثم رفع فرفعوا ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقرى حتى قاموا من ورائهم وجاءت الطائفة الأخرى فقاموا فكبروا ثم ركعوا لأنفسهم ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجدوا معه ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسجدوا لأنفسهم الثانية ثم قامت الطائفتان جميعا فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فركع فركعوا ثم سجد فسجدوا جميعا ثم عاد فسجد الثانية وسجدوا معه سريعا كأسرع الإسراع ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلموا فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد شاركه الناس في الصلاة كلها ) وفي إسناده أيضا محمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث وهذه الصفة ينبغي أن تكون صفة ثانية من صفات صلاة الخوف غير الصفة التي في حديث أبي هريرة لمخالفتها لها في هيآت كثيرة [ ص 9 ]

نوع آخر

8 - عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين صفا خلفه وصفا موازي العدو فصلى بالذين حلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة )
- رواه النسائي

9 - وعن ثعلبة بن زهدم رضي الله عنه قال : ( كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف فقال حذيفة : أنا فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا )
- رواه أبو داود والنسائي . وروى النسائي بإسناده عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل صلاة حذيفة كذا قال

10 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( فرض الله الصلاة على نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

- حديث ابن عباس الأول ساقه النسائي بإسناد رجاله ثقات وقد احتج به الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه . وقال الشافعي : لا يثبت واعترض عليه الحافظ بأنه قد صححه ابن حبان وغيره
وحديث ثعلبة بن زهدم سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده رجال الصحيح
وحديث زيد بن ثابت أخرجه أيضا أبو داود وابن حبان . ويشهد للجميع حديث ابن عباس المذكور
( وفي الباب ) عن جابر عند النسائي . وعن ابن عمر عند البزار بإسناد ضعيف قال : ( قال صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الخوف ركعة على أي وجه كان ) وأحاديث الباب تدل على أن من صفة صلاة الخوف الاقتصار على ركعة لكل طائفة . قال في الفتح : وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيد بشدة الخوف وقال الجمهور : قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة مع الإمام وليس فيها نفي الثانية ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس : ( ولم يقضوا ركعة ) وكذا قوله في حديث حذيفة : ( ولم يقضوا ) [ ص 10 ] وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني : ( وفي الخوف ركعة ) وأما تأويلهم قوله بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن فبعيد جدا
( فائدة ) وقع الإجماع على أن صلاة المغرب لا يدخلها قصر ووقع الخلاف هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ثنتين والثانية واحدة أو العكس فذهب إلى الأول أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه والقاسمية وإلى الثاني الناصر والشافعي في أحد قوليه . قال في الفتح : لم يقع في شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب انتهى
وقد أخرج البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا عليه السلام صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير انتهى . وروي أنه صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالثانية ركعتين قال الشافعي : وحفظ عن علي عليه السلام أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير كما روى صالح بن خوات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدمت رواية صالح وروى في البحر عن علي عليه السلام أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين قال : وهو توقيف . واحتج لأهل القول الثاني بفعل علي وأجاب عنه بأن الرواية الأولى أرجح وحكى عن الشافعي التخيير قال : وفي الأفضل وجهان أصحهما ركعتان بالأولى واستدل له بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل في صلاة المغرب ولا قول كما عرفت

باب الصلاة في شدة الخوف بالإيماء وهل يجوز تأخيرها أم لا

1 - عن ابن عمر رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف صلاة الخوف وقال : فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا وركبانا )
- رواه ابن ماجه

2 - وعن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرفة وعرفات فقال : اذهب فاقتله قال : فرأيته وقد حضرت صلاة العصر فقلت : إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه فلما دنوت منه قال لي : من أنت قلت : رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك فقال : إني لفي ذلك فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد )
- رواه أحمد وأبو داود [ ص 11 ]

- حديث ابن عمر هو في البخاري في تفسير سورة البقرة بلفظ : ( فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ) قال مالك : قال نافع لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك ورواه ابن خزيمة من حديث مالك بلا شك ورواه البيهقي عن حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر جزما . قال النووي في شرح المهذب : هو بيان حكم من أحكام صلاة الخوف لا تفسير للآية
وحديث عبد الله بن أنيس سكت عنه أبو داود والمنذري وحسن إسناده الحافظ في الفتح
( والحديثان ) استدلا بهما على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالإيماء ولكنه لا يتم الاستدلال على ذلك بحديث عبد الله بن أنيس إلا على فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرره على ذلك وإلا فهو فعل صحابي لا حجة فيه . قال ابن المنذر : كل من أحفظ عنه العلم يقول إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماء وإن كان طالبا نزل فصلى بالأرض قال الشافعي : إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه فيجزئه ذلك وعرف بهذا أن الطالب فيه التفصيل بخلاف المطلوب ووجه الفرق أن شدة الخوف في المطلوب ظاهرة لتحقق السبب المقتضي لها . وأما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه وإنما يخاف أن يفوته العدو . قال في الفتح : وما نقله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي فإنه قيده بشدة الخوف ولم يستثن طالبا من مطلوب وبه قال ابن حبيب من المالكية وذكر أبو إسحاق الفزاري في كتاب السنن له عن الأوزاعي أنه قال : إذا خاف الطالبون إن نزلوا الأرض فوت العدو صلوا حيث وجهوا على كل حال والظاهر أن مرجع هذا الخلاف إلى الخوف المذكور في الآية فمن قيده بالخوف على النفس والمال من العدو وفرق بين الطالب والمطلوب ومن جعله أعم من ذلك لم يفرق بينهما وجوز الصلاة المذكورة للراجل والراكب عند حصول أي خوف

3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم انصرف عن الأحزاب أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن فاتنا الوقت قال : فما عنف واحدا [ ص 12 ] من الفريقين )
- رواه مسلم . وفي لفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رجع من الأحزاب قال : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم : بل نصلي لم يرد ذلك منا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعنف واحدا منهم ) . رواه البخاري

- قوله : ( لا يصلين أحد العصر ) في رواية لمسلم عن عبد الله محمد بن أسماء شيخ البخاري في هذا الحديث الظهر . وقد بين في الفتح في كتاب المغازي ما هو الصواب
قوله : ( فما عنف واحدا ) فيه دليل على أن كل مجتهد مصيب
( والحديث ) استدل به البخاري وغيره على جواز الصلاة بالإيماء وحال الركوب . قال ابن بطال : لو وجد في بعض طرق الحديث أن الذين صلوا في الطريق صلوا ركبانا لكان بينا في الاستدلال وإن لم يوجد فالاستدلال يكون بالقياس يعني أنه كما ساغ لأولئك أن يؤخروا الصلاة عن وقتها المفترض كذلك يسوغ للطالب ترك إتمام الأركان والانتقال إلى الإيماء . قال ابن المنير : والأبين عندي أن وجه الاستدلال من جهة أن الاستعجال المأمور به يقتضي ترك الصلاة أصلا كما جرى لبعضهم أو الصلاة على الدواب كما وقع لآخرين لأن النزول ينافي مقصود الجد في الوصول فالأولون بنوا على أن النزول معصية بمعارضته للأمر الخاص بالإسراع وكان تأخيرهم لها لوجود المعارض والآخرون جمعوا بين دليلي وجوب الإسراع ووجوب الصلاة في وقتها فصلوا ركبانا فلو فرضنا أنهم نزلوا لكان ذلك مضادة للأمر بالإسراع وهو لا يظن بهم لما فيه من المخالفة وهذا الذي حاوله ابن المنير قد أشار إليه ابن بطال بقوله لو وجد في بعض طرق الحديث إلى آخره فلم يستحسن الجزم في النقل بالاحتمال . وأما قوله لا يظن بهم المخالفة فمعترض بمثله بأن يقال لا يظن بهم المخالفة بتغيير هيئة الصلاة بغير توقيف . وقال الحافظ : والأولى ما قال ابن المرابط ووافقه الزين ابن المنير أن وجه الاستدلال منه بطريق الأولوية لأن الذين أخروا الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة لم يعنفوا مع كونهم فوتوا الوقت وصلاة من لا يفوت الوقت بالإيماء أو كيفما يمكن أولى من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها [ ص 13 ]

أبواب صلاة الكسوف

باب النداء لها وصفتها

1 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : ( لما كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نودي أن الصلاة جامعة فركع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلى عن الشمس قالت عائشة : ما ركعت ركوعا قط ولا سجدت سجودا قط كان أطول منه )

2 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث مناديا الصلاة جامعة فقام فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات )

3 - وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ( خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فقام فكبر وصف الناس وراءه فاقترأ قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من القراءة الأولى ثم رفع رأسه فقال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم سجد ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز و جل لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة )

4 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول [ ص 14 ] ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله )
- متفق على هذه الأحاديث

- قوله : ( لما كسفت الشمس ) الكسوف لغة التغير إلى سواد ومنه كسف في وجهه وكسفت الشمس اسودت وذهب شعاعها . قال في الفتح : والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر واختاره ثعلب وذكر الجوهري أنه أفصح وقيل يتعين ذلك . وحكى عياض عن بعضهم عكسه وغلطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن
وقيل يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث . قال الحافظ : ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف لأن الكسوف التغير إلى سواد والخسوف النقصان أو الذل قال : ولا يلزم من ذلك أنهما مترادفان . وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء . وقيل بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه . وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغييره انتهى . وقد روي عن عروة أنه قال : لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت . قال في الفتح : وهذا موقوف صحيح رواه سعيد بن منصور عنه . وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه لكن الأحاديث الصحيحة المذكورة في الباب وغيرها ترد ذلك
قوله : ( ركعتين في سجدة ) المراد بالسجدة هنا الركعة بتمامها وبالركعتين الركوعان وهو موافق لروايتي عائشة وابن عباس
قوله : ( قالت عائشة ) الراوي لذلك عنها هو أبو سلمة ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمرو فيكون من رواية صحابي عن صحابية . قال في الفتح : ووهم من زعم أنه معلق فقد أخرجه مسلم وابن خزيمة وغيرهما من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو وفيه قول عائشة هذا
قوله : ( ما ركعت ) الخ ذكر الركوع لمسلم والبخاري اقتصر على ذكر السجود وقد ثبت طول الركوع والسجود في الكسوف في أحاديث كثيرة . منها المذكورة في الباب . ومنها عن عبد الله بن عمرو من وجه آخر عند النسائي . وعن أبي هريرة عنده . وعن أبي موسى عند الشيخين . وعن سمرة عند أبي داود والنسائي . وعن جابر وعن أسماء وسيأتيان وإلى مشروعية التطويل في الركوع والسجود في صلاة الكسوف كما يطول القيام ذهب أحمد وإسحاق والشافعي في أحد قوليه وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه واختاره ابن سريج [ ص 15 ]
قوله : ( خسفت الشمس ) بالخاء المعجمة وقد تقدم بيان معنى الخسوف
قوله : ( وصف الناس ) برفع الناس أي اصطفوا يقال صف القوم إذا صاروا صفا ويجوز النصب والفاعل ضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قوله : ( وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ) فيه أن الانجلاء وقع قبل انصراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة
قوله : ( ثم قام فخطب الناس ) فيه استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف وقال صاحب الهداية من الحنفية : ليس في الكسوف خطبة لأنه لم ينقل وتعقب بأن الأحاديث وردت بذلك وهي ذات كثرة كما قال الحافظ . والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة في الكسوف مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد لها الخطبة بخصوصها وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بها وحكاية شرائطها من الحمد والثناء وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف والأصل مشروعية الإتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل . وقد ذهب إلى عدم استحباب الخطبة في الكسوف مع مالك أبو حنيفة والعترة
قوله : ( لا ينخسفان ) في رواية ( يخسفان ) بدون نون كما سيأتي في حديث ابن عباس
قوله : ( لموت أحد ) إنما قال صلى الله عليه وآله وسلم كذلك لأن ابنه إبراهيم مات فقال الناس إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم . ولأحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث النعمان بن بشير قال : ( كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد فلم يزل يصلي حتى انجلت فلما انجلت قال : إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك ) الحديث
وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب . قال الخطابي : كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير الأرض من موت أو ضرر فأعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه اعتقاد باطل وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله تعالى ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما
قوله : ( ولا لحياته ) استشكلت هذه الزيادة لأن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة . قال في الفتح : والجواب أن فائدة [ ص 16 ] ذكر الحياة دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببا للفقد أن لا يكون سببا للإيجاد فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم
قوله : ( فإذا رأيتموهما ) أكثر الروايات بصيغة ضمير المؤنث والمراد رأيتم كسوف كل واحد في وقته لاستحالة اجتماعهما في وقت واحد
قوله : ( فافزعوا ) بفتح الزاي أي التجؤوا أو توجهوا وفيه إشارة إلى المبادرة وأنه لا وقت لصلاة الكسوف معين لأن الصلاة علقت برؤية الشمس أو القمر وهي ممكنة في كل وقت وبهذا قال الشافعي ومن تبعه واستثنت الحنفية أوقات الكراهة وهو مشهور مذهب أحمد . وعن المالكية وقتها من وقت حل النافلة إلى الزوال . وفي رواية إلى صلاة العصر ورجح الأول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعده فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود . قال في الفتح : ولم أقف على شيء من الطرق مع كثرتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاها الأضحى لكن ذلك وقع اتفاقا فلا يدل على منع ما عداه واتفقت الطرق على أنه بادر إليها انتهى
قوله : ( نحوا من سورة البقرة ) فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر بالقراءة
قوله : ( وهو دون القيام الأول ) فيه أن القيام الأول من الركعة الأولى أطول من القيام الثاني منها وكذا الركوع الأول والثاني منها لقوله وهو دون الركوع الأول . قال النووي : اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما
قوله : ( ثم سجد ) أي سجدتين
قوله : ( ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ) فيه دليل لمن قال إن القيام الأول من الركعة الثانية يكون دون القيام الثاني من الركعة الأولى وقد قال ابن بطال : إنه لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها
قوله : ( ثم رفع فقام قياما طويلا ) الخ فيه أنه يشرع تطويل القيامين والركوعين في الركعة الآخرة وقد ورد تقدير القيام في الثانية بسورة آل عمران كما في سنن أبي داود وفيه أيضا أن القيام الثاني دون الأول كما في الركعة الأولى وكذلك الركوع وقد تقدمت حكاية النووي للاتفاق على ذلك . والأحاديث المذكورة في الباب تدل على أن المشروع في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان . وقد اختلف العلماء في صفتها بعد الاتفاق على أنها سنة غير واجبة كما حكاه النووي في شرح مسلم والمهدي في البحر وغيرهما فذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور إلى أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان وهي [ ص 17 ] الصفة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة المذكورة في الباب وغيرها وحكى في البحر عن العترة جميعا أنها ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات واستدلوا له بحديث أبي بن كعب وسيأتي . وقال أبو حنيفة والثوري والنخعي : إنها ركعتان كسائر النوافل في كل ركعة ركوع واحد وحكاه النووي عن الكوفيين واستدلوا بحديث النعمان وسمرة الآتيين
وقال حذيفة : في كل ركعة ثلاثة ركوعات واستدل بحديث جابر وابن عباس وعائشة وستأتي . قال النووي : وقد قال بكل نوع جماعة من الصحابة وحكى النووي عن ابن عبد البر أنه قال : أصح ما في الباب ركوعان وما خالف ذلك فمعلل أو ضعيف وكذا قال البيهقي ونقل صاحب الهدى عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطا من بعض الرواة لأن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض ويجمعها إن ذلك كان يوم موت إبراهيم وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح ولا شك أن أحاديث الركوعين أصح . قال في الفتح : وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدد الواقعة وأن الكسوف وقع مرارا فيكون كل من هذه الأوجه جائزا وإلى ذلك ذهب إسحاق لكن لم يثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات
وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية : يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك وهو من الاختلاف المباح وقواه النووي في شرح مسلم وبمثل ذلك قال الإمام يحيى . والحق إن صح تعدد الواقعة أن الأحاديث المشتملة على الزيادة الخارجة من مخرج صحيح يتعين الأخذ بها لعدم منافاتها للمريد وإن كانت الواقعة ليست إلا مرة واحدة فالمصير إلى الترجيح أمر لا بد منه وأحاديث الركوعين أرجح

5 - وعن أسماء رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الكسوف فأقام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع ثم سجد فأطال السجود ثم قام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع فسجد فأطال السجود ثم رفع ثم سجد فأطال السجود ثم انصرف )
- رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه . وعن جابر رضي الله عنه قال : ( كسفت الشمس على عهد [ ص 18 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون ثم ركع فأطال ثم رفع فأطال ثم ركع فأطال ثم سجد سجدتين ثم قام فصنع نحوا من ذلك فكانت أربع ركعات وأربع سجدات ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- ومن الأحاديث المصرحة بالركوعين حديث علي عند أحمد وحديث أبي هريرة عند النسائي وحديث ابن عمر عند البزار وحديث أم سفيان عند الطبراني
قوله : ( ثم رفع ثم سجد ) لم يذكر فيه تطويل الرفع الذي يتعقبه السجود ولا في غيره من الأحاديث المتقدمة . ووقع عند مسلم من حديث جابر بلفظ : ( ثم رفع فأطال ثم سجد ) قال النووي : هي رواية شاذة وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر وفيه : ( ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد ثم سجد فأطال حتى قيل لا يرفع ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد ثم سجد ) وصحح الحديث الحافظ قال : لم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا
وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام وإلا فهو محجوج بهذه الرواية والكلام على ألفاظ الحديثين قد سبق وهما من حجج القائلين بأن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان

باب من أجاز في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربعة وخمسة

1 - عن جابر رضي الله عنه قال : ( كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ست ركعات بأربع سجدات )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

2 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى في كسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد والأخرى مثلها )
- رواه الترمذي وصححه

3 - وعن عائشة رضي الله عنها : ( أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات )
- رواه أحمد والنسائي

- حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي وقال عن الشافعي : إنه غلط وهذه الدعوى يردها ثبوته في الصحيح فإنه رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن ابن نمير عن [ ص 19 ] عبد الملك عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وحديث ابن عباس رواه الترمذي عن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن حبيب ابن أبي ثابت عن طاوس عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقد علل الحديث بأن حبيبا لم يسمع من طاوس قال البيهقي : حبيب وإن كان ثقة فإنه كان يدلس ولم يبين سماعه من طاوس
وحديث عائشة هو أيضا في صحيح مسلم بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف . ولعائشة أيضا حديث آخر في صحيح مسلم ولفظه : ( أن الشمس انكسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام قياما شديدا يقوم قائما ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات وانصرف وقد تجلت الشمس وكان إذا ركع قال الله أكبر ثم يركع وإذا رفع رأسه قال سمع الله لمن حمده فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الشمس والقمر ) الحديث
وهذه الأحاديث الصحيحة ترد ما تقدم عن ابن عبد البر والبيهقي من أن ما خالف أحاديث الركوعين معلل أو ضعيف وما تقدم عن الشافعي وأحمد والبخاري من عدهم لما خالف أحاديث الركوعين غلطا وقد استدل بأحاديث الباب على أن المشروع في صلاة الكسوف في كل ركعة ثلاثة ركوعات وقد تقدم الخلاف في ذلك
قوله : ( ست ركعات وأربع سجدات ) أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاثة ركوعات وسجدتان

4 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في كسوف قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع والأخرى مثلها ) وفي لفظ : ( صلى ثماني ركعات في أربع سجدات )
- روى ذلك أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود

- الحديث مع كونه في صحيح مسلم ومع تصحيح الترمذي له قد قال ابن حبان في صحيحه : إنه ليس بصحيح قال : لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن طاوس ولم يسمعه حبيب من طاوس وحبيب معروف بالتدليس كما تقدم ولم يصرح بالسماع من طاوس وقد خالفه سليمان الأحول فوقفه وروى عن حذيفة نحوه قاله البيهقي
قوله : ( ثماني ركعات ) الخ أي ركع ثماني مرات كل أربع في ركعة وسجد في كل ركعة [ ص 20 ] سجدتين . ( والحديث يدل ) على أن من جملة صفات صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة أربعة ركوعات )

5 - وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : ( كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بهم فقرأ بسورة من الطول وركع خمس ركعات وسجدتين ثم قام إلى الثانية فقرأ بسورة من الطول وركع خمس ركعات وسجدتين ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها )
- رواه أبو داود وعبد الله بن أحمد في المسند . وقد روي بأسانيد حسان من حديث سمرة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلاها ركعتين كل ركعة بركوع

6 - وفي حديث قبيصة الهلالي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة ) . والأحاديث بذلك كله لأحمد والنسائي . والأحاديث المتقدمة بتكرار الركوع أصح وأشهر

- أما حديث أبي بن كعب فأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وقال : هذا سند لم يحتج الشيخان بمثله وهذا توهين منه للحديث بأن سنده مما لا يصلح للاحتجاج به عند الشيخين لا أنه تقوية للحديث وتعظيم لشأنه كما فهمه بعض المتأخرين وروي عن ابن السكن تصحيح هذا الحديث وقال الحاكم : رواته صادقون
وفي إسناده أبو جعفر عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي . قال الفلاس : سيئ الحفظ . وقال ابن المديني : يخلط عن المغيرة . وقال ابن معين : ثقة
( وفي الباب ) عن علي عليه السلام عند البزار وهو معلول كما قال في الفتح وقد احتج بهذا الحديث القائلون بأن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات وقد تقدم ذكرهم
وأما حديث سمرة فأخرجه أيضا مسلم وفيه : ( قرأ بسورتين وصلى ركعتين )
وأما حديث النعمان بن بشير فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه ابن عبد البر وهو عند بعض هؤلاء باللفظ الذي ذكره المصنف عن قبيصة وأعله ابن أبي حاتم بالانقطاع
وأما حديث ابن عمرو فأخرجه أيضا أبو داود والترمذي ورجاله ثقات
وأما حديث قبيصة فأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم باللفظ الذي ذكره المصنف وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح
( وفي الباب ) [ ص 21 ] عن أبي بكرة عند النسائي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى ركعتين مثل صلاتكم هذه ) وقد احتج بهذه الأحاديث القائلون بأن صلاة الكسوف ركعتان بركوع واحد كسائر الصلوات وقد تقدم ذكرهم وقد رجحت أدلة هذا المذهب باشتمالها على القول كما في حديث قبيصة والقول أرجح من الفعل وأشار المصنف إلى ترجيح الأحاديث التي فيها تكرار الركوع ولا شك أنها أرجح من وجوه كثيرة منها كثرة طرقها وكونها في الصحيحين واشتمالها على الزيادة

باب الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف

1 - عن عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات )
- أخرجاه . وفي لفظ : ( صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة فيها ) رواه الترمذي وصححه . وفي لفظ : ( قال : خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى المصلى فكبر فكبر الناس ثم قرأ فجهر بالقراءة وأطال القيام ) وذكر الحديث رواه أحمد

2 - وعن سمرة رضي الله عنه قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كسوف ركعتين لا نسمع له فيها صوتا )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي وهذا يحتمل أنه لم يسمعه لبعده لأن في رواية مبسوطة له : ( أتينا والمسجد قد امتلأ )

- حديث عائشة أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والرواية التي أخرجها أحمد أخرجها أيضا أبو داود الطيالسي في مسنده وأخرج نحوها ابن حبان . وحديث سمرة صححه أيضا ابن حبان والحاكم وأعله ابن حزم بجهالة ثعلبة بن عباد راويه عن سمرة وقد قال ابن المديني : إنه مجهول وذكره ابن حبان في الثقات مع أنه لا راوي له إلا الأسود بن قيس كذا قال الحافظ
( وفي الباب ) عن ابن عباس عند الشافعي وأبي يعلى والبيهقي قال : ( كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الكسوف فما سمعت منه حرفا من القرآن ) وفي إسناده ابن لهيعة
وللطبراني نحوه من وجه آخر وقد وصله البيهقي من ثلاث طرق أسانيدها [ ص 22 ] واهية . ولابن عباس حديث آخر متفق عليه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة ) وقد تقدم وهو يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجهر
قال البخاري : حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة ورجح الشافعي رواية سمرة بأنها موافقة لرواية ابن عباس المتقدمة ولروايته الأخرى والزهري قد انفرد بالجهر وهو وإن كان حافظا فالعدد أولى بالحفظ من واحد قاله البيهقي . قال الحافظ : وفيه نظر لأنه مثبت وروايته مقامة وجمع بين حديث سمرة وعائشة بأن سمرة كان في أخريات الناس فلهذا لم يسمع صوته ولكن قول ابن عباس كنت إلى جنبه يدفع ذلك . وجمع النووي بأن رواية الجهر في القمر ورواية الإسرار في كسوف الشمس وهو مردود بالرواية التي ذكرها المصنف في حديث عائشة منسوبة إلى أحمد وبما أخرجه ابن حبان من حديثها بلفظ : ( كسفت الشمس ) والصواب أن يقال إن كانت صلاة الكسوف لم تقع منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا مرة واحدة كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ فالمصير إلى الترجيح متعين وحديث عائشة أرجح لكونه في الصحيحين ولكونه متضمنا للزيادة ولكونه مثبتا ولكونه معتضدا بما أخرجه ابن خزيمة وغيره عن علي مرفوعا من إثبات الجهر وإن صح أن صلاة الكسوف وقعت أكثر من مرة كما ذهب إليه البعض فالمتعين الجمع بين الأحاديث بتعدد الواقعة فلا معارضة بينها إلا أن الجهر أولى من الإسرار لأنه زيادة وقد ذهب إلى ذلك أحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وبه قال صاحبا أبي حنيفة وابن العربي من المالكية . وحكى النووي عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة والليث بن سعد وجمهور الفقهاء أنه يسر في كسوف الشمس ويجهر في خسوف القمر وإلى مثل ذلك ذهب الإمام يحيى . وقال الطبري : يخير بين الجهر والإسرار . وإلى مثل ذلك ذهب الهادي ورواه في البحر عن مالك وهو خلاف ما حكاه غيره عنه
واعلم أنه لم يرد تعيين ما قرأ به صلى الله عليه وآله وسلم إلا في حديث لعائشة أخرجه الدارقطني والبيهقي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في الأولى بالعنكبوت وفي الثانية بالروم أو لقمان وقد ثبت الفصل بالقراءة بين كل ركوعين كما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه [ ص 23 ] فيتخير المصلي من القرآن ما شاء ولا بد من القراءة بالفاتحة في كل ركعة لما تقدم من الأدلة الدالة على أنها لا تصح ركعة بدون فاتحة . قال النووي : واتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الأول من كل ركعة واختلفوا في القيام الثاني فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه . وقال محمد بن مسلمة من المالكية لا تتعين الفاتحة في القيام الثاني انتهى
وينبغي الاستكثار من الدعاء لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة كما في حديث ابن عباس المتقدم وغيره

باب الصلاة لخسوف القمر في جماعة مكررة الركوع

1 - عن محمود بن لبيد رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما كذلك فافزعوا إلى المساجد )
- رواه أحمد

2 - وعن الحسن البصري رضي الله عنه قال : ( خسف القمر وابن عباس أمير على البصرة فخرج فصلى بنا ركعتين في كل ركعة ركعتين ثم ركب وقال إنما صليت كما رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي )
- رواه الشافعي في مسنده

- حديث محمود بن لبيد أصله في الصحيحين بدون قوله : ( فافزعوا إلى المساجد ) وقد أخرج هذه الزيادة أيضا الحاكم وابن حبان
وحديث ابن عباس أخرجه الشافعي كما ذكر المصنف عن شيخه إبراهيم بن محمد وهو ضعيف ولا يحتج بمثله . وقول الحسن صلى بنا لا يصح قال الحسن لم يكن بالبصرة كما كان ابن عباس بها . وقيل إن هذا من تدليساته وإن المراد من قوله صلى بنا أي صلى بأهل البصرة
( والحديثان ) يدلان على مشروعية التجميع في خسوف القمر أما الأول فلقوله فيه : ( فإذا رأيتموهما كذلك ) الخ ولكنه لم يصرح بصلاة الجماعة
وأما الحديث الثاني فلقول ابن عباس بعد أن صلى بهم جماعة في خسوف القمر : ( إنما صليت كما رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ) ولكنه يحتمل أن يكون المشبه بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صفتها من الاقتصار في كل ركعة على ركوعين ونحو ذلك لا أنها مفعولة في خصوص ذلك الوقت [ ص 24 ] الذي فعلها فيه لما تقدم من اتحاد القصة وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة عند موت ولده إبراهيم نعم أخرج الدارقطني من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات )
وأخرج أيضا عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في كسوف القمر ثماني ركعات في أربع سجدات ) وذكر القمر في الأول مستغرب كما قال الحافظ والثاني في إسناده نظر لأنه من طريق حبيب عن طاوس ولم يسمع منه . وقد أخرجه مسلم بدون ذكر القمر وإنما اقتصر المصنف في التبويب على ذكر القمر لأن التجميع في كسوف الشمس معلوم من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة المتقدمة وغيرها
وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن صلاة الكسوف والخسوف تسن الجماعة فيها . وقال أبو يوسف ومحمد : بل الجماعة شرط فيهما . وقال الإمام يحيى : إنها شرط في الكسوف فقط . وقال العراقيون : إن صلاة الكسوف والخسوف فرادى . وحكى في البحر عن أبي حنيفة ومالك أن الانفراد شرط . وحكى النووي في شرح مسلم عن مالك أنه يقول بأن الجماعة تسن في الكسوف والخسوف كما تقدم . وحكى في البحر عن العترة أنه يصح الأمران
( احتج الأولون ) بالأحاديث الصحيحة المتقدمة وليس لمن ذهب إلى أن الانفراد شرط أو أنه أولى من التجميع دليل وأما من جوز الأمرين فقال لم يرد ما يقتضي اشتراط التجميع لأن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدل على الوجوب فضلا عن الشرطية وهو صحيح ولكنه لا ينفي أولوية التجميع

باب الحث على الصدقة والاستغفار والذكر في الكسوف وخروج وقت الصلاة بالتجلي

1 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : ( لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس )

2 - وعن عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا [ ص 25 ] وصلوا )

3 - وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : ( خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى وقال : إذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره )

4 - وعن المغيرة قال : ( انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس انكسفت لموت إبراهيم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز و جل لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله تعالى وصلوا حتى ينجلي )
- متفق عليهن

- قوله : ( العتاقة ) بفتح العين المهملة . وفي لفظ للبخاري في كتاب العتق من طريق غنام بن علي عن هشام : ( كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة ) وفيه مشروعية الإعتاق عند الكسوف
قوله : ( فادعوا الله ) الخ فيه الحث على الدعاء والتكبير والتصدق والصلاة
قوله : ( فافزعوا إلى ذكر الله ) الخ فيه أيضا الندب إلى الدعاء والذكر والاستغفار عند الكسوف لأنه مما يدفع الله تعالى به البلاء ومنهم من حمل الذكر والدعاء على الصلاة لكونهما من أجزائها وفيه نظر لأنه قد جمع بين الذكر والدعاء وبين الصلاة في حديث عائشة المذكور في الباب . وفي حديث أبي بكرة عند البخاري وغيره ولفظه : ( فصلوا وادعوا )
قوله : ( يوم مات إبراهيم ) يعني ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قال الحافظ : وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة قيل في ربيع الأول وقيل في رمضان . وقيل في ذي الحجة والأكثر أنه في عاشر الشهر وقيل في رابعه وقيل في رابع عشره ولا يصح شيء من هذا على قول ذي الحجة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ذاك بمكة في الحج وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف نعم قيل إنه مات سنة تسع فإن ثبت صح وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية وقد استدل بوقوع الكسوف عند موت إبراهيم على بطلان قول أهل الهيئة لأنهم كانوا يزعمون أنه لا يقع في الأوقات المذكورة وقد فرض الشافعي وقوع العيد والكسوف معا واعترضه بعض من اعتمد على قول أهل الهيئة ورد عليه أصحاب الشافعي
قوله : ( حتى ينجلي ) فيه أن الصلاة والدعاء يشرعان إلى أن ينجلي الكسوف فلا يستحب ابتداء الصلاة بعده وأما إذا حصل الانجلاء وقد فعل [ ص 26 ] بعض الصلاة فقيل يتمها . وقيل يقتصر على ما قد فعل . وقيل يتمها على هيئة النوافل وإذا وقع الانجلاء بعد الفراغ من صلاة الكسوف وقبل الخطبة فظاهر حديث عائشة المتقدم بلفظ : ( وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ثم قام فخطب الناس ) أنها تشرع الخطبة بعد الانجلاء وفي الحديث أنها تستحب ملازمة الصلاة والذكر إلى الانجلاء وقال الطحاوي : إن قوله : ( فصلوا وادعوا ) يدل على أن من سلم من الصلاة قيل الانجلاء يتشاغل بالدعاء حتى تنجلي وقرره ابن دقيق العيد قال : لأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين ولا يلزم من ذلك أن يكون غاية لكل واحد منهما على انفراده فجاز أن يكون الدعاء ممتدا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة فيصير غاية للمجموع ولا يلزم منه تطويل الصلاة ولا تكريرها
وأما ما وقع عند النسائي من حديث النعمان بن بشير قال : ( كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت )
فقال في الفتح : إن كان محفوظا احتمل أن يكون معنى قوله ركعتين أي ركوعين وقد وقع التعبير بالركوع عن الركعة في حديث الحسن المتقدم في الباب الذي قبل هذا ويحتمل أن يكون السؤال بالإشارة فلا يلزم التكرار
وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما ركع ركعة أرسل رجلا ينظر هل انجلت ) فتعين الاحتمال المذكور وإن ثبت تعدد القصة زال الإشكال

كتاب الاستسقاء

1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث له : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا )
- رواه ابن ماجه

- الحديث هذا ذكره ابن ماجه في كتاب الزهد مطولا وفي إسناده خالد بن يزيد ابن عبد الرحمن بن أبي مالك وهو ضعيف وقد ذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه
( وفي الباب ) عن بريدة عند الحاكم والبيهقي : ( ما نقض قوم العهد إلا كان [ ص 27 ] فيهم القتل ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله تعالى عنهم القطر ) واختلف فيه على عبد الله بن بريدة فقيل عنه هكذا . وقيل عن ابن عباس
قوله : ( كتاب الاستسقاء ) قال في الفتح : الاستسقاء لغة طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير وشرعا طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب على وجه مخصوص انتهى
قال الرافعي : هو أنواع أدناها الدعاء المجرد وأوسطها الدعاء خلف الصلوات وأفضلها الاستسقاء بركعتين وخطبتين والأخبار وردت بجميع ذلك انتهى . وسيأتي ذكرها في هذا الكتاب
قوله : ( لم ينقص قوم المكيال والميزان ) الخ فيه أن نقص المكيال والميزان سبب للجدب وشدة المؤنة وجور السلاطين
قوله : ( ولم يمنعوا زكاة أموالهم ) الخ فيه أن منع الزكاة من الأسباب الموجبة لمنع قطر السماء
قوله : ( ولولا البهائم ) الخ فيه أن نزول الغيث عند وقوع المعاصي إنما هو رحمة من الله تعالى للبهائم . وقد أخرج أبو يعلى والبزار من حديث أبي هريرة بلفظ : ( مهلا عن الله مهلا فإنه لولا شباب خشع وبهائم رتع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا ) وفي إسناده إبراهيم ين خثيم ابن عراك بن مالك وهو ضعيف . وأخرجه أبو نعيم من طريق مالك بن عبيدة ابن مسافع عن أبيه عن جده : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لولا عباد لله ركع وصبية رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ) وأخرجه أيضا البيهقي وابن عدي ومالك بن عبيدة قال أبو حاتم وابن معين : مجهول وذكره ابن حبان في الثقات
وقال ابن عدي : ليس له غير هذا الحديث وله شاهد مرسل أخرجه أبو نعيم أيضا في معرفة الصحابة عن أبي الزاهرية : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من يوم إلا وينادي مناد مهلا أيها الناس مهلا فإن لله سطوات ولولا رجال خشع وصبيان رضع ودواب رتع لصب عليكم العذاب صبا ثم رضضتم به رضا )
وأخرج الدارقطني والحاكم من حديث أبي هريرة رفعه قال : ( خرج نبي من الأنبياء يستسقي فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال : ارجعوا فقد استجيب من أجل شأن النملة ) وأخرج نحوه أحمد والطحاوي

2 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه قالت عائشة : فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بدا حاجب الشمس [ ص 28 ] فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز و جل ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم وقد أمركم الله عز و جل أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم ثم قال الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل الله ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين فأنشأ الله تعالى سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله تعالى فلم يأت مسجده حتى سالت السيول فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه فقال أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله )
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه أيضا أبو عوانة وابن حبان والحاكم وصححه ابن السكن وقال أبو داود : هذا حديث غريب إسناده جيد
قوله : ( قحوط المطر ) هو مصدر قحط
قوله : ( فأمر بمنبر ) الخ فيه استحباب الصعود على المنبر لخطبة الاستسقاء
قوله : ( ووعد الناس ) الخ فيه أنه يستحب للإمام أن يجمع الناس ويخرج بهم إلى خارج البلد
قوله : ( حين بدا حاجب الشمس ) في القاموس حاجب الشمس ضوءها أو ناحيتها انتهى . وإنما سمى الضوء حاجبا لأنه يحجب جرمها عن الإدراك . وفيه استحباب الخروج لصلاة الاستسقاء عند طلوع الشمس . وقد أخرج الحاكم وأصحاب السنن عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صنع في الاستسقاء كما صنع في العيد ) وسيأتي وظاهره أنه صلاها وقت صلاة العيد كما قال الحافظ . وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها قال في الفتح : والراجح أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد لكنها مخالفة بأنها لا تختص بيوم معين . ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى في وقت الكراهة وأفاد ابن حبان بأن خروجه صلى الله عليه وآله وسلم للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة
قوله : ( عن إبان زمانه ) بكسر الهمز وبعدها باء موحدة مشددة قال في القاموس إبان الشيء بالكسر حينه أو أوله انتهى
قوله : ( وقد أمركم الله ) الخ يريد قول الله تعالى { ادعوني أستجب لكم } [ ص 29 ]
قوله : ( قوة لنا وبلاغا إلى حين ) أي اجعله سببا لقوتنا ومده لنا مدا طويلا
قوله : ( ثم رفع يديه ) الخ فيه استحباب المبالغة في رفع اليدين عند الاستسقاء وسيأتي حديث أنس أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء
قوله : ( ثم حول إلى الناس ظهره ) فيه استحباب استقبال الخطيب عند تحويل الرداء القبلة والحكمة في ذلك التفاؤل بتحوله عن الحالة التي كان عليها وهي المواجهة للناس إلى الحالة الأخرى وهي استقبال القبلة واستدبارهم ليتحول عنهم الحال الذي هم فيه وهو الجدب بحال آخر وهو الخصب
قوله : ( وقلب أو حول رداءه ) سيأتي الكلام على تحويل الرداء في الباب الذي عقده المصنف لذلك
قوله : ( ونزل فصلى ركعتين ) فيه استحباب الصلاة في الاستسقاء وسيأتي الكلام على ذلك
قوله : ( إلى الكن ) بكسر الكاف وتشديد النون . قال في القاموس الكن وقاء كل شيء وستره كالكنة والكنان بكسرهما والبيت الجمع أكنان وأكنة انتهى
قوله : ( حتى بدت نواجذه ) النواجذ على ما ذكره صاحب القاموس أقصى الأضراس وهي أربعة أو هي الأنياب أو التي تلي الأنياب أو هي الأضراس كلها جمع ناجذ والنجذ شدة العض بها انتهى

باب صفة صلاة الاستسقاء وجوازها قبل الخطبة وبعدها

1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( خرج نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز و جل وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن )
- رواه أحمد وابن ماجه

2 - وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة وبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم استقبل القبلة فدعا )
- رواه أحمد

3 - وعنه أيضا قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خرج يستسقي قال : فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة )
- رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي . ورواه مسلم ولم يذكر الجهر بالقراءة [ ص 30 ]

- الحديث الأول أخرجه أيضا أبو عوانة والبيهقي وقال : تفرد به النعمان بن راشد وقال في الخلافيات : رواته ثقات والرواية الأولى من حديث عبد الله بن زيد ذكرها الحافظ في التلخيص والفتح ولم يتكلم عليها مع معارضتها للرواية الأخرى المذكورة في الصحيحين . وقد أخرج نحوها ابن قتيبة في الغريب من حديث أنس . وقد اختلفت الأحاديث في تقديم الخطبة على الصلاة أو العكس ففي حديث أبي هريرة وحديث أنس وحديث عبد الله بن زيد عند أحمد أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة وفي حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين وغيرهما
وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود وحديث عائشة المتقدم أنه بدأ بالخطبة قبل الصلاة ولكنه لم يصرح في حديث عبد الله بن زيد الذي في الصحيحين أنه خطب وإنما ذكر تحويل الظهر لمشابهتها للعيد . وكذا قال القرطبي يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة . قال في الفتح : ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء وعبر بعضهم بالدعاء عن الخطبة فلذلك وقع الاختلاف والمرجح عند الشافعية والمالكية الشروع بالصلاة وعن أحمد رواية كذلك
قال النووي : وبه قال الجماهير وقال الليث بعد الخطبة وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير . قال : قال أصحابنا ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها . وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة انتهى
وجواز التقديم والتأخير بلا أولوية هو الحق وحكى المهدي في البحر عن الهادي والمؤيد بالله أنه لا خطبة في الاستسقاء واستدلا لذلك بقول ابن عباس الآتي ولم يخطب كخطبتكم وهو غفلة عن أحاديث الباب وابن عباس إنما نفى وقوع خطبة منه صلى الله عليه وآله وسلم مشابهة لخطبة المخاطبين ولم ينف وقوع مطلق الخطبة منه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ما وقع في الرواية التي ستأتي من حديثه أنه صلى الله عليه وآله وسلم رقى المنبر . وقد دلت الأحاديث الكثيرة على مشروعية صلاة الاستسقاء وبذلك قال جمهور العلماء من السلف والخلف ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة مستدلا بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة
( واحتج الجمهور ) بالأحاديث الثابتة في الصحيحين [ ص 31 ] وغيرهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الاستسقاء ركعتين ) وهي مشتملة على الزيادة التي لم تقع منافية فلا معذرة عن قبولها وقد وقع الإجماع من المثبتين للصلاة على أنها ركعتان كما حكى ذلك النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح للتصريح بذلك في أحاديث الباب وغيرها
وقال الهادي : إنها أربع بتسليمتين واستدل له بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقى في الجمعة وهي بالخطبة أربع ونصب مثل هذا الكلام الذي هو عن الدلالة على مطلوب المستدل بمراحل في مقابلة الأدلة الصحيحة الصريحة من الغرائب التي يتعجب منها . ووقع الاتفاق أيضا بين القائلين بصلاة الاستسقاء على أنها سنة غير واجبة كما حكى ذلك النووي وغيره واختلف في صفة صلاة الاستسقاء فقال الشافعي وابن جرير وروي عن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز أنه يكبر فيها كتكبير العيد وبه قال زيد بن علي ومكحول وهو مروي عن أبي يوسف ومحمد
وقال الجمهور : إنه لا تكبير فيها واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك وقال داود : إنه مخير بين التكبير وتركه
( واستدل ) الأولون بحديث ابن عباس الآتي بلفظ : ( فصلى ركعتين كما يصلي في العيد ) وتأوله الجمهور على أن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة وكونها قبل الخطبة . وقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عباس أنه يكبر فيها سبعا وخمسا كالعيد وأنه يقرأ فيه بسبح وهل أتاك وفي إسناده محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري وهو متروك
( وأحاديث الباب ) تدل على أنه يستحب للإمام أن يستقبل القبلة ويحول ظهره إلى الناس ويحول رداءه وسيأتي الكلام على ذلك
قوله : ( جهر فيهما بالقراءة ) قال النووي في شرح مسلم : أجمعوا على استحبابه وكذلك نقل الإجماع على استحباب الجهر ابن بطال

4 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما وسئل عن الصلاة في الاستسقاء فقال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متواضعا متبذلا متخشعا متضرعا فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه )
- رواه أحمد والنسائي وابن ماجه . وفي رواية : ( خرج متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فرقى المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين ) رواه أبو داود وكذلك النسائي والترمذي وصححه لكن قالا : ( وصلى ركعتين ) ولم يذكر الترمذي رقي المنبر ) [ ص 32 ]

- الحديث أخرجه أيضا أبو عوانة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وصححه أيضا أبو عوانة وابن حبان
قوله : ( متبذلا ) أي لابسا لثياب البذلة تاركا لثياب الزينة تواضعا لله تعالى
قوله : ( متخشعا ) أي مظهرا للخشوع ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز و جل وزاد في رواية مترسلا أي غير مستعجل في مشيه
قوله : ( متضرعا ) أي مظهرا للضراعة وهي التذلل عند طلب الحاجة
قوله : ( فصلى ركعتين ) فيه دليل على استحباب الصلاة وأنها قبل الخطبة وقد تقدم الكلام في ذلك
قوله : ( كما يصلي في العيد ) تمسك به الشافعي ومن معه في مشروعية التكبير في صلاة الاستسقاء وقد تقدم الجواب عليه
قوله : ( ولم يخطب خطبتكم هذه ) النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد كما يدل على ذلك الأحاديث المصرحة بالخطبة ويدل عليه أيضا قوله في هذا الحديث فرقى المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه فلا يصح التمسك به لعدم مشروعية الخطبة كما تقدم

باب الاستسقاء بذوي الصلاح وإكثار الاستغفار ورفع الأيدي بالدعاء وذكر أدعية مأثورة في ذلك

1 - عن أنس رضي الله عنه : ( أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا فيسقون )
- رواه البخاري

- قوله : ( كان إذا قحطوا ) قال في الفتح : قحطوا بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم القحط قال : وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناده : ( أن العباس لما استسقى به عمر قال : اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث ) فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس
وأخرج أيضا من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب وذكر الحديث وفيه : ( فخطب الناس [ ص 33 ] عمر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله وفيه فما برحوا حتى أسقاهم الله
وأخرج البلاذري من طريق هشام ابن سعد عن زيد بن أسلم فقال عن أبيه بدل ابن عمر فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان . وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جدا من عدم المطر قال : ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة وفيه فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه انتهى كلام الفتح
وظاهر قوله كان إذا قحطوا استسقى بالعباس أنه فعل ذلك مرارا كثيرة كما يدل عليه لفظ كان فإن صح أنه لم يقع منه ذلك إلا مرة واحدة كانت كان مجردة عن معناها الذي هو الدلالة على الاستمرار

2 - وعن الشعبي رضي الله عنه قال : ( خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار فقالوا : ما رأيناك استسقيت فقال : لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء الذي يستنزل به المطر ثم قرأ استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه الآية )
- رواه سعيد في سننه

- قوله : ( فلم يزد على الاستغفار ) فيه استحباب الاستكثار من الاستغفار لأن منع القطر متسبب عن المعاصي والاستغفار بمحوها فيزول بزوالها المانع من القطر
قوله : ( بمجاديح ) بجيم ثم دال مهملة ثم حاء مهملة أيضا جمع مجدح كمنبر . قال في القاموس : مجاديح السماء أنواؤها انتهى . والمراد بالأنواء النجوم التي يحصل عندها المطر عادة فشبه الاستغفار بها . واستدل عمر بالآيتين على أن الاستغفار الذي ظن الاقتصار عليه لا يكون استسقاء من أعظم الأسباب التي يحصل عندها المطر والخصب لأن الله جل جلاله قد وعد عباده بذلك وهو لا يخلف الوعد ولكن إذا كان الاستغفار واقعا من صميم القلب وتطابق عليه الظاهر والباطن وذلك مما يقل وقوعه

3 - وعن أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 34 ] لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه )
- متفق عليه . ولمسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقى فأشار بظهر كفه إلى السماء )

- قوله : ( إلا في الاستسقاء ) ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء وهو معارض للأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء وهي كثيرة وقد أفردها البخاري بترجمة في آخر كتاب الدعوات وساق فيها عدة أحاديث وصنف المنذري في ذلك جزءا
وقال النووي في شرح مسلم : وهي أكثر من أن تحصر قال : وقد جمعت منها نحوا من ثلاثين حديثا من الصحيحين أو أحدهما قال : وذكرتها في آخر باب صفة الصلاة في شرح المهذب انتهى
فذهب بعض أهل العلم إلى أن العمل بها أولى وحمل حديث أنس على نفي رؤيته وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على جهة مخصوصة إما على الرفع البليغ . ويدل عليه قوله ( حتى يرى بياض إبطيه ) ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء وكأنه عند الاستسقاء زاد على ذلك فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه وحينئذ يرى بياض إبطيه . وإما على صفة رفع اليدين في ذلك كما في رواية مسلم المذكورة في الباب . ولأبي داود من حديث أنس كان يستسقي هكذا ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه . والظاهر أنه ينبغي البقاء على النفي المذكور عن أنس فلا ترفع اليد في شيء من الأدعية إلا في المواضع التي ورد فيها الرفع ويعمل فيما سواها بمقتضى النفي وتكون الأحاديث الواردة في الرفع في غير الاستسقاء أرجح من النفي المذكور في حديث أنس إما لأنها خاصة فيبنى العام على الخاص أو لأنها مثبتة وهي أولى من النفي وغاية ما في حديث أنس أنه نفي الرفع فيما يعلمه ومن علم حجة على من لم يعلم
قوله : ( فأشار بظهر كفه إلى السماء ) قال في الفتح : قال العلماء : السنة في كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء وإذا دعا بحصول شيء أو تحصيله أن يجعل بطن كفيه إلى السماء وكذا قال النووي في شرح مسلم حاكيا بذلك عن جماعة من العلماء
( وقيل الحكمة ) في الإشارة بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقلب الحال [ ص 35 ] كما قيل في تحويل الرداء وقد أخرج أحمد من حديث السائب بن خلاد عن أبيه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه ) وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور

4 - وعن أنس رضي الله عنه قال : ( جاء أعرابي يوم الجمعة فقال : يا رسول الله هلكت الماشية وهلكت العيال وهلك الناس فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه يدعو ورفع الناس أيديهم معه يدعون قال : فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا )
- مختصر من البخاري

- قوله : ( جاء أعرابي ) لفظ البخاري : أتى رجل أعرابي من أهل البادية . وفي لفظ له : جاء رجل . وفي لفظ : دخل رجل المسجد يوم جمعة وسيأتي . قال في الفتح : لم أقف على تسمية هذا الرجل
قوله : ( هلكت الماشية ) في الرواية الآتية في باب ما يقول وما يصنع هلكت الأموال وهي أعم من الماشية ولكن المراد هنا الماشية كما سيأتي . وفي رواية للبخاري : ( هلكت الكراع ) بضم الكاف وهي تطلق على الخيل وغيرها
قوله : ( وهلكت العيال وهلك الناس ) هو من عطف العام على الخاص
قوله : ( فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) زاد مسلم في رواية شريك : ( حذاء وجهه ) ولابن خزيمة : ( حتى رأيت بياض إبطيه ) وزاد البخاري في رواية ذكرها في الأدب فنظر إلى السماء . والحديث سيأتي بطوله وإنما ذكره المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية رفع اليدين عند الاستسقاء

5 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل فصعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فحمد الله ثم قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا طبقا غدقا عاجلا غير رائث ثم نزل فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قالوا قد أحيينا )
- رواه ابن ماجه

- الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا محمد بن أبي القاسم أبو الأحوص حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا الربيع حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا حصين عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس فذكره ورجاله ثقات أخرجه أيضا أبو عوانة وسكت عنه الحافظ في التلخيص وقد رويت بعض هذه الألفاظ وبعض معانيها عن [ ص 36 ] جماعة من الصحابة مرفوعة . منها عن أنس وسيأتي . وعن جابر عند أبي داود والحاكم . وعن كعب بن مرة عند الحاكم في المستدرك . وعن عبد الله بن جراد عند البيهقي وإسناده ضعيف جدا . وعن عمرو بن شعيب وسيأتي . وعن المطلب بن حنطب وسيأتي أيضا . وعن ابن عمر عند الشافعي . وعن عائشة بنت الحكم عن أبيها عند أبي عوانة بسند واه . وعن عامر بن خارجة بن سعيد عن جده عند أبي عوانة أيضا . وعن سمرة عند أبي عوانة أيضا وإسناده ضعيف . وعن عمرو بن حريث عن أبيه عند أبي عوانة أيضا . وعن أبي أمامة عند الطبراني وسنده ضعيف ( ولا يخطر لهم فحل ) بالخاء المعجمة ثم الطاء المهملة بعدها راء قال في القاموس : خطر الفحل بذنبه يخطر خطرا وخطرانا وخطيرا ضرب به يمينا وشمالا انتهى . وأراد بقوله لا يخطر لهم فحل أن مواشيهم قد بلغت لقلة المرعى إلى حد من الضعف لا تقوى معه على تحريك أذنابها
قوله : ( غيثا ) الغيث المطر ويطلق على النبات تسمية له باسم سببه
قوله : ( مغيثا ) بضم الميم وكسر الغين المعجمة وسكون الياء التحتية بعدها ثاء مثلثة وهو المنقذ من الشدة
قوله : ( مريئا ) بالهمزة هو المحمود العاقبة المنمي للحيوان
قوله : ( مريعا ) بضم الميم وفتحها وكسر الراء وسكون الياء التحتية بعدها عين مهملة هو الذي يأتي بالريع وهو الزيادة مأخوذ من المراعة وهي الخصب . ومن فتح الميم جعله اسم مفعول أصله مريوع كمهيب ومعناه مخصب ويروى بضم الميم وسكون الراء بعدها موحدة مكسورة من قولهم أربع يربع إذا أكل الربيع ويروى بضم الميم ومثناة فوقية مكسورة من قولهم أربع المطر إذا أنبت ما ترتع فيه الماشية
قوله : ( طبقا ) هو المطر العام كما في القاموس
قوله : ( غدقا ) الغدق هو الماء الكثير وأغدق المطر وأغدودق كبر قطره وغيدق كثر براقه
قوله : ( غير رائث ) الريث الإبطاء والرائث المبطئ
قوله : ( قد أحيينا ) أي مطرنا لما كان المطر سببا للحياة عبر عن نزوله بالإحياء

6 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استسقى قال اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت )
- رواه أبو داود

7 - وعن المطلب بن حنطب رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند المطر اللهم سقيا رحمة [ ص 37 ] ولا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا علينا )
- رواه الشافعي في مسنده وهو مرسل

- الحديث الأول أخرجه أبو داود متصلا ورواه مالك مرسلا ورجحه أبو حاتم . والحديث الثاني هو مرسل كما قال المصنف وأكثر ألفاظه في الصحيحين وقد تقدم ما في الباب من الأحاديث
قوله : ( على الظرب ) بكسر المعجمة وآخره موحدة جمع ظرب بكسر الراء وقد تسكن قيل هو الجبل المنبسط الذي ليس بالعالي وقال الجوهري : الرابية الصغيرة
قوله : ( اللهم حوالينا ) بفتح اللام وفيه حذف تقديره جعل أو أمطر والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور
قوله : ( ولا علينا ) فيه بيان للمراد بقوله حوالينا لأنه يشمل الطرق التي حولهم فأراد إخراجها بقوله ولا علينا . قال الطيبي : في إدخال الواو هنا معنى لطيف وذلك لأنه لو أسقطها لكان مستسقيا للأكمام وما معها فقط ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودا لعينه ولكن ليكون وقاية من أذى المطر فليست الواو محصلة للعطف ولكنها للتعليل كقولهم تجوع الحرة ولا تأكل بثديها فإن الجوع ليس مقصودا لعينه ولكن ليكون مانعا من الرضاع بأجرة إذ كانوا يكرهون ذلك أنفا انتهى
( والحديث الأول ) يدل على استحباب الدعاء بما اشتمل عليه عند الاستسقاء والحديث الثاني يدل على استحباب الدعاء بما فيه عند نزول المطر

باب تحويل الإمام والناس أرديتهم في الدعاء أو صفته ووقته

1 - عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثر المسألة قال ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرا لبطن وتحول الناس معه )
- رواه أحمد . وفي رواية : ( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما يستسقي فحول رداءه وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله عز و جل ) رواه أحمد وأبو داود . وفي رواية : ( أن النبي صلى الله عليه وآله [ ص 38 ] وسلم استسقى يوما وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها فثقلت عليه فقلبها الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن ) رواه أحمد وأبو داود

- حديث عبد الله بن زيد أصله في الصحيح وله ألفاظ منها هذه الروايات التي أوردها المصنف ومنها ألفاظ أخر وقد سبق بعضها في باب صفة صلاة الاستسقاء ورجال أبي داود رجال الصحيح
قوله : ( ثم تحول إلى القبلة ) في لفظ للبخاري : ( ثم حول إلى الناس ظهره ) فيه استحباب استقبال القبلة حال تحويل الرداء وقد سبق بيان الحكمة في ذلك ومحل هذا التحويل بعد الفراغ من الخطبة وإرادة الدعاء كما في الفتح
قوله : ( وحول رداءه ) ذكر الواقدي أن طول ردائه صلى الله عليه وآله وسلم كانت ستة أذرع في عرض ثلاثة أذرع وطول إزاره أربعة أذرع وشبر في ذراعين وشبر انتهى . وقد اختلفت الروايات ففي بعضها أنه صلى الله عليه وآله وسلم حول رداءه وفي بعضها أنه قلبه وفسر التحويل في هذه الرواية بالقلب فدل ذلك على أنهما بمعنى واحد كما قال الزين ابن المنير واختلفت في حكمة التحويل فجزم المهلب أنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه قال : وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه قيل له حول رداءك لتحول حالك
قال الحافظ : وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقات أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر ورجح الدارقطني إرساله وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن
وقال بعضهم : إنما حول رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء فلا يكون سنة في كل حال وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق فالحمل على المعنى الأول أولى فإن الإتباع أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص انتهى
وقد اختلف في صفة التحويل فقال الشافعي ومالك : هو جعل الأسفل أعلى مع التحويل وروى القرطبي عن الشافعي أنه اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله والذي في الأم هو الأول . وذهب الجمهور إلى استحباب التحويل فقط واستدل الشافعي ومالك بهمه صلى الله عليه وآله وسلم بقلب الخميصة لأنه لم يدع ذلك إلا لثقلها كما في الرواية [ ص 39 ] المذكورة في الباب . قال في الفتح : ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط انتهى . وذلك لأنه اختار الجمع بين التحويل والتنكيس كما تقدم وإذا كان مذهبه ما رواه عنه القرطبي فليس بأحوط
( واستدل الجمهور ) بقوله في رواية حديث الباب فجعل عطافه الأيمن الخ وبقوله فقلبها الأيمن على الأيسر الخ . قال الغزالي في صفة التحويل أو يجعل الباطن ظاهرا وهو ظاهر قوله فقلبه ظهرا لبطن أي جعل ظاهره باطنا وباطنه ظاهرا وقال أبو حنيفة وبعض المالكية : إنه لا يستحب شيء من ذلك وخالفهم الجمهور
قوله : ( وتحول الناس معه ) هكذا رواه المصنف رحمه الله تعالى ورواه غيره بلفظ : ( وحول ) وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من استحباب تحويل الناس بتحويل الإمام . وقال الليث وأبو يوسف : يحول الإمام وحده وظاهر قوله ويحول الناس أنه يستحب ذلك للنساء . وقال ابن الماجشون : لا يستحب في حقهن
قوله : ( وعليه خميصة ) قال في القاموس : الخميصة كساء أسود مربع له علمان انتهى

باب ما يقول وما يصنع إذا رأى المطر وما يقول إذا كثر جدا

1 - عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى المطر قال اللهم صيبا نافعا )
- رواه أحمد والبخاري والنسائي

2 - وعن أنس قال : ( أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطر قال : فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا : لم صنعت هذا قال : لأنه حديث عهد بربه )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- قوله : ( صيبا ) بالنصب بفعل مقدر أي اجعله صيبا ونافعا صفة للصيب ليخرج الضار منه والصيب المطر قاله ابن عباس وإليه ذهب الجمهور وقال بعضهم : الصيب السحاب ولعله أطلق ذلك مجازا وهو من صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض
( والحديث ) فيه استحباب الدعاء عند نزول المطر وقد أخرج مسلم من حديث عائشة قالت : كان إذا كان يوم ريح عرف ذلك في وجهه فيقول إذا رأى المطر رحمة ) وأخرجه أبو داود والنسائي عنها بلفظ : ( كان إذا رأى ناشئا [ ص 40 ] من أفق السماء ترك العمل فإن كشف حمد الله فإن مطر قال اللهم صيبا نافعا )
قوله : ( حسر ) أي كشف بعض ثوبه
قوله : ( لأنه حديث عهد بربه ) قال العلماء : أي بتكوين ربه إياه . قال النووي : ومعناه أن المطر رحمة وهو قريب العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها
( وفي الحديث ) دليل أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك

3 - وعن شريك بن أبي نمر عن أنس : ( أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما ثم قال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال : اللهم أغثنا اللهم أغثنا قال أنس : ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتا قال : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال : فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك : فسألت أنسا أهو الرجل الأول قال لا أدري )
- متفق عليه

- قوله : ( أن رجلا ) في مسند أحمد ما يدل على أن هذا المبهم كعب بن مرة وفي البيهقي من طريق مرسلة ما يدل على أنه خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري وزعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب
قال في الفتح : وفيه نظر لأنه جاء في واقعة أخرى . وقال الحافظ : لم أقف على تسميته كما تقدم
قوله : ( يوم جمعة ) فيه دليل على أنه إذا اتفق وقوع الاستسقاء يوم جمعة اندرجت خطبة الاستسقاء وصلاتها في الجمعة وقد بوب لذلك البخاري وذكر حديث الباب
قوله : ( من باب كان نحو دار القضاء ) فسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإمامة . قال في الفتح : وليس كذلك وإنما هي دار عمر بن الخطاب [ ص 41 ] وسميت دار القضاء لأنها بيعت في قضاء دينه فكان يقال لها دار قضاء دين عمر ثم طال ذلك فقيل لها دار القضاء ذكره الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عمر . وقد قيل في تفسيرها غير ذلك
قوله : ( ثم قال يا رسول الله ) هذا يدل على أن السائل كان مسلما وبه يرد على من قال إنه أبو سفيان لأنه حين سؤاله لذلك لم يكن قد أسلم
قوله : ( هلكت الأموال ) المراد بالأموال هنا الماشية لا الصامت
قوله : ( وانقطعت السبل ) المراد بذلك أن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها . وقيل المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يجلبونه ويحملونه إلى الأسواق
قوله : ( فادع الله يغثنا ) هكذا في رواية للبخاري بالجزم وفي رواية له يغيثنا بالرفع وفي رواية له أن يغيثنا فالجزم ظاهر والرفع على الاستئناف أي فهو يغيثنا قال في الفتح : وجائز أن يكون من الغوث أو من الغيث والمعروف في كلام العرب غثنا لأنه من الغوث . وقال ابن القطاع : غاث الله عباده غيثا وغياثا سقاهم المطر وأغاثهم أجاب دعاءهم ويقال غاث وأغاث بمعنى
قال ابن دريد : الأصل غاثه الله يغوثه غوثا واستعمل أغاثه ومن فتح أوله فمن الغيث ويحتمل أن يكون معنى أغثنا أعطنا غوثا وغيثا
قوله : ( فرفع يديه ) فيه استحباب رفع اليد عند دعاء الاستسقاء وقد تقدم الكلام عليه
قوله : ( من سحاب ) أي مجتمع
قوله : ( ولا قزعة ) بفتح القاف والزاي بعدها مهملة أي سحاب متفرق . وقال ابن سيده : القزع من السحاب رقاق . قال أبو عبيدة : وأكثر ما يجيء في الخريف
قوله : ( وما بيننا وبين سلع ) بفتح المهملة وسكون اللام جبل معروف بالمدينة وقد حكى أنه بفتح اللام
قوله : ( من بيت ولا دار ) أي يحجبنا من رؤيته وأشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا غيره
قوله : ( فطلعت ) أي ظهرت من وراء سلع
قوله : ( مثل الترس ) أي مستديرة ولم يرد أنها مثله في القدر . وفي رواية : ( فنشأت سحابة مثل رجل الطائر )
قوله : ( فلما توسطت السماء انتشرت ) هذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق وانبسطت حينئذ وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر
قوله : ( ما رأينا الشمس سبتا ) هذا كناية عن استمرار الغيم الماطر وهو كذلك في الغالب وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية وقد تحتجب الشمس بغير مطر . وأصرح من ذلك ما وقع في رواية [ ص 42 ] أخرى للبخاري بلفظ : ( فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى ) والمراد بقوله سبتا أي من السبت إلى السبت قاله ابن المنير والطبري قال : وفيه تجوز لأن السبت لم يكن مبتدأ ولا الثاني منتهي وإنما عبر أنس بذلك لأنه كان من الأنصار وقد كانوا جاوروا اليهود فأخذوا بكثير من اصطلاحهم وإنما سموا الأسبوع سبتا لأنه أعظم الأيام عند اليهود كما أن الجمعة عند المسلمين كذلك وفي تعبيره عن الأسبوع بالسبت مجاز مرسل والعلاقة الجزئية والكلية . وقال صاحب النهاية : أراد قطعة من الزمان وكذا قال النووي . ووقع في رواية ستا أي ستة أيام . ووقع في رواية فمطرنا من جمعة إلى جمعة
قوله : ( ثم دخل رجل من ذلك الباب ) ظاهره أنه غير الأول لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد وقد قال شريك في آخر هذا الحديث سألت أنسا أهو الرجل الأول فقال لا أدري وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير
وفي رواية للبخاري عن أنس : ( فقام ذلك الرجل أو غيره ) وفي رواية له عنه : ( فأتى الرجل فقال يا رسول الله ) ومثلها لأبي عوانة وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدا فلعل أنسا تذكره بعد أن نسيه ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي عنه بلفظ : ( فقال الرجل ) يعني الذي سأله يستسقي
قوله : ( هلكت الأموال وانقطعت السبل ) أي بسبب غير السبب الأول والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم المرعى أو لعدم ما يكنها من المطر ويدل على ذلك ما عند النسائي بلفظ من كثرة الماء . وأما انقطاع السبل فلتعذر سلوك طريق من كثرة الماء . وفي رواية عند ابن خزيمة واحتبس الركبان وفي رواية للبخاري تهدمت البيوت . وفي رواية له هدم البناء وغرق المال
قوله : ( يمسكها ) يجوز ضم الكاف وسكونها والضمير يعود إلى الأمطار أو إلى السحاب أو إلى السماء
قوله : ( اللهم حوالينا ولا علينا ) تقدم الكلام عليه
قوله : ( على الآكام ) بكسر الهمزة وقد تفتح جمع أكمة مفتوحة الحروف جميعا قيل هي التراب المجتمع وقيل هي الحجر الواحد وبه قال الخليل . وقال الخطابي : هي الهضبة الضخمة . وقيل الجبل الصغير . وقيل ما ارتفع من الأرض
قوله : ( والظراب ) تقدم تفسيره وضبطه
قوله : ( وبطون الأودية ) المراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به
قوله : ( فانقلعت ) أي السماء أو السحابة الماطرة والمعنى أنها أمسكت عن المطر على المدينة [ ص 43 ]
( وفي الحديث ) فوائد منها جواز المكالمة من الخطيب حال الخطبة وتكرار الدعاء وإدخال الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر وترك تحويل الرداء والاستقبال والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء كما تقدم . وفيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله تعالى دعاء نبيه وامتثال السحاب أمره كما وقع في كثير من الروايات وغير ذلك من الفوائد

كتاب الجنائز

- هي جمع جنازة بكسر الجيم وفتحها قال ابن قتيبة وجماعة والكسر أفصح وحكى صاحب المطالع أنه يقال بالفتح للميت وبالكسر للنعش عليه الميت ويقال عكس ذلك انتهى
والجنازة مشتقة من جنز إذا ستر قاله ابن فارس وغيره والمضارع يجنز بكسر النون قاله النووي . والجنائز بفتح الجيم لا غير قاله النووي والحافظ وغيرهما

باب عيادة المريض

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض وإتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس )
- متفق عليه

2 - وعن ثوبان قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في مخرفة الجنة حتى يرجع )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي

- قوله : ( خمس ) في رواية لمسلم : ( حق المسلم على المسلم ست ) وزاد : ( وإذا استنصحك فانصح له ) وفي رواية للبخاري من حديث البراء : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع ) وذكر الخمس المذكورة في حديث الباب وزاد : ( ونصر المظلوم وإبرار القسم ) والمراد بقوله ( حق المسلم ) أنه لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجبا أو مندوبا ندبا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه ويكون استعماله في المعنيين [ ص 44 ] من باب استعمال المشترك في معنييه فإن الحق يستعمل في معنى الواجب كذا ذكره ابن الأعرابي وكذا يستعمل في معنى الثابت ومعنى اللازم ومعنى الصدق وغير ذلك . وقال ابن بطال : المراد بالحق هنا الحرمة والصحبة . وقال الحافظ : الظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية
قوله : ( رد السلام ) فيه دليل على مشروعية رد السلام ونقل ابن عبد البر الإجماع على أن ابتداء السلام سنة وأن رده فرض وصفة الرد أن يقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وهذه الصفة أكمل وأفضل فلو حذف الواو جاز وكان تاركا للأفضل وكذا لو اقتصر على وعليكم السلام بالواو أو بدونها أجزأه فلو اقتصر على وعليكم لم يجزه بلا خلاف ولو قال وعليكم بالواو ففي إجزائه وجهان لأصحاب الشافعي . وظاهر قوله ( حق المسلم ) أنه لا يرد على الكافر
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم )
وفي الصحيحين عن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ) وأخرج البخاري نحوه من حديث ابن عمر وقد قطع الأكثر بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام وفي الصحيحين عن أسامة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين فسلم عليهم )
وفي الصحيحين أيضا : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى )
قوله : ( وعيادة المريض ) فيه دلالة على شرعية عيادة المريض وهي مشروعة بالإجماع وجزم البخاري بوجوبها فقال باب وجوب عيادة المريض . قال ابن بطال : يحتمل أن يكون الوجوب للكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير ويحتمل أن يكون الوارد فيها محمولا على الندب وجزم الداودي بالأول وقال الجمهور بالندب وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته وتسن فيمن يراعي حاله وتباح فيما عدا ذلك وفي الكافر خلاف ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب
قال الحافظ : يعني على الأعيان وعامة في كل مرض
قوله : ( وإتباع الجنائز ) فيه أن إتباعها مشروع وهو سنة بالإجماع واختلف في وجوبه وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى
قوله : ( وإجابة الدعوة ) فيه مشروعية إجابة الدعوة وهي أعم من الوليمة وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب [ ص 45 ] الوليمة إن شاء الله تعالى
قوله : ( وتشميت العاطس ) التشميت بالسين المهملة والمعجمة لغتان مشهورتان . قال الأزهري : قال الليث التسميت ذكر الله تعالى على كل شيء ومنه قولك للعاطس يرحمك الله . وقال ثعلب : الأصل فيه المهملة فقلبت معجمة . وقال صاحب المحكم : تسميت العاطس معناه الدعاء له بالهداية إلى السمت الحسن . وفيه دليل على مشروعية تسميت العاطس وهو أن يقول له يرحمك الله
وأخرج أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك الله ويقول هو يهديكم الله ويصلح بالكم )
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك الله فإذا قال يرحمك الله فليقل له يهديكم الله ويصلح بالكم )
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر قال : ( إذا عطس أحدكم فقيل له يرحمك الله يقول يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا وإياكم )
والتسميت سنة على الكفاية ولو قال بعض الحاضرين أجزأ عن الباقين ولكن الأفضل أن يقول كل واحد لما في البخاري عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول يرحمك الله تعالى ) وقال أهل الظاهر : إنه يلزم كل واحد وبه قال ابن أبي مريم واختاره ابن العربي والتسميت إنما يكون مشروعا للعاطس إذا حمد الله كما في حديث أبي هريرة المذكور
وفي الصحيحين عن أنس قال : ( عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمت أحدهما ولم يسمت الآخر فقال الذي لم يسمته فلان عطس فسمته وعطست فلم تسمتني فقال هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله )
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه ) وإذا تكرر العطاس فهل يشرع تكرير التسميت أو لا فيه خلاف
وقد أخرج ابن السني بإسناد فيه من لم يتحقق حاله عن أبي هريرة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا عطس أحدكم فليسمته جليسه وإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يسمت بعد ثلاث )
وفي مسلم عن سلمة بن الأكوع : ( أنه قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الثانية إنك مزكوم ) وأخرج أبو داود والترمذي [ ص 46 ] من حديث سلمة أنه قال له في الثالثة يرحمك الله هذا رجل مزكوم
وأخرج أبو داود والترمذي أيضا عن عبيد بن رفاعة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تسميت العاطس ثلاثا فإن زاد فإن شئت سمته وإن شئت فلا ) ولكنه حديث ضعيف قال الترمذي : إسناده مجهول
قال ابن العربي : ومعنى قوله إنك مزكوم أي إنك لست ممن يسمت بعد هذا لأن هذا الذي بك زكام ومرض لا خفة العطاس ولكنه يدعى له بدعاء المسلم للمسلم بالعافية والسلامة ولا يكون من باب التسميت
والسنة للعاطس أن يضع ثوبه أو يده على فيه عند العطاس لما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عطس وضع ثوبه أو يده على فيه وخفض أو غض بها صوته ) وحسنه الترمذي
ويكره رفع الصوت بالعطاس لما أخرجه ابن السني عن عبد الله بن الزبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله عز و جل يكره رفع الصوت بالتثاؤب والعطاس )
وأخرج أيضا عن أم سلمة قالت : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : التثاؤب الرفيع والعطسة الشديدة من الشيطان )
قوله : ( لم يزل في مخرفة الجنة ) بالخاء المعجمة على زنة مرحلة وهي البستان ويطلق على الطريق اللاحب أي الواضح . ولفظ الترمذي : ( لم يزل في خرفة الجنة ) والخرف بالضم المخترف والمجتني أفاده صاحب القاموس

3 - وعن علي رضي الله عنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا عاد المسلم أخاه مشى في خرافة الجنة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح )
- رواه أحمد وابن ماجه . وللترمذي وأبي داود نحوه

4 - وعن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث )
- رواه ابن ماجه

5 - وعن زيد بن أرقم قال : ( عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وجع كان بعيني )
- رواه أحمد وأبو داود

- حديث علي قال أبو داود : إنه أسند عن علي من غير وجه صحيح وقال الترمذي : إنه حسن غريب . وقال أبو بكر البزار : هذا الحديث رواه أبو معاوية عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى . ورواه شعبة عن الحكم عن عبد الله عن [ ص 47 ] نافع وهذا اللفظ لا يعلم رواه إلا علي . وقد روي عن علي من غير وجه وحديث أنس في إسناده مسلم بن علي وهو متروك وحديث زيد بن أرقم سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد وصححه الحاكم ( وفي الباب ) عن أبي موسى عند البخاري قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني ) وعن جابر عند البخاري وأبي داود قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا برذون ) وعن أنس غير حديث الباب عند أبي داود قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسبا بوعد من جهنم مسير سبعين خريفا ) وفي إسناده الفضل بن دلهم . قال يحيى بن معين : ضعيف الحديث وقال أحمد : لا يحفظ . وقال مرة : ليس به باس . وقال ابن حبان : كان ممن يخطئ فلا يفحش خطؤه حتى يبطل الاحتجاج به ولا أقتفي أثر العدول فيسلك به سنتهم فهو غير محتج به إذا انفرد . وعن عائشة عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي قال : ( لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب ) وعن عائشة بنت سعد عن أبيها قال : ( اشتكيت فجاءني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني ووضع يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني ثم قال اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته ) أخرجه البخاري وأبو داود . وعن البراء أشار إليه الترمذي . وعن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه بلفظ : ( من عاد مريضا نادى مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا )
قوله : ( من خرافة ) بزنة كناسة المخترف والمجتني كذا قال في القاموس قال في الفتح : خرفة بضم المعجمة وسكون الراء بعدها فاء هي الثمرة وقيل المراد بها هنا الطريق . والمعنى أن العائد يمشي في طريق يؤديه إلى الجنة والتفسير الأول أولى فقد أخرجه البخاري في الأدب من هذا الوجه وفيه : قلت لأبي قلابة ما خرفة الجنة قال جناها . وهو عند مسلم من جملة المرفوع
قوله : ( إلا بعد ثلاث ) يدل على أن زيارة المريض إنما تشرع بعد مضي ثلاثة أيام من ابتداء مرضه فتقيد به مطلقات الأحاديث الواردة في الزيارة ولكنه غير صحيح ولا حسن كما عرفت فلا يصلح لذلك
قوله : ( من وجع كان بعيني ) فيه أن وجع العين من الأمراض التي تشرع لها الزيارة فيرد بالحديث على من لم يقل باستحباب زيارة من كان مرضه الرمد ونحوه من الأمراض الخفيفة [ ص 48 ]
( وأحاديث ) الباب تدل على تأكد مشروعية زيارة المريض وقد تقدم الخلاف في حكمها ويستحب الدعاء للمريض وقد ورد في صفته أحاديث منها حديث عائشة بنت سعد المتقدم . ومنها حديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي والترمذي وحسنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض ) وفي إسناده يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد المعروف بالدالاني وقد وثقه أبو حاتم وتكلم فيه غير واحد . ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا جاء الرجل يعود مريضا فليقل اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوا أو يمشي لك إلى جنازة )

باب من كان آخر قوله لا إله إلا الله وتلقين المحتضر وتوجيهه وتغميض الميت والقراءة عنده

1 - عن معاذ قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده صالح ابن أبي غريب . قال ابن القطان : لا يعرف وأعل الحديث به وتعقب بأنه روى عنه جماعة وذكره ابن حبان في الثقات وقد عزا هذا الحديث ابن معن إلى الصحيحين فغلط فإنه ليس فيهما والذي فيهما لم يقيد بالموت ولكنه روى مسلم من حديث عثمان : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة عند الطبراني بلفظ : ( من قال عند موته لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله لا تطعمه النار أبدا ) وفي إسناده جابر بن يحيى الحضرمي . وأخرج النسائي نحوه عن أبي هريرة وحده . وأخرج مسلم من حديث أبي ذر قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ) وأخرج الحاكم عن عمر مرفوعا : ( إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه فيموت على ذلك إلا حرم على النار لا إله إلا [ ص 49 ] الله ) وفي الباب أيضا عن طلحة وعبادة وعمر عند أبي نعيم في الحلية . وعن ابن مسعود عند الخطيب مثل حديث الباب . وعن حذيفة عنده أيضا بنحوه . وعن جابر وابن عمر عند الدارقطني في العلل بنحوه أيضا ( والحديث ) فيه دليل على نجاة من كان آخر قوله لا إله إلا الله من النار واستحقاقه لدخول الجنة وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن مجرد قوله لا إله إلا الله من موجبات دخول الجنة من غير تقييد بحال الموت فبالأولى أن توجب ذلك إذا قالها في وقت لا تتعقبه معصية

2 - وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- وفي الباب عن أبي هريرة عند مسلم بمثل حديث أبي سعيد ورواه ابن حبان عنه وزاد : ( فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة يوما من الدهر وان أصابه ما أصابه قبل ذلك ) وعنه أيضا حديث آخر بلفظ : ( إذا ثقلت مرضاكم فلا تملوهم قول لا إله إلا الله ولكن لقنوهم فإنه لم يختم به لمنافق قط ) وفي إسناده محمد بن الفضل ابن عطية وهو متروك . وعن عائشة عند النسائي بنحو حديث الباب . وعن عبد الله ابن جعفر عند ابن ماجه وزاد : ( الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين ) وعن جابر عند الطبراني في الدعاء والعقيلي في الضعفاء وفيه عبد الله بن مجاهد وهو متروك . وعن عروة بن مسعود الثقفي عند العقيلي بإسناد ضعيف . وعن حذيفة عند ابن أبي الدنيا وزاد : ( فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا ) وعن ابن عباس عند الطبراني . وعن ابن مسعود عنده أيضا . وعن عطاء بن السائب عن أبيه عن جده عنده أيضا . قال العقيلي : روي في الباب أحاديث صحاح عن غير واحد من الصحابة . وروي فيه أيضا عن عمر وعثمان وابن مسعود وأنس وغيرهم هكذا في التلخيص
قوله : ( لقنوا موتاكم ) قال النووي : أي من حضره الموت والمراد ذكروه لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه كما في الحديث : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) والأمر بهذا التلقين أمر ندب وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا الإكثار عليه والموالاة لئلا يضجره لضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه أو يتكلم بكلام لا يليق قالوا وإذا قاله مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر [ ص 50 ] فيعاد التعريض له به ليكون آخر كلامه . ويتضمن الحديث الحضور عند المحتضر لتذكيره وتأنيسه وإغماض عينيه والقيام بحقوقه وهذا مجمع عليه اه كلام النووي ولكنه ينبغي أن ينظر ما القرينة الصارفة للأمر عن الوجوب

3 - وعن عبيد بن عمير عن أبيه وكانت له صحبة : ( أن رجلا قال : يا رسول الله ما الكبائر قال : هي سبع فذكر منها واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا )
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه أيضا النسائي والحاكم ولفظه عند أبي داود والنسائي : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وقد سأله رجل عن الكبائر فقال : هن تسع الشرك والسحر وقتل النفس وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات وعقوق الوالدين واستحلال البيت ) الحديث
( وفي الباب ) عن ابن عمر عند البغوي في الجعديات بنحو حديث الباب ومداره على أيوب بن عتبة وهو ضعيف وقد اختلف عليه فيه
قوله : ( قال هي سبع ) بتقديم السين هكذا وقع في نسخ الكتاب الصحيحة التي وقفنا عليها والصواب تسع بتقديم التاء الفوقية
( والحديث ) استدل به على مشروعية توجيه المحتضر إلى القبلة لقوله واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا . وفي الاستدلال به على ذلك نظر لأن المراد بقوله أحياء عند الصلاة وأمواتا في اللحد والمحتضر حي غير مصل فلا يتناوله الحديث وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي وعدم اختصاصه بحال الصلاة وهو خلاف الإجماع . والأولى الاستدلال لمشروعية التوجيه بما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة : ( أن البراء بن معرور أوصى أن يوجه للقبلة إذا احتضر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أصاب الفطرة ) وقد ذكر هذا الحديث في التلخيص وسكت عنه . وقد اختلف في صفة التوجيه إلى القبلة فقال الهادي والناصر والشافعي في أحد قوليه : إنه يوجه مستلقيا ليستقبلها بكل وجهه . وقال المؤيد بالله وأبو حنيفة والإمام يحيى والشافعي في أحد قوليه : إنه يوجه على جنبه الأيمن وروي عن الإمام يحيى أنه قال : الأمران جائزان والأولى أن يوجه على جنبه الأيمن لما أخرجه ابن عدي في الكامل ولم يضعفه من حديث البراء بلفظ : ( إذا أخذ أحدكم مضجعه فليتوسد يمينه ) الحديث . أخرجه البيهقي في الدعوات [ ص 51 ] بإسناد قال الحافظ حسن . وأصل الحديث في الصحيحين بلفظ : ( إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل اللهم إني أسلمت نفسي إليك ) وفي آخره : ( فان مت من ليلتك فأنت على الفطرة ) وفي الباب عن عبد الله بن زيد عند النسائي والترمذي وأحمد بلفظ : ( كان إذا نام وضع يده اليمنى تحت خده ) وعن ابن مسعود عند النسائي والتزمذي وابن ماجه . وعن حفصة عند أبي داود . وعن سلمى أم أبي رافع عند أحمد في المسند بلفظ : ( أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها ) وعن حذيفة عند الترمذي . وعن أبي قتادة عند الحاكم والبيهقي بلفظ : ( كان إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه ) وأصله في مسلم . ووجه الاستدلال بأحاديث توسد اليمين عند النوم على استحباب أن يكون المحتضر عند الموت كذلك أن النوم مظنة للموت وللإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة ) بعد قوله : ( ثم اضطجع على شقك الأيمن ) فإنه يظهر منها أنه ينبغي أن يكون المحتضر على تلك الهيئة

4 - وعن شداد بن أوس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت )
- رواه أحمد وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم والطبراني في الأوسط والبزار وفي إسناده قزعة بن سويد . قال في التقريب : قزعة بفتح القاف والزاي والعين قال في الخلاصة : قال أبو حاتم : محله الصدق ليس بذاك القوي . وفي الباب عن أم سلمة قالت : ( دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال : إن الروح إذا قبض تبعه البصر ) أخرجه مسلم
قوله : ( فإن البصر يتبع الروح ) قال النووي : معناه إذا خرج الروح من الجسد تبعه البصر ناظرا أين يذهب قال : وفي الروح لغتان التذكير والتأنيث قال : وفيه دليل لمذهب أصحابنا المتكلمين ومن وافقهم أن الروح أجسام لطيفة متخللة في البدن وتذهب الحياة عن الجسد بذهابها وليس عرضا كما قاله آخرون ولا دما كما قاله آخرون وفيها كلام متشعب للمتكلمين اه
قوله : ( وقولوا خيرا ) الخ هذا في صحيح مسلم من حديث أم سلمة بلفظ : ( لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير [ ص 52 ] فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ) والحديث فيه الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار له وطلب اللطف به والتخفيف عنه ونحوه وحضور الملائكة حينئذ وتأمينهم . وفيه أن تغميض الميت عند موته مشروع . قال النووي : وأجمع المسلمون على ذلك قالوا : والحكمة فيه أن لا يقبح منظره لو ترك إغماضه

5 - وعن معقل بن يسار قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرؤوا يس على موتاكم )
- رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ولفظه : ( يس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار والآخرة إلا غفر له واقرؤوها على موتاكم )

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن حبان وصححه وأعله ابن القطان بالاضطراب وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه المذكورين في السند . وقال الدارقطني : هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث . قال أحمد في مسنده : حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان قال : كانت المشيخة يقولون إذا قرئت يعني يس لميت خفف عنه بها وأسنده صاحب مسند الفردوس من طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمر وعن شريح عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه ) وفي الباب عن أبي ذر وحده أخرجه أبو الشيخ في فضل القرآن هكذا في التلخيص . قال ابن حبان في صحيحه : قوله ( اقرؤوا على موتاكم يس ) أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه وكذلك : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) ورده المحب الطبري في القراءة وسلم له في التلقين اه واللفظ نص في الأموات وتناوله للحي المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة

باب المبادرة إلى تجهيز الميت وقضاء دينه

1 - عن الحصين بن وحوح ( أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال : إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فأذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله )
- رواه أبو داود [ ص 53 ]

- الحديث سكت عنه أبو داود وقال المنذري : قال أبو القاسم البغوي : ولا أعلم روى هذا الحديث غير سعيد بن عثمان البلوي وهو غريب اه . وقد وثق سعيد المذكور ابن حبان ولكن في إسناد هذا الحديث عروة ابن سعيد الأنصاري ويقال عزرة عن أبيه وهو وأبوه مجهولان . ( وفي الباب ) عن علي : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثلاث يا علي لا يؤخرن الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا ) أخرجه أحمد وهذا لفظه والترمذي بهذا اللفظ ولكنه قال لا تؤخرها مكان قوله لا يؤخرهن وقال : هذا حديث غريب وما أرى إسناده بمتصل وأخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم وابن حبان وغيرهم وإعلال الترمذي له بعدم الاتصال لأنه من طريق عمر بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب قيل ولم يسمع منه وقد قال أبو حاتم : إنه سمع منه فاتصل إسناده وقد أعله الترمذي أيضا بجهالة سعيد بن عبد الله الجهني ولكنه عده ابن حبان في الثقات
قوله : ( عن الحصين بن وحوح ) هو أنصاري وله صحبة ووحوح بفتح الواو وسكون الحاء المهملة وبعدها واو مفتوحة وحاء مهملة أيضا . وطلحة بن البراء أنصاري له صحبة
( والحديث ) يدل على مشروعية التعجيل بالميت والإسراع في تجهيزه وتشهد له أحاديث الإسراع بالجنازة وستأتي

2 - وعن أبي هريرة ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال : حديث حسن

- الحديث رجال إسناده ثقات إلا عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو صدوق يخطئ . فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه وأما من لا مال له ومات عازما على القضاء فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه بل ثبت أن مجرد محبة المديون عند موته للقضاء موجبة لتولي الله سبحانه لقضاء دينه وإن كان له مال ولم يقض منه الورثة أخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا : ( من دان بدين في نفسه وفاؤه تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء ومن دان بدين وليس في نفسه وفاؤه ومات اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة ) وأخرج أيضا من حديث ابن عمر : ( الدين دينان فمن مات وهو ينوي قضاؤه فأنا وليه ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس [ ص 54 ] يومئذ دينار ولا درهم ) وأخرج أيضا من حديث عبد الرحمن ابن أبي بكر : ( يؤتى بصاحب الدين يوم القيامة فيقول الله فيم أتلفت أموال الناس فيقول يا رب إنك تعلم أنه أتى على إما حرق وإما غرق فيقول فإني سأقضي عنك اليوم فيقضي عنه ) وأخرج أحمد وأبو نعيم في الحلية والبزار والطبراني بلفظ : ( يدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز و جل فيقول يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين وفيم ضيعت حقوق الناس فيقول يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم أكل ولم أشرب ولم أضيع ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة فيقول الله صدق عبدي وأنا أحق من قضى عنك فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته فيدخل الجنة بفضل رحمته ) وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) وأخرج ابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث ميمونة : ( ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداؤه إلا أدى الله عنه في الدنيا والآخرة ) وأخرج الحاكم بلفظ : ( من تداين بدين في نفسه وفاؤه ثم مات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء ) وقد ورد أيضا ما يدل على أن من مات من المسلمين مديونا فدينه على من إليه ولاية أمور المسلمين يقضيه عنه من بيت مالهم وإن كان له مال كان لورثته أخرج البخاري من حديث أبي هريرة : ( ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والأخرة اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ) وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وأخرج أحمد وأبو يعلى من حديث أنس : ( من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا فعلى الله وعلى رسوله ) وأخرج ابن ماجه من حديث عائشة : ( من حمل من أمتي دينا فجهد في قضائه فمات قبل أن يقضيه فأنا وليه ) وأخرج ابن سعد من حديث جابر يرفعه : ( أحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة من مات فترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي ) وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه في حديث آخر : ( من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي وأنا أولى بالمؤمنين ) وفي معنى ذلك عدة أحاديث ثبتت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قالها بعد أن كان يمتنع من الصلاة على المديون فلما فتح [ ص 55 ] الله عليه البلاد وكثرت الأموال صلى على من مات مديونا وقضى عنه وذلك مشعر بأن من مات مديونا استحق أن يقضى عنه دينه من بيت مال المسلمين وهو أحد المصارف الثمانية فلا يسقط حقه بالموت ودعوى من ادعى اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ساقطة وقياس الدلالة ينفي هذه الدعوى في مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه ) أخرجه أحمد وابن ماجه وسعيد بن منصور والبيهقي وهم لا يقولون أن ميراث من لا وارث له مختص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخرج الطبراني من حديث سلمان ما يدل على انتفاء هذه الخصوصية المدعاة ولفظه : ( من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فعلي وعلى الولاة من بعدي من بيت المال )

باب تسجية الميت والرخصة في تقبيله

1 - عن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين توفى سجى ببرد حبرة )
- متفق عليه

2 - وعن عائشة : ( أن أبا بكر دخل فبصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسجى ببرده فكشف عن وجهه وأكب عليه فقبله )
- رواه أحمد والبخاري والنسائي

3 - وعن عائشة وابن عباس : ( أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته )
- رواه البخاري والنسائي وابن ماجه

4 - وعن عائشة قالت : ( قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه

- حديث عائشة الرابع في إسناده عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وهو ضعيف
قوله : ( سجى ) بضم السين وبعدها جيم مشددة مكسورة أي غطى
قوله : ( حبرة ) بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها راء مهملة وهي ثوب فيه أعلام وهي ضرب من برود اليمن وفيه استحباب تسجية الميت . قال النووي : وهو مجمع عليه وحكمته صيانته من الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الأعين . قال أصحاب الشافعي : ويلف طرف الثوب المسجى به تحت رأسه وطرفه الآخر تحت رجليه لئلا ينكشف منه قال : وتكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفى فيها لئلا يتغير [ ص 56 ] بدنه بسببها
قوله : ( فقبله ) فيه جواز تقبيل الميت تعظيما وتبركا لأنه لم ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر فكان إجماعا
قوله : ( قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثمان ) فيه دلالة على جواز تقبيل الميت كما تقدم
قوله : ( حتى رأيت الدموع ) الخ فيه جواز البكاء على الميت وسيأتي تحقيقه

أبواب غسل الميت

باب من يليه ورفقه به وستره عليه

1 - عن عائشة قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقال : ليله أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة )
- رواه أحمد

2 - وعن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن كسر عظم الميت مثل كسر عظمه حيا )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

3 - وعن ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة )
- متفق عليه

4 - عن أبي بن كعب : ( أن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له وألحدوا وصلوا عليه ثم دخلوا قبره فوضعوه في قبره ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر ثم حثوا عليه التراب ثم قالوا يا بني آدم هذه سنتكم )
- رواه عبد الله بن أحمد في المسند

- حديث عائشة الأول أخرجه الطبراني في الأوسط وفي إسناده جابر الجعفي وفيه كلام كثير وحديث عائشة الثاني رجاله رجال الصحيح على كلام في سعد بن سعيد الأنصاري . وحديث أبي بن كعب أخرجه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه
قوله : ( فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك ) المراد بتأدية الأمانة إما كتم ما يرى منه مما يكرهه الناس ويكون قوله ولم يفش عطفا تفسيريا أو يكون المراد بتأدية الأمانة أن يغسل الغسل الذي وردت به الشريعة لأن العلم عند حامله أمانة واستعماله في مواضعه من تأديتها
قوله : [ ص 57 ] ( ليله أقربكم ) فيه أن الأحق بغسل الميت من الناس الأقرب إلى الميت بشرط أن يكون عالما بما يحتاج إليه من العلم وقد قال بتقديم القريب على غيره الإمام يحيى
قوله : ( فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة ) فيه دليل لما ذهبت إليه الهادوية من اشتراط العدالة في الغاسل وخالفهم الجمهور فإن صح هذا الحديث فذاك وإلا فالظاهر عدم اختصاص هذه القربة بمن ليس فاسقا لأنه مكلف بالتكاليف الشرعية وغسل الميت من جملتها وإلا لزم عدم صحة كل تكليف شرعي منه وهو خلاف الإجماع ودعوى صحة بعضها دون بعض بغير دليل تحكم . وقد حكى المهدي في البحر الإجماع على أن غسل الميت واجب على الكفاية . وكذلك حكى الإجماع النووي وناقش دعوى الإجماع صاحب ضوء النهار مناقشة واهية حاصلها أنه لا مستند له إلا أحاديث الفعل وهي لا تفيد الوجوب وأحاديث الأمر بغسل الذي وقصته ناقته والأمر بغسل ابنته صلى الله عليه وآله وسلم والأمر مختلف في كونه للوجوب أو للندب ورد كلامه بأنه إن ثبت الإجماع على الوجوب فلا يضر جهل المستند ويراد أيضا بأن الاختلاف في كون الأمر للوجوب لا يستلزم الاختلاف في كل مأمور به لأنه ربما شهدت لبعض الأوامر قرائن يستفاد منها وجوبه وهذا مما لا يخالف فيه القائل بأن الأمر ليس للوجوب لأن محل الخلاف الأمر المجرد كما تقرر في الأصول نعم قال في الفتح : وقد نقل النووي الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية وهو ذهول شديد فإن الخلاف مشهور جدا عند المالكية على أن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة ولكن الجمهور على وجوبه وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك وقال : قد توارد به القول والعمل انتهى . وهكذا فليكن التعقب لدعوى الإجماع
قوله : ( إن كسر عظم الميت ) الخ فيه دليل على وجوب الرفق بالميت في غسله وتكفينه وحمله وغير ذلك لأن تشبيه كسر عظمه بكسر عظم الحي إن كان في الإثم فلا شك في التحريم وإن كان في التألم فكما يحرم تأليم الحي يحرم تأليم الميت وقد زاد ابن ماجه من حديث أم سلمة لفظ ( في الإثم ) فيتعين الاحتمال الأول
قوله : ( من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) فيه الترغيب في ستر عورات المسلم وظاهره عدم الفرق بين الحي والميت فيدخل في عمومه ستر ما يراه الغاسل ونحوه من الميت وكراهة إفشائه والتحدث به وأيضا قد صح أن الغيبة هي ذكرك لأخيك [ ص 58 ] بما يكره ولا فرق بين الأخ الحي والميت ولا شك أن الميت يكره أن يذكر بشيء من عيوبه التي تظهر حال موته فيكون على هذا ذكرها محرما وسيأتي بقية الكلام على هذا في باب الكف عن ذكر مساوئ الأموات
قوله : ( وعن أبي بن كعب أن آدم ) الخ سيأتي الكلام في تفاصيل ما اشتمل عليه حديث أبي بن كعب هذا في أبوابه من هذا الكتاب

باب ما جاء في غسل أحد الزوجين للآخر

1 - عن عائشة قالت : ( رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأقول وارأساه فقال : بل أنا وارأساه ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك )
- رواه أحمد وابن ماجه

2 - وعن عائشة أنها كانت تقول : ( لو استقبلت من الأمر ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا نساؤه )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه . وقد ذكرنا أن الصديق أوصى أسماء زوجته أن تغسله فغسلته

- حديث عائشة الأول أخرجه أيضا الدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي وفي إسناده محمد بن إسحاق وبه أعله البيهقي . قال الحافظ : ولم ينفرد به بل تابعه عليه صالح بن كيسان عند أحمد والنسائي . وأما ابن الجوزي فقال : لم يقل غسلتك إلا ابن إسحاق وأصل الحديث عند البخاري بلفظ : ( ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك ) وأثرها الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات إلا ابن إسحاق وقد عنعن . وغسل أسماء لأبي بكر الذي أشار إليه المصنف قد تقدم في باب الغسل من غسل الميت من أبواب الغسل وليس فيه إن ذلك كان بوصية من أبي بكر
قوله : ( فغسلتك ) فيه دليل على أن المرأة يغسلها زوجها إذا ماتت وهي تغسله قياسا وبغسل أسماء لأبي بكر كما تقدم وعلي لفاطمة كما أخرجه الشافعي والدارقطني وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على علي وأسماء فكان إجماعا . وقد ذهب إلى ذلك العترة والشافعية والأوزاعي وإسحاق والجمهور . وقال أحمد : لا تغسله لبطلان النكاح ويجوز العكس عنده كالجمهور . وقال أبو حنيفة [ ص 59 ] وأصحابه والشعبي والثوري : لا يجوز أن يغسلها لمثل ما ذكر أحمد ويجوز العكس عندهم كالجمهور قالوا لأنه لا عدة عليه بخلافها . ويجاب عن المذهبين الآخرين بأنه إذا سلم ارتفاع حل الاستمتاع بالموت وأنه العلة في جواز نظر الفرج فغايته تحريم نظر الفرج فيجب ستره عند غسل أحدهما للآخر وقد قيل إن النظر إلى الفرج وغيره لازم من لوازم العقد فلا يرتفع بارتفاع جواز الاستمتاع المرتفع بالموت والأصل بقاء حل النظر على ما كان عليه قبل الموت
قوله : ( لو استقبلت من الأمر ) الخ قيل فيه أيضا متمسك لمذهب الجمهور ولكنه لا يدل على عدم جواز غسل الجنس لجنسه مع وجود الزوجة ولا على أنها أولى من الرجال لأنه قول صحابية ولا حجة فيه وقد تولى غسله صلى الله عليه وآله وسلم علي والفضل بن العباس وأسامة بن زيد يناول الماء والعباس واقف . قال ابن دحية : لم يختلف في أن الذين غسلوه صلى الله عليه وآله وسلم علي والفضل واختلف في العباس وأسامة وقثم وشقران انتهى . وقد استوفى صاحب التلخيص الطرق في ذلك ولم ينقل إلينا أن أحدا من الصحابة أنكر ذلك فكان إجماعا منهم . وروى البزار من طريق يزيد بن بلال قال : ( قال علي : أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يغسله أحد غيري ) وروى ابن المنذر عن أبي بكر أنه أمرهم أن يغسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنو أبيه وخرج من عندهم

باب ترك غسل الشهيد وما جاء فيه إذا كان جنبا

1 - عن جابر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم )
- رواه البخاري والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه . ولأحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قتلى أحد : لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة ولم يصل عليهم )

- قوله : ( يجمع بين الرجلين ) الخ فيه جواز جمع الرجلين في كفن واحد عند [ ص 60 ] الحاجة إلى ذلك والظاهر أنه كان يجمعهما في ثوب واحد . وقيل كان يقطع الثوب بينهما نصفين . وقيل المراد بالثوب القبر مجازا ويرده ما وقع في رواية عن جابر فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة . وقد ترجم البخاري على هذا الحديث باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد وأورده مختصرا بلفظ : ( كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ) وليس فيه تصريح بالدفن . قال ابن رشيد : إنه جرى على عادته من الإشارة إلى ما ليس على شرطه أو اكتفى بالقياس يعني على جمعهم في ثوب واحد انتهى . ولا يخفى أن قوله في هذا الحديث قدمه في اللحد يدل على الجمع بين الرجلين فصاعدا في الدفن . وقد أورد الحديث البخاري باللفظ الذي ذكره المصنف في باب الصلاة على الشهيد فلعل البخاري أشار بما أورده مختصرا إلى هذا لا إلى ما ليس على شرطه ولا سيما مع اتصال باب دفن الرجلين والثلاثة بباب الصلاة على الشهيد بلا فاصل وقد ثبت عند عبد الرزاق بلفظ : ( وكان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد ) وورد ذكره الثلاثة أيضا في هذه القصة عند الترمذي وغيره . وروى أصحاب السنن من حديث هشام بن عامر الأنصاري : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الأنصار أن يجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر ) وصححه الترمذي . قال في الفتح : ويؤخذ من هذا جواز دفن المرأتين في قبر واحد وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه وكأنه كان يجعل بينهما حاجزا لا سيما إذا كانا أجنبيين
قوله : ( أيهم أكثر أخذا للقرآن ) فيه استحباب تقديم من كان أكثر قرآنا ومثله سائر أنواع الفضائل قياسا
قوله : ( ولم يغسلوا ) فيه دليل على أن الشهيد لا يغسل وبه قال الأكثر وسيأتي الكلام في بيان ماهية الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله في الصلاة على الشهيد . وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري حكاه عنهما ابن المنذر وابن أبي شيبة : إنه يغسل وبه قال ابن سريج من الشافعية والحق ما قاله الأولون والاعتذار عن حديث الباب بأن الترك إنما كان لكثرة القتلى وضيق الحال مردود بعلة الترك المنصوصة كما في رواية أحمد المتقدمة وهي رواية لا مطعن فيها
( وفي الباب ) أحاديث منها عن أنس عند أحمد والحاكم وأبي داود والترمذي وقال : غريب . وغلط بعض المتأخرين فقال : وحسنه ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على قتلى أحد ولم يغسلهم ) [ ص 61 ] وعن جابر حديث آخر غير حديث الباب عند أبي داود قال : ( رمى رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وإسناده على شرط مسلم . وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه قال : ( أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم ) وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه جماعة وعطاء بن السائب وفيه مقال
( وفي الباب ) أيضا عن رجل من الصحابة وسيأتي وقد اختلف في الشهيد إذا كان جنبا أو حائضا وسيأتي الكلام على ذلك وأما سائر من يطلق عليه اسم الشهيد كالطعين والمبطون والنفساء ونحوهم فيغسلون إجماعا كما في البحر
قوله : ( ولم يصل عليهم ) قال في التلخيص : هو بفتح اللام وعليه المعنى قال النووي : ويجوز أن يكون بكسرها ولا يفسد لكنه لا يبقى فيه دليل على ترك الصلاة عليهم مطلقا لأنه لا يلزم من قوله ( لم يصل عليهم أن لا يأمر غيره بالصلاة عليهم ) انتهى . وسيأتي الكلام في الصلاة على الشهيد

2 - وروى محمد بن إسحاق في المغازي بإسناده عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن صاحبكم لتغسله الملائكة يعني حنظلة فسألوا أهله ما شأنه فسئلت صاحبته فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهائعة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك غسلته الملائكة )

- الحديث قال في الفتح : قصته مشهورة رواها ابن إسحاق وغيره انتهى وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي من حديث ابن الزبير والحاكم في الإكليل من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف والسرقسطي في غريبه من طريق الزهري مرسلا والحاكم أيضا في المستدرك والطبراني والبيهقي عن ابن عباس أيضا وفي إسناد الحاكم معلى بن عبد الرحمن وهو متروك وفي إسناد الطبراني حجاج وهو مدلس وفي إسناد البيهقي أبو شيبة الواسطي وهو ضعيف جدا
( وفي الباب ) أيضا عن ابن عباس عند الطبراني بإسناد قال الحافظ : لا بأس به عنه قال : ( أصيب حمزة بن عبد المطلب وحنظلة بن الراهب وهما جنب فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت الملائكة تغسلهما ) وهو غريب في ذكر حمزة كما قال في الفتح
قوله : [ ص 62 ] ( الهائعة ) هي الصوت الشديد . وقد استدل بالحديث من قال إنه يغسل الشهيد إذا كان جنبا وبه قال أبو حنيفة والمنصور بالله . وقال الشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد وإليه ذهب الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب : إنه لا يغسل لعموم الدليل وهو الحق لأنه لو كان واجبا علينا ما اكتفى فيه بغسل الملائكة وفعلهم ليس من تكليفنا ولا أمرنا بالإقتداء بهم

3 - وعن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أخوكم يا معشر المسلمين فابتدره الناس فوجدوه قد مات فلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه فقالوا : يا رسول الله أشهيد هو قال : نعم وأنا له شهيد )
- رواه أبو داود

- الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده سلام بن أبي سلام وهو مجهول . وقال أبو داود بعد إخراجه عن سلام المذكور وإنما هو عن زيد بن سلام عن جده أبي سلام انتهى . وزيد ثقة
قوله : ( فلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثيابه ودمائه ) ظاهره أنه لم يغسله ولا أمر بغسله فيكون من أدلة القائلين بأن الشهيد لا يغسل كما تقدم وهو يدل على أن من قتل نفسه في المعركة خطأ حكمه حكم من قتله غيره في ترك الغسل وأما من قتل نفسه عمدا فإنه لا يغسل عند العترة والأوزاعي لفسقه لا لكونه شهيدا
قوله : ( وصلى عليه ) فيه إثبات الصلاة على الشهيد وسيأتي الكلام على ذلك
قوله : ( قال نعم ) الخ فيه أن من قتل نفسه خطأ شهيد وقد أخرج مسلم والنسائي وأبو داود عن سلمة بن الأكوع قال : ( لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديدا فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وشكوا فيه رجل مات بسلاحه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مات جاهدا مجاهدا ) وفي رواية : ( كذبوا مات جاهدا مجاهدا فله أجره مرتين ) هذا لفظ أبي داود

باب صفة الغسل

1 - عن أم عطية قالت : ( دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 63 ] حين توفيت ابنته فقال : اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه فقال : أشعرنها إياه يعني إزاره )
- رواه الجماعة . وفي رواية لهم : ( ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ) وفي لفظ : ( اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ) وفيه قالت : ( فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها ) متفق عليهما لكن ليس لمسلم فيه : ( فألقيناها خلفها )

- قوله ( حين توفيت ابنته ) في رواية متفق عليها ( ونحن نغسل ابنته ) قال في الفتح : ويجمع بينهما بأن المراد أنه دخل حين شرع النسوة في الغسل وابنته المذكورة هي زينب زوج أبي العاص بن الربيع كما في مسلم . وقال الداودي : إنها أم كلثوم زوج عثمان . ويدل عليه ما أخرجه ابن ماجه بإسناد على شرط الشيخين كما قال الحافظ ولفظه : ( دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم ) وكذا وقع لابن بشكوال في المبهمات عن أم عطية والدولابي في الذرية الطاهرة . قال في الفتح : فيمكن ترجيح أنها أم كلثوم بمجيئه من طرق متعددة ويمكن الجمع بأن تكون أم عطية حضرتهما جميعا فقد جزم ابن عبد البر في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات انتهى
قوله : ( اغسلنها ) قال ابن بريدة : استدل به على وجوب غسل الميت قال ابن دقيق العيد : لكن قوله ( ثلاثا ) الخ ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء فيتوقف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد لأن قوله ثلاثا غير مستقل بنفسه فلا بد أن يكون داخلا تحت صيغة الأمر فيراد بلفظ الأمر الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل أو الندب بالنسبة إلى الإيتار انتهى . فمن جوز ذلك جوز الاستدلال بهذا الأمر على الوجوب ومن لم يجوزه حمل الأمر على الندب لهذه القرينة واستدل للوجوب بدليل آخر . وقد ذهب الكوفيون وأهل الظاهر والمزني إلى إيجاب الثلاث وروى ذلك عن الحسن وهو يرد ما حكاه في البحر من الإجماع على أن الواجب مرة فقط
قوله : ( من ذلك ) بكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنث . قال في الفتح : ولم أر في شيء من الروايات بعد قوله سبعا التعبير بأكثر من ذلك إلا في رواية لأبي داود وأما سواه فإما أو سبعا وإما أو أكثر من ذلك انتهى . وهو ذهول منه عما أخرجه البخاري في باب يجعل الكافور فإنه [ ص 64 ] روى حديث أم عطية هنالك بلفظ : ( اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك ) وقد صرح المصنف رحمه الله تعالى بأن الجمع بين التعبير بسبع وأكثر متفق عليه كما وقع في حديث الباب لكن قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا قال بمجاوزة السبع . وصرح بأنها مكروهة أحمد والماوردي وابن المنذر
قوله : ( إن رأيتن ذلك ) فيه دليل على التفويض إلى اجتهاد الغاسل ويكون ذلك بحسب الحاجة لا التشهي كما قال في الفتح . قال ابن المنذر : إنما فوض الرأي إليهن بالشرط المذكور وهو الإيتار
قوله : ( بماء وسدر ) قال الزين ابن المنير : ظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل لأن قوله بماء وسدر يتعلق بقوله اغسلنها قال : وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير لأن الماء المضاف لا يتطهر به وتعقبه الحافظ بمنع لزوم مصير الماء مضافا بذلك لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك بالسدر ثم يغسل بالماء في كل مرة فإن لفظ الخبر لا يأبى ذلك
قوله : ( واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور ) هو شك من الراوي قال في الفتح : والأول محمول على الثاني لأنه نكرة في سياق الإثبات فيصدق بكل شيء منه وقد جزم البخاري في رواية باللفظ الأول وظاهره أنه يجعل الكافور في الماء وبه قال الجمهور
وقال النخعي والكوفيون : إنما يجعل الكافور في الحنوط والحكمة في الكافور كونه طيب الرائحة وذلك وقت تحضر فيه الملائكة وفيه أيضا تبريد وقوة نفوذ وخاصة في تصلب بدن الميت وطرد الهوام عنه وردع ما يتحلل من الفضلات ومنع إسراع الفساد إليه وإذا عدم قام غيره مقامه مما فيه هذه الخواص أو بعضها
قوله : ( فآذنني ) أي أعلمنني
قوله : ( فأعطانا حقوه ) قال في الفتح : بفتح المهملة ويجوز كسرها وهي لغة هذيل بعدها قاف ساكنة والمراد هنا الإزار كما وقع مفسرا في آخر هذه الرواية . والحقو في الأصل معقد الإزار وأطلق على الإزار مجازا . وفي رواية للبخاري : ( فنزع عن حقوه إزاره ) والحقو على هذا حقيقة
قوله : ( فقال أشعرنها إياه ) أي الففنها فيه لأن الشعار ما يلي الجسد من الثياب والمراد اجعلنه شعارا لها . قال في الفتح : قيل الحكمة في تأخير الإزار معه إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهن إياه أولا ليكون قريب العيد من جسده حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين . وفيه جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل وقد نقل ابن بطال الاتفاق على ذلك
قوله : ( ابدأن بميامنها ومواضع [ ص 65 ] الوضوء منها ) ليس بين الأمرين تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معا . قال الزين ابن المنير : قوله ( ابدأن بميامنها ) أي في الغسلات التي لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها أي في الغسلة المتصلة بالوضوء وفي هذا رد على من لم يقل باستحباب البداءة بالميامن وهم الحنفية واستدل به على استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت خلافا للحنفية
قوله : ( اغسلنها وترا ثلاثا ) الخ استدل به على أن أقل الوتر ثلاث قال الحافظ : ولا دلالة فيه لأنه سيق مساق البيان للمراد إذ لو أطلق لتناول الواحدة فما فوقها
قوله : ( فضفرنا شعرها ثلاثة قرون ) هو بضاد وفاء خفيفة وفيه استحباب ضفر شعر المرأة وجعله ثلاثة قرون وهي ناصيتها وقرناها أي جانبا رأسها كما وقع في رواية وكيع عن سفيان عند البخاري تعليقا ووصل ذلك الإسماعيلي وتسمية الناصية قرنا تغليب وقال الأوزاعي والحنفية : إنه يرسل شعر المرأة خلفها وعلى وجهها مفرقا . قال القرطبي : وكأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية هل استندت فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون مرفوعا أو هو شيء رأته ففعلته استحبابا كلا الأمرين محتمل لكن الأصل أن لا يفعل في الميت شيء من جنس القرب إلا بإذن الشرع ولم يرد ذلك مرفوعا كذا قال . وقال النووي : الظاهر عدم إطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقريره له وتعقب ذلك الحافظ بأن سعيد بن منصور روى عن أم عطية أنها قالت : ( قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اغسلنها وترا واجعلن شعرها ضفائر ) وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أم عطية مرفوعا بلفظ : ( واجعلن لها ثلاث قرون )
قوله : ( فألقيناها خلفها ) فيه استحباب جعل ضفائر المرأة خلفها وقد زعم ابن دقيق العيد أن الوارد في ذلك حديث غريب . قال في الفتح : وهو مما يتعجب منه مع كون الزيادة في صحيح البخاري وقد توبع رواتها عليها وقد استوفى تلك المتابعات وذكر للحديث فوائد غير ما تقدم

2 - وعن عائشة قالت : ( لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختلفوا فيه فقالوا : والله ما ندري كيف نصنع أنجرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه قالت : فلما اختلفوا أرسل الله عليهم السنة حتى والله ما من القوم من رجل إلا ذقنه في صدره نائما قالت : ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو فقال : اغسلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 66 ] وعليه ثيابه قالت : فثاروا إليه فغسلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قميصه يفاض عليه الماء والسدر ويدلك الرجال بالقميص )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم . وفي رواية لابن حبان فكان الذي أجلسه في حجره علي بن أبي طالب وروى الحاكم عن عبد الله بن الحارث قال : ( غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي وعلى يده خرقة فغسله فأدخل يده تحت القميص فغسله والقميص عليه ) وفي الباب عن بريدة عند ابن ماجه والحاكم والبيهقي قال : ( لما أخذوا في غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناداهم مناد من الداخل لا تنزعوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قميصه ) وعن ابن عباس عند أحمد : ( أن عليا أسند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صدره وعليه قميصه ) وفي إسناده حسين بن عبد الله وهو ضعيف . وعن جعفر بن محمد عن أبيه عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي والشافعي قال : ( غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا بسدر وغسل وعليه قميص وغسل من بئر يقال لها الغرس بقبا كانت لسعد بن خيثمة وكان يشرب منها وولي سفلته على والفضل محتضنه والعباس يصيب الماء فجعل الفضل يقول أرحني قطعت وتيني أني لا أجد شيئا يترطل علي ) قال الحافظ : وهو مرسل جيد
قوله : ( السنة ) بسين مهملة مكسورة بعدها نون وهي ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى النعاس . قال عدي بن الرقاع العاملي :
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم

أبواب الكفن وتوابعه

باب التكفين من رأس المال

1 - عن خباب بن الأرت : ( أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدا رأسه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نغطي بها رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

2 - وعن خباب أيضا : ( أن حمزة لم يوجد له [ ص 67 ] كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر )
- رواه أحمد

- الحديث الثاني أخرجه الحاكم عن أنس
قوله : ( أن مصعب بن عمير قتل ) في رواية للبخاري : ( أن عبد الرحمن بن عوف قال : قتل مصعب بن عمير وكان خيرا مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة وقتل حمزة أو رجل آخر فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ) قال في الفتح : قوله ( أو رجل آخر ) لم أقف على اسمه ولم يقع في أكثر الروايات إلا بلفظ حمزة ومصعب فقط
قوله : ( إلا نمرة ) هي شملة فيها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف يلبسها الأعراب كذا في القاموس
قوله : ( فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نغطي بها رأسه ) فيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس وجعل النقص مما يلي الرجلين . قال النووي : فإن ضاق عن ذلك سترت العورة فإن فضل شيء جعل فوقها وإن ضاق عن العورة سترت السوأتان لأنهما أهم وهما الأصل في العورة قال : وقد يستدل بهذا الحديث على أن الواجب في الكفن ستر العورة فقط ولا يجب استيعاب البدن عند التمكن ( فإن قيل ) لم يكونوا متمكنين من جميع البدن لقوله : ( لم يوجد غيرها ) فجوابه أن معناه لم يوجد مما يملكه الميت إلا نمرة ولو كان ستر جميع البدن واجبا لوجب على المسلمين الحاضرين تتميمه إن لم يكن له قريب يلزمه نفقته فإن كان وجبت عليه ( فإن قيل ) كانوا عاجزين عن ذلك لأن القضية جرت يوم أحد وقد كثرت القتلى من المسلمين واشتغلوا بهم وبالخوف من العدو عن ذلك وجوابه أنه يبعد من حال الحاضرين المتولين دفنه أن لا يكون مع واحد منهم قطعة من ثوب ونحوها انتهى . وقد استدل بالحديثين على أن الكفن يكون من رأس المال لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالتكفين في النمرة ولا مال غيرها . قال ابن المنذر : قال بذلك جميع أهل العلم إلا رواية شاذة عن خلاص بن عمر وقال : الكفن من الثلث . وعن طاوس قال : من الثلث إن كان قليلا . وحكى في البحر عن الزهري وطاوس أنه من الثلث إن كان معسرا . وقد أخرج الطبراني في الأوسط من حديث علي أن الكفن من جميع المال وإسناده ضعيف وأخرجه ابن أبي حاتم في العلل من حديث جابر وحكي عن أبيه أنه منكر وقد أخرجهما عبد الرزاق [ ص 68 ]
قوله : ( ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر ) فيه أنه يستحب إذا لم يوجد ساتر البتة لبعض البدن أو لكله أن يغطى بالإذخر فإن لم يوجد فما تيسر من نبات الأرض وقد كان الإذخر مستعملا لذلك عند العرب كما يدل عليه قول العباس إلا الإذخر فإنه لبيوتنا وقبورنا

باب استحباب إحسان الكفن من غير مغالاة

1 - عن أبي قتادة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه )
- رواه ابن ماجه والترمذي

2 - وعن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا فزجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- حديث أبي قتادة حسنه الترمذي ورجال إسناده ثقات . وفي الباب عن أم سلمة عند الديلمي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أحسنوا الكفن ولا تؤذوا موتاكم بعويل ولا بتزكية ولا بتأخير وصية ولا بقطيعة وعجلوا بقضاء دينه واعدلوا عن جيران السوء وإذا حفرتم فأعمقوا ووسعوا )
وعن جابر غير حديث الباب عند الديلمي أيضا قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أحسنوا كفن موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون بها في قبورهم )
قوله : ( فليحسن كفنه ) ضبط بفتح الحاء وإسكانها . قال النووي : وكلاهما صحيح والمراد بإحسان الكفن نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وتوسطه وكونه من جنس لباسه في الحياة لا أفخر منه ولا أحقر قال العلماء وليس المراد بإحسانه السرف فيه والمغالاة ونفاسته وإنما المراد ما تقدم
قوله : ( غير طائل ) أي حقير غير كامل
قوله : ( حتى يصلى عليه ) هو بفتح اللام كما قال النووي وإنما نهى عن القبر ليلا حتى يصلى عليه لأن الدفن نهارا يحضره كثيرون من الناس ويصلون عليه ولا يحضره في الليل إلا أفراد . وقيل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن فلا يبين في الليل ويؤيده أول الحديث وآخره
قال [ ص 69 ] القاضي : العلتان صحيحتان قال : والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصدهما معا قال : وقد قيل غير هذا
قوله : ( إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ) يدل على أنه لا بأس به في وقت الضرورة
( وقد اختلف ) العلماء في الدفن بالليل فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة وقال جماعة العلماء من السلف والخلف لا يكره واستدلوا بأن أبا بكر الصديق وجماعة من السلف دفنوا ليلا من غير إنكار . وبحديث المرأة السوداء أو الرجل الذي كان يقم المسجد فتوفي بالليل فدفنوه ليلا وسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فقالوا : توفي فدفناه في الليل فقال : ألا آذنتموني قالوا : كانت ظلمة ولم ينكر عليهم أخرجه البخاري
وسيأتي في باب الدفن ليلا وأجابوا عن حديث الباب بأن النهي كان لترك الصلاة لا لمجرد الدفن بالليل أو عن إساءة الكفن أو عن المجموع وتأتي بقية الكلام إن شاء الله في باب الدفن ليلا

3 - وعن عائشة : ( أن أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران فقال : اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها قلت : إن هذا خلق قال : إن الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة )
- مختصر من البخاري

- قوله : ( به ردع ) بسكون المهملة بعدها عين مهملة أي لطخ لم يعمه كله
قوله : ( وزيدوا عليه ثوبين ) في رواية جديدين
قوله : ( فكفنوني فيها ) رواية أبي ذر فيهما . وفسر الحافظ ضمير المثنى بالمزيد والمزيد عليه وفي رواية غير أبي ذر فيها كما وقع عند المصنف
قوله : ( خلق ) بفتح المعجمة واللام أي غير جديد . وفي رواية عند ابن سعد ألا نجعلها جددا كلها قال : لا . وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الأكفان ويؤيده قوله إنما هو للمهلة . وروى أبو داود من حديث علي عليه السلام مرفوعا : ( لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعا ) ولا يعارضه حديث جابر في الأمر بتحسين الكفن كما تقدم فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على الصفة وحمل المغالاة على الثمن . وقيل التحسين حق للميت فإذا أوصى بتركه اتبع كما فعل الصديق ويحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب بعينه لمعنى فيه من التبرك لكونه صار إليه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكونه قد كان جاهد فيه أو تعبد فيه
ويؤيده ما رواه ابن سعد من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال : قال أبو بكر : [ ص 70 ] كفنوني في ثوبي اللذين كنت أصلي فيهما
قوله : ( إنما هو أي الكفن للمهلة ) قال القاضي عياض : روي بضم الميم وفتحها وكسرها وبذلك جزم الخليل . وقال ابن حبيب : هو بالكسر الصديد وبالفتح التمهل وبالضم عكر الزيت والمراد هنا الصديد ويحتمل أن يكون المراد بقوله وإنما هو أي الجديد وأن يكون المراد المهلة على هذا التمهل أي الجديد لمن يريد البقاء . قال الحافظ : والأول أظهر
( وفي هذا الأثر ) استحباب التكفين في ثلاثة أكفان وجواز التكفين في الثياب المغسولة وإيثار الحي بالجديد . ويدل على استحباب أن يكون الكفن جديدا ما أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد : ( أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الميت يبعث في ثيابه التي مات فيها ) رواه ابن حبان بدون القصة وقال : أراد بذلك إعماله لقوله تعالى { وثيابك فطهر } يريد وعملك فأصلحه قال : والأخبار الصحيحة صريحة أن الناس يحشرون حفاة عراة وحكى الخطابي في الجمع بينهما أنه يبعث في ثيابه ثم يحشر عريانا

باب صفة الكفن للرجل والمرأة

1 - عن ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثلاثة أثواب قميصه الذي مات فيه وحلة نجرانية الحلة ثوبان )
- رواه أحمد وأبو داود

2 - وعن عائشة قالت : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجا )
- رواه الجماعة . ولهم إلا أحمد والبخاري ولفظه لمسلم : ( وأما الحلة فإنما شبه على الناس فيها إنما اشتريت ليكفن فيها فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ) ولمسلم : ( قالت : أدرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حلة يمنية كانت لعبد الله ابن أبي بكر ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص )

- حديث ابن عباس في إسناده يزيد ابن أبي زياد وقد تغير وهذا من أضعف حديثه . [ ص 71 ] وقال النووي : إنه مجمع على ضعف يزيد المذكور وقد بين مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكفن في الحلة وإنما شبه على الناس كما ذكر المصنف
( وفي الباب ) عن جابر بن سمرة عند البزار وابن عدي في الكامل أنه كفن صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب قميص وإزار ولفافة . وفي إسناده ناصح وهو ضعيف . وعن ابن عباس غير حديث الباب عند ابن عدي قال : كفن صلى الله عليه وآله وسلم في قطيفة حمراء . وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف قال الحافظ : وكأنه اشتبه عليه بحديث جعل في قبره قطيفة حمراء فإنه يروى بالإسناد المذكور بعينه . وعن علي عند ابن أبي شيبة وأحمد والبزار قال : كفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سبعة أثواب . وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ لا يصلح الاحتجاج بحديثه إذا خالف الثقات كما هنا وقد خالف ههنا رواية نفسه فإنه روي عن جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثوب نمرة . قال الحافظ : وروى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن عقيل عن ابن الحنفية عن علي بمعنى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كفن في سبعة
وعن جابر عند أبي داود أنه صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثوبين وبرد حبرة وفي رواية للنسائي فذكر لعائشة قولهم في ثوبين وبرد حبرة فقالت : قد أتي بالبرد ولكنهم ردوه . وأخرج مسلم والترمذي عنها أنها قالت : إنهم نزعوها عنه . وروى عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لف في برد حبرة جفف فيه ثم نزع عنه . قال الترمذي : تكفينه في ثلاثة أثواب أصح ما ورد في كفنه
قوله : ( قميصه الذي مات فيه ) دليل لمن قال باستحباب القميص في الكفن وهم الحنفية ومالك وزيد بن علي والمؤيد بالله وذهب الجمهور إلى أنه غير مستحب واستدلوا بقول عائشة ليس فيها قميص ولا عمامة وأجابوا عن حديث ابن عباس بأنه ضعيف الإسناد كما تقدم وأجاب القائلون بالاستحباب أن قول عائشة ليس فيها قميص ولا عمامة يحتمل نفي وجودهما ويحتمل أن يكون المراد نفي المعدود أي الثلاثة خارجة عن القميص والعمامة وهما زائدان وأن يكون معناه ليس فيها قميص جديد أو ليس فيها القميص الذي غسل فيه أو ليس فيها قميص مكفوف الأطراف ويجاب بأن الاحتمال الأول هو الظاهر وما عداه متعسف فلا يصار إليه
قوله : ( جدد ) هكذا وقع عند المصنف وكذلك رواه البيهقي [ ص 72 ] وليس في الصحيحين لفظ جدد . ووقع في رواية لهما بدل جدد من كرسف وهو القطن
قوله : ( بيض ) فيه دليل على استحباب التكفين في الأبيض قال النووي : وهو مجمع عليه
قوله : ( سحولية ) بضم المهملتين ويروى بفتح أوله نسبة إلى سحول قرية باليمن قال النووي : والفتح أشهر وهو رواية الأكثرين . قال ابن الأعرابي وغيره : هي ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن وقال ابن قتيبة : ثياب بيض ولم يخصها بالقطن وفي رواية للبخاري سحول بدون نسبة وهو جمع سحل والسحل الثوب الأبيض النقي ولا يكون إلا من قطن كما تقدم
وقال الأزهري : بالفتح المدينة وبالضم الثياب وقيل النسبة إلى القرية بالضم وأما بالفتح فنسبة إلى القصار لأنه يسحل الثياب أي ينقيها كذا في الفتح
قوله : ( يمانية ) بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة . وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في تشديدها
ووجه الأول أن الألف بدل من ياء النسبة فلا يجتمعان فيقال يمنية بالتشديد أو يمانية بالتخفيف وكلاهما نسبة إلى اليمن
قوله : ( فإنما شبه على الناس ) بضم الشين المعجمة وكسر الباء المشددة ومعناه اشتبه عليهم واعلم أنه قد اختلف في أفضل الكفن بعد الاتفاق على أنه لا يجب أكثر من ثوب واحد يستر جميع البدن فذهب الجمهور إلى أن أفضلها ثلاثة أثواب بيض واستدلوا بحديث عائشة المذكور . قال في الفتح : وتقرير الاستدلال به أن الله عز و جل لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضل وعن الحنفية أن المستحب أن يكون في أحدها ثوب حبرة وتمسكوا بحديث جابر المتقدم وإسناده كما قال الحافظ حسن ولكنه معارض بالمتفق عليه من حديث عائشة على أنا قد قدمنا عن عائشة أنهم نزعوا عنه ثوب الحبرة وبذلك يجمع بين الروايات
وقال الهادي : إن المشروع إلى سبعة ثياب واستدل بحديث علي المتقدم وأجيب عنه بأنه لا ينتهض لمعارضة حديث عائشة الثابت في الصحيحين وغيرهما . وقد قال الحاكم : إنها تواترت الأخبار عن علي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن مغفل وعائشة في تكفين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ولكنه لا يخفى أن إثبات ثلاثة ثياب لا ينفي الزيادة عليها وقد تقرر أن ناقل الزيادة أولى بالقبول على أنه لو تعرض رواة الثلاثة لنفي ما زاد عليها لكان المثبت أولى من النافي نعم حديث علي فيه المقال المتقدم فإن صلح الاحتجاج معه فالمصير إلى الجمع بما ذكرنا متعين وإن لم يصلح فلا فائدة في الاشتغال [ ص 73 ] به لا سيما وقد اقتصر على رواية الثلاثة جماعة من الصحابة ويبعد أن يخفى على جميعهم الزيادة عليها وقد قال الإمام يحيى : إن السبعة غير مستحبة إجماعا

3 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم )
- رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي

- الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان . وأخرجه أيضا الترمذي وصححه وابن ماجه والنسائي والحاكم من حديث سمرة واختلف في وصله وإرساله وقد تقدم في اللباس
( وفي الباب ) عن عمران بن حصين عند الطبراني . وعن أنس عند أبي حاتم في العلل والبزار في مسنده . وعن ابن عمر عند ابن عدي في الكامل . وعن أبي الدرداء عند ابن ماجه يرفعه : ( أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض )
( والحديث ) يدل على مشروعية لبس البياض وقد تقدم الكلام على ذلك في أبواب اللباس وعلى مشروعية تكفين الموتى في الثياب البيض وهو إجماع كما تقدم في شرح الحديث الذي قبله وقد تقدم أيضا عن الحنفية أنهم يستحبون أن يكون في الأكفان ثوب حبرة واستدلوا بما سلف
ومن أدلتهم حديث جابر عند أبي داود بإسناد حسن كما قال الحافظ بلفظ : ( إذا توفي أحدكم فوجد شيئا فليكفن في ثوب حبرة ) والأمر باللبس والتكفين في الثياب البيض محمول على الندب لما قدمنا في أبواب اللباس

4 - وعن ليلى بنت قانف الثقفية قالت : ( كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند وفاتها وكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحقا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر قالت : ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الباب معه كفنها يناولنا ثوبا ثوبا )
- رواه أحمد وأبو داود . قال البخاري : قال الحسن : الخرقة الخامسة يشد بها الفخذان والوركان تحت الدرع

- الحديث في إسناده ابن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث وفي إسناده أيضا نوح بن حكيم . قال ابن القطان : مجهول . ووثقه ابن حبان وقال : ابن إسحاق كان قارئا للقرآن وفي إسناده أيضا داود رجل من بني عروة بن مسعود فإن كان داود بن [ ص 74 ] عاصم بن عروة بن مسعود فهو ثقة وقد جزم بذلك ابن حبان وإن كان غيره فينظر فيه
قوله : ( ليلى بنت قانف ) بالقاف بعد الألف نون ثم فاء
قوله : ( الحقا ) بكسر المهملة وتخفيف القاف مقصور قيل هو لغة في الحقو وهو الإزار
( والحديث ) يدل على أن المشروع في كفن المرأة أن يكون إزارا ودرعا وخمارا وملحفة ودرجا ولم يقع تسمية أم عطية في هذا الحديث فيمن حضر . وقد وقع عند ابن ماجه أن أم عطية قالت : ( دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نغسل ابنته أم كلثوم ) الحديث . ورواه مسلم فقال زينب ورواته أتقن وأثبت وقد تقدم الكلام على هذا الاختلاف في باب صفة الغسل
قوله : ( قال البخاري قال الحسن ) الخ وصله ابن أبي شيبة قال في الفتح : وهذا يدل على أن أول الكلام أن المرأة تكفن في خمسة أثواب . وروى الخوارزمي من طريق إبراهيم بن حبيب ابن الشهيد عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية أنها قالت : ( وكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما نخمر الحي ) قال الحافظ : وهذه الزيادة صحيحة الإسناد وقول الحسن إن الخرقة الخامسة يشد بها الفخذان والوركان قال به زفر . وقالت طائفة : تشد على صدرها ليضم أكفانها ولا يكره القميص للمرأة على الراجح عند الشافعية والحنابلة

باب وجوب تكفين الشهيد في ثيابه التي قتل فيها

1 - عن ابن عباس قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بالشهداء أن ننزع عنهم الحديد والجلود وقال : ادفنوهم بدمائهم وثيابهم )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

2 - وعن عبد الله بن ثعلبة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم أحد : زملوهم في ثيابهم وجعل يدفن في القبر الرهط ويقول : قدموا أكثرهم قرآنا )
- رواه أحمد

- الحديث الأول في إسناده عطاء بن السائب وهو مما حدث به بعد الاختلاط وحديث عبد الله بن ثعلبة أخرجه أيضا أبو داود بإسناد رجاله رجال الصحيح . وفي الباب أحاديث قد تقدم ذكرها في باب ترك غسل الشهيد
( والحديثان ) [ ص 75 ] المذكوران في الباب وما في معناهما فيها مشروعية دفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب ونزع الحديد والجلود عنه وكل ما هو آلة حرب
وقد روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه قال ينزع من الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل إلا أن يكون أصاب السراويل دم وفي إسناده أبو خالد الواسطي والكلام فيه معروف . وقد روى ذلك أحمد بن عيسى في أماليه من طريق الحسين بن علوان عن أبي خالد المذكور عن زيد بن علي والحسين بن علوان متكلم فيه أيضا والظاهر أن الأمر بدفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب للوجوب
قوله : ( وجعل يدفن في القبر ) الخ قد تقدم الكلام على هذا في باب ترك غسل الشهيد

باب تطبيب بدن الميت وكفنه إلا المحرم

1 - عن جابر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا )
- رواه أحمد

2 - وعن ابن عباس قال : ( بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبيا )
- رواه الجماعة . وللنسائي عن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اغسلوا المحرم في ثوبيه اللذين أحرم فيهما واغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة محرما )

- حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي والبزار قيل ورجاله رجال الصحيح وأخرج نحوه أحمد بن حنبل أيضا عن جابر مرفوعا بلفظ : ( إذا أجمرتم الميت فأوتروا )
قوله : ( إذا أجمرتم الميت ) أي بخرتموه وفيه استحباب تبخير الميت ثلاثا
قوله : ( بينما رجل ) قال في الفتح : لم أقف في شيء من الطرق على تسمية المحرم المذكور ووهم بعض المتأخرين فزعم أن اسمه واقد بن عبد الله وعزاه إلى ابن قتيبة في ترجمة عمر من كتاب المغازي وسبب الوهم أن ابن قتيبة لما ذكر ترجمة عمر ذكر أولاده [ ص 76 ] ومنهم عبد الله بن عمر ثم ذكر أولاد عبد الله فذكر فيهم واقد بن عبد الله بن عمر فقال : وقع عن بعيره وهو محرم فهلك فظن هذا المتأخر أن لواقد بن عبد الله صحبة وأنه صاحب القصة التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس كما ظن فإن واقد المذكور لا صحبة له فإن أمه صفية بنت أبي عبيد وإنما تزوجها أبوه في خلافة عمر وفي الصحابة أيضا واقد بن عبد الله آخر ولكنه مات في خلافة عمر كما ذكر ابن سعد
قوله : ( فوقصته ) بفتح الواو بعدها قاف ثم صاد مهملة . وفي رواية للبخاري فأقصعته . وفي أخرى له أيضا أقصعته وفي أخرى له أيضا أوقصته والوقص الكسر كما في القاموس والقصع الهشم وقيل هو خاص بكسر العظم . قال الحافظ : ولو سلم فلا مانع أن يستعار لكسر الرقبة والقعص القتل في الحال ومنه قعاص الغنم وهو موتها كذا في الفتح
قوله : ( اغسلوه بماء وسدر ) فيه دليل على وجوب الغسل بالماء والسدر وقد تقدم الكلام على ذلك
قوله : ( وكفنوه في ثوبيه ) فيه أنه يكفن المحرم في ثيابه التي مات فيها وقيل إنما اقتصر على تكفينه في ثوبيه لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة ويحتمل أنه لم يجد غيرهما
قوله : ( ولا تحنطوه ) هو من الحنوط بالمهملة وهو الطيب الذي يوضع للميت
قوله : ( ولا تخمروا رأسه ) أي لا تغطوه وفيه دليل على بقاء حكم الإحرام وكذلك قوله ( ولا تحنطوه ) وأصرح من ذلك التعليل بقوله ( فإن الله يوم القيامة يبعثه ملبيا ) وقوله في الرواية الأخرى ( فإنه يبعث يوم القيامة محرما ) وخالف في ذلك المالكية والحنفية وقالوا إن قصة هذا الرجل واقعة عين لا عموم لها فتختص به وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة هي كونه في النسك وهي عامة في كل محرم والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثبت لغيره حتى يثبت التخصيص . وما أحسن ما اعتذر به الداودي عن مالك فقال : إنه لم يبلغه الحديث
قوله : ( ولا تمسوه ) بضم أوله وكسر الميم من أمس . قال ابن المنذر : وفي الحديث إباحة غسل المحرم الحي بالسدر خلافا لمن كرهه وأن الوتر في الكفن ليس بشرط وأن الكفن من رأس المال لأمره صلى الله عليه وآله وسلم بتكفينه في ثوبيه ولم يستفصل هل عليه دين مستغرق أم لا وفيه استحباب تكفين المحرم في [ ص 77 ] إحرامه وأن إحرامه باق وأنه لا يكفن في المحنط كما تقدم وأنه يجوز التكفين في الثياب الملبوسة وأن الإحرام يتعلق بالرأس

أبواب الصلاة على الميت

باب من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه

الصلاة على الأنبياء

1 - عن ابن عباس قال : ( دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسالا يصلون عليه حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء حتى إذا فرغوا أدخلوا الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد )
- رواه ابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا البيهقي قال الحافظ : وإسناده ضعيف لأنه من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة
( وفي الباب ) عن أبي عسيب عند أحمد : ( أنه شهد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال كيف نصلي عليك قال : ادخلوا أرسالا ) كذا في التلخيص
وعن جابر وابن عباس أيضا عند الطبراني وفي إسناده عبد المنعم بن إدريس وهو كذاب وقد قال البزار : إنه موضوع . وعن ابن مسعود عند الحاكم بسند واه . وعن نبيط بن شريط عند البيهقي وذكره مالك بلاغا
( وفي الحديث ) أن الصلاة كانت عليه صلى الله عليه وآله وسلم فرادى الرجال ثم النساء ثم الصبيان . قال ابن عبد البر : وصلاة الناس عليه أفرادا مجمع عليه عند أهل السير وجماعة أهل النقل لا يختلفون فيه . وتعقبه ابن دحية بأن ابن القصار حكى الخلاف فيه هل صلوا عليه الصلاة المعهودة أو دعوا فقط وهل صلوا فرادى أو جماعة واختلفوا فيمن أم بهم فقيل أبو بكر روي بإسناد قال الحافظ لا يصح وفيه حرام وهو ضعيف جدا . قال ابن دحية : هو باطل بيقين لضعف رواته وانقطاعه . قال : والصحيح أن المسلمين صلوا عليه أفرادا لا يؤمهم أحد وبه جزم الشافعي . قال : وذلك لعظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي هو وأمي وتنافسهم في أن لا يتولى الإمامة عليه في الصلاة واحد . قال ابن دحية : كان المصلون عليه ثلاثين ألفا . [ ص 78 ] قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث : وتمسك به من قدم النساء على الصبيان في الصلاة على جنائزهم وحال دفنهم في القبر الواحد اه

ترك الصلاة على الشهيد

1 - عن أنس : ( أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي . وقد أسلفنا هذا المعنى من رواية جابر وقد رويت الصلاة عليهم بأسانيد لا تثبت

- أما حديث أنس فأخرجه أيضا الحاكم . وقال الترمذي : إنه حديث غريب لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه . وأخرجه أبو داود في المراسيل والحاكم من حديثه قال : مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره وأعله البخاري والترمذي والدارقطني بأنه غلط فيه أسامة بن زيد فرواه عن الزهري عن أنس ورجحوا رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر
وأما حديث جابر فقد تقدم في باب ترك غسل الشهيد وأما الأحاديث الواردة في الصلاة على شهداء أحد التي أشار إليها المصنف وقال : إنها بأسانيد لا تثبت فستعرف الكلام عليها وفي الصلاة على الشهيد أحاديث
منها ما أخرجه الحاكم من حديث جابر قال : ( فقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمزة حين جاء الناس من القتال فقال رجل : رأيته عند تلك الشجيرات فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جيء بحمزة فصلى عليه ) الحديث . وفي إسناده أبو حماد الحنفي وهو متروك
وعن شداد بن الهاد عند النسائي بلفظ : ( أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فآمن به واتبعه ) وفي الحديث : ( أنه استشهد فصلى عليه صلى الله عليه وآله وسلم فحفظ من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم له اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل في سبيلك ) وحمل البيهقي هذا على أنه لم يمت في المعركة . وعن أنس عند أبي داود في المراسيل والحاكم وقد تقدم لفظه
وعن عقبة بن عامر في البخاري وغيره : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد [ ص 79 ] بعد ثمان سنين صلاته على ميت كالمودع للأحياء والأموات ) وفي رواية لابن حبان ثم دخل بيته ولم يخرج حتى قبضه الله
وعن ابن عباس عند ابن إسحاق قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمزة فسجى ببرده ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة ) وفي إسناده رجل مبهم لأن ابن إسحاق قال حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى ابن عباس عن ابن عباس . قال السهيلي : إن كان الذي أبهمه ابن إسحاق هو الحسن بن عمارة فهو ضعيف وإلا فهو مجهول لا حجة فيه
قال الحافظ : الحامل للسهيلي على ذلك ما وقع في مقدمة مسلم عن شعبة أن الحسن بن عمارة حدثه عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد فسألت الحكم فقال لم يصل عليهم اه . لكن حديث ابن عباس روى من طرق أخرى منها ما أخرجه الحاكم وابن ماجه والطبراني والبيهقي من طريق يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله وأتم منه ويزيد فيه ضعف يسير
( وفي الباب ) أيضا عن أبي مالك الغفاري عند أبي داود في المراسيل من طريقه وهو تابعي اسمه غزوان ولفظه : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة )
قال الحافظ : ورجاله ثقات وقد أعله الشافعي بأنه متدافع لأن الشهداء كانوا سبعين فإذا أتى بهم عشرة عشرة يكون قد صلى سبع صلوات فكيف تكون سبعين قال : وإن أراد التكبير فيكون ثمانية وعشرين تكبيرة وأجيب بأن المراد صلى على سبعين نفسا وحمزة معهم كلهم فكأنه صلى عليه سبعين صلاة
وعن ابن مسعود عند أحمد بلفظ : ( رفع الأنصاري وترك حمزة فصلى عليه ثم جيء برجل من الأنصار ووضعوه إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة )
( وفي الباب ) أيضا حديث أبي سلام عن رجل من الصحابة عند أبي داود وقد تقدم في باب ترك غسل الشهيد . هذا جملة ما وقفنا عليه في هذا الباب من الأحاديث المتعارضة وقد اختلف أهل العلم في ذلك قاله الترمذي قال بعضهم : يصلى على الشهيد وهو قول الكوفيين وإسحاق وقال بعضهم : لا يصلى عليه وهو قول المدنيين والشافعي وأحمد اه وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والمزني والحسن [ ص 80 ] البصري وابن المسيب وإليه ذهب العترة واستدلوا بالأحاديث التي ذكرناها وأجاب عنها القائلون بأنه لا يصلى على الشهيد فقالوا أما حديث جابر ففيه متروك كما تقدم وأما حديث شداد بن الهاد فهو مرسل لأن شدادا تابعي وقد أجيب عنه بما تقدم عن البيهقي وبأن المراد بالصلاة الدعاء وأما حديث أنس فقد تقدم أن البخاري والترمذي والدارقطني قالوا بأنه غلط فيه أسامة وقد قال البيهقي عن الدارقطني أن قوله فيه ولم يصل على أحد من الشهداء غيره ليست بمحفوطة على أنه يقال الحديث حجة عليهم لا لهم لأنها لو كانت واجبة لما خص بها واحدا من سبعين . وأما حديث عقبة فلنبدأ بتقرير الاستدلال به ثم نذكر جوابه وتقريره ما قاله الطحاوي أن معنى صلاته صلى الله عليه وآله وسلم عليهم لا يخلو من ثلاثة معان إما أن يكون ناسخا لما تقدم من ترك الصلاة عليهم أو يكون من سنتهم أن لا يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة أو تكون الصلاة عليهم جائزة بخلاف غيرهم فإنها واجبة وأيها كان فقد ثبت بصلاته عليهم الصلاة على الشهداء ثم الكلام بين المختلفين في عصرنا إنما هو في الصلاة عليهم قبل دفنهم وإذا ثبتت الصلاة عليهم بعد الدفن كانت قيل الدفن أولى اه وأجيب بأن صلاته عليهم تحتمل أمورا أخر منها أن تكون من خصائصه ومنها أن تكون بمعنى الدعاء ثم هي واقعة عين لا عموم لها فكيف ينتهض الاحتجاج بها لدفع حكم قد ثبت
وأيضا لم يقل أحد من العلماء بالاحتمال الثاني الذي ذكره الطحاوي . كذا قال الحافظ وأنت خبير بأن دعوى الاختصاص خلاف الأصل ودعوى أن الصلاة بمعنى الدعاء يردها قوله في الحديث صلاته على الميت وأيضا قد تقرر في الأصول أن الحقائق الشرعية مقدمة على اللغوية فلو فرض عدم ورود هذه الزيادة لكان المتعين المصير إلى حمل الصلاة على حقيقتها الشرعية وهي ذات الأذكار والأركان ودعوى أنها واقعة عين لا عموم لها يردها أن الأصل فيما ثبت لواحد أو لجماعة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم ثبوته للغير على أنه يمكن معارضة هذه الدعوى بمثلها فيقال ترك الصلاة على الشهداء في يوم أحد واقعة عين لا عموم لها فلا تصلح للاستدلال بها على مطلق الترك بعد ثبوت مطلق الصلاة على الميت ووقوع الصلاة منه على خصوص الشهيد في غيرها كما في حديث شداد بن الهاد وأبي سلام
وأما حديث ابن عباس وما ورد في معناه من الصلاة على قتلى أحد قبل دفنهم فأجاب عن ذلك الشافعي بأن الأخبار جاءت كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى [ ص 81 ] الله عليه وآله وسلم لم يصل على قتلى أحد قال : وما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث أن يستحي على نفسه اه
وأجيب أيضا بأن تلك الحالة الضيقة لا تتسع لسبعين صلاة وبأنها مضطربة وبأن الأصل عدم الصلاة ولا يخفى عليك أنها رويت من طريق يشد بعضها بعضا وضيق تلك الحالة لا يمنع من إيقاع الصلاة فإنها لو ضاقت عن الصلاة لكان ضيقها عن الدفن أولى ودعوى الاضطراب غير قادحة لأن جميع الطرق قد أثبتت الصلاة وهي محل النزاع ودعوى أن الأصل عدم الصلاة مسلمة قبل ورود الشرع وأما بعد وروده فالأصل الصلاة على مطلق الميت والتخصيص ممنوع وأيضا أحاديث الصلاة قد شد من عضدها كونها مثبتة والإثبات مقدم على النفي وهذا مرجح معتبر والقدح في اعتباره في المقام يبعد غفلة الصحابة عن إيقاع الصلاة على أولئك الشهداء معارض بمثله وهو بعد غفلة الصحابة عن الترك الواقع على خلاف ما كان ثابتا عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على الأموات فكيف يرجح ناقله وهو أقل عددا من نقلة الإثبات الذي هو مظنة الغفول عنه لكونه واقعا على مقتضى عادته صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على مطلق الميت ومن مرجحات الإثبات الخاصة بهذا المقام أنه لم يرو النفي إلا أنس وجابر وأنس عند تلك الواقعة من صغار الصبيان وجابر قد روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على حمزة وكذلك أنس كما تقدم فقد وافقا غيرهما في وقوع مطلق الصلاة على الشهيد في تلك الواقعة ويبعد كل البعد أن يخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصلاته حمزة لمزية القرابة ويدع بقية الشهداء ومع هذا فلو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل عليهم حال الواقعة وتركنا جميع هذه المرجحات لكانت صلاته عليهم بعد ذلك مفيدة للمطلوب لأنها كالاستدراك لما فات مع اشتمالها على فائدة أخرى وهي أن الصلاة على الشهيد لا ينبغي أن تترك بحال وإن طالت المدة وتراخت إلى غاية بعيدة
وأما حديث أبي سلام فلم أقف للمانعين من الصلاة على جواب عليه وهو من أدلة المثبتين لأنه قتل في المعركة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماه شهيدا وصلى عليه نعم لو كان النفي عاما غير مقيد بوقعة أحد ولم يرد في الإثبات غير هذا الحديث لكان مختصا بمن قتل على مثل صفته . واعلم أنه قد اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله [ ص 82 ] والصلاة عليه هل هو مختص بمن قتل في المعركة أو أعم من ذلك فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار وخرج بقوله في المعركة من جرح في المعركة وعاش بعد ذلك حياة مستقرة وخرج بحرب الكفار من مات في قتال المسلمين كأهل البغي وخرج بجميع ذلك من يسمى شهيدا بسبب غير السبب المذكور ولا خلاف أن من جمع هذه القيود شهيد وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن من جرح في المعركة إن من مات قبل الإرتثاث فشهيد والإرتثاث أن يحمل ويأكل أو يشرب أو يوصي أو يبقى في المعركة يوما وليلة حيا وذهبت الهادوية إلى أن من جرح في المعركة يقال له شهيد وإن مات بعد الإرتثاث وأما من قتل مدافعا عن نفس أو مال أو في المعركة ظلما فقال أبو حنيفة وأبو يوسف والهادوية إنه شهيد
وقال الإمام يحيى والشافعي : إنه وإن قيل له شهيد فليس من الشهداء الذين لا يغسلون . وذهبت العترة والحنفية والشافعي في قول له إن قتيل البغاة شهيد قالوا إذ لم يغسل على أصحابه وهو توقيف
( فائدة ) لم يرد في شيء من الأحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على شهداء بدر ولا أنه لم يصل عليهم . وكذلك في شهداء سائر المشاهد النبوية إلا ما ذكرنا في هذا البحث فليعلم ذلك

الصلاة على السقط والطفل

1 - عن المغيرة بن شعبة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة )
- رواه أحمد وأبو داود وقال فيه : ( والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها ويسارها قريبا منها ) وفي رواية : ( الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها والطفل يصلى عليه ) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه والحاكم وقال على شرط البخاري بلفظ : ( السقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة ) وأخرجه بهذا اللفظ الترمذي وصححه ولكن رواه الطبراني موقوفا على المغيرة ورجح الدارقطني في [ ص 83 ] العلل الموقوف
( وفي الباب ) عن علي عند ابن عدي وفي إسناده عمرو بن خالد وهو متروك . وعن ابن عباس عنده أيضا من رواية شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عنه وقواه ابن طاهر في الذخيرة وقد ذكره البخاري من قول الزهري تعليقا ووصله ابن أبي شيبة
وعن أبي هريرة عند ابن ماجه يرفعه بلفظ : ( صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم ) وإسناده ضعيف
قوله : ( الراكب خلف الجنازة ) أي يمشي وسيأتي الكلام على المشي مع الجنازة
قوله : ( والسقط يصلى عليه ) فيه دليل على مشروعية الصلاة على السقط وإليه ذهبت العترة والفقهاء ولكنها إنما تشرع الصلاة عليه إذا كان قد استهل والاستهلال الصياح أو العطاس أو حركة يعلم بها حياة الطفل . وقد أخرج البزار عن ابن عمر مرفوعا : ( استهلال الصبي العطاس ) قال الحافظ : وإسناده ضعيف . ويدل على اعتبار الاستهلال حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ : ( إذا استهل السقط صلى عليه وورث ) وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير عنه وهو ضعيف . قال الترمذي : رواه أشعث بن سوار وغير واحد عن أبي الزبير عن جابر . ورواه النسائي أيضا وابن حبان في صحيحه والحاكم من طريق إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر وصححه الحاكم على شرط الشيخين . قال الحافظ : ووهم لأن أبا الزبير ليس من شرط البخاري وقد عنعن فهو علة هذا الخبر إن كان محفوظا عن سفيان قال : ورواه الحاكم أيضا من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير مرفوعا وقال : لا أعلم أحدا رفعه عن أبي الزبير غير المغيرة وقد وقفه ابن جريج وغيره وروي أيضا من طريق بقية عن الأوزاعي عن أبي الزبير مرفوعا . وقال الشافعي : إنما يغسل لأربعة أشهر إذ يكتب في الأربعين الرابعة رزقه وأجله وإنما ذلك للحي
وقد رجح المصنف رحمه الله تعالى هذا واستدل له فقال : قلت وإنما يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح وهو أن يستكمل أربعة أشهر فأما إن سقط لدونها فلا لأنه ليس بميت إذ لم ينفخ فيه روح . وأصل ذلك حديث ابن مسعود قال : ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح ) [ ص 84 ] متفق عليه اه
ومحل الخلاف فيمن سقط بعد أربعة أشهر ولم يستهل . وظاهر حديث الاستهلال أنه لا يصلى عليه وهو الحق لأن الاستهلال يدل على وجود الحياة قبل خروج السقط كما يدل على وجودها بعده فاعتبار الاستهلال من الشارع دليل على أن الحياة بعد الخروج من البطن معتبرة في مشروعية الصلاة على الطفل وأنه لا يكتفي بمجرد العلم بحياته في البطن فقط

ترك الإمام الصلاة على الغال وقاتل نفسه

1 - عن زيد بن خالد الجهني : ( أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه القوم لذلك فلما رأى الذي بهم قال : إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين )
- رواه الخمسة إلا الترمذي

2 - وعن جابر بن سمرة : ( أن رجلا قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- الحديث الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح
قوله : ( فقال صلوا على صاحبكم ) فيه جواز الصلاة على العصاة وأما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليه فلعله للزجر عن الغلول كما امتنع من الصلاة على المديون وأمرهم بالصلاة عليه
قوله : ( ففتشنا متاعه ) الخ فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإخباره بذلك وانكشاف الأمر كما قال
قوله : ( ما يساوي درهمين ) فيه دليل على تحريم الغلول وإن كان شيئا حقيرا وقد ورد في الوعيد عليه أحاديث كثيرة ليس هذا محل بسطها
قوله : ( بمشاقص ) جمع مشقص كمنبر نصل عريض أو سهم فيه ذلك والنصل الطويل أو سهم فيه ذلك يرمي به الوحش كذا في القاموس
قوله : ( فلم يصل عليه ) فيه دليل لمن قال إنه لا يصلى على الفاسق وهم العترة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي فقالوا لا يصلى على الفاسق تصريحا أو تأويلا ووافقهم أبو حنيفة وأصحابه في الباغي والمحارب ووافقهم الشافعي في قول له في قاطع الطريق وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء إلى أنه يصلى على الفاسق وأجابوا [ ص 85 ] عن حديث جابر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لم يصل عليه بنفسه زجرا للناس وصلت عليه الصحابة . ويؤيد ذلك ما عند النسائي بلفظ : ( أما أنا فلا أصلي عليه ) وأيضا مجرد الترك لو فرض أنه لم يصل عليه هو ولا غيره لا يدل على الحرمة المدعاة
ويدل على الصلاة على الفاسق حديث : ( صلوا على من قال لا إله إلا الله ) وقد تقدم الكلام عليه في باب ما جاء في إمامة الفاسق من أبواب الجماعة

الصلاة على من قتل في حد

1 - عن جابر : ( أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات فقال : أبك جنون قال : لا . قال : أحصنت قال : نعم فأمر به فرجم بالمصلى فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : خيرا و صلى عليه )
- رواه البخاري في صحيحه ورواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وقالوا : ( ولم يصل عليه ) ورواية الإثبات أولى وقد صح عنه عليه السلام أنه صلى على الغامدية وقال الإمام أحمد : ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه )

- حديث جابر أخرجه البخاري باللفظ الذي ذكره المصنف عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عنه وقال : لم يقل يونس وابن جريج عن الزهري وصلى عليه وعلل بعضهم هذه الزيادة أعني قوله ( فصلى عليه ) بأن محمد بن يحيى لم يذكرها وهو أضبط من محمود بن غيلان . قال : وتابع محمد بن يحيى نوح بن حبيب وقال غيره كذا روي عن عبد الرزاق والحسن بن علي ومحمد بن المتوكل ولم يذكروا الزيادة وقال : ما أرى مسلما ترك حديث محمود بن غيلان إلا لمخالفة هؤلاء وقد خالف محمودا أيضا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وحميد بن زنجويه وأحمد بن منصور الرمادي وإسحاق بن إبراهيم الديري فهؤلاء ثمانية من أصحاب عبد الرزاق خالفوا محمودا وفيهم هؤلاء الحفاظ إسحاق بن راهويه ومحمد بن يحيى الذهلي وحميد بن زنجويه . وقد أخرجه مسلم [ ص 86 ] في صحيحه عن إسحاق عن عبد الرزاق ولم يذكر لفظه غير أنه قال نحو رواية عقيل
وحديث عقيل الذي أشار إليه ليس فيه ذكر الصلاة . وقال البيهقي : ورواه البخاري عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق إلا أنه قال : ( فصلى عليه ) وهو خطأ لإجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه انتهى
وعلى هذا تكون زيادة قوله ( وصلى عليه ) شاذة ولكنه قد تقرر في الأصول أن زيادة الثقة إذا وقعت غير منافية كانت مقبولة وهي ههنا كذلك باعتبار رواية الجماعة المذكورين لأصل الحديث وأما باعتبار ما وقع عند أحمد وأهل السنن من أنه لم يصل عليه فرواية الصلاة أرجح من جهات : الأولى : كونها في الصحيح . الثانية : كونها مثبتة . الثالثة : كونها معتضدة بما أخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عمران بن حصين : ( أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : إنها قد زنت وهي حبلى فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليها فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أحسن إليها فإذا وضعت فجيء بها فلما وضعت جاء بها فأمر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها ) الحديث . وبما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث بريدة أن امرأة من غامد أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر نحو حديث عمران وقال : ( فأمر بها فصلى عليها ) الحديث . وبما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي بكرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم امرأة ) وفيه : ( فلما طفئت أخرجها فصلى عليها ) وفي إسناده مجهول . ومن المرجحات أيضا الاجتماع على الصلاة على المرجوم . قال النووي : قال القاضي مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا اه
ويتعقب بأن الزهري يقول لا يصلى على المرجوم وقتادة يقول لا يصلى على ولد الزنا وأما قاتل نفسه فقد تقدم الخلاف فيه
( ومن جملة ) المرجحات ما حكاه المصنف عن أحمد أنه قال : ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك الصلاة على أحد إلا الغال وقاتل نفسه . وأما ما أخرجه أبو داود من حديث أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه ففي إسناده مجاهيل [ ص 87 ] وبقية الكلام على حديث ماعز والغامدية يأتي إن شاء الله في الحدود وهذا المقدار هو الذي تدعو إليه الحاجة في المقام

الصلاة على الغائب بالنية وعلى القبر إلى شهر

1 - عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعا ) وفي لفظ : ( قال : توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلموا فصلوا عليه فصففنا خلفه فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه ونحن صفوف )
- متفق عليهما

2 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات )
- رواه الجماعة وفي لفظ : ( نعى النجاشي لأصحابه ثم قال استغفروا له ثم خرج بأصحابه إلى المصلى ثم قام فصلى بهم كما يصلي على الجنازة ) رواه أحمد

3 - وعن عمران بن حصين : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه قال : فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه

- قوله : ( على أصحمة ) قال في الفتح : وقع في جميع الروايات التي اتصلت بنا من طريق البخاري أصحمة بمهملتين بوزن أفعلة مفتوح العين . ووقع في مصنف ابن أبي شيبة صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء وحكى الإسماعيلي أن في رواية عبد الصمد أصخمة بخاء معجمة وإثبات الألف قال : وهو غلط . وحكى الكرماني أن في بعض النسخ صحبة بالموحدة بدل الميم انتهى . وهو اسم النجاشي . قال ابن قتيبة وغيره : معناه بالعربية عطية والنجاشي بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم ياء كياء النسب وقيل بالتخفيف ورجحه الصنعاني لقب لمن ملك الحبشة وحكى المطرزي تشديد الجيم عن بعضهم وخطأه
قال المطرزي وابن خالويه وآخرون : إن كل من ملك المسلمين يقال له أمير المؤمنين ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك الروم قيصر ومن ملك الفرس كسرى ومن ملك الترك خاقان ومن ملك القبط فرعون ومن ملك مصر [ ص 88 ] العزيز ومن ملك اليمن تبع ومن ملك حمير القيل بفتح القاف وقيل القيل أقل درجة من الملك
قوله : ( فكبر عليه أربعا ) فيه دليل على أن المشروع في تكبير الجنازة أربع وسيأتي الكلام في ذلك
قوله : ( وخرج بهم إلى المصلى ) تمسك به من قال بكراهة صلاة الجنازة في المسجد وسيأتي البحث في ذلك وقد استدل بهذه القصة القائلون بمشروعية الصلاة على الغائب عن البلد . قال في الفتح : وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف حتى قال ابن حزم : لم يأت عن أحد من الصحابة منعه . قال الشافعي : الصلاة على الميت دعاء له فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر
وذهبت الحنفية والمالكية وحكاه في البحر عن العترة أنها لا تشرع الصلاة على الغائب مطلقا . قال الحافظ : وعن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه أو ما قرب منه لا إذا طالت المدة حكاه ابن عبد البر وقال ابن حبان : إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة قال المحب الطبري : لم أر ذلك لغيره واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن هذه القصة بأعذار منها أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد ومن ثم قال الخطابي : لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس فيها من يصلي عليه واستحسنه الروياني وترجم بذلك أبو داود في السنن فقال باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر . قال الحافظ : وهذا محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصل عليه في بلده أحد انتهى . وممن اختار هذا التفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية حفيد المصنف والمحقق المقبلي واستدل له بما أخرجه الطيالسي وأحمد وابن ماجه وابن قانع والطبراني والضياء المقدسي
وعن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أخاكم مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه ) ومن الأعذار قولهم إنه كشف له صلى الله عليه وآله وسلم حتى رآه فيكون حكمه حكم الحاضر بين يدي الإمام الذي لا يراه المؤتمون ولا خلاف في جواز الصلاة على من كان كذلك
قال ابن دقيق العيد : هذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال وتعقبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثله هذا من جهة المانع . قال الحافظ : وكأن مستند القائل بذلك ما ذكره الواحدي في أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس قال : ( كشف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه ) ولابن حبان من حديث عمران بن حصين : ( فقاموا وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه ) ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره عن يحيى فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن [ ص 89 ] الجنازة قدامنا
ومن الأعذار أن ذلك خاص بالنجاشي لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على ميت غائب غيره وتعقب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو مات بالمدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذ ذاك بتبوك ذكر ذلك في الاستيعاب
وروي أيضا عن أبي أمامة الباهلي مثل هذه القصة في حق معاوية بن مقرن وأخرج مثلها أيضا عن أنس في ترجمة معاوية بن معاوية المزني ثم قال بعد ذلك : أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية ولو أنها في الأحكام لم يكن شيء منها حجة
وقال الحافظ في الفتح متعقبا لمن قال أنه لم يصل على غير النجاشي قال : وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه انتهى
وقال الذهبي : لا نعلم في الصحابة معاوية بن معاوية وكذلك تكلم فيه البخاري . وقال ابن القيم : لا يصح حديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على معاوية بن معاوية لأن في إسناده العلاء بن يزيد قال ابن المديني : كان يضع الحديث وقال النووي مجيبا على من قال بأن ذلك خاص بالنجاشي : إنه لو فتح باب هذا الخصوص لانسد كثير من ظواهر الشرع مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي إلى نقله
وقال ابن العربي : قال المالكية ليس ذلك إلا لمحمد قلنا وما عمل به محمد تعمل به أمته يعني لأن الأصل عدم الخصوص قالوا طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه قلنا إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنه سبيل إتلاف إلى ما ليس له تلاف . وقال الكرماني : قولهم رفع الحجاب عنه ممنوع ولئن سلمنا فكان غائبا عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
( والحاصل ) أنه لم يأت المانعون من الصلاة على الغائب بشيء يعتد به سوى الاعتذار بأن ذلك مختص بمن كان في أرض لا يصلى عليه فيها وهو أيضا جمود على قصة النجاشي يدفعه الأثر والنظر

4 - وعن ابن عباس قال : ( انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا )

5 - وعن أبي هريرة : ( أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا ففقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 90 ] فسأل عنها أو عنه فقالوا : مات قال : أفلا آذنتموني قال : فكأنهم صغروا أمرها أو أمره فقال : دلوني على قبره فدلوه فصلى عليها ثم قال : إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم )
- متفق عليهما وليس للبخاري : ( إن هذه القبور مملوءة ظلمة ) إلى آخر الخبر

6 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قبر بعد شهر )

7 - وعنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على ميت بعد ثلاث )
- رواهما الدارقطني

8 - وعن سعيد بن المسيب : ( أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر )
- رواه الترمذي

- حديث ابن عباس الآخر أخرج الدارقطني الرواية الأولى منه من طريق بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس . وأخرجه أيضا البيهقي وأخرج الثانية من طريق سفيان عن الشيباني به
ووقع في الأوسط للطبراني من طريق محمد بن الصباح الدولابي عن إسماعيل بن زكريا عن الشيباني به أنه صلى بعد دفنه بليلتين . وحديث سعيد بن المسيب أخرجه البيهقي . قال الحافظ : وإسناده مرسل صحيح . وقد رواه البيهقي عن ابن عباس وفي إسناده سويد بن سعيد
( وفي الباب ) عن أبي هريرة عند الشيخين بنحو حديث الباب . وعن أنس عند البزار نحوه . وعن أبي أمامة بن سهل عند مالك في الموطأ نحوه أيضا . وعن زيد بن ثابت عند أحمد والنسائي نحوه أيضا . وعن أبي سعيد عند ابن ماجه وفي إسناده ابن لهيعة . وعن عقبة بن عامر عند البخاري . وعن عمران بن حصين عند الطبراني في الأوسط . وعن ابن عمر عنده أيضا . وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عند النسائي . وعن أبي قتادة عند البيهقي أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قبر البراء . وفي رواية بعد شهر . قال حرب الكرماني
( وفي الباب ) أيضا عن عامر بن ربيعة وعبادة وبريدة بن الحصيب
قوله ( إلى قبر رطب ) أي لم ييبس ترابه لقرب وقت الدفن فيه
قوله : ( وكبر أربعا ) فيه أن المشروع في تكبير صلاة الجنازة أربع وسيأتي
قوله : ( أن امرأة سوداء ) سماها البيهقي أم محجن وذكر ابن منده في الصحابة خرقاء اسم امرأة سوداء كانت تقم المسجد فيمكن أن يكون اسمها خرقاء وكنيتها أم محجن
قوله : ( أو شابا ) هكذا وقع الشك في ألفاظ [ ص 91 ] الحديث وفي حديث أبي هريرة الجزم بأن صاحبة القصة امرأة وجزم بذلك ابن خزيمة في روايته لحديث أبي هريرة
قوله : ( كانت تقم ) بضم القاف أي تجمع القمامة وهي الكناسة
قوله : ( ثم قال إن هذه القبور مملوءة ظلمة ) الخ احتج بهذه الرواية من قال بعدم مشروعية الصلاة على القبر وهو النخعي ومالك وأبو حنيفة والهادوية قالوا إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم وإن الله ينورها بصلاتي عليهم يدل على أن ذلك من خصائصه وتعقب ذلك ابن حبان فقال في ترك إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره وأنه ليس من خصائصه وتعقب هذا التعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينتهض دليلا للأصالة
( ومن جملة ) ما أجاب به الجمهور عن هذه الزيادة أنها مدرجة في هذا الإسناد وهي من مراسيل ثابت بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد . قال الحافظ : وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج . قال البيهقي : يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما قال أحمد انتهى
وقد عرفت غير مرة أن الاختصاص لا يثبت إلا بدليل ومجرد كون الله ينور القبور بصلاته صلى الله عليه وآله وسلم على أهلها لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر لغيره لا سيما بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وهذا باعتبار من كان قد صلى عليه قبل الدفن وأما من لم يصل عليه ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة وإجماع الأمة باق وجعل الدفن مسقطا لهذا الفرض محتاج إلى دليل وقد قال بمشروعية الصلاة على القبر الجمهور كما قال ابن المنذر وبه قال الناصر من أهل البيت
وقد استدل بحديث الباب على رد قول من فصل فقال يصلي على قبر من لم يكن قد صلى عليه قبل الدفن لا من كان قد صلى عليه لأن القصة وردت فيمن قد صلى عليه والمفصل هو بعض المانعين الذين تقدم ذكرهم واختلفوا في أمد ذلك فقيده بعضهم إلى شهر . وقيل ما لم يبل الجسد وقيل يجوز أبدا . وقيل إلى اليوم الثالث . وقيل إلى أن يترب
( ومن جملة ) ما اعتذر به المانعون من الصلاة على القبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما فعل ذلك حيث صلى من ليس بأولى بالصلاة مع إمكان صلاة الأولى وهذا تمحل لا ترد بمثله هذه السنة لا سيما مع ما تقدم من صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على البراء بن معرور مع أنه مات والنبي صلى الله عليه وآله وسلم غائب في مكة قبل الهجرة وكان ذلك [ ص 92 ] بعد موته بشهر . وعلى أم سعد وكان أيضا عند موتها غائبا وعلى غيرهما

باب فضل الصلاة على الميت وما يرجى له بكثرة الجمع

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل وما القيراطان قال مثل الجبلين العظيمين )
- متفق عليه . ولأحمد ومسلم : ( حتى توضع في اللحد ) بدل تدفن وفيه دليل فضيلة اللحد على الشق )

- وفي الباب عن عائشة عند البخاري . وعن ثوبان عند مسلم . وعن عبد الله بن مغفل عند النسائي . وعن أبي سعيد عند أحمد . وعن ابن مسعود عند أبي عوانة . قال الحافظ : وأسانيده هذه صحاح . وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه . وعن ابن مسعود عند البيهقي في الشعب وأبي عوانة . وعن أنس عند الطبراني في الأوسط . وعن واثلة بن الأسقع عند ابن عدي . وعن حفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال . قال الحافظ : وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف
قوله : ( من شهد ) في رواية للبخاري : ( من شيع ) وفي أخرى له : ( من تبع ) وفي رواية لمسلم : ( من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى تدفن ) فينبغي أن تكون هذه الرواية مقيدة لبقية الروايات فالتشييع والشهادة والإتباع يعتبر في كونها محصلة للأجر المذكور في الحديث أن يكون ابتداء الحضور من بيت الميت . ويدل على ذلك ما وقع في رواية لأبي هريرة عند البزار بلفظ : ( من أهلها ) وما عند أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ : ( فمشى معها من أهلها ) ومقتضاه أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة وبذلك جزم الطبري
قال الحافظ : والذي يظهر لي أن القيراط يحصل لمن صلى فقط لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع وصلى . واستدل بما عند مسلم بلفظ : ( من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط ) وبما عند أحمد عن أبي هريرة : ( ومن صلى ولم يتبع فله قيراط ) فدل على أن الصلاة تحصل القيراط وإن لم يقع إتباع قال : ويمكن أن يحمل الإتباع هنا على ما بعد الصلاة انتهى
وهكذا الخلاف في قيراط الدفن [ ص 93 ] هل يحصل بمجرد الدفن من دون إتباع أو لا بد منه
قوله : ( حتى يصلى عليها ) قال في الفتح : اللام للأكثر مفتوحة . وفي بعض الروايات بكسرها ورواية الفتح محمولة عليها فإن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له انتهى . قال ابن المنير : إن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن لا لمن اتبع مثلا وشيع ثم انصرف بغير صلاة وذلك لأن الإتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين إما الصلاة وإما الدفن فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المترتب على المقصود وإن كان يترجى أن يحصل لذلك فضل ما يحتسب وقد روى سعيد بن منصور عن مجاهد أنه قال : إتباع الجنازة أفضل النوافل وفي رواية عبد الرزاق عنه إتباع الجنازة أفضل من صلاة التطوع
قوله : ( فله قيراط ) بكسر القاف قال في الفتح : قال الجوهري : القيراط نصف دانق قال والدانق سدس الدرهم فهو على هذا نصف سدس الدرهم كما قال ابن عقيل وذكر القيراط تقريبا للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته فضرب له المثل بما يعلم ثم لما كان مقدار القيراط المتعارف حقيرا نبه على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك فقال مثل أحدكما كما في بعض الروايات وفي أخرى أصغرهما مثل أحد . وفي حديث الباب مثل الجبلين العظيمين
قوله : ( ومن شهدها حتى تدفن ) ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن وهو أصح الأوجه عند الشافعية وغيرهم وقيل يحصل بمجرد الوضع في اللحد وقيل عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب . وقد وردت الأخبار بكل ذلك فعند مسلم : ( حتى يفرغ منها ) وعنده في أخرى : ( حتى توضع في اللحد ) وعنده أيضا : ( حتى توضع في القبر ) وعند أحمد : ( حتى يقضي قضاؤها ) وعند الترمذي : ( حتى يقضي دفنها ) وعند أبي عوانة : ( حتى يسوى عليها ) أي التراب . وقيل يحصل القيراط بكل من ذلك ولكن يتفاوت . والظاهر أنها تحمل الروايات المطلقة عن الفراغ من الدفن وتسوية التراب بالمقيدة بهما
قوله : ( مثل الجبلين ) في رواية : ( مثل أحد ) وفي رواية للنسائي : ( كل واحد منهما أعظم من أحد ) وعند مسلم أصغرهما مثل أحد . وعند ابن عدي أثقل من أحد فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد وأن المراد به زنة الثواب المترتب على ذلك
قوله : ( حتى توضع في اللحد ) استدل به المصنف على أن اللحد أفضل من الشق وسيأتي الكلام على ذلك [ ص 94 ]

2 - وعن مالك بن هبيرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له فكان مالك بن هبيرة يتحرى إذا قل أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف )
- رواه الخمسة إلا النسائي

3 - وعن عائشة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه

4 - وعن ابن عباس قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

5 - وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أبيات من جيرانه الأدنين إلا قال الله تعالى قد قبلت علمهم فيه وغفرت له ما لا يعلمون )
- رواه أحمد

- حديث مالك بن هبيرة في إسناده محمد بن إسحاق رواه عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد عن مالك وفيه مقال معروف إذا عنعن . وقد حسن الحديث الترمذي . وقال : رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق وروى إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق هذا الحديث وأدخل بين مرثد ومالك بن هبيرة رجلا ورواية هؤلاء أصح عندنا قال : وفي الباب عن عائشة وأم حبيبة وأبي هريرة ثم ذكر حديث عائشة بنحو اللفظ الذي ذكره المصنف من طريق ابن أبي عمر عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب . وعن أحمد بن منيع وعلي بن حجر عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة ثم قال : حسن صحيح وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه . قال النووي : من رفعه ثقة وزيادة الثقة مقبولة . وحديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن ماجه
وحديث أنس أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم من طريق حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا . ولأحمد من حديث أبي هريرة نحوه وقال ثلاثة بدل أربعة . وفي إسناده رجل لم يسم وله شاهد من مراسيل بشير بن كعب أخرجه أبو مسلم الكجي
قوله : ( يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف ) فيه دليل على أن من صلى عليه ثلاثة صفوف من المسلمين غفر له وأقل ما يسمى صفا رجلان ولا حد لأكثره
قوله : ( يبلغون مائة ) فيه استحباب تكثير جماعة الجنازة ويطلب [ ص 95 ] بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز وقد قيد ذلك بأمرين :
الأول أن يكونوا شافعين فيه أي مخلصين له الدعاء سائلين له المغفرة . الثاني : أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك بالله شيئا كما في حديث ابن عباس قال القاضي : قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله
قال النووي : ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به ثم بقبول شفاعة أربعين فأخبر به ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به . قال : ويحتمل أيضا أن يقال هذا مفهوم عدد ولا يحتج به جماهير الأصوليين فلا يلزم من الأخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف وحينئذ كل الأحاديث معمول بها وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين
قوله : ( أربعة أبيات ) ليس عند ابن حبان والحاكم لفظ أبيات وفيه أن شهادة أربعة من جيران الميت من موجبات مغفرة الله تعالى له . ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة فقلنا : وثلاثة قال : وثلاثة فقلنا : واثنان قال : واثنان ثم لم نسأله عن الواحد )
قال الزين ابن المنير : إنما لم يسأله عمر عن الواحد استبعادا منه أن يكتفى في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب
قال الداودي : المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم ولا من بينه وبين الميت عداوة لأن شهادة العدو لا تقبل . وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أنس قال : ( مر بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال : وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال : وجبت فقال عمر : ما وجبت قال : هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض ) هذا لفظ البخاري . وفي مسلم وجبت وجبت وجبت ثلاثا في الموضعين
قال النووي : قال بعضهم معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل وكان ذلك مطابقا للواقع فهو من أهل الجنة فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه
قالوا : والصحيح أنه على عمومه وأن من مات فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة وهذا الإلهام يستدل [ ص 96 ] به على تعيينها وبهذا تظهر فائدة الثناء انتهى
قال الحافظ : وهذا في جانب الخير واضح وأما في جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره وقد وقع في رواية من حديث أنس المتقدم : ( إن لله عز و جل ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر )

باب ما جاء في كراهة النعي

1 - عن ابن مسعود : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إياكم والنعي فإن النعي عمل الجاهلية )
- رواه الترمذي كذلك . ورواه موقوفا وذكر أنه أصح

2 - وعن حذيفة أنه قال : ( إذا مت فلا تؤذنوا بي أحدا إني أخاف أن يكون نعيا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن النعي )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه

3 - وعن إبراهيم أنه قال : ( لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه إنما كان يكره أن يطاف في المجالس فيقال أنعى فلانا فعل أهل الجاهلية )
- رواه سعيد في سننه

4 - وعن أنس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتذرفان ثم أخذها خالد بن الوليد من غير أمرة ففتح له )
- رواه أحمد والبخاري

- حديث ابن مسعود في إسناده أبو حمزة ميمون الأعور وليس بالقوي عند أهل الحديث . وقد اختلف في رفعه ووقفه ورجح الترمذي وقفه كما قال المصنف وقال : إنه حديث غريب
وحديث حذيفة قال الحافظ في الفتح : إسناده حسن وكلام إبراهيم الذي رواه سعيد بن منصور هو من طريق ابن علية عن ابن عون قال : قلت لإبراهيم هل كانوا يكرهون النعي قال : نعم ثم ذكره . وروى أيضا سعيد بن منصور بهذا الإسناد إلى ابن سيرين أنه قال : لا أعلم بأسا أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه
قوله : ( إياكم والنعي ) النعي هو الإخبار بموت الميت كما في الصحاح والقاموس وغيرهما من كتب اللغة قال في القاموس نعاه له نعيا ونعيا ونعيانا أخبره بموته . وفي النهاية نعى الميت نعيا إذا ذاع موته وأخبر به انتهى . فمدلول النعي لغة هو هذا وإليه [ ص 97 ] يتوجه النهي لوجوب حمل كلام الشارع على مقتضى اللغة العربية عند عدم وجود اصطلاح له يخالفه . وقال في الفتح : إنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه وكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق . وقال ابن المرابط : إن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح وإن كان فيه إدخال الكرب والمصاب على أهله لكن في تلك المفسدة مصالح جمة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته وتهيئة أمره والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار وتنفيذ وصاياه وما يترتب على ذلك من الأحكام انتهى
ويستدل لجواز مجرد الإعلام بحديث أنس المذكور في الباب فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بقتل الثلاثة الأمراء المقتولين بمؤتة وقصتهم مشهورة وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة . وبحديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه ) كما تقدم . وقد بوب عليه البخاري باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه . وبحديث أبي هريرة وغيره : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند أن أخبر بموت السوداء أو الشاب الذي كان يقم المسجد ألا آذنتموني ) وقد تقدم
وفي حديث ابن عباس ما منعكم أن تعلموني . وقد بوب عليه البخاري باب الإذن بالجنازة . وبحديث الحصين بن وحوح وقد تقدم في باب المبادرة إلى تجهيز الميت فهذه الأحاديث تدل على أن مجرد الإعلام بالموت لا يكون نعيا محرما وإن كان باعتبار اللغة مما يصدق عليه اسم النعي كما تقدم . ويؤيد ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي وابن سيرين كما سلف . وقال ابن العربي : يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات :
الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة
الثانية الدعوة للمفاخرة بالكثرة فهذا مكروه
الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم انتهى
( فالحاصل ) أن الإعلام للغسل والتكفين والصلاة والحمل والدفن مخصوص من عموم النهي لأن إعلام من لا تتم هذه الأمور إلا به مما وقع الإجماع على فعله في زمن النبوة وما بعده وما جاوز هذا المقدار فهو داخل تحت عموم النهي [ ص 98 ]

باب عدد تكبير صلاة الجنائز

- قد ثبت الأربع في رواية أبي هريرة وابن عباس وجابر

1 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : ( كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر خمسا على جنازة فسألته فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبرها )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- حديث أبي هريرة وابن عباس وجابر تقدم في الصلاة على الغائب وممن روى الأربع كما قال البيهقي عقبة بن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وابن مسعود
وروى ابن عبد البر في الاستذكار من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا وثمانيا حتى جاء موت النجاشي فخرج فكبر أربعا ثم ثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أربع حتى توفاه الله تعالى )
وكذا قال القاضي عياض وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر مرفوعا : ( صلوا على موتاكم بالليل والنهار والصغير والكبير والدنيء والأمير أربعا ) وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي تفرد به عن ابن لهيعة وإلى مشروعية الأربع التكبيرات في الجنازة ذهب الجمهور . قال الترمذي : العمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق انتهى
قال ابن المنذر : ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع انتهى
وقد اختلف السلف في ذلك فروي عن زيد بن أرقم أنه كان يكبر خمسا كما في حديث الباب وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد فكبر خمسا وروي أيضا عن ابن مسعود عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستا وعلى الصحابة خمسا وعلى سائر الناس أربعا . وروى ذلك أيضا ابن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني عن عبد خير عنه . وروى ابن المنذر أيضا بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كبر على جنازة ثلاثا . قال القاضي عياض : اختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع . قال ابن عبد البر : وانعقد الإجماع [ ص 99 ] بعد ذلك على أربع . وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحيح وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه وقال : لا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى وقال علي ابن الجعد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن عمر قال : كل ذلك قد كان أربعا وخمسا فاجتمعنا على أربع . رواه البيهقي . ورواه ابن عبد البر من وجه آخر عن شعبة . وروى البيهقي أيضا عن أبي وائل قال : ( كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعا وخمسا وستا وسبعا فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر كل رجل منهم بما رأى فجمعهم عمر على أربع تكبيرات )
وروي أيضا من طريق إبراهيم النخعي أنه قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أبي مسعود فاجتمعوا على أن التكبير على الجنازة أربع . وروى أيضا بسنده إلى الشعبي قال : صلى ابن عمر على زيد بن عمر وأمه أم كلثوم بنت علي فكبر أربعا وخلفه ابن عباس والحسين بن علي وابن الحنفية
قوله : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبرها ) استدل به من قال إن تكبير الجنازة خمس وقد حكاه في البحر عن العترة جميعا وأبي ذر وزيد بن أرقم وحذيفة وابن عباس ومحمد بن الحنفية وابن أبي ليلى وحكاه في المبسوط عن أبي يوسف وفي دعوى إجماع العترة نظر لأن صاحب الكافي حكى عن زيد بن علي القول بالأربع واستدلوا أيضا بحديث حذيفة الآتي وبما تقدم عن جماعة من الصحابة قالوا والخمس زيادة يتحتم قبولها لعدم منافاتها وأورد عليهم أنه كان يلزمكم الأخذ بأكثر من خمس لأنها زيادة وقد وردت كما أخرجه البيهقي عن أبي وائل وقد تقدم ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه من مشروعية الأربع بمرجحات أربعة :
الأول : إنها ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عددا ممن روى منهم الخمس
الثاني : إنها في الصحيحين
الثالث : إنه أجمع على العمل بها الصحابة كما تقدم
الرابع : إنها آخر ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم كما أخرج الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ : ( آخر ما كبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجنائز أربع ) وفي إسناده الفرات ابن سلمان . وقال الحاكم بعد ذكر الحديث ليس من شرط الكتاب . ورواه أيضا البيهقي بإسناد فيه النضر بن عبد الرحمن وهو ضعيف وقد تفرد به كما قال البيهقي [ ص 100 ]
قال الحافظ : وروي هذا اللفظ من وجوه أخر كلها ضعيفة . وقال الأثرم : رواه محمد بن معاوية النيسابوري عن أبي المليح عن ميمون بن مهران عن ابن عباس . وقد سألت أحمد عنه فقال محمد هذا روى أحاديث موضوعة منها هذا واستعظمه . وقال : كان أبو المليح أتقى لله وأصح حديثا من أن يروي مثل هذا وقال حرب عن أحمد : هذا الحديث إنما رواه محمد بن زياد الطحان وكان يضع الحديث . وقال ابن القيم : قال أحمد هذا كذب ليس له أصل اه
ورواه ابن الجوزي في الناسخ والمنسوخ من طريق ابن شاهين عن ابن عمر وفي إسناده زافر بن الحارث عن أبي العلاء عن ميمون بن مهران عنه . قال ابن الجوزي وخالفه غيره ولا يثبت فيه شيء ورواه الحارث بن أبي أسامة عن جعفر بن حمزة عن فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عمر بنحوه ويجاب عن الأول من هذه المرجحات والثاني منها بأنه إنما يرجح بهما عند التعارض ولا تعارض بين الأربع والخمس لأن الخمس مشتملة زيادة غير معارضة . وعن الرابع بأنه لم يثبت ولو ثبت لكان غير رافع للنزاع لأن اقتصاره على الأربع لا ينفي مشروعية الخمس بعد ثبوتها عنه وغاية ما فيه جواز الأمرين نعم المرجح الثالث أعني إجماع الصحابة على الأربع هو الذي يعول عليه في مثل هذا المقام إن صح وإلا كان الأخذ بالزيادة الخارجة من مخرج صحيح هو الراجح
وفي المسألة أقوال أخر : منها ما روي عن أحمد بن حنبل أنه لا ينقص عن أربع ولا يزاد على سبع . ومنها ما روي عن بكر بن عبد الله المزني أنه لا ينقص عن ثلاث ولا يزاد على سبع . ومنها ما روي عن ابن مسعود أنه قال التكبير تسع وسبع وخمس وأربع وكبر ما كبر الإمام روى ذلك جميعه ابن المنذر . ومنها ما روي عن أنس أن تكبير الجنازة ثلاث كما روى عنه ابن المنذر أنه قيل له إن فلانا كبر ثلاثا فقال وهل التكبير إلا ثلاث وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كبر ثلاثا لم يزد عليها وروى عنه عبد الرزاق أنه كبر على جنازة ثلاثا ثم انصرف ناسيا فقالوا له يا أبا حمزة إنك كبرت ثلاثا قال فصفوا فصفوا فكبر الرابعة . وروى عنه البخاري تعليقا نحو ذلك وجمع بين الروايات عنه الحافظ بأنه إما كان يرى الثلاث مجزئة والأربع أكمل منها وإما بأن من أطلق عنه الثلاث لم يذكر الأولى لأنها افتتاح الصلاة

2 - وعن حذيفة : ( أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال ما نسيت ولا وهمت [ ص 101 ] ولكن كبرت كما كبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على جنازة فكبر خمسا )
- رواه أحمد

3 - وعن علي : ( أنه كبر على سهل بن حنيف ستا وقال : إنه شهد بدرا )
- رواه البخاري

4 - وعن الحكم بن عتيبة أنه قال : ( كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا )
- رواه سعيد في سننه

- حديث حذيفة ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو متكلم عليه والأثر المذكور عن علي هو في البخاري بلفظ : ( أنه كبر على سهل بن حنيف ) زاد البرقاني في مستخرجه ( ستا ) وكذا ذكره البخاري في تاريخه وسعيد بن منصور . ورواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن مغفل فقال خمسا . وروى البيهقي عنه أنه كبر على أبي قتادة سبعا وقال : إنه غلط لأن أبا قتادة عاش بعد ذلك . قال الحافظ : وهذه علة غير قادحة لأنه قد قيل إن أبا قتادة مات في خلافة علي وهذا هو الراجح اه
وقول الحكم بن عتيبة أورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه وقد تقدم الخلاف في عدد التكبير وما هو الراجح . وفي فعل علي دليل على استحباب تخصيص من له فضيلة بإكثار التكبير عليه وكذلك في رواية الحكم بن عتيبة عن السلف وقد تقدم من فعله صلى الله عليه وآله وسلم بصلاته على حمزة ما يدل على ذلك

باب القراءة والصلاة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيها

1 - عن ابن عباس : ( أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنه من السنة )
- رواه البخاري وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وقال فيه : ( فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر فلما فرغ قال سنة وحق )

2 - وعن أبي أمامة بن سهل : ( أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه )
- رواه الشافعي في [ ص 102 ] مسنده

3 - وعن فضالة بن أبي أمية قال : ( قرأ الذي صلى على أبي بكر وعمر بفاتحة الكتاب )
- رواه البخاري في تاريخه

- حديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم . وحديث أبي أمامة بن سهل في إسناده مطرف ولكنه قد قواه البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق عبد الله ابن أبي زياد الرصافي عن الزهري بمعناه
وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر وأخرجه أيضا النسائي وعبد الرزاق قال في الفتح : وإسناده صحيح وليس فيه قوله ( بعد التكبيرة ) ولا قوله ( ثم يسلم سرا في نفسه ) ولكنه أخرج الحاكم نحوها
( وفي الباب ) عن ابن عباس حديث آخر عند الترمذي وابن ماجه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب ) وفي إسناده إبراهيم بن عثمان أبو شيبة الواسطي وهو ضعيف جدا وقال الترمذي : لا يصح هذا عن ابن عباس والصحيح عنه قوله ( من السنة )
وعن أم شريك عند ابن ماجه قالت : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب ) وفي إسناده ضعف يسير كما قال الحافظ
وعن ابن عباس حديث آخر أيضا عند الحاكم : ( أنه صلى على جنازة بالأبواء فكبر ثم قرأ الفاتحة رافعا صوته ثم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال اللهم هذا عبدك وابن عبديك أصبح فقيرا إلى رحمتك فأنت غني عن عذابه إن كان زاكيا فزكه وإن كان مخطئا فاغفر له اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده ثم كبر صلاة تكبيرات ثم انصرف فقال أيها الناس إني لم أقرأ عليها أي جهرا إلا لتعلموا أنه سنة ) وفي إسناده شرحبيل بن سعد وهو مختلف في توثيقه
وعن جابر عند النسائي في المجتبى والحاكم والشافعي وأبي يعلى : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ فيها بأم القرآن ) وفي إسناد الشافعي والحاكم إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل
وعن محمد بن مسلمة عند ابن أبي حاتم في العلل أنه قال : السنة على الجنائز أن يكبر الإمام ثم يقرأ أم القرآن في نفسه ثم يدعو ويخلص الدعاء للميت ثم يكبر ثلاثا ثم يسلم وينصرف ويفعل من وراءه ذلك وقال : سألت أبي عنه فقال هذا خطأ إنما هو حبيب بن مسلمة . قال الحافظ : حديث حبيب في المستدرك من طريق الزهري عن أبي أمامة [ ص 103 ] ابن سهل باللفظ السابق
قوله : ( لتعلموا أنه من السنة ) فيه وفي بقية أحاديث الباب دليل على مشروعية قراء فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة وقد حكى ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وبه قال الهادي والقاسم والمؤيد بالله ونقل ابن المنذر أيضا عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها قراءة وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين وإليه ذهب زيد بن علي والناصر وأحاديث الباب ترد عليهم
( واختلف الأولون ) هل قراءة الفاتحة واجبة أم لا فذهب إلى الأول الشافعي وأحمد وغيرهما واستدلوا بحديث أم شريك المتقدم وبالأحاديث المتقدمة في كتاب الصلاة كحديث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ونحوه وصلاة الجنازة صلاة وهو الحق
قوله : ( وسورة ) فيه مشروعية قراءة سورة مع الفاتحة في صلاة الجنازة ولا محيص عن المصير إلى ذلك لأنها زيادة خارجة من مخرج صحيح . ويؤيد وجوب قراءة السورة في صلاة الجنازة الأحاديث المتقدمة في باب وجوب قراءة الفاتحة من كتاب الصلاة فإنها ظاهرة في كل صلاة
قوله : ( وجهر ) فيه دليل على الجهر في قراءة صلاة الجنازة . وقال بعض أصحاب الشافعي : إنه يجهر بالليل كالليلية وذهب الجمهور إلى أنه لا يستحب الجهر في صلاة الجنازة وتمسكوا بقول ابن عباس المتقدم لم أقرأ أي جهرا إلا لتعلموا أنه سنة وبقوله في حديث أبي أمامة سرا في نفسه
قوله : ( بعد التكبيرة الأولى ) فيه بيان محل قراءة الفاتحة وقد أخرج الشافعي والحاكم عن جابر مرفوعا بلفظ : ( وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى ) وفي إسناده إبراهيم بن محمد وهو ضعيف جدا . وقد صرح العراقي في شرح الترمذي بأن إسناد حديث جابر ضعيف
قوله : ( ثم يصلي على النبي ) فيه مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة في الصلاة كحديث : ( لا صلاة لمن لم يصل علي ) ونحوه . وروى إسماعيل القاضي في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي أمامة أنه قال : إن السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم يخلص الدعاء للميت حتى يفرغ ولا يقرأ إلا مرة ثم يسلم . وأخرجه ابن الجارود في المنتقى . قال الحافظ : ورجاله مخرج لهم في الصحيحين
قوله : ( ثم يسلم سرا في نفسه ) فيه دليل على مشروعية السلام في صلاة الجنازة والإسرار به وهو مجمع عليه حكى ذلك في البحر [ ص 104 ]
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : ( ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعلهن تركهن الناس إحداهن التسليم على الجنائز مثل التسليم في الصلاة ) وله أيضا نحوه عن عبد الله بن أبي أوفى فحصل من الأحاديث المذكورة في الباب أن المشروع في صلاة الجنازة قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى وقراءة سورة وتكون أيضا بعد التكبيرة الأولى مع الفاتحة لقوله في حديث أبي أمامة بن سهل ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد ما يدل على تعيين موضعها والظاهر أنها تفعل بعد القراءة ثم يكبر بقية التكبيرات ويستكثر من الدعاء بينهن للميت مخلصا له ولا يشتغل بشيء من الاستحسانات التي وقعت في كتب الفقه فإنه لا مستند لها إلا التخيلات ثم بعد فراغه من التكبير والدعاء المأثور يسلم وقد اختلف في مشروعية الرفع عند كل تكبيرة فذهب الشافعي إلى أنه يشرع مع كل تكبيرة . وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء وسالم بن عبد الله وقيس بن أبي حازم والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق واختاره ابن المنذر وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحاب الرأي : إنه لا يرفع عند سائر التكبيرات بل عند الأولى فقط
وعن مالك ثلاث روايات الرفع في الجميع وفي الأولى فقط وعدمه في كلها وقالت العترة بمنعه في كلها
( احتج الأولون ) بما أخرجه البيهقي عن ابن عمر قال الحافظ بسند صحيح وعلقه البخاري ووصله في جزء رفع اليدين أنه كان يرفع يديه في جميع تكبيرات الجنازة . ورواه الطبراني في الأوسط في ترجمة موسى بن عيسى مرفوعا وقال لم يروه عن نافع إلا عبد الله بن محرر تفرد به عباد بن صهيب قال في التلخيص : وهما ضعيفان . ورواه الدارقطني من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن نافع عنه مرفوعا لكن قال في العلل : تفرد به برفعه عمر بن شيبة عن يزيد بن هارون . ورواه الجماعة عن يزيد موقوفا وهو الصواب . وروى الشافعي عمن سمع سلمة بن وردان يذكر عن أنس أنه كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة . وروى أيضا الشافعي عن عروة وابن المسيب مثل ذلك قال : وعلى ذلك أدركنا أهل العلم ببلدنا
( واحتج القائلون ) بأنه لا يرفع يديه إلا عند تكبيرة الافتتاح بما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى على جنازة رفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود . قال الحافظ : [ ص 105 ] ولا يصح فيه شيء وقد صح عن ابن عباس أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة رواه سعيد بن منصور اه
واحتجوا أيضا بما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى ) وقال غريب . وفي إسناده يزيد بن سنان الرهاوي وهو ضعيف عند أهل الحديث . والحاصل أنه لم يثبت في غير التكبيرة الأولى شيء يصلح للاحتجاج به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفعال الصحابة وأقوالهم لا حجة فيها فينبغي أن يقتصر على الرفع عند تكبيرة الإحرام لأنه لم يشرع في غيرها إلا عند الانتقال من ركن إلى ركن كما في سائر الصلوات ولا انتقال في صلاة الجنازة

باب الدعاء للميت وما ورد فيه

1 - عن أبي هريرة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء )
- رواه أبو داود وابن ماجه

2 - وعن أبي هريرة قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى على جنازة قال : اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان )
- رواه أحمد والترمذي . ورواه أبو داود وابن ماجه وزاد : ( اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده )

- الحديث الأول أخرجه أيضا ابن حبان وصححه والبيهقي وفي إسناده ابن إسحاق وقد عنعن ولكن أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عنه مصرحا بالسماع . والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم وقال وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه
وأخرج هذا الشاهد الترمذي وأعله بعكرمة بن عمار وفي إسناد حديث الباب يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال أبو حاتم : الحفاظ لا يذكرون أبا هريرة إنما يقولون أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا ولا يوصله بذكر أبي هريرة إلا غير متقن والصحيح أنه مرسل . وقال الترمذي : روى هذا الحديث هشام الدستوائي وعلي بن المبارك عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا اه وقد رواه يحيى بن [ ص 106 ] أبي كثير من حديث أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل حديث أبي هريرة أخرجه من هذا الوجه أحمد والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح وقال : أصح الروايات في هذا يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه وسألته عن اسم أبي إبراهيم فلم يعرفه . وقال أبو حاتم : أبو إبراهيم مجهول اه ولكن جهالة الصحابي غير قادحة . وقد أخرجه الترمذي والحاكم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة ولكن في إسناد هذه الطريق عكرمة بن عمار كما تقدم
وأخرجه أيضا الترمذي عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله ابن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد توهم بعض الناس أن أبا إبراهيم الأشهلي هو عبد الله بن أبي قتادة قال الحافظ : وهو غلط لأن أبا إبراهيم من بني عبد الأشهل وأبو قتادة من بني سلمة
( وفي الباب ) عن أبي هريرة حديث آخر عند أبي داود والنسائي : ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته على الجنازة يقول اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر لها ) وعن عوف بن مالك وواثلة وسيأتيان
قوله : ( فأخلصوا له الدعاء ) فيه دليل على أنه لا يتعين دعاء مخصوص من هذه الأدعية الواردة وأنه ينبغي للمصلي على الميت أن يخلص الدعاء له سواء كان محسنا أو مسيئا فإن ملابس المعاصي أحوج الناس إلى دعاء إخوانه المسلمين وأفقرهم إلى شفاعتهم ولذلك قدموه بين أيديهم وجاؤوا به إليهم لا كما قال بعضهم أن المصلي يلعن الفاسق ويقتصر في الملتبس على قوله ( اللهم إن كان محسنا فزده إحسانا وإن كان مسيئا فأنت أولى بالعفو عنه فإن الأول من إخلاص السب لا من إخلاص الدعاء والثاني من باب التفويض باعتبار المسيء لا من باب الشفاعة والسؤال وهو تحصيل للحاصل والميت غني عن ذلك
قوله : ( فأحيه على الإسلام ) هذا اللفظ هو الثابت عند الأكثر وفي سنن أبي داود ( فأحيه على الإيمان وتوفه على الإسلام )
( واعلم ) أنه قد وقع في كتب الفقه ذكر أدعية غير المأثورة عنه صلى الله عليه وآله وسلم والتمسك بالثابت عنه أولى واختلاف الأحاديث في ذلك محمول على أنه كان يدعو لميت بدعاء ولآخر بآخر والذي أمر به صلى الله عليه وآله وسلم إخلاص الدعاء
( فائدة ) إذا كان المصلى عليه طفلا استحب أن [ ص 107 ] يقول المصلي : ( اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا ) روى ذلك البيهقي من حديث أبي هريرة وروى مثله سفيان في جامعه عن الحسن

3 - وعن عوف بن مالك قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على جنازة يقول اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وقه فتنة القبر وعذاب النار قال عوف : فتمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الميت )
- رواه مسلم والنسائي

4 - وعن واثلة بن الأسقع قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحمد اللهم فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم )
- رواه أبو داود

- الحديث الأول أخرجه أيضا الترمذي مختصرا والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده مروان بن جناح وفيه مقال
قوله : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذلك قوله ( فسمعته ) وفي رواية لمسلم من حديث عوف ( فحفظت من دعائه ) جميع ذلك يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهر بالدعاء وهو خلاف ما صرح به جماعة من استحباب الإسرار بالدعاء وقد قيل إن جهره صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لقصد تعليمهم
وأخرج أحمد عن جابر قال : ( ما أباح لنا في دعاء الجنازة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ) . وفسر أباح بمعنى قدر . قال الحافظ : والذي وقفت عليه باح بمعنى جهر والظاهر أن الجهر والإسرار بالدعاء جائزان
قوله : ( واغسله بماء وثلج ) الخ هذه الألفاظ قد تقدم شرحها في الصلاة
( واعلم ) أنه لم يرد تعيين موضع هذه الأدعية فإن شاء المصلي جاء بما يختار منها دفعة إما بعد فراغه من التكبير أو بعد التكبيرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو يفرقه بين كل تكبيرتين أو يدعو بين كل تكبيرتين بواحد من هذه الأدعية ليكون مؤديا لجميع ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم
وأما حديث عبد الله بن أبي أوفى الآتي فليس فيه أنه لم يدع إلا بعد التكبيرة الرابعة إنما فيه أنه دعا بعدها وذلك لا يدل على أن الدعاء مختص بذلك [ ص 108 ] الموضع
قوله : ( إن فلان بن فلان ) فيه دليل على استحباب تسمية الميت باسمه واسم أبيه وهذا إن كان معروفا وإلا جعل مكان ذلك اللهم إن عبدك هذا أو نحوه والظاهر أنه يدعو بهذه الألفاظ الواردة في هذه الأحاديث سواء كان الميت ذكرا أو أنثى ولا يحول الضمائر المذكورة إلى صيغة التأنيث إذا كان الميت أنثى لأن مرجعها الميت وهو يقال على الذكر والأنثى

5 - وعن عبد الله بن أبي أوفى : ( أنه ماتت ابنة له فكبر عليها أربعا ثم قام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو ثم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع في الجنازة هكذا )
- رواه أحمد وابن ماجه بمعناه

- الحديث أخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى . وفي رواية : ( كبر أربعا حتى ظننت أنه سيكبر خمسا ثم سلم عن يمينه وعن شماله فلما انصرف قلنا له ما هذا فقال إني لا أزيد على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع وهكذا كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) قال الحاكم هذا حديث صحيح . وفيه دليل على استحباب الدعاء بعد التكبيرة الآخرة قبل التسليم وفيه خلاف والراجح الاستحباب لهذا الحديث
وقال الشافعي في كتاب البويطي : إنه يقول بعدها : ( اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده ) وقال أبو علي بن أبي هريرة : كان المتقدمون يقولون في الرابعة اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
وقال الهادي والقاسم : إنه يقول بعد الرابعة سبحان من سبحت له السماوات والأرضون سبحان ربنا الأعلى سبحانه وتعالى اللهم هذا عبدك وابن عبديك وقد صار إليك وقد أتيناك مستشفعين له سائلين المغفرة فاغفر له ذنوبه وتجاوز عن سيئاته وألحقه بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم اللهم وسع عليه قبره وافسح له أمره وأذقه عفوك ورحمتك يا أكرم الأكرمين اللهم ارزقنا حسن الاستعداد لمثل يومه ولا تفتنا بعده واجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك ثم يكبر الخامسة ثم يسلم [ ص 109 ]

باب موقف الإمام من الرجل والمرأة وكيف يصنع إذا اجتمعت أنواع

1 - عن سمرة قال : ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وسطها )
- رواه الجماعة

2 - وعن أبي غالب الحناط قال : ( شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه فلما رفعت أتي بجنازة امرأة فصلى عليها فقام وسطها وفينا العلاء بن زياد العلوي فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة قال : يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم من الرجل حيث قمت ومن المرأة حيث قمت قال : نعم )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود . وفي لفظه : فقال العلاء بن زياد : ( هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال : نعم )

- الحديث الثاني حسنه الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده ثقات
قوله : ( وسطها ) بسكون السين وفيه دليل على أن المصلي على المرأة الميتة يستقبل وسطها ولا منافاة بين هذا الحديث وبين قوله في حديث أنس : ( وعجيزة المرأة ) لأن العجيزة يقال لها وسط وأما الرجل فالمشروع أن يقف الإمام حذاء رأسه لحديث أنس المذكور ولم يصب من استدل بحديث سمرة على أنه يقام حذاء وسط الرجل والمرأة وقال إنه نص في المرأة ويقاس عليها الرجل لأن هذا قياس مصادم للنص وهو فاسد الاعتبار ولا سيما مع تصريح من سأل أنسا بالفرق بين الرجل والمرأة وجوابه عليه بقوله نعم وإلى ما يقتضيه هذان الحديثان من القيام عند رأس الرجل ووسط المرأة ذهب الشافعي وهو الحق
وقال أبو حنيفة : حذاء صدرهما وفي رواية حذاء وسطهما . وقال مالك : حذاء الرأس منهما . وقال الهادي : حذاء رأس الرجل وثدي المرأة واستدل بفعل علي عليه السلام قال أبو طالب : وهو رأي أهل البيت لا يختلفون فيه . وحكى في البحر عن القاسم أنه يستقبل صدر المرأة وبينه وبين السرة من الرجل قال في البحر بعد حكاية الخلاف مؤيدا لما ذهب إليه الهادي : لنا إجماع العترة أولى من استحسانهم انتهى
وقد عرفت أن الأدلة على ما ذهب إليه الشافعي وأن ما عداه لا مستند له [ ص 110 ] من المرفوع إلا مجرد الخطأ في الاستدلال أو التعويل على محض الرأي أو ترجيح ما فعله الصحابي على ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل نعم لا ينتهض مجرد الفعل دليلا للوجوب ولكن النزاع فيما هو الأولى والأحسن ولا أولى ولا أحسن من الكيفية التي فعلها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
قوله : ( العلاء بن زياد العلوي ) الذي في غير هذا الكتاب كجامع الأصول والكاشف وغيرهما العدوي وهو الصواب

3 - وعن عمار مولى الحارث بن نوفل قال : ( حضرت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم ووضعت المرأة وراءه فصلى عليهما وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة فسألتهم عن ذلك فقالوا السنة )
- رواه النسائي وأبو داود

4 - وعن عمار أيضا : ( أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر أخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير المدينة فجعل المرأة بين يدي الرجل وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ كثير وثمت الحسن والحسين

5 - وعن الشعبي : ( أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر توفيا جميعا فأخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير المدينة فسوى بين رؤوسهما وأرجلهما حين صلى عليهما )
- رواهما سعيد في سننه

- الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وأخرجه أيضا البيهقي . وقال : وفي القوم الحسن والحسين وابن عمر وأبو هريرة ونحو من ثمانين نفسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وفي رواية للبيهقي : أن الإمام في هذه القصة ابن عمر . وفي أخرى له وللدارقطني والنسائي في المجتبى من رواية نافع ابن عمر أنه صلى على سبع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام وجعل النساء مما يلي القبلة وصفهم صفا واحدا ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر وابن لها يقال له زيد والإمام يومئذ سعيد بن العاص وفي الناس يومئذ ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة فوضع الغلام مما يلي الإمام فقلت : ما هذا قالوا : السنة . وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى قال الحافظ : وإسناده صحيح
قوله : ( أمير المدينة ) هو سعيد بن العاص كما وقع مبينا في سائر الروايات ويجمع بينه وبين ما وقع فيه أن الإمام كان ابن عمر بأن ابن عمر أم بهم بإذنه . قال الحافظ : ويحمل قوله أن الإمام [ ص 111 ] يومئذ سعيد بن العاص يعني الأمير لا أنه كان إماما في الصلاة ويرده قوله في حديث الباب فصلى عليهما أمير المدينة . قال الحافظ : أو يحمل على أن نسبة ذلك إلى ابن عمر لكونه أشار بترتيب وضع تلك الجنائز
( والحديث ) يدل على أن السنة إذا اجتمعت جنائز أن يصلى عليها صلاة واحدة وقد تقدم في كيفية صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على قتلى أحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على كل واحد منهم صلاة وحمزة مع كل واحد وأنه كان يصلي على كل عشرة صلاة
وأخرج ابن شاهين أن عبد الله بن معقل بن مقرن أتي بجنازة رجل وامرأة فصلى على الرجل ثم صلى على الرجل ثم صلى على المرأة وفيه انقطاع
( وفي الحديث ) أيضا أن الصبي إذا صلى عليه مع امرأة كان الصبي مما يلي الإمام والمرأة مما يلي القبلة وكذلك إذا اجتمع رجل وامرأة أو أكثر من ذلك كما تقدم عن ابن عمر . وقد ذهب إلى ذلك الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب والشافعية والحنفية وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر والحسن البصري وسالم بن عبد الله بل الأولى العكس ليلي القبلة الأفضل . وفيه أيضا دليل على أن الأولى بالتقدم للصلاة على الجنازة ذو الولاية ونائبه ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يؤم الرجل في سلطانه ) وقد تقدم في الصلاة وقد وقع الخلاف إذا اجتمع الإمام والولي أيهما أولى فعند أكثر العترة وأبي حنيفة وأصحابه أن الإمام وواليه أولى وعند الشافعي والمؤيد بالله والناصر في رواية عنه أن الولي أولى

باب الصلاة على الجنازة في المسجد

1 - عن عائشة أنها قالت : ( لما توفي سعد بن أبي وقاص أدخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأنكروا ذلك عليها فقالت : والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه )
- رواه مسلم . وفي رواية : ( ما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سهيل ابن البيضاء إلا في جوف المسجد ) رواه الجماعة إلا البخاري

2 - وعن عروة قال : ( صلى على أبي بكر في المسجد )

3 - وعن ابن عمر قال : ( صلى على عمر في المسجد )
- رواهما سعيد وروى الثاني مالك

- وأخرج الصلاة على أبي بكر وعمر أيضا في المسجد ابن أبي شيبة بلفظ : ( إن [ ص 112 ] عمر صلى على أبي بكر في المسجد وإن صهيبا صلى على عمر في المسجد )
قوله : ( على ابني بيضاء ) قال النووي : قال العلماء بنو بيضاء ثلاثة أخوة سهل وسهيل وصفوان وأمهم البيضاء اسمها دعد والبيضاء وصف وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري
( والحديث ) يدل على جواز إدخال الميت إلى المسجد والصلاة عليه فيه وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور . قال ابن عبد البر : ورواه المدنيون في رواية عن مالك وبه قال ابن حبيب المالكي وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة ومالك في المشهور عنه والهادوية وكل من قال بنجاسة الميت وأجابوا عن حديث الباب بأنه محمول على أن الصلاة على ابني بيضاء وهما كانا خارج المسجد والمصلون داخله وذلك جائز بالاتفاق ورد بأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بإدخال الجنازة المسجد وأجابوا أيضا بأن الأمر استقر على ترك ذلك لأن الذين أنكروا على عائشة كانوا من الصحابة ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها فدل على أنها حفظت ما نسوه وأن الأمر استقر على الجواز ويدل على ذلك الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد لما تقدم وأيضا العلة التي لأجلها كرهوا الصلاة على الميت في المسجد هي زعمهم أنه نجس وهي باطلة لما تقدم : ( إن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا ) وأنهض ما استدلوا به على الكراهة ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له ) وأخرجه ابن ماجه ولفظه : ( فليس له شيء ) وفي إسناده صالح مولى التوءمة وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة . قال النووي : وأجابوا عنه يعني الجمهور بأجوبة : أحدها أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به . قال أحمد بن حنبل : هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة وهو ضعيف والثاني أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود : ( من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه ) فلا حجة لهم حينئذ . والثالث أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه فلا شيء له لوجب تأويله بأن له بمعنى عليه ليجمع بين الروايتين قال : وقد جاء بمعنى عليه كقوله تعالى { وإن أسأتم فلها } . الرابع أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه انتهى [ ص 113 ]

أبواب حمل الجنازة والسير بها

1 - عن ابن مسعود قال : ( من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع )
- رواه ابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود الطيالسي والبيهقي من رواية أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال الدارقطني في العلل : اختلف في إسناده على منصور بن المعتمر وفي الباب عن أبي الدرداء عند ابن أبي شيبة في مصنفه وعن ثوبان عند ابن الجوزي في العلل وإسناده ضعيف . وعن أنس عنده أيضا فيها وإسناده ضعيف . وأخرجه الطبراني في الأوسط مرفوعا بلفظ : ( من حمل جوانب السرير الأربع كفر الله عنه أربعين كبيرة ) وعن بعض الصحابة عند الشافعي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين ) ورواه أيضا ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي حبيبة عن شيوخ من بني عبد الأشهل . وروى حمل الجنازة عن جماعة من الصحابة والتابعين فأخرج الشافعي عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال : ( رأيت سعد ابن أبي وقاص في جنازة عبد الرحمن بن عوف قائما بين العمودين المقدمين واضعا للسرير على كاهله ) ورواه الشافعي أيضا بأسانيد من فعل عثمان وأبي هريرة وابن الزبير وابن عمر أخرجها كلها البيهقي وروى ذلك البيهقي أيضا من فعل المطلب بن عبد الله بن حنطب وغيره وفي البخاري أن ابن عمر حمل ابنا لسعيد بن زيد وروى ابن سعد ذلك عن عثمان وأبي هريرة ومروان وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق علي الأزدي قال : رأيت ابن عمر في جنازة يحمل جوانب السرير الأربع . وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة أنه قال : من حمل الجنازة بجوانبها الأربع فقد قضى الذي عليه . وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من تبع الجنازة وحملها ثلاث مرار فقد قضى ما عليه من حقها ) قال الترمذي : هذا حديث غريب . ورواه بعضهم بهذا الإسناد ولم يرفعه
( والحديث ) يدل على مشروعية الحمل للميت وأن السنة أن يكون بجميع جوانب السرير [ ص 114 ]

باب الإسراع بها من غير رمل

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتمونها إلى الخير وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )
- رواه الجماعة

2 - وعن أبي موسى قال ( مرت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازة تمخض مخض الزق فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم القصد )
- رواه أحمد

3 - وعن أبي بكرة قال : ( لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا )
- رواه أحمد والنسائي

4 - وعن محمود بن لبيد عن رافع قال : ( أسرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ )
- أخرجه البخاري في تاريخه

- حديث أبي موسى أخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي وقاسم بن أصبغ وفي إسناده ضعف كما قال الحافظ . وأخرج البيهقي عن أبي موسى من قوله إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا في المشي قال : وهذا يدل على أن المراد كراهة شدة الإسراع . وحديث أبي بكرة أخرجه أيضا أبو داود والحاكم
( وفي الباب ) عن ابن مسعود عند الترمذي وأبي داود قال : ( سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال : ما دون الخبب فإن كان خيرا عجلتموه وإن كان شرا فلا يبعد إلا أهل النار ) وقد ضعف هذا الحديث البخاري والترمذي وابن عدي والنسائي والبيهقي وغيرهم لأن في إسناده أبا ماجدة قال الدارقطني : مجهول . وقال يحيى الرازي وابن عدي : منكر الحديث والراوي عنه يحيى . الجابر بالجيم والباء الموحدة قال البيهقي وغيره : إنه ضعيف
قوله : ( أسرعوا ) قال ابن قدامة : هذا الأمر للاستحباب بلا خلاف بين العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه والمراد بالإسراع شدة المشي وعلى ذلك حمله بعض السلف وهو قول الحنفية . قال صاحب الهداية : ويمشون بها مسرعين دون الخبب وفي المبسوط ليس فيه شيء مؤقت غير أن العجلة أحب إلى أبي حنيفة . وعن الجمهور المراد بالإسراع ما فوق سجية المشي المعتاد . قال في الفتح : والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث [ ص 115 ] مفسدة الميت أو مشقة على الحامل أو المشيع لئلا يتنافى المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم . قال القرطبي : مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن لأن التباطؤ ربما أدى إلى التباهي والاختيال اه
وحديث أبي بكرة وحديث محمود بن لبيد يدلان على أن المراد بالسرعة المأمور بها في حديث أبي هريرة هي السرعة الشديدة المقاربة للرمل
وحديث ابن مسعود يدل على أن المراد بالسرعة ما دون الخبب والخبب على ما في القاموس هو ضرب من العدو أو كالرمل أو السرعة فيكون المراد بالخبب في الحديث ما هو كالرمل بقرينة الأحاديث المتقدمة لا مجرد السرعة
وحديث أبي موسى يدل على أن المشي المشروع بالجنازة هو القصد والقصد ضد الإفراط كما في القاموس فلا منافاة بينه وبين الإسراع ما لم يبلغ إلى حد الإفراط ويدل على ذلك ما رواه البيهقي من قول أبي موسى كما تقدم
قوله : ( بالجنازة ) أي بحملها إلى قبرها وقيل المعنى الإسراع بتجهيزها فهو أعم من الأول . قال القرطبي : والأول أظهر وقال النووي : الثاني باطل مردود بقوله في الحديث تضعونه عن رقابكم وقد قوى الحافظ الثاني بما أخرجه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره ) وبما أخرجه أيضا أبو داود من حديث الحصين بن وحوح مرفوعا : ( لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله ) الحديث تقدم
قوله : ( فإن كانت صالحة ) أي الجثة المحمولة
قوله : ( تضعونه ) استدل به على أن حمل الجنازة يختص بالرجال للإتيان فيه بضمير الذكورة ولا يخفى ما فيه . قال الحافظ : والحديث فيه استحباب المبادرة إلى دفن الميت لكن بعد أن يتحقق أنه مات أما مثل المطعون والمفلوج والمسبوت فينبغي أن لا يسرع في تجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم نبه على ذلك ابن بزيزة . ويؤخذ من الحديث ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين اه

باب المشي أمام الجنازة وما جاء في الركوب معها

قد سبق في ذلك حديث المغيرة

1 - وعن ابن عمر : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة )
- رواه الخمسة واحتج به أحمد [ ص 116 ]

- حديث المغيرة تقدم في الصلاة على السقط وحديث ابن عمر أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وصححه والبيهقي من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه به قال أحمد : إنما هو عن الزهري مرسل . وحديث سالم فعل ابن عمر . وحديث ابن عيينة وهم . قال الترمذي : أهل الحديث يرون المرسل أصح قاله ابن المبارك قال : وروى معمر ويونس ومالك عن الزهري : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمشي أمام الجنازة ) قال الزهري : وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة قال الترمذي : ورواه ابن جريج عن الزهري مثل ابن عيينة ثم روى عن ابن المبارك أنه قال : أرى ابن جريج أخذه عن ابن عيينة . وقال النسائي : وصله خطأ والصواب مرسل . وقال أحمد : حدثنا حجاج قرأت على ابن جريج حدثنا زياد بن سعد أن ابن شهاب أخبره حدثني سالم عن ابن عمر أنه كان يمشي بين يدي الجنازة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر يمشون أمامها . وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من فعل ابن عمر وأبي بكر وعثمان . قال الزهري : وكذلك السنة . قال الحافظ في التلخيص : فهذا أصح من حديث ابن عيينة وصحح الدارقطني بعد ذكر الاختلاف أنه فعل ابن عمر ورجح البيهقي الموصول لأن ابن عيينة ثقة حافظ وقد أتى بزيادة على من أرسل والزيادة مقبولة وقد قال لما قال له ابن المديني إنه قد خالفه الناس في هذا الحديث أن الزهري حدثه به مرارا عن سالم عن أبيه . قال الحافظ : وهذا لا ينفي الوهم لأنه ضبط أنه سمعه منه عن سالم عن أبيه وهو كذلك إلا أن فيه إدراجا وقد جزم بصحة الحديث ابن المنذر وابن حزم
( وفي الباب ) عن أنس عند الترمذي مثله وقال : سألت عنه البخاري فقال هذا خطأ أخطأ فيه محمد بن بكر
وقد اختلف أهل العلم هل الأفضل لمتبع الجنازة أن يمشي خلفها أو أمامها فقال الزهري ومالك والشافعي وأحمد والجمهور وجماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وابن عمر وأبو هريرة : إن المشي أمام الجنازة أفضل واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور في الباب . وقال أبو حنيفة وأصحابه وحكاه الترمذي عن سفيان الثوري وإسحاق وحكاه في البحر عن العترة أن المشي خلفها أفضل واستدلوا بما تقدم من حديث ابن مسعود عند الترمذي وأبي داود قال : ( سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال : ما دون الخبب ) فقرر قولهم خلف الجنازة ولم ينكره واستدلوا أيضا بما روي عن طاوس أنه قال : ( ما مشى رسول الله صلى الله [ ص 117 ] عليه وآله وسلم حتى مات إلا خلف الجنازة ) وهذا مع كونه مرسلا لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث . وروى في البحر عن علي عليه السلام أنه قال : المشي خلف الجنازة أفضل وحكى في البحر عن الثوري أنه قال : الراكب يمشي خلفها والماشي أمامها ويدل لما قاله حديث المغيرة المتقدم : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها ) أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم وهذا مذهب قوي لولا ما سيأتي من الأدلة الدالة على كراهة الركوب لمتبع الجنازة . وقال أنس بن مالك : إنه يمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها . رواه البخاري عنه تعليقا ووصله عبد الوهاب بن عطاء في كتاب الجنائز ووصله أيضا ابن أبي شيبة وعبد الرزاق

2 - وعن جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس )
- رواه الترمذي . وفي رواية : ( أتي بفرس معرور فركبه حين انصرفنا من جنازة ابن الدحداح ونحن نمشي حوله ) رواه أحمد ومسلم والنسائي

3 - وعن ثوبان قال : ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فرأى ناسا ركبانا فقال : ألا تستحيون إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب )
- رواه ابن ماجه والترمذي

4 - وعن ثوبان أيضا : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها فلما انصرف أتي بدابة فركب فقيل له فقال : إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت )
- رواه أبو داود

- حديث جابر بن سمرة قال الترمذي : حسن صحيح وفي لفظ له : ( وهو على فرس له يسعى ونحن حوله وهو يتوقص به ) وحديث ثوبان الأول قال الترمذي : قد روي عنه مرفوعا . ولم يتكلم عليه بحسن ولا ضعف وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف . وحديث ثوبان الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح
قوله : ( ابن الدحداح ) بدالين مهملتين وحاء بين مهملتين ويقال أبو الدحداح ويقال أبو الدحداحة . قال ابن عبد البر : لا يعرف اسمه
قوله : ( ورجع على فرس ) فيه أنه لا بأس بالركوب عند الرجوع من دفن الميت
قوله : ( معرور ) بضم الميم وفتح الراء . قال أهل اللغة : اعروريت الفرس إذا ركبته عريانا فهو معرور . قال النووي : ولم يأت افعوعل معدى إلا قولهم اعروريت [ ص 118 ] الفرس واحلوليت الشيء اه
قوله : ( ونحن نمشي حوله ) فيه جواز مشي الجماعة مع كبيرهم الراكب وأنه لا كراهة فيه في حقه ولا في حقهم إذا لم يكن فيه مفسدة وإنما يكره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للتابعين أو خيف إعجاب أو نحو ذلك من المفاسد
قوله : ( ألا تستحيون ) فيه كراهة الركوب لمن كان متبعا للجنازة ويعارضه حديث المغيرة المتقدم من أذنه للراكب أن يمشي خلف الجنازة ويمكن الجمع بأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم الراكب خلفها لا يدل على عدم الكراهة وإنما يدل على الجواز فيكون الركوب جائزا مع الكراهة أو بأن إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على من ركب وتركه للركوب إنما كان لأجل مشي الملائكة ومشيهم مع الجنازة التي مشى معها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستلزم مشيهم مع كل جنازة لإمكان أن يكون ذلك معهم تبركا به صلى الله عليه وآله وسلم فيكون الركوب على هذا جائزا غير مكروه والله تعالى أعلم

باب ما يكره مع الجنازة من نياحة أو نار

1 - عن ابن عمر قال : ( نهى رسول الله أن نتبع جنازة معها رانة )
- رواه أحمد وابن ماجه

2 - وعن أبي بردة قال : ( أوصي أبو موسى حين حضره الموت فقال : لا تتبعوني بمجمر قالوا : أو سمعت فيه شيئا قال : نعم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه ابن ماجه

- الحديث الأول إسناده عند ابن ماجه هكذا حدثنا أحمد بن يوسف حدثنا عبيد الله أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عمر . وأبو يحيى هذا القتات وفيه مقال وبقية رجاله ثقات . والحديث الثاني في إسناده أبو حريز مولى معاوية قال في التقريب : شامي مجهول . وقال في الخلاصة : مجهول
قوله : ( معها رانة ) هي بالراء المهملة وبعد الألف نون مشددة أو مصوتة . قال في القاموس : رن يرن رنينا صاح اه ( وفيه دليل ) على تحريم إتباع الجنازة التي معها النائحة وعلى تحريم النوح وسيأتي الكلام عليه
قوله : ( بمجمر ) المجمر كمنير الذي يوضع فيه الجمر . وفيه دليل على أنه لا يجوز إتباع الجنائز بالمجامر وما يشابهها لأن ذلك من فعل الجاهلية وقد هدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وزجر عنه [ ص 119 ]

باب من اتبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع

1 - عن أبي سعيد قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبعها فلا يجلس حتى توضع )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه لكن إنما لأبي داود منه : ( إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع ) وقال : روى هذا الحديث الثوري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال فيه : ( حتى توضع في الأرض ) ورواه أبو معاوية عن سهيل : ( حتى توضع في اللحد ) وسفيان أحفظ من أبي معاوية

2 - وعن علي بن أبي طالب عليه السلام : ( أنه ذكر القيام في الجنائز حتى توضع فقال علي عليه السلام : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قعد )
- رواه النسائي والترمذي وصححه . ولمسلم معناه

- ولفظ مسلم من حديث علي عليه السلام : ( قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني في الجنازة ثم قعد
قوله : ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها ) فيه مشروعية القيام للجنازة إذا مرت لمن كان قاعدا وسيأتي الكلام فيه في الباب الذي بعد هذا
قوله : ( فمن اتبعها فلا يجلس ) فيه النهي عن جلوس الماشي مع الجنازة قبل أن توضع على الأرض فقال الأوزاعي وإسحاق وأحمد ومحمد بن الحسن : إنه مستحب . حكى ذلك عنهم النووي والحافظ في الفتح ونقله ابن المنذر عن أكثر الصحابة والتابعين قالوا : والنسخ إنما هو في قيام من مرت به لا في قيام من شيعها . وحكى في الفتح عن الشعبي والنخعي أنه يكره القعود قبل أن توضع قال : وقال بعض السلف : يجب القيام واحتج له برواية النسائي عن أبي سعيد وأبي هريرة أنهما قالا : ( ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع ) انتهى
ولا يخفى أن مجرد الفعل لا ينتهض دليلا للوجوب فالأولى الاستدلال له بحديث الباب فإن فيه النهي عن القعود قبل وضعها وهو حقيقة للتحريم وترك الحرام واجب . ومثل ذلك حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا : ( من صلى على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه فإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع ) وروى الحافظ عن الشعبي والنخعي أن القعود مكروه قبل أن توضع . ومما يدل على الاستحباب ما رواه البيهقي عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما إن القائم مثل الحامل يعني في [ ص 120 ] الأجر
قوله : ( حتى توضع في الأرض ) قد ذكر المصنف كلام أبي داود في ترجيح هذه الرواية على الرواية الأخرى أعني قوله ( حتى توضع في اللحد ) وكذلك أشار البخاري إلى ترجيحها بقوله باب من شهد جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال . وأخرج أبو نعيم عن سهيل قال : رأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال . وهذا يدل على أن الرواية الأولى أرجح لأن أبا صالح راوي الحديث وهو أعرف بالمراد منه وقد تمسك بالرواية الثانية صاحب المحيط من الحنفية فقال : الأفضل أن لا يقعد حتى يهال عليها التراب انتهى . وإذا قعد الماشي مع الجنازة قبل أن توضع فهل يسقط القيام أو يقوم الظاهر الثاني لأن أصل مشروعية القيام تعظيم أمر الموت وهو لا يفوت بذلك . وقد روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة ومروان كانا مع جنازة فقعدا قبل أن توضع فجاء أبو سعيد فأخذ بيد مروان فأقامه وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك فقال أبو هريرة صدق ورواه الحاكم بنحو ذلك وزاد أن مروان لما قال له أبو سعيد : قم . قام ثم قال له : لم أقمتني . فذكر له الحديث فقال لأبي هريرة : فما منعك أن تخبرني فقال : كنت إماما فجلست فجلست
( وقد استدل ) المهلب بقعود أبي هريرة ومروان على أن القيام ليس بواجب وأنه ليس عليه العمل . قال الحافظ : إن أراد أنه ليس بواجب عنهما فظاهر وإن أراد في نفس الأمر فلا دلالة فيه على ذلك
قوله : ( وعن علي عليه السلام ) الخ ذكر المصنف هذا الحديث للاستدلال به على نسخ مشروعية القيام لمن تبع الجنازة حتى توضع لقوله فيه ( حتى توضع ) فإنه يدل على أن المراد به قيام التابع للجنازة لا قيام من مرت به لأنه لا يشرع حتى توضع بل حتى تخلفه كما سيأتي ولكنه سيأتي في باب القيام للجنازة من حديث عامر بن ربيعة عند الجماعة بلفظ : ( حتى تخلفكم أو توضع ) فذكر الوضع في حديث علي عليه السلام لا يكون نصا على أن المراد قيام التابع وقد استدل به الترمذي على نسخ قيام من رأى الجنازة فقال بعد إخراجه له : وهذا ناسخ للأول ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا ) اه . ولو سلم أن المراد بالقيام المذكور في حديث علي هو قيام التابع للجنازة فلا يكون تركه صلى الله عليه وآله وسلم ناسخا مع عدم ما يشعر بالتأسي به في هذا الفعل بخصوصه لما تقرر في الأصول من أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة ولا ينسخه [ ص 121 ]

باب ما جاء في القيام للجنازة إذا مرت

1 - عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع )
- رواه الجماعة . ولأحمد : ( وكان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه ) وله أيضا عنه : ( أنه ربما تقدم الجنازة فقعد حتى إذا رآها قد أشرفت قام حتى توضع )

2 - وعن جابر قال : ( مر بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقمنا معه فقلنا : يا رسول الله إنها جنازة يهودي فقال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها )

3 - وعن سهل بن حنيف وقيس بن سعد : ( أنهما كانا قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل لهما : إنها من أهل الأرض أي من أهل الذمة فقالا : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرت به جنازة فقام فقيل له : إنها جنازة يهودي فقال : أليست نفسا )
- متفق عليهما . وللبخاري عن ابن أبي ليلى قال : كان أبو مسعود وقيس يقومان للجنازة

- قوله : ( حتى تخلفكم ) بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد اللام المكسورة أي تترككم ورائها
قوله : ( مر بنا ) في رواية الكشميهني مرت بفتح الميم
قوله : ( فقال إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها ) زاد البيهقي : ( إن الموت فزع ) وكذا لمسلم من وجه آخر . قال القرطبي : معناه أن الموت يفزع . قال البيضاوي : وهو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة أو فيه تقدير أي الموت ذو فزع . ويؤيد ذلك ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ : ( إن للموت فزعا ) وعن ابن عباس مثله عند البزار
قوله : ( أليست نفسا ) هذا لا يعارض التعليل المتقدم حيث قال : إن للموت فزعا . وكذا ما أخرج الحاكم عن أنس مرفوعا : ( إنما قمنا للملائكة ) ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى ولأحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس . ولفظ ابن حبان : إعظاما لله تعالى الذي يقبض الأرواح فإن ذلك لا ينافي التعليل السابق لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله تعالى وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة . فأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي قال : إنما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأذيا بريح اليهود . زاد الطبراني : [ ص 122 ] فأذاه ريح بخورها . وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عنه كراهية أن يعلو على رأسه فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة أما أولا فلأن أسانيد هذه لا تقاوم تلك في الصحة وأما ثانيا فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأن الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه صلى الله عليه وآله وسلم فعلل باجتهاده ومقتضى التعليل بقوله ( أليست نفسا ) أن ذلك يستحب لكل جنازة
( واختلف العلماء ) في هذه المسألة فذهب أحمد وإسحاق وابن حبيب وابن الماجشون إن القيام للجنازة لم ينسخ والقعود منه صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث علي الآتي إنما هو لبيان الجواز فمن جلس فهو في سعة ومن قام فله أجر . وكذا قال ابن حزم إن قعوده صلى الله عليه وآله وسلم بعد أمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب ولا يجوز أن يكون نسخا . قال النووي : والمختار أنه مستحب وبه قال المتولي وصاحب المهذب من الشافعية . وممن ذهب إلى استحباب القيام ابن عمر وابن مسعود وقيس بن سعد وسهل بن حنيف كما يدل على ذلك الروايات المذكورة في الباب . وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي : إن القيام منسوخ بحديث علي الآتي . قال الشافعي : إما أن يكون القيام منسوخا أو يكون لعلة وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله والحجة في الآخر من أمره والقعود أحب إلي انتهى . وسيأتي بيان ما هو الحق . وظاهر أحاديث الباب أنه يشرع القيام لجنازة المسلم والكافر كما تقدم

4 - وعن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بنحوه

5 - وعن ابن سيرين : ( أن جنازة مرت بالحسن وابن عباس فقام الحسن ولم يقم ابن عباس فقال الحسن لابن عباس : أما قام لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : قام وقعد )
- رواه أحمد والنسائي

- الحديث الأول رجال إسناده ثقات عند أبي داود وابن ماجه وقد أخرجه ابن حبان بهذا اللفظ والبيهقي بلفظ : ( ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود ) وقد خرج حديث علي مسلم باللفظ الذي تقدم في الباب الأول . والحديث الثاني رجال إسناده ثقات وقد أشار إليه الترمذي أيضا
( وفي الباب ) عن عبادة بن الصامت عند [ ص 123 ] أبي داود والترمذي وابن ماجه والبزار : ( أن يهوديا قال : لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم للجنازة هكذا يفعل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اجلسوا وخالفوهم ) وفي إسناده بشر بن رافع وليس بالقوي كما قال الترمذي . وقال البزار : تفرد به بشر وهو لين . قال الترمذي : حديث عبادة غريب . وقال أبو بكر الهمداني ولو صح لكان صريحا في النسخ غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الإسناد وقد تمسك بهذه الأحاديث من قال إن القيام للجنازة منسوخ وقد تقدم ذكرهم . قال القاضي عياض : ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا وتعقبه النووي بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع وهو ههنا ممكن
( واعلم ) أن حديث علي باللفظ الذي سبق في الباب الأول لا يدل على النسخ لما عرفناك من أن فعله لا ينسخ القول الخاص بالأمة . وأما حديثه باللفظ الذي ذكره هنا فإن صح صلح النسخ لقوله فيه : ( وأمرنا بالجلوس ) ولكنه لم يخرج هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبو داود بل اقتصروا على قوله ( ثم قعد )
وأما حديث ابن عباس فكذلك أيضا لا يدل على النسخ لما عرفت . وأما حديث عبادة بن الصامت فهو صريح في النسخ لولا ضعف إسناده فلا ينبغي أن يستند في نسخ تلك السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من طريق جماعة من الصحابة إلى مثله بل المتحتم الأخذ بها واعتقاد مشروعيتها حتى يصح ناسخ صحيح ولا يكون الأمر بالجلوس أو نهي عن القيام أو إخبار من الشارع بأن تلك السنة منسوخة بكذا واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي عليه السلام وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر زيادة الأمر بالجلوس مما يوجب عدم الاطمئنان إليها والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة في الغاية لا سيما بعد أن شد من عضدها عمل جماعة من الصحابة بها يبعد كل البعد أن يخفى على مثلهم الناسخ ووقوع ذلك منهم بعد عصر النبوة . ويمكن أن يقال إن الأمر بالجلوس لا يعارض بفعل بعض الصحابة بعد أيام النبوة لأن من علم حجة على من لم يعلم . وحديث عبادة وإن كان ضعيفا فهو لا يقصر عن كونه شاهدا لحديث الأمر بالجلوس [ ص 124 ]

=========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المعجب في اخبار المغرب

    كتاب المعجب في اخبار المغرب  1 . المعجب في تلخيص أخبار المغرب تأليف : عبد الواحد بن علي المراكشي دراسة وتحقيق : الدكتور صلاح الدين ا...